تأليف

الهاشمي قروف (الجزائر)

هذه رسالة ماجستير تقدم بها الباحث الهاشمي قروف في كلية العلوم الاجتماعية في قسم أصول الدين في جامعة الحاج لخضر في باتنة في الجزائر، ويقع الكتاب في 256 ص من القطع الكبير.

التعريف بالمفكر:

هو محمد بن عبد القادر بن محمد المبارك الحسني الدلسي المالكي الجزائري ويتصل نسب اسرته الى نسب الحسن بن علي رضي الله عنهما وهي اسرة ذات علم وأدب ودين وصلت الى الشام مع المهاجرين الجزائريين ابان الاحتلال الفرنسي للجزائر والتضييق على أهل العلم

ولد محمد المبارك في 1330للهجرة /1912م في دمشق فكناه أبوه بأبي هاشم، وله من الأخوة ستة ذكور وثلاث أخوات، وكان جده عالماً أديباً زاهداً، وكذلك عم أبيه محمد الطيب كان مقرئاً وشيخاً في الأدب والتصوف

كل هذا جعل دار أهله مرتاداً للعلماء الوافدين من البلاد العربية والشام وكان دائم الحضور لتلك اللقاءات والندوات بالإضافة الى دوام التواجد في المسجد الأموي الكبير وقلعة دمشق لتحصيل العلم في العطل الصيفية مما صقل شخصية محمد المبارك وأنضجه مبكراً.

درس المبارك في المدارس النظامية في دمشق ما بين 1920—1932م وأنهى الثانوية العامة بفرعها العلمي فيها وتفوق في الرياضيات الى جانب اللغة العربية كما تعلم اللغة الفرنسية بحكم سياسية الفرنسيين واطباق الاحتلال الفرنسي للشام

ثم درس الحقوق والآداب في جامعة دمشق وتخرج 1965م ودرس على شيخ علماء الشام في الاجازة الصيفية (محمد بدر الدين الحسني) وعلى يد والده عبد القادر المبارك الذي كان يعتبر من الأعلام في الشام عموماً

وقد تحدث عن شيخنا محمد بن المبارك الكثير من علماء الأمة مثل: الشيخ العالم محمد كرد علي، والشيخ علي الطنطاوي، وما فتئ شيخنا بذكر فصل شيخه الحسني، ووالده عبد القادر، والأمير شكيب أرسلان من خلال مواقفه المناهضة للاستعمار، والذي التقاه في باريس حيث كان المبارك في بعثة علمية، وكان أرسلان منفياً هناك مناضلاً عن قضايا الأمة لتحريرها.

وبعد انهاء دراسته في باريس عاد الى الشام وعمل في التعليم الثانوي في مدينة حلب كأستاذ للأدب العربي، وفيها تزوج زوجته التي تنحدر من آل البيانوني، ثم انتقل الى دمشق، ودرّس في ثانوياتها الأدب والأخلاق والمنطق والفلسفة حتى عام 1945م حيث ظهر الفكر القومي اليساري فواجه معارضة كبيرة من الحداثيين والقوميين، ولاسيما ساطع الحصري آنذاك (منظر الفكر القومي).

أما نشاطه في التعليم الجامعي فبدأ في 1947م حيث درّس في جامعة دمشق فقه اللغة لمدة عشر سنوات، وبعد تأسيس كلية الشريعة 1954/1955م تم تعيينه أستاذاً فيها، فدرّس فقه اللغة -ونظام الإسلام -والعقيدة- وعلم الاجتماع.

وتولى تكوين أقسام رئاسة العقائد ومقارنة الأديان ليعين عميداً للكلية خلفا للدكتور مصطفى السباعي – رحمه الله- من 1958 -1964م في عهد الوحدة بين سوريا ومصر حيث قدّم تقريراً لوزارة التربية عن التعليم في الأزهر لجميع أقسامه ضمن نظرات جديدة.

وأصبح الأزهر بمقتضاها متعدد الاختصاصات، فعمل بالتخطيط في كلية الشريعة جامعة دمشق ثم لجامعة الأزهر.

وفي الوقت ذاته بدأ نشاطه السياسي 1947م لمدة أحد عشر عاماً، وعمل بالدعوة، كما نالت الدراسات الاجتماعية جزءاً بارزاً من إنجازات المبارك وتشمل:

العقيدة في القرآن – نحو إنسانية سعيدة- الفكر الحديث في مواجهة الأفكار الغربية -الإسلام والفكر العلمي- الإسلام والتيارات الفكرية العالمية--بين الثقافتين الغربية والإسلامية – نظام الإسلام والحكم والدولة وغيرها الكثير من الدراسات

مؤلفاته:

خاض شيخنا غمار البحث والتأليف منذ سن مبكرة وتتوزع آثاره في ثلاثة مجالات:

الأبحاث والدراسات اللغوية والأدبية:

وتشمل: ( فن القصص في كتاب البخلاء 1940م- من منهل الأدب الخالد دراسة تحليلية لنصوص القرآن 1960- عبقرية اللغة العربية 1949م- فقه اللغة وخصائص العربية 1980م القرآن عربي الخطاب، إنسانيّ الرسالة: مقال في مجلة حضارة الإسلام 1960م.

الدراسات الاجتماعية:

وتشمل: الأمة العربية في معركة تحقيق الذات 1959م- المجتمع الاسلامي المعاصر 1971م- الأمة والعوامل المكونة لها 1975- نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع – جذور الأزمة في المجتمع الإسلامي 1977م- تركيب المجتمع السوري ورؤية إسلامية مبكرة لحل الاشكال العرقي والطائفي الحزبي في سوريا ( دراسة أنجزها 1958م) وتم طباعته 2003م في الأردن.

الدراسات والبحوث الإسلامية:

وتشمل: نحو إنسانية سعيدة 1961م -العقيدة في القرآن الكريم 1968م – الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية 1968م --أفكار ابن تيمية ومدى تدخلها في المجال الاقتصادي 1973م—الإسلام والفكر العلمي 1978م—بين الثقافتين الغربية والعربية 1980م—الاسام والتيارات الفكرية العالمية العالمية 1997م—مذاكرات في الثقافة الإسلامية – نظام الإسلام العقائدي في العصر الحديث 1978م –نظام الإسلام العقيدة والعبادة 1968م – نظام الاقتصاد والمبادئ العامة 1972م – نظام الإسلام الحكم والدولة 1974م—نظرة الإسلام العامة الى الوجود وأثرها في الحضارة

منهجه في البحث والكتابة:  

يعتمد في تأليفه أسلوباً حديثاً وموضوعياً في تناول الفكرة والتدليل لها، ولا يهمل ملامسة العاطفة، وتتميز مؤلفاته بالاعتدال والتوسط أما عن علاقاته بالعلماء داخل الشام فهي (علاقته وثيقة مع الدكتور مصطفى السباعي الذي لازمه بعلاقة مميزة – أيضاً معروف دواليبي – محمد بهجة البيطار—مصطفى أحمد الزرقا—والعلامة عبد الفتاح أبو غدة –والشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني—والداعية عصام العطار—ود. محمد أديب الصالح، ود. صبحي الصالح (لبنان)– والمؤرخ محمد راغب الطباخ )

أما خارج الشام:

فقد تميزت علاقات الوطيدة بالشيوخ الكرام: (الداعية محمد غزالي –والعلامة د. يوسف القرضاوي—والمفكر محمد قطب—والمجاهد محمود محمد الصواف—والإمام أبو الأعلى المودودي--- والداعية المفكر أبي الحسن الندوي ...وغيرهم كثير).

وفاته:  

توفي الأديب الداعية محمد عبد القادر المبارك في 3 كانون الثاني 1980م أثر أزمة قلبية في المدينة المنورة، وصلّي عليه في مسجد قباء يوم الجمعة، ووري الثرى في البقيع برفقة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثر رحيله المفاجئ في أوساط لمفكرين والدعاة والمفكرين والعلماء، واعتبر رحيله خسارة لا تعوض للفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية، ومن ثم نظمت قصائد في رثائه أشهرها قصيدة الشيخ محمد المبارك الجزائري السوري المسلم ضحية الاغتراب والمطارد ة في سبيل الحق والايمان للشاعر محمد ضياء الدين الصابوني.

الفصل الثاني: جهود محمد المبارك في الفكر الإسلامي:

استعمل محمد المبارك التصور الإسلامي في نفس المراد عند سيد قطب فقد عرض واستعرض حقائق الإسلام الثابتة والقطعية في العقيدة والشريعة والأخلاق الواردة في النص من غير زيادة أو نقصان.

كما استعمل مصطلح الفكر الإسلامي، وهو عند المعاني التي يحملها الوحي الكريم والمعاني القطعية بلا ريب.

اما الإطار المرجعي لفكره:

فكان نصوص الإسلام، وتراث المسلمين المعرفي، والتراث الإنساني المشترك بين الحضارات والثقافات.

الرؤية التجديدية في فكره:

يرى محمد المبارك أن نهضة الأمة، وتطورها لن يتحقق إلا بحركة شاملة تقوم على تطبيق مفهوم التجديد والإصلاح في الجماعات المجددة دون تجاوز القواعد العامة التي رسمتها الرسالة الإسلامية، وأشار في أكثر من موضع في مؤلفاته الى ضرورة القيام بعمل إصلاحي وتجديدي من أجل هذا الدين.

ويرى أن ذلك عمل حيوي ومستمر في الأمة ويرى أن التجديد يرافق التأصيل الذي ورد في القرآن والسنة النبوية وكانت مجالات التجديد عنده في (0 اللغة والأدب—مناهج التعليم—أسلمة المعرفة العلوم الاجتماعية—صياغة الرؤية الإسلامية أو بناؤها بما يناسب العصر

حيث ارتأى في مؤلفاته أن تطوير التعليم وأن تكون هناك دراسات إسلامية مشتركة بين جميع الأقسام بين جميع الكليات في الجامعات وتكون دراسات إسلامية مناسبة لتخصصات جامعية محددة ودعا الى صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية أو أسلمة المعرفة الاجتماعية

أما عن موقفه من الفكر الغربي والحضارة الغربية، فقد نظر للغرب من الوجهة الجغرافية السياسية ومن الوجهة المفهومية بإطاره الحضاري الذي يتمثل في نموذج الغرب في الحياة والرموز الثقافية الفكرية ومظاهر وجود،ه وانتشار سلعه وانماط حياته في العالم.

وقد أتقن محمد المبارك اللغة الفرنسية، فكانت المفتاح إلى عمق الفكر الغربي وتخصص في أحد فروعه، وهو علم الاجتماع، واستثمرها في الفكر الإسلامي.

كما رصد صدى وأثر الفكر الغربي والحضارة الغربية في البلاد الإسلامية زما أحدثه من ارتجاجات ضخمة هزت كيان الأمة من1 الاحتكاك المباشر بين الأمة والحملات الاستعمارية الغربية وأثرها السلبي العميق في مسيرة الأمة

ودعا لرصد التيارات الفكرية الكبرى المؤثرة في الفكر الإسلامي كالعلمانية والقومية، واجتهد في إبراز الاختلافات بين الأمة الإسلامية وأمم الغرب وأسباب نشوء ومآلات هذه التيارات.

وتميزت أبحاثه بقدرة نقدية فائقة في تناول هذه القضايا بموضوعية من حيث التحليل والبيان والنقد المستند الى الحجج العلمية والمنطقية.

وكان من خصائص ومميزات فكره الاعتدال والوسطية -الوعي والعمق والرشد في الطرح—التحليل والشمولية

حيث كانت معركته مع خصوم الإسلام تشمل كل جوانبه لسانا وعقيدة وشريعة ومنهج حياة ونظام اخلاق واقتصاد واجتماع

الفصل الثالث: جهوده في الدعوة:

سخر محمد المبارك حياته كلها في خدمة الدعوة، فقد قضاها في خدمة الإسلام، وكان يدعو بسلوكه وأحلامه، ويبين الإسلام في كتبه ومحاضراته ومقالاته في حله وترحاله فكان شخصية دعوية في المقام الأول.

ويستند محمد المبارك في تكوين نطرته إلى الدعوة انطلاقاً من إيمانه بالإسلام كرسالة يلتزم بها في نفسه وبيته وأسرته القريبة والبعيدة وحياته الفكرية والعملية فكانت الدعوة الإسلامية بالنسبة له تمثل مهمة ورسالة خاصة تتمثل في انقاذ الامة مما آلت اليه وإنقاذ الإنسانية كلها نت المآزق التي أوجدت نفسها فيها وتمثلت أسس الدعوة عنده:

بتوضيح الفهم الصحيح للإسلام والعناية بفهم الواقع والعناية بفهم القواسم المشتركة بين مكونات الأمة

كما لم ير نجاح الدعوة فورة او وثبة كوثبة نار القش بل كان يدرك أن المطلوب هو تحويل العواطف الى عزائم وهمة وطموح ومثابرة للتغلب على الانكسارات النفسية التي يصدمنا بها الواقع فاجتهد في المجال التعليمي التربوي لمعرفة الذات ووعي الهوية ووصف الواقع توصيفا دقيقا لأن ذلك شرط في قيام النهضة ونجاح العمل الدعوي فاختار التدريس واعتبر ان تحقيق أهداف الدعوة يتحقق بثلاثة أهداف هي:

1- تحقيق المعرفة الكاملة بالإسلام المبنية على القران والسنة الشريفة

2- تقوية الشعور بالانتماء الى الأمة الإسلامية او الجماعة المسلمة أو المجتمع المسلم

3- معرفة العلوم التي تقوم بها دنيا المسلمين.

المجال السياسي: عايش محمد المبارك نشأة حركة الإخوان المسلمين في شكلها التنظيمي في مصر وامتدادها الى الشام على يد الدكتور مصطفى السباعي وغيره.

وكان يرى أن العمل الدعوي منسجم ومتناغم مع منهج الإخوان، ولاسيما في التدرج والمرحلية.

فدخل المعترك السياسي لما فرضه عليه الواقع من وجود مناخ الحرية وإقرار الأحزاب الغربية الفكرة والتصور والبعيدة عن الإسلام في تلك الفترة.

وكان يرى أن ترك الساحة فارغة قد يدفع بالضرورة الخصوم إلى ملئها.

واعتبر ان العمل السياسي منبر يدافع من أعلاه عن الإسلام كشريعة وعبادة ونظم وقيم وحضارة.

ويظهر ذلك جلياً في وضع دستور 1951م حيث شبت سجالات كبيرة بين النواب حول أسس الدستور، ومكانة التشريع الإسلامي فيه، فكان لوجود المناصرين للفكرة الإسلامية من الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم الدكتور السباعي الأثر البالغ في إقرار نصوص الدستور على أسس الشريعة الإسلامية.

وأما عن تواصله الجماهيري: فقد طرق جميع أبواب الدعوة، واستعمل الوسيلة الإعلامية، والتبليغ المباشر لتبليغ الإسلام إلى أكبر مساحة من الناس بشكلين تقليدي وتقني.

تحديات الدعوة عند محمد المبارك:

تواجه الدعوة الإسلامية مشاكل كبيرة ومعقدة ومتنوعة وتاريخية ومنهجية فكرية وواقعية مرتبطة بالسياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد

وعليه فهي تواجه تحديات ذات أبعاد شتى زاد من حدها المحيط العالمي من خلال عالمية اقتصاده القائم على الاستغلال والظلم من خلال وسائل إعلامه المهيمنة والصانعة للرأي العام، والذي يميل بكل معطياته لتحقيق مصالح العالم الغربي المتفوق المتنفذ، ومن بين التحديات:

1-تحديات داخلية مرتبطة بواقع الأمة على جميع المستويات في الحياة بدءاً من المفاهيم المشوهة الموروثة عن الإسلام كمفهوم عبادة وصولاً الى الارباك الذي لحق بعقول كثير من أبناء الأمة تجاه افرازات الحضارة – الغربية التي سيطرت على واقع الامة الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وصولا الى أخطرها وهو تشويه هوية الأجيال

2-تحديات مرتبطة بالواقع الدعوي: وهي تحديات خارجية تتعلق بمكر الأعداء وكيدهم وداخلية تتمثل بأمراض التعصب والهوى والجهل والتي تشكل الخطر الحقيقي على الدعوة

فقد شخص المبارك اختلافات الأمة التي جعلت الامة تعيش على العصبيات الفقهية والكلامية والتصوفية ما أرهق عقل الأمة الجمعي وإعاقه عن قيامه بدوره الدعوي الرشيد.

ويرى أن العصبيات أثرت سلباً على واقع المسلمين، واختصرت الدعوة إلى الله تعالى بالدعوة لمذهب متعصب له الداعية.

3-تحديات مرتبطة بالتأثير الخارجي: لما للقوى الاستكبارية على العالم الإسلامي من قوى تسلط وزاد من هذا التسلط التطور التقني الذي قرّب المسافات والأزمنة معاً وجعلت الهيمنة الخارجية تظلل مختلف أصقاع العالم.

وأخيراً:

هنا رست سفينة البحث في ترجمة المفكر محمد المبارك وصاحبنا شيخنا وترحلنا مع حياته، وجهوده الفكرية والدعوية حيناً؛ وليكون ذلك تبياناً لشخصية محمد المبارك وإسهاماته في الفكر والدعوة.

إمام مجاهدي فلسطين

ومقاوم أربعة محتلين

ورجل أحيا الله به الأمة

العَالِمُ الرَّبَّانِيُّ القَائِدُ المُجَاهِدُ الأزهَرِيُّ العَظِيمُ

مُجَاهِدُ الإيطاليين والفِرَنسِيِّينَ والإنجِلِيزِ واليَهُودِ

الثَّائِرُ الصُّوفِيُّ شَهِيدُ فِلِسْطِينَ مُوقِدُ ثَوْرَةِ 1936م

المُصْلِحُ المُجَدِّدُ الشَّيخُ عِزُّ الدِّينِ القَسَّامُ

والرَّجُلُ فِي أمَّة

فِي ذِكرَى استِشْهَادِهِ الثامِنَةِ والثَّمَانِينَ - رحِمَهُ اللهُ تَعَالَى

عز الدين القسام.. شيخ سوري قاد ثورة فلسطين 

(1300- 1354هـ = 1882- 1935م)

سيد أحمد بن محمد السيد

-1هَيَّا نُحَلِّقْ   في سَمَا الإلهَامِ           ونَزُرْ بـ "حَيفَا" مَرْقَدَ الضِّرْغَامِ

-2نَأتِي الضَّرِيحَ بِعَبْرَةٍ وسَكِينةٍ           نقْرَا السَّلَامَ عَلَى الفَتَى القَسَّامِ

-3لِمُحَمَّدِ البَطَلِ العَظِيمِ ونَجْلِ عَبْـ        

     ـدِ القادِرِ ؛ المَنْسُوبِ   لِلقَسَّامِ

*********

-4الثائِرِ المِغْوَارِ في سَاحِ الوَغَى           و القائِدِ ، المُتَمَرِّسِ ،   المِقْدَامِ

-5العالِمِ   الرِّبِّيِّ ؛   أوقَدَ   ثَورَةً           هَيهَاتَ   تَمحُوهَا   يَدُ   الأيَّامِ!

-6 و مُجَاهِدٌ لِلإحتِلالِ ، و جُندِه           بِثَرَى فِلِسطِينٍ، وأرضِ الشَّامِ

-7ومُنَاضِلُ المُستَعمِرِينَ انجِلتِرَا         و فِرَنسَةٍ ،   و صَهَايِنِ الأقوَامِ

-8والعالِمُ الحَرَكِيُّ ؛ أحيَا   أمَّةً           بِجِهادِهِ ، و شَهَادَةٍ ، و مَقَامِ

-9 الشَّاذِلِي الصُّوفِيُّ صاحِبُ سُنَّةٍ           مَعَ رَدِّ بِدْعاتٍ ، ورَفْضِ أثَام

   *********

-10 هُوَ عَالِمٌ ، و مُفَكِّرٌ، و مُخَطِّطٌ         هُو مُبْغِضٌ لِلظُّلمِ ، و الظُّلَّامِ

-11 هو عالم ، و مُعلمٌ ، و مُدرِّسٌ         رَبَّى   لِآلافٍ     على   الإسلامِ

-12وهو الخَطِيبُ مُفوَّهًا، ومُؤثِّرًا         بِفِرَاسَةٍ ،   و تَوَسُّمٍ     لأنَامِ

-13الأزهَرِيُّ   بِعِلمِهِ ، و دِرَاسَةٍ         و سُلوكِه ؛ كالسادَةِ   الأعلَامِ

-14 هُو قادِحٌ لِشَرَارِ ثَورَةِ أهلِنا         بِحِمَى فِلسطِينٍ ، بِوَجهِ   لِئَامِ

-15 حَيُّوا مَعِي اَلْألمَعِيَّ المُنتَقَى         حيُّوا لِعِزِّ الدِّينِ ؛   ذا القَسَّامِ

   *********

-16وُلِدَ الفَتَى في"جَبْلَةٍ" مِن سُورِيَا       مِن لاذقيَّةِ   سَاحِلٍ ،   لِلشام

-17في أسرَةٍ   مَعرُوفةٍ ، و كَرِيمَةٍ       مِن خِيرَةٍ ، و مُبَجَّلِينَ   كِرَامِ

-18 وعَلَى الهُدى فيهِم نَشَا مُتَرَعْرِعًا    

       و مُوَحِّدًا   لِلبَارِئ ،   العَلَّامِ

-19في   بِيئَةٍ   عَرَبِيَّة ،   و تَقِيَّةٍ       مَعْنِيَّة       بِثَقَافَةِ     الإسلام

-20 و بِها تَلقَّى في العُلومِ مَبادِئًا       في الدِّينِ، مَعْ لُغَةٍ لِصَقْلِ كَلامِ

     *********

-21وعَقِيبَ ما بلغ الفُتُوَّةَ والصِّبَا       فأبُوهُ   أرسَلَهُ ؛   لِنَيلِ   مَرَامِ

-22لِلأزهَرِ المَعْمُورِ في مِصرِ العُلى        

     بِكِنَانةِ   الأمْجَادِ ،   و الأقرَامِ

-23لِلعَلِّ   مِن جَمِّ العُلومِ   بِرَحبِهِ         عَن جِلَّةِ الأشيَاخِ ، و الأعلام

-24لِعُلوم شَرعٍ، مَعْ عُلومِ لِسَانِنَا الـ         ـعَرَبِيِّ ، حَازَ بِهِمَّةٍ ، و دَوَامِ

-25وبُعَيدَ تَحصِيلِ العُلومِ مِنَ ازْهَرٍ       و تَخَرُّجٍ   فِيهِ ، أتَى   لِلشَّامِ

-26 في سِلكِ تَعلِيمِ، ووَعْظٍ قد عَمِلْ      

     في رَبْعِه ، بِعِنَايَةٍ ، و تَسَامِ

   *********

-27حتَّى أتَى الكابُوسُ مِن إفرَنسَةٍ       فأناخَ   كَلكَلهُ ،   بأرضِ الشامِ

-28فإذا بِعِزِّ الدِّينِ   يَنهَضُ ثائِرًا       في وَجهِهِ كالصارمِ الصَّمْصَامِ

-29 في ثُلَّةِ الأخيارِ؛ مِن طُلَّابِه         و كَذَا   مُرِيدُوهُ ؛ أولُو الإقدَامِ

-30أمْسَى يُطارَدُ مِن جُنُودِ فِرَنسَةٍ         فأتَى دِمَشقَ، وفَيصَلٌ في الشامِ

-31ثُمَّ انتَأَى عَنهَا ؛ لِمُحتَلٍّ عَثَا         واحتَلَّهَا ، بِالبَطْشِ ، و الإجرَام

-32وبَدَا يُنَكِّلُ بِالأُبَاةِ ، ومُصْدِرًا       حُكمًا   بِإعْدامٍ ، على   القَسَّام

   *********

-33فَلِذَا مَضَى لِرُبُوعِ حَيفَا قاصِدًا         و بِها استَقَرَّ ؛ بِعِزَّةٍ ، و مَقَامِ

-34وغَدَا الإمامَ بـ"جامِعِ استِقلالِها"       وخَطِيبَهُ المَرمُوقَ في الأقوامِ

-35"جَمعِيَّةُ الشُّبَّانِ" مِن أهلِ الهُدَى      

     صَارَ الرَّئِيسَ لَها بِحُسْنِ نِظامِ

-36 أضحَى بِدَعوَتِه   يُرَبِّي أنفُسًا       - ويَصُوغُها- بِمَبَادِئ الإسلامِ

-37 رَبَّى بَنِي حَيفَا على المُثُل العُلَى         و الصِّدقِ ، و التَّوحِيدِ لِلعَلَّامِ

-38وعلى التقى وكرامة مَعَ عِزَّةٍ         و شَجَاعَةٍ ، و مَحَبَّة ، و وِئَامِ

-39وخُضُوعِهِمْ لِلَّهِ ، دُونَ عَبِيدِه       لا سِيَّما   فُجَّارِهِمْ ،   و لِئَامِ

-40وعلى جِهَادِ الظالِمِينَ وظُلمِهِم         بِالفِعل ، أو بِالقَولِ ، و الأقلامِ

       *********

-41 واختَارَ مِن خَيرِ الرِّجَالِ أشَاوِسًا       كانوا   النَّوَاةَ   لِثَورةِ القسَّامِ

-42 كانوا   الأسَاسَ لِثَورَةٍ   قُدسِيَّةٍ       ضِدَّ احتِلَالٍ ؛   غَاشِمٍ هَضَّامِ

-43 ضِدَّ احتِلالِ   الإنجِليزِ الأشقِيَا       ضِدَّ الصَّهَايِنِ ؛ قادَةِ الإجرامِ

-44 و كذلِكَ العُمَلَاءُ ؛ مِن أذنابِهم       مِن خائِنِي الأوطانِ ، والإسلامِ

-45 كانُوا   النَّوَاةَ   لِثَورَةٍ   وَهَّاجَةٍ       يَصلَى الغُزاةُ بِنارِهَا و ضِرامِ

-46 لِقُرَى فِلسطِينٍ - تَعُمُّ - بِأسرِهَا       حَتَّى تَحَرَّرَ   مِن عَنَا الظُّلَّامِ

-47ربَّى الرِّجَالَ أعَدَّهُمْ ؛   بِعِنَايةٍ         و رِعَايَةٍ ، و بِخُطَّةٍ ، و نِظَامِ

-48 حَلَقَاتِ عِلمٍ - أسَّها -   مُتعهِّدًا       حُضَّارَها   بِالعِلمِ ، و الإفهامِ

-49و مُدَرِّبًا لَهُمو - كَذاكَ- مُقَسِّمًا       وَحَدَاتِهم ، لِعَسَاكرٍ ،   بِمَهَام

-50و دِعَايَةٍ   بِمَسَاجِدٍ ، و لِثَورَةٍ       قد خَصَّها   العُلَماءَ ؛ للإعْلامِ

-51بِخَطابَة ، ودُرُوسِهِم ، ومَحَافِلٍ       جَعَلُوا القَضِيَّة ضِمْنَ رَأيٍ عَامِ

-52فَوَعَى الفِلِسطِنْيُونَ أمْرَ مَكَايِدٍ         لِصَهايِنٍ ، و لِإنجِلِيزَ ؛   لِئَامِ

-53 و عَقِيبَ هذا   كافَحُوا مُحتَلَّهُم       و صَهايِنًا   ؛   بِقِتَالِهم   لِأمَام

-54بِمَعَارِكٍ قد خاضَهَا القَسَّامُ مَعْ       إخوانِهِ ، في السِّرِّ، و الإظلامِ

     *********

-55وقُبَيلَ أسبُوعٍ مِنِ استِشهادِ عِزْ       زِ الدِّينِ أمَّ جِنِينَ ، ضِمْنَ فِئَامِ

-56ذَهَبُوا لِيَدعُوا أهلَها لِيُشَارِكُوا       في ثَورَةٍ ، قد آذنَتْ بِضِرَامِ

-57لِيُبَاغِتُوا   لِعَدُوِّهِمْ ؛   بِقِتالِهم       يُصلُونَهُم - مِن نَارِهِم- بِسِهَام

-58وعَقِيبَهَا يَأوُونَ بَعضَ مَغَاوِرٍ       أو فِي الكُهُوفِ ، وسابِغِ الآجَامِ

-59فَمَضَوا إلى بَعضِ القُرَى فِيها كَـ "كَفْـ

   ـرِ الدَّانِ" و "البَارِدْ"؛ لِعَينِ مَرَامِ

-60و بِقَريَةِ "البَارِدْ" هُنَاكَ تَقاتَلُوا       و استُشهِدَ الحَلْحُولِ ؛ ذُو الإقدامِ

 

-61ونِهَايَةَ الأسبُوعِ كانَتْ مَعْرَكَةْ         لِلعِزِّ   مَعْ   أصحَابِهِ   الأقرَامِ

-62بـ "حِرَاجِ يَعبَدَ" مِن جِنِينٍ خاضَها  

       بِبَسَالَةٍ ، و جَسَارَةٍ ،   و كِلَامِ

-63في تِسْعَةٍ مِن صَحْبِهِ قَدْ واجَهُوا

     لِمِئَاتِ أشخَاصٍ مِنَ الأخصامِ

-64قد طَوَّقُوا لِلشَّيخِ مَعْ إخوانِه       وجَرَى قِتَالٌ - بَينَهُم - بِضِرَامِ

-65دامَ القِتالُ مِنَ الصَّبَاحِ لِعَصْرِهِ       و استُشهِدَ   القَسَّامُ   ذُو الإقدامِ

-66 وصِحَابُه فاستُشهِدوا أو جُرِّحُوا         والبَعضُ قد أسِرُوا لَدَى الأعْجَامِ

     *********

-67يَا سَيِّدِي القَسَّامَ ! أبْشِرْ بِالَّذِي       قدَّمْتَ ؛ مِن زَرْعٍ نَضِيرٍ نَامِ

-68فَثِمَارُ أغرَاسٍ لَكُمْ   قد أينَعَتْ       بِرُبَى فِلسطِينٍ ، و رَبْعِ الشامِ

-69في صَحْوَةٍ   عُلْوِيَّةٍ     قُدسِيَّةٍ        بَينَ الشُّعُوبِ ؛ تَفِيءُ للإسلام

-70 في فِتيَةٍ نَشَؤُوا على حُبِّ الهُدَى       و على الجِهَادِ، و طاعَةِ العَلَّامِ

-71 "يَاسِينُ" نَشَّأهُمْ على مِنهَاجِكُم       جَعَلُوا الصَّهَايِنَ عِبْرَةَ الأقوامِ؟!

-72فَجَنَى"حَمَاسٍ" جاءَ مِن بَرَكَاتِكُم       مِن خَيرِ ثَورَتِكُم، وصِدقِ مَرَامِ

     *********

-73رَحَمَاتِكَ اللهُمَّ ! أغدِقْهَا عَلَى       جَدَثٍ   بِرَبْعِ "الشَّيخِ"؛   لِلقَسَّامِ

-74و بِجَنَّةِ الفِردَوسِ أكرِمْهُ غَدًا       مَعَ الَانبِيَاءِ ، و أولِيَا الإسلامِ

-75و رِفَاقُهُ ، و تَلامِذٌ ، و أحِبَّةٌ       بِجِنَانِ عَدنٍ ؛ فاحْبُهُمْ   بِسَلَامِ

   *********

مِن ديوانَيَّ: "في رِحَاب العُظماءو "بَنَات تُركِيَّة".

الفصل الأول

شرح قصيدتي في الشيخ القسام المُسَمَّى:

"فَتح المَلِك العَلَّام بِشَرح قصيدة الشيخ القسَّام"

(1) هَيَّا: اسم فِعل أمر بمعنى أسرِعْ. *"المنهاج في القواعد والإعراب" لمحمد الأنطاكي 241، و"معجم النفائس الكبير" 2160.

*نُحَلِّق: نَطيرُ، وهو مجزوم بالطلب. *سما: سماء. *الإلهام: إيقاع شيء في القلب يطمئن له الصدر، يخص الله به بعض أصفيائه، و: ما يُلقَى في القلب مِن معانٍ وأفكار. وهذا الثاني هو المقصود. *المعجم الوسيط 842.

*نزر: مجزوم بالطلب؛ لأنه معطوف على نحلق المجزوم بالطلب، وأصلها: نزور، مضارع زار؛ أي: نحن نزور. *حيفا: مدينة فلسطينية معروفة، استوطنها الشيخ عز الدين القسام بعد هجرته إليها من سورية، بعدما لا حقته السلطات الفرنسية بعدما جاهدهم وثار عليهم؛ فطاردوه ثم حكموا عليه بالإعدام غيابيا، فهاجر من جبل صهيون باللاذقية إلى دمشق، ومنها إلى حيفا. *مرقد: ضريح، قبر. *الضرغام: من أسماء الأسد.

(2) الضريح: القبر. *العَبْرة: بفتح العين الدمعة. *سكينة: طُمَأنِينَة. *نقرا: نقرأ، نُسَلِّم. *الفتى: السيد الكريم. *القسام: الشيخ محمد عز الدين القسام؛ العالم المُرَبِّي المجاهد سوري الأصل، المعروف، وستأتي ترجمته والتعريف به مُطَوَّلًا، بُعيد شرح القصيدة بعون الله تعالى.

(3) لمحمد: اسمه محمد عز الدين. *البطل: الشجاع في الحرب. *العظيم: الكبير. *نجل: ابن. عبد القادر: اسم والده، وسيأتي التعريف به إن شاء الله. *المنسوب للقسام: المتصل نسبه بأسرة القسام.

(4) الثائر: من قام بثورة على المحتلين الفرنسيين بسورية، وعلى المحتلين الإنجليز واليهود في فلسطين. *المغوار: الشجاع الذي لا يخاف. *ساح: ج ساحة، ميدان. الوغى: الحَرب. *القائد: قائد الجيش، رئيسه.

المُتَمَرِّس: الماهر، المُحَنَّك، المُجَرِّب. *المقدام: الذي يكُرُّ على أعدائه، أي: يهجم عليهم، ولا يخافهم.

(5) العالم الربي: المنسوب للرب؛ الرباني. *أوقد ثورة: أشعلها، وهي ثورة الجهاد ضد الغزاة من الإنجليز والصهاينة المُغتصبين لفلسطين. *هيهات: اسم فعل ماض بمعنى: بَعُدَ. *تمحوها: تُزيلها. *يد الأيام: السنين والدهور؛ أي: أن ثورته التي أشعلها ضد الاحتلال دائمة، لن تَنطفِئ.

(6) مُجاهد: مُكافِح ومُنَاضِل. *للاحتلال: الفرنسي في الشام، والإنجليزي واليهودي في فلسطين الحبيبة السليبة. *جند: ج جُندِي.

(7) مناضل: مُجاهد. *المستعمرين: المحتلين المغتصبين. *صهاين الأقوام: الصهاينة من الناس.

(8) العالم الحركي: العالم المُنَظَّم الذي يعمل مع إخوانه في جماعة.

*أحيا أمة: بعثها بالجهاد والعمل، فقامت من الخمول والكسل، وبدعوة الناس إلى الله تعالى، وباستشهاده فكانت ثورة 1936م.

(9) الشاذلي الصوفي: فقد كان ذا طريقة شاذلية. *صاحب سنة: أي صوفي سني، على منهج السلف الصالح؛ بالأخذ بالسُّنَن، وترك البِدَع. *رد بدعات: رفضها وعدم قبولها، والبدعات ج بدعة كل ما أحدِث في الإسلام، وكان مُخالفًا لِسنة نبوية صحيحة. *الأثام: الإثم، وهو الذنب الذي يستحق العقوبة، وعقوبته. *الوسيط: ص 6.

(10) مفكر: صاحب فكر نَيِّر. *مخطط: أي يُخطط ويُرتب للأمور قبل القيام بها، ولا يرتجلها ارتِجالا. *مبغض: كاره. *للظلم والظلام: للظلم وأهله. وظلام: ج ظالم.

(11) هو معلم ومدرس: إذ كان يدرس في بعض المدارس بحيفا، كما كان يدرس الناس في مسجده "جامع الاستقلال"، ويعلم بعض العمال وغيرهم ممن لم يتعلموا؛ فكانوا يعلمهم القراءة والكتابة ليمحُوَ أمِّيَّتَهُم. *ربى لآلاف ...: أدَّب وهذب الآلاف من الناس على آداب الإسلام خلال 15 عاما.

(12) الخطيب المفوه: البليغ الفصيح المؤثر في الناس. *الفراسة: النظر والتثبُّت، والمهارة في تَعَرُّف بواطن الأمور، وفي الحديث الشريف: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله". *الوسيط 681. *التوسم: التَّفَرُّس، يقال: تَوَسَّمَ فيه الخير. الوسيط 1032. *الأنام: الناس.

(13) الأزهري: الذي درس في الجامع الأزهر بمصر، وقد درس الشيخ عز الدين القسام في الأزهر 10 سنوات؛ ما بين: 1896- 1906م. *سلوكه: عمله. الأزهري بسلوكه: أي العالم الصادق بقوله وفعله. *كالسادة الأعلام: كعلماء الأزهر الكبار الصادقين الربانيين، لا كعلماء الدنيا الذين يُهينون علمهم ودينهم، ويبيعون دينهم بدنياهم.

(14) قادح: وارٍ مُشعِل. *الشرار: ما يتطاير من النار أثناء اشتعالها. *ثورة أهلنا: ثورة إخواننا بفلسطين على محتليهم الإنجليز واليهود. *حمى فلسطين: أرضها. *لئام: ج لئيم، البخيل، الخسيس، الحقير.

(15) حيوا معي: سلموا معي. *الألمعي: الذكي الفَطِن. *المنتقى: الطيب الطاهر. ذا القسام: هذا القسام.

(16) جَبَلة: منطقة ومدينة معروفة في محافظة "اللاذقية" بسورية، وأهلها من أهل السنة، وفيها قبر الرجل الصالح الزاهد إبراهيم بن أدهم. *الساحل: شاطئ البحر. *للشام: لأرض الشام المباركة.

(17) في أسرة معروفة: شهيرة. *كريمة: أصيلة. *من خيرة: أفاضل. *مبجلين: ج مبجل، كرام.

(18) على الهدى نشا: نشأ وترَبَّى على الإسلام. *مُتَرَعْرِعًا: نامِيًا وناشِئًا.

*موحدا للبارئ: ناشئا على توحيد الخالق. العلام: من أسماء الله تعالى، وتعني: كثير العلم وواسعه.

(19) في بيئة عربية: في محيط. *تقية: صالحة تخاف الله تعالى. *معنية: مُهتَمَّة. *بثقافة الإسلام: بمبادئه وتعاليمه وهَدْيِه.

(20) تلقى: أخذ واستفاد. *مبادئ العلوم: أساسياتها من القراءة والكتابة وتعلم القرآن الكريم، والحساب والخط والإملاء. *في الدين: في أسس الدين كأركان الإسلام والإيمان، وأمور الصلاة والعبادات ... . *مع لغة: مع تعلم أساسيات اللغة العربية. *لصقل كلام: ليتحسن كلامه وتعبيره.

(21) عقيب: بعدما. *الفتوة والصبا: أول الشباب. *أرسله: بعثه. *لنيل مرام: ليحصل على مقصوده وهو تعلم العلوم الإسلامية والعربية ليكون عالما عاملا مفيدا لبلده وأمته.

(22) للأزهر المعمور: للجامع الأزهر المعمور بطلاب العلم والعلماء. *مصر العلى: مصر الأمجاد. *كنانة الأمجاد: مصر الحبيبة، والكنانة: جعبة السهام، وسميت مصر أرض الكنانة؛ لقوة المسلمين بأهلها الصالحين، وعلمائها العاملين.

*الأقرام: ج قَرْم، السيد المُعَظَّم. *معجم متن اللغة" للشيخ أحمد رضا 4/547. قال الشاعر أبو فراس الحمداني:

ما غَضَّ مِنِّي حادِثٌ           و القَرْمُ قَرْمٌ حَيثُ حَلَّا

(23) لِلعَلِّ: أي لِلشُّرب -من العلوم- مرَّة بعد أخرى. *جم العلوم: كثيرها. *برحبه: في ساحة الأزهر وكنفه. *جلة الأشياخ والأعلام: كبارهم.

(24) علوم الشرع: العلوم الإسلامية؛ من قرآن وتجويد، وتفسير، وعلوم قرآن، وفقه وأصول، وسيرة نبوية ... . *علوم اللسان: هي علوم اللغة العربية؛ من: نحو وصرف، وبلاغة وعروض، وأدب عربي ... . *حاز: نال وحصل. *بهمة مع نشاط وجِدٍّ واجتِهَاد. *دوام: استمرار وثَبَات.

(25) بُعيد: بعد قليل من تخرجه في الأزهر. *أتى للشام: رجع إليها.

(26) سلك التعليم: مهنته وحِرفته. *الوَعظ: الإرشاد. *في ربعه: في بلدته جبلة. *بعناية: باهتِمام. *تَسَامٍ: تَرَقٍّ في المعالي والعمل الصالح.

(27) الكابوس: هو الجاثوم، وهو ما يأتي للنائم ويجلس على صدره ويُضيق عليه حتى يكاد يختنق. وقصدت به هنا الاحتلال الفرنسي البغيض لسورية الحبيبة. *أناخ بالمكان: حَلَّ به ولَزِمَهُ، وأناخَ الجَمَلَ أبرَكَهُ. "الوسيط: 961. *الكلكل والكلكال: الصَّدر.

(28) فإذا بعز الدين ينهض ثائرًا: يقوم مُنتَفِضًا. *في وجهه: في وجه الاحتلال الفرنسي القَمِيءِ البَغِيض. *كالصارم: كالسيف. أي: قام في وجه الفرنسيين المُحتلين كالسيف في شدته ومضائه. *الصمصام: القاطع.

(29) ثلة الأخيار: جماعة الصالحين. *مريدوه: مُتَّبِعو طريقته الصوفية الشاذليَّة. *أولو الإقدام: أصحاب الشجاعة.

(30) أمسى يُطَارَد: صار يُلاحقه الفرنسيون لِيُمسِكُوا به. *فيصل: الأمير فيصل بن الحسين: الذي حكم سورية بضعة أشهر قبيل الاحتلال الفرنسي.

(31) انتأى: ابتَعَد. *المُحتلُّ: من يحتل بيتك وأرضَك رغمًا عنكَ. *عثا: طغا وظلم وأفسد. *بالبطش: مع العُنف والضرب بِقُوَّة. *الإجرام: الإفساد والتخريب والقتل ... .

(32) بدا: بدأ، سُهِّلت همزتها لضرورة الشِّعر. *يُنَكِّل: يُعَذِّب ويَقْمَع. *الأباة: ج أبِيٍّ، هو العزيز الذي لا يقبل الظُّلمَ والضَّيمَ. *مُصْدِرًا: مُخرِجًا. *حكما بإعدام ... : أصدر الاحتلال الفرنسي حكما غيابيا بالإعدام على الشيخ القسام، بعدما جاهدهم وقاتلهم وفرَّ منهم لكثرة أسلحتهم وقوَّاتهم.

(33) فلذا: فلِأجل هذا. مضى لربوع حيفا: ذهب لديار مدينة حيفا في فلسطين. *قاصدا: آمًّا. *استقَرَّ: أقامَ. *بعزة بمقام: مع أنفة واحترام في مكان إقامته بين إخوانه الفلسطينيين أهل حيفا.

(34) غدا الإمام ...: صار الشيخ عز الدين القسام يعمل في حيفا إماما وخطيبا في "جامع الاستقلال" منها. *المرموق: المنظور المشهور.

(35) "جمعية الشبان المسلمين": في حيفا صار الشيخ عز الدين رئيسها. *بحسن نظام: مع حسن ترتيب وتنظيم.

(36) أضحى بدعوته يربي: صار بدعوة الإسلام والجهاد يُهذب ويؤدب نفوس الناس في حيفا. *يصوغها: يُحولها ويجعلها تسير على وَفْق الإسلام.

(37) بنو حيفا: أهل المدينة. *المُثُل العلى: مبادئ دين الإسلام.

(38) التقى: تقوى الله تعالى وخَشيَتُه. *الكرامة: العِزَّة. *الوِئام: المَحَبَّة.

(39) خضوعهم لله: عُبُودِيَّتُهم له وذُلُّهم لِعَظَمَته. دون عبيده: أي الخضوع لله تعالى لا للناس عبيد الله؛ فالعبودية لله تعالى لا لغيره فيها قِمَّة الحُرِّيَّة. *لا سيما: خاصَّة. *فُجار: ج فاجِر: الكافر، الزاني، مُرتكب الكبائر.

(40) وعلى جهاد الظالمين ...: أي: وربَّى الشيخُ عِزُّ الدين الناس في حيفا على مُقاومة الظالمين ومُكافحتهم وظلمِهم وبَغيِهم بقوله وفعله وكتابته.

(41) أشاوس: ج أشوَس، هو البطل الشجاع. ونُوِّن لضرورة الشِّعر. *النواة: البِذرة والأساس. *لثورة القسام: سنة 1935م قُبيل استشهاده.

(42) الأساس لثورة قدسية: كانوا الأصل لثورة طاهرة مبنية على الإيمان والعمل الصالح والإخلاص. *احتلال غاشم: جائر طاغٍ باغٍ بَطَّاش لا يرحم. *هضام: ظالم، آكل للحقوق.

(43) الأشقيا: الأشقياء، ج شقي، تَعيس. *الصهاين: ج صِهْيَونِيّ؛ اليهود المحتلون الغاصبون لفلسطين العربية الإسلامية. *قادة: ج قائد.

(44) وكذلك: ومثل ذلك كانت ثورة القسام ضد الخَوَنَة عُملاء الإنجليز واليهود وأذنابهم من العرب والمسلمين؛ فقد جاهدهم القسام وجنوده؛ لأنهم يضرون المسلمين كالإنجليز واليهود، ورُبَّما أشد أحيانا؛ إذ يكونون عُيونًا للمحتلين وعونا لهم، وهم بيننا قد لا نعرفهم، ولا نشعُر بهم. *أذناب: ج ذَنَب، ذيل الحيوان الكائن عِندَ دُبُره، وهو مجاز عن تبعية هؤلاء الخَوَنة للمحتل، وحقارتهم وهَوَانهم. *خائنون: ج خائن، هو الغَدَّار الذي لا يفي بالعهود والوعود، ويكون مع أعداء المسلمين، وضِدَّ قومه وبلده ودينه.

(45) وهَّاجة: مُشتعِلة مُضيئة، منيرة. *يصلى: يحترِق. الغُزاة: ج غازٍ، المحتلون. *ضرام: اشتِعال.

(46) قرى فلسطين: ج قرية، مُدنها وضِياعها. *تعم: تشمل. *بأسرها: جميعها. *تَحَرَّر: تَتَحَرَّر، حُذفت التاء الأولى تخفيفا. *عنا: عناء، وهو التَّعَب. *الظلام: جمع تكسير لظالِم.

(47) أعَدَّهُم: جَهَّزَهُم. *بعناية: باهتمام شديد. *رعاية: حفظ ومُراقبة. *خطة ونظام: منهج وترتيب.

(48) حلقات علم: أقام دروسا علمية للطلاب والناس في مجالات شتى، في تعليم القرآن وتجويده، وفي علوم أخرى، وفي محو الأمية لبعض العُمَّال والفَلَّاحين والمُزارِعِين. *أسَّها: أسَّسَها وأنشأها. متعهدا: راعيا ومُشرفا ومُعلِّمًا. *حُضَّارها: الحاضرون من الطلاب المُشاركون فيها. *الإفهام: الإيضاح والتفهيم.

(49) مُدربا لهم: مُمَرِّنًا لهؤلاء الطلاب. *مُقَسِّمًا وَحَداتهم: مقسما مجموعاتهم إلى فِرَق. *لعساكر بمهام: أي لجنود متخصصين. *المهام: ج مُهِمّ، ما يدعو إلى اليقظة والتدبير. الوسيط 995.

(50) ودعاية بمساجد: جعل القسام بعض طلابه من العلماء لدعاية الناس وإعلامهم وتعريفهم بأهمية الجهاد والثورة ضد الإنجليز واليهود، من خلال عملهم في المساجد في خُطَبهم ودروسهم فيها.

(51) محافل: ج مَحفِل، مكان اجتماع الناس واحتشادهم. *القضية: قضية تحرير فلسطين، والثورة والجهاد من أجلها. ضمن رأي عام: أي: قضية عامة تهم كل عربي ومسلم في فلسطين وخارجها.

(52) وعى: أدركَ وأبصَرَ وعرَفَ. الفلسطنيون: الفلسطينيون: ج فلسطيني، حذفت اليوم الأولى لضرورة الشعر. *مكايد الصهاين: ج مكيدة، الخطة والمؤامرة التي يُعدها اليهود والإنجليز ضد العرب والمسلمين.

(53) كافحوا: قاوَمُوا وناضلوا وجاهَدُوا. محتلهم: مُغتصب أرضهم وسارقها، وهم الإنجليز واليهود الصهاينة. *بقتالهم لأمام: أي مُواجهة، ومن مسافة قريبة؛ لشجاعتهم وعدم خوفهم من عدوهم.

(54) المعارك: ج معركة، مقاتلة العدو في مكان وزمان ما. *خاضها: قام بها، وشارك فيها الشيخ عز الدين القسام مع طلابه وإخوانه. *في السر: خُفْيَةً. *الإظلام: في الليل البهيم. (55) استشهاد: وفاته شهيدًا. *أمَّ: قصد.

*ملاحظة مهمة: إنما قصد الشيخ القسام قضاءَ جنين لا غيرَه لأهميته الجغرافية، ومناسبته للثورة، ولكون أكثر أصحاب الشيخ منه؛ كما يقول الأستاذ محمد حسن شراب في كتابه "عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين" ص: 280. *جِنِين: مدينة ومنطقة "قضاء"، ومحافظة فلسطينية معروفة، تقع شمال الضفة الغربية، تبعد عن القدس 75 كيلا، وعن حيفا 40 كِيلًا. وهي إحدى مُدن المثلث الفلسطيني، وتطل من الشرق على غور الأردن، ومن الشمال تطل على "سهل مرج ابن عامر"، وهي ثالث أكبر مدن الضفة الغربية بعد الخليل ونابلس.

كان يشتمل قضاء جنين على أكثر من 120 قرية. يحده من الشمال أقضية بيسان، والناصرة، وحيفا. ومن الشرق: قضاءا بيسان، ونابلس. ومن الجنوب: قضاءا نابلس، وطولكرم. ومن الغرب: قضاءا حيفا، وطولكرم.

تبلغ مساحة مدينة (583) كم2، وسكان المحافظة أكثر من 356000 نسمة، وجنين وحدها أكثر من 65 ألفَ نَسَمَة.

و"جنين" الحالية بنيت مكان مدينة "عين جنِّيم" العربية الكنعانية، وتعني: (عين الجنايِن"، وفي العهد الروماني كانت مكانها قرية "جيناي".

وأما اسمها في المصادر العربية القديمة فهو: "جِينين" بياءَين، وهي تُلفظ اليوم بياء واحدة فحسب.

وفي إحصاءات سنة 1931م: كانت نسبة المسلمين في جنين (98 بالمئة)، وكان عدد اليهود فيها أربعة أشخاص فقط.

*ينظر: 1- "عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين". لمحمد حسن شراب 279. 2- موقع "موضوع". 3- "الشيخ عز الدين القسام قائد حركة وشهيد قضية" لحسني جرار 118. 4- "ويكيبيديا".

*ضمن: مِن بين آخَرين. *الفئام: الجماعة من الناس، وتُجمع على "فُؤُم". "المعجم الوسيط 671".

(56) ليدعوا أهلها: ليطلبوهم. *آذنت: اقتربت. *ضِرام: اشتِعال.

(57) يُباغِتُوا: يُفَاجِئوا. *عدُوّهم: أعداؤهم وخُصومهم. *يُصلُونهم: يَحرُقونهم. *سهام: ج سهم، عُود من الخشب يُسَوَّى، في طَرفه نصل يُرمى به عن القوس. *الوسيط 459. والمقصود: بقسم ونصيب منها.

(58) عقيبها: بعدها. *يأوون: يلجؤون. *مغاور: ج مغارة، وهي الحفرة في الكهف أو الجبل. *الكهوف: ج كهف، البيت المنقور في الجبل، هو كالغار إلا أنه واسع. الوسيط 803. *سابغ: تامّ. *الآجام: ج أجَمَة، وهي الشجر الكثير المُلتَفّ. الوسيط 7.

(59) كفر دان: قرية تابعة إداريا لمدينة جنين، تبعد عنها نحو 8 أكيال، وتقع شمال غربيها. ومعناها: "قرية القاضي"، أو: قرية الحاكم؛ لأن (كفر) تعني: القرية، و(دان) تعني: "القضاء والحُكم" "موسوعة القرى الفلسطينية".

كان يسكنها سنة 1945م نحو (850) شخصا، وفي سنة 1961م كانوا 1262 عربيا. *ينظر: 1- "عز الدين القسام شيخ المجاهدين". هامش ص: 285. 2- موقع: "موسوعة القرى الفلسطينية".

*البارد؛ الهاشمية: قرية تقع غرب جنين على بعد 9 أكيال، بلغ سكانها سنة 1961م 377 نسمة. وقد كره مُختار القرية اسمها؛ لأن الناس كانوا يقولون: ذهب وجاء (المُختار البارد) فطلب من الحكومة الأردنية -بعد النكبة- تغيير اسمها، فوافقت على ذلك فصار اسمها: "الهاشمية". *رَ: "عز الدين القسام شيخ المجاهدين" لمحمد شراب، هامش ص 286.

*ملاحظة مهمة: في كتاب "الإسلام وحركات التحرر العربية" ص: (209) لأستاذنا د. شوقي أبو خليل تَصَحَّفت كلمتان فيه فوردتا خَطَأً هكذا: "البارو"، و"الشيخ محمد الحلموني"، وصوابهما: قرية "البارد، و"الشيخ محمد الحلحولي". ينظر كتاب: "عز الدين القسام شيخ المجاهدين" لشراب: ص 286 هامشها، وص: 287، 292. *لعين مرام: لنفس القصد والهدف.

(60) تقاتلوا: أي اشتبك الفريقان مع بعضها: جيش الإنجليز، وجماعة القسَّام في قرية البارد. *استُشهِدَ: قُتِلَ في سبيل الله شَهِيدًا.

*الحَلْحُول: هو:            الشيخ محمد الحلحُولي

(... - 1354هـ = ... - 1935م)

*هو محمد أبو القاسم خلف الحلحولي، مجاهد من بلدة "حلحول" قضاء "الخليل"، أحد رفاق الشيخ القسام، وقد استُشهد وكان مع القسام.

*عمل في حيفا، وتعرَّف بالشيخ القسام وانتظم في حركته، وخرج معه إلى الجهاد، وقد استشهد وكان مع الشيخ القسام.

*استشهد الحلحولي في اشتباك مع شرطة الاحتلال الإنجليزي؛ التي كانت تتعقب القسام وجماعته في قرية البارد قرب قرية "كفر قود" من قضاء جنين، استشهد يوم الاثتين 18/11/1935م.

هذا، وقد استشهد الشيخ الحلحولي قبل استشهاد شيخه وقائده القسام بيومين، ونُقل جثمانه من أرض المعركة إلى مدينة جنين، وشُيِّع يوم الثلاثاء 19/11/؛ لأن شرطة الإنجليز فحصت جُثمانه في مكان استشهاده، فأخرت التشييع يوما كاملا؟! ودفن في "مقبرة الجبل الشرقي" بالمدينة.

وكان يوم تشييعه مشهودا؛ إذ سار فيه الجم الغفير من وُجَهاء وتُجَّار وشباب مدينة جنين وقضائها، وأظهر المُشَيِّعون تَعاطُفًا مع الشهيد الحلحولي مع أنه لم يكن معروفا حِينَها أن المُطارَدِين هم جماعة مُجاهِدة!

وإنما كان الشائع حسب البلاغات المزعومة للشرطة البريطانية أن القتيل من عصابة لصوص "أشقياء" تُهَدِّد الأمنَ الناس، كما أشاعوا عن الشيخ عز الدين وجماعته؟! فشيَّعه الناس بوصفه خارجا على قانون الانتداب الإنجليزي الجائر؟! وكان الناس ينظرون بعين التقدير لمن يتحدَّى قانون الانتداب بِقُوَّة السلاح، حتى ولو قيل: إنه لِصٌّ يسطو على مزارع اليهود، ومُعسكرات الانتداب، ولو كان ذلك بِدافع السرقة فقط؛ لأنه وَجَّه نفسَه سرقة أمتعة الأعداء فقط، ولم يَسطُ على أحَد من إخوانه العرب.

*يُروى أن من نقلوا جثمانه من أرض المعركة وجدوا البندقية في يد، والسُّبْحة في اليد الأخرى؟!

*ينظر: 1- "الشيخ عز الدين القسام قائد حركة وشهيد قضية" لحسني جرار: 189. 2- "عز الدين شيخ المجاهدين" لشرَّاب ص: 287، 292. *ذو الإقدام: البطل الجريء الجَسُور.

(61) نهاية الأسبوع: آخِرَهُ. *العِزُّ: هو الشيخ عز الدين القسام. *الأقرام: ج قرم، السيد المُعَظَّم. *معجم متن اللغة" للشيخ أحمد رضا 4/547.

(62) حِرَاج: ج حَرَجَة، غَيضة الشجَر المُلتَفَّة لا يَقدِر أحَدٌ أن ينفُذَ فيها. "المعجم الوسيط" 164.

*يَعْبَد: قرية تقع في الجهة الغربية من جنين، وتبعد عنها 18 كِيلًا، وتعني: (عبد) كما في الآرامية، وهي بمعنى تعهَّدَ الأرض بالزراعة، ثم مَجازًا تعني: (العِبادة، العَبْد، الخادم، الفَلَّاح، العامِل).

*وقد بلغ سكانها سنة 1935م زُهاء 4000 نسَمة، كلهم مُسلمون.

وتمتاز أراضي يعبد بكثرة أشجارها، وأحراجها؛ ففيها (7210) دونم زيتون، وأحراجها تبلغ نحوَ 92 ألفَ دُونَم، ولذلك اختارها القسام للجهاد والثورة على المحتلين الإنجليز. *"عز الدين القسام شيخ المجاهدين" لمحمد حسن شراب 279- 280، بتصرف.

*ببسالة وجسارة: بشجاعة. *كِلام: ج كَلْم، الجُرْح.

(63) في تِسعَةٍ مِن صَحْبِهِ: أصحاب الشيخ القسام التِّسعَة الذين كانوا معه يوم استشهاده -وبعضهم استُشهِد معه- هم:

1- حسن الباير.   2- عربي البدوي. 3- أحمد عبد الرحمن جابر.

4- محمد يوسف. 5- نمر السعدي. 6- عطية أحمد المصري.

7- أسعد المفلح. 8- يوسف عبد الله الزيباوي. 9- أحمد سعيد الحسان.

واجهوا: لاقوا مواجهة، قاتلوا. *لمئات أشخاص: كانت قوات الإنجليز الذين حاربهم القسام وجماعته في "معركة بعبد"، ما بين 200- 400 جندي، معهم كثير من العرب! *الأخصام: ج خَصْم، الإنجليز.

(64) طوَّقُوا الشيخ: أحاطُوا به من كل جانب. *جرى قتال: حَدَث. *بضرام: بِشِدَّة وشراسة وضراوة.

(65) دام القتال: استَمَرَّ. *لعصره: إلى قُبيل عصر ذلِكَ اليوم.

(66) أصحاب القسام الذين استشهدوا معه ثلاثة، هم:

أ- يوسف الزيباوي: من "الزيب" قضاء "عكا".

ب- عطية أحمد المصري: وهو مصري، جاء عامِلًا إلى حيفا.

ج- أحمد سعيد الحسان: من "نزلة زيد".

*والذين جُرحوا معه اثنان، هما: أ- نمر السعدي: من غابة شفا عمرو.

ب- أسعد المفلح: من "أم الفحم".   *والذين أسروا أربعة، هم:

1- حسن الباير: من "برقين"، وحُكم عليه بالسجن 14 عامًا.

2- أحمد عبد الرحمن جابر: من "عنبتا"، وحكم عليه 14 عاما أيضا.

3- عربي البدوي: من "قيلان"، وحكم كذلك بسجنه 14 عاما.

4- محمد يوسف: مِن "سبسطية".

*الأعجام: ج عجمي، كل من ليس عربيا، وقصدت بهم هنا الإنجليز.

(67) يا سيدي: يا رئيسي، وتاج رأسي. *أبشِر: لك البِشَارة، وهي الخَبَرُ السارُّ، وهو الشهادة في سبيل الله، وهي درجة عالية عند الله، لا يفضل صاحِبَها سِوى الأنبياء والمُرسَلين. *بما قدمتَ: من عمل صالح، ودعوة إلى الله تعالى، وجهاد في سبيله، تَوَّجْتَها بالشهادة في سبيل الله.

*من زرع: من عمل صالح زرعته في الدنيا لتحصُدَ أجرَهُ ثوابًا عظيما عن الله. *نضير: جميل، مُشرق، يانع. *نامٍ: زائد، ومستمر ثوابه، ومُضاعَف.

(68) ثمار: ج ثمَر، وهو ما ينتج من شجر الخضراوات والفواكه. *أغراس: ج غرس، وهو الشجر الصغير الذي يُغرس ليُثْمِر فواكِهَ. *أينعت: نضجت واستوت، وبدت ثمارها. بربى فلسطين: ج رابية، وهي المكان المرتفع. وربع الشام: ديار الشام. وقصدت بالربى والربع من الشام كل الأماكن فيها. وقصدت بالثمار: المجاز والكناية عن حركات المقاومة الإسلامية التي اتخذت الشيخ عز الدين واحتذته نموذجا للجهاد والمقاومة في سبيل الله، ومنهم: "حماس" حركة المقاومة الإسلامية التي أسَّسها العالم الرباني المجاهد الشهيد الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، والباقية آثارها العظيمة إلى اليوم نكاية وتأثيرا في العدو الصهيوني، و"الجهاد الإسلامي"، و"سرايا القدس"، و"سرايا الأقصى".

(69) في صحوة علوية قدسية: ظهرت حماس وفصائل المقاومة الأخرى في ظل صحوة إسلامية طاهرة عامة في العالم الإسلامي، في القرن الخامس عشر الهجري، والربع الأخير من القرن العشرين الميلادي؛ بعودة الشعوب الإسلامية إلى دينها من جديد، واعتزازها بها، شُبَّانًا وشابَّاتٍ، ورجالا ونساء؛ فأصبحت المساجد تغص بالمصلين في الجمعة والجماعات، وأصبح جل النساء المسلمات يرتدين الزي الإسلامي "الحجاب"، وأصبح الإسلاميون يفوزون في أي انتخابات حُرَّة ونزيهة في مجالس الشعب "البرلمانات"، في مصر والأردن، والجزائر، وأفغانستان، وماليزيا، وأندونيسيا، وتركية، والخليج العربي، وباكستان ... .

وعَمَّ الكتاب الإسلامي، والشريط الإسلامي، والمحاضرات والندوات الإسلامية، وكثرت المعاهد الشرعية والإسلامية، وكليات الشريعة أنحاء العالم الإسلامي، للذكور والإناث، وانتشرت الأناشيد والأغاني الإسلامية.

كما انتشرت الدعوة الإسلامية فشملت أوربا وأمريكا، وغيرهما، ودخل مئات الآلاف من شعوبها في دين الإسلام. *تفيء: ترجِع.

(70) في فتية نشؤوا ...: في شباب وشابات تَرَبَّوا على دين الإسلام، وعلى جهاد أعداء الله المحاربين للإسلام وأهله، وعلى طاعة الله تعالى.

(71) من هؤلاء الرجال والشباب الذين نشؤوا على حب الإسلام وتربوا عليه "جماعة المقاومة الإسلامية؛ حماس" في فلسطين، والتي أنشأها - سنة 1403هـ - 1983م- العالم الرباني الشيخ الشهيد أحمد ياسين ت 2004م رحمه الله؛ الذي نَشَّأ هؤلاء الفِتيَة والفتيات والرجال على منهاج -طريق- الإسلام، ومنهاج الشيخ عز الدين القسام "الجهاد في سبيل الله".

*جعلوا الصهاين عبرة الأقوام: جماعة حماس وأخواتها، جعلوا اليهود من الصهاينة عِبرَةً لكل البشر؛ في جهادهم ومُقاتلتهم، ومكافحتهم ونضالهم بكل السبل والوسائل العسكرية، والسياسية، والعلمية، والتقنية، والحرب الآلية "الإلكترونية"، بالصواريخ والبنادق، والقاذفات، والمُسيَّرات، وبالعمليات الاستشهادية في عمق الكيان الصهيوني.

وآخر أعمال حماس المُذهلة والمُدهشة لِلعالَم عملية "طوفان الأقصى" في "غزة العزة" و"الضفة الغربية" يوم 7/أكتوبر- تشرين1/2023م؛ التي مَرَّغت جيش الاحتلال اليهودي الصهيوني -"الذي لا يُقْهَر"- في الوحل، ومعه أمريكا وأوربا، وقتلت آلافًا، وأسرت مئاتٍ من الصهاينة المحتلين، وما زالت -بفضل الله ونعمته ونصره- تُثخن فيهم الجراح منذ نحو شهرين.

(72) جنى: ثمرة. *من بركاتكم: أي ظهور حركة حماس جاء من بركة جهادكم وتضحياتكم -مع إخوتكم العرب والفلسطينيين- واستشهادكم وثورتكم على الاحتلالين الإنجليزي واليهودي سنة 1935م.

(73) رحماتك اللهم أغدقها: أمْطِر برحماتك يا اللهُ. *جدث: قبر. *ربع الشيخ: "بلد الشيخ؛ بيت حنان"، وهو المكان الذي دفن فيه الشيخ عز الدين، ويقع جنوب شرق حيفا على بعد 5 أكيال. *"عز الدين شيخ المجاهدين في فلسطين" لمحمد حسن شُرَّاب 303.

(74) جنة الفردوس: أعلى درجات الجنة. *أكرمه غدا: اجعله مُكرَمًا يوم القيامة بالفردوس الأعلى مع الأبرار من النبيين والصديقين والشهداء.

(75) ورفاقه: ج رفيق، أصحابه الذين جاهدوا معه الصهاينة والإنجليز. *تلامذ: ج تلميذ، طلاب. *أحِبَّة: ج حبيب، مُحِبُّوه في الله. *بجنان: ج جنة. *عدن: إقامة. *احبُهُم: قَرِّبْهِم، وأعطِهم. *بسلام: مع الطُّمَأنينة والأمَان.

الفصل الأول

من هو الشيخ القسام؟

clip_image004.jpg

الشيخ عز الدين القسام؟

(1300- 1354هـ = 1882- 1935م) (*)

*اسمه ونسبه وأصله:

هو أبو محمد، محمد عز الدين بن عبد القادر بن مصطفى بن يوسف القسام: العالم الأزهري الرباني، المجاهد الشهيد، الصوفي الشاذلي، الداعية، المدرس، الإمام والخطيب، الملقب "إمام المجاهدين".

وهو من زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ومن أسرة كريمة في "جبلة - اللاذقية" من سورِيَة، وهي التي يسميها بعض العلماء "جبلة الأدهمية"؛ لوجود قبر والصوفي المشهور سيدنا إبراهيم بن أدهم فيها، رحمه الله تعالى.

واسمه مُركَّب "محمد عز الدين"، كما جاء في كتابه "النقد والبيان" المشترك مع الشيخ عبد القادر القصاب، والمطبوع سنة 1344هـ- 1925م، وكما في ترجمة الزركلي له في كتابه "الأعلام".

------------------------------------------------------------------

(*) تفرَّد الأستاذ أدهم آل الجندي فذكر ولادة الشيخ القسام سنة 1880م؟! كما في ترجمته الجيدة له في كتابه الفذ "تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي" ص 24.

لكن الناس اعتادوا في مثل هذا التركيب أن يشهروا الاسم الثاني، دون الاسم الأول؛ كما يقول الأستاذ محمد حسن شُرَّاب؛ فاشتُهر بـ "عز الدين".

*ولد لأسرة مُتَدَيِّنة في بلدة "جبلة" الواقعة في محافظة "اللاذقية" بِسُورية، وفيها نشأ في بيئة عربية إسلامية، وتلقى مبادئ العلم الأولية.

*والده: هو عبد القادر بن مصطفى بن يوسف القسام.

*والدته: هي حليمة القصاب. كانت من أهل جبلة.

وأصل أسرته من العراق؛ حيث جاء جده مصطفى مع شقيقه إلى جبلة من العراق، وكانا من المُقَدَّمِين في "الطريقة القادرية" المنسوبة إلى العالم والعارف الشهير الشيخ عبد القادر الجيلاني ت 561هـ.

*أسرة عبد القادر القسام:

*تزوج عبد القادر القسام -والد الشيخ عز الدين- بزوجتين أولاهما: "آمنة جَلُّول"؛ فأنجب منها: أحمد، ومصطفى، وكامِلًا، وشَريفًا.

وثانيتهما: أم عز الدين "حليمة القصاب"، وأشقاء عز الدين منها: "أمين"، و"فخري"، أو "فخر الدين"، و"فاطمة"، أو "نبيهة".

*كان عز الدين سادِسَ سبعة إخوة وأشقاء، وثاني ثلاثة أشقاء.

وأسرة القسام مثل مئات الأسر كانت تعيش على الكفاف والرضا بما قسم الله، وكانت أسرة متدينة، يحبهم الناس ويجلّونهم لما لديهم من صلاح وعلم.

*نشأته:

نشأ الشيخ عز الدين في أسرة فقيرة ومتدينة ومُتعلِّمَة، وذات مكانة دينية مرموقة؛ إذ كان الناس يحبونها ويحترمونها لمنزلتها الدينية الرفيعة في الطريقة القادرية المعروفة والمُقَدَّرة بين الناس.

وكان آلُ القسام مشهورين بالعلم والصلاح والعفاف؛ يُعطُونَ ولا يأخذون، ويكسبون قُوتَهُم مِن عَمَلهم.

*عبد القادر القسام "والد عز الدين":

كان صاحب طريقة صوفية هي "القادِرَيَّة"، وقد ورثها عن والده مصطفى الذي نقلها معه من العراق، وكان وَرِعًا مُلِمًّا بأصول الدين الإسلامي.

وقد عمل في حياته في مهن عِدَّة؛ فاشتغل حَدَّادًا، كما عمل مُستَنطِقًا وكاتبا لأوراق النفوس في جبلة زمن العثمانيين.

كما عمل عبد القادر في جبلة مُعلِّمًا في كُتَّاب للقرآن الكريم والقراءة والكتابة حِينا من الزمن.

وكان يقدمه الناس للإمامة في الصلاة إذا حضر في "جامع سوق الحدادين" وَسْطَ بلدة جَبلة.

*طفولة عز الدين ونشأته:

لقد قضى عز الدين طفولته في جبلة، وكان بيتهم يتكون من غرفة طويلة من الطين، مقسمة إلى 3 أقسام مفتوحة على بعضها: واحدة للعائلة، وأخرى للمؤونة والعلف، والثالثة لنوم البقرة!

وفي هذا البيت نشأ عز الدين؛ فقرأ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة في "الكُتَّاب" لدى والده.

كما طلب العلم في جبلة وتتلمذ فيها على يدي عالِمَينِ كبيرَين فيها، هما:

1- الشيخ سليم طيارة البيروتي الأصل.   2- الشيخ أحمد الأروادي.

وقد عُرف كلا الشيخين المَذكورَين بسعة العلم والمعرفة في علوم العربية والتفسير، والفقه والحديث.

كان الطفل عز الدين كثير التأمل والتفكر، في الصباح يُعاون والده في العمل، وبعد العصر يذهب إلى الكتّاب يحفظ القرآن ويتعلم مبادئ العلوم.

الفصل الثاني

جَبَلَة: مَوطِنُ القسَّام الأوَّل

clip_image006.jpg

*جَبَلَة: هي بفتح الجيم والباء -كما ضَبَطها ياقوت الحموي في معجمه-، وقال عنها: "قلعة مشهورة بساحل الشام، من أعمال حلب، قُربَ اللاذقية".

وهي مدينة ومركز منطقة على شاطئ البحر المتوسط، تتبع محافظة اللاذقية في سورية.

*تسميتها: يُقال: إنها منسوبة إلى "جبلة بن الأيهم" الذي أقام فيها بعدما ترك الجزيرة العربية مُهاجِرًا إلى ملك الروم.

وهناك رأي آخَر لسبب تسميتها يقول: إن اسمها "غابالا" في العهد اليوناني، ثم حُرِّف إلى "جبلة".

جبلة Jable مدينة ساحلية سورية قديمة، وتُلفظ في كتب التراث "جَبَلَة"، دعاها الحثيون "جيبالا"، والأغاريتيون "جبلة" والرومان "جبالا"، وسماها الصليبيون "زيبيل"، وقد جاء ذكرها في أغاريت.

تقع على الساحل الشرقي للبحر المتوسط على ارتفاع لا يزيد على خمسة أمتار، مساحتها 462.25كم2. تتصف بمناخ متوسطي معتدل، أمطارها شتوية، وصيفها جاف، تتميز بسهلٍ عريض تحف به الهضاب والجبال التي تطل على البحر، وتتبع إداريًّا محافظة اللاذقية.

تتميز بتنوع تضاريسها من سهول وهضاب وجبال ووديان، أعلى قمة فيها جبل الشعرة الذي يصل ارتفاعه إلى 1430م. سهولها تمتد ما بين شاطئ البحر غربًا، والمرتفعات والهضاب المجاورة لها شرقًا، تتميز هذه السهول باستواء شديد، يتدرج ببطء في الارتفاع باتجاه الشرق.

تجري فيها عدة أنهار أهمها: نهر السن: ويقع منبعه على بعد ثلاثة كيلومترات من البحر، تصريفه السنوي 451 مليون/م3، تراوح غزارته بين 12ـ22م3/ثا، يسلك طريقًا متعرجًا طوله خمسة كيلومترات، ويصب عند بلدة عرب الملك، شُيد عليه سد صغير، وأقيمت عليه محطة كهرمائية، تضخ المياه في أقنية لتروي 9000 هكتار من الأراضي الزراعية الخصبة، ويوفر مياه الشرب للمدن الساحلية.

نهر الرميلة: يصب شمال جبلة، أُقيم عليه سد بيت ريحان، ويُستخدم لأغراض الري.

نهر البرغل: يصب جنوب جبلة، يتكون من ثلاثة فروع رئيسة، هي: زيرود (سيانو)، المجرى الرئيسي (البرغل)، والسخابة.

تعد جبلة من أقدم المدن على الشاطئ الشرقي للمتوسط، حكمها حمورابي، ولم تكن في تلك الفترة مركزاً هاماً بل مرفأً صغيراً لمدينة سيانو Syannou، ومالبثت أن قامت هنا مملكة ضمت جبلة وتل سوكاس وعرب الملك، ثم خضعت للآشوريين عام 723ق.م، والفرس واليونانيين في القرنين الخامس والرابع ق.م، ثم أصبحت جزءًا من الدولة السلوقية، وبعد ذلك أصبحت رومانيّة على يد القائد الشهير بومبيوس عام 64ق.م، وأولتها روما اهتمامًا كبيرًا، وبنت فيها مدرجها الشهير الذي يعد الثاني في سورية بعد مدرج بصرى، ومنذ القرن الميلادي الأول تبعت جبلة بطريركية أنطاكية، وازدهرت نوعًا ما. دمَّرتها الزلازل عدة مرات في الأعوام 476 و859 و865 و1157م.

بقيت جبلة مدينة مسيحية حتى الفتح العربي الإسلامي، حيث أرسل أبو عبيدة عامر بن الجراح عبادة بن الصامت الأنصاري من اللاذقية؛ ففتحها، -وكانت تُسمَّى "البَلْدَة"- من دون قتال عام 17هـ/687م، وكانت تبعد عن جبلة فَرسَخينِ -"10 كم"- ثم خربت، وجلا عنها أهلُها.

وازدهرت جبلة في العصر الأموي والعباسي؛ إذ أمر معاوية -بعد خرابها- بإنشائها من جديد، وكانت حِصنًا للروم جَلَوا عنه عند فتح حمص، وشحنها بالرجال، وأمر بتجديد مدرجها وترميم ما تعرض منه للخراب، كما بنى خارجه حصنا خارجا عن الحصن الرومي القديم "قلعة منيعة".

كما أمر أبو جعفر المنصور ببناء الجامع الجديد المدفون إلى جانبه السلطان إبراهيم بن أدهم (أحد الأولياء الصوفيين، وأمير بلخ الفارسية).

ويبدو أن جبلة كانت تابعة لإمارة حلب الحمدانية، كمعظم الساحل السوري؛ لأن ياقوتًا الحموي جعل جبلة من أعمال حلب.

احتلها الروم سنة 357هـ - 968م أي بعد وفاة سيف الدولة الحمداني حاكم حلب، وظلت بأيديهم حتى سنة 473هـ.

ثم احتلها الصليبيون سنة 1098، وغيروا اسمها إلى "زيبيل"، وأضحت مركزا لأسقفية تابعة لأنطاكية، كما كانت من قبل، وبقيت تحت نير الصليبيين حتى جاء السلطان صلاح الدين الأيوبي وحررها دون قتال عام 584هـ- 1188م، لكن الصليبيين احتلوها ثانية عام 1219م، وحررها الملك قلاوون عام 1285م.

فتحها العثمانيون عام 1516م، وأصبحت مركزًا تابعًا لولاية طرابلس، دهمها الطاعون عام 1875م وفتك بسكانها، وظلت عثمانية حتى جاء الاستعمار الفرنسي، ثم اندلعت ثورة الشيخ صالح العلي على الفرنسيين، وبعد جلاء القوات الفرنسية أصبحت جبلة تابعة لمحافظة اللاذقية.

ونسب ياقوت الحموي إلى جبلة عددًا من العلماء والمحدثين، مما يدل على أنها كانت عامرة بالعِلم وأهله.

*قال الأستاذ محمد محمد حسن شُرَّاب: "ويُؤخذ من تاريخ النشأة أنها كانت ثغرًا يُرابِطُ فيه المُجاهِدون؛ لأنها كانت مَقصِدًا لِلمُغيرين القادِمينَ من البحر، باعتبارها مدخِلًا إلى ما وراءَها مِن البلاد، فإذا وجدوا في المُسلمين غفلةً، انقَضُّوا على ساحل بلاد الشام وأخذوه. ولِذلك كان ساحل اللاذقية، وطرطوس، وجَبَلَة مَحَلَّ عِناية الخُلفاء والأمَراء مُنذُ الفَتح".

يقدر عدد سكان جبلة وحدها بنحو 52238 نسمة عام 2000، ومع نواحيها: يبلغ سكانها نحو 200 ألفِ نسَمَة. وهي تضم مدينة جبلة وأربَعَ نواحٍ، هي على التوالي: ناحية القطيلبية، وناحية عين الشرقية، وناحية عين شقاق، وناحية المركز.

تمتد المدينة على شكل شريط طولي يحاذي البحر، وتنمو باتجاه الشمال والجنوب، أما امتدادها إلى الشرق فهو بطيء نوعاً ما، تقسم إلى مدينة قديمة تتميز بتلاصق مساكنها وضيق شوارعها وأزقتها. أهم الأحياء القديمة: حي العزة وحي الدريبة، أما المدينة الحديثة التي تتميز باتساع شوارعها وارتفاع أبنيتها فقد امتدت باتجاه الشمال على طريق اللاذقية، وأهم الأحياء فيها حي الجُبيبات، أهم شوارعها طريق الكورنيش.

تبلغ نسبة مساحة الأراضي القابلة للزراعة 29.8% والأراضي المروية 43.2% من مجموع المساحة الكلية لمنطقة جبلة، لذلك فهي تقوم بدور مهم في الزراعة التي تعد الحرفة الأساسية لسكانها، حيث تنمو فيها الخضار المختلفة، والأشجار المثمرة وأهمها الزيتون والحمضيات. عدا عن ذلك تعد مركزاً تجاريًّا مهمًّا لتسويق منتجاتها المتنوعة.

إضافة إلى ذلك، تعد أهم مدن الساحل صناعيًّا، ومن أهم الصناعات فيها صناعة عصر الزيتون، ففيها خمسة معامل لاستخراج زيت الزيتون، وهناك شركة الساحل للكونسروة، ومعمل لصناعة التبغ والتنباك، ومعمل غزل القطن، ومعمل النسيج الذي يعد من أحدث المعامل في بلاد الشام، وقد شُيد بالتعاون مع جمهورية الصين، كما تُوجَد شركة النورس لصناعة العصير الطبيعي والمشروبات، وشركة أوغاريت في ناحية القطيلبية.

تعد جبلة مدينة سياحية مهمة على ساحل البحر المتوسط، لما تتميز به من طبيعة جميلة وآثار قديمة، فتتميز بمدرجها الروماني، الذي يضم المسرح الروماني الذي شيده الإمبراطور جستنيان، وهو أجمل أثر روماني على شاطئ فينيقية، كما وصفه المؤرخ والكاتب الفرنسي رينان Renann، يتسع لنحو 1800 شخص، قطره 90م، ويتميز بقناطر جميلة و27 مدخلًا. عدا ذلك، تحتوي جبلة على العديد من الأضرحة الفينيقية الموجودة شمال مرفأ جبلة، ومدفن السلطان إبراهيم، والجامع الكبير الذي بُني في عهد أبي جعفر المنصور، والمرفأ الفينيقي، وبعض التلول الأثرية المهمة، كتَلِّ سوكاس الذي يتوسط المسافة بين جبلة وعرب الملك، تحيط به دعائم جدران قوية، تؤلف جُزءًا من تحصينات قوية كانت تحيط بالتل وتحمي ساكنيه، وتظهر في الطوابق الدنيا من التل آثار تعود إلى الألف السادس والخامس ق.م. تل الصليب ارتفاعه 17.4م فوق مستوى سطح البحر، يقع شرق عرب الملك، ثم عرب الملك وتدعى بالاطوس أو بلد الملك، تقع على بعد 11كم من جبلة، تعود إلى القرنين الأخيرين من حضارة أوغاريت، وغيرها.

1- صفية عيد "الموسوعة العربية" 7/475، بتصرف يسير.

2- "معجم البلدان" لياقوت الحموي 2/105.

3- "عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين". لمحمد حسن شراب ص: 27- 30. 4- "المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري" 2/630- 631.

*للاستزادة: ـ ماجد خير بك، مختصر تاريخ جبلة (جبلة 1980).

ـ عماد الدين الموصلي، ربوع محافظة اللاذقية (بين الحاضر والمستقبل) (منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1999).

clip_image008.jpg

جامع السلطان إبراهيم بن أدهم في جبلة

الفصل الثالث

دراسته الازهرية

بالصور .. الأزهر جامع وجامعة زمان والأن | مصراوى

*لما بلغ أشُدَّه أرسله والده إلى "الجامع الأزهر" بمصر سنة 1896م، فغادر جبلة بقارِب صيد إلى "جزيرة أرواد"، ومنها أبحر في سفينة إلى الإسكندرية، أو إحدى المدن الفلسطينية، ومنها رحل برًّا إلى القاهرة فالأزهر؛ لطلب العلم فيه، فدرس العلوم الإسلامية؛ من قرآن وعلومه، وتفسير وفقه، وأصوله، وحديث، وعقيدة إسلامية "توحيد"، كما درس العلوم العربية فيه؛ من نحو وصرف وبلاغة، وعروض، وغيرها.

درس تلك العلوم على علماء عصره، وأبرزهم الشيخ محمد أحمد الطوخي.

وقضى الشيخ القسام في الأزهر زُهاء عشر سنوات نال بعدها شهادة "الإجازة العالمية" من الأزهر، والتي تدل على تضلعه في العلوم والمعارف الإسلامية والعربية لعصره.

الفصل الرابع

حياته العملية في سورية، وجهاده المُحتلين الطليان

*عاد الشيخ القسام إلى وطنه "جبلة" فاشتغل فيها بالتعليم والوعظ والإرشاد، وصار شيخ "الزاوية الشاذلية" في جبلة.

*سافر إلى إسطنبول نحو عام 1907م، ومكث فيها مدة قصيرة، رأى فيها الكثير من الأمِّيَّة والجهل بالدين الإسلامي ورسالته، وفروضه وسننه، ولغته العربية، مما جعل البلاد جُلَّها يُخيِّم عليها التَّخَلُّفُ والجهل والفَساد والظلم، ومن أسباب السكوت على الظلم الأمية المنتشرة بين الناس، والظلم إذا ساد خَرَّب البلاد والعِباد.

*لذا قرَّر تعليم الأطفال في الصباح، والكِبارِ في المساء، وصار يزور بيوت جبلة ويقنع أهلها بوجوب تعليم أبنائهم؛ فهو أولى من العمل في الحقل، وأولى من تعليمهم صَيدَ السَّمَك؛ بل يمكنهم أن يتعلموا ويعملوا.

*عمل مدرسا في مدينتي "بانياس"، و"اللاذقية".

*كما عمل مُوظَّفًا في "شعبة التجنيد" في جبلة.

مشاركته في جهاد ومقاومة الاستعمار الإيطالي لليبيا

في 30/9/1911م حاصر أسطول إيطاليا مدينة "طرابلس الغرب" الليبية؛ فدعا السلطان العثماني إلى مناصرة الشعب الليبي المسلم على الغزو الإيطالي، ولما سمع بذلك أهل بلاد الشام، ثارت موجة عارمة من الغضب على الطليان، وكان للشيخ القسام دور بارز فيها؛ إذ نهض الشاب عز الدين بكل ما أوتي من غيرة وحماسة ليؤثر في جمهور الساحل السوري؛ فخرج إلى الشوارع يقود الجماهير في جبلة واللاذقية ومدن وقرى الساحل، وكان يهتف في تلك الجماهير والحُشود مُنادِيًا:

يا عرب ، و يا إسلام!                   قوموا كلكم على الطغيانْ

اضربوا أسطول الطليان                   في المواني ، و الخِلْجان

ها لأرض     العربية                   بدها وحدة ،   و حُرِّيَّة

مِن طُورُوس لِلأطلَسِي                   كُلْها   ثَورَةْ ،   و غَلَيَانْ

يا رحيم ، و يا رحمن!                 غَرِّقْ   أسطولَ الطِّلْيَان

كما كان يهتف ومعه المتظاهرون حينها:

يا رحيم ، و يا رحمن!                   اُنصُر مَولانَا السُّلطان

واكسِر أعداءنا الطليان

وبعد تمَكُّن الجيش الإيطالي من احتلال ليبية، انتقل القسام من قيادة التظاهرات الشعبية إلى قيادة حملات تجنيد الشباب باسم الجهاد دفاعا عن شرف المسلمين، ومنع نزول المذلة بهم.

وتمكن الشيخ عز الدين من تجنيد مئات الشباب من الساحل السوري، وقادهم بنفسه، ودرَّبَهُم فِكريًّا وعَسكَرِيًّا، وقام بحملة لجمع الأموال للنفقة على المتطوعين وأسَرهم، ومساعدة المجاهدين في ليبية.

واتصل بالحكومة التركية، فوافق البابُ العالي في إستانبول على نقل المتطوعين إلى الإسكندرونة، ثم نقلهم بعدها بالباخرة إلى ليبية.

وانتظر المجاهدون المتطوعون في الإسكندرونة 40 يوما، دون أن يأتيهم خبر؛ فقيل: إن المجاهدين رجعوا إلى مدنهم وقراهم، وبنوا مدرسة بأموال

التبرعات لتعليم الأميين القراءة والكتابة.

وهناك رواية أخرى لعلها الأرجح، وهي: أن الشيخ عز الدين صمم على لقاء الأشقاء المجاهدين في ليبية، ونقل المعونات المادية إليهم؛ فانتقل سِرًّا إلى ليبية، والتقى المجاهد الكبير الليبي عمر المختار.

*في عام 1912م فتح مدرسة في "جبلة" درَّس فيها الأطفالَ واليافِعينَ نَهارًا، والرجالَ الكِبار مَسَاءً.

*كما درَّسَ تفسير القرآن والحديث في "جامع إبراهيم بن أدهم" في جبلة.

*عُيِّن موظفا في "شُعبة التجنيد" بجبلة، وكان يعقد حلقات للدروس في مساجدها بعد فراغه من عمله في الشعبة.

*أصبح اسم الشيخ عز الدين معروفا يتردد على جل الألسنة في: جبلة، وبانياس، وطرطوس، واللاذقية، والحَفَّة، وقرىجبل التركمان، وجبل صِهيَون ...، وعرفه رجال ونساء وأطفال تلك المدن وقُراها؛ لأنه كان كثير الترَدُّد عليهم، يزورهم في بيوتهم، ومضافاتهم، ومجالسهم، ويخطبهم في بعض مساجدهم.

*عمل خطيبا في "جامع المنصوري" وسط بلدة جبلة؛ فكان المصلون يتوافدون إلى ذلك المسجد من أحيائها القريبة والبعيدة، ومن قراها المجاورة، كانوا يتوافدون إليه لسماع هذه النمط الجديد من خُطب الجمعة، التي تهز المشاعر، وتُعالج المشكلات اليومية، وتناول هُموم المسلمين، وتقدم لهم الإسلام حّيًّا وغَضًّا طريا، صافيا رائقا بعيدا عن الخرافات والبِدع، وبأسلوب سهل سلس يفهمونه، وبموضوعات تُلامس واقِعَهُم، وتضع الحُلول المناسبة لِمشاكلهم، والأدوية الناجِعةَ لأدوائهم.

*لدى نُشوب الحرب العالمية الأولى سنة 1914م تطوع الشيخ للخدمة في الجيش العثماني، استجابة لإعلان الجهاد من قبل السلطان العثماني حيئنذ، وأُرسِل إلى مُعسكر جنوبَ دِمشق.

وفي سنة 1916م اعتزل القسام الحربَ ورجع لبلده، عندما أعلن الشريف حسين الثورة على الأتراك العثمانيين، ورأى الشيخ عز الدين العربَ يُهاجمون المواقع التركية؛ لأنه يرفض أن يرفع السلاح في وجه أخيه العربي المسلم، مع اعتقاده أن العرب قد ابتعدوا عن جادَّة الحق عندما أعلنوا الحرب على الأتراك المسلمين.

*الشيخ القسام لم يُشارك في الثورة العربية المُسلَّحة على الأتراك:

من المعروف أنه في 10/6/ 1916م قام من يُدعى بـ "الشريف حسين بن علي" بالاتفاق مع الإنجليز بما عُرف بـ "الثورة العربية الكبرى على الدولة العثمانية" وهو بمكة، وجنَّد لذلك أبناءه، وقام معه بعض قبائل العرب في بلاد الشام، ووافقه -مع الأسف- بعض العلماء المسلمين منهم.

إلا أن الشيخ عز الدين القسام، لم يشارك في هذه الثورة؛ لأنه كان مع أكثر علماء المسلمين ومنهم الشيخ سليم اليعقوبي ت 1946م، والشيخ أسعد الشقيري، والشيخ عبد القادر المظفر في فلسطين، -ومعهم الأمير شكيب أرسلان- الذين كانوا مع الجامعة الإسلامية، ويرون حرمة الخروج على الدولة العثمانية المسلمة، والوقوف مع الإنجليز الكفار الذين لا يوثق بعهودهم ووعودهم، وكانوا واعين بنية بريطانية من الغدر والخيانة، ولعدم جواز مقاتلة الأخ العربي المسلم لأخيه التركي المسلم، ولا سيما أن الإنجليز هم محتلون لقطرين مسلمين هما: "مصر، وعَدَن"؛ فلو كانوا صادقين لحرروا هذين القطرين، قبل أن يُعطوا البلاد العربية للشريف حسين ليحكمها بعد تخلصها من الحكم العثماني.

وقد عرف الأمير شكيب أرسلان منذ عام 1912م حقيقة أن الإنجليز وفرنسة سُيقَسِّمون سورية وفلسطين؟!

هذا، وقد حَذَّر كُلٌّ مِن الفريق عزيز المصري، وخالد الحكيم الشريفَ حُسينًا مِن ألاعيب الإنجليز وخِداعهم، لكنه لم يستمع لهما، بل أعرض عنهما، ونفاهما من الحجاز؛ لأنه كان مَدفُوعًا بالرغبة في المُلك، ومُتَلَهِّفًا على الحكم، فخدع بالإنجليز، وظن أن خطابات ووُعود مكماهون هي مواثيق دولية لن يستطيع إخلافها والنكث بها؟؟!!

فلكل ما سبق، ولِعِلم الشيخ عز الدين بحُرمة الأمر، لم يُشارك في الثورة العربية المُسَلَّحة على الأتراك العثمانيين.

*في عام 1919م ولي القسام إدارة القضاء الشرعي في جبلة.

الفصل الخامس

ثورة الشيخ القسام على الفِرَنسيين ومُجاهدته لهم

*لما احتل الفرنسيون الساحل السوري في ختام الحرب العالمية الأولى؛ أي في 10/10/ 1918م ثار عليهم الشيخ عز الدين في جماعة من تلاميذه ومُريديه، ومعهم المجاهد عمر البيطار وعصابته في "جبل صِهيَون"، بل كان في طليعة المجاهدين -كما يقول مؤرخ الثورات السورية الأستاذ أدهم الجندي- وكان أول من رفع راية مقاومة فرنسة في تلك المنطقة، وأول من حمل السلاح في وجهها.

لكن -مع الأسف- فإن من كتبوا التاريخ السوري الحديث؛ من العلمانيين والقوميين العرب قد غمطوا حق الشيخ عز الدين القسام وعمر البيطار وأهل السنة في الساحل السوري، كما غمطوا حق إخوانه العلماء كالشيخ بدر الدين الحسني، والشيخ علي الدَّقر، وغيرهما، وهم الذين قاموا بدور بارز وكبير في الثورة السورية على الاحتلال الفرنسي البغيض، بل هم الذين أشعلوا الثورة السورية الكبرى سنة 1925م، وسبقوا سلطان الأطرش في ثورته، كما يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى.

ولم يذكر أولئك المؤرخون مع الأسف- في جملة الثوار السوريين على الاستعمار الفرنسي في سوريا عامة، وفي الساحل السوري خاصة، لم يذكروا سوى من درسناهم في كتب المدارس السورية ومناهجها، وهم: الشيخ صالح العلي، وإبراهيم هنانو، وسلطان الأطرش؟!

إذًا ثار الشيخ القسام مع مريديه وتلاميذه، وعمر البيطار، على المحتلين الفرنسيين الجدد لسورية، ونتج عن ذلك اندلاع نيران الثورة في جبل صهيون من محافظة اللاذقية عند قرية "الحَفَّة"؛ فكيف كان ذلك؟

*مراحل الإعداد لجهاد الفرنسيين: أ- التعبئة المعنوية: فقد أعاد القسام للمسجد رسالته القديمة العامة والفعالة، والتي وضعت المساجد لأجلها، وهي كونه بيتا لعبادة الله تعالى، وهو مدرسة لتعليم أمور الدين، وهو مركز الدعوة إلى الجهاد.

فكانت خُطَبُ القسام ودروسه جامعة لتأديب الجماهير المسلمة بآداب الإسلام، ولتلقي الثقافة الوطنية والاجتماعية والسياسية، وللتحريض والتعبئة

وحض المؤمنين على القتال، وكان بحق "داعِيَةَ الجِهاد".

وكان القسام يرى أن القوة المعنوية النابعة من الإيمان بالله تعالى والعمل بكتابه الكريم هي سلاح المعركة الأقوى.

ولما قدمت "لجنة كراين الأمريكية" سنة 1919م إلى اللاذقية تستفتي الناس في مصير بلادهم السياسي، ولاختيار دولة تكون وصية على سورية؛ فسُئل الشيخ القسام عن رأيه فيها فقال: "لا وِصاية، ولا حِمَاية"؟! فقال رئيس اللجنة: نعتقد أنكم لا تستطيعون إدارة أنفسكم وحِماية بلادكم، وأنتم على هذه الحال من الضعف وانعِدام التجربة، فأجابه القسام: "إننا نستطيع أن نُدير أنفسنا، وليس غيرنا أقدَرَ مِنَّا على ذلك؛ إذ لدينا قُوَّةٌ لا يَملِكُها الآخرون"؟!! وأخرج المُصحَفَ مِن جيبه، وقال: "هذهِ قُوَّتُنا"؟؟!!

وعاد القسام وصحبه إلى جبلة، وصُدورهم ملأى بِالحِقد على الحُلَفاء.

وباع الشيخ عز الدين بيته في جَبَلَة ليشتري بثمنه سلاحًا، وانتقل إلى الحَفَّة مع زوجه وأولاده.

ب- بيع بيت القسام وشراء السلاح: فعل ذلك ليكون قُدوةً للناس في الجهاد بالمال والنفس؛ فإمامُ الناس هو أمَامَهم في كل ما يدعوهم إليه.

ج- تدريب المتطوعين على السلاح وفنون القتال: وقد لبَّى نداء الشيخ القسام جمع غفير من أهل جبلة؛ فأخذ يدربهم على حمل السلاح واستعماله وفنون القتال عند شاطئ "البحيص" جنوبي جبلة، وهو الخبير في ذلك من محاربته الإنجليز مع الجيش العثماني من قبل، ومن إعداده المجاهدين المتطوعين لحرب الطليان دفاعا عن ليبيا.

د- انتقاله إلى جبال صِهيَون: بعدما اكتشفته عيون الفرنسيين وجواسيسهم المبثوثة، وتضييقهم عليه وتربصهم به، ولا سيما أن مقاتلتهم في سهول جبلة المكشوفة تجعلهم يقمعون ثورته؛ فاختار جبال صهيون، فهي أحصن وأبقى للكفاح، فانتقل إليها برجاله، وعمل قاعدة عسكرية في قمة منيعة قرب قرية "الزنقوفة"، وطفقوا يُغيرون على المراكز العسكرية الفرنسية في الجبال، وفي مشارف المدن الساحلية.

ومن أشهر المواقع التي خاضها القسام وجماعته "معركة بانيا"؛ وهي التي تمكن فيها القسام مع ثُلَّة من المُجاهدين من القيام بغارة ليلا على الثكنة

الفرنسية، وقتل حاميتها في شهر آذار- مارس/1920م.

وكان لغارات القسام وعصابته الجهادية نكاية وأثر شديد الوقع على الفرنسيين؛ فحاولوا إغراءه واستمالته لوقف ثورته، فأرسلوا إليه رسولا برسالة شفوية خلاصتها: دعوة القسام إلى مسالمة الفرنسيين، والكَفِّ عن مُقاومتهم، والعودة لجبلة آمِنًا، ويعدونه بجعله قاضيا شرعِيًّا في المنطقة، فرفض عرضهم ودعوتهم، وقال لرسول الفرنسيين بعزة المجاهد المؤمن: "عُد مِن حيثُ أتَيتَ، وقُل لهؤلاء الغاصبين:

"إني لن أقعُدَ عن القتال أو ألقى الله شهيدًا"؟! ولما عجز الفرنسيون عن استمالة الشيخ وثنيه عن الجهاد، ثم طاردوه، وحكم عليه "الديوان العُرفي" في "دولة العلويين" بالموت غِيَابِيًّا "الإعدام"، وأصدروا منشورا يضم اسم عز الدين القسام وعددا من المجاهدين الذين كانوا معه.

كما وضعوا مُكَافأة قدرها 10000 ليرة فرنسية لِمَن يَدُل على مكان القسَّام، أو يُمسِك به، ويُقَدِّمُه لِسُلطات الاحتلال الفرنسي.

فغادر الشيخ عز الدين ومعه رفاقه في جبال صهيون وهم:

1- الشيخ أحمد إدريس. 2- محمد عارف محمد "حنوف" الحنفي.

3- الحاج علي عبيد. 4- خالد الصالح. 5- ظافر القسام. 6- عبد المالك القسام، والأخيران هما ابنا أخيه مصطفى.

واتجهت الجماعة نحو "جسر الشغور"، ثم انتقلوا إلى بيروت.

وذهب الشيخ القسام وحده من بيروت فقصد دمشقَ زمن الحكم الفيصلي، وطلب المساعدة من الملك فيصل بن الحسين لدعم ثورته ونضاله للفرنسيين فوعده، ولم يُنجز ما وعَد به، ولم يُثمِر.

وأقام الشيخ القسام في دمشق أياما معدودات في بيت رفيقه السابق الأزهري الأستاذ عز الدين التنوخي.

*وفي 24/7/1920م، حصلت "معركة ميسلون" بين المجاهدين السوريين بقيادة البطل يوسف العظمة، وبين قوات الاحتلال الفرنسي، ونال القسام شرف المشاركة في هذه المعركة الشهيرة، وبعد ذلك هاجر إلى حيفا.

الفصل السادس

حيفا: مَوطِنُ القَسَّام الثاني

clip_image012.jpg

Haifa - Haïfa

الموقع والظهير الجغرافي: هي مدينة ساحلية، تقع على خليج عكا في الطرف الشمالي من السهل الساحلي في فلسطين، عند تقاطع درجة عرض 49/35. وخط طول 59/34. وهي ميناء على البحر المتوسط، ذات موقع جغرافي هام؛ حيث تمثل نقطة التقاء البحر بكل من السهل والجبل، كما أنها أكبر الموانئ الفلسطينية، ومن أكبر موانئ المشرق العربي.

وقد جعلها السهل منطقة زراعية مُنتجة لكل محاصيل البحر المتوسط، كما أكسبها "جبل الكرمل" مَنظَرًا بديعًا، ومُنَاخًا مُعتَدِلًا.

وللمدينة ظهير مباشر غني، يتكون من مناطق شمالي فلسطين ولاسيما سهل مرج ابن عامر، وظهير غير مباشر يشمل الأردن وسورية والعراق، وخاصة بعد افتتاح خط أنابيب النفط العراقي الذي يصل كركوك بحيفا في عام 1933م، غير أن هذا الوضع تغير بعد عام 1948م، حينما انعدم فيه الظهير غير المباشر للمدينة.

مناخها: مناخ المدينة من النموذج المتوسطي، فهو حار جاف صيفًا ومعتدل رطب شتاءً. ويراوح متوسط الحرارة السنوية بين 20-21 درجة، ويكون متوسط فصل الشتاء 12درجة، ومتوسط فصل الصيف 28 درجة. ويبلغ معدل الأمطار السنوية 635مم، تهطل في 31 يوماً وسطياً. ويعبر مدينة حيفا نهر المقطع، بتصريف سنوي يبلغ 10 ملايين م3، غير أنه يجف في أثناء الصيف في معظم الأحيان.

النشأة والتطور العُمراني: من المُرجح أن نشأة المدينة كانت في موقع تل السمك الذي يرتفع قليلاً عن سطح البحر، والواقع في حيفا القديمة.

أما أقدم ذكر للمدينة في المصادر العربية فقد أورده الرحالة ناصر خسرو 452هـ/1060م، ثم وردت بعد ذلك عند الشريف الإدريسي وياقوت الحموي باسمها الحالي.

سُكنت منطقة حيفا منذ عصور ما قبل التاريخ، وقد اكتشفت بقايا هياكل بشرية في كهوف جبل الكرمل، غير أن أول من سكنها في العصور التاريخية كان العرب الكنعانيون؛ الذين عمروا المنطقة، وبَنَوا حيفا على بعد 2 كم جنوبي حيفا الحالية.

وفي عام 1191 ق.م في عهد رمسيس نشبت معركة عند شواطئ حيفا بين الفلسطينيين pilisti والمصريين الفراعنة، أدت إلى سيطرة الفلسطينيين على كامل المنطقة الساحلية من غزة إلى الجليل.

وقد تعرضت المدينة عدة مرات للإعمار والخراب تحت سيطرة الشعوب القديمة؛ من آشوريين، وكلدانيين، وفرس، ويونان، وسلاجقة.

ويذكر الإنجيل أن السيد المسيح وطئ أرض حيفا عند مروره بها مع والدته مريم -عليها السلام- في طريقه من مصر إلى الناصرة، واتبع الطريق الساحلية هَرَبًا من أذى الحاكم الروماني يومئذ.

ومرَّ بحيفا أيضا بولس الرسول قادمًا من عكا في عام 58م.

وكانت حيفا زمن الرومان تقوم على موقع تل السمك غربي حيفا الحالية وجنوبي رأس الكرمل. وقد عثر في الموقع على رصيف بحري، وعدة قبور، وحمام من ذلك الزمن.

لم يكن لحيفا أهمية تذكر زمن الفتح العربي، بل كانت عكا تفوقها بالأهمية، كذلك كان الحال زمن الحروب الصليبية.

وأقدم ذكر لحيفا في المصادر الإسلامية جاء في القرن الخامس الهجري (452هـ - 1060م)؛ حين وصفها ناصر خسرو في "سفر نامة"، ثم ذكرها الإدريسي ت 560ه، وياقوت الحموي ت 626هـ.

استولى عليها الصليبيون سنة 1100م، واسترجعها منهم صلاح الدين سنة 582هـ - 1187م، ثم عادت إلى الصليبيين سنة 1191م.

وتناوبت السيطرة على المدينة من قبل المسلمين والفِرنجة مرات عدة حتى تَمَّ استرجاعها وتحريرها نهائيًّا من قبل المماليك في عام1291م على يد الملك الأشرف خليل بن قلاوون.

وكانت حيفا خلال العهد المملوكي جُزءًا مِن عمل "اللجُّون" الذي كان يتبع "صَفَد"، والقاعدة الخامسة من قواعد المملكة الشامية.

وكانت أوائل القرن التاسع الهجري خرابًا كما أخبر القلقشندي ت 821هـ.

وظلت تحت حكم المماليك حتى الفتح العثماني لبلاد الشام؛ فانتقلت إليهم في عهد سليم الأول سنة 922هـ، وأشير إليها بأنها قرية في ناحية عتليت الغربي التابع لسنجق اللجون، أحد ألوية ولاية دمشق الشام.

بقيت حيفا مهملة أيام الحكم العثماني، فلم تكن في أواخره سوى قرية متوسطة الحجم. وفي منتصف القرن 18م خرب ظاهر العمر حيفا القديمة، وبنى عند نهاية الخليج بلدة سماها "العمارة الجديدة"، ثم اشتُهرت باسم "حيفا الجديدة"، وأقام فيها بُرجًا، وبنى حَولها سُورًا، وشيَّد أبناء ظاهر العمر الجامع و"السراي" أي قصر الحكومة.

وظلت حيفا قرية ضعيفة الشأن حتى القرن 19م.

غير أنها بدأت تنمو بسرعة بعد ذلك، وبدأ كثير من الأجانب يقصدونها للاستيطان والعمل فيها، أو للنشاط التنصيري.

وقد سُمح لنحو 100 أسرة ألمانية من "فُرسان الهيكل؛ الداوِيَّة" الصليبية – سُمح لهم بالسكن في حيفا، وأقاموا في حي خاص بهم شمال غربي المدينة، وكانوا أواخر القرن 19 م نحو (800) نسمة.

ابتدأ تاريخ حيفا الحديث من سنة 1905م يوم تحرك قطار الحجاز وافتتح رسميًّا خط حديد دمشق - حيفا - الحجاز، وأجريت تحسينات كبيرة على الميناء، وصارت المدينة تتصل بدمشق وحوران والأردن، وتمثل ميناء تصدير لهذه الأقاليم ونقطة عبور لوارداتها من أوربا وأمريكا، وفي عام 1918م احتلها البريطانيون وأوصلوا إليها خط السكة الحديدية من مصر، كما ربطوها بكل من بيروت وطرابلس.

وجرى توسيع الميناء وتحديثه في عام 1919م؛ ليصبح من أكبر الموانئ وأحدثها على البحر المتوسط، غير أن الافتتاح الرسمي للميناء المذكور كان يوم31/10/ 1933م، وفي العام نفسه فتح مدير شركة بترول العراق أنبوب الزيت، وصَبَّه في مُستودعاتها أوَّل مرة، وبدأت معامل تكرير النفط عملها لتزويد الشرقين الأدنى والأوسط بالبترول.

clip_image014.jpg

صورة جوية لميناء حيفا

مظهر وبنية المدينة:

إن قرب جبل الكرمل من البحر، مُشكلًا رأس الكرمل، فرض على المدينة أن تقوم على أرض سهلية وسفوح جبلية. وهكذا نجد أن ارتفاع سطح الأرض في المدينة يراوح بين 50-546م. وأدى الصدع الذي يحاذي الجبل من الشمال والشرق إلى هبوط الأرض على طوله وتشكيل خليج عكا. وقد نتج من ذلك وجود أحياء في السهل الساحلي وأخرى تتسلق سفوح الجبل، وجرى تخطيط المنطقة الممتدة من جنوب شرقي الخليج حتى مدينة عكا، إذ تشتمل على مناطق فرعية ذات وظائف متخصصة، ففي الجنوب أقيمت منطقة صناعية قريبة من الميناء وأقيمت في الوسط منطقة سكنية، وانتشرت في الشمال الأراضي الزراعية. وأما في جبل الكرمل فقد شيدت الأبنية السكنية الحديثة. وما تزال البلدة القديمة بمسجدها وأسواقها ومحلاتها التجارية تحتفظ بطابعها الشرقي. وتواصل المدينة توسعها على طول الساحل وفوق منحدرات جبل الكرمل، كذلك ظهرت ضواحي عدة من أحجام مختلفة. وبعد أن كانت مساحة المدينة لا تزيد على 54 كم2 قبيل عام 1948، وصلت إلى 181كم2 في عام 1980.

وظائف المدينة

من أهم الوظائف التي مارستها حيفا منذ أوائل القرن العشرين:

- الوظيفة التجارية:

وقد ارتبطت هذه الوظيفة بأهمية الموقع الجغرافي للمدينة، والذي تعزز بشبكة طرق المواصلات الكثيفة التي ربطتها مع المدن والأقطار المجاورة، وخاصة خط سكة حديد الحجاز، دمشق – حيفا، وبالتحسينات الكبيرة التي طرأت على الميناء، بحيث أصبح المنفذ الرئيس لواردات وصادرات المنطقة. ويحتل ميناء حيفا المرتبة الأولى بين موانئ فلسطين من حيث عدد السفن القادمة والمغادرة، ومقادير السلع المستوردة والمصدرة وعدد المسافرين. وكان تطور الميناء كبيرًا بعد عام 1948من حيث مضاعفة الأرصفة وزيادة المخازن وبناء أحواض السفن وإصلاحها.

الوظيفة الصناعية:

بدأت حيفا تعيش نهضة صناعية منذ ثلاثينات القرن الماضي، حين افتتحت مدرسة صناعية في عام 1936، وتخرجت فيها كفاءات صناعية خبيرة، أسهمت في إيجاد مشروعات صناعية عدة، وكان أول مشروع هو إنشاء مصفاة تكرير النفط الذي ارتبط بأنبوب نقل النفط من كركوك إلى حيفا. وتم بعد عام 1948م بناء مصنعين لتجميع السيارات وإنتاج المواد الكيمياوية والأسمدة، ومصنع للطائرات، والكثير من المشروعات المتعلقة بقطاع النقل والمواصلات البرية والبحرية.

سكان المدينة:

انتقلت حيفا منذ أوائل القرن العشرين من قرية متواضعة لصيادي الأسماك إلى مرفأ بحري للسفن، ولم يزد سكانها وقتئذ على 4000 نسمة. غير أنها أخذت تنمو بسرعة كبيرة بعد ذلك لعوامل عدة أهمها الافتتاح الرسمي لخط حديد دمشق – حيفا في عام 1905م، والتحسينات التي طرأت على الميناء في عام 1929 وافتتاحه رسميًّا في عام 1933، ووصول نفط كركوك في العام نفسه ووفود المهاجرين إليها. وهكذا ارتفع عدد السكان إلى قرابة 10500 نسمة في 1916م، و24500 نسمة في عام 1922.

ثم قفز العَدَدُ بعد ذلك إلى 50 ألف نسمة تقريبًا في عام 1931 ونحو 100 ألف نسمة في عام 1938 وإلى 138 ألف نسمة تقريباً في عام 1945. وبعد الاحتلال الصهيوني والتهجير القسري للسكان العرب انخفض العدد إلى 97 ألف نسمة تقريبًا في عام 1948، وأصبحت نسبة سكان المدينة من العرب 4% فقط. وفي عام 1950 وبعد تدفق المهاجرين الصهاينة إلى فلسطين ارتفع عدد سكان المدينة إلى 140 ألف نسمة، ووصل إلى 210 ألف نسمة في عام 1967 وإلى 262 ألف نسمة عام 2000.

*ينظر: 1- بسام حميدة "الموسوعة العربية" 8/708.

2- محمد محمد حسن شراب في "عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين" ص: 123- 126، بتصرف.

الفصل السابع

لماذا هاجر الشيخ القسام لفلسطين؟

ولماذا اختار حيفا؟ وكيف هاجر إليها، وأهم أعماله فيها؟

قد يتساءل البعض لماذا هاجر الشيخ القسام إلى "سورية الجنوبية؛ فلسطين"، ولماذا اختار حيفا تحديدا؟!

والجواب عن ذلك سهل وبسيط، ويرجع في الحقيقة إلى سببين؛ أولهما: استحالة حياته وعيشه في سورية بعد حكم سلطة الانتداب الفرنسي عليه بالإعدام غيابيا، بعد جهادهم ومقاتلته لهم في جبال صهيون كما أسلفنا. السبب الثاني: وعيه المُبكر بالخطر الصهيوني ووجوب كفاحه.

فقد كانت رؤية القسام للخطر الصهيوني على فلسطين تنبع من ثقافة عميقة تدرك أبعاد المشروع الصهيوني مبكرًا بفضل قراءاته عن ذلك، ومنها ما كان ينشره الشيخ رشيد رضا في مجلته "المنار" الشهيرة.

لكنه قرر أيضا وقبل محاربته لليهود الصهاينة، أن يُحارب سلطة الاحتلال البريطانية "الإنجليز" أولًا؛ لكونهم رأس الأفعى، وهم الممهدون لليهود والصهاينة، للهجرة إلى فلسطين والاستقرار فيها تنفيذا لوعد بلفور، كما سنوضح رأيه وعمله مع جماعته في سبيل ذلك، فيما بعد.

كما أدرك الشيخ القسام مُبكرا أيضا عبثية الوسائل السلمية في مقاومة الإنجليز بعد تجربته مع الفرنسيين، فكان القسام حازمًا وواضحا أن الجهاد في سبيل الله ومقاتلتهم هو وحده الحل لوقف أطماع اليهود.

*أما الجواب عن سبب اختيار القسام حيفا وطنا له فهو: إنما اختارها وفضلها على غيرها من بلاد فلسطين؛ لأنها كانت ميناء جزيرة العرب، وبلاد الشام والعراق، فهذه العوامل رفعت شأن حيفا، ووسَّعت نِطاق تجارتها وصناعتها، وساعدت على النمو، وجذبت إليها العُمَّالَ العَرَبَ من سائر بلاد الشام ومصر، ولذلك كان "جنيه حيفا" يُداعب خيال كل طَمُوح، وبخاصة التاجِرُ السُّوري الذي نجح نجاحًا باهرا في مُزاحمة اليهود تِجارِيًّا.

كما أن مدينة حيفا كانت مركزَ العمل والعُمَّال في فلسطين، وفيها نهضت حرَكتُهم؛ فأنشؤوا جمعية مُنَظَّمة، وصناديق توفير، وجمعيات تعاونية، ضَمَّت أصحابَ مِهَنٍ في البلاد.

ومِمَّا يلفِتُ النظرَ أنَّ أكثر هؤلاء العمال كانوا -يومئذ- من المُتمسكين بالدين، المُحافظين على حضور درس الوعظ والإرشاد في مساجدها.

وحيفا كانت ملجأ عدد كبير من الفلاحين النازحين من مزارع مرج ابن عامر، بعد الاستيلاء على مزارعهم، وهم الذين كانوا يعملون في شركات لفائف التدخين "السجائر"، وفي سكة الحديد، وفي الميناء، أيضا.

كما أن في حيفا أيضا يوجد عشرات الآلاف من الفقراء المُقيمين في بيوت الصفيح، بعدما سُلبت قراهم، وكان هؤلاء أصدقاء القسام، ومَوضِعَ ثِقَتِه، وكان لهم دور رئيس في مراحل الجهاد التالية.

وكانت حيفا قاعدة من قواعد التهويد، وقاعدة لسلطة الانتداب البريطاني، الذي جعل حيفا قاعدة لأسطوله، ونصب فيها المدافع، وشيَّد القِلاع على جِبالها وضواحيها، وجعل فيها مخازن القنابل والقذائف والأسلحة...؛ فكانت قوة الانتداب مُختَزَنة في حيفا، ومعروضة على جبالها في بحرها؛ كما يقول الأستاذ محمد حسن شُرَّاب رحمه الله. "عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين" 126- 127.

قصة هجرة القسام إلى حيفا

*في شهر آب- أغسطس/ 1920م غادر الشيخ عز الدين -ومعه رفاقه الذين جاهدوا معه في جبال صهيون- إلى فلسطين، بعدما حكم عليهم الاحتلال الفرنسي بالإعدام غيابيا، وهم:

1- الشيخ أحمد إدريس. 2- محمد عارف محمد "حنوف" الحنفي.

3- الحاج علي عبيد. 4- خالد الصالح. 5- ظافر القسام. 6- عبد المالك القسام، والأخيران هما ابنا أخيه مصطفى.

واتجهت الجماعة أولا نحو "جسر الشغور"، ثم انتقلوا إلى بيروت.

وذهب الشيخ القسام وحده من بيروت فقصد دمشقَ زمن الحكم الفيصلي، وطلب المساعدة من الملك فيصل بن الحسين لدعم ثورته ونضاله للفرنسيين فوعده، ولم يُنجز؟!

ثم أقام أيامًا في دمشق، ولما وقعت معركة "ميسلون" يوم 24/7/1920م بقيادة الشهيد البطل يوسف العظمة، نال القسام شَرَفَ المُشاركة فيها.

وبعد ميسلون، هاجر الشيخ القسام إلى مدينة حيفا بفلسطين مُجاهدا، لا خائفا- كما يقول الأستاذ محمد حسن شراب-؛ فعاد إلى بيروت فالتقى برفاقه الذين هاجروا معه من جبل صهيون؛ فانتقلوا إلى صيدا بِعَرَبَة يجرها حِصان، ومنها بِقارب إلى عكا خفية، وأقام فيها أياما أو شهورا، حتى بلغ حيفا في أواخر سنة 1920م.

*وصل الشيخ عز الدين حيفا وقد ناهَزَ الأربعين، وأقام فيها، لكنه نزل في بداية الأمر ضيفا على الحاج أمين نور الله، كما عمل إماما وخطيبا لـ "جامع الاستقلال" فيها، ورأس "جمعية الشبان المسلمين" ثمة.

*اهتمَّ القسام أولا بتعليم الأطفال، وتعليم العُمَّال والفلاحين أصولَ القراءة والكتابة، كما اهتمَّ بالتوجيه الديني، الذي يُخلِّص ويحرر الناس من رِبقة التبعيَّة للإقطاعيين، كما يقول الأستاذ محمد حسن شُرَّاب.

هاجر الشيخ عز الدين القسام إلى فلسطين بِنِيَّة الجهاد، ووصل إلى حيفا، وفي جعبته تجارب جهادية، وخبرة في قيادة الجمهور، ومارس أساليب الدعوة، وحَذّق فَنَّ الخَطابة، واستخلص أنجح الأساليب في مخاطبة الجمهور، واستنبط الطرائق التربوية لتعليم الأطفال والشباب والشيوخ، وعرف أساليب الدعوة السرية والعلنية، ونقل تجربته من بيئة جبلة وجبال صهيون إلى مدينة حيفا وضواحيها.

كما أنه شُهر وعُرف وحقق أهدافه التربوية من خلال ثلاث وظائف، هي: الإمامة والخطابة في "جامع الاستقلال"، وريادة "جمعية الشبان المسلمين"، ووظيفة المأذون الشرعي، كما يقول الأستاذ محمد شُرَّاب.

أهم أعمال القسام ووظائفه في حيفا

وأهم أعماله في حيفا، هي خمسة:

*الأول-

أول اتصال للقسام بأهل حيفا كان في "جامع الجرينة"، وكان وصوله إلى حيفا من عكا عصر يوم جمعة من سنة 1921م، ودخل الشيخ القسام ذلك الجامع مع صحبه وصلوا المغرب فيه، ثم تطوَّع الشيخ فألقى موعظة بعد صلاة المغرب، لفتت أنظار الناس إليه بعدما أسَرَ قُلوبهم ببيانه!

ثم بعد أذان العشاء وإقامتها قُدِّم لِيَؤُمَّ المُصَلِّين؛ فبكى في قراءته، وأبكى مَن خَلفَه، وخشعوا خشوعا عظيمًا.

وظل القسام يتردد على جامع الجرينة كلما حانت فرصة مُواتية، ولا بعد العصر، أو بين العشاءين؛ لأداء الفروض، وإلقاء بعض الدروس.

*الثاني-

عمل معلما للتربية الإسلامية في "مدرسة الإناث الإسلامية" بحيفا أولا، ثم في "مدرسة البرج الإسلامية" ثانيا، نحو عام 1922م، وهما اللتان كانت تشرف عليهما "الجمعية الإسلامية" في حيفا.

*كما أسس مدرسة لتعليم الكبار القراءة والكتابة "مدرسة محو لِلأُمِّيَّة"؛ ليدرس ويتعلم فيها العمال وغيرهم.

*الثالث-

عمل إماما وخطيبا في "جامع الاستقلال" بحيفا، منذ إنشائه سنة 1925م؛ فاستطاع بما وهبه الله أن يجعله جامِعَ المدينة الأولَ؟!

clip_image016.jpg

جامع الاستقلال بحيفا

*الرابع-

عين رئيسا لـ "جمعية الشبان المسلمين" سنة 1928م، وهي التي أسست لمحاربة أنشطة التنصير والمنصرين في فلسطين.

وكان الشيخ عز الدين -رحمه الله- مواظبا على إلقاء محاضرة دينية أسبوعية مساء كل جمعة، في تلك الجمعية.

وقد كان يخرج إلى القرى كل أسبوع مع بعض أعضاء الجمعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

*الخامس-

في سنة 1930م قُبل في عمل ووظيفة "مأذون أنكِحَة؛ مأذون شرعي"، وقد فاز بها على أربعة عشر مُتنافِسًا معه عليها؟!

ولم يكن الشيخ يُريد هذه الوظيفة لذاتها، ولكن ابتغاها وسيلة شرعية للاتصال بالناس في بيوتهم، وفي القرى التابعة لحيفا، ولمعالجة كثير من القضايا الاجتماعية المرتبطة بالزواج والطلاق.

الفصل الثامن

عمل الشيخ القسام وإعداده للثورة على الإنجليز

بداية تفكير الشيخ بالثورة والإعداد لها:

*بدأ الشيخ -وهو بحيفا- منذ 1922م يفكر بالثورة، وصار يخرج إلى القرى منذ 1929م، واستعان على ذلك بالكتمان؛ لذا فإنه ما كان يبوح بسر الثورة المقدسة الكبير الذي كان يحمله، إلا لأشخاص قلائل جدا، وذلك بعد أن يدرس نفسيتهم دراسة كافية لمدة تطول لسنوات؟!

*أهم أسباب نجاح الشيخ في ثورته ومقاومته اثنان:

1- مهارة الشيخ وتخطيطه الدقيق في اختيار جنوده:

لقد تحدث العشرات من إخوانه: أنه عندما كان يخطب في "جامع الاستقلال"، ومن على منبره يُراقب المصلين، ويدعو من يتوسم فيه الخير والاستعداد لزيارته في منزله، وتتكرر الزيارات حتى يُقنعه بالعمل لإنقاذ فلسطين الخطر، ضمن مجموعات سرية لا تزيد على خمسة أشخاص؟!

استمر القسام يعمل بكل الوسائل الشريفة لتأسيس نواة صالحة من إخوانه عرب فلسطين؛ للانطلاق في الوقت المناسب.

لقد قاوم القسام وأنكر بشدة إنفاق أموال الأوقاف في تشييد الأبنية "الفنادق"، وتزيين المساجد حتى المسجد الأقصى المبارك؛ لأن إعداد الشعب وتسليحه للجهاد لخوض المعركة أهم وأفضل وأحق من الشكليات التي يمكن إنجازها في أوقات أخرى مناسبة؛ فمئات الآلاف من الجنيهات كان يمكن بها تسليح خمسة آلاف مقاتل مجاهد يومذاك!!

2- شدة الإخلاص والسرية والتكتم الشديدان لدى الشيخ وإخوانه:

وما يذكر بهذا الصدد أنه حصل خلاف بين الشيخ عز الدين وبعض إخوانه بسبب توقيت الثورة على الإنجليز، لكنه ظل خافيا على السلطات الحومية أكثر من 5 سنوات، وهذا يدل على إيمان المجاهدين الراسخ في قلوبهم، وعلى تقديرهم للرسالة التي يعملون لأجلها بإخلاص وإقدام؛ فقد كان عدد كبير من إخوان القسام غير راضين عن الانتظار، ومع ذلك ظلوا يعملون سرا ضمن مخطط القسام الثوري دون أي انحراف؟!

*لما استفحل الخطر اليهودي الصهيوني، وقامت الثورة في فلسطين على الإنجليز -حكام فلسطين يومئذ- واليهود سنة 1934م، كان من أوائل المشاركين فيها؛ بل من مُؤججيها ومُفجريها، ومُفجري ثورة فلسطين الكبرى التي قامت بعدئذ عام 1936م.

*ظهرت بطولة الشيخ القسام وبسالته واستبسالُه في معارك شهيرة خاضها في ثورة عام 1934م على الإنجليز واليهود المحتلين بعصبة صالحين أبطال من رجاله وتلاميذه، يقاتلون كلما وجدوا سبيلا إلى القتال، ويأوون أحيانا إلى الكهوف والمغاور.

*مراحل إعداد الجنود والثورة لدى القسام:

يمكن القول إن الشيخ القسام أعد جنوده للثورة من خلال أربع مراحل:

*المرحلة الأولى:

أعد فيها النفوس للثورة، مُعتمدا على قلبه الكبير، وعلمه الغزير، وإخلاصه العظيم؛ بل مُعتمدا على ربه أولا وآخِرًا.

*المرحلة الثانية - حلقاتها، ووحداتها العسكرية ومهامها الخاصة:

ابتدأت عام 1925م وفيها أسس حلقات، وقسَّم المجاهدين إلى وحدات عسكرية منظمة مُختلفة المَهَام، لكل منها دور خاص تتولاه، منها:

أ- وحدة خاصة بشراء السلاح: ومن قادتها البارزين: الشيخ حسن الباير من قرية "برقين"، والشيخ نمر السعدي من غابة "شفا عمرو".

ب- وحدة التدريب العسكري: وكان يشرف عليها ضابط ممن خدموا في الجيش العثماني التركي.

ج- وحدة خاصة بالاستخبارات، والتجسس على العدو اليهود والإنجليز: لمعرفة خططهم السرية، ومراقبة تحركاتهم، ومن أفرادها: ناجي أبو زيد.

د- وحدة خاصة بالعلماء للدعاية والثورة في المساجد والتجمعات: وأبرز أعمالها الدعوة إلى الجهاد، وكان الشيخ كامل القصاب موجها ومستشارا لهذه التنظيمات.

هـ- وحدة العمل الجماهيري والاتصالات السياسية: وكان فيها الشيخ سالم المخزومي، وهو الذي اتصل بقنصل إيطاليا في القدس أثناء حرب الجيش، كما اتصل بقنصل تركيا لشراء أسلحة حديثة.

و- وحدة التمويل؛ لجمع المال من الأعضاء والأنصار: ومن مهامها رعاية أسَر المُعتقلين والشهداء.

*المرحلة الثالثة للثورة:

كانت قتل اليهود أينما ثُقفوا؛ كما حصل في "حادثة مستعمرة نهلال" بين حيفا والناصرة قرب قرية "المجيدل"، وقد قتل فيها المجاهدون بعض اليهود، وجرحوا آخرين منهم، ثم حوكموا مُحاكمة جائرة.

*المرحلة الرابعة:

غادر الشيخ القسام ليلة 12/11/ 1935م، ومعه أكثر من 25 من إخوانه مدينة حيفا إلى قرى قضاء "جِنِبن" لدعوة الشعب على نطاق واسع للاشتراك بالثورة؛ فدخل أولا قرية "كفردان"، ومنها أرسل الرسل إلى القرى تشرح أهداف الثورة، والشعب يعرف القسام من على منبر جامع الاستقلال بحيفا، ويعرف القسام من خلال زياراته لحفلات الأفراح في القرى، ويعرف أخلاص القسام؛ لذا فقد استجاب له ولرسله كثير من الرجال المخلصين.

ثورة الشيخ القسام واستِشهاده

وانطلقت الرصاصة الأولى في 18/11/1935م باشتباك قرية "البارد" أسفر عن استشهاد البطل الشيخ محمد الحلحولي، واستمرت الدعوة العلنية للجهاد في القرى حتى 19/11/1935م؛ حيث جرت معركة في "أحراج يعبد- قضاء جنين"، أسفرت عن استشهاد القسام.

لقد طوقت قوات إنجليزية عددها بين 200- 400 رجل، الشيخَ القسامَ ومعه نحو عشرة رجال من إخوانه في قرية "الشيخ زيد" داخل أحراج يعبد، وهم كل من: الشيخ محمد الحنفي أحمد، الشيخ يوسف الزيباوي، الشيخ حسن

الباير، الشيخ أحمد جاير، الشيخ أسعد كلش، الشيخ نمر السعدي، السيد عربي بدوي، توفيق الزيري، الشيخ ناجي أبو زيد، الشيخ محمد يوسف، والشيخ داود خطاب.

ثم حاصر الإنجليز الشيخ ومن معه، وكان قتالا فدائيا شرسا؛ إذ كان كل مجاهد يواجه نحو أربعين عِلْجًا إنجليزيا بكامل أسلحتهم، ومع ذلك استمرت هذه المعركة من الصباح حتى الظهر؛ إذ استشهد فيها الشيخ محمد حنفي أحمد، والشيخ عبد الله الزيباوي، ثم استشهد القائد الشيخ عز الدين القسام، وجُرح قسم، وأُسِر قسم آخر.

استشهاد الشيخ ويوم تشييعه المشهود

*ارتقى شهيدا في سبيل الله في أواخر عهد ثورة 1934م يوم 20/11/ من سنة 1935م، ووجدوا في ثيابه مُصحَفًا، و14 جُنَيهًا.

نُقل الشهداء من ساحة المعركة إلى جنين، ثم أُرسلوا إلى حيفا فتسلمهم ذويهم، وتسلم فخر الدين أخاه الشهيد.. وصدرت الصحافة المحلية تحمل نبأ الشهداء على صفحاتها الأولى.

209- فاهتزت فلسطين للخبر المذهل، وكانت جنازته مشهودة.. واضربت حيفا إضرابا كاملا، واكتسحت نفوس الناس موجة كلها عواصف وزعازع وزفير كزفير النار!

210- وعندما وصل الخبر إلى الناس أقفلوا محالهم، وتدفقوا لبيت القسام، وأخذت المآذن تزف خبر الشهداء في جميع أنحاء البلاد..

ولم ينس الناس امتزاج الدم العربي المسلم في ثورة القسام؛ دَمُ السُّوري والفلسطيني مع دم المصري الشهيد محمد حنفي عطية الذي كان في مقدمة الشهداء يُدافع عن إسلامه وإيمانه، وأرض إخوانه.

وكان لمقتل الشيخ ورفاقه دوي هائل في الشام ومصر، وصُلي عليه صلاة الغائب، وبكاه ورثاه المجاهدون والعلماء والشعراء والأدباء والسياسيون.

وحُملت الجنائز الثلاث إلى الجامع للصلاة عليه رغم محاولة الإنجليز منع ذلك، وبعد الصلاة عليه أَلقى الشيخ يونس الخطيب - قاضي مكة الأسبق - كلمة مؤثرة أبَّنَه فيها.

أُخرجت الجنائز بصعوبة بالغة، وكان المشيعون قد توافدوا من أنحاء فلسطين، فتحول الموكب لمظاهر هائلة.. وارتفع دوي صوتهم كالرعد القاصف ينادي: الانتقام الانتقام.

وهاجم المشيعون مقر الشرطة وحطموا سياراتهم، فأقبلت كتيبة لمنعهم من ذلك؛ فأنزل الناس الجنائز وهاجموهم، وألقوا الضابط جيمس وجنوده أرضا وطردوهم.

ورفض الشباب الثائرون حمل الجنائز على سيارة، وحملوها على أكتافهم إلى المقبرة التي كانت تبعد عن البلد 5 كم، وهناك رأوا لأول مرة شهداء يدفنون بثيابهم المخضبة بالدماء الذكية!

وكانت ساعات تشييع الشيخ الشهيد القائد المسلم البطل محمد عز الدين القسام، إلى مقره الأخير - في قرية "بلد الشيخ؛ بيت حنان" جنوب شرق حيفا بنحو خمسة أكيال- على الأكتاف في مشهد مهيب؛ كانت ساعات مشهودة، وكان مشهدا رائعا لتقدير الشعب للعاملين المخلصين في سبيل الله، والذود عن حياض الوطن وكرامته.

ووُري الشيخ عز الدين الثرى في قرية "الشيخ" جنوب شرقي حيفا، على بعد 5 أكيال عنها، وقبره يُزار.

clip_image018.jpg

شاهد قبر عز الدين القسام، وقد نُقشت عليه مجموعة

من الأبيات الشعرية التي قيلت في رثائه، وهي:

هذا الشهيدُ العالِمُ المِفضالُ مَن           قد كانَ في الإرشادِ خَيرَ أمِينِ

 

هو شيخُنا القَسَّامُ   أوَّلُ رافِعٍ           عَلَمَ الجِهادِ بِنا ؛   لِنَصر الدِّينِ

 

كانت   شهادته   بوقعة   يعبدٍ           في شهر شعبان بحسن يقين

 

و لِذا حباهُ اللهُ   خَيرَ رِضائه           فَضلًا ، و مَتَّعَهُ   بِحُسن العِينِ

 

فلئن تصفْ مَثواهُ في التاريخ قُل:         في أشرف الفِردَوس عِزُّ الدِّينِ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل التاسع

آثار الشيخ القسام

*مؤلفاته: كان الشيخ عز الدين مشغولا جدا بالدروس، والجهاد، والثورة على الإنجليز واليهود، وإعداد الرجال لهذا الأمر؛ لذا فإنه لم يتفرغ للكتابة والتأليف، ولم يعرف له سوى كتاب واحد، هو:

"النقد والبيان- ط". ألفه بالاشتراك مع الشيخ محمد كامل القصاب ت 1954م، وهو يتحدث عن البِدَع المنهي عنها، والرد على أحد القائلين بها، ويقع في 355 ص، وقد طبع سنة 1925م، في "مطبعة الترقي" - دمشق.

*أسرة الشيخ عز الدين القسام:

*تزوج الشيخ عز الدين بعد عودته إلى جبلة من الدراسة في الأزهر؛ فاقترن بالسيدة "أمينة نعنوع" من جبلة، وأنجب منها أربعة أولاد؛ ابنا واحدا، وثلاث بنات، وهم:

1- محمد: ولد في فلسطين نحو سنة 1928م، وكان عمره سبع سنوات عند استشهاد والده.   2- عائشة.   3- ميمنة.   4- خديجة.

*أطلق اسم الشيخ عز الدين القسام على مدرسة وشارع في مسقط رأسه مدينة "جبلة"، كما "تاريخ الثورات السورية" لأدهم الجندي ص 25.

الفصل العاشر

شخصية الشيخ القسام، وحليته، ومنهجه

أولا- شخصية القسام المُمَيَّزة، وجوانبها القِيَادِيَّة، وسبب نجاحه:

عُرف الشيخ عز الدين -رحمه الله- بإيمانه القوي المتين بالله عزوجل، وتمسكه بالكتاب والسنة، وشخصيته الجذابة، وبحُسن سيرته ومُعاشرته للناس، ولباقته في الحديث، وبراعته في الخطابة، مما جعل منه شخصية عظيمة مميزة، وناجحة، ومؤثرة في مجتمعها.

*هذه أبرز صفات شخصيته إجمالًا، وأما تفصيلا فقد تميزت شخصية القسام بتسع جوانب وسِّمَات قيادية جعلتها عظيمة ومُؤثِّرة وناجحة؛ هي:

1- إخلاص العقيدة لله، واتباع السنة النبوية.

2- مُحاربة البِدَع والخُرافات؛ كتابه: (النقد والبيان).

3- الجرأة في قول الحق، وعدم خوفه لومة لائم.

4- معرفة الواقع ودراسته، ووصف العلاج المُناسب له.

5- القُدوة. 6- العِلم قبل القول والعمل.

7- الإعداد والتخطيط المرحلي، والتَّدَرُّج في الإعداد.

8- التواضع، ومخالطة الفقراء.     9- السِّرِّيَّة، والاستِقلال.

ثانيا- حلية القسام، وبعض مَناقبه وخِلاله:

كان الشيخ القسام -رحمه الله- أميَلَ إلى القِصَر منه إلى الطول، وأقرب إلى النحافة، أسمر اللون، أسود العينين، كَثَّ اللحية، طَلْقَ المُحَيَّا، مَهِيبَ الطلعة، وقورا، سديد الرأي، صادق الفِراسة، ثبت الجَنان، شُجاعًا، حاضر البديهة، سريعَ الخاطر، مُحدِّثً لَبِقًا، واثقا مِن نفسه، مُستبشِرًا دائِمًا، ومُتَفائلًا إيمانًا منه بالله وبقضائه وقدَره.

وكان رحيما بالناس، مُتواضعا، وراضيا باليسير من المأكَل، وكان أبِيَّ النفس، يعيش مِن عمل يده.

وكان -رحمه الله- صادقا، إذا قال فعل، دؤوبا على العمل، شديد التحمل للمشاق، مرت سنوات من حياته في حيفا، وعمله يبدأ من الفجر، ولا ينتهي إلا في الساعات الأخيرة من الليل.

فكان يبدأ بعد صلاة الفجر بتعليم الأميين من العمال والكادحين، وإعدادهم للجهاد في "مدرسة البرج الإسلامية"، أو في "جامع الاستقلال".

ويصرف وقته منذ صلاة الضحى حتى صلاة الظهر في الاتصال الحي بالناس، والعمال في مواقع عملهم، ومواطن جلوسهم.

ويعود ظهرا إلى بيته، ومعه غالبًا بعض المُجندين لِمُحاورتهم، ويمضي مُدَّة ما بعد العصر في تقديم الدروس الجهادية، ويقوم بتدريب الحلقات على استعمال السلاح في جبل الكرمل.

*كان الشيخ عز الدين عالما بالشريعة، ومُصلِحًا اجتماعيا، قوي الإيمان بالله، عظيم الاعتماد والتوكل عليه وعلى قوته وفضله، منذ مطلع حياته العملية، ومنذ حمله لرسالة الدعوة والتوجيه للناس.

وكان رحمه الله ذا غيرة على الدين ونقائه، وسيفًا مُصْلَتًا على أعدائه؛ فحارب فِرقة البهائيين الضالين الذين انحدروا إلى حيفا من إيران، وفرقة القاديانيين القادمين من الهند، وفضح زيف مُعتقداتهم التي ترمي إلى إفساد عقيدة العامَّة من المسلمين، وتوجيههم لخدمة المستعمرين الإنجليز واليهود.

وكان يدعو إلى الإجماع الوطني، والتعاون بين العرب على اختلاف مذاهبهم، ويَعُدُّ الخُروجَ على هذا الإجماع خِيانَةً لِلأمة.

وكان القسام واسع الأفق في فهم جوهر الدين وحقائقه، ومقوماته الإنسانية والحضارية، ومُدرِكًا وظيفة الدين ورجاله على مسرح الحياة العامة.

فالدين عنده عقيدة ونظام، يُؤلِّفان وحدة تهدف إلى تحقيق مصلحة الأمة ومنافعها، وإصلاح حالها، وتقرير الأمن والطمأنينة فيها، وتوفير عِزِّها وسعادتها وكرامتها.

وكان يؤمن أن في أحكام الشريعة من اليُسر والسَّعَة ما يُتيح الاستجابة لحاجات المجتمع ومَطالِبه، في جميع الأمكنة والأزمنة والظروف.

وانطلاقا من هذا الإدراك العام والشامل، فإنه لم يُخصص دُروسه وخُطبه على تفقيه الجمهور بالعبادات فَحَسْبُ، بل تَعَدَّاها إلى شؤون الحياة بِعامَّة، وإلى القضايا الوطنية بِخاصَّة.

وكان يدعو المصلين إلى مُحاربة الفقر والبؤس بالعمل الدؤوب واستنباط خيرات الأرض، ويدعو الناس إلى التعاون والمحبة والإيثار.

ثالثا- منهج الشيخ القسام وتأثره:

لقد سلك الشيخ عز الدين القسام سبيل الإسلام، واعتمد القرآن والسنة، لا يحيد عنهما، وكان رجلا قُرآنيا سُنِّيًّا بامتياز؛ لذا فإنه رفض كل صداقة أو وِصَاية أو معونة تَرِدُ من الأورُبِّيين.

ولم يصح تأثره بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده؛ فالأفغاني كان ماسونيًّا مُتطرفا، متعصبا لماسونيته؛ بل أسس مَحفِلا للماسونية، وكان رئيسا له؟!

وأما محمد عبده؛ فقد كان صديقا مُخلصا لِلُّورد كرُومر رئيس الإنجليز في مصر، وكان يطلب تأييده وعونه ومُوافقته فيما دعا إليه؛ مما سُمِّي "الإصلاح" في المؤسسات الشرعية!!

وكان محمد عبده يُقلِّل من أمر السُّنَّة، بوصفها مصدَرَ تَشريع، أما القسَّام فإنه يراها مصدرا رئيسًا مع القرآن.

*وكان الشيخ القسام مع الدولة العثمانية؛ فقد عمل "واعِظَ طابور" في الجيش العُثماني" التركي، وكان من مُهمته تحميسُ الجنود، ودعوتهم إلى جهاد الكفار، ومن الكفار الإنجليز.

لذا فإنه لم يصح أن الشيخ القسام شارك في الثورة العربية الكبرى على الأتراك، وتحالف مع بريطانية، ولم يصح أنه رفع السيف على الأتراك.

*ولم يتأثر القسام إلا بسيرة الثائر السوري "سليمان الحلبي" -قاتل كليبر-، وعُصبتِه الغَزِّيَّة الأزهرية التي تعاونت معه لقتل خليفة نابليون في مصر، وربما تأثر بأحمد عُرابي وثورته؟

*ينظر: "عز الدين القسام شيخ المجاهدين" لمحمد محمد حسن شراب، ص: 12- 13، 55.

الفصل الحادي عشر

الثورة بعد القسام، على يد العُصبة القَسَّامِيَّة

ولم يَفُتَّ استِشهادُ القائد في عضد إخوانه وأتباعه؛ فقد زوَّدهم في دروسه الدينية بما جعلهم يواصلون الكفاح مُؤمنين حتى النهاية، لقد رفضوا الاستسلام، وقامت جماعاتهم -"العُصبَة القسامية"، أو "عُصبة القسام"- في 15/نيسان- إبريل/1936م بقيادة خليفة الشيخ من بعده الشيخ الثمانيني المجاهد فرحان السعدي، والسيد محمد ديراوي بعمليات جريئة ...، أعقبها عُموم الثورة في فلسطين، وتشكيل لجنة عربية عُليا برئاسة الحاج أمين الحُسيني في 25/نيسان/1936م.

وكان من بين الثُّوَّار المشاركين حينها علماء قادة اشتركوا في الثورة حتى نهايتها سنة 1940م.

فأعلنت حكومة الانتداب المحتلة قانون الطوارئ، وعمَّ الإضراب منذ 20/نيسان/1936م لمدة ستة أشهر، وأعطيت للمحاكم العسكرية صلاحيات كبيرة فتم إعدام 300 شهيد؛ منهم المجاهد الكبير الشيخ فرحان السعدي ذو الثمانين سنة؟!

لقد شهدت ربوع فلسطين عامة ثورة عارمة ضد الاحتلال على يد علمائها ومُتدينيها؛ في حيفا، وصفد، وطبرية، وبيسان، والناصرة، وعكا، ونابلس، وجنين، والقدس، وطولكرم ...، فلو أردنا تسجيل أسماء الجميع لاحتجنا إلى صفحات عديدة، ودور الإسلام كان فيها واضحا؛ كما يقول أستاذنا المؤرخ الكبير الراحل الأستاذ شوقي أبو خليل رحمه الله تعالى.

*مراحل عُصبة القسام:

*هذا، وقد كَوَّن الشيخ عز الدين القسام رحمه الله تعالى، رجاله وعُصبته، عبر سِتِّ مراحل، مرت بها، هي:

أ- الفكرة المُلِحَّة:

فقد كانت في المرحلة الأولى فكرةً تُلحّ على القسام منذ هاجر إلى حيفا سنة 1920م، ولم تكن هذه الفكرة وليدة حيفا دار الهجرة، وإنما كانت موجودة منذ بدأ القسام حياته العملية بعد عودته من الأزهر، وعندما انتقل القسام إلى فلسطين بدأ يَدرس البيئة الجديدة التي سينشر فيها دعوته، فتعرّف إلى الناس وقضاياهم ومشكلاتهم، ودرس الخطط اليهودية والبريطانية لسلخ فلسطين عن بلاد المسلمين.

ب- الإعداد النفسي للجماعة والشعب:

وبدأت هذه المرحلة بالإعداد النفسي للجماعة والشعب، ونشر روح الجهاد، وبناء القاعدة التي يستطيع أن يرفع تنظيمه عليها، وينتقي منها عناصره المنظمة، وقد ساعده على ذلك ما يملكه من علم وفهم في طبائع الرجال، وقدرة خطابية مؤثرة، وقد بدأت هذه المرحلة منذ تولي شؤون مسجد الاستقلال في حيفا، وفي أثناء عمله في جمعيات الشبان المسلمين، إذ أصبح القسام رئيسًا لجمعية الشبان المسلمين عام 1926م.

ج- د- مرحلتا اختيار العناصر لـ "التنظيمومرحلة التطبيق السِّرِّي:

وهي مرحلة مختلطة بالمرحلة السابقة، وفي هذه المرحلة اعتمد القسام على العمل السري لبناء تنظيمه بعيدًا عن مراقبة السلطات البريطانية والعصابات اليهودية، ولذلك كان لا يبوح بسر التنظيم إلا لأشخاص قلائل جدًّا، بعد أن يدرس شخصياتهم وأحوالهم النفسية دراسة كافية. ولاعتماده على السرية التامة والحذر الشديد في اختيار الأعضاء، سار التنظيم بطيئاً، وكان من أهداف البطء في بناء التنظيم وضع الأعضاء المختارين في مرحلة اختبار، وزيادة شحن للنفوس بمعاني الجهاد، وأن يتجهوا إلى تقويم أنفسهم عن طريق العبادة ومجاهدة النفس. وأما المرحلة الرابعة فقد كانت تتمثل بالإعداد العسكري بالتدريب على أدوات الحرب المتاحة، والمرحلة الخامسة كانت مرحلة التطبيق العملي السري بتنفيذ عمليات جهادية فردية.

هذا، وقد كان القسام يختار أعضاء التنظيم السري مستخدمًا منهجًا جديدًا، يعتمد على السّرّيّة والدقة والحذر الشديد في اختيار الأنصار، فليس كل من أبدى حماسًا للجهاد صالحًا للانضمام إلى عضوية التنظيم، فكان القسام يُصِرُّ على صفات وأخلاق في الرجل تُؤهله أن يكون في هذا التنظيم المُحاط بأعداء ماكرين، وكانت أولى خطوات اختيار الرجل تبدأ من خلال التقاء القسام بالمصلين في مسجد الاستقلال، وبعد صلاة الجمعة، وفي دروس ما بعد العصر؛ إذ كان القسام يتفرَّس في وجوه المصلين، ويدرس شخصيات المتأثرين بدروسه وخطبه، فيزورهم في بيوتهم لمزيد من المعرفة والملاحظة، ويدعوهم لزيارته في منزله وتتكرر الزيارات، ويدور الحديث في كل زيارة حول الجهاد، إلى أن يؤمن الرجل بوجوب العمل لإنقاذ فلسطين، فإذا اطمأن القسام إلى صاحبه، أدخله في حلقة سرية، لا يزيد عدد أفرادها عن خمسة، وكان لكل حلقة نقيب يتولى القيادة والتوجيه.

ولتنظيم أبناء القرى اتبع القسام مبدأ زيارة القرى، وبخاصة القرى التي يسكنها أصدقاؤه في أقضية حيفا والناصرة وجنين، وإذا كان أحد أفراد التنظيم قرويًّا يسكن حيفا؛ فإن القسام يطلب منه العودة إلى قريته، ليُمَهِّد له عند مختار القرية، ويدعوه لزيارته، وعندما يزور القرية يحرص على التقاء أهلها في درس ديني بعد صلاة العصر، أو مجلس ذكر بعد صلاة المغرب، ومن خلال هذه اللقاءات يتعرف على أكثر الناس تدينًا، وكان يجتمع سرًّا مع من يرى فيهم الحَمِيّة وحُب الجهاد، ومع دوام الوعظ والملاحظة والتأهيل والتعليم يتم تشكيل حلقات جديدة.

ولم تكن تتاح العضوية لأحد إلا بعد مدة من التجربة والمراقبة، ولا يشترط أن تكون التجربة في عمل تقوم به جماعة القسام، فقد تكون التجربة من خلال عمل فدائي يقوم به الرجل في مقاومة الإنجليز واليهود.

ففي ثورة البراق سنة 1929م شارك آلاف من مسلمي فلسطين، وبرز منهم قادة مُخلصون، فتوجهت أنظار جماعة القسام إلى هؤلاء لجذبهم إلى التنظيم السري.

وفتح القسام المجال أمام فئات المجتمع كافة: الغني والفقير، والمتعلم والأمي، والشباب والشيوخ، ولكنّ أكثر أنصاره الذين قبلوا دعوته هم أولئك الذين لم تغرّهم المناصب الحكومية، والذين ذاقوا مرارة مؤامرات الإنجليز واليهود بإخراجهم من ديارهم وأرضهم، ولذلك فإن الكثيرين من أفراد تنظيم القسام كانوا من الفقراء ومن العمال ومن غير المثقفين في المدارس والجامعات. وكان القسام قد أبدى اهتماماً بالمحتاجين والفقراء، فعمل على تحسين أحوالهم المعيشية، وأخذ يكافح الأمية في صفوفهم بالدراسة الليلية واهتم أيضًا بإصلاح المُنحرفين، وكان يُؤمن "أن جُرأة السارق أو القاتل، من المُمكن أن تتحول إلى شجاعة وجهاد إذا تاب إلى الله تعالى، وآمن بالجهاد في سبيل الله"، ومثال ذلك قصة حسن الباير الذي اعترف للشرطة البريطانية بعد أسره إثر "معركة يعبد" فقال:

"أنا من قرية "برقين - قضاء جنين"، وكنت من قبل أسرق وأرتكب المُحرّمات، فجاءني المرحوم عز الدين القسام، وأخذ يهديني ويعلمني الصلاة، وينهاني عن مخالفة الشرع الشريف وأوامر الله، وقبل مدة أخذني المرحوم الشيخ عز الدين إلى أحد جبال برقين، وهناك أعطاني بندقية، فسألته: "لم هذه؟"، فأجاب: "لأجل أن تتمرن عليها، وتُجاهد مع إخوانك في سبيل الله".

وبعد جهود ثلاث سنوات استطاع القسام تكوين اثنتي عشرة حلقة جهادية تعمل كل واحدة مُنفصلة عن الأخرى، وتتكون كل خلية من خمسة أفراد، أكثرهم من عمال البناء والسكك الحديدية، وعمال الميناء، والباعة المتجولين. ثم زاد عدد أفراد الخلية في أوائل الثلاثينات، فأصبحت تضم تسعة أفراد.

هـ- مرحلة الإعداد العسكري، وبدء القتال:

لقد استطاع القسام في العشر سنوات التي أمضاها في "جامع الاستقلال" أن يجعل الناس مستعدين لتلبية نداء الجهاد، وصارت الكلمات الجهادية من خطبه على لسان الجمهور، ومن ذلك قوله: "المجاهد رائد قومه، والرائد لا يكذب أهله"، وقوله: "الجهاد رفيقه الحرمان"، ويقصد بالحرمان: الصبر على المشقة.

وكان بدء المرحلة الجادة في التسلح والتدريب في أواخر عام 1928م،عندما خطا اليهود خطوة جريئة حيث تجاوزوا المُباح لهم عند حائط البراق، وتداعوا من كل أنحاء فلسطين، وتدفقوا للزيارة آلافًا مؤلفة بين مظاهر الحماس والزهوّ، فأثار هذا المسلمين، وتداعوا لحراسة المسجد الأقصى والدفاع عنه، مما دفع جماعة القسام اللانتقال من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الإعداد العسكري المسلح، ويذكر أبو إبراهيم الكبير أنه عام 1928م إثر ازدياد التهديد اليهودي: "طلبنا من الشيخ أن ينتقل من مرحلة الكلام إلى العمل، وطلبنا أن نتسلح ونتدرب، فاشترينا بندقية، وأحضرنا مدربًا كان اسمه محمد أبو العيون، وكانت تبدأ الجلسة بأن يُلقي الشيخ دروسَه، ثم تحوَّلت دروس الشيخ من دروس دينية إلى تحريض على الجهاد، وكان المدرب يقوم آخر الجلسة بتدريب الموجودين على البندقية واحدًا واحدا".

ثم جاءت ثورة البراق عام 1929م لتعجّل بالتحضير العسكري، والانتقال من المرحلة السرية إلى المرحلة العلنية، فأخذ القسام يتولى تدريب المجاهدين بنفسه، وكان يخرج ليلاً يُدرب الأعضاء على الأسلحة، ويوجههم إلى أساليب الكفاح المسلح. ويصف حسن شبلاق (عضو الهيئة المسؤولة عن الحجّارة في أراضي الكبابير بجبل الكرمل وأحد الذين تدربوا على يد القسام) الخطواتِ كالتالي: "كنا نجتمع قبل الخروج إلى جبل الكرمل في واحد من الجوامع الثلاثة: الاستقلال والجامع الكبير (الجرينة) والجامع الصغير، وكان الخروج عادةً على مستوى الحظيرة، ثلاثة أشخاص يعرف بعضهم بعضاً، والحُجة القانونية التي كنا نتسلح بها في خروجنا وجودُ المحاجر، فلي محجرٌ هناك مثلاً، ومعظم الحجّارة السبعمئة كانوا من القساميين، وكان القسام يخرج مع كل حظيرة، ويُعلّمها فكَّ وتركيبَ البندقية وتنظيفَها وكيفيةَ استخدامها".

وكان القسام حازمًا في تدريب المجاهدين، قال أحد القساميين: "كان يأخذنا لدروس التدريب وإطلاق النار، ويطلب منا أن نمشي حُفاةً، وعندما كنا نتدرب في الجبال كان يجعلنا ننام في العراء في جو بارد، وكان يطلب منا السير دون حمل طعام أو ماء، حتى نستطيع تحمل الجوع والعطش، وكان يطلب منا أن ننام مرة أو مرتين في الأسبوع على الحصير بغطاء خفيف، وكان يصرّ دائماً على سرية أنشطتنا، ولذلك كنا نواجه متاعب في بيوتنا مع زوجاتنا وعائلاتنا، لأننا لا نستطيع شرح وتوضيح لماذا ننام بهذه الطريقة، وكان علينا أن نحتمل هذا، لأننا تعاهدنا على تنفيذ هذه الأوامر".

طلب عز الدين القسام العون ممن حوله وقام بالاتصال بكُل الملوك والأُمراء والزعامات العربية في ذلك الوقت، حيث اتصل بالملك فيصل في سوريا طلبًا لِمُؤازرته في ثورته، فوعده ولم يُثمر وعده عن شيء، واتصل بالحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر وطلب منه أن يُهيئ الثورة في منطقته، فأجابه بأنه يرى أن تُحل قضية فلسطين بالطرق السلمية عن طريق المُفاوضات.

 فما أجابه ولبَّى نداءه بالدعم والعون إلا الأمير راشد بن خُزاعي الفريحات، وهو أمير وزعيم عربي أردني (1850 - 1957م)، وقد اشتُهر الأمير راشد الخزاعي بِمُناهضته للانتداب البريطاني في بلاد الشام ودعمه للثورتين الفلسطينية والليبية، كما عُرف عنه معارضته وثورته علنًا ضد النظام الملكي الأردني منذ قدوم عائلة الشريف حُسين بن علي الهاشمي، والملك عبد الله الأول بن حسين والملك إلى إمارة شرق الأردن، كما وقف الأمير راشد الخزاعي -بوضوح وبقوة- مع جهود الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود  في توحيد الجزيرة العربية.

نهض الأمير راشد الخزاعي ليمد القسام ورجاله بالمال والسلاح والمأمن، ووقف إلى جانبه في ثورته، ويُذكر أن عز الدين القسام لجأ مرة إلى جبال عجلون مع عدد من الثوار، وكانوا في حماية الأمير راشد، وقد تواصل القسام مع الأمير من شرق الأردن للمؤازرة وليهيئ الثورة ضد الانتداب البريطاني وأعوانه في شرق الأردن، وقد قدم الأمير الخزاعي إمدادًا مباشرًا وقويًّا للقسام بالمال والسلاح، فضلًا عن توفير الحماية للثوار الفلسطينيين في جبال عجلون الحصينة من فترة لأخرى، الأمر الذي استدعى من الأمير راشد وقبيلته ومعظم عشائر الشمال الأردني للمواجهة مباشرة مع النظام الأردني، وخاصة مع الملك عبد الله الأول بن الحسين والانتداب البريطاني الذي حاول تصفية الأمير الخزاعي بقصف مواقعه، وقتل كثير من الثوار الأردنيين المُوالين للخزاعي ذلك الوقت، مما اضطره بعدها لمُغادرة الأراضي الأردنية إلى السعودية 1937م، واندلعت على إثر لجوئه ثورة في جبال عجلون امتدت بعدها لنطاق واسع في إمارة شرقي الأردن. 

و- مرحلة إعلان الثورة والجهاد: ذكر صبحي ياسين أنه:

في يوم 12/11/1935م كانت الجمعية تملك ألف قطعة سلاح، وقاعدةَ تسليح في منطقة اللاذقية، وفي هذا اليوم اجتمعت القيادة في حيفا، ودرست الموقف العام في فلسطين، وتقرّر بدء الجهاد العلني.

ثم كان بدء الجهاد العلني سنة 1935م:

قال إبراهيم الشيخ، وهو أحد مجاهدي العُصبة القسامية، مُعلّلًا خروج القسام إلى الجهاد العلني: "في أوائل عام 1935م رأى القائد القسام أن المُستعمِر يراقب تحركاتِ القساميين مراقبة دقيقة، وكان القائد يخشى أن يَعتقل الإنجليز النُّخبة الصالحة من إخوانه، فيُفسدَ جميع مُخططات العُصبة قبل أن تظهر، وكان يرى الخروجَ إلى الجبال والطوافَ بالقرى، وحثَّ المواطنين على شراء السلاح والاستعداد للجهاد. وقد أكّد هذا الرأيَ عددٌ من أتباع القسام".

ومن أسباب خروج القسام إلى الجهاد أيضًا: ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، واتساع مساحة الأراضي التي استولوا عليها، فقد دخل فلسطين سنة 1935م 62000 يهودي، وامتلك اليهود في العام نفسه 73000 دونم من الأراضي العربية، حتى كتب المندوب السامي البريطاني قبل نهاية سنة 1935م إلى وزارة المستعمرات يقول: "إن خُمس القرويين قد أصبحوا بالفعل دون أراضٍ يمتلكونها، كما أن عدد العُمال العاطلين في المدن آخذٌ في الازدياد".

وبعد أن حزم القسام أمره وعزم على الخروج، بدأ يتصل بأتباعه وإخوانه ويتحدث معهم في قراره إعلان الجهاد، قال عربي البدوي: "قبل الخروج، كنا لمُدة أسبوع نتباحث، ونجتمع في بيوت مُتفرقة، وأخيرًا قرَّرنا الخُروج. وكان الأمر القيادي الأول: ليتوجه كلٌّ إلى أهله، يستودعهم الله، ويُعاهدهم على اللقاء في الجنة إن شاء الله".

*منهج وثقافة العُصبة، ومَعالِمُه التِّسعة:

1- "هذا جهاد نصر أو استشهاد": هذه العبارة كانت شِعارَ عُصبة القَسَّام، وحولها كان الشيخ يُدَندِن، وينطلق منها لتربية أتباعه؛ لأن "الجهاد" لفظ ومُصطلح إسلامي، يربط المسلم بماضيه العزيز، وفيه ماليس في غيره من المًصطلحات الحديثة المُولَّدة؛ مثل: "الكفاح"، "النضال"، الثورة ... .

كما أن في معنى الجهاد بذل النفس والمال، وبّذل الوُسع والجُهد والطاقة.

2- القرآن دُستُور الجماعة: فالمسلم الحق يتعبَّد بِمفهوماته ومعانيه وتلاوته؛ ولذا فقد وجه القسام تلاميذه إلى أن يحمل كل واحد منهم مُصحَفًا، يقرأ فيه متى كان خاليًا من العمَل، كما فرضَ على كل عُضو أن يحفظ ما يستطيع من الآيات التي تحُض على الجهاد.

3- بريطانية أصل الداء؛ فتجب مُحارَبتُها: وذلك لأنها سبب البلاء، وهي عَدُوُّ العرب والمسلمين الأوَّل، ومسؤولية الجماعة الجِهاد لِطَرد الإنجليز من فلسطين، وأن الحركة الصِّهْيَونِيَّة وليدة الاستعمار البريطاني؛ فبريطانية هي الرأس، والصهيونية هي الذَّنّب؛ فإذا قُطع الرَّأسُ ماتّ الذَّنَبُ.

لقد أعلن القسام في مسجد الاستقلال أن الإنجليز هم رأس البلاء والداء، ويجب توجيه الإمكانات كلها لحربهم وطردهم من فلسطين، قبل أن يتمكنوا من تحقيق وعدهم لليهود (وعد بلفور)، حيث جعلوه من أهداف الانتداب البريطاني في فلسطين؛ بل هو هدفهم الأول.

ودعا القسام المسلمين إلى التمرد، وحرّضهم على ألا يسمعوا للعساكر البريطانية، ففي أواخر سنة 1934م سأل القسام المصلين من على المنبر: "هل أنتم مسلمون؟" وأجاب: "لا أعتقد"، وسكت قليلًا، ثم تابع كلامه قائلًا: "لأنه لو كنتم مؤمنين لكانت لكم عزة المؤمن، فإذا خرجتم من هذا المسجد وناداكم جندي بريطاني فلا تُطيعوا نداءه".

وفي سنة 1929م، عُلم أن اليهود يأتمرون للهجوم على "جامع الاستقلال"، فطلب وجوهُ المسلمين في حيفا من السلطات البريطانية أن ترسل قوة لحراسة المسجد من الهجوم المدبَّر، فثار القسام على هذا الاقتراح، وقال من خطاب ألقاه بهذه المناسبة: "إن جوامعنا يحميها المؤمنون منا، إن دمنا هو الذي يحمي مساجدنا لا دم الآخرين"، ووصف الطلب بالجُبن، وعدّه دليلًا على الخُضوع والذل، فكان يرفض أي حوار أو معاهدة مع الإنجليز ويقول: "من جرّب المجرَّب فهو خائن"، ولما دعته السلطات للتحقيق في كلامه لم ينكره، فعندما أُوقف أعلنت المدينة الإضراب، فاضطرت السلطات البريطانية إلى إخراجه من السجن، وتجنبت حكومة الانتداب اعتقاله فيما بعد.

4- دراسة السيرة النبوية والحديث الشريف، وقادة الفتح الإسلامي: ففي السيرة العَطِرَة وفي الحديث النبوي، وتراجم الصحابة المُجاهدين، وقادة الفتح الإسلامي، وسيرة صلاح الدين وفتوحاته، في ذلك كله حض على الجهاد، ورفع للروح المعنوية للمجاهدين المسلمين.

5- الجهاد تربية كاملة شاملة: وليس قِتالًا فحَسبُ؛ بل هو تربية تشمل الأخلاق الإسلامية، فضلا عن الفرائض والسُّنَن؛ لييبلُغ المُجاهدُ مرتبة الإحسان؛ فهو يُساعِد الفقير، ويُطعِمُ الجائعَ، وبعُود المَريضَ، ويَصِلُ رَحِمَهُ، وقبل ذلك كله، فالمجاهد قوي الإخلاص لله تعالى، لا يُطيع غيرَه.

6- الالتزام بالصلاة فهي عماد الدين: وهي شِعار الإسلام، وعُنوان أداء الواجِبات الإسلامية، ولِذّا فأفرادُ العِصابة القسَّاميَّة مُلتزمون بأداء الصلوات في أوقاتها؛ فمَن تأخر عن أدائها لغير عُذر، فإنه عاجز عن الجهاد، ومَن ضّيَّعها فهو لِما سواها أضيَع.

7- الجهاد ببذل النفس والمال وشراء السلاح واقتناؤه: فكل ما زاد على قُوت العِيال يجب أن يُبذل في سبيل الله.

ومن باب التحريض على الجهاد دعا الشيخ القسام إلى توجيه اقتصاد البلد إلى شراء الأسلحة، وأنكر في هذا السبيل سياسة "المجلس الإسلامي الأعلى" في تزيين المساجد وبناء الفنادق، وكان مما قال: "يجب أن تتحول الجواهر والزينة في المساجد إلى أسلحة، فإذا خسرتم أرضكم فإن الزينة لن تنفعكم وهي على الجدران". ودعا مرة إلى تأجيل فريضة الحج، وتحويل نفقاته إلى شراء الأسلحة.

ويُروى أنه في إحدى خطبه، كان يخبئ سلاحا تحت ثيابه فرفعه وقال: "من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقتن مثل هذا"، فأُخِذ مباشرة إلى السجن، وتظاهر الناس لإخراجه وأضربوا إضرابًا عامًّا.

8- دراسة نماذج المثل الأعلى: من قادة المسلمين زمن عِزة المسلمين من السَّلَف الصالح، وبناء عليها وازن تلاميذُ القسام بين الزُّعماء الفلسطينيين المُتصَدِّريِنَ لقيادة الأمَّة، وبين المثل الأعلى في تاريخ المسلمين؛ فثَبَت لديهم أن أولئك الزعماء ليسوا على مُستوى القيادة لِلخَلاص والتَّحْرِير؟ّ!

9- توجيه الدعوة إلى العُمَّال والفَلَّاحين، والاهتمام بهم: ذلك لأن غالب أنصار وأتباع الأنبياء كانت حالهم تُشبِه حالَ العُمَّال والفَلَّاحِين في بلادنا؛ فهم الجُنود الأوفياء لعقيدتهم الإسلامية؛ ذلك لأنهم بعيدون عن الاستِكبار والشِّقَاق والحَسَد، وليس عندهم شيء دُنيوي يخافون خُسرانَه وفِراقَه، وليسوا ذَوِي مَنَاصِب يَحرِصون عليها.

*كيفية اختيار القسام لأعضاء التنظيم السري:

كانت للقسام قبل مجيئه لفلسطين تجرِبتان في تكوين الكتائب الجهادِيَّة، إحداهما في ظل الدولة العثمانية، والثانية في ظل دولة فيصل العربية خلال جهاده ومُقاتلته الاحتلال الفرنسي في سورية.

لكن التجربة الفلسطينية مُختلفة جدا عن التجربتين السابقتين؛ فقد جاء القسام إلى فلسطين، وبريطانية باسطة سُلطانَها على كل فلسطين، ومُخابراتها وشُرطتها في كل مكان؛ فلا بُدَّ مِن منهج جديد لذا يعتمد على السِّرِّيَّة التامَّة، ودقة اختيار المجاهدين، والحَذَر الشديد في اختيار الأنصار ... .

فكان القسام يُصِرُّ على اختيار الرجل ذي الصفات والأخلاق التي تُؤهِّلُه لِيَكُون في تنظيم مُحاط بِأعداء ماكِرين؟ّ!

وأولى تلك الصفا استعداده للطاعة ورغبته في التضحية في سبيل الله.

فكانت أولى خُطوات اختيار الرجل الصالح تبدأ من خلال التقاء القسام المصلين في "مسجد الاستقلال"، وعقب صلاة الجُمعة، ودُروس ما بعد العَصر، أثناء الدروس والخطب يتفرَّس وجوه الحاضرين، فيزور بعضهم، ثم يدعوه لبيته ويُحَدِّثه عن الجهاد، فإن رأى فيه إقبالا ضمَّه إلى حلقة سرية.

*عدة أفرادهم: بعد جهود 3 سنوات استطاع الشيخ تكوين 12 حلقة جهادية، تعمل كل واحدة منفصلة عن الأخرى، غالبهم من عمال البناء والسكة الحديدية والباعة المتجولين!

ثم بلغ عدد الشباب الذين أعدهم القسام للجهاد 200، وعدد من هيأهم نفسيا وعلميا بلغ 800.

وكان عدد قادة التنظيم 9، وقادة الفروع 22. إضافة إلى آلاف المتعاطفين، والتَفَّ حولَه عددٌ كبير من الناس أثناء "ثورة البُراق" سنة 1929م.

*ترتيباتهم الإدارية: لقد وُزِّعت أعمال العُصبة القسامية على جماعات مُتخصصة "إدارات"، كل إدارة تتولى تدبير شأن من شؤونها؛ فكانت:

1- جماعة شراء السلاح: بإدارة حسن الباير ونمر السعدي.

2- الاستخبارات والتجسس على الأعداء: بإدارة ناجي أبو زيد.

3- التدريب العسكري: بإشراف "جلادات"، وهو ضابط سابق عُثماني.

4- الاتصالات السياسية: بإدارة محمود سالم المخزومي.

*تمويلهم: كان أكثر المال يأتي عن طريق الاكتفاء الذاتي لكل عضو في ذلك التنظيم القسامي.

فكان العضو العامل في الجماعة يبدأ بدفع عشرة قُروش شهريًّا لرئيس حلقته، وبعد امتزاجه بالعصبة، وانفعاله بأحداثها، يفرض على نفسه عُشرَ دَخله الشهري، أو أكثر من ذلك؛ فيُقدم للجماعة ما يزيد على حاجة أسرته الضرورية لرعاية أسر المعتقلين والشهداء، وكثير منهم كانوا يبذلون كل ما يملكون، بعد سَدِّ حاجاتهم اليومية؟!

*إعداد المُستَطاع، وتعلم الرماية وحمل السلاح لأهميتهما: والتدرب عليهما امتثالا لقوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم)، ولحديث صحيح مُسلِم: "ألا إن القُوَّة الرمي، قالها ثلاثًا".

*الحكم والتقويم: لم يضع القسام وصَحبُه اسمً لِتنظيمهم، ولم يكتبوا ميثاقًا أو دُستُورًا، ولم يُسَجِّلوا أعضاء التنظيم في سِجِلَّات.

*نَصُّ بَيعتهم: كان مُوجَزًا يتألف من جُمَلٍ ثَلاثٍ، هي:

أ- الأخُوَّة: في الله تعالى.   ب- الجهاد: لِنَيل إحدى الحُسنَيَين.

ج- السَّمْعُ والطاعَةُ: لله، ولرسوله، وأولي الأمر من المُسلِمين.

وهذه البُنود مأخوذة من آيات كتاب الله؛ التي يَضُمُّها مُصحَفٌ يحمله كُلُّ مُجاهد منهم؛ فلا حاجة إلى قوانين، والأهداف وسُبل العمل معروفة.

*علاقة التنظيم بالجماعات والأحزاب: لقد كان للشيخ القسام علاقات صداقة ومَوَدَّة مع جُلِّ الزعامات الفلسطينية، ولكنه لم يَبُح لواحد منهم بما في نفسه، ولم يُطلِع أحَدًا مِنهم على خُطَّته، والسبب هو التباعُد بين منهج القسام، ومنهج أولئك القوم في تحرير البلاد.

الفصل الثاني عشر

دور العلماء والمُتديِّنين البارز

في الجهاد بفلسطين مع قائدهم القسام

لقد كان للعلماء دور بارز ومهم جدا في الجهاد والثورة على اليهود والاحتلال البريطاني في فلسطين، وقد شاركوا في الثورة والجهاد مع الشيخ القائد الشيخ عز الدين القسام، ومن هؤلاء العلماء ى مع بُلدانهم:

*من سورية:   1- الشيخ عز الدين القسَّام. جبلة - سُورية.

2- = علي الحاج عبيد.                     =   - = .

3- = محمد الحنفي.                           =   - = .

*من مصر:   4- الشيخ محمد حنفي أحمد. القاهرة - مصر.

*من فلسطين:   5- الشيخ محمد العبد موسى. قرية كوكب أبو الهيجا.

6- = يوسف الزيباوي. قرية الزيب.

7- = عطية أحمد عوض- قرى حيفا.

8- = حسن الباير. قرية برقي.

9- = فرحان السعدي. قرية المزار.

10- = أبو محمود الصفوري محمد الغزلان. قرية صفورية.                  

11- = الحاج صالح طه.                       =   صفورية.

12- = أحمد التوتة.                            =     = .

13- = نايف المفلح.                             =     = .

14- = علي إبراهيم زعرورة.                 =     =.

15- = أبو محمود الصفوري محمد الغزلان.

16- = حسين حمادة. قرية إجزِم.

                

17- 18- الشيخ محمد الخالدي وأخوه: خالد. حيفا.

19- الشيخ ناجي أبو زيد.                       = .

20- الشيخ أحمد جابر.                         = .

21- = محمد الصالح "أبو خالد". قرية سيلة الظهر.

22- الشيخ عبد الفتاح أبو عبد الله.   =   سيلة الظهر.

23- الشيخ نمر السعدي. غابة شفا عمرو.

24- = خليل محمد عيسى (أبو إبراهيم الكبير) شفا عمرو.

25- = محمد الحلحولي. قرية حلحول.

26- = يوسف أبو درة.   = السيلة الحارثية.

27- = عبد الله يوسف.   = عراية.

28- = توفيق الزيري.   = = .

29- = محمود ديراوي. = أبو ظعيف.

30- = نايف الزغبي.    = سولم.

31- = عارف الحمدان. قضاء جنين.

32- السيد عربي بدوي.   =   = .

33- = معروف حجازي. قرية يعبد.

34- = محمود سالم المخزومي (أبو أحمد). قرية زرعين.

35- = محمد أبو جعب.   قرية قباطية.

36- الشيخ عبد القادر علي. قرية عرعرة.

37- الشيخ عبد الله عقيل. قرية عبلين.

38- الشيخ رشيد عبيد الشيخ (أبو درويش). قرية طيرة حيفا.

39- السيد أبو علي مزرعاوي. قرية المزرعة - القدس.

40- الشيخ داود خطاب؟

41- = سليمان؟ قرية سمسم - قضاء غزة.

42- = عبد الله؟ من كفردان.

43- السيد محمود الخضري؟

*ملاحظة مهمة:

إن إطلاق لفظ شيخ على بعض أتباع الشيخ القسام، لا يدل على أنهم كانوا كلهم علماء، فقد كان أكثرهم متعلمين عاديين، أو شبه أميين، لكن الشيخ كان يطلق غالبا -في ذلك الزمان، وحتى زماننا هذا- على المُتدين الملتزم بدينه منهم، ومن يُطلق لحيته، وبعضهم كان يسمى شيخا لكبر سنه، كما يقول الأستاذ محمد حسن شراب.

الفصل الثالث عشر

من خطب القسام، وكلماته وأقواله، ومواقفه الرائعة

*لقد كسر الشيخ القسام العُرف عندما اعتلى منبر "جامع المنصوري" بجبلة قائلا: "(إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم): كُونُوا أعِزَّةً كُرَمَاء (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، ولا إيمانَ لِمَن رَضِيَ بِالخُنوع، واستَكَانَ لِلظلم، واستَعذَبَ العُبُودِيَّة لِلبَشَر".

وفي قوله ذاكَ إشارة إلى رفض التسلط الإقطاعي.

"ليس المهم أن ننتصر، المهم قبل كل شيء أن نُعطي من أنفسنا الدرس للأمة والأجيال القادمة". قالها الشيخ عز الدين عند جهاده الفرنسيين في "جبل صهيون" من اللاذقية.

*"لا وِصَايَة، ولا حِمَايَة، إننا نستطيع أن نُدير أنفسنا، وليس غيرنا أقدر منا على ذلك، إذ لدينا قوة لا يملكها الآخرون"، وأخرج المصحف من جيبه وقال: "هذه قوتنا".

قالها القسام سنة 1919م لـ "لجنة كراين" الأمريكية التي طلبت رأي القسام في اختيار دولة أجنبية تكون وصية على سورية، وقال له رئيس تلك اللجنة: "نعتقد أنكم لا تستطيعون إدارة أنفسكم وحماية بلادكم، وأنتم على هذه الحال من الضعف وانعدام التجربة"؛ فأجابه الشيخ عز الدين بماسبق ذكره: "إننا نستطيع أن نُدير أنفُسَنا ...".

*"عد من حيث أتيت، وقل لهؤلاء الغاصبين: إنني لن أقعد عن القتال أو ألقى الله شهيدًا".

قالها القسام سنة 1920م لرسول الفرنسيين الذي عرض عليه الاستسلام؟!

*كان الشيخ عز الدين يردد دائمًا الآية الكريمة في "مسجد الاستقلال" بحيفا: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، ويُسهب في شرح (وأولي الأمر منكم)؛ بأن أولي الأمر هم المسلمون الذين يُقرّون بالتوحيد؛ أما الإنجليز فلا طاعة لهم على المسلمين، وكان الإنجليز يبثون على لسان القاديانية، ومركزها حيفا، أن الدولة البريطانية وليّةُ أمر المسلمين ولها عليهم حق الطاعة.

"مَن جَرَّب المُجَرَّب عَقلُه مُخَرَّب"، "من جرب المُجرَّب فهو خائن".

كان القسام يُردد هاتين العبارتين لِمَن يطلب منه التعاوُن أو الحوار أو المُعاهدة مع الإنجليز؛ فكان يرفض كل ذلك، ويقول تلكما العبارتين، إشارة إلى انخداع الشريف حسين وأبنائه وممن على شاكلته مِن العرب بوعود الإنجليز الخُلَّبِيَّة الكاذبة.

*"يجب أن تتحول الجواهر والزينة في المساجد إلى أسلحة، فإذا خسرتم أرضكم فإن الزينة لن تنفعكم وهي على الجدران". ودعا مرة إلى تأجيل فريضة الحج، وتحويل نفقاته إلى شراء الأسلحة.

"هذا جِهاد؛ نَصرٌ، أو استِشهادٌ". هذه العبارة كانت شِعارًا للشيخ القسام وعُصبته الجهادية التي رَبَّاها.

"من كان مِنكم يُؤمن بالله واليوم الآخِر؛ فليَقتَنِ مِثلَ هذا". وأشار إلى سلاح "مُسَدَّس" كان يُخبِّئه وهو يَخطُب؟!

*"المجاهد رائد قومه، والرائد لا يكذب أهله"، وقوله: "الجهاد رفيقه الحرمان"، ويقصد بالحرمان: الصبر على المشقة.

*"استَغفِرُوا اللهَ أيُّها الناس!". كان يقولها وينصرف عَمَّن يقول لَهوَ الكلام، أو يَغتاب أخاه، أو يُهاتِر أحَدًا.

*أعطى الشيخ عز الدين بُندقية في "جبال برقين" لحسن الباير- الذي تاب على يد القسام من السرقة وارتكاب المُحَرَّمات- فقال له: "لِمَ هذه؟"، فأجاب: "لأجل أن تتمرَّن عليها، وتُجاهد مع إخوانك في سبيل الله".

"إن جوامعنا يحميها المؤمنون منا، إن دمنا هو الذي يحمي مساجدنا لا دم الآخرين". قالها ردا على من طلب حماية "جامع الاستقلال" من اليهود بواسطة قوة حراسة بريطانية؛ فرفضها، ووصف الطلَب بـ "الجُبن"، وقال ما سبق.

*ومما قاله الشيخ عز الدين في إحدى خطبه الرائعة من فوق منبر "جامع الاستقلال" في حيفا نحو سنة 1930م: "يا أهل حيفا، يا مسلمون! ألا تعرفون فؤاد حجازي؟ ألم يكن فؤاد حجازي، وعطا الزِّير، ومحمد الجمجوم إخوانَكُم؟ ألم يجلسوا معكم في دروس جامع الاستقلال؟! إنهم الآن على أعواد المشانق، حكم عليهم الإنجليز بالإعدام من أجل اليهود.

أيها المؤمنون! أين نخوَتُكم؟ أين إيمانكم؟ أين هيَ مُروءتُكم؟".

*لقد كانت كلمات الشيخ الصادقة هذه وقودا روحيا للمجاهدين؛ فكَبَّرُوا، واهتزَّت جَنَبَاتُ المَسجد طَرَبًا لتكبيرهم؛ لقد صاح الجميع: الله أكبر! الله أكبرّ مُستذكرين قول فؤاد حجازي في السجن:

يا ظلامَ السِّجْنِ خَيِّمْ             إنَّنا   نَهوَى الظَّلَامَا

ليسَ بَعدَ السِّجنِ إلَّا              فَجرُ بَدرٍ   يَتَسَامَى

"إن الصليبية الغربية الإنجليزية، والصهيونية الفاجرة اليهودية، تُريد ذبحَكُم، كما ذَبَحُوا الهُنودَ الحُمرَ في أمريكا، تريدان إبادَتَكُم -أيها المسلمون- حتى يحتلوا أرضكم من الفرات إلى النيل، ويأخذوا القدسَ، ويستولوا على المدينة المنورة، ويحرقوا قَبرَ الرسول، إنهم يريدون اللَّعِبَ بِأمَّهاتِكم وبَناتِكم وأخَوَاتِكم، وتحويلهنَّ إلى خَدَمٍ لهم وسَبَايَا!!

يا وَيلَكُم ألا تفهمون؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دِيسَ شِبرٌ مِن أرض المسلمين، فعلى المرأة أن تخرج بغير إذن زوجها، وعلى الرجل أن يخرج بغير إذن أبيه، أيها المسلمون ألا تفهمون؟

أيها المؤمنون! فرض الله علينا الجهادَ لِيحمِيَنا به؛ لِيَحمِيَ أرضَنا وعِرضَنا، قال تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غِلظة)، لقد ملأ اليهودُ بِلادَكُم، لقد سرقوا أرضَكم".

وكان يقول رحمه الله تعالى: "إني أرجو خيرًا من الفلاحين والعمال، فهم واثقون بالله مؤمنون بالجنة، وهم أقرب للتضحية وأجرأ، وهم أقوى بنية وأكثر احتمالًا لِلمَشاقِّ".

وكانت القاديانية -ومركزها حيفا - يبثون بين الناس أنه يجب طاعة الإنجليز، وأنهم صاروا ولاة أمر! فأبطل القسام ذلك، وأوضح أنه لا طاعة إلا لولي أمر مسلم، وأوجب عصيانهم.

"ليس المهم أن ننتصر، المهم قبل كل شيء أن نُعطي من أنفسنا الدرس للأمة والأجيال القادمة". قالها الشيخ عز الدين عند جهاده الفرنسيين في "جبل صهيون" من اللاذقية.

كان يصرخ مُستَثِيرًا حماسة الفلسطينيين بقوله:

"أيها الرجال! يا نساء وشباب فلسطين.. البلاد في خطر"!

*وكان يقول: "أيها المسلمون ألا تفهمون؟ الله فرض عليكم الجهاد ليحميكم ويحمي أعراضكم (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) لقد ملأ اليهود بلادكم، لقد سرقوا أرضكم"!

وكان يستثير غيرتهم: "إنهم يريدون اللعب بأمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وتحويلهن إلى خدم وسبايا". ويردد: "اعلموا أن خلاصنا فقط بأيدينا".

*رأته ابنته "ميمنة" يوما متحمسا يردد أناشيد الجهاد فخشيت عليه ولاطفته قائلة: "إن الطرق السلمية هي خير طريق يمكن أن يسلكه شعب أعزل كشعبنا، لأن القوة يجب إن تجابهها قوة مثلها، ونحن لا قوة لدينا ولا مال، فالحسن أن نسعى إلى حقنا بالطرق السلمية". فصرخ بها قائلا: "اصمتي يا ميمنة"! ثم أطرق بُرهَةً، وأنشد وهو يَنظُرُ إليَّ:

و اعلَمْ بِأنَّ عليكَ العارَ تَلبَسُه    

   مِن عَضَّة الكَلبِ، لا مِن عضَّة الأسَدِ

*"ليتوجه كلٌّ إلى أهله، يستودعهم الله، ويُعاهدهم على اللقاء في الجنة إن شاء الله". هذا هو الأمر القِيَادِيُّ الأول للشيخ القسام عند إعلانه الجهاد والثورة على الإنجليز واليهود سنة 1935م.

*وكانت آخر كلمات القسام في تلك الخطبة:

"باسمِ الله نُعلِنُ الثَّورَةَ، سأخرُجُ فَورًا إلى الجِهاد، لن أعودَ إلى هذا الجامع إلا بعد طرد الإنجليز واليهود". ثم خرج، وبعد بضعة أيام من تلك الخطبة، وتلك الكلمات استشهد في "معركة يَعبَد" بِجِنين، رحمه الله تعالى.

"أيها الناس، لقد علّمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالِمًا بها، وعلّمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهَد، فإلى الجهاد أيها المسلمون، إلى الجهاد أيها المسلمون".

*وكانت آخر كلماته قبيل استشهاده حين ناداه الضابط البريطاني مع أصحابه قائلا: "استسلموا تَنجُوا"؛ فأجابه القسام:

"لن نستسلِم، هذا جهاد في سبيل الله"، ثم هتف بأصحابه قائلا: "مُوتُوا شُهداء"، فرَدّد الجميعُ: "الله أكبر! الله أكبر!".

*"خُذ الأرض، لن تموت شهيدا إذا مِتَّ على هذه الحال، أنت مُنتَحِرٌ إذا لم تأخذ الأرض". قالها الشيخ القسام لعربي البدوي رفيقه لما رآه يُقاتل الإنجليز واقفا مكشوفا لهم، في "معركة يعبد".

الفصل الرابع عشر

الشيخ عز القسام في الكتب والمقالات

أولا: في الكتب المستقلة:

لقد كتب عن حياة الشيخ عز الدين وجهاده ودعوته وثورته الكثير من الكتاب والمؤرخين، كتبوا كتبا مستقلة عنه، وبعضهم كتب عنه بعضا من سيرته وجهاده وثورته ضمن كتاب وموضوع عام.

ومن وأهم أشهر الكتب المستقلة عنه:

1- "الشيخ عز الدين القسام: قائد حركة وشهيد قضية". للأستاذ حسني أدهم جرار، في 312 ص.

2- "الشيخ عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين". للأستاذ محمد محمد حسن شراب، في 400 ص.

3- "الوعي والثورة في حياة وجهاد الشيخ القسام". سميح حمودة، 242 ص.

4- "تجربة الشيخ عز الدين القسام". دراسة: د. علي حسين خلف 76 ص.

5- "الوادي الأحمر: صفحات خالدات من سيرة الإمام عز الدين القسام". رواية عنه للأستاذ عبد الله الطنطاوي، شفاه الله، في 192 ص.

6- "الشيخ المجاهد عز الدين القسام". د. عبد الستار قاسم.

7- "عز الدين القسام". د. عز الدين إسماعيل.

8- "الشهيد عز الدين القسام: حياته وجهاده". ندوة تكريم الشيخ عز الدين القسام 2-3/كانون الأول/1993م، المستشارية الثقافية الإيرانية 136 ص.

9- "عز الدين القسام". لعاصم الجندي، 98 ص.

10- "ثورة الشيخ عز الدين القسام". د. عبد الجبار رجا العودة 107 ص.

ثانيا- تراجمه في الكتب والمجلات:

وهي كثيرة جدا، منها:

1- الأعلام". للزركلي ترجمة له جيدة 6/267- 268.

2- "الأعلام الشرقية في المئة الرابعة عشرة الهجرية". لزكي مجاهد، فيه ترجمة للشيخ في ج: 1/349.

3- "الإسلام وحركات التحرر العربية". لأستاذنا المؤرخ د. شوقي أبي خليل رحمه الله، ترجمة ضافية له، وعن ثورته، ص: 203- 212.

4- "البطل المجاهد الشيخ عز الدين القسام". لمصباح غلاونجي في مجلة "التراث العربي" الدمشقية، العددان (13- 14)، 1984م.

5- "تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي". لأدهم الجندي ص: 24- 25.

5- "جوانب مجهولة من حياة الشيخ عز الدين". لحسين عمر حمادة، ضمن كتاب: "الشهيد عز الدين القسام: حياته وجهاده".

6- "رجال من فلسطين". عجاج نويهض.

7- مجلة "حضارة الإسلام" الدمشقية، شباط وآذار 1969م.

8- "وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية (1918- 1939م). من أوراق الأستاذ أكرم زعيتر.

9- "الموسوعة الفلسطينية". فيها ترجمة الشيخ عز الدين، وثورته، وتراجم بعض أصحابه كـ: فرحان السعدي، نوح إبراهيم، يوسف أبو درة ... .

10- "الموسوعة العربية العالمية". السعودية، ج 18/177.

11- "الموسوعة العربية". السورية، ج15/374.

12- "القضية الفلسطينية". محمد عزة دروزة.

13- "تاريخ فلسطين الحديث". لعبد الوهاب كيالي.

14- "الثورة العربية الكبرى في فلسطين". لصبحي ياسين.

15- "أعلام الإسلام". للشيخ عبد الوهاب سكر.

16- "ثورات العرب في القرن العشرين".

17- "معجم المؤلفين السوريين". لعبد القادر عياش ص 418، 419.

ثالثا- مقالات ومواقع الشابكة: 1- "موسوعة عريق". ترجمة مطولة ورائعة وشاملة وغنية له، مختصرة من كتب ومجلات، ومواقع عدة.

2- "الشيخ عز الدين القسام: القصة كاملة". موقع "صيد الفوائد"، فيه ترجمة ضافية له ورائعة، مختصرة من كتاب شُرَّاب، وغيره.

3- موقع "إسلام أونلاين".

4- "المكتبة الشاملة"- "المعجم الجامع في تراجم المعاصرين".

5- "عز الدين القسام". موقع: "قصة الإسلام" للأستاذ راغب السرجاني.

6- "عز الدين القسام: مصطلح ديني وقائد ثورة، موسوعة الحركات الإسلامية". دراسة تحليلية لـ "المركز العربي للبحوث والدراسات". عبد الرحيم علي، الخميس 30/1/2014م.

7- "الشيخ محمد عز الدين بن عبد القادر القسام". "مجلة صفاء الإسلام"، ع (5) 1430هـ.

8- "75 سنة على استشهاده: هذه حكاية الشيخ عز الدين القسام مع الثقافة". ياسر علي، "مجلة العودة"، 10/3/ 2016م.

9- "عز الدين القسام في الأدب". مؤسسة فلسطين للثقافة، 5/3/2016م.

10- "تعريف عام بكتائب عز الدين القسام". الموقع الإعلامي لكتائب الشهيد عز الدين القسام، 6/4/2020م.

11- "عز الدين القسام". موقع "مقالات إسلام ويب".

12- "من هو عز الدين القسام؟". محاضرة للشيخ د. محمد موسى الشريف، على "اليوتيوب".

13- "شهادات حية في الذكرى الثالثة والسبعين لاستشهاد القسام". على موقع: "الجزيرة - نت".

14- مُسلسل: "عز الدين القسام". 1981م، "السينما كوم" 29/3/2016م.

الفصل الخامس عشر

مكانة القسام، وبعض الشهادات فيه، وأثره الكبير في الأمَّة

*مما قاله الشيخ نمر السعدي رفيق القسام أمام محكمة الانتداب البريطاني:

"إنني أعترف بكوني صديقًا للقسام ومن أنصاره، وأعتقد أن الشيخ عز الدين القسام على الحق في كل ما عمل، وليس على الباطل، ولم تكن له مآربُ شخصية، وإنما هو مجاهد في سبيل الله والوطن".

*وقال الأستاذ أكرم زعيتر عن الشيخ القسام:

"لقد سمعتُك قبلَ اليوم خطيبًا مُفوّهًا تتّكئ على السيف وتَهدُرُ من على المنبر، وسمعتك اليوم خطيبًا تتكئ على الأعناق ولا منبرَ تقف عليه، ولكنّك والله اليومَ أخطبُ منك حيًّا".

*وقال عبد الوهاب الكيالي في كتابه "تاريخ فلسطين الحديث" مُبينا نتائج معركة يعبد: "ولقد كان لاستشهاد القسام البطولي أثر عميق في فلسطين كلها، وسَرعان ما أصبح رمزًاً للتضحية والفداء ...، وهكذا ألقت ثورة القسام ظلًّا كبيرًا على المسرح السياسي الفلسطيني، وأصبحت كل محاولة لإقامة تقارب بين الفلسطينيين والسلطات الحكومية مكتوبًا عليها الفشل، وبعد أقل من شهر من اصطدام الجيش بالقسام أصبحت دائرة التحقيقيات الجنائية تعرب عن قلقها من تطور الأحداث، وعمَّ الحقد على الحكومة قرى فلسطين كلها، وأصبح الرأي العام ينظر إلى القسام وأتباعه نظرة تقدير بالغ، ويعتبرهم أبطالًا وشُهداء".

*وقالت جريدة "الجامعة العربية" بتاريخ 3/1/1936م:

"يحتفل أبناء فلسطين بإحياء ذكرى مُجاهد من سورية الشمالية سقط شهيدًا في سبيل استقلال سورية الجنوبية، وليس ذلك فحسب، بل قاد حملة جهاد لعلها الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام الحديث في فلسطين، وسورية، والشرق العربي بأسره".  

*قال المؤرخ أمين سعيد "كان القسام بعيدًا عن الشهرة والإعلان عن النفس، فكان في حيفا كما كان في جبلة وفي جبال اللاذقية وفي كل مكان نزله، كان عنوانًا للأخلاق الإسلامية، ومثالًا كاملًا للمسلم الحقيقي، الذي تذوَّق لذة الإسلام، واستنار بنور الإيمان واليقين، فما عُرف عنه ما يُريبه أو يُدنّس سمعته، أو يدل على انشغاله بالسفاسف والزخارف، فأحرز مرتبة رفيعة، ونال مقاماً ممتازًا".

*وقد وصف أحمد الشقيري حال عز الدين القسام قائلًا: "كنت على معرفة وطيدة بالشيخ عز الدين القسام، عرفته تقيًّا ورعًاً، خطيبًا دينيًّا صالحًا، واجتمعت به في مؤتمرات "جمعيات الشبان المسلمين" في حيفا وغيرها، ولم يكن يدور في خلَدي أو في خلد غيري، حتى من أصدقائه المقربين، أن هذا الشيخَ المُعممَ إمامَ الجامع كان يُهيئ نفسه لقيادة ثورة مسلحة ضد السلطات البريطانية مباشرة".

*وكتب الصحفي عبد الغني الكرمي عن مناقب القسام ومآثره فقال: "عرفته بعد أن أثقلت كاهله السِّنُون، وأربى على الستين، ولكن مجالدة الدهر ومقارعة الحوادث وصروف الزمان ما ألانت له قناة، وما أذلت له جناحًا لأحد، وما زادته إلا ورعاً وتقوى ... كان يمشي مطأطئ الرأس من خشية الله، وكان يتكلم في هدوء وتواضع واتزان، سمة العالم الواثق من نفسه، المؤمن برسالته، الحريص على تقوى الله وبث التعاليم الدينية الصحيحة بين الناس، وما سمعتُه على طول صلتي به لا يحبّ الإصغاء إلى لهو الكلام والمُهاترة والاستغابة، فإذا أمعن المُتحدثون في هذا الضرب من القول رفع رأسه وقال: "استغفروا الله أيها الناس"، وانصرف عنهم."

*قال"رودلف بيترز" صاحب كتاب "الجهاد في الإسلام قديما وحديثا":

"لقد تشكلت في أثناء الثورة الكبرى بفلسطين جماعات كثيرة، شنت حرب عصابات، ونجحت في شلّ الحكومة المدنية، وأخضعت مناطق واسعة من البلاد لسيطرتها، وإن كثيرًا منها كان يقودها أتباع الشيخ عز الدين القسام، وكانت تتصور النضال بمفهوم ديني بحت، إذ كانت تطلق على نضالها اسم الجهاد، وقد شابهت في عملها منظمات الجهاد المبكرة مثل السنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان، والمحمدية في الهند".

وذكر أن تنظيم القسام أثر تأثيرًا كبيرًا في الثورة الكبرى في فلسطين (1936-1939م).

*من أعظم آثار القسام وبركة ثورته وجهاده ظُهورُ حركة "حماس":

هذا، وقد اختارت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) "عز الدين القسام" القسام؛ ليكون اسمًا لجناحها العسكري، وأعلنت كتائب القسام أن هدفها العام هو "تحرير كل فلسطين من الاحتلال الصهيوني الذي يغتصبها عنوةً منذ عام 1948م، ونيل حقوق الشعب الفلسطيني التي سلبها الاحتلال، فهي جزء من حركة ذات مشروع تحرر وطني، تعمل بكل طاقتها من أجل تعبئة وقيادة الشعب الفلسطيني وحشد موارده وقواه وإمكانياته، وتحريض وحشد واستنهاض الأمتين العربية والإسلامية في مسيرة الجهاد في سبيل الله لتحرير فلسطين".

وكانت هذه الحركة المباركة، وما زالت تجاهد وتقاتل العدو الصهيوني، منذ 40 سنة، هي وأخواتها الأخريات: -"الجهاد الإسلامي، وسريا القدس، والأقصى ..."- وتنكي فيه وتؤثر أكثر من جيوش 55 دولة إسلامية وعربية، وآخر أعمالها البطولية التي أذهلت وأدهشت العالَم -سوى أولياء اليهود والصليبيين من المنافقين والمُتخاذلين والمُنبَطِحين- عملية "طوفان الأقصى" منذ أكثر من 70 يومًا، وهي تقتل من جنود اليهود، وتأسر، وتُدمر آليَّاتهم، وتشفي قلوب المؤمنين، وتُرهب عدو الله من الصهاينة ومن حالفهم ووالاهم مِن حكام أمريكا وأوربا، ويهود العرب المُتصَهيِنين.

الفصل السادس عشر

القسام في الشعر العربي

*لقد قيل في رثاء الشيخ القسام الكثير من القصائد والأشعار، ومن أشهر ما قيل فيه ما قاله الشاعر الكبير فؤاد الخطيب:

أولت   عِمامتُكَ   العمائم   كلها              شرفا   تقصر عندهُ   التيجان

إن الزعامة و الطريق مخوفة               غير الزعامة والطريقُ أمان

ما كنت أحسب قبل شخصك أنه               في بردتيه   يضمها   إنسان

يا رهط عز ا لدين حسبك نعمة               في الخلد لا عنت ولا أحزان

شهداءُ بدر ، و البقيعِ   تهللت               فرحا وهش مرحبا رضوان

*وقال الشاعر نديم الملاح ردًّا على بيان حكومة الانتداب الذي أعلن "القضاء على عصابة من الأشقياء -قُطَّاع الطُّرُق في أحراش يعبد"، وهي للشاعر نديم الملاح، وهي بعنوان: "سموك زورا":

ما كان ذودك عن بلادك عارا               بل كان مجدًا باذِخًا ، وفَخارا

سمّوك زورًا بالشقي ولم تكن               إلا بهم ، أشقى البرية   دارا

قتلوا الفضيلة و الإباء بقتلهم               لك َ واستذلوا قومَكَ الأحرارا

أنكرت َ باطلهم وبغيَ نفوسهم             فاسترسلوا في كيدك استكبارا

كثروا عليكَ   بمأزقٍ   لو أنه             ريعَ الخميسُ به لطارَ فرارا

قثبتَّ بين رصاصهم مُستبسلًا             يَتِرون َ منك َ و تدرك الأوتارا

ورأيت كأس الموت أطيب موردا    

                                              من عيشة ملئت أذى وصغارا

يا شيخ عز الدين: رزؤك إنه             أذكى شُعورَ نفوسنا ، و أثارا

علّمتنا كيف الذيادُ عــن الحمى             إن راعه ُ - باغٍ عليه - و جارا

خلصت إلى الديان روحَك حرة             فحباكَ مِنهُ في الجِنان جِوارا

حُمِّلتَ فيهم مِثلَ أجرِ مُجاهدٍ             و تحمّلوا في ظلمك الأوزارا

*وقال الشاعر صادق عرنوس:

من شاء   فليأخذ   عن القسامِ           أنموذج   الجندي   في الإسلامِ

و ليتّخذْه   إذا   أراد   تخلصا           -من ذُله المَوروث- خَيرَ إمام

ترك الكلام و رَصفه   لِهُواته             وبضاعة الضعفاء مَحضُ كلام

أوَما ترى زعماءنا قد أتخَموا الـ           آذانَ     قولًا ؛     أيَّمَا   إتخام

كنا   نظنُّ   حقيقة ً ما   حَبَّرُوا             فإذا   به   وهمٌ     من الأوهام

ضاع المُراقُ من المداد لرسمه           عبثًا ، و ما أفنوا   من الأقلام

ملؤوا الفجاجَ شقاشقًا جوفاءَ لم             تنجح ، سوى في فرقة وخصام

تركوا العدوَّ يَعيثُ في أوطانهم             و تشاغلوا   بتراشق ،   و ترامِ

يا ليت َ عز الدين يبعث بينهم           و يكون - فيهم- درسُه إلزامي

حتى   يبين لهم   سبيلُ قيادةٍ             خرجوا بها عن واجب الأحكام

ويُداويَ الجرح َ الذي أضناهمو           جُرحَ الخُمول ، بمرهم الإقدام

هذا   الفدائي   الجواد   بنفسه             من غير ما نزعٍ ، ولا إحجام

ما كنتُ أعرفه ولا أدري به             حتى تضوّعَ   طِيبُه في الشام

وكذلك النفسُ الكبيرة ُ إن نوت           عملا ،   أسَرَّتْهُ     لحين   تمام

لم يُلهه عرض الحياة واحلًا             كلا ، و لم يشغف بنيل وسام

ما زال يعمل   ساترًا مجهوده            كالبدر ، مُستترًا   وراء غمام

حتى بدا   من عصبة   بدريّةٍ             فتكشّفت   عن مؤثرين   كرام

ما بالُ طاغوت البلاد أصابه             لظهورهم ضربٌ من البرسام

أوَ لم تصفهم - للمـلا - أبواقه           بعصابةٍ ليســــــت   بذات مقام

فلمن تقاطرتِ الجيوش   كأنها           ظفرت بجيش - للعدوِّ-   لهام؟

إنْ يَقْضِ عِزُّ الدين أو أصحابه             فالسرّ   ليس   تكلّم   الأجسام

هيهاتَ تنزع أو تهي أثارها             مهما استعان   بمدفع ، و حسامِ

قل للشهيد و صحبه : أدَّيتمُو             حَقَّ الرسالة ، فاذهبوا   بسلام

*وها هو الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، رحمه الله، يقول في قصيدة له بتاريخ/2/11/1946م:

حَفِيَ اللسان و جفّتِ   الأقلامُ             و الحال ُ حالٌ ، و الكلام ُ كلام

إني رأيت ُ الحقَّ فصلُ خطابه            يتلوه فينا الفيصلُ الصمصام

اصهرْ بنارك غُلَّ عنقك َ ينصهرْ           وعلى الجماجم ِ تُركز ُ الأعلام

وأقم على الأشلاء صرحك َ إنما           من فوقها   تُبنى العُلا و تُقام

وخذ الحقوقَ إليكَ لا تستجدها           إن الأولى سلبوا الحقوق لئام

هذي طريقك َ للحياة فلا تَزغْ             قد سارها من قبلك (القسام)

ذاك الذي هجر الكلام   لفتكةٍ             بِكرٍ، و هل فكَّ القُيودَ كلام

*وقال الشاعر المفكر الإسلامي حسن الباش سنة 1992م ، في ندوة عقدت في "جبلة" مسقط رأس القسام:

بيني و بينكَ   أســرارٌ ، و شــطآن ُ       حيفا و جبلة و القسام   إخوان

بيني   و بينكَ   عزٌّ جئت   مــولده         من كرملٍ مجدُه قبرٌ و إنسانُ

حيفا التي ما روت ْ حاراتها قصصا         إلا و كان َ له من مجدها شان

يا أمتي في رُبا الإسراء ملحـــمة ٌ       فرسانها في صدى القسام ألحان

ذاك الذي سطَّر التاريخ من دمه         و صاغ   مِنبرَه عقلٌ و إيمان ُ

*وقال الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) من قصيدة له، يطلب فيها من العرب أن يوقفوا محاكم التفتيش الجديدة في فلسطين، ويناديهم بأعلى صوته لكي يسيروا على طريق الشهادة الذي سار عليه القسام، فذر أنوار الشهادة على الحياة، وعلم الدنيا أسرار الخلود:

إيهٍ   رجـالَ العُرب! لا                   كنتم رجالًا في الوجود

هل تشهدون محاكم التـ                   ـفتيش في العصر الجديد

قوموا اسمعوا من كلِّ                   ناحيةٍ يصيحُ دمُ الشهيد

قوموا انظروا القسام يشـ                   ـرق ُ نوره فوق الصرود

يوحي إلى الدنيا و من                   فيها     بأسرار   الخلود

***********

*أما شاعر حركة القسام الزجال الشعبي نوح إبراهيم (1913- 1938م)، الذي ارتبط بالشيخ عز الدين القسام وعصبته، فأطلق عليه لقب (تلميذ القسام)، وعندما استشهد القسام، رثاه بزجلية طويلة، لحنها وغناها وسجلها بصوته على أسطوانة، رددتها فلسطين كلها آنذاك، وهي بالعامية بعنوان "عز الدين يا خسارتك"، يقول فيها:

عز الدين  يا خسارتك           رحت     فدا   لأمتك

مين   بينكر   شهامتك           يا   شهيد       فلسطين

عز الدين   يا مرحوم           موتك   درس   للعموم

آه !   لو   كنت   تدوم           يا رئيس   المجاهدين

*********

لقد ضحى الشهيد بالمال والنفس والنفيس من أجل إعلاء كلمة الله، ودفاعا عن حرية الأوطان:

ضحيت بروحك ومالك         لأجل استقلال   بلادك

العدو     لما     جالك         و العدا   منك   هابت

فلسطين   منين   شافت         مثل غيرة   عز الدين

أسست   عصبة للجهاد         حتى   تحرّر     البلاد

غايتها نصر أو استشهاد         وجمعت رجال غيورين

جمعت رجال من الملاح         من مالك شريت سلاح

و قلت:   هيا     للكفاح         لنصر الوطن   و الدين

*********

ويصور مرارة الخيانة التي ذهبت بدم الشهيد، ووقعت النكبة، وسلمت فلسطين لليهود بالمجان:

جمّعت   نخبة   رجال       و كنت     معقد الآمال

لكن   الغدر   يا خال         لعب   دوره   بالتمكين

لعبت   الخيانة   لعبة         و قامت   وقعت النكبة

و سال   الدم   للركبة       و ما كنت تسلّم و تلين

كنت تصيح الله   أكبر       كالأسد         الغضنفر

           لكن     حكم     المقدر       مشيئة   ربّ   العالمين

*********

ما أحلى الموت والجهاد       و لا عيشة   الاستعباد

جاوبوا   رجال الأمجاد         نموت و تحيا فلسطين

الجسم مات والمبدأ حي         و الدما ما تصير مي

معاهـد   الله    يا   خي         نموت موتة عز الدين

واقرأوا الفاتحة يا إخوان       عا روح شهيد الأوطان

و سجل عندك يا زمان       كل واحد منا عز الدين

*********

الفصل السابع عشر

المجاهد الشيخ عز الدين القسام

(مسيرة ملهمة لأبطال المقاومة الفلسطينية،

ولأبناء الأمة الإسلامية والعالَم)

د. علي الصلابي

تعتبر شخصية الشيخ المجاهد عزّ الدين القسّام (رحمه الله) إحدى الشخصيات البارزة في مسيرة المقاومة والجهاد ضد الاستعمار الفرنسي والإنجليزي والاستيطان الصهيوني “المبكّر” في العشرينيات والثلاثينيات مـن القرن العشرين، وهو الذي تمكن بفضل الله تعالى، وبما امتلك من كاريزما دعويةٍ، وخبرةٍ ومراسٍ، ودوره في التعبئة، والتوعية، والتجنيد، والتنظيم، من قيادة ثوار فلسطين ضد الإنجليز والمستوطنين اليهود في عام 1935م، وأذاقهم الويلات والمرارة لأيام وشهور طويلة.

أصبح المجاهد عز الدين القسّام رمزاً من رموز الكفاح والجهاد ضد الاستعمار في فلسطين، ونموذجاً يُحْتَذَى به في حرب المقاومة الفلسطينية ضد العدو الاستيطاني “الصهيوني”، في التزامه بمنهج الله، وإيمانه، وثباته، وقوة عزيمته في طريق الجهاد والنصر. ولم تكن حياة ذلك الداعية والمجاهد الشامي أكثر من سجل ممتد من المقاومة، ونهرٌ من المطاردات، وأحكام الإعدام، فقد كان عدواً مشتركاً لدول أوروبا المستعمِرة، فحارب المستعمرين الفرنسيين في موطنه الأصلي “سورية”. كما جمع السلاح، وألَّف الكتائب، وحصّل التبرعات المالية، لدعم المجاهدين في ليبيا ضد المحتل الإيطالي، وكانت نهاية حياته حرباً مفتوحة ضد الاحتلال الإنجليزي والصهاينة في فلسطين. وقد نال في حياته التي لم تطل كثيراً أحكاماً متعددة بالإعدام، لكنها كانت أوسمة في سجلات ذكراه، وصحائف مشرقة في حقائب أيامه.

إن البحث في مسيرة المجاهدين ورجال الكفاح والجهاد الوطني، أمثال الشيخ عز الدين القسام (رحمه الله) لا تنحصر في كونها مراجعةً تاريخيةً لتجربة شخص، بل هي تتبع لمسيرة هذه الأمة العظيمة، وجهاد أبنائها، وربط ماضيها بواقعها الحالي؛ لاستيعاب وفهم سنن الله وأقداره الماضية في التدافع، والابتلاء، والاستخلاف، والتمكين، والتغيير الحضاري.

1- عز الدين القسّام -رحمه الله- مولده ونشأته:

ولد الشيخ محمد عز الدين القسّام في مدينة جبلة السورية، وهي إحدى عرائس الشام القريبة من البحر الأبيض المتوسط، وكبرى المدن التابعة لمدينة اللاذقية السورية، وكان مولده عام 1300ه/ 1882م. وينتسب الشيخ عز الدين القسام لأسرة فقيرة الحال، ومشهورة بالعلم والورع. وكان والده الشيخ عبد القادر مصطفى القسام من المهتمين بالتصوف وعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها. وقد تزوج الوالد من امرأتين؛ الأولى أمه حليمة، وأنجب منها (فخر الدين، وعز الدين، ونبيهة)، والثانية آمنة جلول وأنجب منها (أحمد، مصطفى، كامل وشريف). (وداد زراعي، عز الدين القسام قائد ثورة فلسطين، مدونات الجزيرة، 8/10/2023م(.  

فكان القسّام ابنًا لرجلٍ داعيةٍ، عاش من أجل القرآن، وتحلى ببدائع قيم الدين الإسلامي، وأخذ بالسنام العالي من الاعتزاز بالإسلام، فأطلق على ابنيه اسمي عز الدين وفخر الدين، وكأنه يُهيئهما لأن يظل رنين الاسمين صادحًا في آذانهما في أسرة مشهورة بالعلم والدعوة والتعليم (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتًا، 10/10/2023م).

2- ملامح من المسيرة العِلمية والمِهنية للشيخ عز الدين القسّام:

أمضى الشيخ عز الدين القسام طفولته في جبلة، وتعلم القراءة والكتابة والحساب في كتاتيبها، ودرَّسه والده العلوم الشرعية، وكان واحدًا من التلامذة الذين تردّدوا على زاوية الإمام الغزالي (رحمه الله)، وفيها درسَ اللغة والتفسير والحديث والفقه (سارة سعد، الشيخ القسام؛ القصة الكاملة، 2022).

ففي جبلة، تلقى القسّام جزءًا من معارفه الإسلامية واللغوية، وتضلع منها في فتوته، قبل أن ينتقل عامه الرابع عشر مع أخيه فخر الدين إلى الأزهر الشريف لدراسة العلوم الشرعية، وكانت القاهرة يومها سفينة ثقافة تمخر عباب بحر لجّي من الأزمات والمحن التي يعيشها العالم الإسلامي، وليس من أقلها الاحتلال الإنجليزي الذي غرس أظافيره بعمق في وجه أرض الكنانة البهيّ. وفي الأزهر، درس القسّام معارف إسلامية واسعة، وتأثر بكبار مشايخ وعلماء ذلك العصر من أمثال الشيخ محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وبالزعماء المناضلين من أمثال: مصطفى كامل، وسعد زغلول، وغيرهم من الأصوات النضالية التي كانت تدق بعنف فكري وسياسي عميق جدار الصمت والجهل والهزيمة. وعاد بعد سنوات يحمل الشهادة الأهلية إلى سورية، وقد تركت التجربة المصرية في نفسه أثرًا كبيراً في حياته العِلمية والعَملية (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حيًّا وميتًا، 10/10/2023م).

عاد الشيخ القسام إلى جبلة فقيهًا مُتبحرًا متمكنًا من العلوم والمعارف التي حازها، مستخدمًا إياها لتطبيقها ولإحياء المساواة بين الناس، ولتوزيع الأراضي على الفلاحين المستضعفين المُستغلين من طرف الإقطاعيين، فقد لاحظ الظلم الواقع على الفلّاح الذي ينال جزءاً يسيراً من عمله المتعب، لذا وقف في وجه الإقطاعيين داعياً إلى إعادة الحقوق للفلاحين، ومساواتهم مع غيرهم لكونهم لا يتمايزون عنهم إلا بالتقوى.

وزار القسّام الأهالي، وراح يقنعهم بإرسال أولادهم لتعليمهم القراءة والكتابة، وافتتح مدرسة في جبلة عام 1912م، كما أقام حلقات المساجد، يُعلّم الناس أصول الحديث والفقه. واغتاظ الإقطاعيون من القسام وأفعاله، فبدؤوا بالتحريض عليه، وسعوا إلى التخلص منه، فتآمروا على نفيه إلى إزمير، لكنه كان يستعد لرحلته إلى عاصمة الدولة العثمانية لمتابعة علومه، لذلك استبَق مؤامرتهم برحلته إلى البلاد التركية حيث وجد الجهل منتشراً والأميّة مُتفشية، فراح يخطب في الناس لتوعيتهم بسوء أحوالهم، لكن خُطَبَه لم تلق آذاناً صاغية، فهو لا يُجيد التركية والسامعون لا يفهمون العربية التي يتكلم بها، فقرر العودة إلى جبلة، ليتابع فيها مسيرة تعليم الصغار والكبار حتى يخَلص مدينته من الجهل والاستبداد (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتاً، 10/10/2023م).

وفي ما بعد، هاجر إلى فلسطين عام 1920م، وهناك عمل مدرسًا في مدرسة الإناث الإسلامية، وفي مدرسة البرج الإسلامية للطلاب، وهما مدرستان تتبعان الجمعية الإسلامية في حيفا بفلسطين. وكان يَرعى طلابه علمياً، ويوجههم لبناء مستقبلهم، بإرشادهم لما يوافق قدراتهم من مهنٍ وأعمال.

كما تولى الشيخ القسّام الإمامة والخطابة والتدريس بمسجد الاستقلال في حيفا، والذي أصبح منارة لبث العلم والوعي في حيفا وما حولها، وكانت خطبه ودروسه تتناول كافة شؤون الدين والدنيا، وبث فيها ضرورة العلم والعمل والجهاد حتى يحافظ المسلم على إيمانه وحياته وحريته، من سطوة المحتلين الإنجليز، والمستوطنين اليهود (ساتيك، عز الدين القسام.. قائد ثورة استشهد قبل اشتعالها، 19/11/2019).

3- الشيخ عز الدين القسام وتجربته الجهادية خارج فلسطين:

بدأ الشيخ عز الدين القسّام بتأسيس، وتحريك ثقافة التطوع، وجهز أول فيلق من المتطوعين الساعين إلى الجهاد في ليبيا حين كانت ترزح تحت أبشع الفظاعات التي مارسها الإيطاليون بعنف غير مسبوق ضد كتائب المقاومة، حيث جهز كتيبة من 250 متطوعاً في الساحل السوري، وقد كانت تلك الكتيبة أول نواة للكتائب شبه العسكرية التي سيواصل القسام لاحقاً تشكيلها في مراحل ومحطات متعددة. ونسق مع السلطات العثمانية لنقل المتطوعين إلى إسكندرونة ثم بالباخرة إلى ليبيا، ولكن هذه الباخرة لم تصل نتيجة تفاهمات بين العثمانيين والإيطاليين، فقفل مع المتطوعين عائداً إلى مدينته (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتًا، 10/10/2023.(

ومع نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914، تطوّع للخدمة في الجيش التركي، وأُرسل إلى معسكر جنوب دمشق، حيث كان يعمل في شعبة التجنيد في جبلة بعد عودته من مصر، كما أنه استجاب لدعوة السلطان العثماني للجهاد، وراح يستحث المقاتلين على محاربة أعداء المسلمين، حتى عاد إلى مدينته مُتفرغاً للعلم والوعظ.

وبعد دخول الفرنسيين إلى الساحل السوري عام 1918، بدأ القسّام بتنظيم المعسكرات، وتطويع الشباب لقتالهم، مُعتمدا ًفي ذلك على التعبئة المعنوية، وبثّ روح الجهاد لمقاومة المستعمر، موقِناً أن القوة الإيمانية أمضى سلاح أمام المستعمر. كما اتصل بالشيخ صالح العلي الذي كان يُحارب الفرنسيين في جبال طرطوس الساحلية، لتنسيق الجهود وتشتيت هجمات المستعمر. وحين عَلِمَ الفرنسيون بأمر القسّام وجماعته، بدؤوا بملاحقتهم، فانطلقوا إلى الجبال يحتَمون بها مُلتجئين إلى منطقة الحفّة في جبل صهيون، فكانوا يغِيرون منها على معسكرات الفرنسيين حتى آلمتهم ضربات الثوار، فأرسلوا وفدًا يفاوض القسام بتعيينه قاضيًا شرعيًّا، لكنه رفض ذلك مجيبًا الوفد: “لن أقعد عن القتال حتى ألقى الله شهيدا" (ساتيك، عز الدين القسام.. قائد ثورة استشهد قبل اشتعالها، 19/11/2019).

فما كان من الفرنسيين إلا أن أصدروا حكماً بإعدامه، ولكن المقاومة بدأت تضعف نتيجة قلة السلاح والعتاد، كما أن الفرنسيين شدّدوا حملاتهم على مناطق القسّام والثوار. (آمال سامي، في ذكرى وفاته ماذا تعرف عن الشيخ السوري عز الدين القسام طالب الأزهر، 20 نوفمبر 2019م). وبعد ذلك تحول القسّام إلى نمط آخر عندما باع منزله، وانتقل من بلدته إلى قرية الحفّة الجبلية، ليكون عوناً وسنداً لعمر البيطار في ثورة جبل صهيون (1919- 1920)، وبعد إخفاق ثورة البيطار، غادر سورية لاجئاً إلى فلسطين التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتاً، 10/10/2023م).

4- الشيخ عز الدين القسام:

مرحلة الإعداد والتنظيم الجهادي في فلسطين

بعد معركة ميسَلون، ودخول الفرنسيين مدينة دمشق عام 1920م، ارتحل القسّام إلى بيروت ثم إلى صيدا ثم عكا التي بقي فيها فترة يُفاضل بينها وبين حيفا مكانًا للإقامة، حتى قرر أن تكون حيفا مكان إقامته، لأنها سوق رائجة للعمل يَؤمها طلاب العمل والتُجار، وله فيها بعض المعارف والعلاقات، كما أنها مركز ثقافي حيوي. في عام 1921م، وفي يوم جمعة دخل القسام وأصحابه إلى جامع الجرينة في حيفا لصلاة المغرب، فتطوع لإلقاء موعظة، مما شدَّ اهتمام الناس الذي كانوا يتساءلون عن هذا الشيخ الذي لم يروه سابقاً، ثم ما لبثوا أن اجتمعوا حوله لما له من وقار وقدرة على الحديث والخطابة (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حيًّا وميتًا، 10/10/2023م).

في البداية، عمل الشيخ عز الدين القسّام معلماً وداعية ومأذوناً شرعياً، فكان ينتقل بين القرى والأرياف والمدن، وكان يزاوج بين أعمال كثيرة من التعليم والدعوة الإسلامية، ونشر الوعي السياسي، وحشد الشباب لمعركة التحرير. وقد سلك القسّام في التدريس بحَيفا نفس أسلوبه الذي اعتمده في جبلة، وركز فيه على الروح الجهادية ضد الاستعمار، ورواية قصص القادة العظماء في التاريخ الإسلامي، والحديث عن الإسلام وفضائله، وعن النشاط اليهودي مُنبّهاً فيه لخطر الهجرة اليهودية، وداعياً الناس لئلا يتساهلوا معها. وكما حرّض على التمرد على الإنجليز بشراء الأسلحة، وتحويل الأموال إلى الجهاد، بدلاً من تزيين المساجد، وبناء الفنادق. وقد دعا ذات مرّة إلى تأجيل الحج، وتحويل نفقاته لشراء السلاح، فالجهاد عنده ليس قتالاً فقط، بل هو بذل للنفس والمال معاً، ويكون باللسان والقلب، وهو تربية شاملة كاملة يجب أن يتحلّى بها الفرد (ساتيك، عز الدين القسام.. قائد ثورة استشهد قبل اشتعالها، 19/11/2019).

ولقد كانت خُطب القسام مُحفزة لأهل فلسطين للتوجه نحو الجهاد، فقد كان ينتقد التقاليد والخرافات في زمانه، فيظهر مُصلحاً ينتمي إلى الإصلاحيين الإسلاميين المعاصرين، مشجعاً على الالتزام بالأخلاق والقيم الروحية الإسلامية. ولم يُمَيَّزُ القسّام بين الاحتلالين الفرنسي والإنجليزي، فالجهاد مبدؤه مواجهة كل المحتلّين من أجل خلاص الأمة من شرورهم.

عرف القسام بجرأته وصراحته في الدعوة إلى قتال الإنجليز، وتحريضه المستمر على تحرير الأرض منهم، والحيلولة دون إقامة الدولة اليهودية، وفي إحدى خطبه الشهيرة بمسجد الاستقلال في حيفا، رفع صوته في آذان المصلين: “إن كنتم مؤمنين فلا يقعدن أحدٌ منكم بلا سلاح وجهاد”. وقد كان لتلك الخطبة وقع عاصف على الاحتلال الإنجليزي، فبادر باعتقال القسام، ثم أفرج عنه فيما بعد مرغماً تحت ضغط الجماهير الغاضبة. واستمر الشيخ القسّام بالعمل على تنوير عقول الناس، وحثهم على المقاومة، وكسر شوكة العدو، وتغذية نفوس الأهالي بحب الجهاد، وتحرير أرضهم من العدو الإنجليز ((آمال سامي، في ذكرى وفاته ماذا تعرف عن الشيخ السوري عز الدين القسام طالب الأزهر، 20 نوفمبر 2019م).

وفي عام 1926م، ترأس الشيخ عز الدين القسّام جمعية الشبان المسلمين، وقد واظب الشيخ خلال وجوده في الجمعية على إعطاء محاضرة دينية مساء كل يوم جمعة، وكان يذهب كل أسبوع بمجموعة من الأعضاء إلى القرى، ينصح ويرشد، ويعود إلى مقره. وقد تمكن من إنشاء عدة فروع للجمعية في أكثر قرى اللواء الشمالي من فلسطين، وكانت الفرصة للّقاء بالقرويين، وإعدادهم للدفاع عن أراضيهم (علي محمد، ملهم الثورة الفلسطينية … 87 عاماً على استشهاد الشيخ عز الدين القسّام، مركز الإعلام والدراسات الفلسطينية، 21 نوفمبر 2022م).

وفي عام 1933 كان القسّام مندوباً عن جمعية الشبان المسلمين في حيفا، وعبر محاضراته، أسهم في توعية الشباب، وتخليصهم من الفساد والضياع، وقد تعززت صلته بالريف الفلسطيني، فأسهم في توعية الناس وحثّهم على الانضمام لجماعته، ليشكّل منهم بعد ذلك مجموعة من الحلقات والخلايا ذات السرية الفائقة؛ لأن عيون بريطانيا كانت موجودة في فلسطين مبثوثة فيها، لذا كانت الحيطة والحذر سمتين أساسيتين في هذا التنظيم، فلا يدخل أحد ضمن هذه الحلقة حتى يتأكد القسام منه، لذا لا توجد أرقام دقيقة عنهم، فقد قيل إنهم 200 و400 و800 أو ما يزيد على الألف، بحسب روايات متعددة (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتًا، 10/10/2023م).

5- الشيخ عز الدين القسّام وتشكيل العُصبة القسّاميّة "الجِهادي":

تشكلت العصبة القسامية الجهادية كما ذكرنا، بوساطة الشيخ عز الدين القسام عام 1921، أيّ بعد وصوله إلى مدينة حيفا على الفور. وبدأ الشيخ القسام بتطوير هذه الفكرة بعد عودته من زيارة الأزهر الشريف، وبات هدف الشيخ القسّام هو تعزيز روح الجهاد في نفوس الشعب، وبناء القاعدة التي ستساعده على رفع مستوى تنظيمه، واختيار الأعضاء المناسبين للقيادة والعمل الجهادي (وداد زراعي، عز الدين القسام قائد ثورة فلسطين، مدونات الجزيرة، 8/10/2023م).

آمن الشيخ القسام بضرورة بناء التنظيم القوي، فعمل على إنشاء خلايا سرية متخصصة، ولم يكن عدد الخلية يزيد على خمسة أشخاص، ومع توسع الخلايا تعددت مهامها من الدعوة إلى التحريض على الجهاد والتعليم والإصلاح والوعي السياسي والتكوين العسكري والاستخبارات، وكان يسيّر أعماله وتنظيمه بتؤدة وهدوء، ولم يكن مستعجلاً لإطلاق الثورة، رغم مطالبة عدد من رفاقه وأتباعه ببدء النضال الثوري المسلح عام 1929 بعد حادثة مسجد البراق. وفي عام 1932، انضم عز الدين القسام إلى فرع حزب الاستقلال في حيفا، وبدأ بجمع التبرعات من السكان لشراء الأسلحة والمعدات ((أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتاً، 10/10/2023م).

تميزت العصبة القسّامية بتنظيم دقيق، حيث كانت هناك وحدات متخصصة للدعوة إلى الجهاد، والاتصالات السياسية، والتدريب العسكري، والتجسس على الأعداء. وكان ثبات العصبة على الأسلوب المقتبس من السيرة النبوية يمنع أخذ العون المالي من زعيم أو حزب أو دولة لهم مآرب، في وقت كان هناك أطراف كثيرة تكره الإنجليز، ولذلك حصر القسّام موارد العصبة من تبرعات الأعضاء، ومن التبرعات التي يجود بها أهل الخير. ومن إقامة بعض المشروعات الزراعية، وكان للعصبة أراضٍ في أشرفية بيسان، يشرف عليها الشيخ محمد الحنفي، ويروي الشيخ الحنفي أن القسّام أخذ منه خمسمئة جنيه فلسطيني لشراء السلاح، نصفها من مورد المزروعة، ونصفها الثاني من صندوق الجمعية (محمد شراب، ص 376).

وفي عام 1931، بدأت كتائب العصبة القسامية في تنفيذ عمليات فدائية ضد المحتلين، ومنها الهجمات على المستوطنات الصهيونية، والتجمعات العسكرية التي أقاموها في أطراف حيفا، كما شمل نشاطهم إعداد كمائن للدوريات الإنجليزية.  وكان الهدف الرئيسي هو التضييق على المحتل الإنجليزي، ومنع الهجرة اليهودية، ومطاردة العملاء الفلسطينيين الذين يتجسسون لصالح الإنجليز. ومع ذلك، توقفت نشاطات المجموعة بعد فترة قصيرة، بسبب تسريب بعض أسرار التنظيم إلى الإنجليز، واستمرت هذه الحالة حتى أواخر عام 1935م (وداد زراعي، عز الدين القسام قائد ثورة فلسطين، مدونات الجزيرة، 8/10/2023م). 

6- الشيخ عز الدين القسّام ومرحلة الجهاد العلني:

في نوفمبر 1935، اضطر الشيخ عز الدين القسّام لإعلان الجهاد ضد المستعمرين، على الرغم من عدم استكمال استعداداته العسكرية بشكل كامل. فهو اضطر إلى ذلك، بسبب زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين إلى درجة لا يمكن تحملها، وتوسعهم في الأراضي التي استولوا عليها، فقد وصل عدد اليهود إلى فلسطين في عام 1935 إلى نحو 62000 يهودي، وامتلك اليهود في السنة نفسها، مساحة تقدَّر بـ 73000 دونم من الأراضي الفلسطينية. وجراء تشديد السلطات الإنجليزية الرقابة على تحركاته، قرر القسّام الانتقال إلى المناطق الريفية، وبدء حركة الجهاد من هناك.

اضطر الشيخ القسّام إلى الخروج من حيفا إلى قضاء جنين، وبدأ من قرية كفردان أولى فعاليات الثورة، حيث بدأ رسله يتقاطرون إلى القرى شارحين لأهلها ضرورة الثورة وأهدافها، قبل أن يعودوا برفاقٍ من الشباب والرجال والكهول المستعدين لبذل الدماء قبل المال فداء لفلسّطين) (بوعسكر، ثورة عز الدين القسام في فلسطين وصداها على النخبة الإصلاحية الجزائر والمغرب نموذجاً، 2018، ص 37(.

وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1935م، فجر الشيخ عز الدين القسام شرارة الثورة الفلسطينية الأولى، وأصبح الشيخ القسام المطلوب الأول الذي يسعى الإنجليز لتصفيته أو إلقاء القبض عليه، خوفاً من انفجار الوضع من تحت أقدامهم، ولا سيما بعد أن بدأت كتائبه تحصد الانتصارات تلو الأخرى، عبر عمليات عسكرية دقيقة لم تستطع القوات الإنجليزية، تحديد مواعيدها أو مصدرها أو المسؤولين عنها. وكان لا بدّ للقسام أن يختار موقعاً حصيناً يُحارب منه الإنجليز، لذلك جال في القرى والمناطق المحيطة يستكشف أفضلها، فاختار قرية يَعْبَد (إحدى قرى مدينة جنين الفلسطينية) لكثرة وتكاثف أشجارها وأَحراجها، وكونها ذات موقع إستراتيجي يتحكم بالمناطق المحيطة.

وفي جامع الاستقلال، ألقى الشيخ القسّام خطبته الجهادية الأخيرة، يدعو الناس فيها إلى الجهاد، والخروج على الإنجليز الذين راحوا يفتشون عنه، لكن هيهات. فقد كان متأهباً حاملًا بندقيته ماضيًا إلى الجبال مع العديد من رفاقه الذين لا يمكن حصر عددهم، بينما تفرق بعضهم في القرى دعاة للجهاد، واتفقوا على الالتقاء في قرية نورس.

وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1935م، اتجهت كتائب القسّام، نحو خِربة الشيخ زيد قرب يعبَد، لكنهم في الطريق أحسوا بمن يتابعهم فانقسموا فريقين: فريق إلى الشمال، وفريق إلى حيفا والناصرة. وفي الطريق يُخرب هذا الفريق الأخير سكك الحديد، ويقطع أسلاك الهاتف للإنجليز، ثم يذهبون إلى نورس عند الشيخ فرحان السعدي، ويلتقون جميعاً في الوادي الأحمر بين نابلس والغور، وكان الفريق يضم الشيخ عز الدين القسام وحسن الباير وعربي البدوي وأحمد عبد الرحمن جابر ونمر السعدي وعطية المصري وأسعد المفلح ويوسف الزيباوي. وبينما يسير الفريق الثاني نحو مكان اللقاء نفد الماء، كما أن الأحمال كانت ثقيلة من سلاح وعتاد، ولكن أحد المجاهدين أشار إلى نبع ماء قريب، فجلبوا الماء منه ليرتووا، ثم واصلوا السير حتى خربة الشيخ زيد، مع أن التحرك صار صعباً لأن الطريق أصبحت مزروعة بالجواسيس.

يروي عربي البدوي (كان حارساً في طرف حرش يعبَد): صبيحة الأربعاء 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1935مع طلوع الشمس، بدأ رجال البوليس يهجمون علينا على ظهور الخيل، فبدأوا بالتوزع والاستعداد للمعركة: تسعة رجال في مواجهة البوليس الذين تزايد عددهم حتى وصلوا إلى ما بين 200 و400. فلم تكن المواجهة متكافئة، فانسحب المجاهدون داخل الغابة، وتمترسوا خلف الصخور، وأصيب أحدهم، لكن رجال البوليس (ومنهم عرب) طوقوهم، وشرعوا يقتربون، فأعطى القسام أوامره بالتصويب على رجال الشرطة الإنجليز، وليس على العرب، لأن الإنجليز أوهموا رجال الشرطة العرب أن المعركة ضد قُطّاع طرق، ووضعوهم في المقدمة (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتًا، 10/10/2023م).

كان المجاهدون يتنقلون بين الأشجار، بينما يُحكم الإنجليز الطَّوْق عليهم، وينادون باستسلام رجال المقاومة، لكن القسام كان يجيب بأعلى صوته: لن نستسلم، هذا جهاد في سبيل الله، ثم هتف: موتوا شهداء. فردّد الجميع خلفه بصوت واحد: الله أكبر.. الله أكبر. فنهضوا نهضة رجل واحد يطلقون النار، لكن رصاص الإنجليز كان أسبق، حتى أصيب القسامَ فاستشهد مع ثلاثة من رفاقه (رحمهم الله).

7- الشيخ عز الدين القسّام والمُثل التربوية في مسيرته:

كان النهج النبوي في التربية والإعداد الجهادي، هو الذي سار عليه الشيخ عز الدين القسّام قولًا ومنهجًا وسلوكًا، فكان يوجه المقربين منه وأتباع العصبة بـ: علنية الدعوة، وسرية التنظيم. وعلى هذا نشط في زيارة القرى، والاحتكاك بأهلها؛ يُلقي دروسه ومحاضراته في مسجدها ومضافاتها، وفروع جمعية الشبان المسلمين التي يَرأسها، وكانت كلماته تَشق طريقها إلى القلوب، فتأسرها، تُعلمهم الإسلام، وما ينبغي أن يتحلى به المسلم من عزة وكرامة وإباء، وكيف يدافعون عن أنفسهم وأرضهم وعرضهم ودينهم، ضد الغزاة من اليهود والإنكليز المحتلين، وكان في الوقت نفسه، يَعرف كيف يختار أعوانه ومساعديه ممن يتوسم فيهم الإيمان وما يستتبعه من صدق وإخلاص وتضحية وجهاد في سبيل الله ينظمهم، ويفكر معهم في الطريقة المثلى للتحرك في مناطقهم بسرية وكتمان حتى استطاع أن يبث القيادات، ويوزعهم في كثير من القرى والبلدات والمدن الفلسطينية، بل وصل تنظيمه هذا إلى مدينة اللاذقية في سورية، لتكون قاعدة التسليح فيها” عمرو الشيخ، الشرارة الأولى، (موقع صيد الفوائد)

فكان عز الدين القسام أمةً وحده في وقته، ومؤسساً لمدرسة في التربية والإعداد والجهاد، جمع الله في شخصه مواهب كثيرة: معلمًا مؤثرًا، وعسكرياً مُدرباً، وسياسياً محنكاً. وكان جل أتباع القسام من العمال والفلاحين والباعة الجوالين، أزال عن أكثرهم الأمية بجهده، وثقفهم في المساجد والبيوت والمضافات، وجعلهم رجالاً أكفاء للمهام الجهادية. وربط القسام بين التعلم والعمل والإنتاج، وراعى الظروف الواقعية لتنفيذ منهجه التربوي، والتعلم ليس قراءة وكتابة فقط، وإنما شمل التوجيه والإرشاد، ومنفعة الناس.

بهذا المنهج التربوي المستمد من سيرة النبي المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، ربّى الشيخ عز الدين القسّام أتباعه الفقراء المعدمين ليكونوا قادة ومجاهدين أوفياء، وكان لسان أتباعه حسب ما قال جمال الحسيني (رئيس الحزب العربي الفلسطيني)، وإبراهيم الشنطي (رئيس تحرير جريدة الدفاع): “الإيمان نور، والتضحية لذة، فمن آمن، وعمل نجا، ومن لم يؤمن قعد وهلك…” ((محمد حسن شراب، 2000م، ص 371 - 375).

وكان من أشهر أقوال الشيخ عز الدين القسّام (رحمه الله ("لا تبيعوا اليهود، ولو شبراً واحداً من الأرض، ومهما أثقلوا الثمن؛ إنّ من يبيعهم أو يُقطعهم أرضًا، يُقطعه الله قطعةً من نار جهنم فيها يتلظّى."

8- اغتيال الشيخ عز الدين القسّام ووفاته:

في 15 نوفمبر 1935م، اكتشفت القوات الإنجليزية، مكان وجود الشيخ عز الدين القسام، وحاصرته في قرية البارد، ولكنه استطاع الهرب مع خمسة عشر فردًا من أتباعه إلى قرية الشيخ زايد. وفي 20 نوفمبر من العام ذاته، لحقت القوات الإنجليزية بالقسّام، ومن معه، وطوقتهم، وقطعت الاتصال بينهم، وبين القرى المجاورة، وطالبتهم بالاستسلام، لكنهم رفضوا، واشتبكوا مع القوات الإنجليزية، ودارت معركة غير متكافئة بين الطرفين لمدة ست ساعات، ارتقى خلالها الشيخ عز الدين القسام، وبعض رفاقه، وجُرح وأُسر الباقون. ووجد الإنجليز في حوزة الشيخ عز الدين القسّام مصحفاً، وبندقيةً، ومسدسًا، وأربعة عشر جنيهًا، فاستشهد معتصماً بمصحفه وبندقيته، والتي كانت زاده في الدنيا، وقد كان مقتله حدثاً عظيماً في تاريخ فلسطين والشام، ودوى ذكر استشهاد القسّام في المدن والعواصم الإسلامية والعربية يومها، واعتبر يوم حزن وحداد لكل المجاهدين والأحرار في العالم. أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتاً، الجزيرة وثائقية، 10/10/2023م (ساتيك، عز الدين القسام.. قائد ثورة استشهد قبل اشتعالها، 19/11/2019).

نُقل الشيخ القسّام ورفاقه إلى مدينة جنين، واشترطت السلطات الإنجليزي أن يكون الدفن في العاشرة صباح الخميس بتاريخ 21 نوفمبر 1935، وأن تسير الجنازة من بيت القسام الواقع خارج البلدة إلى المقبرة في بلد الشيخ، فلا يمكن للجنازة أن تسير داخل مدينة حيفا، كي لا يلتف حولها جمع غفير يحوّل الجنازة إلى اشتباك مع الإنجليز، لكن ذلك لم يفلح، فقد خرج في تشييعه أعداداً كبيرة يُقال إنها وصلت إلى عدة كيلومترات (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حيًّا وميتًا، 10/10/2023م).

9- أقوال في الشيخ عز الدين القسام (رحمه الله) ورثائه:

خلّدت الأقوال والشهادات سيرة الشيخ عز الدين القسّام، ومن أشهرها قصيدة شاعر الثورة اللبناني فؤاد يوسف الخطيب التي يقول:

ما كنت أحسب قبل شخصك أمة         في   بردتيه   يضمها   إنسان

لم يثن عزمك والكتائب شمرت         نصلٌ   يشب توقدا ، و سنان

ووثبت تخترق الصفوف مجاهدًا         و النقع أكدرُ و السماءُ   دخان

آمنتَ باليوم الأخير فلم تخف         و مُكذِّب اليوم   الأخير   جبان

يا رهط عز الدين حسبك نعمة         في الخلد لا عَنتٌ، ولا أشجان

شهداء بدر ، و البقيع   تهللت         فرحًا، و هش مُرحبًا رضوان

وقال فيه الشيخ سلمان التاجي الفاروقي (صاحب جريدة الجامعة الإسلامية): “وعسى الأمة العربية في فلسطين أن تخلد ذكرى هذا البطل عز الدين القسام ورفاقه الميامين بالاستكثار من التسمي بأسمائهم والتوفر على درس سيرهم" (محمد شراب، ص 378).

وقال فيه الدكتور توفيق الشيشكلي في حفل تأبينه: “إن شهيدنا البار الأستاذ المجاهد عز الدين القسام أحيا بعمله عهداً مطوياً سبقه إليه السلف الصالح، وتقاعس الأخلاف عن السير على سنته، فاستعمرت بلادهم، وأصبحوا أذلاء في ديارهم، ولولا تفرق الكلمة، وكثرة الأحزاب، وتخاذل القوم وتحاسدهم، لكتب للقسّام الظفر، كما كتبت السلامة لصاحب الغار عليه الصلاة والسلام" )محمد شراب، ص 379.(

نتائج وفوائد من تجربة الشيخ عز الدين القسّام (رحمه الله) الجهادية:

أصبح الشيخ عز الدين القسّام، علمًا من أعلام الجهاد، يتردد اسمه في فلسطين وسورية والعالم الإسلامي. وعُرف كفاحه وجهاده بــ” ثورة القسّام”. ومن أهم النتائج والدروس المستفادة من مسيرته الملهمة:

*أجمع كل من عاصر الشيخ عز الدين القسّام أو قرأ مسيرته الجهادية، على إمامة وريادة القسّام، فقد تفرد بمنهجه التربويّ، ومسلكه الجهادي، وهو ما بوّأه منزلة رفيعة بين أبطال أمّة الإسلام المدافعين عن أرضها وعِرضها وحريتها.

*دخل الشيخ عز الدين القسّام كأيقونة خالدة في عمق قضية فلسطين، وأصبح رمزاً موحداً وملهماً لكل الأطياف والقيادات وحركات التحرر الوطني في فلسطين، وقد كان استشهاده السبب المباشر لاشتعال الثورة الفلسطينية الأولى (1936 – 1939م).

*أخذ الشيخ عز الدين القسّام وضعه الطبيعي كأحد رموز حركات التحرر في العالم الإسلامي مثل الشيخ المجاهد عمر المختار في ليبيا، والأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وغيرهم من قادة النضال ضد الاحتلال. ومن حق الأجيال الجديدة أن تتعرف على هذه الشخصيات التي انتصرت لقيمة الحرية ورفض الاستبداد والاحتلال.

1- آمال سامي، في ذكرى وفاته ماذا تعرف عن الشيخ السوري عز الدين القسام طالب الأزهر، موقع مصراوي ويب، 20 نوفمبر 2019م.

2- أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حيًّا وميتًا، الجزيرة وثائقية، 10/10/2023م.

3- سارة سعد، الشيخ القسّام؛ القصة الكاملة، موقع تبيان، 2022.

4- سنان ساتيك، عز الدين القسام… قائد ثورة استشهد قبل اشتعالها، الجزيرة الوثائقية، 19/11/2019.

5- علي محمد، ملهم الثورة الفلسطينية … 87 عامًا على استشهاد الشيخ عز الدين القسّام، مركز الإعلام والدراسات الفلسطينية، 21 نوفمبر 2022م.

6- فايزة بو عسكر، ثورة عز الدين القسام في فلسطين وصداها على النخبة الإصلاحية الجزائر والمغرب نموذجًا، مذكرة ماجستير في التاريخ، جامعة الجيلاني بونعامة، الجزائر.

7- محمد حسن شُرّاب، عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين (دمشق/ بيروت: دار القلم/ الدار الشامية، 2000).

8- وداد زراعي، عز الدين القسام قائد ثورة فلسطين، مدونات الجزيرة، 8/10/2023م.

*"مجلة المجتمع" الكويتية - 30/10/2023م.

الفصل الثامن عشر

عز الدين القسام

(1300- 1354هـ = 1883- 1935م)

عالم مسلم ومجاهد ضد الانتدابين الفرنسي والبريطاني على الشام

"موسوعة عريق" - بتصرُّف

*محمد عز الدين بن عبد القادر القسام، الشهير باسم "عز الدين القسام".

هو عالم مسلم، وداعية، ومجاهد، وقائد، ولد في بلدة "جبلة" من أعمال "اللاذقية"، وتربى في أسرة متديّنة ومعروفة باهتمامها بالعلوم الشرعية، ثم ارتحل إلى "الجامع الأزهر- القاهرة" سنة 1896م عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، وتخرّج منه سنة 1906م، وعاد إلى بلده جبلة، حيث عمل مدرسًا وخطيبًا في "جامع إبراهيم بن أدهم".

احتل الفرنسيون الساحل السوري في ختام الحرب العالمية الأولى سنة 1918م، فثار القسام في جماعة من تلاميذه ومريديه، وطارده الفرنسيون، فقصد دمشق إبان الحكم الفيصلي، ثم غادرها بعد استيلاء الفرنسيين عليها سنة 1920م، فأقام في حيفا بفلسطين، وتولى فيها إمامة جامع الاستقلال وخطابته، ورياسة جمعية الشبان المسلمين. واستطاع القسام في حيفا تكوين جماعة سرية عُرفت باسم العُصبة القسّامية، وفي عام 1935م شددت السلطات البريطانية الرقابة على تحركات القسام في حيفا، فقرر الانتقال إلى الريف حيث يعرفه أهله منذ أن كان مأذوناً شرعياً وخطيباً يجوب القرى ويحرض ضد الانتداب البريطاني، فأقام في قضاء "جنين" ليبدأ عملياته المسلحة من هناك.

إلا أن القوات البريطانية كشفت أمر القسام، فتحصن هو وبعض أتباعه بقرية الشيخ زيد، فلحقت القوات البريطانية بهم وطوقتهم وقطعت الاتصال بينهم وبين القرى المجاورة، وطالبتهم بالاستسلام، لكنه رفض واشتبك مع تلك القوات، وقتل منها خمسة عشر جندياً، ودارت معركة غير متكافئة بين الطرفين لمدة ست ساعات، وانتهت المعركة بمقتل القسام وثلاثة من رفاقه، وجُرح وأُسر آخرون. كان لمقتل القسَّام الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، والتي كانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك.

*اسمه وأسرته:

اسمه هو محمد عز الدين القسام، واشتهر باسم عز الدين، ولكن اسمه مركب فهو محمد عز الدين، ولذلك ترجم له الزركلي في أعلامه في حرف الميم باسم محمد عز الدين، وهكذا جاء اسمه في رسالة "النقد والبيان"، وقد جرت عادة الناس في مثل هذا التركيب أن يشهروا الاسم الثاني، ويهملوا الاسم الأول.

*والده: أما الأب: فهو عبد القادر بن مصطفى بن يوسف بن محمد القسام.

وكان الجد مصطفى وشقيقه قد قدما إلى جبلة من العراق، وهما من المُقدمين في الطريقة القادرية المنسوبة إلى الإمام عبد القادر الجيلاني، ولهذا كان أنصار الطريقة القادرية في العراق يقدمون إلى جبلة لزيارة أضرحة عبد القادر ووالده مصطفى في جبلة، فكان عز الدين يردع هؤلاء، ويحثهم على الامتناع عن الحج إلى جبلة لهذا الغرض.

*والدته: تزوج عبد القادر القسام بامرأتين: أولاهما من "قلعة المرقب" وهي "آمنة جَلّول"، فأنجب منها: أحمد ومصطفى وكاملًا وشريفًا. وثانيتهما من جبلة، وهي أم عز الدين، "حليمة قصاب أو القصاب". وقال بعضهم إنها من آل نور الله، ولعل القصاب فخذ من آل نور الله، أو نور الله فخذ من آل القصاب.

أشقاء عز الدين منها: أمين وفخري (أو فخر الدين) وفاطمة (وفي رواية: نبيهة) وكان عز الدين سادس سبعة إخوة وأشقاء، وثاني ثلاثة أشقاء.

كانت أسرة عز الدين القسام تعيش على الكفاف والصبر على الفقر، ولكنّ رصيدها من الذكر الحسن كبير،؛ فهي أسرة متديّنة، ولها حظ من العلم الشرعي، يُحبها الناس لما لها من المكانة الدينية، فمنها أقطاب الطريقة القادرية، وكان للطرق الصوفية أنصار كثيرون في ذلك الزمان، وكان آل القسام مشهورين بالعلم والصلاح، يعطون ولا يأخذون، ويكسبون قُوتَهم من عملهم ولكنّ المؤرخين اختلفوا في وصف حال عبد القادر القسام، فقالوا: إن عبد القادر القسام كان صاحب الطريقة القادرية، وقالوا: إنه رأس هذه الطريقة، والحقيقة أنه ورث الطريقة عن أبيه، وقد نقل أبوه هذه الطريقة من العراق حيث موطنه الأصلي، وقالوا: إن عبد القادر القسام عُرف بأنه كان حدّاداً، وأنه كان تقياً ورعاً ملمّاً بأصول الدين، وهذا ما جعله إمامًا لجامع سوق الحدادين في وسط بلدة جبلة. وقالوا: إنه كان يدير كُتَّابًا لتعليم الصبية تلاوة القرآن، ومبادئ الكتابة. وقالوا: إنه كان يملك حاكورة يزرعها بمساعدة أولاده. وقالوا: إنه كان يعمل في أرض الأفندي. وقالوا أيضًا: إنه كان يعمل مستنطقاً في جبلة، ويقوم بكتابة أوراق النفوس أيام الدولة العثمانية. ويمكن الجمع بين هذه الأقوال: أن هذه الأعمال والوظائف مَرَّ بها القسَّام ولم يجمع بينها، فاشتغل حدادًا في زمن، واشتغل مستنطقاً في زمن آخر، وكان يُعلّم الأولاد القرآن في بعض أوقاته، وكان يصلي بالناس في جامع السوق مختارا يقدمه الناس للإمامة إذا حضر.

*طفولة عز الدين ودراسته:

أما طفولة عز الدين فقد أمضاها في بلدة جبلة؛ إذ قرأ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة والحساب في الكتاتيب، ودرس مبادئ العلوم الشرعية على والده، وتتلمذ في جبلة في زاوية الإمام الغزالي لشيخين عُرفا بسعة العلم والمعرفة في اللغة والتفسير والحديث والفقه، وهما الشيخ سليم طيارة البيروتي الأصل، والشيخ أحمد الأروادي.

ولما آنس منه أبوه رغبة في العلم أرسله إلى الأزهر.

 وبعد عودته إلى جبلة اقترن بالسيدة أمينة نعنوع من جبلة، فأنجب منها ولدًا ذكراً سماه محمد، وثلاث بنات هنّ: عائشة وميمنة وخديجة. وقد وُلد ابنه محمد في فلسطين، حيث كان عمره حين وفاة والده سبع سنوات، وبلغت ميمنة درجة عالية من الثقافة في حياة والدها.

*رحلته إلى الأزهر:

كان طلبة العلم يرتحلون في طلب العلم بعد أن تنفد المناهل العلمية في قريتهم ومحيطهم، وفي مطلع القرن 14 هـ = أواخر القرن 19م، لم يكن   في جبلة إلا الكتاتيب التي تعلم أصول القراءة والكتابة وتلاوة القرآن وحفظه، ولم تكن قرى الساحل السوري ومدنه أوفر حظاً من جبلة، ولم تعد حلقات الدرس في الجامع الأموي بدمشق في المستوى الذي يستحق الرحيل إليه، فلم يبق إلا الجامع الأزهر في القاهرة فارتحل إليه عز الدين القسام عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، سنة 1314هـ = 1896م.

clip_image002.jpg

الجامع الأزهر سنة 1906م، السنة التي تخرج فيها عز الدين القسام فيه

أما طريقه إلى الجامع الأزهر فقد جاءت فيه ثلاث روايات:

الأولى: أنه ركب قارب صيد من جزيرة أرواد إلى الإسكندرية، وانتقل من الإسكندرية إلى القاهرة برا.

  والثانية: أنه غادر متوجهًا إلى القاهرة، وكان يُرافقه أخوه فخر الدين، وعز الدين التنوخي، ورضا مسيلماني، ومصطفى مسيلماني، وذيب البيرص، وناجي أديب (ابن خالة عز الدين) ومنح غلاونجي.

 والثالثة: أنه ذهب مع أبيه عام 1896م إلى جزيرة أرواد القريبة ليسافر على أحد قوارب الصيد إلى الإسكندرية، فسافر عز الدين، وابن خالته ناجي أديب وبرفقتهم أخوه فخر الدين، وعز الدين التنوخي وبعض طلاب العلم. وتجتمع هذه الرواية مع الرواية الأولى في أنه سافر عن طريق جزيرة أرواد بقارب صيد، وتجتمع الثانية مع الثالثة في إثبات رفاق في الرحلة من أرواد إلى مصر.

هناك اتفاق بين الرواة على أن عز الدين القسام ارتحل إلى الأزهر عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، وهناك اختلاف في المدة التي أمضاها في الدراسة؛ فمنهم من قال: إنها ثماني سنوات، ومنهم من قال: إنها عشر وليس هناك إحصاء يُبين المشايخ الذين تتلمذ عليهم القسام، ولا دراسة حول المنهج الدراسي والعلوم التي درسها، أو العلوم التي كان يميل إليها وتبحّر في دراستها.

ومن المُؤكد أن القسام لم يشهد نظام مراحل الدراسة، لأن تقسيم الدراسة الأزهرية إلى مراحل دراسية كان في سنة 1911م، أي بعد مغادرة القسام الأزهر، وكانت الدراسة قبل هذا التاريخ تسير على طريقة الحلقات، دون نظام للقبول والامتحانات والشهادات، ودون التمييز بين مختلف المراحل الدراسية، ودون تحديد للمناهج. وبهذا نستطيع أن نقرر أن عز الدين القسام نال شهادة الأزهر العالية دون أن يمر بالمراحل الدراسية: الابتدائية فالثانوية، بل اعتمدت دراسته على الجهد الحر في الدراسة، وكان الانتقال من منزلة إلى أخرى بمقدار ما يستوعب من العلوم التي تؤهله للارتقاء إلى مصافّ العلماء.

وكانت العلوم الشرعية (الفقه والتفسير والحديث والأصول)، والمواد اللغوية (النحو والبلاغة)، هي مدار الدراسة الأزهرية.

وقد روى عز الدين التنوخي زميل عز الدين القسام أن المال نفد منهما وهما في مصر يدرسان في الأزهر، فاقترح القسامُ أن يُعدّ التنوخي (الهريسة أوالنمورة) وأن يقوما ببيعها، ليُوفِّرا من ربحها حاجاتهما، ويستغنيا عن سؤال ذوي اليسار من رفاقهما، فاستفظع التنوخي الأمر وقال: "ولكني أخجل ولا أستطيع المناداة"، فأجابه القسام: "أنا أصيح على بضاعتنا"، وبهذه الوسيلة تمكن الاثنان من مواصلة الدراسة. وذات يوم جاء والد التنوخي لزيارته في القاهرة، وقبل دخوله الأزهر وجد ابنه إلى جوار القسام خلف صينية الهريسة، فسأل: "ما هذا؟" فأجابه ابنه محاولًا ردَّ التهمة عن نفسه: "عز الدين علمني، وهو صاحب الفكرة"، فقال له: "حقاً لقد علمك الحياة"، وفي رواية أخرى: "لقد علمك الاعتماد على النفس، وكسب الرزق الحلال الطيب، وحفظ ماء الوجه من ذل السؤال".

*العودة إلى جبلة:

تخرج عز الدين في الأزهر سنة 1906م، وعاد إلى أهله بعد أن أمضى عشر سنوات في جوار الأزهر، نال في نهايتها الإجازة العلمية الدالة على تضلعه في العلوم الإسلامية، ويظهر من نهجه الحياتي المستقبلي أنه لم يكن جمّاعةً حافظاً فقط، وإنما كان فقيهًا في كل ما جمع من العلوم والمعارف.

وجعل عز الدين يُدرّس في "جامع إبراهيم بن أدهم" التفسير والحديث، ويلقي الخطب حاضًّا على التمسك بشعائر الإسلام والأخلاق الإسلامية.

كان المجتمع الريفي في ذلك الوقت ينقسم إلى طبقتين: طبقة الأفندية، وطبقة الفلاحين.

أما طبقة الأفندية فقد امتلكت ثلاثة أرباع الأرض، وأما طبقة الفلاحين فإنهم كانوا يعملون في الأرض التي ورثوها عن أجدادهم بما يسدّ جوعهم، وتذهب أكثر خيراتها إلى الأفندية، وقد حرص عبد القادر القسام أن يصحب ابنه عز الدين إلى قصر الأفندي ديب الذي تعمل أسرة القسام في أرضه للسلام عليه وإعلامه بالعودة، ولكن عز الدين رأى في هذا الأسلوب عكسًا للسُّنَّة؛ فالمقيم هو الذي يغشى العائد من سفره ويسلم عليه، وهذه هي سنة المسلمين وعرف الناس، ولذلك رفض الابن نصيحة أبيه، لأنه كان يريد أن يُجنّب نفسه وأباه المذلة، وأن يُصلح العُرف الخاطئ الذي سنّه الظالمون. وقد ضاق الأفندية ذرعًا بوجود عز الدين في هذا الريف الغافي على الظلم، لأنه أخذ ينبّه الغافلين ويرشد الضالين، فقد روى عبد الوهاب زيتون الجَبَلي "أن القوى الإقطاعية من أفندية الساحل السوري قد تألبت عليه، وأرادت نفيه إلى إزمير التركية للتخلص من صوته الجريء".  

وبعد أمد قصير من عودته إلى الأهل جدّد العزم على الرحلة، فتوجّه

إلى إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، وذلك ليطلع على الأساليب المُتَّبعة في الدروس المسجدية، ولم يطل مقام القسام في البلاد التركية؛ لأنه شاهد في القرى والمدن التي زارها من الجهل ما روّعه، ورأى أن الجهل هو سبب كل تخلف وفساد، فعاد إلى بلدته جبلة، وهو عازم على البداية من أول الطريق، وقرر أن يتولى تعليم الأطفال في الصباح، وتعليم الكبار في المساء، ووظف كل طاقته وإمكاناته في التعليم.

ولتحقيق هذا الهدف فتح مدرسة في جبلة سنة 1912م درَّس فيها   الأطفال واليافعين نهارا، والرجال الكبار مساءً، بعد أن كان مدرسا في مدينتي بانياس واللاذقية، كما درّس الحديث وتفسير القرآن الكريم في جامع إبراهيم بن أدهم بجبلة، ثم عُيّن موظفاً في شعبة التجنيد بجبلة، فكان بعد فراغه من عمله يعقد الحلقات الدرسية في مساجد البلد.

وعندما صار خطيبًا بـ"جامع المنصوري"وسط البلدة كان المصلون يتوافدون إلى المسجد من أحياء البلدة القريبة والبعيدة ومن القرى المجاورة، "كانوا يتوافدون لسماع هذا النمط الجديد من خطب الجمعة التي تهز المشاعر، وتعالج المشكلات اليومية، وتتناول هموم المسلمين، وتقدّم لهم الإسلام غضاً طرياً بأسلوب سهل يفهمونه"، وكان الخطباء قد تعودوا أن يُسمعوا المصلين كل خطبة كلمات الإطراء والحمد للأفندية والأغوات، أما عز الدين القسام فقد كسر العُرف لما اعتلى منبر "جامع المنصوري" فقال:

"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، "كونوا أعزة كرماء"، "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" ولا إيمان لمن رضي بالخنوع، واستكان للظلم، واستعذب العبودية للبشر".

وكان يدعو المصلين إلى محاربة الفقر والبؤس بالعمل الدؤوب واستنباط خيرات الأرض، ويدعو الناس إلى التعاون والمحبة والإيثار.

*محاربة الغزو الإيطالي لليبيا:

كانت الدول الأوروبية الاستعمارية تتسابق لبسط سيطرتها على مشرق العرب ومغربهم منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكان بينها صراع، ثم تم الاتفاق على القسمة؛ إذ عقدت اتفاقية بين إيطاليا وفرنسا تنص على أن تتخلى الأخيرة عن مطامعها في طرابلس الغرب (ليبيا)، وتطلق إيطاليا يد فرنسا في مراكش، وضمنت إيطاليا موافقة بريطانيا وروسيا على ذلك.

وفي سنة 1911م قررت إيطاليا الاستيلاء على طرابلس الغرب؛ فحاصر أسطولها مدينة طرابلس في 30/9/1911م. وعندما وصل خبر الحصار إلى مسامع أهل بلاد الشام، ثارت موجة عارمة من الغضب، كان للقسام دور بارز فيها، إذ أخذ يؤثر في جمهور الساحل السوري بغيرته وحماسته وقدرته الخطابية، ويُثير دمَ الأخوّة ويفجر العواطف الكامنة، وقد خرج القسام إلى الشوارع يقود الجماهير في جبلة واللاذقية ومدن الساحل وقراه. وعندما تمكن الجند الإيطالي من احتلال ليبيا انتقل القسام من قيادة التظاهرات الشعبية إلى قيادة حملات تجنيد الشباب باسم الجهاد، للدفاع عن شرف المسلمين ومنع نزول المذلة بهم.

تمكن عز الدين القسام من تجنيد مئات الشباب من الساحل السوري، وقادهم بنفسه، وتعهدهم بالتدريب العسكري والفكري، وقام أيضاً بحملة لجمع الأموال والمؤن الكافية للنفقة على المتطوعين وأسرهم ولمساعدة المجاهدين في ليبيا. كما اتصل القسام بالحكومة التركية العثمانية، وحصل على موافقة الباب العالي في إسطنبول بنقل المتطوعين إلى الإسكندرونة، ونقلهم بعد ذلك بالباخرة إلى ليبيا، فودّع المجاهدون أهليهم، واتجهوا إلى شاطئ الإسكندرونة، ثم انتظروا قدوم الباخرة التي تقلهم إلى ليبيا، ولكن انتظارهم قد طال، ومضى على وجودهم في الإسكندرونة مدة أربعين يوماً أو يزيد دون أن يأتيهم خبر، فرجع المجاهدون إلى مدنهم وقراهم، وبنوا مدرسة بمال التبرعات لتعليم الأميين.

وهناك رواية أخرى تقول: إن عزالدين صمم على لقاء المجاهدين في ليبيا، وأن ينقل إليهم ما استطاع جمعه من معونات مادية، وأنه انتقل سرًّا إلى الأرض الليبية، وأنه التقى المجاهد الكبير عمر المختار. 

*محاربة الاحتلال الفرنسي في سوريا:

clip_image004.jpg

صورة للقوات الفرنسية أثناء غزو الساحل السوري عام 1918م

احتل الأسطول الفرنسي اللاذقية والساحل السوري في 10\10\1918م؛ فكان عز الدين القسام أول من رفع راية مقاومة فرنسا في تلك المنطقة، وأول من حمل السلاح في وجهها، وكان من نتاج دعاياته أن اندلعت نيران الثورة في منطقة صهيون، فكان في طليعة المجاهدين، وقد قاد عز الدين القسام من أطاعه من بني قومه ومن أهل بلدته إلى جهاد الفرنسيين؛ فقد نقل عنه ابن أخيه عبد الملك القسام أنه كان يقول:

"ليس المهم أن ننتصر، المهم قبل كل شيء أن نعطي من أنفسنا الدرس للأمة والأجيال القادمة"، أي أنه كان يريد أن يضرب للناس مثلًا في الجهاد والقتال، ويرفع من معنوياتهم.

وهناك رواية تقول: إنه قبل سقوط الساحل السوري بيد القوات الفرنسية فيتشرين الأول (أكتوبر) سنة 1918م، باع عز الدين القسام بيته ليشتري بثمنه سلاحًا، وتقول الرواية أيضًا: إنه باع بيته في جبلة وانتقل إلى "الحَفَّة" مع زوجته وأولاده.

أما بيع البيت فهو ثابت سواء أكان قبل الغزو الفرنسي أم بعده، ولكنّ الانتقال إلى الحفة مرحلة سبقتها مراحل.

*مراحل الإعداد لجهاد الفرنسيين:

مرت ثورة القسام على الفرنسيين في سوريا بأربع مراحل هي:

 المرحلة الأولى: وهي التعبئة المعنوية، إذ كانت خُطب القسام ودروسه جامعة، يتلقى فيها الناس ثقافة تؤهلهم لتحمل المسؤوليات الاجتماعية والوطنية، فقد استثمر القسام المنبر في التحريض والتعبئة وحض الناس على القتال، وكان يُلقب "داعية الجهاد". وعندما قَدِمت إلى اللاذقية سنة 1919م لجنة كراين الأمريكية لاستفتاء الناس في شأن تقرير مصير البلاد السياسي واختيار دولة تكون وصية عليها، شَخِص وفد من جبلة لمقابلتها، وكان القسام من رجاله، ولما سُئل عن رأيه قال: "لا وصاية ولا حماية"، فقال رئيس اللجنة: "نعتقد أنكم لا تستطيعون إدارة أنفسكم وحماية بلادكم، وأنتم على هذه الحال من الضعف وانعدام التجربة"، فأجاب القسام: "إننا نستطيع أن نُدير أنفسنا، وليس غيرنا أقدر منا على ذلك، إذ لدينا قوة لا يملكها الآخرون"، وأخرج المصحف من جيبه وقال: "هذه قوتنا"، ثم عاد القسام وصحبه إلى جبلة، وصدورهم تمتلئ حقدًا على قوات الحلفاء، وقد أُلِّفَت في جبلة بعدئذ إدارة وَلِيَ فيها القسام القضاء الشرعي.

 المرحلة الثانية: باع بيته وشراء السلاح؛ ليكون قدوة للناس في الجهاد بالمال والنفس، ولاعتقاده أن إمام الناس يجب أن يكون أمامهم في كل ما يدعو إليه.

المرحلة الثالثة: تدريب المتطوعين على استعمال السلاح وفنون القتال، فقد لبّى نداءَه جمعٌ غفيرٌ من أهل جبلة، فأخذ يدربهم على حمل السلاح وفنون القتال عند شاطئ خليج بحري يُدعى "البحيص" جنوب جبلة.

وكان القسام ذا خبرة في استعمال السلاح لأنه التحق بالجيش العثماني عندما دعا السلطان العثماني إلى الجهاد لمحاربة الإنجليز، وللقسام خبرة أسبق من ذلك في إعداد المجاهدين وتجهيزهم عندما استجاب لنداء الحكومة العثمانية للتطوع لحرب إيطاليا في طرابلس سنة 1911م.

المرحلة الرابعة: عندما اكتشفته عيون الفرنسيين المبثوثة في كل مكان أخذوا يُضيّقون عليه ويتربصون به، فلما أوجس منهم الريبة واستشعر الكيد والغدر، رأى أن مُنازلتهم في سهول جبلة المكشوفة تتيح لجيشهم قمع ثورته، فتطلّع إلى موقع أكثر حصانة وأبقى على الكفاح المسلح، فاختار جبال صهيون ميدانًا للجهاد، فيمّم شطرها مع رجاله، واتخذ قاعدة عسكرية في قمة منيعة تقع قرب قرية "الزَّنقوقة"، وطفقوا يغيرون على المراكز العسكرية الفرنسية في الجبال وفي مشارف المدن الساحلية.

وقد كان لعصبته الجهادية أثر شديد الوقع على الفرنسيين، فحاولوا إغراءه واستمالته لوقف حركته، فأوفدوا إليه رسولًا يحمل رسالة شفوية يدعونه فيها إلى مسالمتهم والكف عن مقاومتهم، وإلى العودة إلى جبلة آمناً، ويَعِدونه بتعيينه قاضياً شرعياً في المنطقة، ولكنه رفض دعوتهم وقال لرسولهم: «عد من حيث أتيت، وقل لهؤلاء الغاصبين: إنني لن أقعد عن القتال أو ألقى الله شهيدًا"، فلما عجز الفرنسيون عن استمالته وثنيه عن الجهاد، حَكَمَ عليه الديوان العُرفي فيما كان يُسمى "دولة العلويين" بالموت غيابيًّا، وصدر منشور يضم اسم عز الدين القسام وعددًا من المجاهدين.

ومن أشهر المواقع التي خاضها القسام وجماعته "معركة بانيا" حين تمكن القسام مع ثلة من المجاهدين من القيام بغارة ليلًا على الثكنة الفرنسية، وقتل حاميتها في آذار 1920م. وردًّا على ذلك قاد الجنرال الفرنسي نيجر حملة على فلاحي القرى الساحلية، وقاموا بمذبحة في قرية بساتين الريحان بمنطقة الحفة، حيث جمعوا أهالي القرية في بيدر القرية وأمطروهم بوابل من الرصاص فقُتل مئة وسبعون شخصًا. وبعد هذه الحملات الوحشية اجتمع ما يسمى بالديوان العرفي في دولة العلويين، وأصدر حكمًا غيابيًّا بإعدام عز الدين القسام، وحمّله مسؤولية تعريض الفلاحين الآمنين لما سيلحقهم من الأذى بسبب إيوائهم القسام ورفاقه، ووضع الفرنسيون مكافأة قدرها عشرة آلاف ليرة لمن يدل على مكان القسام، أو يمسك به ويقدمه للسلطات الفرنسية.

اتبعت فرنسا أسلوب الأرض المحروقة والبيوت المهدومة؛ لإرهاب سكان الريف والمدن، ولإجبارهم على التوقف عن مد الثوار بالجنود والطعام، فضعفت الثورة ثم توقفت، لأن المجاهدين لم يجدوا الإمدادات التي كانوا يطمحون إليها من القيادة السياسية في دمشق، فانتقل عز الدين القسام إلى للدفاع عنها من الاحتلال الفرنسي، ثم غادرها بعد استيلاء الفرنسيين عليها سنة 1920م، فأقام في حيفا.

*في حيفا:

غادر القسام ورفاقه جبال صهيون، واتجهوا نحو جسر الشغور، ثم انتقلوا إلى بيروت، ثم كانت رحلة فردية للقسام إلى دمشق، ثم عاد إلى بيروت، وانتقلت الجماعة إلى صيدا على الشاطئ اللبناني بواسطة عربة يقودها حصان، ومن صيدا أقلهم قارب إلى عكا؛ فأقام فيها أياما أو شهورا، كانت استراحة المسافر، أو للتشاور في أي الأماكن أنسب للإقامة الدائمة، فوازن بين عكا وحيفا، ودرس التركيبة السكانية لكلتا البلدتين؛ فمال إلى المجتمع الحيفاوي؛ لأن حيفا كانت سوقا رائجة للعمل والعمال والتجارة، يَفِدُ إليها طلاب العمل  والتجارة من الأقاليم العربية كافة، وبخاصة الإقليم السوري؛ لأن فلسطين كانت جزءًا من سوريا.

وكان وصول القسام إلى فلسطين سنة 1920م، فيما بين شهر آب سنة 1920م وأواخر السنة نفسها.

*وظائف القسام في حيفا؛ التعليم:

بعد أشهر من قدوم عز الدين القسام إلى حيفا عمل مدرسًا في "مدرسة الإناث الإسلامية" أولًا، وفي "مدرسة البرج الإسلامية" ثانيًا، وذلك في أوائل عام 1921م أو سنة 1922م، وهاتان المدرستان تشرف عليهما "الجمعية الإسلامية" في حيفا، وكان متوسط أجره يتراوح ما بين أربعة وخمسة جنيهات. وكان القسام يُتبع هذه الوظيفة بإعطاء العمال دروسًا في القراءة والكتابة، وذكر بعضهم أن القسام أسس مدرسة لتعليم الكبار القراءة والكتابة، وكان يبُث من خلال دروسه الروحَ الجهادية في الطلاب. واستمر القسام بالتدريس في "مدرسة البرج الإسلامية" حتى عام 1925م.

clip_image006.jpg

عز الدين القسام يرتدي القفطان والعمامة الأزهرية

*الإمامة والخطابة:

تولى عز الدين القسام الخطابة في جامع الاستقلال في السنة التي تم فيها بناؤه، وهي سنة 1925م، وكانت شهرة الشيخ العلمية قد سبقت بناء المسجد، فلما تم بناؤه وجدوا القسامَ خير مَن يقوم بالخطابة في هذا المسجد. وكانت رسالة الجهاد التي هاجر القسام من أجلها تشغل تفكيره، ويبحث عن الوسائل التي تحقق له هذا الهدف، فكان جامع الاستقلال منبره لإيصال هذه الرسالة إلى الجمهور، فامتلك الشيخ أداة فعالة استخدمها استخدامًا ناجحًا لتحقيق خطته لإيجاد حركة جهادية، واستطاع بما أوتي من المواهب أن يجعل "جامع الاستقلال" جامع المدينة الأول، يؤمّه المصلون من قرى قضاء حيفا؛ لأن أخبار خطبته الأسبوعية كانت تتناقلها الرُّكبان، وتجري بعضُ جمله مجرى الأمثال.

أعلن القسام في مسجد الاستقلال أن الإنجليز هم رأس البلاء والداء، ويجب توجيه الإمكانات كلها لحربهم وطردهم من فلسطين، قبل أن يتمكنوا من تحقيق وعدهم لليهود (وعد بلفور)، حيث جعلوه من أهداف الانتداب البريطاني في فلسطين؛ بل هو هدفهم الأول. وحذر عز الدين القسام المصلين في إحدى خطب الجمعة سنة 1927م من التساهل مع الهجرة اليهودية التي تحتل البلاد.

وفي مسجد الاستقلال أخذ يُنبّه عزة الإيمان في نفوس المسلمين، وأن الولاية والطاعة لا تكونان إلا لحاكم مسلم، فكان يردد دائمًاً الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، ويُسهب في شرح (وأولي الأمر منكم)؛ بأن أولي الأمر هم المسلمون الذين يُقرّون بالتوحيد؛ أما الإنجليز فلا طاعة لهم على المسلمين، وكان الإنجليز يبثون على لسان القاديانية، ومركزها حيفا، أن الدولة البريطانية وليّةُ أمر المسلمين ولها عليهم حق الطاعة.

ودعا القسام المسلمين إلى التمرد، وحرّضهم على ألا يسمعوا للعساكر البريطانية، ففي أواخر سنة 1934م سأل القسام المصلين من على المنبر: "هل أنتم مسلمون؟" وأجاب: "لا أعتقد"، وسكت قليلًا، ثم تابع كلامه قائلًا: "لأنه لو كنتم مؤمنين لكانت لكم عزة المؤمن، فإذا خرجتم من هذا المسجد وناداكم جندي بريطاني فلا تطيعوا نداءه". واتجه القسام إلى توعية الشعب بالشرور المُحدقة بهم، وكان يُكثر من قوله بأن اليهود ينتظرون الفرصة لإفناء شعب فلسطين والسيطرة على البلاد وتأسيس دولتهم.

ومن باب التحريض على الجهاد دعا القسام إلى توجيه اقتصاد البلد إلى شراء الأسلحة، وأنكر في هذا السبيل سياسة "المجلس الإسلامي الأعلى" في تزيين المساجد وبناء الفنادق، وقال:

"يجب أن تتحول الجواهر والزينة في المساجد إلى أسلحة، فإذا خسرتم أرضكم فإن الزينة لن تنفعكم وهي على الجدران". ودعا مرة إلى تأجيل فريضة الحج، وتحويل نفقاته إلى شراء الأسلحة.

clip_image008.jpg

صورة ورقة الإجابة التي تقدم بها عز الدين القسام لامتحان المحكمة الشرعية بحيفا الخاص بالمتقدمين لوظيفة (مأذون أنكحة)، وهي بخط يده

وفي سنة 1929م، عُلم أن اليهود يأتمرون للهجوم على "جامع الاستقلال"، فطلب وجوهُ المسلمين في حيفا من السلطات البريطانية أن ترسل قوة لحراسة المسجد من الهجوم المدبَّر، فثار القسام على هذا الاقتراح، وقال من خطاب ألقاه بهذه المناسبة: "إن جوامعنا يحميها المؤمنون منا، إن دمنا هو الذي يحمي مساجدنا لا دم الآخرين"، ووصف الطلب بالجُبن، وعدّه دليلاً على الخضوع والذل، فكان يرفض أي حوار أو معاهدة مع الإنجليز ويقول: "من جرّب المجرَّب فهو خائن"، ولما دعته السلطات للتحقيق في كلامه لم ينكره، فعندما أُوقف أعلنت المدينة الإضراب، فاضطرت السلطات البريطانية إلى إخراجه من السجن، وتجنبت حكومة الانتداب اعتقاله فيما بعد. ويُروى أنه في إحدى خطبه، كان يخبئ سلاحا تحت ثيابه فرفعه وقال: "من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقتن مثل هذا"، فأُخِذ مباشرة إلى السجن، وتظاهر الناس لإخراجه وأضربوا إضرابًاً عامًّا.

وهكذا استطاع القسام في العشر سنوات التي أمضاها في "جامع الاستقلال" أن يجعل الناس مستعدين لتلبية نداء الجهاد، وصارت الكلمات الجهادية من خطبه على لسان الجمهور، ومن ذلك قوله: "المجاهد رائد قومه، والرائد لا يكذب أهله"، وقوله: "الجهاد رفيقه الحرمان"، ويقصد بالحرمان: الصبر على المشقة.

وكان شعار القسام وتلاميذه: "هذا جهاد، نصر أو استشهاد".

*وظيفة المأذون الشرعي:

حصل عز الدين القسام على وظيفة المأذون الشرعي أو مأذون الأنكحة بعد اختبار فاز فيه على أربعة عشر متنافساً سنة 1929م أو 1930م، ولم يكن القسام يريد الوظيفة لذاتها، وإنما أرادها وسيلة مشروعة للاتصال بالناس في بيوتهم، وفي القرى المحيطة بمدينة حيفا، حيث استطاع القسام أن يعالج كثيراً من القضايا الاجتماعية المتعلقة بالنكاح والطلاق، والتي تعد من ركائز بناء المجتمع القوي المتماسك".

وقد وصف أحمد الشقيري حال عز الدين القسام قائلاً: "كنت على معرفة وطيدة بالشيخ عز الدين القسام، عرفته تقيًّا ورعًاً، خطيبًا دينيًّا صالحًا، واجتمعت به في مؤتمرات "جمعيات الشبان المسلمين" في حيفا وغيرها، ولم يكن يدور في خلَدي أو في خلد غيري، حتى من أصدقائه المقربين، أن هذا الشيخَ المُعممَ إمامَ الجامع كان يُهيئ نفسه لقيادة ثورة مسلحة ضد السلطات البريطانية مباشرة".

وقال المؤرخ أمين سعيد "كان القسام بعيدًا عن الشهرة والإعلان عن النفس، فكان في حيفا كما كان في جبلة وفي جبال اللاذقية وفي كل مكان نزله، كان عنواناً للأخلاق الإسلامية، ومثالًا كاملًا للمسلم الحقيقي، الذي تذوَّق لذة الإسلام، واستنار بنور الإيمان واليقين، فما عُرف عنه ما يريبه أو يُدنّس سمعته، أو يدل على انشغاله بالسفاسف والزخارف، فأحرز مرتبة رفيعة، ونال مقاماً ممتازًا".

وكتب الصحفي عبد الغني الكرمي عن مناقب القسام ومآثره فقال: "عرفته بعد أن أثقلت كاهله السِّنُون، وأربى على الستين، ولكن مجالدة الدهر ومقارعة الحوادث وصروف الزمان ما ألانت له قناة، وما أذلت له جناحًا لأحد، وما زادته إلا ورعاً وتقوى ... كان يمشي مطأطئ الرأس من خشية الله، وكان يتكلم في هدوء وتواضع واتزان، سمة العالم الواثق من نفسه، المؤمن برسالته، الحريص على تقوى الله وبث التعاليم الدينية الصحيحة بين الناس، وما سمعتُه على طول صلتي به لا يحبّ الإصغاء إلى لهو الكلام والمهاترة والاستغابة، فإذا أمعن المتحدثون في هذا الضرب من القول رفع رأسه وقال: "استغفروا الله أيها الناس"، وانصرف عنهم."

العُصبة القسامية؛ مراحل تكوين العصبة:*

clip_image010.jpg

"هذا جهاد نصر أو استشهاد" شعار القسام والعصبة القسامية

مرت العصبة القسامية الجهادية بعدة مراحل:

فقد كانت في المرحلة الأولى فكرةً تُلحّ على القسام منذ هاجر إلى حيفا سنة 1920م، ولم تكن هذه الفكرة وليدة حيفا دار الهجرة، وإنما كانت موجودة منذ بدأ القسام حياته العملية بعد عودته من الأزهر، وعندما انتقل القسام إلى فلسطين بدأ يَدرس البيئة الجديدة التي سينشر فيها دعوته، فتعرّف على الناس وقضاياهم ومشكلاتهم، ودرس الخطط اليهودية والبريطانية لسلخ فلسطين عن بلاد المسلمين.

وكانت المرحلة الثانية هي:

مرحلة الإعداد النفسي للشعب، ونشر روح الجهاد، وبناء القاعدة التي يستطيع أن يرفع تنظيمه عليها، وينتقي منها عناصره المنظمة، وقد ساعده على ذلك ما يملكه من علم وفهم في طبائع الرجال، وقدرة خطابية مؤثرة، وقد بدأت هذه المرحلة منذ تولي شؤون مسجد الاستقلال في حيفا، وفي أثناء عمله في جمعيات الشبان المسلمين، إذ أصبح القسام رئيسًا لجمعية الشبان المسلمين عام 1926م.

وأما المرحلة الثالثة فهي:

مرحلة اختيار عناصر التنظيم، وهي مرحلة مختلطة بالمرحلة السابقة، وفي هذه المرحلة اعتمد القسام على العمل السري لبناء تنظيمه بعيداً عن مراقبة السلطات البريطانية والعصابات اليهودية، ولذلك كان لا يبوح بسر التنظيم إلا لأشخاص قلائل جداً، بعد أن يدرس شخصياتهم وأحوالهم النفسية دراسة كافية. ولاعتماده على السرية التامة والحذر الشديد في اختيار الأعضاء، سار التنظيم بطيئاً، وكان من أهداف البطء في بناء التنظيم وضع الأعضاء المختارين في مرحلة اختبار، وزيادة شحن للنفوس بمعاني الجهاد، وأن يتجهوا إلى تقويم أنفسهم عن طريق العبادة ومجاهدة النفس. وأما المرحلة الرابعة فقد كانت تتمثل بالإعداد العسكري بالتدريب على أدوات الحرب المتاحة، والمرحلة الخامسة كانت مرحلة التطبيق العملي السري بتنفيذ عمليات جهادية فردية.

وأما المرحلة الرابعة والأخيرة فهي مرحلة القرار الذي اتخذه القسام بالخروج إلى الجهاد.

قال محمد عزة دروزة تحت عنوان (الحلقات الجهادية وحركة الشهيد القسام):

"وكانت حيفا مركزًا هامًّا من مراكز العمال العرب، الذين كان كثير منهم من مُشرّدي مُزارعي القرى التي بيعت لليهود وأُجْلوا عنها ... وكان لهؤلاء العمال حَيّ خاص مساكنه من التنك والخشب، فأخذ يظهر من هذه الطبقة رجال جهاد منذ سنة 1930م حيث أخذت تقع غزوات جهادية على اليهود ومستعمراتهم في قضاء حيفا، فُهمَ فيما بعد أنها من جمعيات أو حلقات جهادية متدينة وسريّة محكمة التشكيل، كل فرد منها يُجهّز نفسه بنفسه، ويقومون بأعمالهم باسم الجهاد، ولم تستطع السلطات أن تكتشف أسرار هذه الجمعيات، أو تحول دون غزواتها، مع ما بذلته من جهد واعتقال بعض أعضائها".

*طريقة اختيار أعضاء العصبة:

clip_image012.jpg

قمع المظاهرات عقب ثورة البراق سنة 1929م

كان القسام يختار أعضاء التنظيم السري مستخدمًا منهجًا جديدًا، يعتمد على السّرّيّة والدقة والحذر الشديد في اختيار الأنصار، فليس كل من أبدى حماساً للجهاد صالحاً للانضمام إلى عضوية التنظيم، فكان القسام يصر على صفات وأخلاق في الرجل تؤهله أن يكون في هذا التنظيم المحاط بالأعداء، وكانت أولى خطوات اختيار الرجل تبدأ من خلال التقاء القسام بالمصلين في مسجد الاستقلال، وبعد صلاة الجمعة، وفي دروس ما بعد العصر؛ إذ كان القسام يتفرَّس في وجوه المصلين، ويدرس شخصيات المتأثرين بدروسه وخطبه، فيزورهم في بيوتهم لمزيد من المعرفة والملاحظة، ويدعوهم لزيارته في منزله وتتكرر الزيارات، ويدور الحديث في كل زيارة حول الجهاد، إلى أن يؤمن الرجل بوجوب العمل لإنقاذ فلسطين، فإذا اطمأن القسام إلى صاحبه، أدخله في حلقة سرية، لا يزيد عدد أفرادها عن خمسة، وكان لكل حلقة نقيب يتولى القيادة والتوجيه.

ولتنظيم أبناء القرى اتبع القسام مبدأ زيارة القرى، وبخاصة القرى التي يسكنها أصدقاؤه في أقضية حيفا والناصرة وجنين، وإذا كان أحد أفراد التنظيم قرويًّا يسكن حيفا؛ فإن القسام يطلب منه العودة إلى قريته، ليُمَهِّد له عند مختار القرية، ويدعوه لزيارته، وعندما يزور القرية يحرص على التقاء أهلها في درس ديني بعد صلاة العصر، أو مجلس ذكر بعد صلاة المغرب، ومن خلال هذه اللقاءات يتعرف على أكثر الناس تدينًا، وكان يجتمع سرًّا مع من يرى فيهم الحَمِيّة وحُب الجهاد، ومع دوام الوعظ والملاحظة والتأهيل والتعليم يتم تشكيل حلقات جديدة.

ولم تكن تتاح العضوية لأحد إلا بعد مدة من التجربة والمراقبة، ولا يشترط أن تكون التجربة في عمل تقوم به جماعة القسام، فقد تكون التجربة من خلال عمل فدائي يقوم به الرجل في مقاومة الإنجليز واليهود.

ففي ثورة البراق سنة 1929م شارك آلاف من مسلمي فلسطين، وبرز منهم قادة مُخلصون، فتوجهت أنظار جماعة القسام إلى هؤلاء لجذبهم إلى التنظيم السري.

وفتح القسام المجال أمام فئات المجتمع كافة: الغني والفقير، والمتعلم والأمي، والشباب والشيوخ، ولكنّ أكثر أنصاره الذين قبلوا دعوته هم أولئك الذين لم تغرّهم المناصب الحكومية، والذين ذاقوا مرارة مؤامرات الإنجليز واليهود بإخراجهم من ديارهم وأرضهم، ولذلك فإن الكثيرين من أفراد تنظيم القسام كانوا من الفقراء ومن العمال ومن غير المثقفين في المدارس والجامعات. وكان القسام قد أبدى اهتماماً بالمحتاجين والفقراء، فعمل على تحسين أحوالهم المعيشية، وأخذ يكافح الأمية في صفوفهم بالدراسة الليلية واهتم أيضًا بإصلاح المُنحرفين، وكان يُؤمن "أن جُرأة السارق أو القاتل، من المُمكن أن تتحول إلى شجاعة وجهاد إذا تاب إلى الله تعالى، وآمن بالجهاد في سبيل الله"، ومثال ذلك قصة حسن الباير الذي اعترف للشرطة البريطانية بعد أسره إثر "معركة يعبد" فقال:

"أنا من قرية "برقين - قضاء جنين"، وكنت من قبل أسرق وأرتكب المُحرّمات، فجاءني المرحوم عز الدين القسام، وأخذ يهديني ويعلمني الصلاة، وينهاني عن مخالفة الشرع الشريف وأوامر الله، وقبل مدة أخذني المرحوم الشيخ عز الدين إلى أحد جبال برقين، وهناك أعطاني بندقية، فسألته: "لم هذه؟"، فأجاب: "لأجل أن تتمرن عليها، وتُجاهد مع إخوانك في سبيل الله".

وبعد جهود ثلاث سنوات استطاع القسام تكوين اثنتي عشرة حلقة جهادية تعمل كل واحدة مُنفصلة عن الأخرى، وتتكون كل خلية من خمسة أفراد، أكثرهم من عمال البناء والسكك الحديدية، وعمال الميناء، والباعة المتجولين. ثم زاد عدد أفراد الخلية في أوائل الثلاثينات، فأصبحت تضم تسعة أفراد.

*بدء مرحلة القتال:

كان بدء المرحلة الجادة في التسلح والتدريب في أواخر عام 1928م،عندما خطا اليهود خطوة جريئة حيث تجاوزوا المباح لهم عند حائط البراق، وتداعوا من كل أنحاء فلسطين، وتدفقوا إلى الزيارة آلافًا مؤلفة بين مظاهر الحماس والزهوّ، فأثار هذا المسلمين، وتداعوا إلى حراسة المسجد الأقصى والدفاع عنه، مما دفع جماعة القسام إلى الانتقال من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الإعداد العسكري المسلح، ويذكر أبو إبراهيم الكبير أنه في عام 1928م إثر ازدياد التهديد اليهودي: "طلبنا من الشيخ أن ينتقل من مرحلة الكلام إلى العمل، وطلبنا أن نتسلح ونتدرب، فاشترينا بندقية، وأحضرنا مدربًا كان اسمه محمد أبو العيون، وكانت تبدأ الجلسة بأن يُلقي الشيخ دروسَه، ثم تحوَّلت دروس الشيخ من دروس دينية إلى تحريض على الجهاد، وكان المدرب يقوم آخر الجلسة بتدريب الموجودين على البندقية واحدًا واحدا".

clip_image014.jpg

استجاب الشيخ راشد الخزاعي أمير حاكمية جبل عجلون لنداء القسام، وأمدّه بالحماية والمال والسلاح.

ثم جاءت ثورة البراق عام 1929م لتعجّل بالتحضير العسكري، والانتقال من المرحلة السرية إلى المرحلة العلنية، فأخذ القسام يتولى تدريب المجاهدين بنفسه، وكان يخرج ليلاً يُدرب الأعضاء على الأسلحة، ويوجههم إلى أساليب الكفاح المسلح. ويصف حسن شبلاق (عضو الهيئة المسؤولة عن الحجّارة في أراضي الكبابير بجبل الكرمل وأحد الذين تدربوا على يد القسام) الخطواتِ كالتالي: "كنا نجتمع قبل الخروج إلى جبل الكرمل في واحد من الجوامع الثلاثة: الاستقلال والجامع الكبير (الجرينة) والجامع الصغير، وكان الخروج عادةً على مستوى الحظيرة، ثلاثة أشخاص يعرف بعضهم بعضاً، والحُجة القانونية التي كنا نتسلح بها في خروجنا وجودُ المحاجر، فلي محجرٌ هناك مثلاً، ومعظم الحجّارة السبعمئة كانوا من القساميين، وكان القسام يخرج مع كل حظيرة، ويُعلّمها فكَّ وتركيبَ البندقية وتنظيفَها وكيفيةَ استخدامها".

وكان القسام حازمًا في تدريب المجاهدين، قال أحد القساميين: "كان يأخذنا لدروس التدريب وإطلاق النار، ويطلب منا أن نمشي حُفاةً، وعندما كنا نتدرب في الجبال كان يجعلنا ننام في العراء في جو بارد، وكان يطلب منا السير دون حمل طعام أو ماء، حتى نستطيع تحمل الجوع والعطش، وكان يطلب منا أن ننام مرة أو مرتين في الأسبوع على الحصير بغطاء خفيف، وكان يصرّ دائماً على سرية أنشطتنا، ولذلك كنا نواجه متاعب في بيوتنا مع زوجاتنا وعائلاتنا، لأننا لا نستطيع شرح وتوضيح لماذا ننام بهذه الطريقة، وكان علينا أن نحتمل هذا، لأننا تعاهدنا على تنفيذ هذه الأوامر".

طلب عز الدين القسام العون ممن حوله وقام بالاتصال بكُل الملوك والأُمراء والزعامات العربية في ذلك الوقت، حيث اتصل بالملك فيصل في سوريا طلبًا لِمُؤازرته في ثورته، فوعده ولم يُثمر وعده عن شيء، واتصل بالحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر وطلب منه أن يُهيئ الثورة في منطقته، فأجابه بأنه يرى أن تُحل قضية فلسطين بالطرق السلمية عن طريق المُفاوضات.

 فما أجابه ولبَّى نداءه بالدعم والعون إلا الأمير راشد بن خُزاعي الفريحات، وهو أمير وزعيم عربي أردني (1850 - 1957م)، وقد اشتُهر الأمير راشد الخزاعي بِمُناهضته للانتداب البريطاني في بلاد الشام ودعمه للثورتين الفلسطينية والليبية، كما عُرف عنه معارضته وثورته علنًا ضد النظام الملكي الأردني منذ قدوم عائلة الشريف حُسين بن علي الهاشمي، والملك عبد الله الأول بن حسين والملك إلى إمارة شرق الأردن، كما وقف الأمير راشد الخزاعي -بوضوح وبقوة- مع جهود الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود  في توحيد الجزيرة العربية.

نهض الأمير راشد الخزاعي ليمد القسام ورجاله بالمال والسلاح والمأمن، ووقف إلى جانبه في ثورته، ويُذكر أن عز الدين القسام لجأ مرة إلى جبال عجلون مع عدد من الثوار، وكانوا في حماية الأمير راشد، وقد تواصل القسام مع الأمير من شرق الأردن للمؤازرة وليهيئ الثورة ضد الانتداب البريطاني وأعوانه في شرق الأردن، وقد قدم الأمير الخزاعي إمداداً مباشراً وقوياً للقسام بالمال والسلاح، فضلاً عن توفير الحماية للثوار الفلسطينيين في جبال عجلون الحصينة من فترة لأخرى، الأمر الذي استدعى من الأمير راشد وقبيلته ومعظم عشائر الشمال الأردني للمواجهة مباشرة مع النظام الأردني، وخاصة مع الملك عبد الله الأول بن حسين والانتداب البريطاني الذي حاول تصفية الأمير الخزاعي بقصف مواقعه، وقتل كثير من الثوار الأردنيين الموالين للخزاعي في ذلك الوقت، مما اضطره بعدها إلى مُغادرة الأراضي الأردنية إلى السعودية عام 1937م، واندلعت على إثر لجوئه ثورة في جبال عجلون امتدت بعدها لنطاق واسع في إمارة شرقي الأردن. 

ويذكر صبحي ياسين أنه:

في يوم 12/11/1935م كانت الجمعية تملك ألف قطعة سلاح، وقاعدةَ تسليح في منطقة اللاذقية، وفي هذا اليوم اجتمعت القيادة في حيفا، ودرست الموقف العام في فلسطين، وتقرّر بدء الجهاد العلني.

*بدء الجهاد العلني سنة 1935م:

قال إبراهيم الشيخ، وهو أحد مجاهدي العُصبة القسامية، مُعلّلًا خروج القسام إلى الجهاد العلني: "في أوائل عام 1935م رأى القائد القسام أن المُستعمِر يراقب تحركاتِ القساميين مراقبة دقيقة، وكان القائد يخشى أن يَعتقل الإنجليز النُّخبة الصالحة من إخوانه، فيُفسدَ جميع مُخططات العُصبة قبل أن تظهر، وكان يرى الخروجَ إلى الجبال والطوافَ بالقرى، وحثَّ المواطنين على شراء السلاح والاستعداد للجهاد. وقد أكّد هذا الرأيَ عددٌ من أتباع القسام".

ومن أسباب خروج القسام إلى الجهاد أيضًاً: ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، واتساع مساحة الأراضي التي استولوا عليها، فقد دخل فلسطين سنة 1935م 62000 يهودي، وامتلك اليهود في العام نفسه 73000 دونم من الأراضي العربية، حتى كتب المندوب السامي البريطاني قبل نهاية سنة 1935م إلى وزارة المستعمرات يقول: "إن خُمس القرويين قد أصبحوا بالفعل دون أراضٍ يمتلكونها، كما أن عدد العُمال العاطلين في المدن آخذٌ في الازدياد".

وبعد أن حزم القسام أمره وعزم على الخروج، بدأ يتصل بأتباعه وإخوانه ويتحدث معهم في قراره إعلان الجهاد، قال عربي البدوي: "قبل الخروج، كنا لمُدة أسبوع نتباحث، ونجتمع في بيوت مُتفرقة، وأخيرًا قرَّرنا الخُروج. وكان الأمر القيادي الأول: ليتوجه كلٌّ إلى أهله، يستودعهم الله، ويُعاهدهم على اللقاء في الجنة إن شاء الله".

*آخر خُطبة للقسام، وآخر كلماته فيها:

وفي آخر خُطبة له في جامع الاستقلال، فسّر للمصلين الآية الكريمة: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.

يقول يوسف الشايب الذي استمع إلى الخطاب: إن آخر كلمات قالها القسام في خطبته:

"أيها الناس، لقد علّمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالماً بها، وعلّمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون، إلى الجهاد أيها المسلمون".

وبعد ساعة من إلقاء الخطبة، أخذت السلطة تُفتش عنه للقبض عليه ومحاكمته، ولكنه كان قد ودّع أهله وإخوانه، وحمل بندقيته، وذهب وصحبه إلى الجبال. ويؤكد يوسف الشايب أن القسام خرج بعد هذه الخطبة، وأن سيارةً كانت تنتظره خارج المسجد، وأنه لم يشاهده أحد في حيفا بعد ركوبه السيارة.

وأصح الأقوال في زمن خروجه أنه في ليلة 26 أو 27 من شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1935م.

*معركة يعبد؛ ما قبل المعركة:

غادر عز الدين القسام وصحبُه حيفا، واتجهوا نحو قضاء جنين، وكان أصحابه في انتظاره في مكان مُتفق عليه، وأما بقية المجاهدين المنظمين في الخلايا فقد تفرقوا في القرى ليكونوا دعاةً إلى الجهاد، وليكونوا القادة المُحرّكين عندما يحين وقت الإعلان والنفير العام. ويبدو أن الموعد كان في قرية "نورس" حيث ينتظرهم الشيخ فرحان السعدي.

وهناك أقاموا في مغارة في أحد جبال القرية، ثم اتجهوا نحو قرية كفر دان، وكانت الشرطة قد أعلنت عن حوافز مادية لتشجيع القرويين على الإدلاء بمعلومات عنهم، ونشرت الشرطة خبرًا يُفيد أن المجموعة المُطاردة في جبال جنين هي عصابة لصوص؛ وذلك لتضليل الناس والحصول على معلومات عن تحرّكها.

ثم انتقلت الجماعة من كفر دان إلى قرية برقين، ومنها انتقلوا إلى جبال قريتي البارد وكفر قود. 

وقد وصف عربي البدوي، وهو أحد أفراد العُصبة المرافقين للقسام، هذه المرحلة من حركة الجماعة فقال:

"أثناء النهار كنت حارسًا، وكان الشيخ وبقية المجاهدين يستريحون في مغارة، وبينما كنت أراقب أتى رجل معه عصا طويلة في رأسها قطعة حديد، وزعم أنه حارس مزروعات القرية، فأبلغت الشيخ القسام بخبره، فأمرني بتركه، وبعد بُرهة أدركت أنه جاسوس، وكان مقتنعًاً أن المُطارَدين عِصابةُ لصوص، وكان البُوليس على الجبل المقابل يتعقبنا، دون أن يعرف تحديد المكان، فأرسلوا شُرطيًّا لنشتبك معه وينكشف مخبؤنا، فأمر الشيخُ - معروفَ الحاج جابر ومحمد أبو القاسم خلف- بالذهاب إليه وأخذ سلاحه، وحين اصطدموا معه ابتدأت المعركة بينهم وبين باقي أفراد البوليس، وسمعنا صوت إطلاق النار، فهيأنا أنفسنا وتفرقنا بانتظارهم، واستُشهد أثناء المعركة محمد أبو القاسم خلف الحلحولي، واستطاع معروف جابر الانسحاب والعودة إلى حيفا".

وفي الثامن عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1935م ترك القسامُ وصحبه جبال كفر قود، واتجهوا نحو "خربة الشيخ زيد" قُرب قرية بعبد حيث الشيخ سعيد الحسان أحد أفراد عصبة القسام، وفي الطريق لاحظ عربي بدوي متابعة الجواسيس خطواتهم، فطلب من القسام أخذ قسط من الراحة لبحث مسألة الجواسيس، يقول عربي:

"كان القسام يأخذ بآرائي مع صغر سِنِّي، فأخبرت الجماعة أن هذه القرى يوجد فيها من يتعقبون آثارنا، واقترحت أن ننقسم إلى فريقين: فريق يتجه إلى الشمال، ويعود إلى حيفا والناصرة، ويقوم أثناء سيره بتخريب سكك الحديد وقطع خطوط الهاتف التابعة للإنجليز واليهود، ثم يذهبون إلى نورس حيث يوجد الشيخ فرحان السعدي، ونلتقي جميعًا في الوادي الأحمر بين نابلس والغور، وهناك تملك الجماعة حرية أكثر، وتخف ملاحقة الجواسيس، فأُعجب القسام بهذه الفكرة، وطلب من المجاهدين الانقسام إلى مجموعتين: الأولى ذهبت إلى الشمال، وهي مكونة من عشرة رجال، ويدلهم على الطريق الشيخ داود الخطاب، والثانية توجهت نحو الغرب إلى ضواحي يعبد، وهم: الشيخ عز الدين القسام، وحسن الباير، وعربي البدوي، وأحمد عبد الرحمن جابر، ومحمد يوسف، ونمر السعدي، وعطية المصري، وأسعد المفلح، ويوسف الزيباوي.

وفي الطريق نفِد الماء، وكانت أحمالنا ثقيلة، فكل رجل يحمل بندقية وستين مشط فشك وحربة صنعها القسام عند أحد الحدادين تيمنًا بسلاح الصحابة، يُضاف إليها الأغطية وأدوات السفر والطعام ...، ثم واصلنا السير حتى وصلنا خربة الشيخ زيد".

*يوم المعركة:

في اليوم التاسع عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) أصبحت تحركات الجماعة تُلاقي صعوبة شديدة، فقد وصل إلى جنين عدد كبير من رجال المخابرات والجواسيس، وانبثوا بين الناس في قرى القضاء، وكانوا يتخفون في زي عامل أو فلاح أو زبّال.

وفي اليوم نفسه وصل القسام وصحبه "خربة الشيخ زيد"، ونزلوا في بيت الشيخ سعيد الحسان حتى صبيحة الأربعاء 20/11/1935م، وهو اليوم الذي استُشهد فيه عز الدين القسام.

ويصف عربي البدوي مَشاهد من هذا اليوم فيقول:

"كان يوم أربعاء، وكنت أقف خفيرًا في طرف حرش يعبد قرب خربة الشيخ زيد والطرم، ورفاقي داخل الغابة: الشيخ عز الدين وعصبته.

ومع طلوع الشمس رأيت رجال البوليس يهجمون علينا، وهم على ظهور الخيل، ويتصايحون: "عليهم عليهم".

فأوعزتُ إلى رفاقي بأن يتوزعوا ويأخذوا أماكنهم ...، وبدأتُ أطلق الرصاص، فجعلوا يتركون الخيل ويأخذون مواقع لهم على بطونهم خلف الحجارة والرجوم من أكوام الحجارة.

وابتدأت المعركة غير متكافئة ... نحن تسعة، وهم يتوافدون عشراتٍ عشراتٍ إلى أن اكتمل عددهم، من مئتين إلى أربعمئة، ومُعظمهم يحمل شارة بندقيتين على ذراعه، وهذا يعني أنه قنّاصٌ لا يُخطئ.

مكثتُ مدةً تزيد على عشرين دقيقة وأنا أطلق الرصاص واقفًا، لا يحجبني عنهم حجرٌ أو شجر، والمسافة بيني وبينهم لا تزيد على خمسين مترًا ... وأخيرًا انتبه الشيخ رحمه الله، وصاح بأعلى صوته: "خذ الأرض، لن تموت شهيدًا إذا مت على هذه الحال، أنت منتحر إذا لم تأخذ الأرض" ... تلقينا أمرًا بالانسحاب، والتوغل داخل الغابة، وجُرح الشيخ أسعد المفلح من أم الفحم، وحاولت حمله، فناداني الشيخ: "اتركه واعتنِ بنفسك" ... وفي داخل الغابة وجدنا صخورًا تصلح للتمترس بها ...، ضيقوا علينا الخناق، وأحكموا نطاق الطوق إلا من جهة واحدة، جهة الشمال، وكانت مكشوفة، والانسحاب منها معروفة نتائجه، فقررنا المقاومة حتى مجيء الظلام".

وحين عرف القسام أن أفراد الشرطة يقتربون، أعطى للمجاهدين أمرًا بألا يُطلقوا النار على أفراد الشرطة العرب، وأن يُوجهوا رصاصهم إلى الإنجليز، وكان الضباط الإنجليز قد وضعوا الشرطة العربية في ثلاثة مواقع أمامية، وتمترس الإنجليز خلفهم، ولم تكن الشرطة العربية تعرف حقيقة الجهة التي أُحضروا إليها، وحقيقة الجماعة التي يطاردونها، فقد ادّعوا لهم بأن المطارَدين لصوصٌ يهددون أمن البلاد. واتخذت المعركة بين الطرفين شكل عراك متنقل، وساعدت كثافة الأشجار على انتقال أفراد الجماعة من موقع إلى آخر، ودامت المعركة مستمرةً من الصباح الباكر حتى وقت قُبيل العصر، وقد ثبت المجاهدون وأبوا الفرار، وكانوا يستطيعون ذلك، وبدت أمامهم فرصة للنجاة عندما ناداهم الضابط البريطاني: "استسلموا تنجوا؛ فأجاب القسام: "لن نستسلم، هذا جهاد في سبيل الله"، ثم هتف بأصحابه:

"موتوا شهداء"، فردد الجميع: "الله أكبر الله أكبر".

فقُتل في المعركة: القائد عز الدين القسام، وثلاثة من أصحابه: يوسف عبد الله الزيباوي من قرية الزيب في قضاء عكا، وعطية أحمد المصري وهو مصري جاء عاملًا إلى حيفا، وأحمد سعيد الحسان من نزلة زيد، وجُرح في المعركة: نمر السعدي من غابة شفا عمرو، وأسعد المفلح من أم الفحم. وأُسر في المعركة: حسن الباير من برقين، وحُكم عليه بالسجن 14 عامًا، وأحمد عبد الرحمن جابر من عنبتا، وحُكم عليه بالسجن 14 عامًا، وعربي البدوي من قبلان، وحُكم عليه بالسجن 14 عامًا، ومحمد يوسف من سبسطية وأما الإنجليز فقد قُتل منهم أكثر من 15 قتيلًا في المعركة.

نتائج المعركة: استُشهِد القسام في معركة يعبد، فوجدوا في ثيابه مُصحفًا وأربعة عشر جنيهًا فقط، وقد زعم بعض المؤلفين أن القسام باع بيته في حيفا قبل خروجه، ورُوي أن القسام لم يكن يمتلك بيتًا، وإنما كان يسكن بيتًا مستأجرًا، وكذلك رفيقه محمد الحنفي، مع أن القسام والحنفي قد وصلت لأيديهم آلاف الجنيهات، فكانوا ينفقونها في شراء السلاح.

نُقلت جثامين الشهداء من ساحة المعركة إلى جنين، ثم أرسلت إلى حيفا لتُسلّم إلى ذويها، واشترطت السلطات البريطانية شرطين: أولهما: أن يكون الدفن في الساعة العاشرة من صباح الغد، الخميس 21/11/1935م، وثانيهما: أن تسير الجنازة من بيت عز الدين القسام الواقع خارج البلدة إلى المقبرة في بلد الشيخ، فلا يُستطاع السير بالجثامين داخل المدينة.

وصدرت الصحافة المحلية تحمل نبأ وفاة القسام في صفحاتها الأولى، وعندما وصل النبأ إلى الناس أقفلت حيفا محالّها، وتدفقت إلى بيت القسام، وجاءت الوفود من جميع أنحاء فلسطين لتشارك في تشييع الجنازة، وأخذت المآذن تزفّ الخبر في جميع أنحاء البلاد.

وحمل الناس نعوش الشهداء الثلاثة، واتجهوا إلى جامع الجرينة (النصر) في وسط حيفا، مُخالفين شرط السلطات البريطانية، وبعد صلاة الجنازة أبّن الشيخُ يونس الخطيب قاضي مكة الأسبق القتلى بكلمة مؤثرة بين فيها "أجر الشهداء عند ربهم".

 وقالت جريدة "الجامعة العربية" بتاريخ 3/1/1936م: "يحتفل أبناء فلسطين بإحياء ذكرى مُجاهد من سورية الشمالية سقط شهيدًا في سبيل استقلال سورية الجنوبية، وليس ذلك فحسب، بل قاد حملة جهاد لعلها الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام الحديث في فلسطين، وسورية، والشرق العربي بأسره".

وقال عبد الوهاب الكيالي في كتابه "تاريخ فلسطين الحديث" مُبينا نتائج معركة يعبد: "ولقد كان لاستشهاد القسام البطولي أثر عميق في فلسطين كلها، وسَرعان ما أصبح رمزًاً للتضحية والفداء ...، وهكذا ألقت ثورة القسام ظلًّا كبيرًا على المسرح السياسي الفلسطيني، وأصبحت كل محاولة لإقامة تقارب بين الفلسطينيين والسلطات الحكومية مكتوبًا عليها الفشل، وبعد أقل من شهر من اصطدام الجيش بالقسام أصبحت دائرة التحقيقيات الجنائية تعرب عن قلقها من تطور الأحداث، وعمَّ الحقد على الحكومة قرى فلسطين كلها، وأصبح الرأي العام ينظر إلى القسام وأتباعه نظرة تقدير بالغ، ويعتبرهم أبطالًا وشُهداء".

clip_image016.jpg

صورة بلاغ حربيّ تظهر فيه أسماء فصائل المجاهدين مثل: فصيل عمر بن الخطاب، وفصيل القسام، وفصيل علي بن أبي طالب... وهذا من تأثير القسام والعُصبة القسامية

*العُصبة القسامية بعد وفاة القسام:

بعد استشهاد عز الدين القسام قامت القوات البريطانية يوم 8/ديسمبر 1935م بِدَهْمِ منزل نمر السبع رئيس بلدية قلقيلية فاعتقلته مع ابنه أحمد السبع وشقيقه عبد الرحيم السبع بحُجَّة انهم أعضاء في جماعة عز الدين القسام، كما قُدّم العديد من أصحاب القسام إلى المحكمة، فاعترفوا بحمل السلاح والاشتباك مع الإنجليز، وحكوا كل ما كان من العُصبة في أحراش يعبد، فقد كانت هذه المرحلة من الخطة القسامية أن يرى أبناء فلسطين أن هناك جهادًا وثورةً، وأن يُستفاد من منبر المحاكمة للتعبير عن اتجاه جديد يريد أن يفرض نفسه على الساحة، ويُوجّه العمل إلى اتجاه جهادي. قال أحمد الشقيري، وهو أحد المحامين الذين دافعوا عنهم، يصفهم أثناء سجنهم: "إنهم كانوا في حالة نفسية هادئة، لا يشوبهم القلق والجزع، وكانت سكينة الإيمان والتقوى ترتسم على وجوههم، وتتحكم في سلوكهم، ولم يكن فيهم ما ينبئ أنهم خرجوا من المعركة أمس، ولا حرج عليهم أن يعودوا إليها غدا".

ومما قاله الشيخ نمر السعدي أمام المحكمة: "إنني أعترف بكوني صديقًا للقسام ومن أنصاره، وأعتقد أن الشيخ عز الدين القسام على الحق في كل ما عمل، وليس على الباطل، ولم تكن له مآربُ شخصية، وإنما هو مجاهد في سبيل الله والوطن".

وقد هتفت الجماهير في المحكمة للمحكوم عليهم وهم خارجون من المحكمة فخاطبهم الشيخ أسعد المفلح قائلًا: "لا تخافوا علينا، إننا لا نخاف أحدًا إلا الله، نحن على حق، ولا تهمنا القوة ما دُمنا مُؤمنين بحقنا، والله أكبر ولله الحمد"، فرددت الجماهير: "الله أكبر، الله أكبر".

clip_image018.jpg

الشيخ فرحان السعدي، خليفة عز الدين القسام

وأحد قادة ثورة فلسطين الكبرى

*ثورة فلسطين 1936م - 1939:

ثورة فلسطين 1936م: (مقالة مفصلة)

كان لمقتل القسَّام الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، وكانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك؛ فقد حدد القسام مسؤوليات القادة من بعده، ووزَّع عليهم مناطق فلسطين، وتأخر امتداد الثورة بعد وفاة القسام بسبب مقتل عدد من القياديين في الجماعة واعتقالهم، وخلال الشهور الخمسة (بين وفاة القسام في 20/11/1935م، وبين إعلان متابعة الجهاد في نيسان (أبريل) سنة 1936م قام أتباع القسام بدراسة خطة عمل شاملة لاستمرار الثورة حتى تتحقق أهدافها، وقاموا بالانتشار في الجبال، وتنظيم الجماعات السرية في أنحاء فلسطين، وخصوصاً في الشمال، كما قام المثقفون من أتباع القسام بتحريض الشعب على الجهاد.

ومن المؤكد أن أتباع القسام لم يُلقوا السلاح بعد مقتله، بل قاموا بتنظيم أنفسهم، وأصبح القائد الخليفة هو الشيخ فرحان السعدي، وهو الذي بقيادته بدأت الثورة الكبرى (1936-1939م) عندما قامت مجموعته بقتل يهوديين وجرح ثالث في نواحي قريتي عنبتا ونورس، مما هز البلاد وأحدث جواً عاماً من التوتر، هيّأ النفوس للمشاركة في الثورة، قامت في إثرها حوادث يافا التي أدت إلى اشتباكات بين العرب واليهود. وفي إثر هذه الأحداث تشكلت اللجان القومية في مدن فلسطين وقراها، للإشراف على سير الحركة الوطنية، وأعلنت عن بدء الإضراب الشامل منذ 20\4\1936م، وامتد ستة أشهر كاملة، ثم تشكلت اللجنة العربية العليا لتكون القيادة السياسية الموحدة للعمل الوطني، ومُثلت فيها الأحزابُ كلُّها، وترأسها الحاج أمين الحسيني. 

وقد ثبت أن عُصبة القساميين كانت لها القيادة والتوجيه والتنظيم في شمال فلسطين، عندما تجددت الثورة سنة 1937م، ولها دور بارز ورئيس في قيادة منطقة لواء نابلس وتنظيمها، حيث كانت هاتان المنطقتان أشدَّ مناطق الثورة قوةً وعملاً ونشاطاً. وقد قال المؤلف "رودلف بيترز" صاحب كتاب "الجهاد في الإسلام قديما وحديثا":

"لقد تشكلت في أثناء الثورة الكبرى بفلسطين جماعات كثيرة، شنت حرب عصابات، ونجحت في شلّ الحكومة المدنية، وأخضعت مناطق واسعة من البلاد لسيطرتها، وإن كثيرًا منها كان يقودها أتباع الشيخ عز الدين القسام، وكانت تتصور النضال بمفهوم ديني بحت، إذ كانت تطلق على نضالها اسم الجهاد، وقد شابهت في عملها منظمات الجهاد المبكرة مثل السنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان، والمحمدية في الهند".

وذكر أن تنظيم القسام أثر تأثيرًا كبيرًا في الثورة الكبرى في فلسطين (1936-1939م).

وقال الأستاذ أكرم زعيتر عن الشيخ القسام:

"لقد سمعتُك قبلَ اليوم خطيبًا مُفوّهًا تتّكئ على السيف وتَهدُرُ من على المنبر، وسمعتك اليوم خطيبًا تتكئ على الأعناق ولا منبرَ تقف عليه، ولكنّك والله اليومَ أخطبُ منك حيًّا". 

*القسام في الثقافة والشعر:

clip_image020.jpg

شاهد قبر عز الدين القسام، وقد كُتبت عليه مجموعة من الأبيات في رثائه نُقشت على شاهد قبر عز الدين القسام مجموعةٌ من الأبيات هي:

هذا الشهيدُ العالِمُ المِفضالُ مَن           قد كانَ في الإرشادِ خَيرَ أمِينِ

هو شيخُنا القَسَّامُ أوَّلُ رافِعٍ           عَلَمَ الجِهادِ بِنا ؛ لِنَصر الدِّينِ

كانت   شهادته   بوقعة   يعبدٍ           في شهر شعبان بحسن يقين

و لِذا حباهُ اللهُ خَيرَ رِضائه           فَضلًا ، و مَتَّعَهُ بِحُسن العِينِ

فلئن تصفْ مَثواهُ في التاريخ قُل:       في أشرف الفِردَوس عِزُّ الدِّينِ

كما قيل في رثاء القسام الكثير من القصائد والأشعار، ومن ذلك ما قاله الشاعر فؤاد الخطيب:

أولت   عِمامتُكَ   العمائم   كلها               شرفا   تقصر عندهُ   التيجان

إن الزعامة و الطريق مخوفة               غير الزعامة والطريقُ أمان

ما كنت أحسب قبل شخصك أنه               في بردتيه   يضمها   إنسان

يا رهط عز ا لدين حسبك نعمة               في الخلد لا عنت ولا أحزان

شهداءُ بدر ، و البقيعِ   تهللت               فرحا وهش مرحبا رضوان

وأما هذه القصيدة فقد جاءت ردًّا على بيان حكومة الانتداب الذي أعلن «القضاء على عصابة من الأشقياء في أحراش يعبد»، وهي للشاعر نديم الملاح، وهي بعنوان: "سموك زورا":

ما كان ذودك عن بلادك عارا             بل كان مجداً باذخا ، وفخارا

سمّوك زورًا بالشقي ولم تكن               إلا بهم   أشقى البرية   دارا

قتلوا الفضيلة و الإباء بقتلهم               لك َ واستذلوا قومك الأحرارا

أنكرت َ باطلهم وبغيَ نفوسهم               فاسترسلوا في كيدك استكبارا

كثروا عليك َ بمأزقٍ   لو أنه               ريعَ الخميسُ به لطارَ فرارا

ورأيت كأس الموت أطيب موردا         من عيشة ملئت أذى وصغارا

خلصت إلى الديان روحَك حرة             فحباكَ منه في الجنان جوارا

clip_image022.jpg

شعار كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس

وقال الشاعر صادق عرنوس:

من شاء   فليأخذ   عن القسام           أنموذج الجندي   في الإسلام

ترك الكلام و وصفه   لِهُواته           وبضاعة الضعفاء مَحضُ كلام

أوَما ترى زعماءنا قد أتخَموا الـ         آذانَ     قولًا ؛     أيما   إتخام

تركوا العدوَّ يَعيثُ في أوطانهم         و تشاغلوا   بتراشق ،   و ترامِ

يا ليت َ عز الدين يبعث بينهم          و يكون فيهم   درسُه إلزامي

حتى   يبين لهم   سبيلُ قيادةٍ             خرجوا بها عن واجب الأحكام

ويداوي الجرح َ الذي أضناهمو           جرح الخمول بمرهم الإقدام

ما كنتُ أعرفه ولا أدري به             حتى تضوّع َ طيبه في الشام

وكذلك النفس الكبيرة ُ إن نوت             عملا ،   أسرّته   لحين تمام

وقد اختارت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) "عز الدين القسام" القسام» ليكون اسمًا لجناحها العسكري، وأعلنت كتائب القسام أن هدفها العام هو "تحرير كل فلسطين من الاحتلال الصهيوني الذي يغتصبها عنوةً منذ عام 1948م، ونيل حقوق الشعب الفلسطيني التي سلبها الاحتلال، فهي جزء من حركة ذات مشروع تحرر وطني، تعمل بكل طاقتها من أجل تعبئة وقيادة الشعب الفلسطيني وحشد موارده وقواه وإمكانياته، وتحريض وحشد واستنهاض الأمتين العربية والإسلامية في مسيرة الجهاد في سبيل الله لتحرير فلسطين".

كما أخرج المخرج السوري هيثم حقي مسلسلًا بعنوان عز الدين القسام سنة 1981م، مثّل فيه دورَ القسام الممثلُ السوري أسعد فضة.

المراجع

1- الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس الزركلي الدمشقي، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، أيار (مايو) 2002م، ج6 ص267-268

2- عز الدين القسام - موقع مقالات إسلام ويب - تصفح نسخة محفوظة 05 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.

3- عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين، محمد محمد حسن شراب، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الفصل الثاني: في جبلة من المولد إلى الهجرة، المولد والاسم والأسرة والطفولة، ص30-35

4- الوعي والثورة: دراسة في حياة وجهاد الشيخ عز الدين القسام 1882-1935م، سميح حمودة، الطبعة الثانية، 1986م، دار الشرق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الفصل الأول: القسام في سوريا، ص21- 33.

5- البطل المجاهد الشهيد الشيخ عز الدين القسام، مصباح غلاونجي، من مجلة التراث العربي الدمشقية، العددان 13-14، سنة 1984م.

6- عن كتاب (القسام) لعبد الله الطنطاوي - منشورات فلسطين المسلمة

7- عن كتاب (عز الدين القسام)، علي حسين خلف، منشورات دار الحوار، اللاذقية، ونقل المؤلف الرواية عن عدد من آل القسام.

8- عن كتاب (الشيخ عز الدين القسام)، حسني أدهم جرار، دار الضياء، عمّان، الأردن.

9- ألف يوم مع الحاج أمين، زهير مارديني.

10- موقع أخبار فلسطين \ في ذكرى استشهاده الـ 75.. نداء عز الدين القسام بالجهاد لازال صادحاً في فلسطين، بتاريخ 20\11\2010.

11- ثورات العرب في القرن العشرين، أمين سعيد، ص117

12- تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي، أدهم الجندي.

13- أربعون عامًا في الحياة العربية، ص 139.

14- جريدة الجامعة الإسلامية في 22\11\1935م.

15- جريدة فلسطين في 22\11\1935م.

16- القضية الفلسطينية، محمد عزة دروزة، 1\120.

17- تاريخ فلسطين الحديث، عبد الوهاب الكيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة العاشرة، بيروت، لبنان، الفصل السابع: ما قبل العاصفة 1930-1935.

18- أخبار فلسطين، غزة (خاص) تحت عنوان في ذكرى استشهاده الـ 75 نداء عز الدين القسام بالجهاد لازال صادحاً في فلسطين نشر في 20/11/2010 - تصفح: نسخة محفوظة 17 أبريل 2016 على موقع واي باك مشين.

19- السبيل الأردنية، عز الدين القسام وراشد الخزاعي، مقال للمؤرخ والإعلامي جمال الشواهين في يوم الجمعة 13 نيسان/أبريل 2012 - تصفح: نسخة محفوظة 28 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.

20- موسوعة الحركات الإسلامية، عز الدين القسام .. مصطلح ديني وقائد ثورة، دراسة تحليلية للمركز العربي للبحوث والدراسات، نشرت بقلم رئيس مجلس الإدارة عبد الرحيم علي في يوم الخميس 30 يناير 2014 - تصفح: نسخة محفوظة 14 مارس 2016 على موقع "واي باك مشين".

21- عز الدين القسام، الجزيرة. نت

22- الحاج نمر محمد السبع رئيس مجلس محلي قلقيلية - تصفح : نسخة محفوظة 25 سبتمبر 2017 على موقع واي باك مشين.

23- الشيخ عز الدين القسام: قائد الحركة وشهيد قضية، 1882-1935

24- الشيخ عز الدين القسَّام، شخصيات من العالم العربي - تصفح: نسخة محفوظة 22 أكتوبر 2012 على موقع واي باك مشين.

25- الشيخ محمد عز الدين بن عبد القادر القسام، مجلة صفاء الإسلام، العدد الخامس، 1430هـ - تصفح: نسخة محفوظة 15 ديسمبر 2014 على موقع واي باك مشين.

26- جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن، صالح مسعود أبو بصير، الطبعة الأولى، 1368هـ / 1968م، ص177.

27- 75 سنة على استشهاده ... هذه حكاية الشيخ عز الدين القسام مع الثقافة، ياسر علي، بيروت، مجلة العودة - تصفح: نسخة محفوظة 10 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.

28- عزّ الدين القسام في الأدب، مؤسسة فلسطين للثقافة- تصفح: نسخة محفوظة 05 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.

29- تعريف عام بكتائب القسام، الموقع الإعلامي لكتائب الشهيد عز الدين القسام - تصفح: نسخة محفوظة 6 أبريل 2020 على موقع واي باك مشين.

30- مسلسل عز الدين القسام 1981، السينما. كوم - تصفح :نسخة محفوظة 29 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.

وصلات خارجية

31- عز الدين القسام - موقع مقالات إسلام ويب.

32- عز الدين القسام .. الشيخ المجاهد - موقع قصة الإسلام.

33- شهادات حية في الذكرى الثالثة والسبعين لاستشهاد القسام - "الجزيرة. نت".

34- من هو عز الدين القسام؟ محاضرة للشيخ محمد موسى الشريف - يوتيوب

35- القسام والتجربة القسامية - "الجزيرة. نت".

--------------------------------------------------------------------

الفهرس

 

تمهيد

مولد القسام وأسرته

رحلته إلى الجامع الأزهر

العودة إلى جبلة

محاربة الغزو الإيطالي لليبيا

محاربة الاحتلال الفرنسي في سورية

مراحل الإعداد لجهاد الفرنسيين

في حيفا

وظائف القسام في حيفا

التعليم

الإمامة والخطابة

وظيفة المأذون الشرعي

العُصبة القَسَّاميَّة

مراحل تكوين العُصبة

طريقة اختيار أعضائها

بدء القتال

بدء الجهاد العلني

معركة يعبد

ما قبل المعركة

يوم المعركة

نتائج المعركة

العصبة القسامية بعد وفاة القسام

ثورة فلسطين الكبرى (1936- 1939م)

القسام في الثقافة

الفصل التاسع عشر

الشهيد عزالدين القسام .. القصة كاملة!

فهد البيضاني - صيد الفوائد، بتصرف يسير

1- كان رَبْعةً، على شيء من النحول الذي يوحي بكثير معاناة، تُحس وأنت ترنو إليه أن روحه تعمل في جسده كما يعمل السيف في غمده، امتزجت في عينيه حِدّةٌ أقرب إلى الشراسة، مع حزن عميق، دقيق، يغتسل بفرح طفولي سمح.

2- إنه القسام الذي غير مجرى التاريخ، وأشرع أبواب الأمل، وسكب في القلوب وقود الجهاد.. ولقد عثرنا لديه على قصة مختلفة.. لُحْمَتُهَا وسَداها الأمة وعزها ..قصة حافلة بالمشاق والآلام، إلا أنها أيضا مليئة بالأمل والإشراق.

3- عام 1300هـ/ 1883م وفي بلدة جبلة الساحلية كبرى مدن اللاذقية السورية ولد (محمد عزالدين بن عبد القادر بن مصطفى القسام).

4- والده "عبدالقادر" كان يعلّم القرآن والكتابة في كتَّاب يملكه، وجدّه "مصطفى" كان قد قدم من العراق وهو من المقدمين في الطريقة القادرية الصوفية.

5- تزوج عبدالقادر بامرأتين: "آمنة" وقد أنجبت له: أحمد ومصطفى وكامل وشريف.

والثانية "حليمة القصاب" وأنجبت: (بطلنا عزالدين) وأمين وفخرالدين -أو فخري- وفاطمة.

6- أسرة القسام مثل مئات الأسر التي كانت تعيش على الكفاف والرضا بما قسم الله، وكانت أسرة متدينة، يحبهم الناس ويجلّونهم لما لديهم من صلاح وعلم.

7- كان بيتهم يتكون من غرفة طويلة من الطين، مقسمة إلى 3 أقسام مفتوحة على بعضها:

واحدة للعائلة، وأخرى للمؤونة والعلف، والثالثة لنوم البقرة!

8- كان الطفل عز الدين كثير التأمل والتفكر.. في الصباح يعاون والده في العمل، وبعد العصر يذهب للكتّاب يحفظ القرآن ويتعلم مبادئ العلوم.. ثم تتلمذ على الشيخين سليم طيارة وأحمد الأروادي.

9- لما بلغ 14 سنة، ولبروزه وتفوقه، سافر للدراسة في الأزهر الذي كان في ذلك الوقت لا يزال قويا شامخا، وكان يزخر بالعلماء الراسخين، وإليه يرحل الطلاب من كل بلد.

10- في مصر حدثت له قصة تدل على عصاميته، حيث انقطع المصروف عنه وعن رفيقه "عز الدين التنوخي" فاقترح القسام أن يصنعا حلوى "الهريسة" ويبيعاها للطلاب.

11- فقال التنوخي: "أنا أخجل أن أُنادِي على بضاعتنا" فقال له القسام: "أنا أصيح على البضاعة". وبعد مدة جاء والد التنوخي لزيارته في القاهرة.

12- فرآهما والقسام ينادي على الحلوى، فسأل: "ما هذا؟". فخجل التنوخي وقال مُتنصِّلاً: "عزالدين علمني، هو صاحب الفكرة". فقال: "حقا! لقد علمك الحياة".

13- مكث القسام ما يقارب الثمان سنوات في حلقات الأزهر، ولم يقتصر على تلك الحلقات بل كان ينهل من كتب الأئمة المتقدمين، وظهر ذلك جليا في اتباعه الدقيق لمنهج السلف.

14- كان شغوفا بالقراءة، واسع الاطلاع، موسوعي المعرفة، كثير الاهتمام بالتاريخ، أما سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه فقد أولاها عناية فائقة أفادته فيما بعد.

15- كما أنه في مصر تأثر بأخبار الثورات العربية السابقة كثورة أحمد عرابي.. ورأى المحتل الإنجليزي وما يفعله في مصر حيث قد مضى على احتلاله لها 14عاما.

16- عاد القسام إلى قريته جبلة بعد نيله الإجازة العالمية وتضلعه من علوم الإسلام.. عاد ابن الـ 22 عاما ليبدأ حياة مليئة بالبذل والجهاد، وليغير مسار أمة!

17- فور عودته من مصر قام بهدم الطبقية السائدة في بلده، فقد توافد الناس للسلام عليه، لكن والده فاجأه عندما طلب منه الذهاب للأفندي - الإقطاعي الذي تعمل أسرة القسام في أرضه - ليسلم عليه، فقال في أنفة:

18- "المقيم هو الذي يأتي ليسلّم على القادم". فقال والده: "لكنه الأفندي يا

ولدي!". فطمأن والده وقال: "الأفندي لن يستطيع أذيتك بسبب قوتي بعلمي وإيماني".

19- لذا ضاق الأفندية به ذرعا فتألبوا عليه وحاولوا نفيه إلى بلدة أزمير التركية؛ للتخلص من صوته الثوري الجريء الذي صار يؤلب الناس ويوقظهم!

20- تزوج القسام من "أمينة نعنوع" فأنجبت له 3 بنات "ميمنة وعائشة وخديجة"، ثم - فيما بعد - في فلسطين أنجبت ابنه الوحيد "محمد" قبل استشهاده بـ 7 سنين.

21- حلّ الشيخ محل والده في "الكتّاب" واشتغل بتحفيظ القرآن الكريم للأطفال، وأخذ أيضاً يدرّس بعض العلوم الحديثة، ثم أصبح خطيبًا.

22- ولكي يرتقي بالتدريس والتعليم قام برحلة إلى تركيا للاطلاع على طرق التدريس في جوامعها، وعلى خطب الجمعة، ودروس ما بعد صلاتي العصر والمغرب.

23- ثم عاد فتفرغ للتدريس في المساجد والمدارس وتجمعات العُمَّال وكل مكان، للأطفال والكبار والفتيات، وكان له حلقات في الجامع يدرس فيها التفسير والحديث.

24- ووفّر كل طاقته وإمكاناته للتعليم.. وكان يزور بيوت القرية ويقنع الأهالي بضرورة تدريس أبنائهم، وقام بفتح مدرسة يدرس فيها الأطفال نهارا والكبار ليلا.

25- وكان يخطب في مسجد المنصوري بطريقة مختلفة عن الخطب التقليدية، فأصبحت القرية لا تتخلف عن صلاة الجمعة، وبدأت آثار دعوته تنتشر ويلمسها الجميع.

26- كانت خطبه تهز الوجدان وتحرك المشاعر، وتعالج المشاكل اليومية، وتتناول أحوال المسلمين، وتقدم الإسلام صافيا بعيدا عن البدع، بإسلوب سهل مفهوم.

27- كان همه الأول تخليص الدين من الشوائب وإخلاص العقيدة لله، من ذلك أنه حارب ذهاب الناس لـ (مقام الخضر) على سفوح جبل الكرمل لذبح القرابين.

28- ومنع من زيارة قبر جده ووالده من قِبل أفراد الطريقة القادرية الذين كانوا يأتون من العراق لأجل ذلك، وبيّن لهم أن شد الرحال لزيارة القبور أمر محرم.

29- وحذّر- فيما بعد - من بدع كانت في الأذان والصلاة، وأنكر على فرقتي البهائية والقاديانية اللتين كانتا في حيفا وعكا، وأنكر المشاركة في جنازة عباس البهائي.

30- لذا اتهموه بالوهابية!.. قال في كتابه (النقد والبيان): "خشينا أن يرميا مؤلفه بالنزعة الوهابية التي هي حجة العاجز لترويج الباطل وإضاعة الدين". .

31- وكان التصوف منتشرا فقاومه بعلم وحلم، وحزم أحيانا، حتى صحح عقائدهم وبصّرهم، وردهم للكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح النقي الواضح ... في ساحات الوغى ...

32- ولما قامت الحرب العالمية الأولى تطوع في الجيش العثماني لجهاد الإنجليز، فصار خبيراً في استعمال السلاح.. فقد كان مولعاً بالجهاد، كارهاً للغزاة.

33- سنة 1329هـ/ 1911م حاصر الإيطاليون طرابلس في ليبيا. ولمّا وصل الخبر غضب الناس، وثارت ثائرة القسام فخطب فيهم ودعاهم للجهاد بالمال والنفس.

34- فاستجاب له الكثيرون، فاختار منهم 250 مجاهدا، وانطلقوا عن طريق ميناء الإسكندرونة، لكنهم أُرجعوا!

فسافر القسام سرا، والتقى بالمجاهد الكبير الشيخ عمر المختار، وسلمه التبرعات.

35- بعدها بـ 5 سنوات قامت الثورة العربية (الغبية) على العثمانيين، وصار العربي المسلم يقاتل بجانب الإنجليز الذين وعدوه بإقامة مملكة عربية له!

36- فصارت القوات العربية تحتل القرى والمدن وتطرد الجندي التركي منها، ثم تأتي بعدها جيوش الحلفاء لتستلمها!

37- فلم يشارك القسام في هذا الخطأ التاريخي الذي وقع به المتحمسون من العرب، وكان يرى أن لولي أمره العثماني حق الطاعة وأنه لا يجوز الخروج عليه.. وكان العلماء يصرخون بالناس: ظلم العثمانيين خير من استعمار المشركين.

38- فوقع المحذور، وتخلص العرب من العثمانيين، لكن الأصدقاء الغربيون

نقضوا عهودهم، ونفذوا اتفاقية سايكس بيكو، وتقاسموا الكعكة العربية الشهية!!

39- كانت سوريا من نصيب فرنسا، فدخلتها عام 1337هـ/ 1918م وقسّمتها دويلات (حكومة لبنان الكبير- حكومة اللاذقية العلوية - حكومة لواء الاسكندرونة ...

40- فكان القسام - كما تذكر كتب التاريخ - أول من رفع راية المقاومة في المنطقة، وأول من حمل السلاح في وجه فرنسا، وكان من نتائج دعايته أن انطلقت الثورة في جبل صهيون في اللاذقية.

41- ونقل عنه ابن أخيه عبد المالك القسام أنه كان يقول: "ليس المهم أن ننتصر.. المهم قبل كل شيء أن نعطي من أنفسنا الدرس للأمة وللأجيال القادمة".

42 -واندلعت الثورة السورية الأولى، وكان هناك 4 مجموعات للثورة المسلحة: (مجموعة إبراهيم هنانو، ومجموعة صالح العلي، ومجموعة صبحي بركات، ومجموعة عمر البيطار).

43- وانطلق القسام يحث الناس على الجهاد، وقام بتدريبهم على السلاح، وباع بيته واشترى 24 بندقية، ثم أنشأ هو ورفاقه - منهم أخوه فخر الدين - قاعدة عسكرية بين الجبال، وصار يتعاون مع عمر البيطار.

44- ولما قدِمت لجنة "كراين" الأمريكية لاستفتاء الناس بشأن تقرير مصير البلاد واختيار دولة تكون وصية عليهم! قابلهم القسام وقال:

45- (لا وصاية ولا حماية). فقال له رئيس اللجنة: لكنكم لا تستطيعون إدارة أنفسكم، لضعف تجربتكم! فأجابه: "بل نستطيع، إن لدينا قوة لا تملكونها" وأخرج مصحفا كان في جيبه!

46- وخاض القسام ومن معه معارك أشهرها معركة "بانيا"، حيث قاموا بغارة ليلية على الثكنة الفرنسية وقتلوا حاميتها!

47- وحاولت السلطة العسكرية الفرنسية شراءه بتوليته القضاء، وأرسلوا له زوج خالته ليساومه! فرفض واستمر في طريقه.. لم يدركوا أنه كان قد باع نفسه لله واشترى جنته!

48- وفي جبال اللاذقية خاض مع الفرنسيين معارك ضارية، وكبدهم الكثير من الخسائر في الأموال والأنفس، فصاروا يرسلون لقتاله الفيلق تلو الفيلق.

49- وجعل الفرنسيون يحكمون قبضتهم على المنطقة موقعا إثر موقع.. وصار المجاهدون يتقهقرون يوما بعد يوم، ويفقدون الذخيرة والسلاح!

50- تذكر "خيرية القسام" ابنة شقيق القسام: أن الطائرات الفرنسية قصفت قريتهم، فاضطرت الأسرة للرحيل بفزع شديد، بعد أن أحرقت القذائف مكان سكناهم وأثاثهم.

51- ثم إن الأغنياء والوجهاء الذين كانوا يؤازرونهم أخذوا ينفضّون من حولهم ويعلنون ولاءَهم للفرنسيين، ولاسيما بعد استشهاد البيطار وكثير معه!

52- أيقن القسام أنه مهدد بالتطويق، فاتجه برجاله إلى حلب، وانضم إلى إبراهيم هنانو فجاهد معه حتى انقض الفرنسيون على حركته، وبسطوا نفوذهم على سوريا.

53- وحكم الفرنسيون على المجاهدين الذين أفلتوا من أيديهم بالإعدام، وفي مقدمتهم القسام، ووضعوا مكافأة عشرة آلاف ليرة مكافأة لمن يمسك به أو يدل عليه!

54- عندها غادر القسام إلى دمشق ونزل عند صديقه القديم عزالدين التنوخي صاحبه في الأزهر. وهناك كان له شرف المشاركة في معركة ميسلون التي قتل فيها البطل يوسف العظمة.

55- أما خبر الثلاثة الآخرين: - صبحي بركات: خان الثورة وألقى سلاحه مؤمنا بالحل السلمي!

- إبراهيم هنانو: خاض سبعة وعشرين معركة دون هزيمة، ودوخ الفرنسيين ثم غُدر به.

56- صالح العلي: رغم أنه علوي إلا أنه صدق في ثورته، وقويت شوكته.. ثم تخلى عنه "الشريف فيصل" وقلّ سلاحه وتفرق أنصاره فهزم.

57 -يلاحظ أن هذه المجموعات الثلاث كان لها تحالفات خارجية إما مع "كمال أتاتورك" أو"الشريف"، فلما قطعوا الدعم عنهم هُزموا، وبعضهم كان يتلاعب بهم!

58- فالشريف فيصل خان حليفه صالح العلي، وكمال أتاتورك تخلى عن إبراهيم هنانو، وصبحي بركات أقنعوه بترك الثورة!! فأخذ القسام من ذلك دروسا وعبرا.

59- جاهد القسام في سوريا ما يزيد على السنة، فكانت هذه الفترة بتنوع تجاربها وتحالفاتها؛ مدرسة تربى فيها واستفاد منها كثيرا فيما بعد..

60- وعرف خلالها كيف يمكن لفلاحين وبسطاء أن يواجهوا جيوشًا مدربة أحدث تدريب، يتحدونها بإرادتهم الصلبة، وعقيدتهم الراسخة، وثقتهم بالله سبحانه!

... إلى فلسطين الجريحة ...

61- بعد الحكم عليه بالإعدام، وبعد تشتت المجاهدين، قرر القسام مغادرة سوريا إلى فلسطين، فخرج عام 1338هـ/ 1920م إلى حيفا.

62- خرج القسام إلى حيفا يرافقه 6 من شباب سوريا المجاهد: أحمد إدريس، والحاج علي عبيد، ومحمد الحنفي، وخالد الصالح، وظافر وعبد المالك القسام ابنا أخيه مصطفى.

63- وحيفا ميناء ذو خليج بحري هام، ومما يميزها بعدها عن نفوذ العائلات الكبرى وصراعها الذي أضر كثيرًا بمسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية وأعاق اتحادها.

64- كما تتميز بأنها كانت سوقا رائجة للعمل، يفد إليها العمال والتجار من الأقاليم العربية كافة، خاصة الإقليم السوري لأن فلسطين كانت تابعة له.

65- كما كانت حيفا قاعدة من قواعد التهويد، ومركزا لسلطات الانتداب البريطاني، ومنطلقا لأسطوله، وقد نصب فيها المدافع وبنى القلاع ومخازن الأسلحة!

66- وصل الشيخ القسام ورفاقه إلى حيفا عصر يوم جمعة، وصلّوا المغرب في جامع الجرينة، وقام القسام بعدها بإلقاء كلمة لفتت أنظار المصلين وأَسَرَتهم بروعتها!

67- في صلاة العشاء قدموه ليصلي فبكى وأبكى وأخذ الخشوع منهم كل مأخذ، ثم أقبلوا إليه يصافحونه ويدعونه إلى بيوتهم، لكن قيّم المسجد فاز بضيافته وأصحابه.

68- ثمّ نزل الشيخ القسام ضيفًا عند قريبه الحاج أمين نور الله، الذي كانت له علاقة مع أعضاء الجمعية الإسلامية في حيفا، ثمّ سكن في بيت الحاج عبد الواحد.

69- ثم بعد فترة لحقت به زوجته وبناته، حيث نقلهم سائق من بيروت أدخل أسماءهم في جواز سفره. فاستأجر لأسرته بيتا في الحي القديم مع الفلاحين النازحين. فلم يملك بيتا حتى استشهد.

70- ثم لحق به أخوه فخر الدين لكنه لم يشاركه الثورة رغم أزهريته.. ولحقت به أمه وعاشت لحظات استشهاده.. أما والده فقد مات قبل خروجه إلى فلسطين.

71- بعد شهرين عاد رفيقه خالد الصالح إلى سوريا فقبض عليه الفرنسيون وأعدموه بطريقة بشعة؛ حيث جمعوا سكان القرى ثم سكبوا الكاز عليه فأحرقوه حيا!!

72- وصل الشيخ عز الدين القسام إلى حيفا وقد شارف على الأربعين من عمره، وفي جعبته تجارب تربوية وجهادية كثيرة، وخبرة في قيادة الجمهور وفي أساليب الدعوة.

73- وفي حيفا صادف فراغا كبيرا ينتظر من يملؤه، فأقبل الناس عليه، وألقوا مقاليد أمورهم إليه، خاصة أن مجتمع حيفا شبيه بمجتمع جبلة، وله الظروف نفسها.

74- ترك القسام بلده المحتل، ونفر إلى فلسطين إدراكا منه بأنها جوهر الجهاد وأهم مواقعه، وأنه على أرضها يتحدد مصير الصراع الطويل بين الإسلام والغرب!

75- وكانت رؤية القسام للخطر الصهيوني على فلسطين تنبع من ثقافة عميقة تدرك أبعاد المشروع الصهيوني مبكرًا بفضل قراءاته عن ذلك، ومنها ما كان ينشره رشيد رضا في مجلته المنار.

76- كما أدرك مبكرا عبثية الوسائل السلمية في مقاومتها بعد تجربته مع الفرنسيين، فكان القسام حازماً وواضحاً أن الجهاد في سبيل الله هو وحده الحل لوقف أطماع اليهود.

77- رأته ابنته "ميمنة" يوما متحمسا يردد أناشيد الجهاد فخشيت عليه ولاطفته قائلة: "إن الطرق السلمية هي خير طريق يمكن أن يسلكه شعب أعزل كشعبنا، لأن القوة يجب إن تجابهها قوة مثلها، ونحن لا قوة لدينا ولا مال، فالحسن أن نسعى إلى حقنا بالطرق السلمية". فصرخ بها قائلا: "اصمتي يا ميمنة"!.. كانت رؤية واضحة جلية.

79- اتخذ القسام مسجد الاستقلال منطلقا، حيث استوطن فقراء الفلاحين الفلسطينيين الذين نزحوا من قراهم المغتصبة وصاروا يسكنون عشش الصفيح المتهالكة!

80- كان يتقرب إلى الفقراء كثيرا، ويكثر من مجالستهم، وحدث مرة أن هزئ منه كبار التجار في حيفا لكثرة مجالسته فقراء "بوابة عكا" ورفضه الجلوس معهم!

ومرة بحث عنه أحدهم فوجده يأكل مع "عامل الحمّام" الذي دعاه للإفطار!

81- كان لكلام الشيخ بين الشباب تأثير كبير، وكان يتأقلم مع البسطاء ويجد لغة مشتركة معهم، كذلك نجح بالتغلغل في أوساط النشطين من القوميين وأثّر فيهم.

82- كان تخطيطه طويل المدى، فأخذ يعلم الفلاحين والشباب، ويحارب الأمية المنتشرة بينهم، حتى أنه فتح فصولا -"صفوفا"- ليلية لمن ينشغل منهم في النهار بأعماله.

83- وفطن لطبقة الشباب المثقف الذين يجتمعون في "جمعية الشبان المسلمين" فانضم إليها ثم صار رئيسا لها، فاستفاد من انتشارها لنشر العلم والدعوة للجهاد.

84- وواظب في الجمعية على إعطاء محاضرة مساء كل جمعة، وكان يسهر الليل في إعدادها وترتيبها.

وكان يخرج كل أسبوع مع بعض الشباب؛ للدعوة في القرى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

85- وبذل من خلال الجمعية جهدا رائعا، وأعطاها الكثير من وقته حتى أنه كان ينام أحيانا على كرسي الجمعية ولا يعود إلى البيت!.. حقا لقد باع القسام تلك الروح لله.

86- وأنشأ فروعا للجمعية في القرى فصارت مكانا مفضلا للقرويين؛ يجتمعون بها ويتناقشون بشأن عدوهم الغاصب. وأحدها كان له دور بارز في إنجاح العمليات العسكرية.

87- لم يركز القسام على الأغنياء وأصحاب الجاه - وإن كان لم يهملهم - فقد أدرك أن الجماهير الكادحة أقدر على البذل والتضحية، فتوجَّه بخطابه إليهم، وشكّل منهم فيما بعد تنظيمه المسلح.

88- وكان يقول: "إني أرجو خيراً من الفلاحين والعمال، فهم واثقون بالله مؤمنون بالجنة، وهم أقرب للتضحية وأجرأ، وهم أقوى بنية وأكثر احتمالاً للمشاق".

89- أيقن أن الفلاحين والعمال هم أكثر الفئات استعدادًا للتضحية.. وذهب أبعد من ذلك في مخالفة قادة الأحزاب النخبوية؛ فوجه خطابه للمنحرفين!

90- فأيقن أيضا أن جرأة السارق والقاتل والمنحرف قابلة للتحول إلى شجاعة حقيقية وطاقة نافعة إذا ما ارتدع هذا المنحرف عن غيه وآمن بالله وبالجهاد في سبيله.

91- فحاول هداية هؤلاء فنجح.. ومنهم (حسن الباير)، كان سارقا فاهتدى على يديه، وزوجه الشيخ ابنته، وكان عضده الأيمن. وقد طال عمره فلم يتوفى إلا يوم الأحد 14/7/1404هـ.

92- عطية المصري: أصله من مصر، كان ذا طباع سيئة، وكان يشرب الخمر بمنزله فيتشاجر مع زوجته مما يؤدي إلى إزعاج جيرانه، فذهبوا إلى الشيخ وأخبروه بحاله.

93- فجاء وسهر عندهم، وأرسل لعطية، فقضى سهرته معه، وتكررت الزيارات وتوثقت العلاقة بينهما حتى اهتدى، ثم استشهد بجانبه كما سيأتي!

94- أحمد الطيب: كان من "قبضايات" حيفا، يقضي وقته في المقاهي والخمر والتشليح، فدعاه الشيخ فاهتدى، وصار يعمل على تهريب وتخزين الأسلحة للمجاهدين!

95- نوح إبراهيم: شاعر شعبي اشتهر بأهازيجه الشعبية الحماسية، كان يتيما عند راهبة نصرانية، توثقت صلته بالقسام فاهتدى، واستشهد في الثورة الكبرى، وكان بعد وفاة القسام يرثيه كثيرا، وإذا طبع ديوانا جعل صورة الشيخ على الغلاف.

96- صار الشيخ ينشر الوعي بين الناس فأقبلوا عليه.. وكان إذا خطب أقفرت الشوارع!

وتوافد الناس حتى من القرى المجاورة للاستماع إلى خطابه البارع الصادق، الذي كانت الأمة بحاجة ماسة إليه.

97- وقد كان القسام متحدثاً لبقا، وخطيبا بارعا.. في صوته تهدج وحماسة، وفي نبراته رنينُ ألمٍ ممضّ، وفي عينية بريقٌ من بأس وقوة!

وكان كذلك حسن المعاشرة، ذا شخصية آسرة!

.. المرحلة الأولى: تهيئة الناس للجهاد..

98- وكان يحرص على الجلوس مع رفاقه بعد صلاة الفجر في حلقة صغيرة، يتحدث فيها عن فضائل الجهاد، ومكانة المجاهد، وثواب الاستشهاد في الآخرة.

99- وتولى التدريس في عدة مدارس في حيفا، فجمع بين المنهج الدراسي والتوجيه التربوي، وربط الناشئة بالصحابة والفاتحين، واستخدم المسرح لغرس الجهاد في نفوسهم، فمثلوا حطين وعين جالوت وغيرها.

100- وكان أثناء تدريسه يسأل طلابه عما يريدون أن يكونوا، فكانوا يتمنون كوظائف آبائهم، إلا واحدا قال: (أريد أن أصبح قائدا مسلما) فشجعه ولفت الأنظار إليه.

101- كان هو في نفسه قدوة تقيا نقيا، هادئا، قليل الكلام، لا يسمح بالغيبة أبدا، وإذا سمعهم يخوضون رفع رأسه وقال: "استغفروا الله أيها الناس"، ثم انصرف.

102- كان قويا شجاعا ماضي العزم، وصفه أحدهم فقال:

"هذا الرجل كانت عنده النعم نعم، واللا لديه لا"! وكان يُنكر البدع وينهى عنها، ويكتب في الصحف.

103- وأوذي لإنكاره بدع الجنائز، وألف مع القصاب كتاب (النقد والبيان) في الرد على بدعهم، فأزعجهم جدا، وحاولوا تشويه سمعته، وسعوا لمنعه من الخطابة!

104- ورفيقه كامل القصاب - لمن لا يعرفه- من رؤوس السلفيين في الشام، وكان - فيما بعد - إحدى الشخصيات التي اعتمد عليها الملك عبد العزيز رحمه الله في تأسيس إدارة المعارف بمكة.

105- ومن قرأ الكتاب اتضح له الدقة العلمية التي ارتقى لها، وتبحره في العلوم، وفهمه العميق لما يَكتب حوله، وسيسلم له بصحة وقوة ما ذهب إليه.

106- ولزيادة مساحة تأثيره صار الشيخ مأذونا يتجول بين الناس الذين قد لا يحضرون للمسجد، وصار يستغل الأعراس لبث الدعوة والتعليم والتواصل مع الناس.

107- ووظيفة المأذون حصل عليها بعد فوزه على 14منافسا، وصار بهذه الوظيفة يخدم المجتمع فيما يخص الإصلاح الأسري ومعالجة المشاكل الاجتماعية.

(وانظر صورة ورقة إجابته، وصورة غلاف كتابه:

 https://twitter.com/fh25/status/499261471251914752 )

108- وفي إحدى جولاته وقف على قطعة أرض خصبة فابتاعها وعهد بها إلى أحد أعوانه، وصار يستغل مواردها في شراء الأسلحة للمجاهدين وإعانة المحتاج منهم. كان يخطط.

109- في هذه الأثناء كان المد الصهيوني يتوسع، وكانت خطورته تزداد دون أن يتصدى له أحد، وكان الإنجليز يتولون حماية المخطط الصهيوني والتمكين له!

110- فرأى القسام ضرورة ضرب هذا الاستعمار البريطاني، وذلك في وقت كانت الزعامات والأحزاب الفلسطينية تسعى لمفاوضة بريطانيا وتتجنب مواجهتها!

111- بل كان الفلسطينيون والعرب - على رأسهم الشريف حسين - يرون أن الإنجليز ليسوا كالفرنسيين والإيطاليين، وأنهم قوم متحضرون سينشرون العلم والصناعات!

112- لقد وصلتهم أخبار وحشية الفرنسيين والإيطاليين، بينما بريطانيا تتودد لهم وتعطيهم من معسول الكلام المؤكد بأنواع المواثيق، فانخدعوا لهم، ونسوا أنهم لم يفوا بوعدهم بعد ثورتهم على الأتراك.

113- بل إن الأمر استفحل حتى أن جريدة القبلة - الصادرة بمكة والناطقة باسم الشريف - كتبت: (الإنجليز ضيوف ومن أهل الكتاب؛ فينبغي أن نُحسن استقبالهم)!

114- أما بطلنا القسام فقد آمن وأيقن بأن الثورة المسلحة هي الطريق الأوحد لإنهاء الانتداب البريطاني، والحيلولة دون قيام دولة صهيونية في فلسطين.

115- وكانت القاديانية -ومركزها حيفا - يبثون بين الناس أنه يجب طاعة الإنجليز، وأنهم صاروا ولاة أمر! فأبطل القسام ذلك، وأوضح أنه لا طاعة إلا لولي أمر مسلم، وأوجب عصيانهم.

116- ولما جاء خبرٌ أن اليهود يأتمرون للهجوم على جامع الاستقلال؛ اقترح الوجهاء أن يطلبوا من البريطانيين إرسال قوة لحراسة المسجد! فثار الشيخ وخطب قائلا:

117- (إن جوامعنا يحميها المؤمنون منا، إن دمنا هو الذي يحمي مساجدنا لا دم الآخرين)، واتهم أصحاب الاقتراح بالجبن والخور.. فأوقفته السلطات وسألته عما قال فلم ينكر منه شيئا.. وأضرب الناس حتى خرج.

118- ولقد كان أسلوب الثورة المسلحة أمرا غير مألوف للحركة الوطنية الفلسطينية، واقتصر نشاطهم على المظاهرات والمؤتمرات وإرسال البرقيات، بل منهم من سخر من دعوته للجهاد!

119- لذا كان إبراهيم طوقان يخاطبهم ساخرا:

أنتم   رجال خطابات منمقة               كما علمنا وأبطال احتجاجاتِ

أضحت فلسطين من غيظ تصيح بكم: "خلوا الطريق فلستم من رجالاتي"

120- كانت مهمة القسام صعبة.. والناس قد خنعوا للاحتلال.. فأخذ يستثير حماستهم .. كان يصرخ بهم: "أيها الرجال.. يا نساء وشباب فلسطين.. البلاد في خطر"!

121- وكان يقول: "إن الصليبية الغربية الانجليزية، والصهيونية الفاجرة اليهودية، تريد ذبحكم كما ذبحوا الهنود الحمر في أمريكا.. تريد إبادتكم".

122- وكان يقول: أيها المسلمون ألا تفهمون؟ الله فرض عليكم الجهاد ليحميكم، ويحمي أعراضكم (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) لقد ملأ اليهود بلادكم، لقد سرقوا أرضكم!

123- وكان يستثير غيرتهم: "إنهم يريدون اللعب بأمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وتحويلهن إلى خدم وسبايا". ويردد: "اعلموا أن خلاصنا فقط بأيدينا".

124- وكان يشن هجومه على السماسرة وباعة الأراضي لليهود، فأحسوا بخطره وصاروا يشكونه لدار الحكومة لعل الإنجليز أن يكفوه عنهم، لكنه مضى في طريقه.

... المرحلة الثانية: تكوين التنظيم المسلح ...

125- وهكذا استطاع القسام في العشر السنوات التي قضاها في جامع الاستقلال ومع الطلاب وبين العمال، أن يهيئهم للجهاد، وصارت كلماته الجهادية على ألسنتهم.

126- وكان شعاره وتلاميذه: (هذا جهاد نصر أو استشهاد). وكانوا يقولون لمن يأمل من الانجليز الوفاء بوعدهم بأنهم سيمكِّنون لهم: (من جرّب المجرب فعقله مخرب)؛ لأن الإنجليز خانوهم بعد ثورتهم على الأتراك.

127- ثم أخذ يأمر الناس بالتسلح علانية!.. طلب مرة من المصلين أن يقاوموا الأعداء، فقام أحد الناس وقاطعه قائلا: بماذا نقاوم ونحن لا نملك سلاحا؟ فأجاب: بقتلهم وأخذ السلاح منهم!

128- يروي أحمد السعدي - رئيس بلدية جنين - أن الشيخ في إحدى خطبه كان يخبئ سلاحًا تحت ثيابه فأخرجه وقال: "من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقتني مثل هذا"!

فأخذ للسجن، وتظاهر الناس حتى خرج.

129- كان يشتعل غضبا وثورة، وكانت كلماته تلتهب كأنها جمر أحمر!

في احدى خطبه صاح بالمصلين: "هل أنتم مؤمنون؟" فاندهشوا. فأجاب "لا اعتقد" وسكت!

130- فسرت همهمة وانشدت الانظار نحوه فقال: "لو كنتم مؤمنين لكانت

عندكم عزة المؤمن، فإذا خرجتم من هذا المسجد وناداكم جندي بريطاني فستُهرولون نحوه".

131- ويقول: رأيت شبابا يحملون مكانس لكنس الشوارع هؤلاء مدعوون لحمل البنادق، ورأيت شبابا يحملون فرشاة لمسح أحذية الأجانب، هؤلاء مدعوون لحمل المسدسات.

132- وكان رفاقه مثله.. كان كامل القصاب يدخل على تلاميذه ويطلب إخراج الكتاب، ثم يسحب مسدسه ويشير إليه قائلا: "تعلّم هذا قبل هذا" ويُشير للكتاب.

133- دعا القسام للتسلح وبدأ فيه.. بينما اقتصرت الزعامة الفلسطينية والأحزاب و"المناضلون" على ما يسمونه (الطرق المشروعة) مفاوضات، مظاهرات، مؤتمرات!

134- وكان تنظيمه سريا للغاية، يتكون من حلقات لا تزيد عن تسعة أعضاء، ولها قائد يوجهها، ولا تتاح العضوية لأحد إلا بعد مدة من التجربة والمراقبة.

135- حيث أنه كان أثناء الدروس والخطب يتفرس وجوه الحاضرين، فيزور بعضهم، ثم يدعوه لبيته ويحدثه عن الجهاد، فإن رأى فيه إقبالا ضمه إلى حلقة سرية.

136- واتسع التنظيم بعد أن طردت سلطات الانتداب البريطاني سكان 22 قرية من قرى "مرج ابن عامر" واستولت على أراضيهم! واتسع أكثر بعد ثورة البراق:

137- ففي عام 1347هـ / 1929م - أي قبل الاستشهاد بـ 7 سنين - كانت البداية الفعلية لمرحلة الإعداد العسكري المسلح.. فقد خطا اليهود خطوة جريئة!

138- حيث أنهم تداعوا للتوافد إلى حائط البراق، وتدفقوا بأعداد هائلة من أنحاء فلسطين.. فتنادى المسلمون لحراسة الأقصى واندلعت ثورة البراق!

139- ووقع شهداء، وقُدم الأبطال (فؤاد حجازي، وعطا الزير، ومحمد جمجوم) للمحاكمة فأعدموا، فخطب القسام خطبة نارية وهو متجهم الوجه دامع العينين فقال:

140- (يا أهل حيفا، ألا تعرفون فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم؟ ألم يجلسوا معكم في دروس جامع الاستقلال؟ إنهم الآن على أعواد المشانق). كانوا من طلابه!

141- وانتفض بعض قادة التنظيم يطالبون الشيخ القسام بإعلان الجهاد، لكنه رفض ذلك لعدم اكتمال الاستعدادات.. ثم أمضى سنوات أخرى في اختيار العناصر وتدريبها.

142- وبعد جهود 3 سنوات استطاع تكوين 12 حلقة جهادية، تعمل كل واحدة منفصلة عن الأخرى، غالبهم من عمال البناء، والسكة الحديدية، والباعة المتجولين!

143- ثم بلغ عدد الشباب الذين أعدهم القسام للجهاد 200، وعدد من هيأهم نفسيا وعلميا 800.

وكان عدد قادة التنظيم 9، وقادة الفروع 22. إضافة إلى آلاف المتعاطفين.

144- وحميت الاستعدادات.. وتكاثر الأتباع.. وكان شرْط الانضمام أن يشتري سلاحه الأول من ماله، لأن بذل المال إنما هو تدريب على بذل الروح لله، ومن بخل بالمال فهو بالنفس أبخل.

145- وعندما كثر الأتباع وتفرقوا في المدن والقرى رأت القيادة العامة أن توزع الأعمال على إدارات متخصصة، يتولى كل منها شأنا محددا.

فكانت كالتالي:

146- (جماعة شراء السلاح): يديرها حسن الباير ونمر السعدي.

(الاتصالات السياسية): يديرها محمود المخزومي.

(الاستخبارات والتجسس): يتولاها ناجي أبوزيد.

147- (التدريب العسكري): بإشراف "جلادات" وهو ضابط عثماني سابق، حيث أرسل القسام "حسن الباير" إلى تركيا فأتى به. وكان يدربهم أيضا محمد أبو العيون.

148- (التمويل) لجمع المال من الأعضاء والأنصار ورعاية أسر المعتقلين والشهداء. كل عضو قسامي يدفع عُشر دخله شهريا، وكثير منهم كان يبذل كل ما يملك!

149- لذا فإننا لا نبالغ إذا قلنا: لقد ربى القسام رجالا ووجههم وهذبهم حتى

أصبحوا جيلا فريدا يمكن نظمه في سلك رجالات المثل الأعلى في تاريخ جهاد المسلمين!

150- يقول أحد القساميين:

"كان الشيخ يأخذنا لدروس التدريب وإطلاق النار، ويجعلنا نمشي حفاة، وننام في الجو البارد في العراء، مع الجوع والعطش".

151- ورغم ريادة القسام ورفاقه في تشكيل منظمة مسلحة؛ إلا أن المؤرخين أجمعوا على نجاح الشيخ وجماعته في تجاوز أخطاء البدايات، وعلى دقتهم، وسريتهم الفائقة!

152- تمكن الجهاز المالي من توفير المال لشراء مئات البنادق الحربية،

وكانت الخطة تقضي ألَّا يعلن الجهاد حتى يتوفر في المخازن 1000 قطعة من السلاح.

153- وقبل بدء الجهاد العلني قام التنظيم بعدد من العمليات الفدائية الفردية آذت العدو، وكانت تدريبا عمليا، وكسرا لحاجز الخوف، وفتحا لباب الجهاد.

154- كانت أولى العمليات الفدائية: الهجوم على مغتصبة الياجور قرب حيفا ليلة 17/11/1349هـ 1931م فقتلوا ثلاثة يهود، وعادوا دون أن يتركوا أثرا!

155 -ثم توالت العمليات على كل من: مغتصبة بلغويا، مغتصبة كفارهاسيديم، مغتصبة عتليت، مغتصبة العفولة.. عمليات قوية ودقيقة وناجحة، أرعبت العدو!

156- واستمر سيل العمليات في فترات متعاقبة: قنص لضباط الإنجليز، تخريب لسكك حديدهم، هجوم على معسكرات بريطانية.. وكانت تخف عند اشتداد الطلب.

157- ثم نفذوا عملية نوعية أقضت مضجع العدو وأقلقته، وهي عملية (نهلال) ليلة 1351/8/23هـ 1932م ومغتصبة نهلال هي أكبر الرموز الصهيونية في فلسطين.

158- فقد قام أحمد الغلاييني الذي يعمل سمكريا، بصنع ألغام في معمله، ثم قام مجاهد آخر بزرع أحدها في منزل حرس المغتصبة، فانفجر وقتل اثنان وجرح آخرين.

159- وفي بعض العمليات قبضوا على المُنفذين، فلم يدلوا على القسام ورفاقه، وصبروا على السجن والتعذيب، بل حتى على الإعدام.. لقد خرَّج للأمة جيلًا مختلفًا!

160- احتار اليهود والانجليز، وحاول جواسيسهم معرفة الفاعل، لكن من دون جدوى.

غير أن خطب الشيخ الجريئة جعلتهم يستدعونه للتحقيق، ثم أطلقوه لمّا لم يجدوا أدلة كافية.

.. المرحلة الثالثة: إعلان الجهاد..

161- أوائل 1354هـ/ 1935م اضطر القسام لإعلان الجهاد قبل اكتمال الاستعدادات، لمّا أحس أن العدو يراقبه ويضيق الخناق فخشي من ضربة تقضي على مخططه.

162- كما أن الهجرة اليهودية قد ازدادت فدخل في ذلك العام 62000 يهودي! أما أقوى دوافع إعلان الجهاد والاستعجال فيه فهو ما اكتشف في ميناء يافا!

163- فقد تم - مصادفة - اكتشاف عملية تهريب ضخمة للأسلحة الحديثة مرسلة لليهود.. فقد رست في ميناء يافا سفينة تحمل 537 برميلا من الإسمنت البلجيكي.

164- وبينما العمال ينزلون البراميل سقط أحدها وانكسر. فتفاجؤوا أن الذي داخله أسلحة وليس إسمنتا! (رشاشات ومسدسات ورصاص وبنادق) بينما الإسمنت طبقة رقيقة للتمويه.

165- فانتشر الخبر المذهل بين الناس.. فغضبوا وثاروا.. وعندها قرر القسام إعلان الجهاد.. وقال: "إن لم نهاجم اليهود فإنهم سوف سيهاجموننا".

166- أما مفتي فلسطين فقد دعا الأحزاب للاجتماع، فكان غاية فعلهم أن شكلوا لجنة قابلت المندوب (السامي) وطلبت السماح لهم بالإضراب فرفض.. يا للعار!

167- قبل إعلان الجهاد قام الشيخ بجولة في عدد من المناطق لدراسة جغرافيتها، واختيار أنسبها لتكون قاعدة عسكرية، خاصة الجبلية ذات الغابات الكثيفة.

168- الثلاثاء 15/8/1354هـ 1935م اجتمع قادة التنظيم اجتماعا مطولا، ودرسوا الموقف العام في فلسطين، ثم كان أن قرروا: إعلان الجهاد في سبيل الله.

169- وخطب الشيخ آخر خطبة له فقال: "أيها الناس، لقد علمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالما بها، وعلمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون.. إلى الجهاد أيها المسلمون"... وودّع الناس فأجهشوا بالبكاء، وأقبلوا يقبلون يده.. ثم انطلق.

171- وصدر الأمر القيادي الأول: (ليتوجه كلٌ إلى أهله، يستودعهم الله، ويعاهدهم على اللقاء في الجنة)!! يا لها من لحظات!

172- وكان هو قد استلف من زوجته حليها، واشترى به سلاحا.

كما أن أصحابه كانوا قد باعوا حلي زوجاتهم وبعض أثاثهم، واشتروا بها رصاصا وبنادق.

173 -بعد ساعة من الخطبة كانت السلطات البريطانية تفتش عنه، لكنه كان قد حمل بندقيته وودع أهله وخرج وصحبه إلى الجبال.. لقد خرج ليصدّق أقواله بأفعاله.

174- وكانت الخطة هي الطواف بالقرى وحثهم على حمل السلاح، لا أن يواجهوا العدو مباشرة مع قلة العدد، لكن الله الحكيم قدر ما قدر، وهو أعلم جل وعلا.

175- ويذكر بعض المؤرخين أن القيادة القسامية قررت احتلال حيفا لمدة ثلاثة أيام بقصد إحراز مكسب عسكري يكون حافزا لقيام الشعب بثورة عامة في كل المدن.

176 -اتجه القسام وصحبه نحو منطقة جنين ذات القرى الكثيرة، ومن بينها يَعْبُد ذات الغابات الكثيفة، ولهذا اختارها، ثم إن كثيرا من أصحابه من أهلها.

177- في ذلك الحين نشرت الصحف خبرا هز العالم العربي يقول:

(إن شيخا يقال له القسام - يلبس الكوفية والعقال والبنطال الكاكي - يتدرب في غابات يعبُد يستعد للجهاد)!

178- صار القسام وأصحابه يتنقلون بين القرى يدعون للجهاد، وتفرق بقية المجاهدين في القرى الأخرى للغرض نفسه، وليحركوا الناس عندما تحين ساعة الصفر.

179- وأقام الشيخ ومن معه في مغارة بأحد الجبال.. وهناك جرت رياح القدر بما لم تشتهِ سفن القسام وأصحابه!

لقد حصل ما غير مجرى الأحداث، وعجل المواجهة التي لم تكتمل الاستعدادات لها، ولم تكن ضمن الخطة!

180- حيث إن أحد مكلفي الحراسة اجتهد اجتهادا غير مناسب، فأطلق النار على دورية رآها بالقرب منهم ظن أنها تريدهم.. فقتل الشرطي اليهودي.

181- فأثار ذلك الشكوك، وربط العدو بين غياب القسام وما حدث قرب الجبل، فكثف الدوريات الأمنية وبث الجواسيس..

فأمر القسام بالانتقال إلى قرية أخرى.

182- وأعلن البريطانيون جائزة لمن يدلي بمعلومات عن قاتل الشرطي، ونشروا للناس خبرا أن هناك عصابة لصوص في جبال جنين على من يراهم الابلاغ عنهم!

183- وبدأت القوات تتعقب مجموعة القسام دون أن تحدد موقعهم، وصدّق بعض الناس أنهم لصوص، فرآهم أحدهم فدل عليهم، فوصلت القوات واشتبكت مع المجموعة.

184- فاستشهد في المواجهة أحد المجاهدين، ثم استطاعت المجموعة الانتقال إلى جبل آخر..

لكنهم لاحظوا أن العملاء يتعقبونهم .. فقرروا أن ينقسموا إلى مجموعتين.

185- المجموعة الأولى: وعددهم عشرة، ذهبوا شمالا.

والمجموعة الثانية: وكانوا ثمانية القسام تاسعهم، واتجهوا غربا إلى قرية يَعْبُد.. كان ذلك قبل الاستشهاد بيومين.

186- وفي اليوم التالي أصبح تحركهم صعبا جدا، فقد وصل إلى جنين عدد كبير من المخابرات والجواسيس، وانتشروا مُتسترين بزي عامل أو فلاح أو زبال!

187- ووصف مراسل صحيفة "فلسطين" جنين وقراها بأنها قد تحولت إلى "ساحة حرب" لكثرة من توافد إليها من رجال الشرطة والعملاء.

188- استطاع الشيخ وصحبه الوصول لقرية" الشيخ زيد" ونزلوا عند أحد المشايخ.. ثم غادروا في صبيحة يوم الأربعاء 23/8/1354هـ - 20/11/ 1935م يوم الشهادة!

189- دخل القسام ورفاقه إلى غابة كثيفة في جبل بالقرب من قرية يَعْبُد التي سميت المعركة باسمها.. وهناك كان الشيخ وبعض رفاقه على موعد مع الشهادة.

190- استعان العدو بطائرة استطلاع حلقت فوق القرية، وحددت موقعهم.. وبينما كان أحد المجاهدين خارج الغابة للحراسة، إذا به يرى العدو يطوق الجبل!!

191- مع طلوع الشمس أغار الأعداء على ظهور الخيل وهم يتصايحون.. فتوزع المجاهدون، واتخذوا مواقع الدفاع خلف بعض الصخور.. وبدأت معركة غير متكافئة!

192- وترك العسكر الخيل وانبطحوا على بطونهم متمترسين ببعض الحجارة، وصاروا يتوافدون عشرة عشرة حتى بلغوا 200 معظمهم قناصة، بينما المجاهدون 9!

193- وُضعت الشرطة العربية في الخطوط الهجومية الثلاثة الأولى! فأصدر القسام أوامره المشددة أن لا يقتلوهم، وأن يوجهوا رصاصهم إلى الإنجليز فقط!

194- وقيل: إن الشرطة العربية لم تعلم حقيقة الجهة التي أُحضروا إليها، وحقيقة الجماعة التي يطاردونها، وقد صدّقوا أنهم لصوص يهددون أمن البلاد!

195- اتخذت المعركة شكل عراك متنقل، وساعدت كثافة الأشجار على ذلك، وترك العدو جهة واحدة ليخرجوا منها فيحصدوهم، لكنهم تنبهوا لهذه المكيدة.

196- وحمي الوطيس، وكان العدو لا يعرف عدد المجاهدين فظن أنه يحارب جيشًا كبيرًا لما لاقاه من مقاومة شديدة، وكان الرصاص يصم الآذان!

197- وثبت الأبطال.. وبدأ القتل في الأعداء.. واستطاع المجاهدون أن يسقطوا 15 بريطانيا، إلا أن البلاغ الرسمي لم يعترف سوى بمقتل ثلاثة!

198- استمرت المعركة حتى قبيل العصر، واستشهد أحد المجاهدين، وجرح آخرون، وضاق الخناق على البقية، وكان سبيل النجاة هو الاستسلام لكن الرجال ثبتوا.

199- ونادى الضابط البريطاني: استسلموا تنجوا.

فصاح القسام: (لن نستسلم، هذا جهاد في سبيل الله). ثم قال لرفاقه: موتوا شهداء خير من الاستسلام للكفرة.

200- وكان الإنجليز يريدون القسام حيا؛ لأنهم يعلمون أن استشهاد قائد ثائر سيؤجج نفوس أمّته، وسيصبح مشعلا يضيء طريقهم، وقدوة دائمة لشبابهم!

201- وقاتل الشيخ ذو الـ 54 عاما قتال الأبطال.. وكان يناوب في قتاله بين البندقية والمسدس.. في الوقت التي كانت شفتاه تلهجان بالدعاء..

202- كان يدعو الله بالنصر، فمنحه الكريم أعظم نصر، كان يرجو من الله الفوز، فرزقه سبحانه أعظم فوز!

رزقه الشهادة في سبيل الله.. أعطاه ما كان يرجوه ويتمناه!!

203- وأخيرا.. سقط البطل! أخيرا.. اخترقت رصاصات الغدر ذلك الجسد الطاهر فمزقته! أخيرا.. استطاعت الكلاب المتكاثرة والثعالب الماكرة أن تقضي على الليث!

204- استشهد القسام فوجدوا في ثيابه مصحفا، و14جنيها.

أما الأسرة والأطفال والوالدة المقعدة فقد تركهم لله، وهو سبحانه خير حافظا وهو أرحم الراحمين.

205- استشهد القائد عزالدين القسام، وسقط بجانبه اثنان من رفاقه (عطية المصري - صاحب القصة - ويوسف الزيباوي) رحمهم الله وغفر لهم وجزاهم عنا خيرا.

206- وجرح: نمر السعدي وأسعد المفلح. وأُسر: حسن الباير وأحمد جابر وعربي البدوي، وحكم عليهم بالسجن14سنة، ومحمد يوسف.

رحمهم الله ورضي عنهم وأرضاهم.

وكان شيخهم القسام يخبرهم - من قبل- عما سيلاقونه، ويؤكد لهم أن هذا الطريق محفوف بالتعب والمشقة، ومن كلماته التي حفظوها منه: "الجهاد رفيقه الحرمان".

207- بعد انتهاء المعركة تعمد قائد العدو فتسجيرالد إهانة جثة الشيخ - رحمه الله تعالى- ويقال: إنه داس على رقبته! لذا حاول المجاهدون اغتياله فيما بعد.

208 -نُقل الشهداء من ساحة المعركة إلى جنين، ثم أُرسلوا إلى حيفا فتسلمهم ذويهم، وتسلم فخر الدين أخاه الشهيد.. وصدرت الصحافة المحلية تحمل نبأ الشهداء على صفحاتها الأولى..

209- فاهتزت فلسطين للخبر المذهل، وكانت جنازته مشهودة.. واضربت حيفا إضرابا كاملا، واكتسحت نفوس الناس موجة كلها عواصف وزعازع وزفير كزفير النار!

210- وعندما وصل الخبر إلى الناس أقفلوا محالهم، وتدفقوا لبيت القسام، وأخذت المآذن تزف خبر الشهداء في جميع أنحاء البلاد..

(وهنا لابد من دمعات)

211- كتب مراسل إحدى الجرائد يصف حال أهل يافا بعد تلقيهم الخبر:

وجوه ساهمة، ونفوس حيرى، وأفئدة مضطربة، طُفت الأندية على اختلاف نزعاتها فلم أسمع إلا الثناء عليه وتعداد خصاله الطيبة.

212- وكان لمقتل الشيخ ورفاقه دوي هائل في الشام ومصر، وصُلي عليه صلاة الغائب، وبكاه ورثاه المجاهدون والعلماء والشعراء والأدباء والسياسيون.

213- وحُملت الجنائز الثلاث إلى الجامع؛ للصلاة رغم محاولة الإنجليز منع ذلك، وبعد الصلاة أَلقى الشيخ يونس الخطيب - قاضي مكة الأسبق - كلمة مؤثرة.

214- أُخرجت الجنائز بصعوبة بالغة، وكان المشيعون قد توافدوا من أنحاء فلسطين، فتحول الموكب لمظاهر هائلة.. وارتفع دوي صوتهم كالرعد القاصف ينادي: الانتقام.. الانتقام.

215- وهاجم المشيعون مقر الشرطة وحطموا سياراتهم، فأقبلت كتيبة

لمنعهم، فأنزل الناس الجنائز وهاجموهم، وألقوا الضابط جيمس وجنوده أرضا وطردوهم.

216- ورفض الشباب الثائر حمل الجنائز على سيارة، وحملوها على أكتافهم إلى المقبرة التي كانت تبعد عن البلد 5 كم.. وهناك رأوا لأول مرة شهداء يدفنون بثيابهم المخضبة بالدماء الزكية!

217- عندما شاع خبر الشيخ القسام ذُهل زعماء الوطنية لأنهم كانوا يظنون أن لا أحد في الميدان يخالف نهجهم، ولأن القسام فتح بابا للجهاد لا يستطيعون وُلوجه!

218- ولما شُيعت جنازته لم يحضروها، ما عدا قادة حزب الاستقلال، لأن القسام باستشهاده قدم دليلا على فشلهم وخطأ أساليبهم النضالية السلمية العقيمة.

219- لكن طلاب القسام أيضا لم يحضروا الجنازة!

لقد انطلقوا إلى الجبال لمواصلة مسيرة بطلهم، وانضم إليهم شباب جدد ألهب حماسهم استشهاده!

220- ظن الإنجليز أن مقتل القسام أنهى المشكلة، لكنهم لم يعلموا أنه أعد رجالا بالمئات يخلفونه من بعده.. فصَدق الشيخ في قوله: (نحن عود ثقاب لإشعال الجهاد)!

221- وكان القسام ورفاقه قد وضعوا خطة يسيرون عليها في حال استشهاده! فلم تمر 6 أشهر إلا وأشعلوا الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1355هـ/ 1936م!!

222 -اندلعت تلك الثورة يقودها تلميذه فرحان السعدي الذي ما لبث أن أُعدم وهو صائم في الـ80 من عمره! وكان القساميون هم القادة في أغلب المناطق!

223- ثم تسلم الراية المجاهد عبد القادر الحسيني فقاد الجهاد حتى استشهد عام 1367هـ/ 1948م.. إن مجرد تذكر القسام وهو مضرج بدمائه كان يستثير هممهم!

224- وبعد 53 عاما أتى المجاهد الشيخ أحمد ياسين فأنشأ حماس التي استأنفت طريق الجهاد عام 1407هـ يقودها أبطال كانوا يوم مقتل القسام في أصلاب آبائهم!

225- وكان أمام طلابه مهمة أخرى لا بد أن ينجزوها!

إنها الانتقام من الجواسيس الذي كانوا يتجسسون على القسام ورفاقه، وبعضهم كان يعذب رفاقه في السجون، خاصة العميل (أحمد نايف) والعميل (حليم بسطة).

226- فاغتالوهم وعددا آخر من العملاء.. ولمّا اغتالوا (أحمد نايف) امتنع الناس من السير في جنازته، وأغلقوا مساجدهم لئلا يصلى عليه، فدفنه الإنجليز ليلا ووضعوا حارسا لئلا يُنبش!

227- بعد استشهاد القسام بثلاثة أيام كتب أكرم زعيتر في بعض الصحف: "ليس من سبيل إلى الخلاص إلا الجهاد الدامي، وقد فتح لنا فقيدنا الباب فلنلِجنَّه، وإنا لفاعلون، إنها دعوة جديدة أخذت تظهر على ألسنة الناس لم نكن نعرفها، نفخت في الأمة روحا لم تكن تفطن لها، لقد سمعتك من قبل خطيبا، لكنك اليوم أخطب منك حيا".

229- الشاعر عبدالرحيم محمود:

حَفي اللسان وجفت الأقلام * والحالُ حالٌ والكلام كلام

هذي طريقك للحياة فلا تزغ * قد سارها من قبلك القسام

230- حسن الباش:

إيهٍ فلسطين من للنار يضرمها           حين استلذت على الأحلام أجفان

من للكلوم سوى القسام يا بلدي         من لي إذا اغتصبت بالغدر شطآن

231- عبد الكريم الكرمي:

إيهٍ رجال العرب لا كنتم رجالا في الوجود

قوموا انظروا القسام يشرق نوره فوق الصّرود

يوحي إلى الدنيا ومن فيها بأسرار الخلود

232- وتحدثت الصحف الغربية عن القسام ورفاقه، حتى أن صحيفة

الاوبزرفر اللندنية كتبت تقول: (جهاد العرب الحقيقي في سبيل التحرر، بدأ بقيام حركة القسام).

233 -وفي أول مؤتمر نسائي لفلسطين وقفت ميمنة ابنت القسام وقالت: (الحمد لله الذي شرفني باستشهاد أبي، وأعزني بموته ولم يذلني باستسلام

أمتي) وأغمي عليها أثناء ذلك!

وقد توفيت رحمها الله يوم الإثنين 10/5/1425هـ.

234- وقال حمدي الحسيني: "إن القسام عدلّ من هذه القضية ما اعوجَّ".

وقال الشيخ سليمان التاجي: "القسام نقل القضية من دور الكلام إلى دور العمل".

235- وقد وصف أحمد الشقيري - أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية - القسام وإخوانه فقال: (لم تجرِ على ألسنتهم تعابير "الكفاح المسلح" و"الحركة الوطنية"، فقد كانت تعابيرهم "الجهاد في سبيل الله"، لقد صنعهم الإيمان، فصفت نفوسهم، وتعاظمت عزائمهم، وأحسُّوا أن حبلهم مع اللّه قد أصبح موصولا).

237- وقال متعجبا: "كنت أعرفه جيدا واجتمعت به، ولم يكن يدور في خلدي أن هذا الشيخ المعمم كان يهيئ نفسه لقيادة ثورة مسلحة ضد السلطات البريطانية".

238- ويقول رشيد الحاج إبراهيم: "إنه الزعيم الشعبي الكبير، ذو الرأي النافذ والكلمة المسموعة، ومع ذلك لم يدُر في خلدي أن القسام يقود عصابة جهادية".

239- إن أصحاب هذه الكلمات الذين عاصروا القسام، كانوا يرسمون في مخيلتهم صورة بطل.. يرجون وجوده، ويتمنون خروجه.. وفجأة اكتشفوا أنه (كان) بينهم!

240- وقال جمال الحسيني: "ثورة القسام كانت ثورة علينا جميعا، إذ يقول كل واحد منا: في قلبي إيمان وإخلاص، ولكني مثقل، وورائي عائلة أخاف عليهم، لكن القسام وأصحابه خرجوا عن أعشاش فيها قطع لحم كأفراخ العصافير، ينتظر كل منها مُعيله ليضع في منقاره ما يسد به جوعه، خرجوا لإحقاق الحق".

342- ويقول الدكتور رويحة: لقد أحيا القسام وإخوانه في قلوبنا الأمل بعد أن كدنا نفقده، ليتني علمت بعصابتهم لكنت والله أول من ينضم إليهم فهذا سبيل الخلاص وحده.

243- هذا هو القسّام الذي دوخ الأعداء حيا وميتا.. والذي يحق لفلسطين بل للأمة أن تفتخر به.. وإن من العجيب الغريب أن مسؤولين في حركة

فتح عابوا على الموسوعة الفلسطينية جعلها القسام أحد موادها، لأنه سوري! والحقيقة أنهم خشوا الفضيحة إذا قورنوا به.

244- للقسام أحفاد من بناته، ولابنه محمد 4 أبناء و3 بنات. وهذا رابط لقاء مع الدكتوره/ ابتهال بنت محمد بن عز الدين القسام:

http://www.toyorps.com/vb/archive/index.php/t-253.html

245- أما بعد: حقا لقد أتعبتني أيها الشهيد، أيام طوال وأنا أعدل وأبدل في هذه التغريدات، أحاول جاهدا أن ألملم أطراف سيرتك الفريدة؛ وأنى لي ذلك!

246- ولا زلت كلما طالعت كتابا أو مقالا عن القسام تجلت لي جوانب وأخبار جديدة، فأنا بتغريداتي هذه لم أطلعكم إلا على القليل من تاريخه المدهش.

247- وهكذا هم العظماء والقادة الحقيقيون، لا نستطيع الإحاطة بسيرتهم مهما كتبنا، ليبقى الواحد منهم منبعا تنهل منه الأجيال المتعطشة، على مدار الزمن.

248- ولقد كنت - سابقا - أقرأ بعض قصص القسام وأخباره العجيبة فأظن أنها موضوعة أو مبالغ فيها، لكنني لما رجعت للكتب وجدتها مسندة موثقة متواترة!

249- انظر لكتاب حسني جرار- أحد مراجعي - وكيف يوثق معلوماته من الصحف الصادرة بعد استشهاده، أو من أهل بلده، أو من بعض رفاقه الذين لم يتوف بعضهم إلا عام 1404هـ!

250- فسلامٌ عليك شيخي عزالدين، سلامٌ عليك يا من أعز الله بك الدين.

سلام عليك يا ثقابا أشعل شموع الأمل في الأمة، ويا شهيدا أحيا الله به موات القلوب.

جمع وتلخيص: فهد بن حمد البيضاني. القصيم - محافظة النبهانية 20/ 10/ 1435هـ، صفحتي على تويتر: https://twitter.com/fh25

المقالات والتلخيصات السابقة: twitmail.com/profile/fh25

(يوسف بن تاشفين - معركة شقحب - عين جالوت - قصة حامد البلادي - حكايتي مع الكتب - لقاءاتي مع أفراخ الليبرالية - رواية القوقعة 12 سنة في سجون الأسد...).

المراجع:

1- شيخ المجاهدين في فلسطين، لمحمد حسن شراب. (وهو عمدتي؛ لامتيازه بالدقة ومناقشة الروايات والترجيح بينها)

للتحميل: http://www.waqfeya.com/search.php

2 -أعلام الجهاد في فلسطين الشيخ عزالدين القسام، لحسني أدهم جرار.

3- ثورة المجاهد عز الدين القسام وثورة الحجارة لعبد الوهاب زيتون.

4- مقالات في عدد من مواقع النت.

وهذه مادة مرئية من أجمل ما سمعت عن القسام، د. محمد موسى الشريف: http://safeshare.tv/w/nLoWCCGKxP  

والحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى.

الفصل الحادي والعشرون

الشيخ عز الدين القسام

ولد عز الدين القسام في بلدة "جبلة" التابعة لقضاء "اللاذقية" في سورية عام ١٨٨٢، نشأ في أسرة ريفية عرفت بالعلم والتقوى، أبوه الشيخ عبد القادر مصطفى القسام من المشتغلين بعلوم الشريعة الإسلامية، وأمه حليمة قصاب من عائلة علم ودين.

كان أبوه من المهتمين بنشر العلم، حيث درّس في كُتّاب القرية القرآن الكريم والعربية والخط والحساب وبث روح الجهاد بتعليم الأناشيد الدينية والحماسية، ثم عمل لفترة مستنطقاً في المحكمة الشرعية.

تعلم عز الدين في كتاب البلدة القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم، وتميز بنبوغه وتفوقه على أقرانه وامتاز بميله للتأمل وطول التفكير.

بعد تفوقه في دراسته في الكتاب، التحق عز الدين للدراسة في "الجامع الأزهر" في مصر؛ فقد كان الأزهر في ذلك الوقت منارة كبرى لنشر العلوم الإسلامية والعربية؛ فحضر دروس الشيخ محمد عبده، وارتوت نفسه من علمه وفهمه.

كما تتلمذ على معظم حلقات الأزهر، واعتكف في أروقة مكتباته، وكان يرافق اهتمامه بدروس العلم اهتمام آخر بحركات التحرر التي كان يغذيها رجال الأزهر، ففهم عز الدين أن الإسلام دين عز وقوة وتحرر وجهاد.

تعرف القسام في مصر إلى الاستعمار الغربي وجهًا لوجه، حيث كانت مصر خاضعة للاحتلال البريطاني المباشر بعد ثورة عرابي عام ١٨٨٢م، وكان فيها تيار المقاومة الإسلامي للاحتلال قويًّا، كما رأى القسام هجوم المفكرين

المتغربين على الإسلام فكراً وحضارة وتاريخاً، وعايش بنفسه الصراع الدائر بين هؤلاء وبين المفكرين الإسلاميين، كما تعرف في مصر على المشروع الصهيوني بأبعاده، وأدرك خطره على الأمة الإسلامية، وأنه وليد الاستعمار الغربي، وسمع عن تطلعات الصهاينة وأطماعهم في فلسطين. وبين مدرسة الشيخ محمد عبده ومدرسة الشيخ رشيد رضا الشامي المقيم في مصر اتضح أمام عيني الشيخ عز الدين القسام الجهاد وسيلة للدفاع عن حقوق الأمة وللعودة بها إلى سابق مجدها.

عاد القسام إلى جبلة عام ١٩٠٦م بعد أن قضى عشر سنوات في الدراسة في الأزهر، بعدها حصل على شهادة الأهلية، ومن ثم قام برحلة إلى تركيا للاطلاع على طرق التدريس في جوامعها، وبعد عودته عكف على التدريس في زاوية والده، في جامع السلطان بن أدهم قطب الزاهدين.

كما أخذ القسام دور والده في تدريس أطفال البلدة قواعد القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم، وبعض العلوم الحديثة، وتولى خطبة الجمعة في مسجد المنصوري الذي يتوسط البلدة، وغدا بخطبه ودروسه وسلوكه موضع احترام الناس، وامتدت شهرته وسمعته الحسنة إلى المناطق المجاورة فقدم الإسلام بفهمه الواسع الطلق، وربطته بكثير من المواطنين صداقات متينة، فكثر أتباعه، وعظم شأنه، وذاع صيته.

لما دخلت القوات الإيطالية طرابلس الغرب "ليبيا" عام 1911م، قاد القسام

مظاهرة طافت شوارع جبلة تأييدًا للمسلمين هناك، ودعا الناس إلى التطوع لقتال الطليان، وجَمع التبرعات للأسر المنكوبة، إلا أن السلطات التركية منعته ورفاقه المتطوعين من السفر إلى ليبيا، فعادوا بعد أربعين يومًا من الانتظار، وبنوا مدرسة بمال المتبرعين لتعليم الأمّيين.

وعندما دخلت القوات الفرنسية سورية عام ١٩٢٠، رفع القسام راية المقاومة ضد المستعمرين الفرنسيين في الساحل الشمالي لسورية، وكان في طليعة المجاهدين الذين حملوا السلاح في الثورة (1919- 1920م) 

 مع المرحوم عمر البيطار، فقد ترك قريته على الساحل، وباع بيته ـ وهو كل ما يملك ـ واشترى أربعاً وعشرين بندقية، وانتقل بأسرته إلى قرية جبلية ذات الموقع الحصين.

حاول الفرنسيون إقناع الشيخ القسام بترك الثورة والرجوع إلى بيته وإغرائه بالمناصب، إلاّ أنه رفض عرضهم، ونتيجة لإصراره على خط الجهاد حكم عليه الديوان العرفي الفرنسي في اللاذقية وعلى مجموعة من أتباعه بالإعدام، وطارده الفرنسيون فقصد دمشق ومنها إلى فلسطين.

عاش القسام ورفاقه في حيفا، ونزلت عائلاتهم في بيت واحد في الحي القديم من المدينة، وهو الحي الذي يجمع فقراء الفلاحين النازحين من قراهم بعد الاستيلاء عليها وتوطين اليهود المهاجرين إلى فلسطين.

أبدى القسام اهتمامًا حقيقيًّا بتحسين أحوال معيشة هؤلاء الفلاحين، وبدأ يكافح الأمية في صفوفهم من خلال إعطاء دروس ليلية، وسرعان ما أصبح فلاحو المنطقة الشمالية وعمالها يكنون له المودة والاحترام بفضل زياراته المتكررة لهم وبما يتسم به من أصالة في الخلق والتقوى.

عمل القسام مدرسًا في المدرسة الإسلامية بحيفا، وكان يحرص على لفت أنظار الطلاب إلى الدور المستقبلي الذي ينتظرهم في ظل وجود الاستعمار، ثم عمل إمامًاً وخطيبًا في جامع الاستقلال بموافقة من مفتي القدس وزعيم الحركة الوطنية الحاج محمد أمين الحسيني، واتجه القسام في أسلوبه إلى توعية الشعب الفلسطيني بالأخطار الماثلة أمامه، وكان يُكثر من القول:

(بأن اليهود ينتظرون الفرصة لإفناء شعب فلسطين، والسيطرة على البلد وتأسيس دولتهم).

كما كان للشيخ القسام دروس في المسجد تقام عادة بين الصلوات المفروضة، وقد جعل منها وسيلة لإعداد المجاهدين، وصقل نفوسهم، وتهيئتها للقتال، معتمدًا اختيار الكيفية دون الكمية.

عمل على تأسيس "جمعية الشبان المسلمين" عندما استفحل الخطر البريطاني في فلسطين وانتشرت الجمعيات التنصيرية التي تدعو إلى تنصير المسلمين، وقام القسام من خلال نشاطه في الجمعية بتربية جيل من الشباب المسلم، الذين أنقذهم من دائرة الانحراف والضياع بسبب قسوة الظروف الاقتصادية والسياسية، وأدخلهم في دائرة العمل الجاد لصالح الوطن ... كما أنه وثق اتصالاته بقيادات المدن الفلسطينية الأخرى، وكسب عدداً من شباب المناطق المختلفة للانضمام إلى تنظيم الجهاد. وقد واظب القسام خلال وجوده في الجمعية على إعطاء محاضرة دينية مساء كل يوم جمعة، وكان يذهب كل أسبوع بمجموعة من الأعضاء إلى القرى، ينصح ويرشد ويعود إلى مقره. وقد تمكن من إنشاء عدة فروع للجمعية في أكثر قرى اللواء الشمالي من فلسطين، وكانت الفرصة للّقاء بالقرويين وإعدادهم للدفاع عن أراضيهم.

عمل القسام مأذونًا شرعيًّا لدى محكمة حيفا الشرعية سنة ١٩٣٠م، وقد كانت هذه الوظيفة للقسام وسيلة من الوسائل التي اتصل عن طريقها بمختلف فئات المواطنين من شباب وشيوخ، وعمال وفلاحين، وطلاب وموظفين، وتجار وحرفيين، وتحدث إليهم وأقام معهم علاقات قوية كان لها أثر كبير في اتساع دائرة حركته الجهادية.

يُعَدُّ القسام صاحب دعوة مستقلة، وأسلوب متميز، وحركة جهادية رائدة سبقت جميع الاتجاهات في ميدان الجهاد المعاصر في فلسطين.

ويتلخص هذا الأسلوب:

في تربية جيل من المجاهدين؛ فكان يعقد اجتماعات سرية مكتومة في بيته، وفي بيوت بعض أصدقائه، يحضرها عدد من الأشخاص المغمورين (غير البارزين أو المعروفين في ميدان الحركة الوطنية)، وكان يختارهم من الذين يحضرون دروسه ومواعظه، ويقوم بتهيئتهم وإعدادهم للجهاد، ويكوّن منهم خلايا جهادية، تقتصر عضويتها على نفر من المؤمنين الصادقين الذين لديهم الاستعداد الكامل للتضحية والفداء.

وعندما تم إنشاء القوة المجاهدة بشكل متكامل، كانت مقسمة إلى وحدات مختلفة المهام، حيث لكل وحدة دور خاص بها تتولاه، وهذه الوحدات هي:

 الأولى: وحدة خاصة بشراء السلاح.  الثانية: وحدة خاصة للاستخبارات ومراقبة تحركات العدو البريطاني واليهودي.

 الثالثة: وحدة خاصة بالتدريب العسكري.

الرابعة: وحدة خاصة للدعاية في المساجد والمجتمعات، وأبرز أعمالها الدعوة إلى الجهاد. الخامسة: وحدة العمل الجماهيري والاتصالات السياسية. السادسة: وحدة جمع المال من الأعضاء والأنصار، ورعاية أسر المعتقلين والشهداء.

ولماّ قطعت الحركة شوطًا من الإعداد تم فيه تهيئة المقاتلين للجهاد، ابتدأ رجال القسام بتنفيذ عمليات فدائية ضد المستوطنات اليهودية عن طريق إعداد كمائن والهجوم على أفراد محددين ومستوطنات معينة، بهدف دفع اليهود في الخارج إلى وقف الهجرة إلى فلسطين.

ولم تكن أعمال القسام مهاجمة المستعمرات فحسب، وإنما قاموا بمجموعة أعمال أخرى ذكرها الأستاذ أميل الغوري في كتابه (فلسطين عبر ستين

عامًا)؛ فقال:

"أمَّا الأعمال التي قام بها القساميون فكانت من أروع ما قام به المجاهد في فلسطين، وعلى الرغم من كثرتها وتعدد أشكالها ومظاهرها، فإنها ظلت محاطة بالسرية والكتمان إلى مدى كان معه أكثر الناس يجهلون مصدر هذه الأعمال، بل كانوا لا يعرفون إطلاقاً بوجود حركة القساميين، وكان من هذه الأعمال: ملاحقة وتأديب الذين يخرجون عن الشعب ومصالحه، مثل التعاون مع الحكومة ضد الحركة الوطنية، والتجسس لحساب المخابرات البريطانية، أو بيع الأراضي لليهود أو السمسرة عليها للأعداء.

وكان من أعمال القساميين العديدة الواسعة النطاق:

التصدي لدوريات الجيش والشرطة، وقطع طرق المواصلات والإغارة على ثكنات الجيش ومراكز الشرطة، ومهاجمة حرس المستعمرات اليهودية، وزرع الألغام والمتفجرات فيها". 

وفي الوقت الذي اعتبرت فيه أعمال القسام بمثابة الروح التي سرت في أوصال الأمة، فحركت الهمم وشدت العزائم، وحفزت الناس إلى العمل، كانت الحكومة البريطانية تعلن عن مكافآت ضخمة لمن يدلي بأية معلومات عن منفذي هذه الأعمال، لأنها فعلاً ألقت الرعب في قلوب اليهود الذين رأوا ولأول مرة عملاً جديداً من حديد ونار، وهذه لم يتعود عليها اليهود في فلسطين ...

وازدادت الحكومة البريطانية واليهود ذعراً وبثوا الأرصاد، ونشروا الجواسيس في الليل والنهار، وصار الاعتقال لمجرد الشبهة. لذا أصبحت تحركات جماعة القسام تلاقي صعوبة شديدة، إذ استطاعت الشرطة الإنجليزية الحصول على معلومات بشأن عدد أفراد الجماعة وأسمائهم وأسلحتهم، نتيجة التحقيقات المكثفة التي قامت بها، وكذلك استطاعت الحصول على معلومات تساعدهم أكثر وأكثر على تحديد مكانهم.

وأخيرًا، وفي أحراش يعبد في منطقة جنين يوم ٢٠ تشرين ثاني عام ١٩٣٥م، حددت الشرطة البريطانية مكانهم وهاجمتهم بقوات عسكرية كبيرة، ودارت معركة رهيبة بين المجاهدين والشرطة، صمد فيها رجال القسام، وقاتل شيخهم قتال الأبطال، وظل يكافح حتى خر صريعًا في ميدان الجهاد شهيدًا كريمًا في سبيل إعلاء كلمة الله فوق أرض فلسطين، واستشهد معه بعض إخوانه المجاهدين، وجرح آخرون وتم أسرهم.

نقل الشهداء إلى حيفا، وتمت الصلاة عليهم في جامع الاستقلال، وشيعت جثامينهم الطاهرة بتظاهرة وطنية كبرى، نادت بسقوط الإنجليز، ورفض الوطن القومي اليهودي.

كان لاستشهاد القسام أعمق الأثر في شباب فلسطين في الثلاثينات والأربعينات، كما أصبح القسام رمزًا للتضحية والفداء، مما جعل بعض المؤرخين يَعُدُّونه بحق "شيخ ثوّار فلسطين".

*"المعجم الجامع في تراجم المعاصرين"- "المكتبة الشاملة".

هذه المعلومات أخذت بتصرف عن:

(الشيخ عزالدين القسام قائد حركة وشهيد قضية (، حسني جرّار، دار الضياء للنشر والتوزيع- عمان، طبعة أولى، ١٩٨٩م.

(موسوعة السياسة) د. عبد الوهاب الكيالي وآخرون، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، طبعة ثانية،١٩٩٠ ج٤ ص ١٠١ـ ١٠٣.

المصدر: موقع إسلام أون لاين.: www.islam-online.net

المراجع

*أولا- الكتب:

1- "الإسلام وحركات التحرر العربية". لأستاذنا المؤرخ د. شوقي أبي خليل رحمه الله، ط2؟ دار الفكر- دمشق، 1991م.

2- "الأعلام". للزركلي، ط15، دار العلم للملايين - بيروت، 2002م.

3- "الأعلام الشرقية في المئة الرابعة عشرة الهجرية". لزكي محمد مجاهد، ط2، دار الغرب الإسلامي - بيروت، 1994م.

4- "تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي". للأستاذ أدهم آل جندي، ط 1، مطبعة الاتحاد - دمشق، 1960م.

5- "الشيخ عز الدين القسام: قائد حركة وشهيد قضية". للأستاذ حسني أدهم جرار، ط1، دار الضياء - عَمَّان، 1410هـ - 1989م.

6- "عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين". للأستاذ محمد محمد حسن شراب، "سلسلة أعلام المسلمين" رقم (77)، ط1، دار القلم - دمشق، 1421هـ - 2000م.

7- "معجم البلدان". لياقوت الحموي ت 626هـ، ط1؟ دار صادر- بيروت، 1397هـ - 1977م.

8- "المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري". لنخبة مؤلفين سوريين، ط1، المؤسسة العسكرية - دمشق، 1992م.

9- "معجم متن اللغة". للشيخ أحمد رضا العاملي ت 1953م، ط 1، مكتبة دار الحياة - بيروت، 1958م.

10- "معجم المؤلفين السوريين في القرن العشرين". لعبد القادر عياش ت 1974م، ط1، دار الفكر- دمشق، 1985م.

11- "معجم النفائس الكبير". لنخبة مؤلفين بإشراف د. أحمد أبو حاقة، ط1، دار النفائس - بيروت، 1428هـ - 2007م.

12- "المعجم الوسيط". لنخبة مؤلفين ولغويين مصريين، ط2، "مجمع اللغة العربية"- القاهرة، 1392هـ - 1972م.

13- "من أعلام الإسلام". للشيخ عبد الوهاب سكر البابي، رحمه الله، ط 1؟ المكتبة العربية حلب، بدون تاريخ.

14- "المنهاج في القواعد والإعراب". للأستاذ محمد الأنطاكي ت 1986م، طبعة مصورة، دار التبليغ للنشر إستانبول - 1985م.

15- "الموسوعة العربية". لنخبة مؤلفين وباحثين سوريين، موضوع "جبلة"، لصفية عيد، وموضوع "حيفا" لبسام حميدة، على الشابكة.

16- "الوادي الأحمر: صفحات خالدات من سيرة الإمام عز الدين القسام". رواية، أ. عبد الله الطنطاوي، ط1، دار القلم - دمشق، 1425هـ - 2004م.

17- "معلوماتي الشخصية".

*ثانيا- مقالات ومواقع الشابكة:

18- موقع "إسلام أونلاين". فيه ترجمة ومقالة شاملة جيدة بعنوان: "الشيخ عز الدين القسام".

19- موقع "صيد الفوائد" موضوع "الشيخ عز الدين القسام: القصة كاملة"، للأستاذ فهد البيضاني، وهي ترجمة ضافية ورائعة للشيخ القسام، اختصرها من عدة كتب ومواقع.

20- "عز الدين القسام". موقع: "قصة الإسلام" للأستاذ راغب السرجاني.

21- "مجلة المجتمع" الكويتية، مقالة وترجمة فيها للدكتور. علي محمد الصلابي بعنوان: "المجاهد الشيخ عز الدين القسام (مسيرة ملهمة لأبطال المقاومة الفلسطينية، ولأبناء الأمة الإسلامية والعالَم)"، منشورة بتاريخ: 30/10/2023م.

22- "المكتبة الشاملة"- "المعجم الجامع في تراجم المعاصرين".

23- "موسوعة عريق". ترجمة مطولة ورائعة وشاملة وغنية له، مختصرة من كتب ومجلات، ومواقع عدة، عنوانها: "عز الدين القسام عالم مسلم ومجاهد ضد الانتدابين الفرنسي والبريطاني على الشام".

24- "موسوعة القرى الفلسطينية"، قرية "كفردان".

25- "ويكيبيديا- الموسوعة الحرة" بلدة "جنين".  

sdfdf1061.jpg

عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة؛ صدرت رواية « قصة حُب أسترالية عبرت فوق دماء دمشقية » للروائي والمحامي السوري المقيم في دولة الإمارات "شادي نسيب غبرة".

الرواية تقع في 508 صفحة من القطع المتوسط، وتمزج ما بين الرواية البوليسية والخيالية والوطنية والرومانسية، في توليفة مُتقنة مستمدةً حبكتها من كل هذه الأجناس الأدبية، خلقًا لتجربة قراءة فريدة تمزج بين مُتعة السرد وتعدُد الأوجه الفنية.

اعتمدت الرواية أسلوب الاسترجاع الروائي بشكل فريد، حيث نجح المؤلف في تنسيق الأحداث بشكل يراوح بين الحاضر والماضي، وكذلك استراتيجية التنقل بين أزمنة مختلفة من حياة الشخصيات، مما أبرز التطور الشخصي للشخصيات وأثر الماضي على الحاضر في مسارات حياتهم، فأتاح فهمًا أعمق للعلاقة بين الشخصيات وتغيُر هذه العلاقة مع مرور الزمن وفي مختلف مراحلها العُمرية.

تسرد الرواية أحداثًا بوليسية تدور في أستراليا، من خلال تورط بعض الشخصيات في التعامل مع العصابات المنظمة لتجارة المخدرات، مما يوقعهم في العديد من المخاطر والتهديدات المتزايدة، ويتكشف أمام القارئ سيناريوهات ملتوية ومعقدة تتعلق بملابسات هذه الأحداث، والتي ترتبط بعالم خيالي موازٍ مستمدًا من تُراث ومعتقدات الشعوب الأصلية في أستراليا، الذين يرون في "أرض الحلم" مصدرًا للروحانية والروحانيات، حيث ينغمس بطل الرواية في عالم الحلم إثر عارض غريبة يلم بهِ، بحيث يتمكن من مغادرة جسده والتجول في أنحاء العالم الواقعي والخيالي، فتتقاطع مصائر شخصيات الرواية وتتيح لهم الالتقاء رغم كونهم من دول مختلفة ومتباعدة.

كما تتقاطع الأحداث في أستراليا مع الواقع في سوريا، لتبرز بُعدًا سياسيًا وطنيًا يُصوَّر نضال وصمود شعب محاصر بين جدران الحروب والنزاعات السياسية، ويروي حكاية الألم والأمل الذي يمزج بين الجانب الإنساني والسياسي. كما يصور الطفولة الضائعة التي تحاول فهم واستيعاب هذا الواقع السياسي والديكتاتوري الذي يسود البلاد، وكيف تُجبر الطفولة على التعامل مع أعباء تفهم الأوضاع السياسية في سن مبكر.

لا تخلو الرواية من مساحات رومانسية حيث قصة الحُب المتقلبة الأحوال والأحداث بين أليكس وجانيت، بما شابها من إثارة ومُعاناة وتضحيات.

تميزت الرواية في سردها بلُغة سلسة تتسم بالوضوح والبساطة بعيدًا عن التعقيد والحشو، بما يضمن استرسال القارئ وتفاعله مع الأحداث والشخصيات دون تشويش.

dgfdfhfs1060.png

صدر مؤخرا عن دار الفاروق للثقافة والنشر للكاتب فراس حج محمد ديوان جديد بعنوان "في أعالي المعركة". يقع الديوان في حوالي (200) صفحة من القطع المتوسط، تصدّر غلافه لوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور، وصممت الغلاف الفنانة ميسم فراس.

هذا الديوان، وهو التاسع الذي يصدر للشاعر حج محمد، وتنوعت القصائد ما بين القصائد الكلاسيكية والشعر الحر، وجاء بعضها باللهجة العامية الفلسطينية، ومقطعا واحدا باللغة الإنجليزية.

يتألف الديوان من (76) قصيدة، موزعة على ستة أقسام، أطلق على كل واحد منها اسم باب، فجاء باب الموت أول الأبواب، واشتمل على (13) نصاً، وباب الحرب على (8) نصوص، وباب السيف على (11) نصاً، وباب الشهداء على (18) نصاً، وباب السماء على (8) نصوص، وكان آخر الأبواب باب النصر، واشتمل على (18) نصاً.

يهدي الشاعر ديوانه "إلى المقاومين الذين قالوا: نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت"، ويهدي الشاعر قصيدة "أنت والأرض مرساي فلتعدي المراكب"، وهي واحدة من قصائد باب النصر "إلى أميرة الوجد: شروق". مذكرا بديوانه الغزليّ الأول "ديوان أميرة الوجد".

تناولت هذه النصوص كما يظهر من ترتيبها تاريخية القضية الفلسطينية، حيث الحديث عن النكبة ومفرداتها المتعددة من شتات وتهجير ولاجئين، وخيام، وغيرها في قصائد الباب الأول، وأما مفردات الحرب وويلاتها وما فيها من مآسٍ فسيطر على قصائد باب الحرب. في حين تظهر في قصائد باب السيف مفردات مقاومة الاحتلال ومظاهر تلك المقاومة.

وتوقف الديوان في باب الشهداء عند ظاهرة الاستشهاد، وتمجيدها في مجموعة من النصوص، قبل أن يرتي الشاعر مجموعة من الشهداء الذين قضوا نحبهم دفاعا عن فلسطين، فرثى الشاعر كلا من القادة: أحمد ياسين، ود. العزيز الرنتيسي، والمقاومين: لبيب عازم، ورعد حازم. ومن الشهداء الأطفال يتحدث الشاعر عن محمد الدرة، وحمزة نصار. وعن شهداء الشعب الثنائي رائد جرادات ودانيا ارشيد شهيدان أعلن عن خطوبتهما بعد أن استشهدا، كما تناول أحد النصوص الإعلامية الفلسطينية مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، والشاب التركي الشهيد فرقان دوغان الذي استشهد على متن سفينة مرمرة عام 2010.

وضم باب السماء قصائد تتحدث عن القدس والمسجد الأقصى المبارك، ليختم الديوان بمجموعة من قصائد تحتفل بالنصر على طريقتها الشعرية، آملة في تحرير فلسطين، وبذلك يصل الشاعر في هذه القصائد إلى المحطة الأخيرة من عمر القضية الفلسطينية حيث الراهن والمأمول في المستقبل. وحضرت مدينة غزة ومقاومتها في كثير من النصوص، وخاصة في باب السيف وباب الشهداء وباب النصر عدا عن حضورها في باب الحرب.

المزيد من المقالات...