الموت المهين في أروقة مستشفيات مصر

رحلة العذاب القاتل ، هي تلك التجربة التي لا تتمني خوضها بينما أنت تعيش في ربوع مصر المنكوبة ، ولا تتمناها لمن تحبهم ، إذ تبدأ المعاناة فيها بمجرد أن تفكر أن تطأ بقدمك احدي تلك المباني الفخمة الضخمة ملتمسا عندهم التداوي  من مرض لم تحسب له حسابا ولم تضع له بندا ضمن بنود إنفاقك القليلة والتي لا يحتملها راتبك الهزيل ، أو دخلك المحدود

وبما أن المرض ضيف ثقيل لا يستأذن ولا ينذر فلا تكاد تجد بيتا من البيوت خاليا منه خاصة وأن عوامل وجوده ضيفا مستديما علي بيوت الفقراء والمحتاجين ــ وهم غالبية الشعب المصري إذا استثنينا الرئيس الغلبان بالطبع ـــ ، تلك العوامل العديدة والتي لا أصبحت لازمة من لوازم الحياة في مصر من مياه ملوثة يشرب منها الإنسان والحيوان ويروي منها النبات ، فنأكل ونشرب ونتغذي علي مياه ملوثة لا تصلح لحياة ، وبالتالي فإن كل ما يترتب عليه فاسد ومفسد ، هواء ملوث ، دواء ليس في متناول أيدي الفئة المتوسطة التي تكاد تتلاشي من المجتمع ككل ، تبدأ المعاناة حين يطرق المرض أحد الأبواب ، فيروس سي ، فشل كلوي ، أورام انتشرت في ربوع البلاد بطولها وعرضها ، فتبدأ الرحلة في طابور طويل تحمل فيه مريضك الذي يعاني آلاما تعجز أنت عن تحملها ، فتقف في ذلك الطابور وكل أملك في تلك الساعات الطويلة أن تحصل علي تذكرة بجنيه أو عدة جنيهات لتلتقي فيها بطبيب ربما لا يأتي من الأساس ، علي بوابة الانتظار تتجدد الآلام بقدر عمق المرض والألم ، وبقدر ما بك من عزة نفس تحاول فيها إخفاء بعض دموع تقهر ما تبقي لك من مشاعر الانسانية ، علي تلك الأبواب تتلاحم آلام الناس لتصير وحدة واحدة ، الكل يتحدث ولا يعترض ، الكل يرجو ثم هو يصبر ، الكل يحكي وينتظر فقط كلمة مواساة من الآخر عسي أن تخفف عنه ما ألقته عليه بلاده من أحمال لم يعد لديه قدرة علي تحمل المزيد منها

مريضة مسنة  : والله يا ابنتي أنا هنا من السادسة صباحا ، جئت من سفر ثلاث ساعات لعمل أشعة علي ظهري وقد فقدت القدرة علي الحركة إلا بصعوبة شديدة ، ومع أن الأشعة هنا بمصروفات إلا أنها أقل ثمنا بكثير عن المراكز الخاصة ، ويعلم الله كم بذلك للحصول علي ذلك المبلغ ، لكن ما العمل ؟ الحمد لله علي كل حال ، لو أنهيتها اليوم فهو فضل ونعمة من الله

هو : بكم اشتريت حقنة الصبغة يا حاجة ؟

فتاة بصحبة أخيها  : أي حقنة صبغة ؟ أليست تلك الحقنة بالمستشفي هنا ؟ فكيف نشتريها ولماذا ؟

هو : لا ، المستشفي لا يوجد بها حقن صبغة ولا حتى بالأقسام الداخلية ، المريض هو من يشتريها

الفتاة : وكم ثمن تلك الحقنة ؟

المسنة  : لا تشتريها الآن يا ابنتي ، انتظري حتى يوافقوا علي عمل الأشعة وتفوزي بدور ؟ فأنا أخذت دورا منذ أكثر من شهر ، هذه أول مرة تأتي فيها ؟

الفتاة  : نعم أول مرة ، ألن أري الطبيب اليوم ؟ أنا متعبة جدا والأمر هام وعاجل ولا يحتمل تأجيل ، إنها تتعلق بأورام كل يوم فيها يعرضني للخطر أكثر ويقربني من النهاية أكثر ، فكيف لا أحصل علي حقي في عمل الأشعة اليوم وهي لازمة وبأقصى سرعة

المسنة : ابتسامة ، ثم مصمصة شفقة ، ثم نظرة ود من عيون تئن من الوجع ، يا ابنتي المشوار طويل ، اليوم تحصلي علي دور ، والله معك ويكون في حدود الشهر ، صبرك الله يا حبيبتي

ذلك هو باختصار أحد الحوارات البسيطة علي شباك التذاكر بأحد منافذ عمل الأشعة بإحدى المستشفيات الجامعية في بلادي

تلك حالة مبسطة جدا من آلاف الحالات علي شبابيك التذاكر كل يوم في كل المستشفيات وكل التخصصات ، مرضي فيروس سي ، مرضي فشل كلوي ، مرضي أورام ، مرضي متوطنة ، مرضي القلب ، مرضي سوء التغذية ، مرضي الاكتئاب وقد دخلت البلاد جلها فيه ، أمراض الطفولة بكل أنواعها ، كل ما في البلاد من هواء وطعام وماء يؤدي في النهاية لطريق المستشفيات الخالية من الدواء بأسرتها المحدودة المعدومة ، بتلوثها المخزي وتعاملاتها المهينة والتي لا ترقي للمستوي الحيواني

تلك هي قيمة الإنسان في بلادنا ، ذلك الإنسان الحي الميت ، حين لم يتبقي مما نهبوه ما يوفروا له به ثمن الدواء قتلوه ليتخلصوا من الداء ، فهل إلي خلاص من سبيل ؟ .

وسوم: العدد 722