نظريات العلوم الإسلامية (الفقه النظري المتخصص)

مقدمة: وقبل أن ندخل في الشمولية النظرية، أحب أن أقدم رأيين، رأي في أهمية النظرية والتنظير، ورأي آخر في أهمية التخصص.

أ- الرأي الأول في أهمية التنظير:

يقول الأستاذ محمد وليد سليمان تحت عنوان " دعوة إلى التنظير " (نزعم ابتداء أن كلمة (التنظير) قد ظلمت ظلماً شديداً في أوساط العاملين في الحقل الإسلامي، فما تكاد تذكر إلا وتتأفف منها الأنفس، أو تحيطها بالسخرية والازدراء، ونزعم أيضاً أن شيئا من الجهل هو السبب الرئيس لذلك، فما اتفق المفكرون على شيء اكثر من اتفاقهم على أن "الفكر يسبق الحركة " وأنَّ وضوح الرؤية من أوليات أسباب النجاح.

إن المظهر الأساسي لظلم كلمة (التنظير) ومفهومها في الوسط الإسلامي، ذلك الغياب الكبير للتنظير والمنظرين، وما يرافق هذا الغياب من ظن المسلمين وأوهامهم انهم شبعوا تنظيراً وكلاماً وكتابات، وان الإسلام اليوم بحاجة إلى العمل الجاد والإخلاص والتضحيات... ولما كنا نريد بالتنظير هنا، التنظير للعمل الإسلامي خاصة، فان من السهل أن ندعو المتأملين والباحثين إلى جولة في المكتبة الإسلامية، ليصدموا بندرة الكتب التي تنظر للعمل الإسلامي، وتبحث في أهدافه ووسائله وطرائقه، وأسباب نجاحاته أو إخفاقاته)(22).

 ب- الرأي الثاني: في أهمية التخصص:

يقول الأستاذ برغوث عبد العزيز بن مبارك تحت عنوان " خاصية التخصص"

(لقد كان لخاصيتي العلمية والعملية، دور بالغ الأثر في طبع الواقع العالمي الراهن بميزة التخصص الدقيق في كل شيء، فعلى صعيد المعرفة مثلاً، تفرعت المعارف، وتخصصت بشكل لم يكن يتصوره " دو كايم " وهو يقدم ملاحظته في موضوع علم الاجتماع فقد تعب كثيراً في موضوع التسمية نفسه، واليوم نجد هذا العلمَ متفرعاً إلى اكثر من سبعين فرعاً، كل واحد منها بحاجة إلى وقت كبير جداً لاستيعابه وقد انتشر المنطق التخصصي في كل تفاصيل حياتنا العامة والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، والتعليمية والتربوية والإدارية، انه فيما يتعلق في هذه الفكرة بالذات، نتأسف كثيراً لما يحدث في عالمنا الإسلامي عندما نشاهد متخصصين مطلقين، يتكلمون في كل العلوم بلا علم ولا دراية، ما زالت تراودهم فكرة الموسوعية التي قضى عليها عصر العالمية والعلمية والعملية)(23).

كان القصد من ذكر موضـوع " الـتنظير " والتخصـص هو الإشارة إلى أهمية الشمولية النظرية (علم الفهم النظري) لكل قضية من قضايا العلم في القرآن والسنة، والتي كان غيابها سبباً من أسباب ميلاد "ظاهرة الفوضوية " وبذلك فقدت الصحوة الإسلامية من يرشد خطاها في الفهم وينقلها من مرحلة الاعتقاد بصلاح هذا الدين وشموله، إلى نظريات شمولية متخصصة تترجم عقيدة الشمول في الفهم، وتوضح خرائطها وتأخذ بيدها نحو النهضة المهتدية بالعلم الإسلامي المتخصص.

الشمولية النظرية:

وحتى نسير في خطوات علمية تفصل شمولية العقيدة، وتنقلها إلى شمولية الفهم النظري المتخصص، في طريق تعويض الأمة عما فقدته من تصويب السماء، بعد انقطاع الوحي وبعد غياب النبي عليه الصلاة والسلام وفي ضوء المرجعية الشرعية، آخذاً بالأسباب التي تضمن للأمة خصوصيتها ونقاء دينها.

 وهي علوم نظرية وسيطة بين علوم التفسير وعلوم التطبيق، هدفها نقل الفهم من حالة الأفكار والآراء المبعثرة هنا وهناك، إلى نظرية علمية كاملة الموقف.

هذه العلوم النظرية، هي التي تنقل الإسلام من معتقد الصلاح الشامل إلى تفصيل شمولية الإسلام علمياً، حيث تعطينا تصوراً علمياً نظرياً يعتمد النسق المترابط في الموضوع الواحد، حتى تنكشف أجزاء هذا الموضوع وعلائقه: الخاص، والعام، والاستثناء، والتفصيل من خلال فهم مقاصد جميع الشواهد على الخارطة الشاملة للنظرية:

(نظرية في علم النفس الإسلامي، نظرية في علم الاجتماعي الإسلامي، نظرية في علم التربية الإسلامية، نظرية في علم الاقتصاد الإسلامي، نظرية في علم السياسة الشرعية الإسلامية، نظرية في الأدب الإسلامي، نظرية في علم الإدارة الإسلامية، نظرية.....).

 ويكون استخراج هذه النظريات بجمع النصوص الشرعية والتطبيقية من القرآن الكريم والسنة الشريفة والسيرة الشريفة، واجتهاد الصحابة والتابعين والعلماء في علوم التفسير والفقه والتطبيقات الإسلامية الصحيحة عبر العصور ومن خلال فهم أساليب اللغة العربية وأسباب النزول (للآيات) وأسباب الورود (للسنة)، حتى يتحقق الفهم في نظرية كاملة شاملة للموضوع الواحد نضمن من خلالها ما يلي:

1- جمع النصوص الشرعية في الموضوع الواحد، وتصنيف مقاصد هذه النصوص، وكشف مسارات الأحكام المستخرجة منها، وترتيب هذه الأحكام في نظرية مترابطة، كاملة البناء والموقف والخطوات المنهجية.

2- هذه النظرية هي انتقال من جهود علماء التفسير إلى جهد علمي جديد هو علم الفهم النظري، الذي يعتمد على جهود علماء التفسير ويستخرج منها فهماً متخصصاً، يحل كثيراً من المشكلات، مثل مشاكل الفهم الموضعي في علم التفسير، وتصنيف جهود العلماء في القضية الواحدة، وإزالة وهم التعارض بين النصوص الشرعية، والاهتمام بالتفصيل العلمي الذي يخدم هدف التطبيق، للوصول إلى الفهم العلمي المؤصل شرعياً.

3- أنها نظرية شاملة كاملة، تنقل جهود علماء التفسير من حالة تفسير المقاصد الشرعية إلى نظرية في فهم هذه المقاصد وتصنيفها وضبطها، بحيث تستغرق جميع الشواهد التخصصية من مصادرها الشرعية، دون إهمال أو تجاهل لأي شاهد، وتضع كل شاهد في موقعه الحقيقي من خارطة الشواهد، وتربط نسق العلاقات العلمي بين الجزء والكل، داخل النظرية الواحدة ثم علائق هذه النظرية مع الثوابت والمتغيرات من البناء الإسلامي الشامل، ولو افترضنا أن قضية ما، لها مئة شاهد من القرآن الكريم والسنة والسيرة والتطبيقات المختلفة لها في التاريخ الإسلامي، وتغيب عدد قليل من شواهدها فمعنى ذلك أن هذه النظرية مهددة بالضعف، لعدم اكتمال الشواهد، ولأن الشواهد القليلة المتغيبة عن البحث قد تقلب النسق العلمي والاستنتاجي لبناء النظرية، إلى اتجاهات جديدة في الفهم والفقه.

مساقات

في هذه الإطلالات على طلائع النصِّ النقديِّ في بدايات القرن الماضي، واستقراء البِنَى التأسيسيَّة لنقدنا العَرَبي الحديث، رأينا كيف سعَى (العقَّاد) و(المازني)، في كتابهما النقديِّ "الديوان"، إلى إسقاط بعض معاصريهما من كبار الأدباء. ولقد كان أوَّلُهما يتكلَّف ما يستطيع، وما لا يستطيع، لنفي شِعريَّة الشِّعر عن (أحمد شوقي)، بحقٍّ أو بباطل. حتى إنه لمَّا لم يجد ما يعيبه في إحدى قصائده، وهي قصيدته في "رثاء مصطفَى كامل، -1908"- وتُعَدُّ من أجود شِعره- رماها، في ما حاول رميها به، بالتفكُّك. كأنه (ابن طباطبا)، الجديد، في "عيار شِعره"، أو (قدامة بن جعفر)، في "نقد شِعره"، وقد أرادا مَنْطَقَة القصيد، والدعوة إلى تأليفه كالرسائل. مناديًا بتحويل القصيدة إلى بناءٍ ذهني، تحت ذريعةٍ جديدةٍ هذه المرَّة، استوردها عن أساتيذه من النقَّاد الإنجليز، اسمها "الوحدة الفنِّيَّة". بيدَ أنه لم يَفْقَه- فيما يبدو- أن الوحدة في الشِّعر غير الوحدة في النثر، فضلًا عن أنها غير الوحدة في العمل العِلمي. ولم يَعِ أنها وحدةٌ تُسهِم قراءة النصِّ في إنتاجها، وليست بمعطًى جاهزٍ يُزْلِفُه النصُّ، من تلقاء بنائه، في تسلسلٍ رياضي.

ولكي يُثبِت (العقَّاد) تفكُّك قصيدة (شوقي) عمل على قلب ترتيب أبياتها رأسًا على عقب، بُغية إقناع القارئ بأنه لا فرق بين ترتيبه المختلَق وترتيب شوقي؛ فعرضَ القصيدة في صورةٍ شوهاء مُمِلَّة. ليَدلَّ بترتيبه على أن التفكُّك لديه هو، لا في القصيدة! أمَّا لو أُخِذَ بمبدئه المجتلَب في رفض الوحدة البيتيَّة، فستكون في ذلك دعوةٌ إلى استبدال الشِّعر العربي كلِّه بشِعرٍ سردي، متَّسِق البناء على الطريقة العقَّاديَّة.

على أنه، لو أَنصفَ، لرأى قصيدة (شوقي) مؤلَّفةً من خمس لوحات، متعاقبة تعاقبًا متَّسقًا. حاسَها هو حوسًا مضحكًا حين أعاد ترتيبها، حتى صيَّرها بلا معنى، وأفضى هو- لا شوقي- إلى أن انتفت الوحدة الفنيَّة في القصيدة. وكأنما الذي أراد عيبَه لا يعدو إسقاطًا نفسيًّا، أو ذهنيًّا، لعيبٍ فيه هو، من عدم قراءة القصيدة إلَّا على أنها أبياتٌ منفصلٌ بعضها عن بعض، لا تنتظمها وحدة. فلقد جاءت قصيدة شوقي بالتدرُّج الآتي: 1- مناجاة الفقيد (مصطفَى كامل)، 2- ذِكر مآثره، 3- التأمُّل في دروس الموت والحياة واستخلاص العِبَر منهما، 4- التعبير عن فداحة الفقد الذي كاد يُلجِم الشاعر عن الرثاء أصلًا، 5- ليختم القصيدة بلوحة الوطن (مِصْر)، وهو يحتوي، ميتًا، طالما احتواه حيًّا. فأيُّ بناءٍ أكثر اتِّساقًا من هذا، لولا غلواء الخصومة؟! أمَّا أن يظلَّ في الإمكان نقل بيتٍ من مكانه، فأمرٌ طَبَعي، ليس شوقي بِدْعًا فيه بين الشعراء العرب. ولئن رآه السرديُّون النثريُّون عيبًا فنيًّا، فما هو بمعيبٍ في قراءات أخرى، قد ترى التفكُّك، في ذاته، مزيَّةً في العمل الفنِّي، من حيث هو صورةٌ للحالة النفسيَّة، متَّفقٌ مع وظيفة الفنِّ في التأثير الانفعالي، لا في التعليم والتلقين. ولأشياء من هذا التطلُّب للاتِّساق والتراتب رفضتْ الذهنياتُ التقليديَّةُ الفنونَ الحديثةَ أيضًا؛ لأنها حافلةٌ بالتفكُّك الظاهري، صادمةٌ لتوقُّعات المتلقِّي البنيويَّة الكسول. أضف إلى هذا أن أولئك السرديِّين النثريِّين، إذ يَعُدُّون ما يصفونه بالتفكُّك عيبًا فنيًّا لا يُغتفَر، قد لا يفرِّقون بين ضَربَين من الشِّعر: ضَربٍ ذاتيٍّ Subjective- وتلك المرونة البنائيَّة من خصائصه، في شِعر العالم أجمع، وليست علَّتُه من وحدة البيت الشِّعري بالضرورة- وضَربٍ آخَر موضوعي Objective، كان يوم أن كان الخطاب الأدبي جُلُّه شِعريًّا، أعني أيَّام المسرح الشِّعري، والملاحم الشِّعريَّة، والشِّعر القصصي، والشِّعر التعليمي. وهو ضَربٌ لم يعرفه الشِّعرُ العربيُّ قط، بما تعنيه الموضوعيَّة الشِّعريَّة من معنى لدَى الأُمم التي عرفتها، ولا سيما الإغريق. ولقد هجر الشِّعر الحديث ذلك الضَّربَ الموضوعيَّ، جملةً وتفصيلًا، لينتهي إلى ما كان عليه الشِّعر العربيُّ قبل نحو ألفَي عام، من الشِّعر الذاتيِّ الغنائيِّ، Lyric، الذي لا تحكمه سلاسل المنطق، ولا حبال التسلسل الموضوعي، وإنما تحكمه قفزاتُ الخيال وتداعياتُ الشعور، لتأتي القراءاتُ المتعدِّدةُ فتُعيد إنشاءه، صورًا غير متناهيةٍ من الخَلْق. تُرَى ماذا كان سيفعل أرباب "الوحدة الفنيَّة"- التي نادى بها طليعيُّو النقاد العرب في مطالع القرن العشرين- بعقولهم لو شهدوا المدارس التي جدَّت بعدهم أو تطوَّرت، في الفنون والآداب، من رمزيَّة، وسُرياليَّة، وعبثيَّة أو لا معقول؟! لا ريب، إذن، أنها كانت ستعصف بأبراج عقولهم العاجيَّة، التي لم يَسلَم منها حتى شِعرنا العربيُّ القديم، ولا سيما في عصر ما قبل الإسلام، حين رموه كذلك بالتفكُّك، وأراحوا أنفسهم بوصف مبدعيه بالسذاجة والبدائيَّة والاضطراب البيئيِّ والذهني. والحقُّ أنَّ السذاجةَ إنَّما كانت لدَى مطلقي تلك الأحكام، وعيًا بطبيعة الشِّعر، والاضطرابَ إنَّما ظلَّ ينتابهم هم في فهم وظيفة الخطاب الشِّعري، قديمه والحديث!

أمَّا بقية تمحُّلات (العقَّاد)، ومغالطاته، واقتطاع الأبيات من سياقاتها النصِّية، وإعادة التماس ما كان يسمَّى قديمًا بـ"السرقات"- وإنْ على نحوٍ لم يكن يَعُدُّه القدماء أنفسهم من السَّرقات، لشيوعه أو لإحسان اللاحق فيه- أمَّا ذلك المعرض العريض الذي بسطَه لانتقاص قصيدة (شوقي) المشار إليها، فأهون شأنًا، بل بعضه بلا شأن. وسيطول بنا المقام لو تتبعنا نثار ما قال وكال، وما نريد أن نشابهه أيضًا في تكلُّف الحفر لاصطياد المثالب، التي لو كان كدَّ قريحته الشِّعريَّة بدل كدِّه وراء انتقاد شوقي، لربما كتب شِعرًا أشعر شيئًا من ذلك الذي كان يقرضه، تارةً في وصف كلبه "بيجو"، وتارةً في وصف الكروان، الذي دبَّج حوله ديوانًا كاملًا، سمَّاه "الكروانيـات". غير أننا سنضرب صفحًا عن ذلك بشاهدٍ واحدٍ هاهنا. قال (العقَّاد): "ومن هذه الإحالات هذه الفهاهة:

فَاصبِرْ عَلى نُعْمَى الحَياةِ وبُؤسِها

نُعْمَى الحَياةِ وبُؤسُها سِيَّانِ."

وعلَّق يسخر من شوقي: "والصبر على بؤس الحياة معروف، أمَّا الصبر على نعماها، فماذا هو؟! ولكن ويحنا! فقد نسينا أن المصائب والخيرات سيَّان، فلا غرابة في أن يصبر الإنسان على النعمة وأن تبطره المحنة. هكذا يقول شوقي، وما أصدقه! فإننا لا نرى منحة هي أشبه بالمحنة من هذا الشِّعر الذي أنعم الله به عليه. ولله في خلقه شؤون!" ثمَّ حين تعود إلى قصيدة شوقي تدرك أن العقَّاد قد اقتصَّ البيت من سياقه في القصيدة، وأن معناه وجيهٌ ضمن بنيته من النصِّ. المفارقة أن العقَّاد كان يتهم قصيدة شوقي بالتفكُّك، كما مرَّ، فاتضح أنه هو الذي يفكِّك القصيدة لينفذ إلى مَواطن ينتقد من خلالها الشاعر. يقول شوقي:

ومُنَعَّمٌ لَم يَلْقَ إِلَّا لَذَّةً

في طَيِّها شَجَنٌ مِنَ الأَشجانِ

فَاصبِرْ عَلى نُعْمَى الحَياةِ وبُؤسِها

نُعْمَى الحَياةِ وبُؤسُها سِيَّانِ!

لكن العقَّاد لو ساق البيتَين، دون تفكيك، لاتَّضح المعنى، ولما بقي لنقده من معنى! على أن توقُّفه عند ما يدعوه "الإحالة"، يدلُّ- بصفةٍ خاصَّة- على أنه لا يقيم لطبيعة الشِّعر وزنًا؛ فلولا الإحالة، والنمذجة التخييليَّة، كاد الشِّعر يكون نثرًا، لولا الموسيقَى الشِّعريَّة؛ ولأضحى النَّظْمُ عندئذٍ شِعرًا، بما في ذلك ألفيَّة (ابن مالك) في عِلم النحو. والحقُّ أن شِعر العقَّاد نفسه لم يكن غير تطبيقٍ لرؤيته الغريبة تلك للشِّعر. ولا غرابة أن ينضح كلُّ إناءٍ بما فيه!(1)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عن شِعره، يُنظَر كتابي: (2011)، شِعر النقَّاد: استقراءٌ وصفيٌّ للنموذج، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث).

clip_image002_90fa4.jpg

clip_image004_e1687.jpg

تخوض التجربة الروائية الفلسطينية تطورا حقيقيا في الشكل والمضمون، وبرغم العقبات التي تواجهها إلا أنها وبالفعل تجتهد؛ لتترك بصمتها على أبواب الحياة الثقافية والانفتاح الحضاري.

رواية “الخاصرة الرّخوة” للأديب الفلسطيني “جميل السلحوت” والتي صدرت عن مكتبة كل شيء في حيفا، استلهمت  الأساليب السردية المعاصرة؛ لتصف لنا الواقع المكبوت بلغة روائية امتزجت بعبق المكان  “مدينة القدس”، فشكلت بذلك لوحة أدبية، بمعايير جديدة، لم يسبق لكثيرين التطرق إليها في الممارسة الأدبية الفلسطينية.

تناقش الرواية بعض القضايا الاجتماعيّة الشائكة والتي وقعت أحداثها في مائتين وستين صفحة، حيث ركّز الكاتب على قضايا الظلم الذي تتعرّض له النساء في مجتمعاتنا الذكورية الأبوية وخاصة في المجتمع الفلسطيني، فوظف تجاربة وخبراته مشعلا بذلك حقلها بالواقع، لينقل لنا الأحداث مجردة دون تجميل، وكأن عينه كانت تركز على ذلك الواقع المتردي، بينما كان  قلمه منشغلا بصياغته ليسرده لنا بكل مفرداته.

اعتمدت الرواية أسلوب الوعظ المباشر وغير المباشر كوسيلة ناجحة في التأثير على القرّاء أثناء السرد، وذلك بطرق عدة، منها  اقتباس الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، من هنا قامت الرواية على تبادل الرسائل فيما بين الشخصيات خلال فترات الحكاية. أمّا الزمن فلم يُذكَر بدقة، الا أنه كان واضحا جليا وكافيا، لتعميق الإحساس بالحدث والشخصيات لدى القارئ، فزمن الخطاب كان يتوسع ويتطور بحسب حاجة العلاقة بين المكان والحدث، وبهذا تعمق الدمج بين عالم الواقع والخيال، مما أضاف شعورا بالانسجام لدى القارئ.

مثلت شخصيات الرواية تلك الشخصيات النمطية، حيث صبّ فيها الكاتب أفكاره؛ لتجسد تلك الدلالات التي تلقاها القارئ، فتنوعت الشخوص في الرواية بتنوع أدوارها، وفي المبنى الروائي تم التركيز على بعض منها، فمُنحت دورا لافتا دون أن تُفصل عن بقية الشخصيات الثانوية، ممّا بثّ بين الصفحات روح من الحركة والحيوية.

تحكي الرواية أحلام وآمال أبطالها بألوان رمادية، فالآمال صارت آلاما، و”جمانة ” تلك الفتاة الهشة التي لم تتمكن من الوصول إلى مدارك قوتها الكامنة في فكرها الذي تحمل إلا بعد خسارتها الفادحة، فرغم تمكنها من قراءة المستقبل إلا أنها لم تحاول التحرر أو المقاومة، ولم تدافع عن نفسها برفض الواقع أو تغييره، وبسبب التربية القمعية التّقليديّة ظهر ضعفها واضحا، ورغم أنها متعلمة إلا انها خضعت مستسلمة لرغبة وسلطة الأهل، كيف لا وهي التي لعنت اليوم الذي ولدت فيه كأنثى في بلاد لا تحترم إنسانيّتها؟ كما رأت جمالها لعنة عليها، وكيف لا ترى ذلك والحرّيّة في شرقِنا بعيدة المَنال؟ أمّا شخصية “أسامة” فقد كانت شديد التطرف والإنغلاق الفكري، هذا الإنسان المعادي للثقافة، والذي يمثل شريحة لا يستهان بها في المجتمع، كانت تصرفاته وردود أفعاله متطرفة مسيئة، وذلك من خلال تبنيه لتلك الأفكار التكفيريّة غير القابلة للنقاش ورفضه لأيّ فكر آخر.

أمّا عن الأبعاد النفسية في الرواية فقد تجلت في الأحوال النفسية والفكرية للشخصيات، وما تحمله من مشاعر وطريقة تفكير، وحاجات وغرائز وسلوكيات إيجابية أو سلبية. اللافت للإنتباه وجود الهواية كأحد المؤشرات الإيجابية في سلوك وتصرفات الشخصية الرئيسية “جمانة”، فقد كانت مُحبة للقراءة مهتمة بالأدب والمطالعة، أيضا من الوقائع التي لا يمكن التغافل عنها، وجود عنصر التديّن كمؤثر اجتماعي على معظم الشخصيات، هنا تجلت الرسالة واضحة ساطعة، فحين استسلم المجتمع وسلم إدارة شؤونه الحياتية لرجال الدين وعباءات التطرف، تلك التي لم تحتوِ المرأة، فكان لها النصيب الأكبر من القمع والتهميش وانتقاص الحقوق،  أيضا كان للموروثات والعادات العشائرية والتقاليد السلفية، دور كبير في استعباد المرأة جسديا ونفسيا وفكريا، وربطها “بالشرف” وبالتالي التمييز بينها وبين الذكر في كل من الواجبات والحقوق.

على هامش الرواية، أعتقد أن المشكلة الأكبر والتي تعيق التغيير في بلادنا تتلخص في التربية والتعليم وتأثيرها على الفرد. وعن التربية في بلادي فحدث ولا حرج، إذ من السهل جدا وراثة القيم دون التدقيقٍ أو التمحيص فيها، ذلك لأن البحث والتدقيق يتطلب عمقا في الشخصية ووعيا كبيرا، من هنا تسعى المجتمعات الرجعية بنفوذها إلى وأد كل مفكر فذ قبل أن يتجرأ على التفكير والتدقيق والنقد ثم التغيير، أمّا التعليم فهو لا يعمل على بناء شخصية قيادية ناقدة عميقة مفكرة ومؤثرة، فعملية التعليم لدينا حتى اليوم لا تزال عملية تلقينية، ومناهجنا التعليمية لا تتناسب مع النمو والتطور الحاصل في تفكير النشء، ولا ننسى غياب دور المؤسسات والجامعات عن البحث العلمي وتشجيع القيادات الشابة. هكذا تُسد الطرق وتضيق على المثقفين الذين يحلمون بتغيير المجتمعات وفكرها السائد، فهل تمكن التعليم في بلادنا من تقديم ما يتوافق واحتياجات الواقع في ظل هذا التراجع الثقافي وقلة المعرفة التي نفتقر إليها؟ وهل يعرف الناس أن منظومة التعليم لدينا تُعوِّد الطالب على الخضوع والتلقين وتقبُل الخرافة، ولا تشجع على النقد البناء والتفكير الحر، ممّا يخلق منه إنسانا مستسلما خاضعا.

أخيرا.. لا أريد الغوص أكثر بين ثنايا الرواية، سأقتبس منها بعض السطور التي تطرح ما لم نتطرق إليه بعد.

هناك نسبة طلاق مرتفعة .. طلاق المرأة في هذا المجتمع يبقى لعنة تطاردها، ولا أحد يرحم المطلّقة بغض النّظر عن أسباب طلاقها، وسواء كانت ظالمة أم مظلومة، فالمرأة خاصرة المجتمع الرّخوة.

  - المرأة كلّها عورة ، حتّى صوتها عورة.

- إن قراءة الروايات خطيئة؟ هناك من أفتى بتحريم ومنع كتابة القصص والرّوايات، لأن القّصة الخياليّة تحكي شيئا مبتكرا غير واقعيّ ، فهو من الكذب، والكذب حرام.

- استمعت جمانة لبعض هذا الحديث، فاشمأزّت وشعرت بالتّقيّؤ وصدرها يغلي غضبا، تساءلت حول ظلم النّساء لبنات جنسهّن، فإذا كان هذا موقف النّساء من عائشة فماذا يقول الرّجال؟

  جمانه : لا شيء يرضي أمّك ، وتفسّر الأمور كما يحلو لها.

  أسامة: لا أريد أن أسمع منكِ كلاما كهذا مرّة أخرى، أمّي امرأة فاضلة، ولا تريد لي إلا كّل خير. 

جمانه: من يريد لك الخير يريده لزوجتك أيضا.

لعلّه يصحو من حالة تغييبه لعقله أمام أمّه. هي لا تريده أن يكون عاقا بوالديه، لكنّها لا تريده أن يبقى مخدوعا بتصرّفات أمّه التي ستنعكس حتما على حياتهما المستقبليّة.

  - واصل أسامة اضطهاده لجمانة ظنّا منه أّن ّتصرّفاته حّق منحه الله له، تحمّلته جمانة مغلوبة على أمرها.

clip_image002_61d9f.jpg

 

clip_image004_11c3c.jpg

صدرت رواية "كنان يتعرّف على مدينته" للأديب جميل السلحوت عن مكتبة كل شيء في حيفا عام 2020، وتقع الرواية التي يحمل غلافها الأّول لوحة للفنّان التّشكيلي محمد نصرالله في 63 صفحة من القطع المتوسط.

حين يكتب مقدسي عن القدس، يُعمّد كلماته بطهر مشاربها، لتنبض بالحياة المؤطّرة بالحنين، براءة أقدام الطفولة عجنت الروح وعَتقت  النبض بلون الأصالة، هذا الدّفء والوداعة يكتمل في الرواية، في سرد متواتر مشوق، يعدينا كنان بشغفه لرؤية المزيد، حيث يقرر العودة ، سيحمل بداخله كل تلك الصور عن المدينة، وستبقى مطبوعة في ذاكرته، صور تعريفية وصور جمالية وصور روحية، استطاع الكاتب أن يمزج تلك الصور بأسلوب سلس، وتماسك السرد. فهنا كنان ومعلمته، وهناك الشيخ الذي يروي حكاية المدينة ، وهنا صور لمعالم المدينة، ربط متناغم يناسب الباحث عن معلومات ويناسب العاشق لقدسية المكان، ومناسب ليكون قصة تروى وحكاية لأدب السّياحة الدّاخليّة من باب اعرف وطنك.

الرواية لها بناء قصصي خاص، خطّ زمنيّ تعاقبيّ، السرد تمّ من خلال  بؤرة حدّدت إطار الرؤية وحصرته في القدس.

تُظهر الرواية معلومات تاريخية ودينية تتعلق بمدينة القدس، ويفسر الكاتب تلك المعلومات؛ لتكون مرجعا دراسيّا مناسبا لفئة اليافعين،  وهناك أمر تربويّ آخر، لم يكتف كنان بالمعلومات التي أخذها من معلمته وبالأماكن المقرر الذهاب إليها في الرحلة، بل عاد ليزور القدس ويسلك طرقاتها مشيا على الأقدام باحثا عن أجوبة لأسئلته، ومُشبع لشغفه للمعرفة وللعاطفة التي ربطته بالقدس منذ  تلك الرحلة.

مسمار العار صفحة 11 درس تربوي  آخر، لمفاهيم مرتبطة بالأقصى  قدسية

وخطيئة، واعتذار.

وقد ذكر الكاتب "المكتبة الختنيّة" وقدّم معلومات قيّمة عنها، حيث يؤمّ الأقصى آلاف المصلين يوميّا،  ويمرون عنها ولا يعرف أغلبهم الكثير عنها، مع أنها معجزة عمرانية ومكتبة ثرية، ومعلم مقدسي هامّ.

تحمل الرّواية في ثناياها دعوة غير مباشرة لتكثيف الزيارات للقدس، وضرورة الّتعرّف على مقدّساتها.

في النهاية يقول كنان عبارة تراودنا كلما زرنا الأقصى " ما عاد قلبي يحتمل" صدى همسه يطرق قلوبنا، ويغمر أرواحنا ما عدنا نحتمل البعد عنك يا قدسنا.

clip_image001_cfb23.png

صديقتي الافتراضية الكاتبة السورية رجاء شعبان التي لم أتحدث معها أي حديث خاص صوتي أو غير صوتي، تكتب لي تعليقا تقول فيه "تذكرني حضرتك بغسان كنفاني. وكم أحب غسان"، وعندما سألتها متعجبا "يا إلهي وكيف ذاك"؟ أجابتني بقولها: "لا أدري كيف".

لا أخفيكم سرا أنني للوهلة الأولى لم يعجبني ذلك، ربما إلى الآن لم يعجبني، وكثيرا ما هوجست به وأنا بين الصحو والنوم، فكيف لي أن أشبه غسان كنفاني، ذلك الشباب الطموح، الممتلئ حماسا، والكاتب البديع خَلقا وخُلقا، ذو الإنجازات البديعة التي خلفها للمكتبة العربية، وأثره في حركة الكفاح المسلح الفلسطينية، والشهيد الحيّ، أين أنا من كل هذا؟

في الفترة الأخيرة، أعكف على قراءة غسان كنفاني، ليس بدافع ما قالته لي الصديقة الكاتبة رجاء. فضول ما يدفعني لقراءة ما جمع بعد استشهاده رحمه الله، كتاب "الشاهد والشهيد"، وكتاب "فارس فارس"، وكتاب "معارج الإبداع". ولي في هذه الكتب رأي كتبته على عجل، ونشرته في صفحة الفيسبوك ولا أريد أن أعيده هنا.

في يفاعتي الجامعية قرأت لغسان كنفاني أولا مجموعته القصصية "قميص مسروق وقصص أخرى"، وقدمت فيها تحليلا للدكتور عادل الأسطة في مرحلة البكالوريوس. للأسف ضاعت تلك الدراسة. عدا هذه المجموعة قرأت مجموعة "سرير رقم 12"، و"أرض البرتقال الحزين". الآن لا أدري هل هي مجموعات قصصية أم أنها قصص منشورة في مجموعات قصصية. لا أريد أن أبحث، أكتفي بما هو في ذاكرتي. إضافة إلى أنني قرأت بطبيعة الحال "رجال في الشمس" و"عائد إلى حيفا" ورسائله إلى غادة السمان، وقرأت عن غسان العديد من الدراسات، وكانت دراسة رضوى عاشور "الطريق إلى الخيمة الأخرى" أول تلك الدراسات.

وماذا كتبت عن غسان كنفاني عدا تحليل المجموعة القصصية "القميص المسروق وقصص أخرى"؟ أشرت إلى رسائل غسان إلى غادة السمان أحيانا، وأحلت شاعرتي العربية التي كتبت لها مجموعة من الرسائل عامي (2018-2019) على رسالة لغسان كنفاني في رسالتي الحادية عشرة التي عنونتها بـ "الحال من بعضه يا غسان"، إشارة للعلاقة الملتبسة الموجعة ما بين غسان وغادة وما بيني وبين من كتبت لها تلك الرسائل. كنت أرى أننا متشابهان، أنا وغسان، وهي مع غادة السمان.

هل كل ذلك يجعلني متشابها مع غسان كنفاني؟ ربما رأت فيّ الكاتبة ما لا أراه أنا في ذاتي، ولكنني أحب أن أبتعد عن الشبيه، وذلك حرصا على صورته أولا، وثانيا، طمعا في بناء صورة خاصة لي، فليس أمرا إيجابيا أن أكون شبيها بغسان كنفاني، فلن أصبح يوما إياه، وسيظل هو غسان كنفاني، وأنا ظل باهت لا كيان لي، وثالثا: لا أتوقع أن غسان كنفاني سيسره أن يكون له من يشبهه في عالم الكتابة، فقد عمل ما عمل من أجل أن يكون ابن نفسه متحررا من غيره، فلن يكون سعيدا لو جاء شخص مثلي ليشبهه.

هل كان الأمر مثيرا للكتابة أم لم يعدُ كونه دافعا للكآبة المحضة؟ لقد شعرت بالفعل أنني كتبت شيئا تافها لا يستحق أن يكتب.

المزيد من المقالات...