في قصيدة "مطر على خدّ الطّين"، ينسج الشّاعر العراقيّ حسين السيّاب خيوط تجربته الشّعريّة على نولِ كلماته، يرسم بدموع الحنين لوحة فنّيّة لتأمّلاته في الرّوح والوجود، يتناول مجموعة من المواضيع، بما فيها الحنين إلى الوطن، البحث عن الحبّ وعن الذّات، اليأس والتّأمّل في سرّ الحياة والموت، هذه المواضيع تجعل القصيدة مؤثّرة، وتعكس شدّة المشاعر الّتي يتمّ التّعبير عنها.

في هذا المقال، أقدّم رؤية شاملة، وتحليلا مفصّلا للقصيدة، أتناول فيه الرّموز والصّور الشّعريّة المستخدمة، والمضامين الرئيسيّة، اللّغة والإيقاع.

تسير بنا هذه القصيدة عبر دروب الرّوح؛ لتأخذنا في مسار عميق داخل أنفسنا، فتتكشّف لنا خبايا الذّات وأغوارها، وتتجسّد أمامنا صور من الواقع، ممزوجة بأحلام الشّاعر وتطلّعاته.

في كلّ بيت من الأبيات، يتردّد صدىً لمشاعر إنسانيّة عميقة، تتجاوز حدود الزّمان والمكان، وتلامس قلوبنا بلطف، مثيرة فينا تساؤلات وجوديّة عميقة.

تعكس هذه المشاعر تجربة إنسان يعيش في خضمّ زمن عصيب، يحمل في أعماقه حبّا لوطنه، وشوقا إلى الحياة.

يحمل العنوان صورة المطر على الطّين، وهو مشهد يختزل في بساطته جمال الطّبيعة وعظمتها، فقطرات المطر تتراقص على سطح الأرض، لترسم لوحة بديعة، تمتزج فيها ألوان السّماء والأرض في تناغم.

يرمز المطر إلى الحياة والخصوبة، بينما يرمز الطّين إلى الأرض والوطن والانتماء، فهو يحتضن البذور، لينبت منها الزّرع، إنّهما معا يشكّلان دورة الحياة في أبهى صورها. قطرات المطر تنهمر على الأرض، فتغسلها وتنقّيها، وتذكّرنا بقدرة الطّبيعة على التّجدّد والبعث من جديد.

هذه الثّنائيّة تخلق توازنا بين عنصريّ الحياة والموت، وتعكس رؤية الشّاعر للوجود؛ كدورة مستمرّة من الخلق والفناء، وهي دعوة للتّأمّل في أبسط مظاهر الوجود.

ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن ذاته، حيث يقول: "من دون جناح أغرّد خارج السّرب"، يصف نفسه بأنّه خارج السّرب، ليعبّر عن إحساسه بالاغتراب والوحدة والانعزال عن المجتمع، يشعر بالانفصال عن الآخرين، وأنّه يعيش في عالم خاصّ به مليء بالتّساؤلات والتّناقضات، يشبّه نفسه بطائر يغرّد، لكنّه بلا أجنحة، أيّ يحاول التميّز والتّفرّد عن الآخرين، لكنّه يفتقر إلى الأدوات أو القدرات الّتي تمكّنه من ذلك.

هذا الاغتراب ليس إحساسا شخصيّا فقط، بل هو وصف لحالة الضّياع الّتي يعيشها الإنسان العربيّ في عالمنا الحديث، حيث تسود الفرديّة والتّنافس، وصعوبة إيجاد مكانه.

يشعر السيّاب أنّه غريب عن ذاته، وغريب عن العالم من حوله، وهذا الشّعور يتفاقم مع تزايد الضّغوط النّفسيّة والاجتماعيّة الّتي يعيشها، يبحث عن ملاذ آمن، وعن مكان يشعر فيه بالانتماء، لكنّه يجد نفسه تائها في متاهة الحياة، حيث يحيط به الخوف والقلق.

هذه الحالة من الضّياع والاغتراب تعكس أزمة الهويّة الّتي يعيشها الإنسان العربيّ، الّذي يجد صعوبة في التّوفيق بين هويّته التّقليديّة وبين متطلّبات العصر الحديث.

يستخدم الشّاعر رموزا أخرى في قصيدته، مثل الغيم، الّذي يرمز به إلى الأحلام والأماني، أمّا السّرب فيرمز إلى الجماعة والمجتمع.

"يقرع طبول النّشوة": يستخدم رمزَ الطبول للتّعبير عن الفرح أو الاحتفال، لكنّه فرح محاط بالوحدة، كأنّه صدىً للاحتفال، يتردّد في مكان خالٍ، ويُعزَف في عزلة وانفراد.

"على حافّة القمر المنسيّ أجلس": يستعير صورة حافّة القمر، لتجسيد عزلته ووحدته، وكأنّه يجلس في مكان مهجور ومنسيّ.

تضيء هذه الرّموز لتكشف عن أعماق تجربته الإنسانيّة، فتدعونا إلى الاقتراب أكثر من روحه الشّاعرة، نستشعر صراعه في الحياة بين رغباته في الانتماء والوحدة، وبين إحساسه بالاغتراب، يعبّر عن أعمق مشاعره وأفكاره وآماله بطريقة مؤثّرة، يستخدمها كنوافذ تطلّ على عالمه الدّاخليّ، من خلالها نستشعر ألمه وأمله، يقول: "الغيم صاحبي"، وهذه استعارة لصفة الصّداقة مع الغيم، وتصوير لعلاقته الوثيقة بالطّبيعة، وكأنّه يجد في الغيم صديقا ورفيقا.

كما تتوشّح القصيدة بلغة مكثّفة قويّة ومؤثّرة، تتناغم فيها التّراكيب اللّغويّة الأنيقة، فتتجلى قدرته على تطويع اللّغة وتحويلها إلى أداة فنّيّة قادرة على التّعبير عن مكنوناته.

من أبرز الصّور الشّعريّة في القصيدة: "أطرّز النّجمات على خدّ اللّيل"، و"أتأمّل القيامة على أبواب المتاهة"، و"محمولاً على أكتافِ الذّنوب".

تشير هذه الصّور إلى رؤية الشّاعر إلى الكون والحياة، فالنّجوم الّتي يطرّزها على خدّ اللّيل ترمز إلى الأمل والتّفاؤل، يشبه اللّيل بصفحةٍ أو قماش أسود، والنّجوم كخيوط أو نقوش يطرّز بها هذا اللّيل، ليضفي عليه جمالا وبهجة، بينما القيامة الّتي يتأمّلها على أبواب المتاهة فترمز إلى الخوف والقلق.

قد تشير المتاهة إلى الحياة بصعوباتها وضياعها، بينما القيامة تحمل معنى النّهاية والموت، وهذا التّصوير يعكس تفكير الشّاعر في الموت كحقيقة قادمة بعد متاهة الحياة.

كما يظهر الحنين إلى الوطن والحبيبة في عدّة أبيات:

  • "عواصفُ حنين تجتاحني": يصف الحالة الشّوق الجارفة الّتي تنتابه، مستخدما كلمة "عواصف"؛ للتّعبير عن قوّة هذا الشّعور وتأثيره عليه.
  • "ثمّةَ لحظاتٌ لا تنسى كنتُ فيها بينَ ذراعيكِ أستريحُ من تعبِ الرّحلةِ": يستحضر ذكريات ولحظات دافئة قضاها في وطنه مع الحبيبة، فيشعر بالحنين إلى تلك الأيّام الّتي أحسّ فيها بالرّاحة والأمان والاستقرار.
  • أحنُّ للشّتاء.. أطرِّزُ النّجماتِ على خدّ اللّيل": يعبّر عن حنينه إلى مظاهر طبيعيّة وأجواء معيّنة في وطنه، مثل فصل الشّتاء ونجوم اللّيل، حيث يرتبط ذلك لديه بذكريات جميلة وأوقات سعيدة.
  • أتأمَّلُ القيامةَ على أبوابِ المتاهةِ": هذا البيت يحمل دلالاتٍ رمزيّة عميقة، ويمكن تفسيره على أنّه تعبير عن الحنين إلى الماضي، وإلى فترة ذهبيّة في تاريخ الوطن، حيث كانت الحياة أبسط وأكثر نقاء.

يستخدم السيّاب التّشبيهات والمشاهد الحسّيّة بشكل كبير للتّعبير عن المشاعر، مثل: "عواصف الحنين" و "تطريز النّجمات"، ممّا يجعل القارئ يشعر بقوّة الشّوق الّذي يعاني منه.

يوظّف بعض الرّموز مثل "المعبد" و "المتاهة"؛ للتّعبير عن أبعاد أعمق، مثل البعد التّاريخيّ والثّقافيّ، ويستخدم بعض التّناقضات في القصيدة، وبعض الصّور القويّة الموحيّة، للتّعبير عن حالة نفسيّة قلقة، وعن حالة الاغتراب والضّياع الّتي يعيشها، مثل: "وحيداً يقفُ بالمقلوب"، الّتي تشير إلى الفوضى والقلق، و"بينما تتسرّبُ زمرُ الجنِّ من الشّطآنِ"، الّتي تعكس بعض الأفكار السّلبيّة المتسلّلة إلى وعيه، أمّا "الشّطآن" فتمثّل المكان المألوف الّذي يتحوّل هنا إلى مصدر للتّهديد.

هذا التّصوير يخلق جوّا من الخوف وعدم الاستقرار، والشّعور أنّ قوىً مجهولة تتسلّل إلى حياتنا وتزعزع استقرارنا.

"يتلظّى دمي"، هذه العبارة تصوّر حالة الغضب أو الانفعال الشّديد أو الإثارة. يستعير صفة التّلظّي (الاشتعال) للدّم؛ ليصوّر الشّوق أو الحنين الملتهب الّذي يجتاحه.

يعكس هذا التّصوير عمق التّوتّر الّذي يتخبّط فيه الإنسان، والقلق الوجوديّ الّذي يساوره تجاه ما يهدّد استقراره.

يقول أيضا: أطرِّزُ النّجماتِ على خدّ اللّيلِ، الغافي على أسوارِ معبد ''إينانا''، يرسم هنا صورة ليل ساكن ومهيب، حيث يغفو اللّيل على أسوار معبد "إينانا"، إلهة الحبّ والحرب عند السّومريين، وهو من أقدم المعابد في العراق.

تطريز النّجمات على خدّ اللّيل، يضفي جمالا ورونقا على هذا المشهد، وكأنّه يزيّن ظلمة اللّيل بأضواء سماويّة.

هذا المزيج بين اللّيل، المعبد، والنّجوم يخلق أجواءً من السّحر والغموض.

"أتأمَّلُ القيامةَ على أبوابِ المتاهةِ"، بعد جمال اللّيل، ينتقل إلى مشهد معاكس تماما، حيث يتأمّل القيامة، محوّلا إدراك القارئ من المحسوس إلى الرّوحاني. هذه القيامة ليست قيامة منتظرة، بل هي قيامة متأمّلة على "أبواب المتاهة".

تشير المتاهة إلى الضّياع والتّيه، وكأنّ القيامة لن تأتي إلا بعد معاناة وتخبّط، وهذا ما يعكس رؤية قاتمة لحياتنا، حيث يرى أنّ الخلاص أو القيامة بعيد المنال.

"بشبقِ الصّمتِ أداوي خربشاتِ المطر على وجهي"، هنا يكمن المزج بين المتعة والألم، ممّا يوحي بلذّة كامنة في الصّمت، بينما "خربشات المطر" على الوجه، توحي بآثار الحزن والمعاناة.

يداوي الشّاعر آلامه بالصّمت، فالصّمت هو ملاذه الوحيد وراحته، يستعير صفة الشّبق للصّمت؛ ليصور احتياجه إلى الهدوء والسّلام، وكأنّه يجد في الصّمت ملاذا يشفيه من آثار المطر.

"حين شقَّ شطُّ البداياتِ مجرىً لحكايةٍ تسلّلَتْ من مخيِّلةِ الفرات"، في هذا البيت يشير إلى بداية قصّة أو تجربة جديدة.

"شطّ البدايات" يمثّل نقطة انطلاق، و"مجرى الحكاية" يجسّد مسار هذه التّجربة، والفرات، النّهر العظيم، هو مصدر الإلهام والإبداع، وكأنّ الحكاية قد ولدت من رحم هذا النّهر العظيم الّذي يشير به إلى الوطن.

"تمسّكتُ بأظافر الشّيطان، يمّمتُ وجهيَ شطرَ بابِ الأزل"، قوى الشّر هي "أظافر الشّيطان" الّتي ترمز إلى الخطايا والمعاصي، لكنّه في الوقت نفسه يتّجه نحو "باب الأزل"، أيّ نحو الله، أو الحقيقة المطلقة، ويستعير صورة أظافر الشّيطان لتجسيد حالة من الإصرار والعزيمة القويّة، في سبيل تحقيق هدف غير مشروع.

هذا التّناقض يعكس الصّراع بين الخير والشّر، بين الانجذاب إلى الملذّات ورغبة الإنسان في الوصول إلى الحقيقة.

"أسعى إليكِ، محمولاً على أكتافِ الذّنوب"، هذا البيت يكشف عن عمق العلاقة بين الشّاعر والمخاطب (المرأة)، فهو يسعى إليها، محمّلا بالأوزار، وهذا ما يعكس فكرة أنّ الحبّ قد يكون مرتبطا بالخطيئة، أو أنّ الإنسان قد يرتكب الخطايا بدافع الحبّ، قد يكون محمّلا بالهموم أيضا، الّتي تثقل عليه مسيرته فيعبّر عنها بالأوزار، يستعير أيضا صورة الأكتاف الّتي تحمل الأثقال؛ ليصوّر الشّعور بالذّنب أو الخطايا الّتي تثقل كاهله.

"فكِّي أبوابكِ الثّمانيَ لنتقاسمَ الخطايا السّبع"، يستعير هنا صورة الأبواب الّتي تفتح؛ لتصوّر الانفتاح على الآخر وتقاسم المسؤوليّة أو المصائب معه، ويطلب من حبيبته أن تفتح له أبوابها، لتشاركه خطاياه.

الأبواب الثمّانية قد ترمز إلى أبواب الجنّة أو النّار، وتقاسم الخطايا السّبع يشير إلى تحمّل تبعات الحياة وأوزارها، وهذا يقود إلى التّفكير في الموت وما بعده.

"وتظلّين خطيئتي المقدّسة الّتي لا تبصرُ النّورَ"، يستعير صفة القداسة للخطيئة، لإظهار حالة العشق، أو التّعلّق بشيء يعتبره خطيئة، لكنّه يحمل قيمة عالية في قلبه، ويخفيه عن النّاس كَسِرٍّ مكتوم في أعماق قلبه، أو كعاشق يخفي عن العالمين معشوقته، يجعلها سرّا بينه وبين نفسه، يتقبّلها بكلّ ما فيها من ألم ولذّة، أو كجرح لا يندمل، لكنّه يمنحنه شعورا فريدا لا يريد أن يشاركه فيه أحد.

"الخطايا السّبع" تشير إلى الخطايا الكبرى، لكنّه يضفي عليها بعدا مقدّسا، حيث يعتبر المرأة "خطيئته المقدّسة الّتي لا تبصر النّور"، وهذا التّعبير يوحي أنّ الحبّ، حتّى لو كان مرتبطا بالخطيئة، يبقى شيئا مقدّسا وساميا.

هذا البيت الشّعريّ عميق ومثير للتّساؤلات، فهو مليء بالرّموز الدّينيّة، ما يجعله غنيّا بالمعاني والإيحاءات، سأحاول تفكيكه وتحليله بشكل مفصّل:

  • "فكِّي أبوابكِ الثّمانيَ": يرمز بها إلى أبواب بيتها أو قلبها، أو إلى الحواجز والصّعوبات الّتي يجب عليه تجاوزها ها للوصول إلى تلك المرأة، يطلب منها أن تكشف له عن هذه الجوانب وأن تفتح له قلبها. يمكن اعتبار الأبواب؛ كرمز لطبقات شخصيّة المرأة أو جوانبها المتعدّدة.
  • "لنتقاسمَ الخطايا السّبع: يشير إلى الخطايا السّبع المميتة في المسيحيّة، مستخدما هذا المفهوم الدّينيّ بشكل مجازيّ، وقد يعني أيضا، الاعتراف بالضّعف البشريّ، والتّورّط في العلاقة والمشاركة في الألم والمعاناة، وهذا ما يعكس فكرة أن الإنسان خطّاء بطبعه، وأنّ الشّاعر والمرأة ليسا استثناء من ذلك.
  • "وتظلّين خطيئتي المقدّسةَ الّتي لا تبصرُ النّور": يصف خطيئته بالمقدّسة، وهذا يضفي عليها طابعا خاصّا، ممّا يعني الحبّ المحرّم الّذي يشير إلى أنّ علاقته بالمرأة هي "خطيئة" في نظر المجتمع أو الدّين، إن كانت من دين آخر ويحرّم عليه الارتباط بها، لكنّها في نظره "مقدّسة" بسبب الحبّ الشّدّيد الّذي يكنّه لها.
  • "الّتي لا تبصر النّور": هذه العبارة تعمّق فكرة السّريّة، وقد تعني أنّ هذه الخطيئة تبقى مخفيّة عن أعين النّاس، ولا يمكن البوح بها علنا، فهذه الخطيئة (العلاقة) الّتي لا يراها أحد هي شأن شخصيّ بين الشّاعر والمرأة، ولا يمكن لأحد آخر تفهّمها.

على الجانب الآخر.. رغم مما تحمله هذه القصيدة من أوجاع وإحساس بالاغتراب، إلّا أنّها توقد جذوة الأمل في القلب، فمثلا نجد احتفاءً عميقا بجمال الطّبيعة في العنوان، الّذي يحمل صورة المطر الملامس لخدّ الطّين، ثمّ تصوير لمشهد اللّيل المرصّع بالنّجوم، والحنين إلى الشّتاء.

هذا الاحتفاء بجمال الطّبيعة يعكس حساسيّة الشّاعر المرهفة، وقدرته على استشعار الجمال في مظاهر الحياة، وهذا الشّوق إلى الحبيبة، يمثّل قوّة دافعة تدفعه إلى الأمام، ويوقظ فيه الأمل.

يتفكّر الشّاعر في قيمة الوجود ومعنى الحبّ، الحياة والموت. هذا التّفكّر هو بحث عن المعنى، ما يضفي على القصيدة عمقا فلسفيّا وإنسانيّا، وفي النّهاية يتقبّل فكرة الخطيئة كجزء من التّجربة الإنسانيّة، ويراها بعين مختلفة، حيث تصبح "خطيئته المقدّسة"، وهذا ما يشير إلى قدرته على تجاوز الألم والمعاناة، وتحويلها إلى جزء من تجربته الرّوحيّة.

عن الإيقاع في القصيدة: نلاحظ بعض التّفعيلات المتنوّعة، ما يخلق إيقاعا حرّا يتماشى مع تدفّق المشاعر والأفكار، ويعبّر عنها بطريقة مباشرة وغير مباشرة. لا يقتصر الإيقاع على مستوى الأسطر والجمل فقط، بل يمتدّ إلى مستوى الكلمات والأصوات، والتّنوّع في طول الجمل وبعض التّكرار؛ وذلك لخلق إيقاع حرّ ومتجدّد، فالسيّاب يختار كلماته بعناية؛ لتكون متناغمة من حيث الأصوات والحروف، وهذا ما يخلق بعض الإيقاع الدّاخليّ، الّذي يضفي على القصيدة جمالا خاصّا.

أيضا: استخدم الشّاعر الأفعال المضارعة مثل: (أغرّد، يقرع، تتسرّب، يتلظّى، تجتاحني، أستريح، أجلس، أنظر، تدور، أحنّ، أطرّز، أتأمّل، أداوي، أسعى، نتقاسم، تظلّين، تبصر)، وذلك لإضفاء الحيويّة والاستمراريّة على النّصّ وجعله أكثر تأثيرا في المتلقّي، أو لإبراز إحساسه بالزّمن المتدفّق، والإفصاح عن مشاعره المتغيّرة، سواء كانت فرحا أو حزنا، أملا أو يأسا.

وبعد.. تحمل هذه القصيدة رؤية السيّاب للعالم والإنسان، ويمكن القول إنّها قصيدة مركّبة، تجمع بين عناصر اليأس والأمل، وتعبّر عن مشاعر متناقضة ومتضاربة، تعكس حالة الإنسان في مواجهة صعوبات الحياة وتحدّياتها، وتصوّر صراعه الدّائم بين الألم والمعاناة، وحياته الّتي تتأرجح بين لحظات الحزن والفرح.

وإليكم القصيدة:

مطرٌ على خدِّ الطّين

من دونِ جناحٍ أغرِّدُ خارجَ السّرب

توهّمتُ، وأُوهِمتُ أنّ الغيمَ صاحبي

وظلّي هناك...

يقرعُ طبولَ النّشوةِ

وحيداً يقفُ بالمقلوب

بينما تتسرّبُ زمرُ الجنِّ من الشّطآنِ!

يتلظّى دمي

عواصفُ حنين تجتاحني

ثمّةَ لحظاتٌ لا تنسى

كنتُ فيها بينَ ذراعيكِ

أستريحُ من تعبِ الرّحلةِ

دونَ قلقٍ

دون خوفٍ من مكانٍ

على حافَّةِ القمر المنسيِّ أجلسُ

أنظرُ لسنيِّ العمرِ

الّتي تدورُ في ساعةِ أبي

أحنُّ للشّتاء..

أطرِّزُ النّجماتِ على خدّ اللّيلِ

الغافي على أسوارِ معبد ''إينانا"

أتأمَّلُ القيامةَ على أبوابِ المتاهةِ

بشبقِ الصّمتِ أداوي خربشاتِ المطر على وجهي

حين شقَّ شطُّ البداياتِ مجرىً لحكايةٍ تسلّلَتْ

من مخيِّلةِ الفرات

تمسّكتُ بأظافر الشّيطان

يمّمتُ وجهيَ شطرَ بابِ الأزل

أسعى إليكِ

محمولاً على أكتافِ الذّنوب

فكِّي أبوابكِ الثّمانيَ لنتقاسمَ الخطايا السّبعةَ

وتظلّين خطيئتي المقدّسةَ الّتي لا تبصرُ النّور..

dfgdfg1116.jpg

ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسية الاسبوعية قصة الأطفال " الوسادة العجيبة" للكاتبة د. حنان جبيلي عابد.

القصة صدرت عن دار سهيل العيساوي للطباعة والنشر 2017، وتقع في 25 صفحة من القطع المتوسط، زينتها رسومات الفنانة المبدعة منار نعيرات.

افتتحت النقاش مديرة الندوة ديمة جمعة السّمان، قالت:

قصة “الوسادة العجيبة” للكاتبة حنان جبيلي عابد هي عمل أدبي موجه للأطفال، يتميز بالخيال الواسع واللغة السلسة، جمّلتها رسومات الفنانة منار نعيرات.

تحكي القصة عن الطفل طارق الذي يكتشف أن وسادته تتحوّل إلى غيمة سحرية تُدعى “ديمة”، تأخذه في مغامرات شيقة، حيث تتحوّل إلى أشكال ومخلوقات متعدّدة بناءً على رغباته.

تهدف القصة إلى تنمية خيال الأطفال وتعزيز قدراتهم على التّعبير عن مشاعرهم ورغباتهم، وذلك من خلال مغامرات طارق مع “ديمة” الغيمة. إذ يتعلم الأطفال أهمية الحلم والخيال في تحقيق الرغبات والتغلب على المخاوف. كما تسلط القصة الضوء على قيمة الاستقلالية وأهمية وجود مساحة خاصة للطفل، مثل غرفة نومه، حيث يمكنه استكشاف خياله بحرية.

استخدمت الكاتبة لغة بسيطة ومفهومة، مع جمل قصيرة وسرد مشوّق يناسب الفئة العمرية المستهدفة.

تم تشكيل النص بالكامل، مما يسهل على الأطفال قراءته وفهمه. كما تم توظيف الحوار بشكل فعال لإضفاء الحيوية على الشخصيات وتطوير الأحداث.

وقد كان للرسومات الملوّنة والجذّابة التي رافقت القصّة بريشة الفنانة منار نعيرات أثرا كبيرا في تعزيز جاذبية القصة ومساعدة الأطفال على تصور الأحداث والشخصيات، كما أنّ تصميم الصفحات بعناية، والتوزيع المتوازن للنصوص والرسومات، يسهل القراءة ويجعلها تجربة ممتعة للطفل.

لغتها بسيطة تتناسب وعقلية الطفل، وتعتمد بشكل أساسي على عنصر التكرار، حيث تتكرر المغامرات التي يخوضها طارق مع “ديمة” بطرق مختلفة. هذا النمط يساعد الأطفال على التنبؤ بالأحداث، مما يعزز شعورهم بالراحة والاستمتاع أثناء القراءة.

كما أنّ توظيف الكاتبة للوسادة كرمز للأمان والخيال يمنح القصة بعدًا نفسيًا مهمًا، حيث تصبح الوسادة ليست مجرد أداة للنوم، بل بوابة للأحلام والمغامرات..

تمثّل شخصية طارق الطّفل الفضولي الذي يسعى لاكتشاف عوالم جديدة، لكن شخصيّته لا تتطور كثيرًا على مدار القصّة، حيث يظلّ دوره محصورًا في كونه متلقيًا للتّجربة. مما قد يجعل بعض الأطفال يتمنون لو كان لهم دور أكثر فاعلية في صنع قرارات المغامرة.

مع التأكيد على أنّ القصة تترك تساؤلات عند الطفل تحتاج إلى إجابة، هل ما جرى مع وسادة طارق كان مجرد حلم؟ أم أنها وسادة مسحورة؟

القصّة خيالية جميلة، ولكنّها تفتقر إلى تسلسل درامي متصاعد، حيث تتوالى الأحداث بشكل تراكمي دون ترابط سببي قوي.

في الختام.. الوسادة العجيبة”تعتبر قصة ناجحة تجمع بين الخيال والتعلم، وتقدم للأطفال تجربة قراءة ممتعة ومفيدة. من خلال مغامرات طارق ووسادته السحرية، يتعلم الأطفال قيمة الخيال في تحقيق الأحلام والتغلب على المخاوف، مما يسهم في تطوير شخصياتهم وبناء ثقتهم بأنفسهم.

وقالت د. روز اليوسف شعبان:

يحلم طارق بأن مخدّته تحوّلت إلى غيمة، تطلب منه أن يلعب معها لعبة الأشكال، وتخبره أنّها تستطيع أن تتحوّل إلى أيّ شكل يريده، وما عليه إلّا أن يقول:" ديمة يا ديمة يا غيمتي الصغيرة تحوّلي إلى...

طلب منها طارق أن تتحوّل إلى مثلث، ثمّ إلى حصان. جلس طارق على ظهر الغيمة التي تحوّلت إلى حصان، وتمسّك بها جيّدا، وحلّقت به في السماء، فرأى قريته، وبيوتها وأحياءها، ثم طلب منها أن تتحوّل إلى أسد، فيل، زهرة شجرة... فتحوّلت الغيمة إلى جميع الأشكال. وعندما بدأت الغيمة بالهبوط شعر طارق بالخوف وبدأ يبكي، ويصيح بالغيمة: أنا خائف. فتحوّلت الغيمة إلى قوس قزح يمتدّ من نافذة غرفته إلى السماء. انزلق طارق فوق قوس قزح فرحا، فوجد نفسه داخل غرفته وفي سريره.

بلغة جميلة سلسة، قريبة من عالم الطفل، تسرد الكاتبة د. حنان جبيلي عابد قصّتها، التي اعتمدت فيها على عنصر الأحلام، فكان الحلم هو الركيزة التي دارت حولها الأحداث، وجعلت طارق يحلّق في هذا العالم، فيرى نفسه يمتطي الغيمة حصانا، يحلّق به في السماء ويملأ قلبه فرحا. إنّ للأحلام تأثيرا على نفسيّة الطفل، فالحلم يحرّر الطفل من الواقع ويأخذه إلى عالم الخيال وبذلك تثري عالمه النفسيّ، العقليّ، الإدراكيّ، العاطفيّ، والمعرفيّ، وتسهم في تعزيز قدراته الإبداعيّة، والتفكير خارج الصندوق.

يذهب علماء النفس إلى اعتبار أحلام الإنسان تعبيرات رمزيّة لدوافع ورغبات تتراكم في اللاشعور، أو إنّها انفعالات وانطباعات لا إراديّة تحدث خلال النوم انعكاسًا وتأثّرًا بما يجري خلال اليقظة من أحداث سارّة أو مؤلمة. كما يعتبرون الأحلام ظاهرة صحيّة، فإذا ما أعيقت لسبب ما أو توقّفت، فإن النتيجة ستكون تعبًا متزايدًا (خورشيد حرفوش (القاهرة) موقع مركز الاتحاد للأخبار، 2016).

تتناول الكاتبة أيضا موضوع الخوف عند الأطفال، وتجعل بطل القصّة طارق يعبّر عن مخاوفه، فحين أرادت أن تتحوّل إلى وحش، أخبرها طارق أنّه يخاف الوحوش، فتفهّمت مخاوفه واستجابت له وطلبت منه أن يختار شكلا. تكرّر الخوف عنما بدأت الغيمة بالهبوط إلى غرفة طارق، فتفهّمت الغيمة مخاوفه وتحوّلت إلى قوس قزح يمتدّ حتى نافذة غرفته، وقوس قزح محبوب لدى الأطفال والكبار بألوانه الساحرة، فتزحلق طارق عليه ودخل غرفته وتحوّلت الغيمة إلى مخدّة فنام بهناء.

ترمز الكاتبة في ذلك، إلى إتاحة المجال للطفل للتعبير عن مشاعر الخوف، وإعطائها الشرعيّة، فمن الطبيعيّ أن يخاف الطفل من أمور عديدة، وعلى الأهل والمربّين تفهّمها ومساعدته في تجاوزها.

وقال المحامي حسن عبادي:

وجدت قصة الوسادة العجيبة للكاتبة حنان جبيلي عابد تحملُ رسالةً واضحةً غايتُها تربيةُ الطفلِ، وتحسيسه بعالمِه وبشخصيّتِه مراعية قدراتِهِ العقليّةِ وعمرِه الزمني ومراحلِ نموِّهِ، ميولُه ومواقفُه واتجاهاتُه معتمدًا على الحدثِ والشخصياتِ والحبكةِ واللغةِ والخاتمةِ.

نجحَت حنان في قصته بتوظيفِ الصورِ ورسوماتِ الفنانة منار نعيرات لنقلِ الرسالةِ للطفلِ المتلقّي، فالطفلُ في مراحلِه الأولى يهتمُ بالصورةِ وينْشَدُّ اليها، فهي عبارةٌ عن خطابٍ منفتحٍ ومتعدّدِ القراءاتِ كالصورِ المتحرّكةِ، فللصورةِ ميزةٌ حاصةٌ بالنسبةِ الى النصِّ، فهي تنقلُ الرسالةَ فورًا حين أن الكلماتِ تتسلسلُ حسبَ نظامٍ محدّدٍ بينما تُظهرُ الصورةُ الرسالةَ منذ الوهلةِ الأولى.

استعملت الكاتبة لغةً بسيطةً وسهلةً نسبيًّا، بسيطة وتلائم الأطفال، وخاليةً في مجملِها من غريبِ اللفظِ، أحاديّةُ اللغة، اعتمدَت لغةً عربيّةً فصحى ذاتَ أصواتٍ متعدّدةٍ: الطفل الصغير طارق، والغيمة ديمة وصوتُ الصورِ.

تتحدث القصة عن طفل صغير اسمه طارق، أغمض عينيه لينام، سمع صوتا يناديه ويقول له: "أنا هُنا، انهض من سريرك وسَتراني"، من سريره، فرأى وسادته قد تحوّلت إلى غيمةٍ بيضاءَ صافية، واسمها ديمة. أخبرته بدورها أنها أتت لتلعب معه، وأنّه بإمكانها أن تتحول إلى أيّ شكلٍ يريده. طلب منها أن تتحول الى مثلّث، ثمّ إلى حصان، وأخذه الحصان جولة في السماء فوق الحيّ ففرح جداً، فطلب منها أن تتحوّل إلى نسر وأسد وفيل وزهرة وشجرة، وفي طريق العودة تحوّلت الغيمة ديمة إلى قوس قزح أبيض اللون لتنزلق به إلى غرفته فرحاً سعيداً لتعود كما كانت وسادة تحت رأسه.

عملت الكاتبة على فتح آفاق جديدة لتوسّع خيال الطفل، حيث حوّلت الوسادة الى غيمة محلّقة تلبّي طلبات صاحبها طارق وتحقّقها له ممّا يُسعده.

لجأت الكاتبة إلى عنصر التشويق، والتسلية، والترفيه، ما يلائم الأطفال، وراق لي أسلوب الحوار الذي أعطى النص حيويّة وحياة بعيداً عن النشاف والملل، وكذلك الأمر توظيفها لقوس قزح (لماذا جعلتِه أبيض اللون؟ لم تصوّريه بألوانه الطبيعية؛ أحمر من الخارج ويتدرّج إلى البرتقالي فالأصفر فالأخضر فالأزرق فأزرق غامق (نيلي) فبنفسجي).

وجدتها قصة موفّقة لجيل الطفولة المبكرة، رغم لجوئها للخيال، فهذا طبيعي جداً لجيل أطفال اليوم ويخلو كم الغرائبية، تساعد على تنمية خيال الطفل وتعبيره عن رغباته.

أوصي بالالتزام باللغة العربية الفصحى في الخطاب المقروء والمسموع لأن الطفل العربي يفهم هذه اللغة وإن لم يكن قادراً على إنتاجها كي يذوّتها ولا نسلبه لغته ونشوّش أفكاره.

لفت انتباهي أنّ صفحات الداخلية للقصة غير مرقمّة، ولم يُشار إلى الفئة العُمريّة المستهدفة.

ملاحظة لا بد منها؛ قرأت القصّة بنسختها الإلكترونية ولا علم لي مدى مطابقتها للنسخة الورقيّة.

وقالت وفاء كاتبة:

تُعدّ قصة الوسادة العجيبة للكاتبة حنان جبيلي عابد نموذجًا لأدب الأطفال الذي يمزج بين الخيال والتربية الفكرية، حيث تتناول بأسلوب سردي ممتع فكرة التأثير النفسي للأحلام على واقع الأطفال. تدور القصة حول بطلها، الطفل الذي يكتشف وسادة سحرية تمنحه القدرة على عيش أحلامه بطريقة واقعية، ما يفتح له آفاقًا جديدة من التعلم والتجربة. ومن خلال هذا المحور، تسلط القصة الضوء على أهمية الخيال كوسيلة لتنمية الفكر الإبداعي وتعزيز الفضول المعرفي لدى الطفل.

القصة تعتمد على رمزية واضحة، حيث تمثل “الوسادة العجيبة” أداة تحول بين الواقع والخيال، مما يعكس تأثير العوامل النفسية في تشكيل وعي الطفل. لغة السرد بسيطة لكنها غنية بالدلالات، وتناسب الفئة العمرية المستهدفة، حيث تعمل على ترسيخ قيم الاستكشاف والبحث عن المعرفة بطرق غير تقليدية. كما أن الحبكة تتبع بنية تصاعدية تحفز عنصر التشويق، مما يعزز ارتباط القارئ الصغير بالنص.

من منظور نقدي، تتقاطع القصة مع مفاهيم فلسفية حول بناء الهوية الفردية وتأثير البيئة الإدراكية على التكوين المعرفي للأطفال، مما يجعلها نصًا جديرًا بالدراسة في سياق أدب الطفل المعاصر.

أدب الأطفال ليس مجرد نصوص مبسطة تهدف إلى الترفيه أو التعليم، بل هو فضاء رمزي معقد يتفاعل مع مفاهيم فلسفية مثل الهوية، الأخلاق، والوجود الإنساني. من خلال عدسة السيميائية (نظرية العلامات لرولان بارت)، يمكن تحليل عناصر مثل الألوان واللغة في قصص الأطفال كرموز تحمل طبقات متعددة من الدلالات. على سبيل المثال، اللون الأحمر في قصة "ليلى والذئب “لا يرمز فقط إلى الخطر، بل يُشير إلى كسر التابوهات الاجتماعية. حيث تُمثِّل قصص الأطفال مرآةً ثقافيةً تعكس قيم المجتمع وتُشكِّل وعي الأجيال الناشئة. في هذا السياق، تُقدِّم قصة "الوسادة العجيبة" للكاتبة الفلسطينية حنان جبيلي عابد نموذجاً أدبياً غنياً بالرموز، حيث تُستخدم الرموز كجسورٍ بين الواقع والمتخيَّل. في هذه القصة، يتجلَّى العنوان "الوسادة العجيبة" كرمزٍ للحدود بين الحلم واليقظة، بينما تُشكِّل الألوان والتحولات الشكلية (كالغيمة والحصان) أدواتٍ سرديةً لاستكشاف مفاهيم الهوية والحرية.

التحليل السيميائي والرمزية:

تعتمد القصة على سيميائية التحوُّل، حيث تتحوَّل الشخصية الرئيسية "ديمة" (الغيمة الصغيرة) إلى أشكالٍ مختلفة (حصان، نسر، فراشة)، وهو ما يُحيل إلى نظرية (جيل دولوز) في "الاختلاف والتكرار" (1968)، التي ترى أن الهوية ليست ثابتةً، بل قابلةً لإعادة التشكيل عبر التفاعل مع العالم. فتُظهر كيف يُعيد الأطفال بناء المعنى عبر تفاعلهم مع النص، مما يجعل القصة حواراً بين المؤلف والقارئ الصغير

أما الألوان، فتُستخدم في الرسومات (كما يظهر في صفحات) كوسيلةٍ لتعزيز الدلالات العاطفية: الأزرق للحرية، والأخضر للأمل، بينما تُشير التحولات المفاجئة (كالمخلوقات "المخيفة") إلى التحديات التي تواجه الطفل في محاولة لتجاوز الأطفال مخاوفهم الداخلية.

تحليل مقارن مع السياقات النقدية المعاصرة في ادب الأطفال: يمكن مقارنة قصة الكاتبة حنان "الوسادة العجيبة" والموجة للأطفال مع أعمالٍ مثل "أليس في بلاد العجائب" (لويس كارول، 1865)، حيث تُستخدم التحولات الشكلية كاستعارةٍ للبحث عن الذات. لكن بينما تركِّز "أليس" على الفردانية الغربية، تُقدِّم القصة الفلسطينية تحوُّلاً جماعياً (كرمزية الغيمة التي تُحيط بالبيئة الفلسطينية) يعكس الذاكرة الجمعية*(حسب مفهوم **موريس هالبواكس**، 1950) دون اقحام الطفل في هذه الابعاد بشكل مباشر مراعاة للفئة العمرية وهذا عامل إيجابي وفلسفي يحتسب للكاتبة حنان.

في السياق النقدي، تُشير ليندا هاتشون (1989) إلى أن أدب الأطفال يُعيد إنتاج الخطاب الثقافي عبر الترميز. هنا، تُعيد "الوسادة العجيبة" تعريف أدب الأطفال محكور أساسي في بناء شخصية الطفل، وتحاكي هواجس الأطفال في الفئة العمرية المستهدفة

أما من جانب الاستراتيجيات الفلسفية وتطبيقاتها العملية تعتمد القصة على فلسفة **التعليم النقدي** لـ**باولو فريري** (1968)، حيث تُحوِّل المغامرة الخيالية (كطيران طارق على الحصان) إلى وسيلةٍ لاستكشاف الواقع. فتحوُّل ديمة إلى حصانٍ يطير فوق السهول الفلسطينية (صفحة 12) ليس مجرد خيالٍ، بل استعارةٌ لـ(التحرر من القيود الجغرافية).

في الوسائط المعاصرة، تُشبه هذه الاستراتيجية استخدام منصات مثل "أطفال فلسطين يروون" (قناة مخصصة على يوتيوب، 2023)، التي تُوظِّف القصص التفاعلية لتعزيز الانتماء الثقافي.

الخاتمة: أدب الأطفال، في النهاية، هو مرآةٌ للمجتمع وأداته لتشكيل المستقبل. فكل قصة تُروى له ليست مجرد حكاية، بل له بعد عقد فلسفي بين الأجيال. يواجه أدب الأطفال الفلسطيني تحدياتٍ مثل (الرقابة الثقافية) و(التمويل المحدود)، لكنه يبقى أداةً حيويةً، تُقدِّم "الوسادة العجيبة" إطاراً عملياً يجمع بين السيمائية والفلسفة لنقل القيم بشكلٍ غير مباشر.

وقالت نزهة أبو غوش:

تدور القصة حول الطفل طارق الذي يكتشف أن وسادته تتحول إلى غيمة سحرية تُدعى "ديمة"، تأخذه في مغامرة خيالية عبر التحولات المختلفة. تمثل القصة رحلة استكشاف خيالية تعكس فضول الطّفل وخياله

الواسع.

هناك سحر للخيال في القصّة وتأثيره في الطفولة، حيث تعكس القصة كيف يمكن للخيال أن يخلق عوالم ممتعة للأطفال، حيث تصبح الأشياء العادية مثل الوسادة بوابة إلى مغامرات غير متوقعة.

. اما الخوف والشجاعة فهما يظهران خوف طارق من المخلوقات المخيفة، لكنه يتعلم أن بإمكانه اختيار ما يناسبه في عالم الخيال، مما يعكس أهمية تمكين الطفل

من مواجهة مخاوفه.

. المغامرة التي صنعتها الكاتبة جلبت الفرح والسعادة لطارق، حيث استمتع بالتحليق ورؤية عالمه من زاوية مختلفة، ممّا يشير إلى متعة الاستكشاف ورؤية الأمور من منظور جديد.

. رغم روعة المغامرة، يعود طارق إلى غرفته، مما يعكس العلاقة بين الحلم والواقع، حيث تتيح الأحلام فرصة للهروب المؤقت قبل العودة إلى الحياة.

الرموز في القصة:

الوسادة: تمثل الراحة والأمان، لكنها تتحول إلى رمز للخيال والحرية.

الغيمة: رمز للتحوّلات والتغيرات المستمرة، تعكس طبيعة الخيال المرنة.

المخلوقات والأشكال: تعكس تعدديّة الخيارات التي يمتلكها الإنسان في صنع عوالمه الخاصة.

الرسائل التربوية:

تشجع القصة الأطفال على استخدام خيالهم لخلق تجارب ممتعو. تعلّمهم أنّهم قادرون على توجيه خيالهم واختيار ما يناسبهم؛ كما أنّها تعزّز فكرة مواجهة المخاوف بطريقة إيجابيّة، وتؤكّد على أهمية التوازن بين الخيال والواقع.

اللغة والأسلوب:

اللغة بسيطة وسلسة، تناسب الأطفال. استخدام الحوار المباشر يجعل القصّة تفاعلية وحيوية. الصور والوصف الحي يعزّزان الجانب الخيالي.

وقالت د. رفيقة أبو غوش:

تتحدّث القصّة حول شخصيّة الطفل طارق، الّذي تحوّلت وسادته إلى غيمة، واستطاعت هذه الوسادة، أن تتحوّل لأشكال مختلفة؛ وطلب طارق من الوسادة أن تتحوّل إلى حصان، حيث طار به في السّماء، واستمتع بمشاهد المناظر الجميلة؛ ممّا أدخل الفرحة على قلبه، وعاد إلى بيته مسرورًا فنام بهدوء.

تعتبر هذه القصّة من نوع القصص الخياليّة، وتحمل أهدافًا عديدة من أهمّها: تنمية القدرة على الخيال، وتطوير قدرات الأطفال على التّفكير الإبداعي، وإكسابهم القيم الأخلاقيّة والقوانين الاجتماعيّة.

   تربويًّا تساهم القصّة الخياليّة في خلق التحدّيات، والتّوصّل لحلول المشاكل الّتي يواجهها الأطفال في حياتهم اليوميّة؛ فتهدف القصّة أيضًا لتعزيز القدرة على اكتساب اللّغة، وتوسيغ آفاق الأطفال في معرفة مفردات مختلفة من عالم الخيال والواقع؛ بالإضافة لإكساب الأطفال القدرة على التعبير عن مشاعرهم المكمونة.

هذا النّوع من القصص يلائم الأطفال ما بين الثانية حتّى السّابعة من العمر. (وفق مراحل النّمو عند العلم النفسي: بياجيه) في هذه المرحلة، يبدأ الطّفل في استخدام اللّغة والتّفكير الرّمزي مثل: اللّعب التّخيّلي، وتجسيد الجماد، وتخيّل الأحداث وكأنّها حقيقة.

   برأيي الشّخصي: أنصح بتوّخي الحذر عند قص القصص الخياليّة؛ وتوضيح الفرق للأطفال ما بين الحقيقة والخيال، وبأنّ هذه القصّة خاليّة للمتعة فحسب، وليست حقيقيّة؛ وذلك لتجنّب تقليد الأطفال للمغامرات الخياليّة الّتي تقوم بها شخصيّات البطولة الخياليّة مثل: الأبطال الخارقين أو المخلوقات الخياليّة العجيبة؛ ومن ثمّ تسبّب الأضرار لحياة الأطفال ، ومن الصّعب علاجها لاحقًا.

اتّسمت القصّة بالتّعبير عن مشاعر الخوف والفرح، والرّاحة، الشّعور بالسّعادة الغامرة؛ "سألته ديمة: ما بالك تضحك؟؛ لانّي أشعر بالفرح يا ديمة".صفحة 24. "فبدأت الغيمة في الهبوط، وعندها شعرطارق يالخوف ثمّ بدأ بالبكاء". يا غيمتي الصّغيرة أنا خائف جدًّا" صفحة 24. برايي الشّخصي: إنّ التّعبير عن المشاعر المكنونة داخل الطّفل، يساهم في التّفريغ عن الذّات، خاصّة عن الضّغوطات النّفسيّة السّلبيّة المكبوتة؛ الّتي يكتسبها الأطفال أثناء ممارسة حياتهم الاجتماعيّة اليوميّة، ومن ثمّ يساهم التّعبير عن الذّات على تنشئة شخصيّة متّزنة نفسيًّا، ومتفهّمة لذاتها ويسهّل تنمية العلاقات الاجتماعيّة عندهم.

من الممكن تحرير الأطفال من الضّغوطات النّفسيّة، بواسطة اللّعب الأيهامي والخيالي، وسماع القصص الخياليّة؛ بشرط أن يكون العمل موّجّهًا من قِبل المربّين والآباء.

اِتّسمت رسومات الفنّانة نعيرات، برسومات تعبيريّة جميلة؛ برأيي الشّخصي: إنّ هذه الرّسومات الّتي توضّح أحداث القصّة بالتّفصيل؛ فهي تُحِدّ من تفعيل الخيال الذّاتي؛ وإطلاق العنان للتخيّل الفردي للأطفال مثلًا: شكل الحصان، والأشكال الّتي تمّ تخيلها من قِبل الغيمة ديمة، وغيرها من الأحداث؛ طالما كوْن القصّة خياليّة، فلا حاجة للرّسومات، فالتّخفيف من عرض الرّسومات التوضيحيّة، أفضل بكثير؛ لإطلاق العنان للخيال الجّامح عند الأطفال، والتّعبير عن الذّات.

سُردت القصّة، باللّغة العربيّة الفصحى، وتمتاز بالسّهولة والبساطة؛ لمدارك الأطفال؛ واشتملت قصّة الوسادة العجيبة على مفاهيم مختلفة، ومصطلحات ومفردات جديدة؛ تخلّلت القصّة حوارات خارجيّة، بين الغيمة ديمة والطفل طارق، ممّا أثرى متعة للقصّة.

   إنّ اختيار عنوان القصّة (الوسادة العجيبة)، كان اختيارًا موفّقًا؛ فيه رموز من الخيال وتفعيل التّفكير نحو معرفة المجهول، عمّا ستتحدّث القصّة، عِلمًا بأنّ القصّة تفتقرلعنصري الزّمان والمكان.

خلاصة القول: قصّة الوسادة العجيبة، قصّة جيّدة؛ لاحتوائها على عنصر الخيال، الهام في تنشئة الأطفال منذ نعومة أظفارهم. فالخيال عنصر هام في الكتابة الأدبيّة جمعاء للكبار والصّغار؛ تناسب مستويات مختلفة لغاية عمر سبع سنوات، ومحبّذ تدخّل الآباء والمربّين في توجيه الأطفال، عند سماعهم القصص الخياليّة.

وقالت رائدة أبو صوي:

قصة الوسادة العجيبة هي قصة خيالية فيها المعلومة والمتعة والفكرة المثيرة للإعجاب.

جميل جدا هذا الربط بين الوسادة والغيمة. اما بالنسبة لاختيار الأسماء بالقصة، فقد كانت الكاتبة موفقة جدا في الاختيار بداية في اسم الشخصية الرئيسية في القصة (طارق) ،إذ أن معنى اسم طارق الآتي ليلا، ونستخدم بالعادة الوسادة ( ليلا). وهنا (طارق) يتمتع بمعنى اسمه فهو طفل ذكي ومبدع ومبتكر.

اما بالنسبة لاسم ديمة فهي الغيمة الصغيرة التي تحمل الخير .

هنا يترسخ معنى اسم (ديمة )عند الأطفال، أمّا فكرة تحول الغيمة إلى أشكال فهي جميلة وتثير تساؤلات كثيرة .

في القصة إشارة مهمة جدا عند استخدام المواصلات مهما كان نوعها أن نتوخى الحيطة والحذر، إذ تمسّك طارق بأطراف الغيمة استعدادا للانطلاق

. وجدت بالقصة البيئة والمجتمع النووي والمجتمع الواسع البيت المدرسة بيوت الجيران الحي بيوت الأصدقاء. الوسادة الخالية استطاعت أن ترسم البسمة على وجه الطفل طارق طريقة هبوط الغيمة جاء بإشراقة وأمل . جاء على شكل قوس قزح ( أبيض) هنا اتوقع أن يتساءل الأطفال عن ألوان قوس قزح الأخرى لماذا لم تذكرها الكاتبة ؟ على الرغم من أنني أجد أنها كانت في صالح العمل الأدبي، لأنها تثير الجدل في نهاية القصة .

sdfdfg115.jpg

إنَّ كتاب القول المكتوب في تاريخ الجنوب، لمؤلفه الأستاذ الدكتور غيثان بن علي بن جريس الجبيري الشهري من الخزائن المعرفية المهمة التي وثقت آلاف الصفحات من تاريخ وحضارة جنوب شبه الجزيرة العربية، وخصوصًا البلاد التهامية والسروية الواقعة بين اليمن والحجاز. وأقول أيضًا: إنَّ مكتبةً تخلو من هذا الكتاب التاريخي الحضاري، الذي لا يوجد له نظير في الديار الجنوبية السعودية طولًا وعرضًا، لتعتبر مكتبة فقيرة لا تزال قابعةً في أماكن الركود ومجال التخلف.إنَّ هذا الكتاب الموسوعي إنْ جاز لي أنْ أسميه بالحزمة أو القوزة. فما هي الحزمة؟، وماهي القوزة في مفهوم أهل الجنوب (من مكة المكرمة والطائف إلى جازان ونجران وما جاورها)؟. فالحزمة: ربطة كبيرة من الحطب تجمعها المرأة من كل أشجار الجبال والأودية،  فتكون حزمة كبيرة تحتوي على معظم أعواد وأنواع النباتات الصالحة لاستخدامها في إشعال النار والاستفادة منه. وذكرت الحزمة وغالبًا تحملها النساء على الظهر. أما القوزة فهي تشبه الحزمة في الشكل والمحتوى، ويحملها الرجل على أحد كتفيه.وهكذا شبهت هذا الكتاب العظيم بهما؛ لاحتوائه على مجموعة كثيرة وعظيمة جدًا من العلوم التي تبين لنا أحوال منطقة غالية على قلوبنا وقلوب كثير من أبنائها وغيرهم، ألَّا وهي جنوب بلادنا الغالية (المملكة العربية السعودية) .   

إنَّ هذا الكتاب الكبير الذي يقع في ثلاثين مجلدًا حتى الآن (١٤٤٦هـ / ٢٠٢٥م) وثق ودرس وتحدث عن حياة معظم قبائل المنطقة الجنوبية، وعاداتهم، وأنسابهم، وحرفهم، وصناعاتهم، وثقافاتهم،  ومعارفهم، وعلومهم، ومسميات الكثير من الأطعمة والأشربة، والألبسة والزينة، والعادات والتقاليد والأعراف، والفنون الشعبية، والألعاب الرياضية، ونجد في هذا الكتاب الكبير موضوعاتٍ أخرى كثيرة سياسية وعسكرية، واقتصادية، وتاريخية، وحضارية، واجتماعية، وعلمية، وثقافية، وأدبية، ومعرفية، وسياحية، وإعلامية، وغيرها من فنون العلم والمعرفة. ولا أبالغ  إنْ قلت إنَّ هذا الكتاب موسوعة أتت على معظم ما يتعلق بالجنوب في العصور الإسلامية المبكرة والوسيطة والحديثة والمعاصرة، وأحيانًا في عصور ما قبل الإسلام. وصاحب  هذا الكتاب (ابن جريس) -أطال الله في عمره- لم يكتف بطبعه مرة واحدة بل قام بطبعه مرات عديدة، وإنْ دل هذا على شيء، فإنَّما يدل على حرصه على خدمة بلاده وأهلها، بل وخدمة طلاب العلم من الباحثات والباحثين. وأعلم أنَّه مازال مواصلًا في هذا المشروع العلمي العظيم حتى كتابة هذه السطور، وقد أولاه جل وقته واهتمامه، وبذل كل ما في وسعه نفسيًّا وعقليًّا وجسديًّا وماليًّا  في انجاز و انجاح هذا الكتاب التوثيقي الجيد، بل إنَّه اجتهد في رصد وتوثيق أشياء كثيرة من أحوال المنطقة، وجمع ماضيها  بحاضرها، وأظهر ما كان يخفى على الكثير من النا س، وبخاصة الذين يهتمون بالتاريخ والتراث والحضارة ويتذوقون القراءة والغوص في معارف علوم الناس ونواحي الأرض.إنَّ هذا الكتاب لحري أنْ يكون من أعز المقتنيات التي يفخر بها الإنسان، خاصة كل سعودي جنوبي (تهامي، وسروي) يعتز بتاريخ أرضه وموطنه ودياره التي ينتمي إليها، ولاسيما إذا كان القائم على  هذا الكتاب الموسوعي من أبناء جنوب المملكة العربية السعودية، فقد عاش وترعرع على سهولها وجبالها وأوديتها، وأكل من خيراتها وشرب من آبارها وأوديتها وعيونها، ويعرفها ومتأكد من كل ما يقوله عنها، وما يرصده ويوثقه ويدونه هذا الابن البار (غيثان بن علي بن جريس)، الذي لا يقول إلَّا صدق الأخبار، وحقيقة المقام والمقال، فهو جادٌ ومجتهدٌ في خدمة بلاده وسكانها بالعلوم الطيبة النافعة، وأسأل الله ألَّا يحرمه أجر عمله وما قدم لبلاده. ولا نقول إلَّا بارك الله لك يا أخي غيثان في مسعاك،  فقولك المكتوب   يؤتي أكله، وأدعو الله رب العرش العظيم أنْ يوفقك ويرعاك، فهذا عملك العلمي الذي استغرق عقودًا عديدة يزهو بأجمل حلله، وساطع التوفيق قد أتاك في مفرد اته وجمله.فهنيئا لك يا (مؤرخ تهامة والسراة) على هذه الجهود العلمية المباركة، وبلَّغك الله مُناك، وكل مخلص مثلك في عمله، وخدمة دينه وبلاده.

رواية "منزل الذّكريات" للأديب محمود شقير، الصّادرة عن دار "نوفل هاشيت أنطوان" في بيروت، تتكوّن من مئة وسبعة وسبعين صفحة، وثلاث وستّين لوحة سرديّة، يستلهمها أديبنا من روايتي "الجميلات النّائمات" للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا و"ذكريات عن عاهراتي الحزينات" لماركيز، محاولا استكشاف أبعاد تجربة الشّيخوخة الإنسانيّة، متناولا أسرار الرّغبات وقوّة الذّاكرة في مواجهة الفقدان، ومن خلال مقارنة عميقة، يكشف عن أوجه الشّبه والاختلاف في تجربة الشّيخوخة عبر الثّقافات، ويفتح للقارئ نافذة على الأدب العالميّ، ويدفعه للغوص في أعماق الرّوايتين المذكورتين؛ ليسافر عبر الزّمان والمكان، بحثا عن أصداء مشتركة بين هذه الرّوايات الثّلاث.

حيكت هذه الرّواية من وحي الواقع الفلسطينيّ، بخيوط تناص ذكيّ محكم، فيه حوار مع عملاقي الأدب كاواباتا وماركيز، حول الشّيخوخة ومعانيها، يتأمّلون في زوال الشّباب ويبحثون عن معنى الحياة بعد ذبولها، فتلقي أنّات الشّيخوخة ببطل الرّواية، مع أنّات بطليّ كاواباتا وماركيز، وكأنّما يتمّ البحث عن إجابة لسؤال أزليّ، ما معنى الشّيخوخة في حياة الإنسان؟

في عالم كواباتا الإبداعيّ، يدخلنا الكاتب إلى أعماق نفس "إيغوشي" العجوز، الّذي يحاول استعادة شبابه الضّائع في عالم الأحلام، تعود إليه ذكرى النّساء اللّواتي مررن بحياته، لكنّ القدر يخبّئ له مفاجأة مؤلمة، إذ تفارق فتاته الحياة وتتركه غارقا في تأثّره.

أَمّا عجوز ماركيز، ففي غياهب العمر ووحدة العزلة، يقرّر الاحتفال بعيد ميلاده بطريقة غريبة، يبحث عن فتاة عذراء تعيد إليه شبابه، فيجد فاتنة تبيع نفسها لتنفق على أسرتها المعدمة، وحين تقف أمامه بكلّ براءتها وجمالها، يتذكّر كلّ امرأة أحبّها، فيدرك قيمة الأنثى ويسمو عن أهواء الغريزة.

هذان العجوزان هما طيفان يحضران من كتابين، ويخلقان فانتازيا تطغى على الواقع وتحيله طيفا خياليّا، وفي غياهب الوحدة، يذوي بطل الرّواية "محمّد الأصغر"، وهو كاتب عجوز ومحرّر للصّحف، في السّابعة والثّمانين من عمره، يمثّل انعكاسا للعجوزين المذكورين، لكنّه يحمل في طيّاته خصوصيّة التّجربة العربيّة، في توليفة فنّيّة ثريّة بالرّمزيّة والمعاني.

تتوفّى رفيقة دربه سناء وتترك له شبح فقدانها المرير، وفي كلّ صباح، يصنع فنجانين من القهوة، أحدهما له والآخر لها، ومع كلّ رشفة يتخيّلها أمامه، وكأنّها لم تغادره قطّ، يتحدّث إليها ويسمع صوتها، وتكون حاضرة في صحوه ومنامه.

تمحورت شخصيّة محمّد حول الهرب إلى عالم الذّكريات، فكان بيته مرآة لحالته النّفسيّة، وبوصفه راويا قدّم لنا نظرة عميقه لعالمه الدّاخليّ، وعلاقته بالماضي والحاضر وخوفه من المستقبل، وفي ليلة ما وبعد لقائه بأسمهان، جامعة التبرّعات، انغمس في حلم عميق تمادى فيه معها؛ ليتبيّن له لاحقا أنّ أحلامه لم تعد ملاذا آمنا، بل أصبحت مكشوفه أمام أعين المتطفّلين، حيث تفكّ أسمهان مع أخيها "جميحان" شفره هذه الأحلام، وينتهي الأمر بإجبار محمّد على الزّواج منها؛ فتتحوّل حياته إلى جحيم بسبب تسلّط جميحان وأتباعه الزّعران عليه، فيلجأ إلى صديقيّه العجوزين في سهرة متخيّلة، يبوح لهما بمعاناته.

كان يحدّث نفسه قائلا (ص10): هل أحلم؟ هل أهلوس؟ أم هو عالمي الّذي أدمنته مع الكتب وأبطال الرّوايات؟

في هذا النّص الرّوائيّ، يلتقي عبق الشّرق والغرب في لوحة جميلة، تتداخل فيها شخصيّات كواباتا وماركيز، مع أبطال شقير (محمّد الأصغر، القنفذ ورهوان وقيس، فريال وسميره وأسمهان، ثمّ جميحان) وتتشابك مع رموز أدبيّة وتاريخيّة؛ لتعطي للنّصّ عمقا تاريخيّا وثقافيّا، كأحمد شوقي، خليل السّكاكيني، الحجّاج بن يوسف، عليّ بن أبي طالب، وأبي ذرّ الغفّاريّ، ويضيف كتاب أخبار النّساء لابن القيّم الجوزيّة، وشعر الأصمعيّ وعلقمة، لمسة من الرّقة والجمال على هذا النّصّ الإبداعيّ.

كما يرد ذكر الرّئيس الأمريكيّ "جو بايدن" (ص104)، وتبرز مقولة عمر بن الخطاب (ص86) كصدى لواقعنا المعاصر، حيث يتردّد سؤال الهويّة والحرّيّة: متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا؟

المكان.. خريطة نفسيّة لشخوص العمل:

تتعدّد الأماكن في النّص منها المغلق؛ كالبيت الّذي يمثّل الملاذ الآمن لمحمّد، فيعكس حياته الخاصّة وعلاقاته بزوجتيه، وهو المكان الّذي اجتمع فيه بأصدقائه المتخيّلين. كان مكانا للذّكريات والأحلام، وللحزن والوحدة أيضا، أمّا نزل فريال، فجسّد الجانب المظلم والمغري من الحياة.

كما رسم النّصّ صورة حيّة عن مدينة القدس الّتي تحتضن الأحداث؛ فتتجلّى فيها مأساة شعبنا وصورة الإنسان المتأمّل في مصير حياته، الباحث عن بصيص من الحبّ والدّفء في عالم مضنٍ.

يصف مدارس القدس العريقة، مقاهيها ومطاعمها وأسواقها النّابضة بالحياة، يصوّر لنا كيف تحافظ على هويّتها الأصيلة رغم كلّ شيء. وعن الوطن بوصفه مكانا مفتوحا، فقد حمل دلالات عميقة، فهو هويّة وجذور ورمز للانتماء والأصالة، وبالتّالي فهو فضاء ثقافيّ واجتماعيّ وتاريخيّ ونفسيّ، تجسَّد كعنصر أساسيّ في تشكيل وعيّ الشّخوص وتحديد مسارها.

يشير الكاتب أيضا، إلى غياب القانون، حيث يصبح الفرد رهينه للفوضى والعنف، وتسلّط المجرمين يقول (ص60): "ألجأ إلى العائلة لحمايتي من الأشرار في غياب القانون، وهو الغائب الأكبر في زمن الاحتلال".

كما تظهر اليابان وكولومبيا في النّصّ، وهما تمثّلان عالما بعيدا عن الواقع الفلسطينيّ، وفي حوار متخيّل تتجلّى فيه تباينات المعاناة الإنسانيّة المختلفة، يواجه محمّد صديقيّه العجوزين قائلا (ص116): "ننشغل هنا في فلسطين بتقديم التّضحيات، وفي توديع الشّهداء، إلّا أنّ العجوزين ساهيان لاهيان، لا يؤرّقهما أيّ همّ أو غمّ ممّا نقاسيه نحن".

يردّ العجوز اليابانيّ منتفضا (ص117): "مازلنا نعاني من إشعاعات القنبلة الذّريّة الّتي أسقطت على هيروشيما". ويقول عجوز ماركيز: "نحن في كولومبيا عانينا من أنظمه الاستبداد، ومن تجّار المخدّرات".

الأبعاد الزّمنيّة في الرّواية:

لا يقتصر دور الزّمن في هذه الرّواية على كونه إطارا زمنيّا محدّدا، بل يتجاوز ذلك إلى مستوى أعمق، فهو رمز عميق يعكس حالة البطل النّفسيّة والمجتمعيّة المتردّية، كما أنّ تداخل الماضي والحاضر في وعيّ البطل، يعكس حالة الحنين إلى الماضي ورغبة في الهروب من الحاضر المؤلم.

يستخدم الكاتب الزّمن كسلاح للسّخرية من الأوضاع الحاليّة، حيث يصور الزّمن كوحش يبتلع كلّ شيء جميل، لكنّه في الوقت نفسه يترك بصيصا من الأمل في المستقبل.

يدور الحدث في الزّمن الحاضر ممّا يمنح القارئ انطباعا أنّ الأحداث تجري الآن. هذا الاختيار الزّمنيّ ليس اعتباطيّا، بل هو عنصر أساسيّ في البناء الرّوائيّ، يعكس اهتمام الكاتب بقضايا الوطن الملحّة، ويقدّم لنا صورة معاصره للحياة، فهو يتناول تحدّيات المجتمع الرّاهنة بواقعيّة ملحوظه، ممّا يخلق التّشويق والإثارة، ويقرّب القارئ من شخصيات العمل والأحداث.

تمّ توظيف الزّمن كأداة فنّيّة مؤثّرة، تعمّق رؤيتنا للواقع، من خلاله يتجسّد إحساس محمّد بالعجز واليأس، كما في قوله (ص11): "أعيش حربي الخاصّة مع الزّمن".

يوجّه انتقادات لاذعة للزّمن الّذي نعيشه، مستنكرا الانحطاط الأخلاقيّ، معربا عن استيائه من واقع يعجّ بالفساد، يقول (ص58): "الزّمن الّذي ابتلينا فيه بطفيليّين زعران، وتجّار مخدّرات وعملاء، يحملون السّلاح يهدّدون به أبناء جلدتهم من المواطنين العزّل".

يصف الزّمن على امتداد النّصّ بأوصاف مختلفة، فمثلا يقول (ص62): "هذا زمن السّفلة والأوباش"، ويقول (ص97): "هذا الزّمن الغشوم"، وفي (ص162) "هذا الزّمن الخوّان" وفي (ص116) "زمن ضمور القدرة على تنفيذ الرّغبات".

في أعماق اللّاوعيّ، الأحلام بوّابة إلى عالم آخر:

لجأ الكاتب إلى الحوار الدّاخليّ بشكل مكثّف؛ ليعبّر عن صراع محمّد مع ذكرياته وأحلامه ومخاوفه، ينسج النّصّ من خيوط الأحلام والكوابيس الّتي تعكس مكنونات نفس البطل المأزومة بفقد زوجته، وبعض الجوانب الخفيّة من شخصيّته ونفسيّته، وفي كلّ حلم أو كابوس، نستشعر نبضا خافقا يترجم آلامه من الفراق والفقد، نتجوّل في متاهات ذهنه، ونشهد صراعاته الدّاخليّة العميقة، ونستكشف دوافعه وخفاياه.

من خلال عالم الأحلام واللّاوعي، يسافر القارئ إلى عالم موازٍ، ينبض بالأسرار والمفاجآت، ويتمّ التّعبير عن الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ، وعن قضايا فلسفيّة ووجوديّة، أمّا أحلام اليقظة فجسّدت انعكاسا لرغبات محمّد وأمانيه؛ لتؤكّد على التّناقض الصّارخ بين عالمه الواقعيّ والمتخيّل، وتكشف عن تقلّبات مشاعره بينهما، في ظلّ تمسكّه ببصيص الأمل في بستان ذاكرته.

يكتب (ص11): "قرّرت مواصلة العيش، وليس معي من عدّة أو عتاد سوى الذّاكرة، أتّكئ عليها واستخرج منها بين الحين والآخر ما يساعدني على تجرّع الآلام، والنّظر إلى المستقبل بتفاؤل".

 

العنوان "منزل الذّكريات".. مفتاح لعمق النّصّ:

يعود به الزّمن الى الوراء، وتمرّ المشاهد في ذهنه وكأنّها شريط سينمائيّ، يتذكّر كوثر صديقه الطّفولة، ويحنّ إلى أيّام الشّباب وزواجه من سناء، يستعيد ذكرياته مع أسمهان فيشعر بالشّفقة عليها، فهي مسلوبة الإرادة وضحيّة للظّلم والقهر، تعيش مع أخيها الطّاغية الّذي استبدّ بهما وسلب بيته، فيقول ملتاعا (ص172): "سلّمته مفتاح البيت وأنا أشعر أنّني أسلّم تاريخي وتاريخ سناء، وذكرياتنا الّتي كانت لنا في هذا البيت".

بذلك يتجلّى عنوان الرّواية "منزل الذّكريات"؛ كمرآه تعكس بريق أيّام سعيدة مضت، ونبع حنين لا ينضب، يلوذ به قلب محمّد الحزين.

هذا العنوان، هو مفتاح لفهم عمق النّصّ وتشابكاته النّفسيّة والاجتماعيّة، إذ يرمز المنزل إلى الملاذ الآمن والذّكريات واكتشاف الذّات، فهو المكان الّذي يلجأ إليه البطل هربا من صخب الحاضر؛ ليعيش في عالم الأحلام.

أمّا الذّكريات فهي تداعيات وارهاصات تتحكّم في حاضر البطل، تربطه بماضيه وتمنحه الشّعور بالاستمراريّة والانتماء، لكنّها تبقيه أسيرا للماضي بشوق وعاطفة تسود السّطور، وهنا يكمن التّساؤل عن معنى الحياة والوجود، فهل الذّكريات نعمه أم نقمه؟

هكذا.. يحمل العنوان في طيّاته دلالات عميقه ومتشعبة، فهو يرمز إلى المكان والزّمان والشّخصيّة والعاطفة.

مرايا الكلمات والإسقاط السّياسيّ في النّصّ:

يمارس الكاتب فنّا دقيقا هو فنّ الإسقاط؛ وذلك لتقديم صورة إبداعيّة تتجاوز الظّاهر، وتعكس حقيقة ما وراءها، فيسقط الواقع على شخصيّات العمل، الّذين يمثّلون امتدادا للواقع السّياسيّ الّذي نعيشه بسلوكيّاتهم وأفكارهم وحواراتهم، ذات المعاني العميقة، يقدّم إشارات رمزيّة تدعونا إلى التّوقّف عندها، فالشّخصيّة الشّريرة "جميحان" تجسّد إفرازات السّلطة والأنظمة المستبدّة والاحتلال.

أمّا "أسمهان" فتمثّل الشّعوب الضّعيفة المستسلمة، ورغم الهوان الّذي تعيشه إلّا أنّها تحترم جلّادها وتخلص له.

يتابع محمّد في نقد حالنا وأحوالنا، محدّثا نفسه، متأمّلا الواقع (ص155): "هل سيهبّ رهوان للدّفاع وهو الّذي لن يجرؤ على الوقوف في وجه التيّار الكاسح للمتزمّتين؟ هل يستطيع ابن العائلة "قيس" الّذي لم ينجز ما بقي من فصول روايته حتّى الآن أن يتدخّل ولو من خلال الكتابة؛ لوضع النّقاط على الحروف ولنقد حاله الانحطاط الّتي وصلنا إليها، حيث لا احترام للرّأيّ والرّأيّ الآخر، وحيث هيمنة الصّوت والرّأيّ الواحد وتفشّي الجهل في كلّ مفاصل المجتمع؟"

يتابع: "هل ينفعك عجوز كواباتا وعجوز ماركيز، وهما الحرّان الطّليقان في بلديهما؟"

هذا الحوار الدّاخليّ يشرح الكثير، فالكاتب بذكاء يستخدم أسئلة مفتوحة، تحمل إشارات واضحة إلى التّحدّيات الجسيمة الّتي نواجهها، إذ يمثّل قيس الجيل الشّاب الّذي يحلم بالتّغيير ويسعى لاستخدام الأدوات المتاحة؛ كالإعلام والثّقافة لنقل صوته إلى العالم، لكنّه لا يفعل، لا يكتب ولا يكمل روايته!

هذا الشّعور بالعجز عن إتمام مهمّته، ينبع من الأوضاع الّتي نعيشها، وذلك ما يشير إلى دور المثقّفين، فقيس هو الكاتب الّذي يمتلك القدرة على التّأثير من خلال كتاباته، لكنّه يتردّد في استخدام هذه القدرة، ما يعكس حاله التّيه الّتي يعيشها الكثير من مثقّفينا، حيث يتصارعون بين رغبتهم في التّغيير وبين خوفهم من العواقب، في واقع يغيب فيه احترام الآراء وتكبّل حريّه التّعبير، مما يضعف نشاط المثقّف ويعرقل إنتاجه الفكريّ.

أمّا "التيّار الكاسح للمتزمّتين" فيجسّد تلك الفئة المتشدّدة، الّتي تتّسم بالتّعصب والرّفض القاطع لأيّ رأي مخالف لها، ما يؤدّي إلى زيادة الإنقسام في المجتمع، ويؤثّر سلبا على النّسيج الإجتماعيّ والثّقافيّ فيه.

شخصيّة "رهوان" أيضا، هي استعارة للقيادات المتردّدة في اتّخاذ القرارات الحاسمة، أمّا عجوزا "كواباتا" و"ماركيز" فهما نموذجان للدّول الصّديقة الّتي لا تقدّم المساعدة، بسبب الاختلاف الثّقافيّ، أو اختلاف الظّروف والأوضاع، أو المصالح والتّوجّهات أو لأيّ سبب آخر. وعن اسم "جميحان" فيشير إلى شخص سريع الحركة والفعل، هو اسم عربيّ يعود أصله إلى الجذر اللّغويّ "جمح" الّذي يدلّ على الحركة السّريعة والاندفاع، وأحيانا القوّة والعنف، أمّا "حان" فتدلّ على الوقت المناسب أو الحاضر، ولشخصيّة "جميحان" علاقة وثيقة بين اسمه وصفاته الّتي تتوافق مع سلوكه العنيف، وقدرته على التّأثير في الآخرين وإخافتهم، مستغلّا بطشه لتحقيق أهدافه، متّخذا من الدّين ستارا لتبرير أفعاله وتغطية زلّاته.

من هنا فاختيار الكاتب لاسم "جميحان" لم يكن مصادفة، وربّما يكون نوعا من السّخرية اللّغويّة، فقد وظّفت في النّصّ بعض المواقف والكلمات السّاخرة، الّتي تتراوح بين النّقد اللّاذع وبين الفكاهة الّتي تخفّف من وطأة الواقع، وتسمح بتقبّله.

إنّها سخرية تحمل في طيّاتها وعيا عميقا، تشدّ انتباه المتلقّي وتخاطب العقل والوجدان، تجعل الأفكار أكثر تأثيرا، وتكشف عن مكامن الخلل، وتحرّك الوعي إلى إعادة النّظر في المسلّمات والبديهيّات.

بين ثنايا السّطور، تأمّلات وهمسات الكاتب:

في ثنايا السّطور، ينثر الكاتب حِكَما استقاها من تجاربه، ينتقد التّفكير الذّكوريّ الّذي يقيّد المرأة، فمثلا يكتب عن أسمهان (ص90): "لم يسمح لها بمواصلة تعلّمها في المدرسة، أخرجها منها وألزمها البقاء في البيت، كما لو أنّ فضيحة ستحلّ بالعائلة". ويقول عن فريال (ص31): "تأسّيت على الجمال الّذي لا يسنده ثقافة رصينة وارفة".

نتذكّر هنا ما ورد من شعر بشر الفزاريّ حيث يقول: لا خير في حسن الجسوم وطولها، إذا لم يزن حسن الجسوم عقول.

كما يشير إلى غياب ثقافة القراءة في مجتمعاتنا العربيّة، ويتساءل على لسان محمّد عن مصير كتبه بعد رحيله؛ وكأنّها جزء من روحه سيفارقها رغما عنه، يقول (ص83): "هي كتب في بعضها وصف عميق لما نحن فيه من تخلّف وانحطاط، وإشارات صحيحة إلى طريق الخروج مما نحن فيه من تخبّط وبؤس، وفوضى وجهل وخراب، لكن.. قلّة هم الَّذين يقرأون الكتب، وقلّة هم الَّذين يدركون إلى أين نحن سائرون".

وبعد.. تترك هذه الرّواية أثرا عميقا في نفوس القرّاء، فهي رواية توسّع المدارك وتثير العواطف وتشعل الحواسّ، تحمل رسالة هامّة عن الحياة والذّاكرة الّتي توجهّنا عبر متاهات الزّمن، فالذّاكرة هي الكنز الّذي نحمله معنا أينما ذهبنا، وهي شاهد على التّاريخ الشّخصيّ والجماعيّ، وأداة للبقاء والتحدّي في وجه النّسيان والمحو، وهي أيضا الجرح الّذي لا يندمل، والجسر الّذي نبني عليه مستقبلنا.

استضافت ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسية الأسبوعيّة الكاتبة أصيل عبد السّلام سلامة من رفح غزة هاشم لنقاش مجموعتها القصصية " قمر 14 وقصص أخرى" التي صدرت عن مكتبة كل شيء الحيفاوية 2024.

المجموعة تقع في 103 صفحة من القطع الصغير، وتحتوي على 86 قصة قصيرة جدا، مقسّمة إلى ثلاثة أقسام.

ابتدأت مديرة الندوة ديمة جمعة السمان، قالت:                                         

تأتي مجموعة "قمر 14" كصرخة أدبيّة نابضة بالحياة، تحكي يوميات شابّة عاشت الحرب في غزة بكلّ ما فيها من خوف، نزوح، فقدان، وذكريات ممزّقة بين الحنين والواقع القاسي.

صاحبة المجموعة هي الشّابة العشرينيّة أصيل عبد السلام سلامة من مدينة رفح، أقصى جنوب قطاع غزة.

صدرت عن مكتبة كل شيء الحيفاوية في 103 صفحات من القطع الصّغير، ضمّت بين غلافيها 86 قصة قصيرة تحمل عناوين شيّقة، رسمت خلالها الكاتبة مشاهد مكثّفة ومؤثّرة، تعكس تجربة الحرب من منظور فردي شديد الإنسانية، بعيدًا عن الخطاب السّياسي المباشر، مما يجعلها أقرب إلى شهادة حيّة تروي مأساة إنسانيّة عابرة للحدود. .

تأتي النصوص على هيئة لقطات أو ومضات سريعة، أشبه بصفحات من دفتر يوميات أو شذرات من الذاكرة، تكتبها أصيل سلامة تحت القصف، لتلتقط لحظات لا تُنسى في حياة أسرتها. هذا الأسلوب يضفي على النصوص طابعًا صادقًا، بعيدًا عن الزخرفة البلاغية أو التكلّف في السرد. فالمواقف والأحداث تُروى ببساطة مباشرة، لكنها تحمل في طيّاتها وجعًا لا يُحتمل.

تَظهر في المجموعة مفارقة مؤلمة بين الأحلام البسيطة التي كانت جزءًا من الحياة اليومية، وبين العنف الذي قلبها رأسًا على عقب.

في أحد المشاهد، تستحم الراوية قبل النزوح من المنزل، متسائلة ببراءة: “يا عالم، متى أستطيع أن أستحمّ؟”—هذه الجملة البسيطة تختزل المعاناة اليومية وتحيل القارئ إلى معنى الفقدان المستمر للحياة الطبيعية.

وفي مشهد آخر، تغلق الأسرة باب الشقة بمفتاح قبل النزوح، كي لا يسرق، على أمل العودة، لتكتشف لاحقًا عبر التلفاز أن منزلها قد تلاشى تمامًا. هذه المشاهد، رغم بساطتها، تحمل رمزيّة عميقة عن الانفصال القسري بين الإنسان وماضيه.

تبرز المجموعة أيضًا الجانب النفسي للحرب، حيث تصف أصيل مشاعرها المتضاربة: الخوف، الأمل، الحزن، والانكسار. مشهد بكائها حين تم ذكر اسمي شقيقتيها مثال على ذلك، فهي ترفض أن تبكي أمام الآخرين، لكن عدم معرفتها يمكانهماّ أفقدها السيطرة على مشاعرها، ليصبح البكاء خيانة غير مقصودة أمام قسوة الواقع.

اللغة في المجموعة تتّسم بالسلاسة والبساطة، لكنها في ذات الوقت مشحونة بالعاطفة والمعاني. فهي لا تحتاج إلى زخرفة لغوية أو استعراض بلاغي، لأن صدق المشاعر المنسكب في النصوص يجعلها مؤثرة بما يكفي. وهذا يعكس طبيعة الكتابة في ظروف الحرب، حيث تصبح الكلمات وسيلة للبقاء والتوثيق، لا مجال فيها للترف أو الاصطناع.

وأقف مليا عند النص الأخير، إذ أرى فيه بصيص أمل وسط الركام ، فقد جاء بعنوان “أمنية” ليشكّل ختامًا مختلفًا عن باقي النصوص، حيث يبتعد قليلًا عن أجواء الحرب المباشرة، لكنه يحمل في طياته رمزية عميقة تعكس توق الإنسان للحياة رغم الألم.

تقول الكاتبة: في تلك القرية بائعة ورد، زبائنها العشاق، تبيعهم الورد فتظهر ضحكة وتخفي أمنية: ( متى سأهدى وردة)؟”

هذا النص القصير، رغم بساطته، يفتح أفقًا جديدًا وسط العتمة، فهو لا يحكي عن الحرب بشكل مباشر، بل عن الحياة التي يحلم بها أولئك الذين عاشوا وسط الدمار.

بائعة الورد هنا ليست مجرد شخصية عابرة، بل رمزٌ للأمل المكبوت، للحياة التي تأجلت، وللرغبة في الحب والفرح التي قُمعت بفعل الواقع القاسي.

في سياق المجموعة التي تفيض بالوجع والفقد، يأتي هذا النص الأخير ليضيء زاوية مختلفة: الحرب لم تسلب فقط الأمان والمنازل والذكريات، بل سرقت من البشر أحلامهم الصغيرة، أبسطها أن تُهدى فتاةٌ وردةً كما يفعل الآخرون. إنها أمنية عادية في زمن عادي، لكنها تبدو مستحيلة في زمن الحرب.

هذا الختام يجعل القارئ يتأمل في فكرة أن الألم ليس فقط في الفقدان المباشر، بل في الحرمان من التفاصيل الصغيرة التي تشكّل جوهر الحياة.

في النهاية، قمر 14 ليس مجرد مجموعة قصصية عن الحرب، بل هو صرخة إنسانية تقول: “نحن هنا، نحلم رغم كل شيء.”

وقال محمود شقبر:

1

في 103 صفحات من القطع المتوسط، صدرت مجموعة "قمر 14 وقصص أخرى" للكاتبة أصيل عبد السلام سلامة، عن مكتبة كل شيء/ حيفا 2024، بإدارة أ. صالح عباسي وتصميم شربل إلياس.

في هذه المجموعة القصصية تكتب أصيل سلامة قصصها القصيرة جدًّا من وحي المعاناة، وبإحساس مرهف يتمّ من خلاله التفاعل الحي مع تفاصيل الحرب وما ينتج عنها من آثار نفسية ومادية على الناس، وخصوصًا على الأطفال والنساء.

في هذه القصص المكتوبة بجمل اسمية حينًا وبجمل فعلية حينًا آخر يتناوب ضمير المتكلم مع ضمير الغائب لتعطينا الكاتبة سردًا مشوّقًا في القصص البالغ عددها 87 قصة قصيرة جدًّا، بحيث نلمس خيطًا رقيقًا ينتظم هذه القصص، كما لو أننا نشاهد شريطًا مصورًا محبوكًا بتصميم على إيصال الفكرة إلى القراء؛ الفكرة التي ترفض الحرب وما ينتج عنها من معاناة، وتجد في النزوح من البيت جريمة تمس كرامة الناس وأمنهم، وتعدُّ من أفدح المصائر في زمن الحرب.

2

تكتب أصيل سلامة هذه القصص بلغة سلسة جميلة، وبأسلوب سردي متقشّف لا تطويل فيه ولا استطرادات، طال غالبية قصص المجموعة، وبنهايات مفاجئة صادمة لأغلب القصص على وجه التقريب، بحيث ينطبق على هذه القصص القول المأثور: خير الكلام ما قلّ ودل، وللتمثيل على ذلك نقرأ القصة القصيرة جدًّا التالية المكونة من ثماني كلمات، الموسومة ب "حيرة: "فكّ خيمته/ تنهّد/ ولم يدر أين سينزح مجددًا."

وفي المجموعة استثمار جيد للمفارقات التي تنشأ من تقابل المعاني والحالات المتكوّنة من المحسنات البديعية للغة، ومن استخداماتها بطريقة ذكية لافتة، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ مثلًا: "أسير وأسير وقلبي للماضي أسير"ص28، أو حين يصبح الزمن في زمن الحرب ثقيلًا قاسيًا: "كأنني غبت عنك ثلاثة قرون وليس ثلاثة أيام"ص23، أو حين يعزّ وجود الماء في زمن الحرب: "أشرب ماء باردًا وتستمر الحرب الساخنة المدمرة"ص18. أو حين يثني شخص ما على جمال الفتاة قاصدًا التقرب منها، فتجيبه على نحو مخيّب لآماله: "شكرتْه على رأيه وذهبت كي ترى حبيبها"ص69. أو حين تضعنا الكاتبة أمام مشاهد غرائبية: الرجل الوحيد الذي يحلم بأن أحدًا ما يعضّه، يستيقظ مذعورًا، ثم "لم يعد ينام لأنه رأى أثر الفكين على ساعده"ص54 ، أو حين يتمرد بطل القصة على كاتب القصة المأزوم، يهرب من قبضته وينام على سريره من دون هموم. ص75. أو حين تريد الكاتبة أن تظهر مقدار الجهد الذي يبذله المحب لكي يستحضر صورة حبيبته، فتحشد من أجل ذلك ثماني جمل مبدوءة بالفعل الماضي أمام جملة واحدة مبدوءة بالفعل المضارع: "كوى... ارتدى...صنعَ...جهَّزَ...قطفَ...وضعَ...اتكأَ...أغلقَ...كي تستحضرها ذاكرته.."ص49.

3

وبالتقشف اللغوي ذاته ومن دون استطرادات تطلعنا الكاتبة على ويلات الحرب ضد المدنيين من الأطفال والنساء، وعلى جرائمها المفجعة التي ترسخ في الذاكرة ولا يمكن نسيانها: "وجد رجال الإنقاذ تحت الأنقاض امرأة وطفلًا (...) تألموا أكثر حين وجدوا على مسافة قريبة من الطفل حمامة بيضاء"ص45.

مثل آخر على فظائع الحرب: "في آخر الطريق بيت مهدوم، عثر بين ركامه على جثتين لرجل وامرأة، في يمينيهما خاتمان مكتوب في أولهما: على العهد، وفي ثانيهما: حتى الموت"ص38.

مثل ثالث عن العروس التي كانت "ترطب قدميها كي تغري فارسها بنعومة مثيرة، ولم تكن تعلم أن ساقها ستكون أول فرائس الحرب المشؤومة"ص33 .

4

وبرغم ضراوة الحرب واستهدافها البشر والحجر والشجر، فإن التوق إلى أيام طبيعية هادئة لم يغادر الناس الصامدين في وطنهم في قطاع غزة من شماله إلى جنوبه، ثمة قصص في المجموعة تتشهى أيام الهدوء وتستذكرها بلهفة وحب، تستذكر التفاصيل الصغيرة الحميمة التي عزّ وجودها في زمن الحرب، وحين يتحقق بعضها تكون له وقع المفاجأة.

ثمة في الوقت ذاته إصرار على الصمود ورفض العدوان، وثمة إصرار على تجدّد الحياة: "ألقيت القنابل على البلدة المنكوبة/ فقتل الأطفال/ ثم جادها الغيث/ فنبتَ في أرضها الأطفال."ص47

تحية للكاتبة أصيل عبد السلام سلامة، ابنة رفح النازحة في خانيونس وفي مواصي خانيونس، العائدة بعد الهدنة الأخيرة إلى رفح، بعد العيش في خيمة لا تقي من البرد والمطر لأشهر طويلة.

وقال د. عمر صبري كتمتو:


تقع المجموعة بين دفتي مائة وست صفحات، دون تقديم، لكن بإهداء خاص ومؤثر :  الى والديِّ الكاتبة جاء فيه : إلى والديَّ . إلى الواقع الذي بخُلَ بتجسيد معاني ، الطفولة ، السلام ، الحبُ والأمان .

اول ما جذب انتباهي بعد أن قرأت هذا الإهداء ، سألتُ نفسي : ماذا تبقى لها في ولطفولتها بغياب ذاك الثالوث كي يعيش الطفل طفولته ؟ أيُّ قَدرٍ هذا الذي يرافق الفلسطيني من لحظة ميلاده داخل فلسطين أو في المنفى منذ مذابح البدايات داخل وطنه و في الشتات، وكيف يمكنه أن يستعيد طفولته التي يبدأ البحث عنها، من لحظة ولادته، وحتى نهاية شيخوخته، وكأنه يلهث لُهاثه الأخير ، بينما يعيش على أرضٍ  لم يعِش عليها ولم يفتح رئتيه في يومِ من الأيام كي يأخذ من رائحة ذلك التراب شُحنةَ حبٍّ أو سلامٍ أو أمان ؟ فقد وضعت الكاتبة كلَّ من يبدأ قراءة هذه القصص أمام واقعٍ  يعيشه مثلما عاشته هي سواء كان في المنفى أم في الوطن.

في كل قصة تأخذ الكاتبة  القارئ الى عالم تتشابك فيه المشاعر ، بين الفرح ، والألم، كما نرى في قصة حياة ، حين تنتقل الكاتبة بقفزةٍ واحدة من داخل السجن إلي ماخلف السور، فتنقل لنا ماهو خلف سور السجن، صورة حياة الطفولة الجميلة، وتحدثنا عن افراح الطفولة حيث تمرح فيها سنابل الحقول ، وضحكات الصغار التي تعزف معزوفة السلام،  والأمهات اللواتي يركضن الى اولادهنَّ لقطف قبلة الصباح من خدودهم قبل الصعود الى الحافلة وهي تأخذهم الى المدرسة، وينتظرون عودة الاطفال الى البيوت بسلام، وهم يسمعون خرخشة الأكياس التي يحملها الأب عند عودته لحضن اسرته ، وتنتظره أيادٍ صغيرة في سلامٍ واطمئنانُ يتبدَّدُ فجأةً بعد فرار هذا المشهد الخيالي من مخيِّلة الطفل الذي يستفيق فجأةً من حلمهِ على ضربات مطرقة يحملها طفلٌ آخر داخل السور  يدقُّ وتداً في الأرض لتثبيت خيمةٍ تقيم الأسرة فيها.

هكذا وبأسلوبٍ شيِّقٍ ، ولغةٍ جميلة تنقلنا الكاتبة من الخيال الذي تتمناه الطفولة الى الواقع الذي حرمت منه. وهكذا يستمر السرد بلغةٍ جميلة بسيطةٍ، تنقلها مشاعر انسانية، وأسلوبٍٍ منطقي، يحثُّ القارئ على التفكير بعمقٍ وتحليل. فقد تمسكت الكاتبة المتمكِّنة من معرفتها بما هو

خلف السور، بذكاءٍ وإيمان كونها لازالت ثابتة على ارض الوطن، حيث تستطيع أن تتنقل فيه بطريقتها، فتخرج من داخل السور ثم تعود الى داخله ، ناقلةً صورة هذه المأساة من خلال الكتابة الأدبية، عُدَّتُها القلم والورقة، في مواجهة الظلم والقتل والكراهية.

اجد نفسي متفاتجئاً بهذا المستوى الراقي من العمل الأدبي الأول للكاتبة الفلسطينية الشابة والمناضلة، نعم متفاجئاً لهذه القدر الرائعة في باكورة كتابتها والتي تبشر بأسلوبٍ فيه تجديد لأدب المقاومة، وأبارك لها هذا الابداع وهذه الافكار في تناولها الصراع بين الظلم والعدالة، فضلا عن قدرتها المتميزة في تشويق القارئ بغض النظر عن اختلاف القراء واختلاف لغاتهم، ولهذا أرى أن هذه القصص القصيرة جداً هي إنسانية التعبير، فلسطينية المنشأ، ليس كأسلوب، لكن كهوية.

إن قصص قمر 14 القصيرة جدا عملٌ أدبيٌّ تحتاجه مكتباتنا الأدبية، ويسعدني أن أبارك للكاتبة أصيل عبد السلام سلامة صدور باكورة لعملها الأدبي، وبانتظار اعمالٍ قادمة.

 

وقالت د. روز اليوسف شعبان:

تأخذنا الكاتبة في هذه المجموعة القصصيّة التي تتكوّن من قصص قصيرة وأخرى قصيرة جدّا، في سرديّة جلّها ألم، فقدان، جوع، تهجير، لجوء، ضياع، ونزوح في غزّة المنكوبة.

   القصّة القصيرة جدًا هي نوع أدبي يتميّز بإيجاز شديد، لا يتجاوز النص بضعة أسطر، وأحيانًا قد يكون في سطر واحد فقط. يهدف هذا النوع إلى تقديم حدث أو موقف مكثّف يثير الدهشة أو التأمّل لدى القارئ. غالبًا ما تحتوي على عنصر مفاجئ أو نهاية غير متوقعة تثير دهشة القارئ، كما تتميّز بالرمزيّة، والتكثيف والوحدة الموضوعية. (مجلّة أوراق ثقافيّة، نيسان 2020، موقع موضوع، منصّة لبيب).

في العديد من قصص هذه المجموعة، يتراءى طيف جدّ أصيل خلف الكلمات، هذا الجدّ الذي تشتاق له فتعبّر عن شوقها ورغبتها في اللقاء به:" أريد أن يأتي النت واراسلك يا جدّي"(ص 20). :"حزينة لأنني أفتقد جدّي"(ص 19). :" أنا بخير يا جدّي وكلّي أمل أن يعود الاتّصال بالنت كي تصلك رسائلي"(ص 17).

:" أعانك الله يا جدي على قراءة رسائلي حين تصلك، أنا أكتب لك عن كلّ شيء كأنّني غبت عنك ثلاثة قرون وليس ثلاثة أيّام"(ص 25).

يمثّل الجدّ بالنسبة لأصيل، الجذور، الوطن، التاريخ، الحبّ والأمان، لكنّها في ظلّ الحرب تفتقده وتتوق لرؤيته، تفتقد الشعور بالأمان والحبّ. فهل سيعود الجد وتلتقي الكاتبة به ويعود الشعور بالأمان إلى قلبها؟

تتطرّق أصيل في العديد من قصصها إلى قصصها الشخصيّة العائليّة، فهي الساردة بضمير المتكلّم، تسترجع في سردها ذكرياتها الجميلة في بيتها، نزوحها من البيت بحزن وألم، العيش في خيام النازحين، بكلّ فيها من ألم، خوف، رعب، جوع، حسرة وحرمان. في قصّة البيت (ص 89) تذكر الساردة النزوح الأوّل لوالديها بعد النكبة عام (1948) من الرملة إلى رفح، وها هو النزوح الثاني الذي يجعل الأسرة تحزم أمتعتها بعد أن تلقّت إنذارا بإخلاء البيت، فتستحمّ أصيل قبل المغادرة، وتطلب من والدتها أن تقصّ لها شعرها الجميل الذي أحبّته جدتها، تقول أصيل:" ثمّ سرحت وأنا أتأمّل أشجار الحديقة وحيطان البيت الذي سنغادره مضطرين، مثلما غادر أبي وأمّي بيتهما قبل سنوات". (ص 89). وهكذا تبدأ أصيل وعائلتها في مسيرة شاقّة من النزوح والحزن والألم. وتتوالى الصور والمشاهد المؤلمة من داخل غزّة، فتسترجعها الكاتبة بكثير من الحسرة والتأثّر. فها هو العيد يطلّ عليهم، حزينا صامتا بعد أن كان يملأ البيوت والساحات فرحا وبهجة، وتلك طفلة نازحة تفرح بالماء الذي وصل بعد انقطاع (قصة الماء ص 31)، وعروس تفقد ساقها من القصف (ص 33)، أسير يخرج من السجن الانفراديّ بعد ثلاثين عاما جثّة هامدة (قصّة أسير ص 31). وفي قصّة لون الجوع (ص 70)، تصوّر الكاتبة حالة الجوع التي تعتري الأطفال، فيرسم الطفل رغيف الخبز ويلوّنه بلون الجوع. في قصّة حيرة (ص 71) تصوّر شخصا يفكّ خيمته لا يعرف أين سينزح مجدّدا، وفي قصّة أسئلة (ص 87) تتساءل الساردة أين ستقيم هي وأهلها؟ هل سيجدون خيمة تؤويهم؟ هل ما أخذوه من فراش وملابس وأغطية تكفيهم؟ ماذا سيحدث للبيت الجميل بعد نزوحهم؟ كلّ هذه الأسئلة تدور في خلد الساردة ومثلها في نفوس جميع النازحين، هذه البيوت التي شَقَوْا في بنائها، وعاشوا فيها سنين عمرهم مع أولادهم وأحبابهم، بكل ما فيها من ذكريات وفرح وشقاء وكفاح من أجل لقمة العيش، كلّ ذلك هُدم كأنّ شيئا لم يكن، حتى بعد إعلان الهدنة تم قصف البيوت وقتل الناس، ففي قصّة تهنئة (ص 60) تصوّر الكاتبة قصف أحد البيوت ومقتل صاحب البيت بعد أن تلقّى مكالمة لتهنئته ببشرى الهدنة.

   لم تغفل الكاتبة ذكر معاناة البيت الذي أنسنته وجعلته يحزن على نزوح ساكنيه، تقول في قصّتها من يوميّات بيتنا (ص 97):" الياسمين في حديقتي ينتظرهم، نبتة العطرة تحتفظ برحيقها لهم، مدخل البيت ينتحب لعدم مرورهم فوقه، باب الشقّة وباب المنزل ما زالا مغلقيْن بالمفتاح، لن يفتحهما أحد غريب سأدافع بكلّ ما أوتيت من وفاء...".

وفي غمرة هذه القصص المؤثّرة تأتينا الكاتبة بقصص أخرى تصوّر واقع الحياة. ففي قصّة لقاء (ص 40) تتطرّق الكاتبة إلى علاقات الحبّ التي تكون من طرف واحد، وما تتركه من ألم على الحبيبة المغدورة، وفي قصّة غرور تذكر غرور الإنسان بنفسه، وغيرها من القصص الاجتماعيّة.

فهل يمكن اعتبار هذه القصص قصصا قصيرة جدّا؟

في معظم قصص المجموعة وجدت أنّها تخلو من عنصريّ المفارقة والدهشة، وإنّما هي استرجاع لأحداث عاشتها الكاتبة خلال فترة الحرب، وقد تكون خواطرَ أو مذكّرات، أو تصويرا لمشاهدَ لا تروق للكاتبة فتنتقدها، مثل قصّة استثمار (ص 48) لتي تنتقد فيها ظاهرة التسوّل:" قرب القلعة تجلس متسولة وتقول:" شيء لله". أعطاها أحد المارّة شاقلا فقالت له غاضبة:" هذا قليل"، ثمّ تنحنحت لتقول" أقصد أبهذا ستلقى الله؟ شيء لله".

كذلك قصّة فستان (ص 49)، وقصّة حبّ (ص 51)، وقصّة عقد (ص53)، وملاحقة (ص 63)، وغيرها الكثير..

وهناك بعض القصص التي خلت من الدهشة والمفارقة لكننا نجد فيها رمزية وتكثيفا في المعنى مثل قصّة وطن:" رأى فيها وطنه فأحبّها، تعلّق بها، أدمنها بجنون، ثمّ تزوّجت من غيره. يا للمسكين! نسي أنّ الوطن يغزوه محتلّون". كذلك نجد عنصري التكثيف والرمزية في قصّة مثال (ص 56):" قال الأستاذ:" السلسلة الغذائيّة تكون باعتماد طرف على الآخر". من يعطيني مثالا: الطالب النجيب قال: عصفور، أفعى. وطالب من آخر الصّف أجاب بغصّة: وطن، قائد، ظهرت الرمزيّة أيضا في قصّة معلمتي(ص59).

هناك العديد من القصص التي وجدت فيها عنصريّ المفارقة والدهشة منها: قصّة حريق (ص 67)، قصّة قمر 14 التي تحمل هذه المجموعة اسمها:" الشاب ينتظر الفتاة التي أحبّها بفارغ الصبر، بعد أن أعطته موعدا كي تراه. سألته عن طلّتها فقال: قمر 14. شكرته على رأيه وذهبت كي ترى حبيبها".

وفي قصّة خروج (ص 84) نجد المفارقة والدهشة أيضا:" رفع بيده ستار الخيمة وخرج. لسعه الهواء، هرب إلى ذراعيّ أمّه، فوجدهما أكثر برودة، وثمّة أصوات عويل حولها وبكاء".

وفي قصّة حرص (ص 73)، نجد المفارقة والدهشة حين اكتشفنا أن الأم أيضا وقعت في شباك الشباب: أمسكت يد ابنتها بخوف وحرص شديدين؛ لتحذّرها من الشباب، فكم أوقعوا البنات في شباكهم، وأضمرت في نفسها:" حتّى أنا".

إجمال:

كتبت هذه المجموعة بلغة سلسة جميلة وبأسلوب رمزيّ اعتمدت فيه الكاتبة على تقنيّة الاسترجاع، والراوي بضمير المتكلّم. ومن وجهة نظري يمكن اعتبار هذه المجموعة القصصيّة "قمر 14"، مجموعة من المذكّرات، واليوميّات التي عاشتها الكاتبة في ظلّ الحرب على غزّة بعد السابع من أكتوبر 2023، والتي من خلالها تصوّر في معظمها، حالات النزوح، ترك البيوت بكل ما فيها من ذكريات، العيش في مخيّمات النازحين، الموت، الجوع، العطش، الخوف، البكاء، الحسرة، الوحدة وغيرها. في حين حوت بعض القصص انتقادا لحالات اجتماعيّة لا تروق للكاتبة فتنتقدها بأسلوب لا يخلو من الرمزيّة والتكثيف في المعنى.

ورغم ما تحمل هذه المجموعة المؤثّرة جدّا من مشاعر الألم والفقدان، إلّا أن الأمل يلقي بظلاله عليها فتعبّر عنه في قصّتها بلدة (ص 47):" ألقيت القنابلُ على البلدة المنكوبة، فقتل الأطفال، ثمّ جاءها الغيث، فنبت في أرضها الأطفال".

مبارك للكاتبة أصيل هذا الإصدار المؤثّر وإلى مزيد...

وقال المحامي حسن عبادي:

يعتبر عنوان الكتاب عتبة نصيّة هامة؛ وه نحن أما عنوان مميّز؛ فالقمر في اليوم الرابع عشر من كلّ شهر يكون بدراً كاملاً بطلّة جميلة ونور ساطع ووصفه يعبّر عن جمال الأشياء، وكتبت في القصّة التي تحمل المجموعة عنوانها: "رشّ المزيد من العطر، فالجميلة أخيراً أعطته موعداً كي تراه، وحينما حضرت سألته عن طلّتها؟ فقال: "قمر 14". أخذني العنوان لفيلم ضوء القمر (MOONLIGHT TRAILER) للمخرج باري جينكينز حيث ينعكس الضوء من على سطح القمر لينير الليالي.

وتهدي الكتاب "إلى الواقع الذي بخل بتجسيد معاني الطفولة، السلام، الحب والأمان".

وسمت الكاتبة و/ أو الناشر الكتاب "قصص قصيرة جداً"؛ تتألف القصة القصيرة جداً من عدد محدود من الكلمات، مكثفة، فيها نوع من الإدهاش، تشبه الكاريكاتير، تحتوي على السخرية والمفارقة. ابتدأها الروائي إرنست همنجواي بقصّة من ست كلمات فقط: "For sale: baby shoes, never worn." ، "للبيع: حذاء طفل، لَمْ يُلْبَسْ قَطّ." ، ست كلمات جديرة بالتأمل والتفكير، غزيرة المعنى.

طوّرها الكاتب أوغستو مونتيروسو في ومضته -الديناصور: "When he woke up, the dinosaur was still there." "حين استيقظ، كان الديناصور ما يزال هناك". نجد فيها التكثيف، المفارقة، إيحاء ونهاية مباغتة، وتجانس وترابط بين العنوان وشطري النص، وكذلك بين شطري النص ذاتهما.

حين قرأت الكتاب قراءة ثانية متأنيّة تساءلت؛ هل هي يوميات و/أو خواطر و/أو ومضات و/أو قصص قصيرة جداً ووجدت الإجابة عبر الحروف والصفحات.

جاء الكتاب في ثلاثة فصول؛ ابتدأت الفصل الأوّل: "في الصباح، كانت الحافلة تأخذني من بيتي في الجنوب إلى الجامعة في الشمال". أمّا الفصل الثاني فابتدأ: "في المساء كانت الحافلة تعيدني من باب الجامعة في الشمال إلى بيتي في الجنوب". والفصل الثالث: "لم تعد هناك حافلة ولا جامعة ولا رفيقات دراسة. أنا الآن في خيمة من خيام النازحين".

وجدت العناوين سيمفونيّة جاذبة وأخذتني إلى سيمفونية ضوء القمر (Moonlight Sonata ، واسمها الأصلي بالألمانية Mondschein سوناتا بيانو رقم 14 لبيتهوفن)؛ حياة، أحلام، انتظار، خوف، رسالة، صوت، ماء، تلفاز، افتقاد، أزهار الليمون، قطف، رسائل، ليل، ليلة العيد، صباح العيد، طفل، ورد يا حلوة، مفاجأة، ماء، ضياع، عروس، مدينة، مسدس، عهد، سارق، لقاء، سحاب، زنزانة، أسير، استغفار، حمامة، جدران، بلدة، استثمار، الغائب الحاضر، فستان، حب، وطن، عقد، عضّة، جوع، مثال، خوف، نسيان، معلّمتي، تهنئة، وحدة، ملاحقة، غرور، شهرة نصف كم، رغبة، حريق، فراق، قمر 14، لون الجوع، حيرة، صراع، حرص، ضوء القمر، تمرّد، قدر، هراء، اختفاء، وردة، حتى هو، احتماء، أرق، التهام، خروج، بيت، نزوح، أسئلة، أرواحهم، البيت، حلم، حفلة، أول أيام النزوح، استحمام، دموع، إناء الألمنيوم، مراحل، من يوميات بيتنا، بستان، الجدّة، مرآة، اعتراف...وأمنية!

أخذتني الكاتبة إلى أجواء المقتلة التي تحدث في غزة وخباياها؛ لنتذوّق معها لون الجوع، وطعام التكيّة، نتحسّس الوتد والخيمة وألم النزوح، نصغي سوياً لصوت الطائرات والزنانّة ونصبح خبراء بطائرات الاستطلاع، ودوي سيارات الإطفاء، والحيرة الغزاويّة (فكّ خيمته، تنهد، ولم يدرِ أين سينزح مجدداً ص. 71)، ونذوق طعم الأرق ومرارته (نامت بعد ساعات من الأرق، نامت نوماً متقطعاً بسبب القصف وصوت الطائرة الزنانة. رأت في المنام صواريخ متساقطة وبيوتاً مهدمة وأسرى وشهداء. ثم رأت نفسها وهي تسكن في العراء. ص. 82)، ونعيّد معها، فليلة العيد "لا شيء سوى الصواريخ والطائرات وعشرات آلاف خيام النازحين والنازحات" (ص. 25)، ونفرح سويّة فرحة بريئة "فرحتها كانت بريئة مفاجأة تلك الطفلة النازحة حين وصلنا ماء البلدية بعد انقطاع" (ص. 31)، ونشعر بالوحدة مع أم الشهيد "الكل يهتف منتشياً بانتهاء الحرب، الكل يكبّر، المقاومون يُزَفّون، الأخبار تهنئ الشعب... وأم الشهيد وحدها تبكي وحدتها بالحزن على ابنها" (ص. 62)، واحتمينا احتماء غزيّ (أثناء تشييع جنازة أبيه الشهيد، علا صوت القصف، فاحتمى بأبيه للمرة الأخيرة. ص. 81) واحتفلنا معاً حفلة غزاويّة بامتياز "تسمع الطفلة صوت الانفجارات فتصرخ وتمعن في البكاء، تهدئها أمها وتقول لها:

حفلة يا ماما، حفلة

صوت طبول ورقص وغناء" (ص. 91)

عايشنا عبر الشاشات ما يحدث في غزة؛ لكن الكاتبة أعادتني إلى رواية "سينما غزة" للكاتب محمود عمر، تأخذ بيدنا بجولة من نوع آخر، تمسك بيدنا لنتحسّر معها "لكن هذا كله لن يحدث في بلد لا نجد فيها رأس بصلٍ حتى!" (ص. 13)، ونشرب كوب ماء "اليوم هو أول يوم أشرب فيه كوب ماء بارد منذ حوالي 7 شهور" (ص. 18)، ونفرح بالكهرباء "كانت فرحتنا عارمة حينما أنرنا مصابيح البيت التي أكلها الغبار، بسبب عدم إنارتها لانقطاع التيار الكهربائي منذ 7 شهور" (ص. 19)،

كتبت أصيل سلامة بلغة سهلة انسيابيّة، تلقائية وعفويّة بريئة، لا تخلو من السخرية السوداوية القاتلة؛ بلغت ذروتها في قصّة "جوع": حضر الصحفي المتكرّش إلى طابور من الأطفال المشردين يحملون علباً بلاستيكية لتعبئتها بما تيسّر من طعام التكية، أخذ يصوّر الخيام والحياة البائسة، ثم أوقف أحد الأطفال وقد أهلكه الانتظار. سأله: أنت من خان يونس أم غزة؟ فقال له: أطعمني أولاً وبعد ذلك أجيبك" (ص. 55). وقصّة "معلّمتي": "معلّمتي التي كانت تكتب دوماً في خانة حكمة اليوم: بلادي وإن جارت عليّ عزيزة... قرأتُ اليوم اسمها في أولى صفحات سجلّ المهاجرين!" (ص. 59). وقصّة "تهنئة": "في آخر ساعات الحرب استقبل مكالمةً لتهنئته ببشرى الهدنة. التمع نورٌ حادٌّ في السماء، سمع الناس صوت صاروخ. بعد دقائق وجدوا بيته مدمراً وفريق الإنقاذ ينتشل جثّته متفحّمة". (ص. 60)

وأخيراً؛ أبكتني أصيل حين قرأت قصّة "أسير":

"الأسير رقم 203 قضى كل حياته متمنياً الخروج، حالماً بأول عناق بعد طول غياب متخيلاً صوت ضحكات الفرح والاحتفاء البهيج به. ناضل كثيراً في السجن وأضرب لشهور عن الطعام كي ينال حريّته. وفي اليوم الموعود صباحاً جاءه نذير يبلغه أنه قد فقد آخر فرد كان ينتظره-أمّه -" (ص. 43)، موقف عايشته في الفترة الأخيرة مع أصدقائي الأسرى حسام زهدي شاهين، عنان الشلبي، سامر متعب، وآخرهم رائد السعدي الذي توفيّ والده هذا الأسبوع، وغيرهم كُثر.

وقالت وجدان شتيوي:

قصص قصيرة جدًّا بمغزى كبير، وكأنّها استقطعت من زمن ما بين سكون قصف والخوف من مباغتة آخر. وأنا أقرأ تراءت لي الكاتبة كمن أراد أن يستغلّ ما لديه من وقت يقاس بدقّات الفزع ليصوّر أكبر قدر من مشاهد حيّة نضجت على موقد القلق والترقّب.

استخدمت الكاتبة لغة سلسة انسيابيّة، ونهايات مفاجئة تبعث على الدّهشة لتعبّرعن معاناة النّاس اليوميّة في الحرب، وما يكابدونه في رحلة النّزوح القاسية وتطرّقت لأدقّ التّفاصيل من صعوبة الحصول على المياه والاستحمام والاتّصال، ومرارة الجوع الذي قد يؤدي بالبعض للسّرقة وغير ذلك.

وأشارت في قصّة "زنزانة" صفحة 42 التي جاء فيها: " ....جثّة هامدة بملابس ملوّنة، أو كفن ملوّن، هكذا صار بعد أن خرج من زنزانة الحبس الانفراديّ بعد ثلاثين عامًا." لمعاناة الأسرى، وألحقتها بقصّة تؤكّد أنّ معاناتهم لا تنتهي بعد تحرّرهم من غياهب الظّلم والظّلام، إذ يُصفع الكثير منهم فور خروجهم بفقدان من كانوا بانتظارهم من الأحبّة.

من القصص التي تلامس القلب جدًّا قصّة عهد.. صفحة 38: "في آخر الطّريق بيت مهدوم، عثر بين ركامه على جثّتين لرجل وامرأة، في يمينيهما خاتمان مكتوب في أوّلهما: على العهد، وفي ثانيهما حتّى الموت".

وقصّة خوف صفحة 57: " ممتلئ بالشّقاء، ينتبذ الوهن، كلّما رآه أحد اغتاظ من رؤيته وحيدًا مذعورًا على تلك الأريكة القديمة، أمّا هو فيستغرب كيف لا يرون الخوف الذي بجرمه الثّقيل يزاحمه على الأريكة! ".

وقصّة التهام صفحة 83: "بحث عن جسده في الفراش،...سمع قهقهة أفكاره، ورأى الدم على أنيابها، فقد التهمته بكلّ إصرار."

ورغم كلّ السّواد والألم إلّا أن بصيص الأمل كان حاضرًا كما في قصّة بلدة صفحة 47: "ألقيت القنابل على البلدة المنكوبة فقتل الأطفال ثمّ جادها الغيث فنبت في أرضها الأطفال"، كما كان جليًّا في الطّفل الذي يبيع الورد، وبشراء الفتاة وردة منه وإهدائها لسيّدة مسّنة, وفي استخدام مصطلح قمر 14 في العنوان إشارة للجمال والتّفاؤل.

لسان حال الكاتبة يقول: ونحن نحبّ الحياة ما استطعنا إليها سبيلا.

وقالت فاطمة كيوان:

ليس غريبًا أن يكون إهداء الكاتبه إصدارها الأول لابيها ، وربّما كان ذلك من أفضل ما يمكن فعله فالاب هو مصدر الامن والأمان وهو من باستطاعته بناء الحاضر والمستقبل لعائلته وفي ظل العدوان يصبح العجز والانكسار سمة من سمات الابوة التي تعاني من العيش في هذا الواقع المر الذي يحرمهم من معاني الحياة والحب والأمان .

في هذه المجموعه القصصية القصيرة جدا تكشف لنا الكاتبه جانب من جوانب حياتها اليوميه بكل ما فيها من تفاصيل والمرتبطه ارتباط وثيق بالمكان لكل محطات الطفوله والشباب البريئه المغتصبه تصورها لنا الكاتبه بنصوص حافله بالصور الرقيقه وقوة اللغه وجمال المفردات وعفويتها فتسكبها عذبه سهله ممتعه مبكيه في ان واحد للقارئ .

كيف لا و الأماكن هي عبق الذاكرة الّتي تطوف بها أرواحنا باشتياق وحنين، وتبقى حاضرة في وجدان أبناء الأرض الّذين ترتبط أرواحهم بها لتصنع منهم شخوصا اخرين .

هذه اليوميات ترسم لنا تفاصيل حياة الفلسطينيّين النازحين عن ارضهم وبلدانهم وبيوتهم بما فيها من عذاب وقهر وظلم في ظل الحرب وهذا النظام المحتل الغاشم الذي يحاول محو الذاكره الفلسطينية وسرقة الحياه والأرض وإعادة تشكيل جديدة لمعالم المكان والزمان وتغييب الماضي والجذور .

العتبة الأولى للنصوص تبدا بالحديث عن رحلاتها اليوميه من الجنوب منذ صعودها الحافلة للوصول للشمال للجامعه .

وأول بداية كانت لرصد يومياتها العائلية هي وكثير من اترابها فصورت الأمهات وهن يتراكضن حول ابنائهن ويتحلقن حول الحافله بلهفه وهي تحملهم في رحلة من الجنوب للشمال وضحكاتهم التي توارت خلف الجدار بعدما نزحوا ليبنوا لهم خيمة تؤويهم ويدفنوا معها تلك الضحكات والبسمات والأمان العائلي. في نص (( حياه ص 13).

ثم تتوالى الصور   لترصد لنا الحياه والمعاناة اليومية التي يعيشها النازح مثل الانقطاع عن رؤية الاحبه ومراسلتهم مثل الجد وغيره وانقطاع النت لايام وايام وانقطاع المياه والطعام اهم مقومات الحياه الامر الذي يشعرك بالحزن الشديد على ما الت اليه الأحوال .فقد لكل ما هو أساس ( البيت ) الاهل ، الأصدقاء وحتى اللباس والطعام والشراب .

ففي قطعة ((ماء)) ... تروي لنا

"الان الساعة السابعة بعد اإلفطار،

اليوم هو أول يوم أشرب فيه كوب ماء بارد منذ

حوالي 7 شهور ، شعرت  أن الماء يسلم على كل خلية

في جسدي.

أشرب ماء باردا وتستمر الحرب الساخنة المدمرة"

وتستمرالكاتبه في عرض الصور اليوميه كحديثها عن حديقة البيت وعلاقتها بشجرة الليمون وجدها ومن ثم أيضا التلفاز الذي بات بالنسبة لهم مصدر كشف للمعلومات والاخبار وعادت له هيبته

ثم تصور لنا تفاصيل حياتها ليلا حيث لا نوم فالخوف والرعب عند سماع ازيز الطائرات يزأر يحرمهم لذة الغفوة والنوم . كل هذه التفاصيل تأبى ذاكرة الكاتبه نسيانها بل تحتفظ بكل لتبقى عالقه حاضرة في قلبها وقلوب القراء في كل زمان ومكان .

وقالت هدى عثمان:

مجموعة نصوص قصيرة جدّا،أحيانا تكون على شكل قصة قصيرة جدا ،وتارة كنص قصير،هذه المجموعة عميقة في مضمونها رغم بساطة اللغة،في تلك النصوص نفتح حقائب الوجع الذي يتمدد في غزّة،ونقرأ ملامح الحرب من خلال ابنة غزّة، الكاتبة الشابة قمر التي تعكس من خلال يومياتها المقتضبة تحت سقف الحرب المشاعر الحزينة ومفردات الحرب مثل الصواريخ،النزوح،الخيمة ،الهجرة،الجوع،الألم والفقد وغيرها.

في هذه النصوص الواقعية التي تحمل إحدى نصوصها، تتجلى مشاعر الكاتبة أصيل سلامة الدافئة وحنينها إلى جدّها،والجدير بالذكر، أنّ الرسائل عبر الهاتف ،كانت حلقة الوصل بينهما،وأحيانا تنقطع بسبب النت،فهي تصور حالة تفكك النسيج الاجتماعي في حضن الحرب.

أهمية الرّسائل تكمن في تفريغ الحالة النفسية السيئة التي تنتاب الكاتبة بسبب الحرب والنزوح؛فالرّسائل هي رسائل أشواق ومشاعر الخوف والفقد تحت الحرب في ظلّ انقطاع النت.وتظهر في نصوصها مثل: "العطش"و،"نص ماء".

في هذه النصوص، رغم أنها تأتي وتنتهي بسرعة البرق،إلا أنها تمسك بخيالنا و تجعلنا نتأمل ونقول: ما أبشع الفقد.فقد البيت، المكان،والأهل.ما أصعب النزوح ويا لعنة الحرب!

هناك تفاوت بين النصوص من ناحية قوّة المفارقة والدهشة،وجمال النص،أعجبني على سبيل المثال لا الحصر النص"جوع"حين سُئل الطفل بماذا يلوّن الشطيرة؟أجاب بلون الجوع!

هذا النص ونصوص أخرى تشير إلى أننا أمام كاتبة سيكون غدها مشرق في عالم الكتابة بشكل جميل إن شاءالله.

بعض النصوص حملت النقد اللاذع والسّخرية من سلوكيات اجتماعية.

مثل نص "ضوء القمر"الذي يعبّر عن مدى غرور بعض النساء لدرجة ادّعاء المرأة أن الشيب في شعرها ما هو إلاّ ضوء القمر.

الزمان ظاهر في النصوص"النهار يحرق كل طاقتها"،"الساعة السّابعة صباحا"،السّابع من إبريل"،الثانية ظهرا".

 

وقال بسام داوود:

الحرب تفسد كل شيء ,تسبب المعاناة في كل مجالات الحياة فتسبب القتل والجرح والاعاقات والتشريد ونقص في الغذاء والادوية والعلاج وانتشار الامراض وتدمير المساكن والمنشات والاصعب من كل ما ذكر عندما يجبرك عدوك على ترك بيتك او ما تبقى منه للنزوح الى المجهول .

مواقف مؤثرة من مجموعة قصص قمر 14 :

-القذائف في كل مكان هدمت الجدار وفي لحظة لا جدران ولا من عند الجدارن .

-النزوح ما هو الا طلوع الروح .

-الام تتلمس الحيطان وفي عيونها الدموع .الاب يدعو ابنائه لتحضير حقائب النزوح وفي صوته غصة .البنت تبكي .الاولاد ينشغلوا بلملمة الحقائب وترتيبها بالسيارة .خرجوا من البيت دون ما توديع ,الياسمين في الحديقة ينتظرهم ,رائحة العطر تنتظرهم ,مدخل البيت ينحب لعدم مرورهم فوقه , باب المنزل والشقة ما زالا مغلقين بالمفتاح لن يفتحمها احد غريب .

-تحتار هي واهلها ماذا سينقلون من بيتهم وهم على وشك النزوح يتمنون لو بمقدورهم حمل البيت على اكتافهم لانقاذه من البقاء وحيدا فالوحدة مؤلمة حتى للبيوت .

-جاء التحذير على شكل مهاتفة لئيمة معكم 15 دقيقة لاخلاء البيت شعرت بالم في معدتها وفي كل جسمها فالبيت ليس مجرد جدارن انه لهفة .....ذكريات ....ضحكات ...دفء ...احزان ....مواساة ...انه الحياة .

-تغوص في خيالها المقهور عدة اسئلة اين ستقيم هي واهلها ؟ هل سيجدون خيمة تؤيهم ؟هل ما اخذوه من ملابس وفراش ستكفيهم ؟ماذا سيحدث للبيت الجميل بعد نزوحهم ؟ تتمنى لو تبقى في البيت فهو روح الروح .

-وضعوا اغراضهم وملابسهم في كراتين المساعدات الغذائية وحملوا كل ما استطاعوا حمله اما ارواحهم فانها لم تغادر البيت بقيت تؤنسه وتواسيه .

-ابي يسوق السيارة بعصبية نبكي على اطلال ما تبقى من ذكريات كنت اجلس على المقعد الخلفي اتكىء على جرة غاز احمل جهاز الضغط لابي وطقم اطباق خاص بامي ابكي واتفادى النظر لاي احد من افراد اسرتي ,ابكي وانظر الى ابي وفي عينيه صراع مميت بين البكاء والثبات .

-في اليوم الثاني لنزوحنا جلست مع عدد من السيدات النازحات بادرن بالسؤال عن اخواتي المشردات في اي مكان يتواجدن ؟

-من مفاجآت الحرب نلتقي باشخاص كنا قد فقدنا الامل بلقياهم , التقت بصديقتها شريكة الذكريات الحلوة في الجامعة لم ترها منذ 5 اكتوبر تعانقتا بقوة واهدتها وشاح ليبقى ذكرى لهذا اللقاء .

-عروس تزف في هذه الظروف بثوب منتوشة خيوطه وتكتحل بقلم كحل مكسور لم تكن تعلم انها ستكون اولى فرائس الحرب المشؤومة .

-القيت القنابل على البلدة المنكوبة فقتل الاطفال ثم جاءها الغيث فنبتت في ارضها الاطفال .

-يغيب عن بيته فترة طويلة تصله اخبار غامضة بان البيت قد سرق يقول العفش لا يهم المهم ان يبقى البيت سالما يرى من الاعلام ان بيته محروقا المهم ان يبقى البناء سليما يعلم ان الجدران قد تهدمت يقول المهم ان تبقى الاعمدة ينسحب جنود الاحتلال من المنطقة يذهب ليطمئن قلبه ....هنا تتعطل كل المواساة حينما يرى البيت قد اصبح جثة هامدة .

-الصحفى المتكرش يرى اطفالا يحملون علبا للحصول على بعض الطعام سأل طفلا انت من خانيونس ام من غزة ؟ قال له :اطعمني اولا ثم اجيبك .

-طفل الجوع يرسم شطيرة تتصاعد منها ادخنة متعرجة تبدو لذيذة سيلونها بلون الجوع .

-كانت معلمتي تكتب بلادي وان جارت على عزيزة قرأت اسمها في اول صفحات المهاجرين .

-لا يدرى اين سينزح مجددا بعد ان فك خيمته .

-عند اجتياح رفع اصدقائي حرضوني على النزوح جلست في حديقة البيت اغلي القهوة تحت الاشجار اتنسم عطرها على غير العادة رأيتها كما لم ارها من قبل تذكرت ابي وامي عندما غادرا قريتهما القريبة من الرملة سنة 1948 ,كم هي قاسية مغادرة البيت . سرحت وانا اتأمل البيت الوفي مثلما غادرا ابي وامي بيتهما قبل سنين .بكيت على ما فات وعلى ما نحن فيه وعلى ما هو آت .

-اثناء تشييع جنازة ابيه الشهيد اشتد القصف فاحتمى بابيه للمرة الاخيرة .

-الكل يهتف منتشيا بانتهاء الحرب الكل يكبر المقاومون يزفون لاخبار تهنئة للشعب وام الشهيد وحدها تبكي وحدتها بالحزن على ابنها .

- في نهاية الحرب استقبل مكالمة لتهنئته بالسلامة ثم سقط صاروخ فوق بيته لينهدم البيت ويعلوه الركام ليصبح جثة هامدة .

-تسمع الطفلة صوت الانفجارات وتصرخ تهدئها الام وتقول :حفلة حفلة يا ماما صوت طبول ورقص وغناء .

-لم تعد هناك حافلة ولا جامعة ولا رفيقات دراسة انا الان في خيمة من خيام النازحيين .

الف مبارك مرة اخرى للكاتبة اصيل سلامة على امل لقاء معها في انجازات اخرى .

 

وقالت نزهة أبو غوش:

يحمل كتاب "قمر 14" تجربة أدبية خاصة في مجال القصة القصيرة جدًا، حيث تسلط الكاتبة الضوء على الواقع الحياتي في غزة أثناء الحرب، متناولةً قضايا الخوف، الفقدان، النزوح، الدمار، المشاعر الإنسانية، وذكريات الطفولة.

الكتاب يحتوي على 103 قصة قصيرة جدًا، ورغم أن غالبية القصص تحمل ترابطًا موضوعيًا واضحًا، إلا أن هناك بعض النصوص التي لم تكن متسقة مع الموضوع العام، مما يثير تساؤلات نقدية حول بنيته..

معظم القصص تصوّر الدمار، القلق، الفقدان، والتشريد، وتعكس الاضطراب النفسي الذي يعيشه الأفراد في ظل الحروب.

هناك تركيز على الأطفال وذكريات الطفولة، وهو ما يبرز الحنين إلى عالم بريء مفقود.

تناولت الكاتبة الحب، الفرح، الحزن، الأمل والخوف، لكنها قدمت ذلك في سياق الحرب، مما جعل المشاعر تبدو متناقضة بين الحنين للأمان والواقع القاس..

بعض القصص تميزت بقدرتها على نقل المشاعر بصدق وقوة، بينما بعضها الآخر افتقد للعمق العاطفي.

استخدام القمر في عنوان الكتاب وفي بعض القصص يعكس رمزية للأمل والنور في الظلام، مما يضيف بُعدًا فلسفيًا وجماليًا للنصوص. الأشجار والماء والطبيعة ظهرت في بعض القصص كعناصر

رمزية للصمود.

رغم أن غالبية القصص كانت تعكس واقع الحرب، إلا أن بعض النصوص بدت منفصلة عن السياق العام.

هذا الأمر قد يُفسر إما

برغبة الكاتبة في التنويع أو بعدم وجود رؤية سردية محكمة تربط جميع القصص ضمن إطار واضح..

نجحت الكاتبة في استخدام اللغة المختصرة للتعبير عن المشاعر والأحداث، وهو أمر ضروري في القصة القصيرة جدًا..

اعتمدت الكاتبة على تتابع الأفعال بسرعة كبيرة، مما جعل النصوص تنقل حالة القلق والتوتر بشكل جيد..

المفارقة والدهشة في

النهايات

وعنصر المفاجأة كان واضحًا في كثير من القصص، وهو ميزة في القصة القصيرة جدًا..

بعض القصص قدمت نهايات صادمة أو غير متوقعة، مما أضاف بُعدًا جماليًا وتأمليًا، في حين أن بعض النهايات بدت سطحية أو غير مكتملة.

اللغة واضحة وسهلة، لكنها تميل أحيانًا إلى المباشرة:

استخدمت الكاتبة لغة بسيطة لكنها معبرة،

مما يجعل النصوص متاحة لفئة واسعة من القراء..

في بعض القصص، كانت اللغة مباشرة بشكل زائد، مما أفقدها الجانب الأدبي العميق

. أسلوب القصة القصيرة جدًا مناسب للتعبير عن التوتر النفسي الذي تفرضه الحرب.

. استخدام المفارقة والدهشة في العديد من القصص منحها قوة سردية

الرمزية في بعض القصص أضافت عمقًا فلسفيًا وتأمليًا..

كتاب "قمر 14" يقدم شهادة أدبية صادقة عن معاناة غزة في الحرب، ويعكس قدرة الكاتبة أصيل سلامة على التكثيف والتعبير عن المشاعر القوية في مساحة سردية قصيرة جدًا. ورغم وجود لحظات إبداعية مميزة في العديد من القصص، إلا أن هناك بعض القصص غير المنسجمة مع السياق العام، مع ذلك، يبقى الكتاب مهمًا كعمل يعبر عن تجربة ذاتية وإنسانية قاسية بأسلوب بسيط لكنه مؤثر.

لقد ذكرت الكاتبة في قصصها الجد بشكل متكرر. فالجد في الأدب غالبًا ما يرمز إلى الحكمة، الأمان، والتاريخ العائلي. من خلال الحديث عنه وكأنها تحادثه في الحلم، يبدو أن الكاتبة ترى فيه ارتباطًا عميقًا بالماضي والأصالة والقيم العائلية التي تشعر بأنها ضاعت بسبب الحرب.

فهو ليس مجرد شخص مفقود، بل رمز للحب، الحكمة، والاستقرار الذي تحاول الكاتبة التمسك به وسط عالم مليء بالفوضى. رؤيته في الأحلام قد تعكس حاجتها النفسية العميقة للشعور بالأمان والتوجيه في أوقات الأزمات.

 

وقالت د. رفيقة عثمان أبو غوش:

من قراءتي للمجموعة القصصيّة، وجدت بأنّها تحتوي على قصص قصيرة عديدة معظمها حيّة؛ لواقع الحرب على غزّة، منذ الخامس من أكتوبر كما ورد صفحة 30؛ وما بعده، ابتداءًا من السابع من أكنوبر 2024.

بدت هذه القصص مثيرة ومؤلمة جدّا، ونجحت الكاتبة أصيل، في وصف الحياة الاجتماعيّة المأساويّة؛ الّتي يحياها المواطنون في غزّة، أثناء النّزوح ما قبله، وما بعده؛ نظرًا لكون الكاتبة من مواطني غزّة.

استخدمت الكاتبة أصيل، ضمير الأنا في معظم القصص، واستعمال أسمها الحقيقي "أصيل" في بعض القصص؛ وبنفس الوقت استخدمت ضمير الغائب. إنّ الرّواية بضمير الأنا، أضاف مصداقيّة للأحداث؛ لأنّها صدرت من فم الرّاوية (الكاتبة أصيل).

استلهمت الكابتة عنوان المجموعة القصصيّة، باختيارها لإحدى القصص بعنوان: "قمر 14"؛ صفحة 69، والّتي مضمونها حول فتاة جميلة، تواعدت مع شاب؛ وعندما سألته عن طلّتها "كيف ترى طلّتي؟" أجابها: "قمر 14" شكرته على رأيه وذهبت كي ترى حبيبها. برأيي الشّخصي هذاالاختيار لهذه القصّة، ربّما تكون القصّة رمزيّة؛ أي قمر 14 تعتبر غزّة الجميلة، وتتحلّى بمواصفات الفتاة اليافعة. لا شكّ بأنّ العنوان جذّاب جدّا، يحتوي على فضول لمعرفة المضمون.

حبّذا لو اختارت الكاتبة قصّة ثانية، للعنوان بحيث تصف حالة الحرب على غزّة مثل قصّة جدران، أو من يوميّات بيتنا، أو أوّل أيّام النّزوح.

ظهرت بعض الموتيفات في القصص القصيرة، بتكرار بعض الكلمات أو المصطلحات مثل: كلمة البيت والّتي برزت في معظم القصص، كما يبدو نظرًا لأهميّتها في نفس الكاتبة؛ حيث عبّرت عن فقدان البيت كما ورد في قصّة جدران "تستوقفها عناقات الجدران، وفي لحظة حارقة، لا يوجد جدران ولا هي ولا هو في المكان" صفحة 46. "التمع نور حارق في السّماء، سمع لصوت صاروخ بعد دقائق، وجدوا بيته مدمّرًا، وفريق الإنقاذ ينتشل جثّته متفحّمة" قصّة تهنئة صفحة 60 . وصفت الكاتبة فقدان البيت " فالبيت هو روح الرّوح". قصّة أسئلة صفحة 87 " وقالت: " هذا البيت ليس مجرّد حيطان، إنّه لهفة وذكريات وضحك ودفء وأحزان ومواساة، إنّه حياة". قصّة بيت صفحة 70. "أمّا ارواحهم فإنّها لم تغادرالبيت، بقيت هناك تؤنسه وتواسيه" صفحة 78.

من الموتيفات أيضًا كلمة الفقدان، حيث تكرّرت مرارًا وتكرارًا؛ حيث فقدان العائلة، الأم، والأب، والبيت، والجد، والفرح، والحياة، والمأوى، الأصدقاء والأحباب، فقدان الطّعام والجوع، والماء، والتّلفاز، والنت؛ "حزينة في الوقت ذاته؛ لأنّني أفتقد جدّي" مذكّرات أثناء الحرب. "اليوم الأوّل هو أوّل يوم أشرب فيه كوب ماء بارد منذ حوالي سبعة أشهر". الأسير"بعد خروجه من السّجن، فقد آخر فرد كان ينتظره - أمّه".

   موتيف آخر هو كلمة اللّيل، وسيميائيّته تبدو كرمز يعبّر عن العاطفة الحزينة الّتي تحلّى بها المواطنون أثناء الحرب، وتعرّضهم للمخاطر والنّزوح؛ قصّة اللّيل صفحة 24 عبّرت بشكل واضح عن المعاناة أثناء اللّيل؛ حيث وصفت الكاتبة "صعوبة النّوم، وأصوات الشّخير، وبكاء الأطفال، وأصوات الطّائرات الزّنّانة، والصّواريخ الّتي تغتصب هدوء اللّيل، وفأر شاركهم جميعًا جريمة إبقائها ساهرة متأزّمة". برأيي الشّخصي تعتبر هذه القصّة من أكثر القصص تعبيرًا عن الذّات والمعاناة اليوميّة خلال الحرب.

   توصف لغة الكاتبة بلغة واضحة وسهلة، تتماشى مع وصف الأحداث؛ تفتقر للمصطلحات البلاغيّة، لكن الأحداث المؤلمة فرضت نفسها على اختيار اللّغة القريبة على اللّغة التّقريريّة.

خلاصة القول: المجموعة القصصيّة هذه، تعتبر مذكّرات فتاة اثناء الحرب على غزّة، فهي تعبّر عن مشاعر صادقة، وحزينة تعكس آلام شعب كامل.

برأيي الشّخصي، انّ الكاتبة تجنّبت في الغوص بتفاصيل لأحداث أكثر إيلامًا خلال الحب، والّتي شاهدناها عبر الشّاشات الفضائيّة والإلكترونيّة؛ ربّما بسبب طباعة المجموعة القصصيّة خارج غزّة، وتحسّبًا لمضايقات سياسيّة من أطراف عدائيّة.

اقترح على الكاتبة أصيل، بأن تفصل القصص المتعلّقة بالحرب على غزّة، عن القصص الاجتماعيّة الاخرى الموجودة ضمن الكتاب؛ وربّما إذا فكّرت بكتابة جزء ثانٍ عن الحرب على غزّة، وما بعد توقّف الحرب والعودة.

وقالت ميرا إياد جبارين:

رواية "قمر ١٤ " ليست مجرد كلمات، بل هي دموع مسكوبة على ورق. أنا، كفتاة في الثالثة عشرة، قرأتها وشعرت كأن قلبي يُكسر مع كل سطر. كأنني عشت حرب السنه والنصف سنه من جديد ولكن في نصف ساعة .

كل خاطرة في الرواية جرح جديد. الكاتبة لم تكتب قصة، بل رسمت مشاعر. لكنني شعرت بالضياع أحياناً، كأنني أتجول في ظلام بلا نور.

الأطفال: براءة تُسرق**:

الأطفال في الرواية هم الأكثر إيلاماً. براءتهم تتحول إلى دموع. الكاتبة جعلتهم يسألون: "لماذا؟" ولم تجب. هذا السؤال بقي في قلبي . لماذا ؟؟؟! .........

والنساء هن العرائس اللائي تحولن إلى أشباح. يحملن أطفالهن ويسيرن في شوارع مهدمة. الكاتبة جعلتني أشعر بثقل أحزانهن، وكأنهن يحملن العالم على أكتافهن.

والرجال يتوارون خلف أقنعة البأس والصبر ولكنهم يصرخون ويبكون بلا صوت ولا دموع ......

الخلاصة:

رواية "أصيل" جعلتني أعيش الألم كما عشته وقت الحرب . الكاتبة نجحت في نقل المعاناة، لكنها تركتني في ظلام. أتمنى لو كانت هناك كلمة أمل، حتى لو صغيرة، لأمسك بها.

في النهاية أحب أن أبارك لك يا أصيل غزة على هذا العمل المميز المحفوف بآلام شعبنا .

 

وقالت نزهة الرملاوي:

على نهج الكاتب القدير محمود شقير واحترافه في كتابة القصص القصيرة جدا، تمضي الكاتبة أصيل سلامة، وتبدأ مشوارها الأدبي وباكورة أعمالها بكتابة هذه المجموعة. عنونت الكاتبة مجموعتها ب ( قمر 14) ماذا يعني قمر 14 للكاتبة؟ تشير بعض النظريات ان لاكتمال القمر تأثير على حالات الانسان المزاجية والهرمونية، فربما ينتج تأثير حاد على شخصيته، ويثير المشاكل حوله ويفقد صوابه ويتحلل من اتزانه، وربما تتفتح عند البعض مسامات التأمل وقريحة الكتابة، فيسقطون في بحر العشق والكلمات. ترى هل تأثرت الكاتبة بحالة القمر وهو بدر مكتمل؟ أم كان للتسمية وجهة نظر ثانية لديها؟ يتبين أن الكاتبة في قصتها قمر 14 الواردة في الصفحة 69 أن التسمية جاءت متأثرة بالمفهوم الشعبي لحسن وجمال القمر حينما يكتمل ويصبح بدرا، وربطه بحسن المرأة وجمالها، ويبدو ذلك بعد انتظار طويل لحبيبته، التي أتت بناء على موعد سابق، وحينما أتت، سألته عن طلتها، فقال: قمر 14 شكرته على رأيه وذهبت كي ترى حبيبها! تلك من سمات القصص القصيرة أو الومضات تثير في القارئ الدهشة حين تقف عند نهايات متقلبة غير متوقعة. اهدت الكاتبة قصصها لواقع بخيل لم يحقق لها حلما واحدا من أحلامها في السلام والعدل. فالحروب المتتالية على غزة، تحول دون تحقيقها وبالرغم من ذلك نجد في أهلها صمود إلى حدّ الدهشة والانبهار. وبما أن الكاتب ابن بيئته، رسول الكلمة ونبيّ الأحداث والأزمنة، يشاهد ويتأثر نفسيا وفكريا بما يحدث حوله، وها هي ابنة غزة التي تعيش تحت سطوة الحرب ومرارتها، تعتبر في مجموعتها عن ذلك الألم، تقاوم بالكلمة، وتعزز من خلاله الأدب الملتزم، ومن خلال تأملها لحياة وطن محاصر تعيش فيه، وتدون ما يخطر ببالها، وما تراه وتتأثر به نتيجة ما تعانيه مع غيرها من ألم النزوح المتكرر، والعيش في خيام بالية لا تمنع صقيع الشتاء ولا لهيب الصيف، وفقدهم لكلّ مقومات الحياة الكريمة من بيوت قائمة أو أمنة وتعليم وماء وكهرباء وطعام وشراب. دوّنت الكاتبة يوميات عاشتها ما بين نيران القصف وطرق نزوح طويلة مليئة بالصبر والتحدي والألم. من هنا نجد أنّ للحرب الجهنمية على غزة تأثيرات نفسية واجتماعية واقتصادية كبيرة على من يرزحون تحت وطأتها، لذا نجد تأثيرها واضحا في أقصوصات الكاتبة، التي تنامى لديها شعور الفقد والغربة لعدم اكتمال حلمها وتحقيق أمانيها كغيرها من أهل غزة القاطنين تحت لهيب الحرب وويلاتها. في قصتها حياة ص12 تصوّر الكاتبة حياة النعيم والاستقرار التي يعيشها الناس والأطفال في المدن خارج غزة، وتبين حال المحاصرين داخل غزة المحاصرة، وتصور للقارئ حياة أطفال غزة الذين يدقّون مسامير طفولتهم كأوتاد في خيام نزوحهم. وتشكل قسوة الحرب عثرة أمام لحظات الحلم بين محبّين لم بجدا رأس بصل، يكملان به مغامرة الطبخ معا.ص13 وتبيّن أن انقطاع النت في الحرب، كان عائقا قويا أمام تواصل الناس مع العالم الخارجي وعدم تواصل الكاتبة مع جدها الذي فقدته، وبالرغم من بعده عنها إلا أنها تجد في رسائله المكتوبة وحنان صوته وحروفه التي سكّنت توترها، محفزا لها على الصمود وعدم الخوف من الطائرات المحلّقة في سماء غزة. ص 15 وصوّرت للقارئ أنها تعيش في عالم رمادي ص 16، ذلك لون الركام والخراب الذي يغطي وجه غزة، وهو الأشد حضورا وبؤسا فيها. بالإضافة إلى ذلك أشارت إلى حالة القلق والحيرة التي تلاحق الغزيين إثر القصف الذي يلاحقهم، يقفون بقلق، يتنهدون ولا يدرون أين يأخذهم النزوح، وأشارت إلى ذلك قائلة: ( فكّ خيمته، تنهد، ولم يدرِ أين سينزح مجدداً) ص71 تشير الكاتبة بأصابع الاتهام والنقمة لهذه الحرب لما خلقته من دمار جسدي ونفسي بدا واضحا في تغيّر ملامحها حين قالت وقد التهمها الشقاء في قصتها مرآة (هذه الحرب كلّ يوم فيها بسنة. تنظر إلى وجهها في المرآة بفزع وذهول. آه كم كبرت! هذا غير معقول. ثم كسرت المرآة) ص 101 استخدمت الكاتبة الكثير من عبارات التشبيه والاستعارات، والتقطت من الذاكرة صورا عزيزة للمنزل والحديقة والشارع والمدرسة والطعام والجلسات الهادئة لترسم للقارئ حياة طبيعة بصورة أدبية واقعية، معجونة من حياة دافئة برفقة الأهل والأحبة، وحياة قاسية تمثلت بخطوات النازحين المتعبة، ودماء الشهداء وثبات الأسرى وأمل المعذبين على هذه الارض. استخدمت القاصة عبارات الحرب المتداولة منذ عام ونيّف، كالطائرات، الصواريخ، الخيام، النازحين، الماء، المطر، التكية، الزنانة، الجوع وغيرها. ربطت الكاتبة بعض قصصها بجدها الذي فقدته وطال غيابه عنها بشكل أو بآخر. هنا أثير السؤال من جديد، هل استطعنا ككتاب أن ننتج نصوصا بحجم المأساة والقتل والدّمار الذي لحق بغزة وأهلها، سواء كتبنا من قلب المكان، أم من خارجه؟ فنحن لا نكتب لنؤيد فكرة فصيل، نحن نروي بأمانة عن أحداث تكتبنا وتأمرنا أن نتناولها بسبب دمويتها الغير عادية، تشقّ فينا جرحا بالغا لا يندمل. كاتبتنا الصغيرة دوّنت يوميات عاشتها وكتبت أقصوصات وخواطر تحت نيران القصف وقسوة الحرب، أخذها النزوح إلى المنافي والخيام، ولا زالت تعيش هناك، تتجرّع قسوة الحرب ومرارتها. إذن سنبقى على قيد المحاولة، حاولنا ولا زلنا نحاول، لعلّ الحروف تُجدي وفي زمن الصّمت تُقاتل. أوجعتني الحرب يا أصيل، نزحت معكم، أخذني النزوح من الشمال الى الجنوب، وصفت المشاهد بمصداقية وبلا خيال، لملمتني صور جرحاكم وابتسامات شهدائكم، بعثرتني القاذفات، تاهت بنا طرقات النزوح ثانية. في طريق نزوحكم الطويل، أبكتني أجسادا مبتورة، وجثثا منهوشة، انبتت في قلبي جبالا من الأحزان، عشت معكم مشاهد الحرب ليل نهار، حملت حزنا بحجم الدمار والفقد الذي لحق بكم، لم تغب روحي وأحاسيسي ودموعي عنكم، وان غاب جسدي عن بيوتكم المهدمة وخيامكم المتطايرة، وفراشكم الذي التحفت أمطار السماء، ولحقت برياحها العاتية، أوجعتني أجساد رازحة تحت برد قارص وجنون الشتاء، وحرّ الصيف وحشراته الغريبة وبعوض امتص دماءهم. شهور طويلة وأنا أدون أحداث حرب مجنونة شنت عليكم، رصدت ذلك الجوع الوحش الذي نهش بطونكم، أشعلت من قهري نارا تحت قدوركم الفارغة، وقفت معكم في طابور انتظار طويل أمام التكية، رأيت القذائف تسقط، تطيّر أجساد الصغار، وتكوّم أشلاءهم في الصّحون الفارغة، ذاب قلبي في قدور صبركم وعزكم وثباتكم، وطلعت مع شمس انتصاركم وكلّي أمل وحياة.

المزيد من المقالات...