أمريكا إذْ تنتزعُ المبادرةَ من يد روسيا في سورية

لم يكن في حُسبان بوتين أن تتغير البوصلة الأمريكية في المنطقة بهذه السرعة، في عهد ترامب، و هو الذي راهنت روسيا على وصوله إلى البيض الأبيض.

لقد أقدم على جملة من الخطوات، أمالت الكفة لصالح الأمريكان، على حساب الروس أولاً، ثم النظام ثانيًا، و إيران ثالثًا.

و ذلك بدءًا من ردود الأفعال السياسية على الضربة الكيماوية في خان شيخون في: 4/ 4، ثمّ ما تلاها من التصعيد العسكري، السريع و غير المتوقع، المتمثل بضرب مطار الشعيرات بـ ( 59 ) صاروخ كروز ، في: 7/ 4.

ثمّ ما كان من ضرب قوات حلفاء النظام في منطقة التنف في: 19/ 5، ثم في: 26/ 5، حمايةً لفصائل الجيش الحر الموجودة في المعبر، التي تحظى بدعم مشترك ( أوروبي و أمريكي ).

و ما كان أيضًا من تزويد قوات سورية الديمقراطية بمائة سيارة محملة بالعتاد العسكري، في: 24/ 5.

هذا فضلاً على مصادقة مجلس الشيوخ على قانون محاسبة سورية ( قانون سيزر ) في: 26/ 5، بعد مصادقة مجلس النواب عليه في: 18/ 5، الذي جاء متزامنًا مع تمديد العقوبات المفروضة على إيران؛ تمهيدً لمصادقة الرئيس عليه، لتطلق يدُه في تضييق الخناق على الأسد.

و في هذا مؤشر على مدى هشاشة الرواية الروسية، في أنهم باتوا اللاعب الوحيد في الساحة السورية، فهي التي تقرر في مؤتمر أستانة إقامة مناطق ( خفض تصعيد )؛ لتكون بعدها الأجواء فيها مقفلة بوجه المقاتلات الأميركية، و هو الأمر الذي لم يُعره أحد أهمية، حيث اخترقتها القوات الأمريكية عندما قامت بضرب منطقة التنف.

و يعزو عددٌ من المراقبين هذه الاندفاعة الأمريكية، إلى تولي جايمس ماتيس، قيادة القوة العسكرية الأميركية، و هو الذي كان قد قام في أثناء عمله قائدًا للمنطقة الوسطى للجيش الأميركي، في تعزيز التحالف مع الميليشيات الكردية: عراقية، سورية، تركية؛ حتى و إن كانت على قوائم التصنيف.

ففي الوقت الذي أخذت فيه بعض المتاعب تواجه إدارة ترامب، نجده قد أطلق يد الجنرالات، التي كان قيّدها سلفه أوباما؛ الأمر الذي أدى إلى انقلاب الصورة في واشنطن: من رئيس يثرثر و لا يفعل، إلى رئيس دفعته أُمّيتُه السياسية إلى الصمت، و تسليم شؤون المنطقة إلى وزير ذكي و حازم، أقدم على عدد من الخطوات التي من شأنها زيادة تيرة الحضور الأمريكي في المنطقة، كتلك التي أشرنا إليها من قبل، أو مثل:

ـ إعلان وزارة الدفاع الأميركية في: 2/ 4، أنها ستتوقف عن الكشف عن عدد قواتها البرية في العراق وسورية؛ الأمر الذي يعني زيادة عديدها تمهيدًا لأمور ستشهدها المنطقة.

ـ فرض منطقة حظر جوي وبري غير معلنة، تمتد من قاعدة التنف على الحدود السورية الشرقية مع الأردن و العراق، إلى عين العرب ( كوباني ) على الحدود السورية الشمالية مع تركيا، و ذلك لجعل هذه المنطقة ( الأميركية ـ الكردية: الآمنة )، ساحة لتقسيم قوتين كبريين، تتصارعان على رقعة تمتد من شرق دجلة إلى غرب الفرات، الأولى: شيعية في العراق، و الثانية: سنية في سورية.

فبتقسيم القوة الشيعية، تكسر أمريكا ( الهلال الشيعي )، الممتد من طهران إلى بغداد، فدمشق و بيروت، و بتقسيم القوة السنية، تمهد أميركا لحلفائها الأكراد، الانقضاضَ على إحدى التنظيمات الخطرة المحسوبة على أهل السنة ( داعش )، في مناطق الشمال الشرقي لسورية ( الرقة و دير الزور )، هذا في الوقت الذي تسمح فيه لحلفائها الشيعة بالإجهاز عليه في الموصل و مناطق غرب الفرات العراقية.

لقد شعرت إيران بنوايا واشنطن، وحاولت أن تمتحن جديتها في ذلك؛ فأرسلت ميليشياتها من العراق و سورية في تحرك مزدوج إلى منطقة التنف، فقامت المقاتلات الأميركية بتحذيرها، و لما لم تذعن و تنسحب، دمرتها عن بكرة أبيها في المرة الأولى، ثم في الثانية، و من جانبه أرسل الأسد طائرة استطلاع فوق الأجواء الكردية، فقامت المقاتلات الأميركية بطردها، لتقوم بعدها المقاتلات الروسية بمرافقتها حتى خروجها إلى المناطق المسموحة له.

إنّه كما انقلبت الصورة في واشنطن، انقلبت كذلك في روسيا؛ فروسيا في زمن أوباما كانت تمسك بالأرض السورية، في حين أنها في زمن ترامب تراجعت لصالح أمريكا، التي عززت حضورها و أمسكت بالأرض السورية، أو على الأقل في المناطق التي تعتبرها أمريكا ذات أهمية استراتيجية لها، أو لحلفائها.

صحيحٌ أنّ واشنطن قد انتزعت المبادرةَ من موسكو، و لكنّ هذا لا يعني أنّ الأمور ستصبّ ( على المدى القصير ) في مصلحة الفصائل المسلحة ذات التوجه الإسلامي، أو المدعومة من تركيا، بقدر ما ستصب في مصلحة تلك ذات الهيمنة الكردية على الرغم من يساريّتها؛ حيث رأت فيها أمريكا حليفًا بديلاً عن فصائل الجيش الحر، التي أُجهض مشروعُها مع الأمريكان، على يد فصائل الجهادية العالمية، و بتواطؤ من أخواتها المحلية.

وسوم: العدد 722