وحتى نعوض أنفسنا عن إشراف الوحي المباشر، الذي كان يقود التجربة الأولى لهذا الدين، تحت رعاية الله سبحانه وعنايته، وبعد أن انقطع عنا خبر السماء، الذي كان يصحح المسيرة باستمرار، وحتى نعوض أنفسنا عن غياب الحبيب القائد الذي لا ينطق عن الهوى، اصبح لزاماً علينا، أن نبحث عن منهج علمي، يحمينا من جهلنا وتخبطنا، منهج يؤخذ من المصادر الشرعية ونصوصها، يخضع لها، ويهتدي بها في كل صغيرة وكبيرة، و هذا المنهج يقو م على خطوط رئيسة منها:

1- الخط الأول: الأخذ بالأسباب:

وتقوم منهجية الأخذ بالأسباب على أساس راسخ من العقيدة الإسلامية، حيث يدرك المسلم أن خلافته على الأرض، توجب عليه الاستعداد للحياة الدنيا، من خلال الأخذ بالأسباب، وعلى أساس من معرفة النواميس والسنن، التي غرسها الله سبحانه وتعالى في الكون والحياة والنفس البشرية، وحيث أن المنهجية القرآنية، تدفع بالمسلم نحو اكتشاف الأسباب ومعرفة نتائجها، والأخذ بها حتى يتقوى بهذا الاكتشاف، ويستعين به في بناء حضارته، مع علمه أَن هذه الأسباب، لا توصل إلى الأهداف، إلا بتوفيق من الله عز وجل.

المؤمن يتقوى بالأسباب، ويلجأ إلى خالقها، طالباً منه التوفيق والعون والسداد، حتى لا يقع في عبادتها من دون الله، انه يتوكل على الله وليس على الأسباب ونتائجها، قال صلى الله عليه وسلم  (اعقلها وتوكل)(3).

ونلاحظ ذلك عملياً في تطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم ففي غزوة بدر مثلاً، أخذ بالأسباب والاستعداد، ثم ختم ذلك بالدعاء إلى خالقها، طالباً منه العون والثبات، ثم ترك الأمر لمشيئة الله سبحانه تختار للمسلمين ما تريد.

يقول سيد قطب -رحمه الله - (فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله، واتسع له تصورها ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان إلى مشيئته المطلقة)(4).

ومن ضوابط هذه المنهجية والتي تدعمها شواهد كثيرة من السنة الشريفة ما يلي:

1- لا بد من وضوح الغايات والأهداف، التي نصت عليها عقيدة الإسلام وشريعته في تفكير المسلم، لان وضوح الأهداف والغايات يؤدي إلى وضوح الطرق والمراحل والوسائل التي توصل إليها، وإخضاع العلم والتطبيق لنية العبادة والتقرب به إلى الله وهو أول أسباب النجاح، والعلم والأعمال تتحول إلى طاعة وقربى، إذا خلصت النية فيها لله سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى...) متفق عليه(5).

2- ومن ضوابط هذه المنهجية: التأصيل الشرعي الدائم للعلم والعمل، لان هذا التأصيل معناه، صحة العمل، وصحة العبادة، والقبول عند الله أولاً، ومعناه أيضاً إسلامية المنهج وإسلامية التطبيق، وإسلامية الغايات والأهداف ثانياً، وبذلك ينال ثقة المسلمين، ومن معانيه نفي الخبث والانحراف والتشوه عن دين الأمة، والعودة به إلى صفاء النبع الذي تشرب منه الأمة (القرآن والسنة).

3- ومن ضوابط هذه المنهجية الأَخذ بأقصى درجات الاستعداد العلمي، لفقه الإسلام والعمل به من القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة (التجربة التطبيقية الأُولى) لان المسلم مطالب شرعاً بالمقاربة والتسديد، ولأن العلم العميق بالإسلام يضيء طريق العمل له، قال صلى الله عليه وسلم:

1- "... ولكن سدوداً وقاربوا... " (6).

2- (فقيه واحد اشد على الشيطان من أَلف عابد)(7).

4- ومن منهجية الأخذ بالأسباب: إتقان العمل على أساس من التخصص، بداية من العلم الذي يصف ذلك التخصص والانتهاء به إلى التطبيق العملي الذي يوظفه في بناء حضارة الإسلام، وأعلى مراتب العمل اتقاناً هو الإحسان، الذي يجمع بين (النظرية و التطبيق) في أعلى مراتبها قال صلى الله عليه وسلم:

1- (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم)(8).

2- (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)(9).

3- (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك...)(10).

4- (أن الله كتب الإحسان على كل شيء...)(11).

5- ومن منهجية الأخذ بالأسباب، تفتح عقل المسلم للتعلم من تجاربه في الحياة، والفطنة وعدم تكرار الأخطاء، والابتعاد عن الحمق، والغباء، والإمعية، والتقليد، ودفن الرأس في الرمال، وهذه الصفات السلبية، لا تتواجد في مسلم عرف إسلامه جيداً، ومن رآها في نفسه، فعليه ان يراجع فهمه للإسلام من جديد، قال صلى الله عليه وسلم:

1- (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) متفق عليه(12).

2- (المؤمن كيس فطن حذر، وقّاف لا يعجل )(13).

3- (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)(14).

4- (لا يكن أحدكم إمعة...)(15).

5- (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)(16).

6- ومن هذه الضوابط الابتعاد عن الترف الفكري، وتحويل العلم إلى عمل، لان فائدة العلم هي في العمل به، ومواجهة الأخطاء ومنع تراكمها، ونلاحظ أن أدبيات الصحوة الإسلامية - في أيامنا هذه - تقوم على المجاملة والتهرب من التصحيح، في كثير من جوانبها، خوفاً (من جلد الذات) كما يقول العباقرة المبررون...!!

7- ومن العبارات المشهورة في تاريخ هذه الأمة، أَن عمر -رضي الله عنه- وعندما تأخر النصر على المسلمين في إحدى المعارك قال لقائد تلك المعركة: إنما ننتصر عليهم بطاعتنا لله وعصيانهم له، فإذا تساوينا معهم في المعصية كانت الغلبة للقوة، أَي للأخذ بالأسباب.

حسين سرمك حسن: الصرخة النهائية المرعبة للحرب في قصة "زوجة محارب"

"الساعة تقارب الحادية عشرة مساءً، المطر في الخارج ، ينزل برفق ، تكاد لا تسمع له صوتاً. لكنك إذا ازحت الستارة ، عن النافذة قليلا ً ، فسوف ترى اسفلت الشارع المبلول يلتمع في ضوء المصابيح ، صوت المغنية ياسمين الخيام يتردد ، خفيضا ً ، عذبا ً في فضاء الغرفة ، وانا أقرأ مسرحية عن الحرب ، للكاتب البريطاني " جون كوري "حيث يقول جندي جريح :

" سوف اجلس في الايام الجميلة في الشمس ،

اشعر بها تدفىء قناعي من القطن الطبي ،

رجل دونما أنف ، ونصف فروة رأس ،

ربط فكيه بالأشرطة ، والخرق البيض ،

ينصت للنسيم ،للأقدام العابرة ،

لسيقان النساء الرقيقات. "

ان قراءة مثل هذه الكلمات ، من رجل عاد من الحرب مثخن بالجراح ، تجعلك تقاوم الشعور بالإحباط ، وتواصل الكتابة . "

مهدي عيسى الصقر

من كتابه " وجع الكتابة "

في العام 2001 كنت قد اصدرت الجزء الأول من كتابي عن المبدع " فؤاد التكرلي " ، ثم بدأت بالإعداد والتحضير لكتابة مسودات الجزء الثاني ، فكان لزاماً علي ّ أن أتابع وأحفظ و ( أؤرشف ) كل ما يصدره المبدع من روايات وقصص وأغلب ما ينشره من مقالات ولقاءات صحفية . في نفس الوقت كنت اوشك ان انهي الجزء الأول من مشروعي عن الراحل الكبير " مهدي عيسى الصقر " والذي نشر فيما بعد بعنوان" مخيرون بالشعور ، مسيرون باللاشعور " عن دار الشؤون الثقافية ببغداد المحروسة . وكنت ولنفس السبب أجمع كل ما ينشره " الصقر" وأغلب ما يكتب عنه . في لقاء صحفي اجري مع المبدع " التكرلي "، لفتت انتباهي إشارة منه الى قصة مهمة أعجبته كثيرا ً للراحل " الصقر " اسمها " زوجة محارب " .

ولأن هذا النص يقع ضمن مشروعي الضخم عن أدب الحرب والذي اسميته " أدب الحرب الكبير يكتب بعد الحرب " وصدر الجزء الأول منه بعنوان " قطار الشظايا الندية " فقد ارسلت رسالة الى الاستاذ " الصقر " بيد العزيز الشاعر الراحل " حسين الحسيني" الذي كان حلقة الوصل بيني وبين " الصقر " ينقل وبكل تواضع ــ طلباتي من الصقر ويأتيني بكل ما أحتاجه منه فكان له فضل كبير في الإعداد لكتابي عن الراحل . بعد تأخير بسيط سلمني " الحسيني " رسالة من الاستاذ " الصقر " ثبت تاريخها في أعلى الصفحة " السبت ، 24 شباط ، 2001 " يعتذر فيها الراحل عن التأخير بسبب انشغاله في متابعة طبع مجموعته القصصية الجديد " شواطىء الشوق " ، مع إرساله نسخة من قصة " زوجة محارب " والتي يشير إلى انها لم تنشر حتى الآن ولم يفكر بعد في ادخالها في اية مجموعة .

قصة هذه القصة كما يرويها كاتبها :

في كتابه " وجع الكتابة ــ مذكرات ويوميات ــ دار الشؤون الثقافية العامة ــ بغداد ــ 2001 " يروي المبدع الراحل " مهدي عيسى الصقر" الكيفية التي التقط فيها موضوع قصته" زوجة محارب " والآليات الواعية واللاواعية التي فعلت فعلها في تحويل هذا الموضوع الى نص ابداعي :

" 9 كانون الأول ( ديسمبر ) : 1999

انتهيت من كتابة اقصوصة اسميتها ( زوجة محارب ) شغلتني تسعة ايام ، اذ كتبت عدة مسودات لها ، حتى اقتنعت بانها اكتملت بشكل لابأس به . حفزتني الى كتابة هذه الاقصوصة رؤيتي لإمرأة تخبز في تنور ، على قارعة الطريق ، في فسحة من الارض ، امام هيكل لقصر كبير ما يزال العمال بشتغلون في اتمامه ، اشتريت منها خبزا ً لأعرف حكايتها . قالت ان أباها يعمل حارسا ً للبناية وانهم يعيشون في احدى الحجرات " هناك " واشارت الى حجرة ما يزال بابها ونوافذها ، محض فتحات يغطيها خليط غريب ، من الخرق والاسمال واكياس الاسمنت ( الفارغة ) ، وان امامهم بعض الوقت ، حتى يكتمل البناء ويأتي اصحابه ، ليقيموا فيه ، وهي تعمل لتنفق على علاج زوجها الذي عاد من الأسر، لدى الاعداء ، يحمل معه جرحا ً في ساقه . ولم تكن حاله سيئة كثيرا ً ، الا ان قرحة نشأت بعد ذلك ، في مكان الجرح ، واخذت تنخر في الساق والاطباء ينصحون الان ببترها. شاهدت معها طفلا ً صغيرا ً جميلا ً بشعر اشقر يلمع في الشمس ، يلعب بالحصى على مسافة قريبة ، عرفت انه ابنها ، طلبت مني المرأة ان اساعدها في حمل طست العجين ، من داخل الحجرة ، تبعتها ، وعندئذ شاهدت زوجها المصاب ، راقدا ً تحت الاغطية في احدى الزوايا، يعاني اوجاعه ، في صمت ، عيناه تلتمعان ، في العتمة ، وفي نظرته الينا ــ انا وزوجته ــ احساس بالحرج والهوان ، اذ يرى امرأته تستعين برجل غريب " ( ص 66 ــ 67 ) .

ويلخص الراحل المبدع فلسفته في استثمار ما هو واقعي وتحويله الى عمل خلاق ونظرته الى انفعال الكاتب وانفعال المتلقي ونظرته الى جانب من غاية الفن واهدافه الاجتماعية فيقول : " اذا اردنا شيئا ً من البقاء لما نكتب ( لبعض الوقت ، طبعا ً اذ لاشيء يدوم في النهاية ) فعلينا ــ في تقديري ــ ان نكتب عن شيء يترك صدى في نفوس الآخرين . وليس شرطا ً ان يكون الموضوع الذي نتناوله كبيرا ً ، يكفي هاجس بسيط يحرك مشاعر القارىء ، ويترك في نفسه اثرا ً يدفعه الى قليل من التأمل " ( ص 67 ) . وفي يوميات تشرين اول ( اكتوبر) 1990 يعود ــ وبعد ان اكمل كتابة هذه القصة " زوجة محارب " ــ الى ذكر تفصيلات اكثر اهمية وتتصل بآليات عملية الخلق الابداعي بصورة اكثر حميمية وسخونة فيقول :

" خرجت في مسيرتي اليومية . السماء خالية من الغيوم ، والهواء معتدل . مررت بالمرأة ، التي كتبت عنها قصتي القصيرة " زوجة محارب " . وجدتها ما تزال تقف ، بجوار تنورها ، تخبز، وعلى مسافة ليست بعيدة جلس زوجها ، الذي عاد من الأسر لدى الاعداء ، يحمل جرحا ً في ساقه ، المرة الأولى التي اشاهده فيها ، خارج الحجرة المعتمة ، حيث كان يتمدد ، في الزاوية ، يعاني آلامه ويأمل في شفاء قريب ، في النهاية . غير ان الجرح راح ينخر في العظم ، فاضطر الرجل في النهاية ، الى الرضوخ ، لمنشار الجراح ، وها هو الآن يجلس علر حصيرة فرشتها له زوجته ، على الارض ، يغطي ما تبقى من ساقه المبتورة ، بذيل دشداشته ، يتأمل زوجته تخبز ، ويداعب طفله الصغير ، الجالس بجانبه ، وبجواره ، على الحصيرة ، تستلقي عكازته المعدنية ، تلمع في ضوء الشمس .. هؤلاء ، إذن ، هم شخوص اقصوصتي ، جاءوا من المجهول ( فانا لا اعرف عن ماضيهم شيئا ً ) ودخلوا حياتي ( او لعلي انا الذي اقتحمت عليهم دنياهم ) وتركوا بصماتهم في ذاكرتي ، ثم خرجوا ، عند الجملة الأخيرة من اقصوصتي ، ليتابعوا حياتهم ، بعد ذلك ، بمعزل عني ، وبعد ان غيرت كلماتي من ملامحهم ، وبعد ان لوَن كل طرف حياة الطرف الآخر ، واضاف اليها ظلالا ً، ما كانت موجودة من قبل ، تأملت البناء ، الذي يعمل فيه والد المرأة حارسا ً ، رأيته يوشك ان يكتمل . لقد تحدد مسار حياة هذه العائلة ، خارج سياق القصة ، دون تدخل مني ، اذ سيأتي اصحاب البيت يقيمون فيه ، ولن يكون لوجود الحارس ضرورة ، وسف يهدم التنور ، الذي بنته ابنة الحارس ، لتعيل زوجها المعوق وابنها الصغير ، وستحمل العائلة امتعتها القليلة ، ويتوكأ الزوج ، على عكازته المعدنية ، ويرحلون جميعا ً ، نحو مصائرهم المجهولة ، ولن يتبقى منهم غير كلمات قليلة على الورق ربما تكون اكثر ثباتا ً من واقعهم المهزوز . " ثم يختم هذه اليوميات المتعلقة بالقصة بالعودة الى الحديث عن المسافة ( الانفعالية ) المحسوبة بين المثير / الموضوع / الواقع وبين المستجيب / المبدع خصوصا ً عندما يكون الكاتب مكتويا ً بنيران المحنة التي تحاصر مجتمعه ويتقلب على السنتها شخوص قصصه فيقول :

" لكي تستطيع ان تكتب ، وسط المعاناة اليومية ، التي تمس حياتك ، وحياة الآخرين من حولك ، تحت جور الحصار واعراضه الجانبية ، يتوجب عليك ان تفلسف الامورمن اجل ان تحمي نفسك من الصدمات العاطفية ، خصوصا ً اذا كنت تكتب عن اشياء ربما تكون بعيدة عما يكابده الآخرون ، هذه الايام " ( ص 88 ــ 90 ) .

تأملات تحليلية : من ارض الواقع الى سماء المخيلة :

كيف نقل " مهدي عيسى الصقر " الحدث من ارض الواقع الصلبة الى ( ارض ) النص الرجراجة مستدعيا ً من مخزون ذاكرته ومشكلا ً اياه في سماء مخيلته ؟ يبدو الحدث بسيطا ً وبعيدا ً عن التعقيد في شكله الموضوعي ( الخام ) ، كما ان النظرة المباشرة والسريعة تشير الى انه بقي ايضا ً بسيطا ً بعد ان حوله المبدع الى اقصوصة . لكن النظرة التحليلية العميقة الى استكشاف اغوار النص تظهر غير ذلك في قصة يعد صاحبها من رواد المدرسة الواقعية في الكتابة القصصية في العراق منذ ان نشر مجموعته الاولى " مجرمون طيبون " في العام 1954 والتي كتب مقدمة لها الشاعر " بدر شاكر السياب " . يرى " الصقر" ان شخوص الفصة : الإمرأة وزوجها المعاق وطفلها قد جاءوا من المجهول لانه لا يعرف عن ماضيهم شيئا ً ودخلوا حياته ، ثم يضع صيغة احتمالية تقول " او لعلي انا الذي اقتحمت عليهم دنياهم ، في حين ان الصيغتين ينبغي ان توضعا في هيئة معادلة متوازنة يحكم كلا ً من طرفيها شروط خاصة . فعمليا ً وجدنا ان " الصقر " وعبر رياضة المشي التي يمارسها كجزء من طقوسه الابداعية ــ هو الذي التقط الحدث اولا ً ثم اقحم نفسه في عالم هذه العائلة الصغير ثانيا ً ليعود و " يتلاعب " بحيوات الشخوص وفق مشيئته الابداعية ثالثا ً . وهو حين يضيف الصيغة الاحتمالية ( اة لعلي انا ...) فانه يحاول التخفف من الشعور بالذنب ، لأن أي فعل ابداعي ينطوي ــ في ذاته ــ على بعد " جرمي "ونوايا "جنائية "اذا جاز التعبير لأن فيه خرقا ً بحدود لحيوات اخرى وإقلاق لمسارات الآخرين السلوكية ومحاولة ماكرة لفضح خصوصياتهم من ناحية والتملص من الدوافع الشخصية المسمومة للمبدع من خلال اسقاطها عليهم من ناحية اخرى . شخوص المبدع ما هي إلا " اكباش فداء اسقاطية " في الغالب. وضمن افرازات هذا المخطط الاسقاطي يأتي الشكل ( المتناقض ) للعبارة التالية " ... ثم خرجوا ...بعد ان غيرت كلماتي من ملامحهم ، وبعد ان لوّن كل طرف حياة الطرف الآخر ، واضاف اليها ظلالا ً، ما كانت موجودة من قبل " . ان المبدع هو الذي يخرق حدود و " حرمات " حيوات الآخرين ــ الفعليين او المتصورين ــ ويغير ملامحهم بنواياه وكلماته ويمنحها ظلالا ً جديدة مسقطة من مخزونه اللاشعوري ومكبوتاته بشكل خاص . ويبدأ هذا " التعدي " من لحظة ( الانتباه ) الى الحدث الواقعي والذي تتم اعادته من خلال ( الالتفات ) لجزئية بسيطة او لتفصيل دقيق يمثل عود الثقاب الذي يشعل حزمة الحطب المختزنة والمرجأة طويلا ً ، وفي ذلك لا تلعب الشروط الموضوعية سوى دور ثانوي وتحكم الشروط الذاتية جل آليات الانتباه والالتفات . فكم من المبدعين شاهدوا امرأة تخبزامام هيكل لقصر كبيرلم يكمل بناؤه بعد ولم يلتقطوا ( اهمية ) هذا المشهد ؟ قد يكون " مهدي عيسى الصقر " هو " الكاتب " العراقي الوحيد الذي أقام قصة على اساس مشهد ( بسيط ) ( التقطه ) مصادفة وهو مشهد امرأة تخبز امام هيكل قصر لم يكمل فقرر اقتحام حياتها كما قال في يومياته : " حفزتني الى كتابة هذه الاقصوصة رؤيتي لامرأة تخبز في تنور .. فاشتريت منها خبزا ً لاعرف حكايتها " . وعزم الكاتب على التعرف على الحكاية يرتبط بـ ( اهمية ) الذي حرك سبابته وأغوى الكاتب واستدرجه .. وهي اهمية لا يمكن فهمها مطلقا ً دون ادراك المعنى الرمزي الذي يحمله المشهد بالنسبة للاشعور الكاتب . ويتجلى الدورالحاسم لهذا المعنى الرمزي من خلال مظاهر عديدة من بين اهمها ( الانتقائية ) التي يتعامل بها الكاتب مع مكونات موضوعه . فقد توفر للصقر ( موضوع ) اكتملت احداثه على مرحلتين :

المرحلة الاولى وهي التي ذكرها في يوميات يوم 9 / كانون الاول /1989حيث شاهد امرأة تخبز في نتور على قارعة الطريق امام قصر في طور التشييد . علم من الزوجة ان أباها ًيعمل حارسا ً للبناية وهي تعمل لتنفق على زوجها الذي عاد من الأسر بجرح في ساقه تطور الى قرحة فساءت حالته ويقترح الاطباء ــ الآن ــ بتر ساقه . شاهد طفلها يلعب بالحصى ، طلبت منه مساعدتها في حمل طست العجين من الحجرة فشاهد زوجها المصاب .

المرحلة الثانية هي التي ذكرها في يومياته لشهر تشرين الاول / 1990 ــ أي بعد سنة تقريبا ً من اللقاء الاول ــ حيث شاهد ــ من جديد ــ المرأة تخبز في التنور وزوجها ــ اذي بترت ساقه الآن ــ يجلس على حصيرة يتأمل زوجته ويداعب طفله ، بجانبه تستلقي عكازته المعدنية وهي تلمع في ضوء الشمس .

فما الذي انتقاه الصفر من هاتين المرحلتين ؟ ما الذي ابقاه من مكوماتهما وما الذي اهمله ؟ وما الذي تلاعب به وكيف تم هذا التلاعب ؟ وما هي ( المصلحة ) او ( المصالح ) النفسية اللاشعورية التي تقف وراء ذلك ؟

لقد انتقى الصقر ــ وهو امر له مدلولات فنية ونفسية كبرى ــ المرحلة الاولى فقط وأتم قصته ــ او اقصوصته حسب وصفه ــ خلال تسعة ايام بعد ان شاهد المرأة للمرة الاولى . لقد اكتفى بما اطلع عليه من تفصيلات عن حياة شخوصه في تلك المرحلة واهمل كل تفصيلات المرحلة الثانية بصورة كاملة ، اهملها ليس لأنها غير مهمة بالنسبة لمصائر شخوص قصته ولكن موقفه ( الفلسفي ) هو الذي فرض ذلك الموقف كما سنرى بعد قليل . وعندما نقرأ القصة " زوجة محارب " بدقة وأناة سنجد ان القاص قد جعل المرحلة الثانية متضمنة ومتداخلة ضمن حوارات القصة ومستشرفة وهذا هو عمل الفنان الأكثر اهمية بصورة ايحاءات غير مباشرة نثرها في مواقع مختلفة من مسار سرد وقائع المرحلة الاولى . لقد اطمأن القاص الى ان ما التقطه في المشهد الأول امرأة تخبز على قارعة الطريق ــ من المرحلة الأولى هو المفتاح السحري والبسيط الملقى على قارعة الطريق ــ كما يتحدث الجاحظ عن المعاني ــ هو الذي سيستطيع استخدامه لفتح بعض خزائن لاشعوره التي تتململ شياطينها المغوية منذ زمن ، يستخدمه دون ان يلفت انتباه احد ــ سوى المحلل الناقد طبعا ــ وسيصرف مكبوتاته تحت اغطية الفن الأخاذة وسوف يحصل ــ فوق ذلك ــ على اشباع ذاته من خلال توكيدها في لحظة الابداع الفائق ومن خلال مباركة المتلقين المسحورين بالعاب فنه المغيبة .

في القصة تحول الصقر الى ( الرجل ) حيث تروى الأحداث بصيغة الشخص الثالث حيث يقول في الاستهلال :

" وقف الرحل يتأمل في شيىء من الاستغراب المشهد الذي تكشف امامه .

بدا له المشهد دخيلا ً على معالم ذلك الحي المترف ، الذي اختار ان يمارس رياضة المشي فيه ذلك اليوم في فسحة من الارض ، على مقربة من دار جديدة ، لا زال العمل يجري في بنائها ، رأى تنورا ً من الطين وامرأة بثياب بنية قاتمة تلملم حطبا ً "

والشيء الاول الذي فعله القاص في الاستهلال هو اثارة درجة من الشعور بالدهشة في نفس القارىء بسبب المفارقة الناتجة عن وجود امرأة ذات مظهر ( ريفي ) تتهيأ لسجر تنور قرب قصر منيف وهو امر لم تعتده السياقات الاجتماعية العراقية ، أي انه حول الدهشة التي تملكته فعليا ً كما ذكر في يومياته الى الرجل ، ليرسخها في ذهن المتلقي ، ومثلما اقحم ناسه في عالم المرأة الصغير ، أقحم ( رجله ) في حياتها أيضا َ :

" هل تبيعين خبزا ً ؟ " رفعت رأسها ونظرت اليه :

ــ نعم لكنني لم اسجر التنور بعد .

ــ سأنتظر .

فرش الرجل منديله ، فوق مجموعة من الاحجار ، وجلس يرقب الطفل يلعب وحده بين مواد البناء " .

ثم تأتي واحدة من العاب اللاشعور الخلاقة في صورة فنية تعزز حبكة القصة لكنها تكشف جانبا ً مهما ً من دوافع القاص من ناحية ومن آليات العملية الابداعية من ناحية اخرى . تطلب المرأة من الرجل أن يساعدها في جلب طست العجين من داخل الغرفة . " فوجىء بوجود رجل آخر معهما داخل الحجرة .. كان الرجل يتمدد ساكنا ً بين طيات الفراش .. عيناه تتابعان حركاتهما ، هو والمرأة باهتمام ، وفي شيىء من عدم الارتياح ، وتلمعان في محجريهما ، مثل عيني حيوان حبيس .. " وعندما يخرجان بالطست يعود الرجل ليجلس في مكانه فوق الاحجار ويسأل الإمرأة : " ابوك يبدو مكدرا ً.

فتجيبه :

ــ ليس هذا ابي . هذا زوجي " .

القاص في المرحلة الاولى من يومياته ــ يشير إلى ان الإمرأة اخبرته بأن زوجها ــ الأسير العائد ــ قد اصبح معاقا ً وانه حين تبعها إلى الحجرة لمساعدتها في جلب طست العجين شاهد زوجها المصاب راقدا ً تحت الأغطية يعاني أوجاعه ، في صمت وعيناه تلتمعان في العتمة فلماذا تلاعب بهذه المعلومة وجعل الرجل في القصة يعتقد بان الرجل الممدد في الحجرة هو ابوها ؟ لقد خلق القاص لعبة ابداعية تعزز انشداد القارىء لكنها كانت مصيدة تكشف ما خفي من دوافعها . وهذه الدوافع المستترة لا يمكن الامساك بها دون العودة ألى المغزى الرمزي الذي التقطه من رؤية المشهد الأوال : امرأة تخبز في تنور على قارعة الطريق . لقد أثار هذا المشهد دهشته وحماسته في وقت واحد " فقرر ان يعرف حكايتها " أي يطلع على طبيعة الظروف التعيسة التي اوصلتها إلى هذا الحال المزري . وعلى الرغم من كل مظاهر نضجنا وتقدمنا في العمر ، تبقى الدفعات الاوديبية الطفلية لائبة في اعماقنا وقد تثيرها مشاهد ( يومية ) بسيطة مثل مشهد الامرأة التي تخبز على قارعة الطريق وسط العمال الغرباء الذين يقومون بتشييد القصر المنيف ، وفي مقدمة تلك الدوافع ما يرتبط بـ ( عقدة الانقاذ ) المستلة من التاريخ النفسي الطفلي حيث ترسخ في روح الطفل قناعة مفادها ان الأم ( موضوع الحب الأول والأخير " هو هدف بحاجة إلى جهده الإنقاذي دائما ً كما ان عملية الخبز وتأثيرها وما تثيره من تداعيات نفسية اسطورية والمعالجة الامومية البارعة التي تتضمنها تعزز تحقيق تلك الدفعات في نفس الابن ــ القاص ــ الرجل . وليس عبثا ً ان نجد مماثلة عامة لدى اغلب الشعوب بين حبة القمح والاله الابن في موته وانبعاثه وحاجته الدائبة والملتهبة للإنقاذ والتي تنقلب وتسقط على الام ( والاهداف الانثوية البديلة لها ) كهدف يستدعي كل محاولات الإنقاذ في حين ان التاريخ الاسطوري بأكمله يشير إلى ان المخلص الأول هي الام العشتارية التي فاقتها بمراحل الام العراقية الأسطورة ، ومن نماذجها هذه الإمرأة التي يشير القاص إلى انها تعيش في حجرة متربة بابها ــ باب خصوصيتها الأسرية والجنسية ــ من الخرق والاسمال وأكياس الاسمنت الفارغة ، وتعمل مكدودة لتنفق على علاج زوجها ( منقذها المفترض ) وطفلها الوحيد ، في ظل حاضر محطم يائس وانتظار لمستقبل اكثر قتامة وافدح خسارة ، هذا الولاء الامومي الساخن هو الذي اثار انفعال القاص في الواقع والرجل في القصة بمشهد الامرأة الأول ، وهو ( من ناحية ثانية ) العامل الرئيس الذي جعل القاص يكتفي بالمرحلة الأولى من الحدث ويهمل عملية بتر ساق الزوج المعاق ( رغم طابعها المأساوي ) والتي أشار إليها في المرحلة الثانية ( فهذه القصة هي قصة المرأة المعذبة / الأم والحاجة لإنقاذها ) . وهذه الدوافع هي التي جعلت القاص يضع الرجل في القصة في موقع قناعة خادعة في ان الرجل الممدد هو ابوها . من الواقع إلى القصة اشتعلت الدوافع الدفينة الضاغطة فأزاح الزوج المعاق والمحبط عن طريق جهده الإنقاذي . وهذا واحد من أهم دوافع العملية الإبداعية .

مداخلة مهمة :

لأن المؤلف ( بالنسبة لمنهجنا التحليلي )لا يموت ، وانه يتمظهر من خلال سلوكيات ابطاله ويقف ( مباشرة ) خلف افعاله ، يمكننا ان نلتقط دلائل موحية ( وقد نكون غير مباشرة ) من تاريخ المؤلف الشخصي وأدلة من منجزه الإبداعي تعزز الاستنتاجات السابقة . في كتابه " وجع الكتابة " يتحدث ( مهدي عيسى الصقر ) عن حادث موت أمه وهو يقول : "عندما دهم أمي المرض ، كنت أبدو وأنا اسمعها تتوجع ، في ساعة احنضارها جلست عند رأسها نظرت إلى وجهي ، بعينين ذاهلتين ، وتساءلت : ( ليش ؟ )

تريد أن تعرف لماذا يتوجب عليها ان تموت ، هذا السؤال الفلسفي ( العقيم والأزلي ) مع ذلك ( ندّ عنها هي المرأة البسيطة ) في لحظة جزع ... لحظة رعب . لم أقو على مواصلة النظر في عينيها . شعرت بما يشعره الانسان ، في مواجهة مصيره المحتوم ، ومصائر الآخرين ... العجز التام من فعل شيء . تشاغلت بالتحديق إلى الجدار الأصم وراء السرير . عندما ارتفع النشيج من حولي عرفت انها أطبقت أجفانها ، غير ان عيني لم تدمعا وجدت في رحيلها خلاصا ً لها من عذاب لا مبرر له . مددت يدي أحاول أن اعدل رأسها الذي سقط عن الوسادة ، فصدمني إحساس غريب .. إحساس يأني ألمس ( شيئا ً ) .. لا انسانا ً ... لا ألمس أمي .. فجأة بدت غريبة عني .. عنا جميعا ً . انقطع في أقل من جزء من ثانية ، كل ما كان بينها وبين دنيا الناس ، وانتسبت إلى عالم الأشياء وذهب هدرا ً ما كانت تكتمه من حاضر ، ماضي ، وذكريات ، وتجارب ، وأحلام ، وعلاقات صداقة ، وارتعاشات حب ، وتوقعات ، وخطط في المستقبل .. كل شيء . كان ذلك أول لقاء لي مع الموت ...

ولكن يالها من نهاية ... " ( ص 14 ــ 15 )

ويبدو ان هذا الخذلان المرير هو اول فشل تمنى به الرغبات الإنقاذية المكبوتة لدى الصقر الصغير . ومن يقرأ الجملتين الأخيرتين : ( كان ذلك أول لقاء لي مع الموت ) و ( ولكن يالها من نهاية ) فسيجد الارتباك واختلال الرابطة العضوية والسردية بينهما ، وقد يكون صحيحا ً ان نقول يالها من بداية ارتباطا ً بكون فاجعة وفاة أمه تمثل أول لقاء له مع الموت / المثكل ، أو تصاغ الجملة الثانية بطريقة تبين ان المقصود بـ ( ولكن يالها من نهاية ) هي نهاية الأم ، لكن هذه الربكة مصدرها ان (الصقر ) قد اهتز كيانه الصغير ــ آنذاك ــ حيث خلع من ( أناه ) الشخصي جزء كبير من خلال فناء الأم الحبيبة التي استدخلها كجزء اساسي من أناه . ومن يتابع حياة الصقر من خلال أحاديثه والوقائع الأساسية من حياته كما سردها في كتابه ( وجع الكتابة ) من ناحية ومن خلال تحليل أعماله الروائية والقصصية من ناحية اخرى سيجد ان هناك عاملين أساسيين ــ من بين عوامل أخرى أسهما في نمو وصيرورة المضامين الرئيسة في نتاجه وفي سلوكه وهما : سطوة قلق الموت من جانب وعقدة الإنقاذ من جانب آخر . لقد اشتعل قلق الموت في روحه منذ اللحظة التي فجع بها بوفاة أمه وعجزه المرير عن الإجابة على تساؤلها المشروع واليائس وهي تحتضر : ( ليش ؟ ). وتساؤل الأم البسيط والمباشر هذا هو سؤال الإنسان الممتحن الأزلي ، السؤال الأكبر المحير الذي لا جواب له ، السؤال الذي يشكل كل المسافة بين الله والإنسان ، بين السماء والأرض .

أبو الهول يسأل بين ( اوديب عند باب ( طيبة )السؤال الساذج ــ الحزورة : من الذي يمشي على أربع في الصباح وعلى اثنين ... إلى آخره ، بينما يطرح في جلجامش السؤال المزلزل : لماذا اموت ؟ فتأتي الملحمة التي كتبها الشاعر المجهول كعلاج إبداعي لشعور الإنسان بالقابلية على الإنجراح وكسبيل لتأمين الإحساس بالخلود جزئيا ً . وهي نفس المحاولة الالتفافية التي يقوم بها الصقر من خلال فعله الإبداعي الذي يقوم في أغلبه على موضوعة الموت والخراب وكخيار شخصي آسر لتخفيف الشعور بقلق الموت الموجع وفي عملية الكتابة ( الموجعة ) يقوم المبدع بـ ( خلق ) شخوص والتلاعب بمصائرهم ، يحيهم ويميتهم ويخلق لهم واقعا ً على الورق هو اكثر ثباتا ً من واقعهم الفعلي المهدد كما فعل مع هذه العائلة الصغيرة التي تتزعمها وتقودها ( زوجة المحارب ) التي شاهدها تخبز على قارعة الطريق . ولأن هذا المبدع يعيش على ارض الرافدين ، ارض اللونين المفضلين لآلهتها وهما الأحمر والأسود فان قلق الموت الممضي لأن يموت حتى الموت .

هناك عوامل مضافة في أرض الرافدين تشعل حدة هذا القلق اكثر من أي مكان على وجه المعمورة . فزوج هذه الامرأة الذي أهمل القاص دوره كما عرضه في ( المرحلة الثانية ) وقدمه متضمنا ً في سرد وقائع المرحلة الأولى من خلال تركيز السرد حول الشخصية المحورية وهي الزوجة / الأم ، لم يهمله لضرورات فنية فحسب بل لضرورات موقف ( فلسفي ) مفاده ان مسيرة الخراب مثابرة وجنب الخطى بلاهوادة على هذه الأرض الثكلى . فمقترح بتر ساق الزوج المحارب السابق ستتم شئنا أم أبينا وهجرة العائلة / وقد يكون ضياعها / بعد ان يكتمل بناء القصر ، بحثا ً عن قصر جديد تحرسه لغيرها ممن يضدونها طبقيا ً ويمتصون عرقها ودمها سوف يتحصل حقا ً رغم كل نوايا المبدع الخيرة . والمصيبة ان هذا المحارب الذي عاد من الأسر ــ من الخارج ــ بعرج خفيف في ساقه كما تقول الامرأة في القصة قد اكتمل خرابه الشامل في وطنه ــ في الداخل ـــ وقد عاد إلى وطنه الذي دافع عنه ليجد انه ــ هذه المدة ــ فعليا ً هو نفسه بلا وطن ، وهاهو يعيش مع عائلته حياة اقرب إلى حياة البدو الرحل مع فارق مهم هو ان البدوي يرتحل إلى مكان آخر بارادته واختياره ومعه ( بيته ) بحثا ً عن رزقه في حين يهاجر هو وعائلته قسرا ً بارادة واختيار قوة خارجية مستغلا ً والفارق المدمر نفسيا ً هو ان للبدوي ( خصوصية ) في بيته البسيط الذي لا يستطيع أحد خرقها في حين ان هذا المحارب وعائلته بلا خصوصية ولا قداسة لحرمة المكان الشخصي وحدوده . لا كرامة لمحارب في وطنه ، وبدلا ً من أن يكون هذاالمحارب ــ كما يعلن صفته ـ قائدا ً لعائلته وحافظا ً لكرامته تنقلب لعبة الأدوار في حياته فتتصدى الزوجة ــ المرأة ــ لتلعب دوره بالإضافة إلى دورها . الفن ليس مواعظ ونصائح وبلاغات . انه رسالة غير مباشرة تقوم على الرمز والتورية . المباشرة تقتل الفن . الفن لا يحاكي الواقع ، الفن الحقيقي الباهر هو الذي يبدأ من الواقع ليعود الواقع إلى محاكاته . النماذج الواقعية المرجعية تلهث وراء زهرة عباد الشمس لفان كوخ وكعكة مارسيل بروست وبطيخة يوسف الصائغ . هذا ما يدركه ( مهدي عيسى الصقر ) بدقة وقوة وهذا ما فعله في قصته هذه " زوجة محارب " . فلو نقل لنا الحدث الواقعي نفسه غير معني بصورة اساسية بالصورة الكلية للحدث ، انه معني أساسيا ً بدقائق الحدث وتفصيلاته وكيف يحول هذه الدقائق والتفصيلات إلى رموز غنية بالمعنى من ناحية وكيف ( يؤسسها ) و( يشخصها ) وينفخ فيها الروح من ناحية ثانية مكملة بحيث ( يحيا ) الإنسان والأشياء في مناخ عضوي حميم تتعاضد كل عناصره على ان تعكس انفعالات الشخوص ومن خلفهم ومعهم المبدع نفسه . وهذا ما قام به الصقر بنجاح هائل . لقد خلق ( معاونات ) انفعالية تجسد الموقف النفسي للمرأة / زوجة المحارب وتصور / ببلاغة عالية / رسائل الاحتدام والإحباط والصراع التي حممها بدراية وحنكة . على يدي القاص البارعتين يتكلم الحجر . لقد جعل الجامد الأصم يتحدث ويشارك وينفعل بما يجري . ففي البداية ومع بدء حوار الرجل مع الامرأة ومحاولته التعرف على احوالها تتصاعد الأسئلة من عموميتها : " هل تبيعين خبزا ؟ " ، " ذاك الصغير هناك أهو ابنك ؟ .... " وأين تقيمون ؟ كانت الامرأة تجمع الحطب من الكرب والأعواد اليابسة وتدخلها في جوف التنور .. وكأنه يعد التنور والموقف العام في القصة للانفجار المقبل .. حريق المصير والأسئلة الأكثر خصوصية والاجابات الأكثر ألما ً وفجيعة . تقول الامرأة بعد أن جمعت الحطب اللازم :

" أبي يعمل حارسا ً لهذا البناء ، ونحن نسكن معه "

" رآها تحمل علبة صفيح صغيرة ، وتسكب قليلا ً من سائل شفاف في باطن التنور .

لم تكن امرأة كبيرة في السن ، لعلها لم تبلغ الثلاثين بعد ، وإن بدت هزيلة وشاحبة.

" وإذا اكتمل البناء ، وجاء صاحب الدار ليقيم فيها ؟ "

" أشعلت الامرأة عود ثقاب ، ورمت به، بين الجطب المبلول، ثم نأت بنفسها ، فحدث ما يشبه انفجارا ً صغيرا ،ً في جوف التنوروتصاعد اللهب محاطا ً بسحابة كثيفة من الدخان "

" إذا اكتمل البناء وجاء صاحب الدار، عندئذ نبحث لنا عن مالك آخر ، يريد أن يبني له دارا ً أو عمارة جديدة ".

أخذ اللهب يتطامن في باطن التنور بقيت ألسنة صغيرة ممزقة وتتراقص عند حوافي الفوهة المتفحمة ، في حين ازدادت كثافة الدخان المتصاعد .

" في البداية نبني لنا كوخا ً ، وعندما يكتمل الهيكل " ....

خمدت سحابة الدخان بعد قليل ، فنظرت الامرأة إلى الرجل ، في شيء من التردد :

"" هل بوسعك أن تساعدني ؟ ..."

هكذا ينفعل الجمر/ التنور ويرافق ويعكس انفعالات الامرأة الممتحنة الجريحة المهانة .

وفي حركة ثانية تبدأ أسئلة الرجل ــ من جديد ــ وتتطاير من إطار محايد في ظاهره إلى ان تلمس بؤرة موجعة ، وبحركة موازنة تجمع الامرأة الأغصان اليابسة وقطع الخشب الصغيرة وتدخلها في جوف التنور لنقدة الحريق انفعالي ( صغير) مقبل .

" ابوك يبدو مكدودا ً ؟ "

" ليس هذا أبي .هذا زوجي "

قالت ذلك ومشت صوب كومة الحطب ، ثم عادت ببعض الأغصان ... وادخلتها في التنور ) ...

" أهو مريض ؟ "

تصاعد الدخان كثيفا ً ، مرة أخرى من باطن التنور . فجاءت الامرأة بمحراث حركت به النار فبدأت ألسنة من اللهب تلوح متصاعدة من الفوهة المتوهجة وسط سحابة دخان لم تلبث ان اخذت تخفت وتتبدد ) ...

وحتى حركات الطفل الصغير الجميل " ابن الامرأة " وصفها القاص بصورة تخدم الموقف النفسي العام في القصة من جهة والموقف النفسي للإمرأة وانفعالاتها من جهة اخرى .

ففي الاستهلال وحين يكون الموقف وصفيا ً محايدا ً يلمح الرجل الطفل يدرج حافيا ً في الشمس فهذه حركة تمهيدية تقدم نظرة عامة . وبعد ان تتصاعد حركة " الحريق " الثانية ثم تهدأ تسأل الامرأة الرجل عن عدد الأرغفة التي يريدها يمنحها القاص فرصة هدوء ويروح الرجل " يتأمل الصغير ، يلعب بحبات الحصى .. طفل صغير جميل بعمر سنة او اكثر قليلا ً ، شعره الخفيف مثل زغب اشقر ، يضيء في الشمس "

شيء من برودة الانفعال واستقرار الاستجابة في ظل المحنة تجلب الإمرأة طاسة الماء وتبدأ بعمل كرات العجين وتقول للرجل ان زوجها أمضى في الأسر ست سنوات أي ان الخراب قد أصبح واقعا ً راسخا ً " لمح الطفل رغيفا ً محترقا ً ، مهملا ً فوق الأحجار فمضى إليه كسر له قطعة صغيرة من الرغيف ودسها في فمه " وحين تبدأ المرأة بعرض معاناة زوجها المعاق للرجل وكيف ان القرحة أكلت لحمه ووصلت إلى العظم وان الأطباء يقولون لابد من بتر الساق ... صرخ الطفل متوجعا ً إذ سقط الحجر على قدمه ، فجزعت الامرأة تركت عملها وهرعت إليه " ..ساق أخرى تشكل مصدر التهديد لهذه الأسرة المحاصرة وكأن القاص يجري مقابلة بين ساق الزوج المحارب المهددة بالبتر المؤكد وبين قدم ابنه الصغير والممتحن المشترك في كل هذا الخراب هو الإمرأة / الزوجة/ الأم .

نصل الآن الذروة القصصية ، ذروة هادئة تخصص الصقر في تصميمها واخراجها في إبداعه القصصي ، هادئة من حيث إيقاعها الداخلي ومفرداتها اللغوية ولكنها محتدمة وعاصفة في مراميها النفسية البعيدة التي تدين الحرب وفي تحديد الخط الأحمر الذي يفصل أهم أسباب إطالة أمد الحرب التي شهدتها البشريةعبر تاريخها الشيطاني المرير . فالرجل يطرح أمام الإمرأة المحطمة تصورا ً للاستهلاك المنطقي البارد مخدوعا ً بالاستجابة متبلدة الحس لهذه الإمرأة التي كانت تتكلم عن محنة زوجها ــ بهدوء وسيرة محايدة ، بلا غضب وبلا ضغينة مثلما يتكلم إنسان عن كارثة من وضع الطبيعة ... تتكلم عن محنتها وهي تكور العجين بحركات سريعة متقنة بمعزل عما يشغل ذهنها في تلك الساعة في القصة في لحظة ذروتها النهائية . يخدع الرجل باستجابة المرأة هي لكن القاص المبدع ( الصقر )لا يخدع وهنا يقدم ( فلسفته ) التي تمسخ كل التحليلات الرسمية التي تتزيء بأزياء المسلمات المتفق عليها وفق نمطية اجتماعية زائفة رغم ضروراتها الوطنية والحياتية . العلم لا علاقة له بالانفعال وحتى الشهادة في علم النفس هي شكل من اشكال الانتحار .

" تمتم الرجل في شرود :

ابنك الصغير هذا سوف يكبر ، بعد سنين ويغدو بطلا ً وهو أيضا ً يدافع عن وطنه مثل أبيه تماما ً " انقلبت ملامح الإمرأة في الحال . نظرت إليه بإمعان لحظة طويلة كأنها تحاول أن تعرف أي نوع من الناس هو . كانت عيناها قاسيتين يلتمع فيهما بريق غضب مريع ، لم يندهش الرجل . شعر بشيء من الارتياح إذ اكتشف ان هدوءها الذي حيّره في البداية كان في الحقيقة هدوءا ً ظاهريا ً حاول أن يبتسم لها معتذرا ً عن كلماته الفظة إلا أنها أشاحت بوجهها عنه . "

وعند الختام تعود أصابع الفنان الساحر لتحرك الحجر وتنفخ من روحها في أوصال ما هو جامد لتحركه وتحييه ، وعلى طريقة الصقر المتفردة يرى الرجل الإمرأة تبسط كفيها فوق فوهة التنور تتحسس بهما حرارة التنور المشتعل في القاع . لم تعجبها الحرارة . وجدتها غير كافية فذهبت لتأتي بالمزيد من الحطب تؤجج به النيران المحتدمة في جوف التنور . "

مجلة " ثقافتنا "

العدد الثاني ــ 2006 ــ بغداد

قصة قصيرة

زوجة محارب

مهدي عيسى الصقر

وقف الرجل يتأمل ، في شيء من الاستغراب ، المشهد الذي تكشف أمامه .

بدا له المشهد دخيلا ً ، على معالم ذلك الحي المترف ، الذي اختار أن يمارس ، رياضة المشي فيه ، ذلك اليوم . في فسحة من الأرض ، على مقربة من دار جديدة ، لا زال العمل يجري في بنائها ، رأى تنورا ً من الطين ، مبنيا ً على عجل وامرأة بثياب بنية فاتحة تلملم حطبا ً متناثرا ً ، وتضعه فوق كومة من السعف وكرب النخل ، والأغصان اليابسة على مقربة من التنور ، وطفلا ً يدرج حافيا ً في الشمس بين الرمل والحصى والحجارة ومواد البناء الأحرى ، المكدسة هنا وهناك . مشى الرجل صوب الامرأة وسألها :

هل تبيعين خبزا ً ؟

رفعت رأسها ونظرت إليه . نعم . لكنني لم اسجر التنور بعد .

سأنتظر .

فرش الرجل منديله فوق مجموعة من الأحجار وجلس يرقب الطفل يلعب وحده بين البناء .

ذاك الصغير هناك ... أهو ابنك ؟

رنت الامرأة إلى الطفل وقالت نغم ، انه ابنها . بعد ذلك حملت سعفة يابسة ، من كومة الحطب ، ثتت ساقها وكسرت السعفة على قماش الثوب فوق ركبتها ثم قطعتها وألقت بها في جوف التنور البارد .

وأين تقيمون ؟

هنا .

حملت الامرأة كربا ً، وأعوادا ً يابسة وادخلتها في جوف التنور . تلفت الرجل ينظر حوله في حيرة .

هنا أين ؟

أشارت الامرأة باصبعها ألى البناء، تأمل الرجل بناية الدار الجديدة التي لم تكتمل . أمامه كان ينتصب شامخا ً فوق الأرض ، هيكل كبير من طابقين من الاسمنت المسلح ، نوافذه العريضة ما تزال عارية من الزجاج وأبوابه فتحات سود مشرعة بوجه الريح . الا ان نوافذ احدى الحجرات ، حيث أشار اصبع الامرأة كانت مغطاة بألواح من الصفيح ومستطيلات من ورق الكارتون ، وأكياس اسمنت فارغة ومزق من القماش المهلهل .

" أبي يعمل حارسا ً لهذا البناء ونحن نسكن معه" رآها تحمل علبة صفيح صغيرة ، وتسكب قليلا ً من سائل شقاف في باطن التنور . لم تكن امرأة كبيرة في السن . لم تبلغ الثلاثين بعد ، وإن بدت هزيلة وشاحبة .

" وإذا اكتمل البناء ، وجاء صاحب الدار ليقيم فيها؟

أشعلت الامرأة عود ثقاب ، ورمت به بين الحطب المبلول ، ثم نأت بنفسها ، فحدث ما يشبه انفجارا ً صغيرا ً في جوف التنور ، وتصاعد اللهب ، محاطا ً بسحابة كثيفة من الدخان .

" إذا اكتمل البناء ، وجاء صاحب الدار ، عندئذ نبحث لنا عن مالك آخر، يريد أن يبني له دارا ،ً او عمارة جديدة . "

أخذ الحطب يتطامن في باطن التنور . بقيت ألسنة صغيرة ، ممزقة ، تتراقص عند حواف الفوهة المنفتحة ، في حين ازدادت كثافة الدخان المتصاعد .

" في البداية نبني لنا كوخا ، وعندما يكتمل الهيكل " ...

خمدت سحابة الدخان بعد قليل ، فنظرت الامرأة إلى الرجل في شيء من التردد .

" هل بوسعك أن تساعدني ؟

نهض الرجل ومشى وراءها . سمع لغط الينائين يعملون ، في جوانب أخرى من تلك الدار الواسعة. كانت الحجرة التي أدخلته الامرأة إليها معتمة ، أرضها ما تزال متربة ، وفي أرجائها تتناثر الأشياء كيفما اتفق : قدور وصحون وثياب وأفرشة مطوية ، وما شابه من لوازم لاغنى عنها لإدامة الحياة ، للعائلة الصغيرة . وفوجىء بوجود رجل آخر معها داخل الحجرة .

أوشك في البداية أن لا ينتبه لوجوده ، لولا حسيس أنفاسه وبريق عينيه اللتين ومضتا في العتمة. كان الرجل يتمدد ساكنا ً ببن طيات فراش موضوع لصق الجدار ، في زاوية الحجرة ، عيناه تتابعان حركاتهما ، هو والامرأة باهتمام ، وفي شيىء من عدم الارتياح ، وتلمعان في محجريهما ، مثل عيني حيوان حبيس . تمتم الرجل محرجا ً وهو يتحاشى النظر إلى العينين اللامعتين في العتمة :

" صباح الخير. "

"صباح الخير عمي ."

جاءه الصوت واهنا ً ، مدحورا ً . أراد أن يقول شيئا ً آخر للرجل الراقد ، الا ان الامرأة وضعت حدا ً لذلك الموقف المرتبك . قالت بصوت خال من العواطف ، وهي تشير إلى اناء كبير ، مغطى بقطعة قماش بيضاء :

" هذا هو طست العجين . "

وأخذت تمسك بطرف الطست ، فانحنى هو أيضا ً وأمسك بالطرف الآخر ، حملاه معا ً وخرجا به من الحجرة ، تاركين الرجل ملقى في زاويته المعتمة .

كان الطست ثقيلا ً ، وضعاه على الأرض وعاد الطفل يلعب بالحصى على مسافة قريبة ، فاطمأنت .

" ليس هذا أبي . هذا زوجي . "

قالت ذلك ومشت صوب كومة الحطب ، ثم عادت ببعض الأغصان اليابسة وقطع الخشب الصغيرة وأدخلتها في التنور .

توهمه كهلا ً وهو يراه متدثرا ً بالأغطية هناك ، في ركنه القاتم .

" أهو مريض ؟"

تصاعد الدخان كثيفا ً مرة أخرى من باطن التنور ، فجاءت الامرأة بمحراث ، حركت به النار ، فبدأت ألسنة اللهب تلوح متصاعدة من الفوهة المتوهجة، وسط سحابة دخان لم تلبث ان أخذت تخف وتتبدد .

" نعم هو مريض منذ مدة . كم رغيفا ً من الخبز تريد ؟ "

ذكر لها العدد، فتركته وذهبت صوب البناء وراح هو يتأمل الصغير يلعب بحبات الحصى ، ينفلها من مكان إلى آخر. طفل صغير جميل بعمر سنة ، أو أكثر قليلا ً ، شعره الخفيف ، مثل زغب اشقر يضيء في الشمس .

عادت الامرأة بعد لحظات تحمل في إحدى يديها طاسة مليئة بالماء ، وبالأخرى صينية مستديرة واسعة ، فرشت بطبقة من الطحين ، وضعت الطاسة بجوار طست العجين .

" وهل هو مريض منذ مدة ... قصدي زوجك ؟"

" نعم منذ مدة ". ابتعد الصغير عن كومة الحصى ، وجاء يمشي متعثرا ً ، واضافت هي بشرود :

" بقي هناك ست سنوات ! "

لمح الطفل رغيفا ً محترقا ً مهملا ً فوق الأحجار فمضى إليه . كسر له قطعة صغيرة من الرغيف ، ودسها في فمه ، وراح يأكل وينظر إلى وجه أمه ، رنت إليه الأم ساهمة ً ، ثم قرفصت على الأرض ، وكشفت عن الطست . كان العجين المتخمر منتفخا ً بعض الشيء ، يعلوقليلا ً ، عن مستوى حواف الطست . مدت الامرأة يدها في طاسة الماء ، ثم أخذت تقتطع بأصابعها مقادير صغيرة من العجين تكورها بين راحتيها، وتضعها فوق فرشة الطحين ، الواحدة بجوار الأخرى ." قبل سنتين ، تقريبا ،ً أعادوه إلينا ، بادلوه الأسرى من الجرحى " .

شبع الطفل من الأكل فعاف بقايا الرغيف المحترق . تأمله الرجل ، وهو يدرج مبتعدا ً . رآه يقف عند كومة من الأحجار ، وينحني ليحمل حجرا ً من على الأرض .

" كان به عرج خفيف ، عندما أعادوه إلينا فحمدنا الله " .

ظلت الامرأة تواصل عملها في تكوير العجين ، ووضعه في الصينية ، وهي تتكلم بهدوء ونبرة محايدة ، بلا غضب ، وبلا ضغينة ، مثلما يتكلم انسان عن كارثة ، من صنع الطبيعة .

" ولكن قبل أشهر ظهرت قرحة في مكان الجرح القديم . بعد ذلك أخذت تتسع ، وتأكل في اللحم الحي ، حتى وصلت إلى العظم ، وما عاد يستطيع النوم " .

توقفت الامرأة عن الكلام ، ورنت إلى يديها اللتين كانتا تواصلان عملها في حركات سريعة متقنة ، بمعزل عما يشغل ذهنها في تلك الساعة ثم رفعت راسها ، ونظرت إليه .

" والآن .... يقولون لي لابد من بتر ! "

صرخ الطفل متوجعا ً ، إذ سقط الحجر على قدمه ، فجزعت الامرأة ... تركت عملها وهرعت إليه . حملته بين ذراعيها هدهدته حتى هدأ . وضعته بعد ذلك على الأرض فراح يتأرجح في مشيته ، والدموع تخضل وجهه المستدير الصغير .

" قلت كم رغيفا ً تريد ؟ "

ذكر لها العدد مرة أخرى .

غسلت الامرأة يدها في طاسة الماء ثم نهضت وذهبت صوب التنور . تمتم الرجل في شرود .

" ابنك الصغير هذا سوف يكبر بعد سنين ، ويغدو بطلا ً ، هو أيضا ً ، يدافع عن وطنه ، مثل أبيه تماما ً ! "

انقلبت ملامح الامرأة في الحال . نظرت إليه بإمعان لحظة طويلة ، كأنها تحاول أن تعرف أي نوع من الناس هو . كانت عيناها قاسيتين يلتمع فيهما بريق غضب مريع . لم يندهش الرجل . شعر بشيء من الارتياح ، إذ اكتشف ان هدوءها ، الذي حيّره ، في البداية ، كان في البداية هدوءا ً ظاهريا ً . حاول أن يبتسم لها معتذرا ً عن كلماته الفظة ، الا انها أشاحت بوجهها عنه . رآها تبسط كفيها ، فوق فوهة التنور ، تتحسس بها حرارة الجمر المشتعل في القاع . لم تعجبها الحرارة ، وجدتها غير كافية . فذهبت لتأتي بمزيد من الحطب ، تؤجج به النيران المحتدمة في جوف التنور .

clip_image002_8f436.jpg

clip_image004_51b1d.jpg

رواية الخاصرة الرخوة للكاتب جميل السلحوت الصادرة عام 2020 عن دار كل شيء من حيفا.

الرواية تنتمي إلى الأدب الواقعي، فهل عكست الواقع للقضية التي تتبناها؟ وهل قضيتها المرأة الفلسطينية؟ وهل تعد الخاصرة الرخوة والحلقة الأضعف في المجتمع الفلسطيني كما أوحى العنوان وأشير في الرواية؟

بداية لا بد من الإشارة إلى أن الرواية تظهر أنساقا ثقافية متعددة ومتنوعة للمجتمع الفلسطيني، ممّا يكسبها بشكل لا يخفى على قارئ الواقعية البحتة، فمثلما يوجد في فلسطين الفكر المتشدّد والمتزمت تحت ستار الدين، والذي تمثل في عقلية وسلوك "أسامة " خطيب وزوج "جمانة" -بطلة القصة- لاحقا، وهو شخصية محورية ممتدّة في الرواية، يوجد بالمقابل الفكر الذي يؤمن بتعليم الفتاة وضرورة الثقة بها مثل أسرة جمانة، وهناك الأسرة التي لا تضغط على بناتها، ولا تشدد الرقابة عليهن، ولا تعلن الوصاية الكاملة على تحركاتهن ومظهرهن مثل أسرة" صابرين  " ابنة عمّ أسامة، وهناك العائلة التي لا تقوى على الدفاع عن ابنتها إن تعرضت لظلم كـ" عائشة "، وهناك العائلة التي تحتوي بناتها وتحترم قراراتهن مثل عائلة جمانة عندما قررت الطلاق.

من خلال المرأة استطاع الكاتب أن يسلط الضوء على شرائح مجتمعية وفكرية موجودة في المجتمع الفلسطيني، بلا شك، لكن المصير الذي لاقى النماذج المختارة لم يكن طيبا، فلا الذي حرص على تعليم ابنته وتربيتها تربية صالحة توفقت في حياتها، ولا من أعطى ابنته كامل الحرية لرسم حياتها شكلا ومضمونا مثل ابنة عمّ أسامة توفقت، ولا من كان يعيش بلا وعي ومعرفة ودراية استطاع حماية ابنته عندما تعرضت للظلم.

فأين الخلل إذن؟ هل هي ضبابية تشاؤمية صادفت مزاج كاتب حادّ أم أن مضمرا مبيتا بين السطور أراد أن يعري خبايا وعللا يمارسها أفراد المجتمع بوعيهم الجمعي، فتؤدي إلى أخطاء تدفع المرأة ثمنها عادة وتجر على أسرتها ما قيل من السلف:" هم البنات للممات"؟

أولا: جمانة تمثل الفتاة الفلسطينية التي تمّ توجيهها توجيها سليما تربية وأخلاقا وانتماء وحبا لوطنها ودينها ووعيا وعلما ووضوح هدف، لكن المشكلة التي واجهتها تواجه كثيرا من الفتيات، اللواتي يحدد لهن المجتمع سن الزواج، ويبدو خروجهن عن تلبيته نشازا وموضع تساؤل، العلة تكمن في عدم النضوج العاطفي ليافعة مثل جمانة لعدم وجود فرصة في نمط حياتها تنبهها إلى وجود الرجل على الجانب الآخر من الحياة، فتحرك فيها رغبة في الارتباط، وقد تكون فعلا غير ذات حاجة للارتباط العاطفي؛ لسبب يتعلق بشخصيتها أو أهدافها العلمية أو طموحها العملي، كما أوضحت سطور الرواية على لسان الشخصية ذاتها، ولكن الخلل يبدأ بزعزعة حياتها والنخر في مستقبلها الذي بنته في خيالها، وسعت له عندما يفرض عليها المجتمع سنّ زواج محدّد يضغط على أهلها للقيام بتزويجها، ولأن رفض الخاطب الذي لديه مقومات الزواج يضع علامة استفهام عليها وعلى قلبها وعلى نيتها السلبية بالارتباط التي انطبعت في أذهان محيطها، وما سيجرّ من تبعات تهميشها في المستقبل كفتاة تصلح للزواج، هذا الضغط المجتمعي الذي يفرض خيارا لم يكن في حسابات الفتاة من جهة، والذي أثر بشكل ما على نفسيتها وقدرتها على التحمل وقبولها بالزواج كضرورة، وليس كحاجة روحية وجسدية وفطرية، أدّى إلى وجود ركن خاو من أركان الزواج وهو الزوجة، هذا الركن الخاوي سيمتلئ ذات يوم وينفجر، وسيكون ضغط الزواج التقليدي سببا مؤكدا لحالة طلاق جديدة في المجتمع. صحيح أن الرواية لم تطرح في قصة جمانة قصة امرأة معنفة جسديا، لكن التعنيف النفسي الذي لاقته عند زوجها ابتداء من سيل التنازلات في الخطبة، وتقبيل القدم ليلة الزواج، انتهاء بحالة الأسر في بلاد الغربة، تعدّ من أخطر أنواع التعنيف التي تفتك بالمرأة في المجتمع الفلسطيني. ناهيك عن الضغط المجتمعي الذي عكسته الأسرة على ابنتها في بداية الرواية والذي أدّى إلى صراع نفسي داخلي، قاد إلى قرار غير موزون، تشابهت فيه مع أيّ فتاة من عمرها لم تتلق التعليم الكافي، وكأن الكاتب يريد أن يقول أن الوعي والنضح النفسي والعاطفي أهم من تعليم الفتاة العلوم المختلفة، ولا يصلح حال المرأة في المجتمع إلا إذا صلح كلاهما، ومن جهة ثانية يريد أن يقول بأن الأسرة التي تولي المجتمع أهمية أكبر من نفسية بناتها تخسر كثيرا، فلو أن الأسرة عزلت هذا الضغط المجتمعي عن الفتاة لما تعرضت أي فتاة لأي آفة من آفاته، وبالتالي هي رسالة عميقة جدّا للأسر التي تظن نفسها بتعليم الفتاة في المدارس والجامعات، وأغدقت بالنعم على بناتها قد قدمت كل شيء، منبّها إياها بضرورة تقديم الحماية النفسية للفتاة من أحكام المجتمع السطحية.

ثانيا: "صابرين " ابنة عم أسامة ومن البيئة نفسها، لكن بنمط تعامل وتربية وثقافة مختلفة، لاقت مصيرا سيئا موجودا في الذهنية الفلسطينية، وهو أن من دخل أرضا دون عناء هان عليه تسليمها، وأن الفتاة السهلة لا يحافظ عليها الرجل كثيرا معه. وهي رسالة أخرى لبعض شرائح المجتمع تذكرهم بضرورة المحافظة على ثوابت المجتمع الفلسطيني وحماية بناتهم من الذئاب البشرية اللاهية اللامسؤولة، قبل أن تغرق الفتاة وأهلها في مستنقع لا نجاة منه.

ثالثا: "عائشة ": قدم رسالة من خلالها أكثر ألما، مثلت شريحة مجتمعية ما زالت تعاني من الجهل في الناحية البيولوجية للمرأة، وهو خطر يفتك بالمجتمع، وفيه قد يصل مصير المرأة إلى الموت بلا هوادة؛ ليبلغ تعنيف المرأة أشدّه، وتصبح فيه المرأة الخاصرة الرخوة للمجتمع، فالجهل هو عدو المرأة الأول، وهنا تكمن الأهمية التنويرية الهادفة لهذه الرواية، وتكون من الناحية الموضوعية قد أدت رسالة عظيمة للمجتمع في ضرورة إعادة برمجة نظرته للمرأة وتعامله معها.

رابعا:" المرأة سوداء القلب رديئة اللسان": " أم أسامة"، هي نموذج يعكس بعض النساء في المجتمع الفلسطيني لا يمكن إغفاله، وتلك الصورة التي قلما يتم التركيز عليها رغم شيوعها، والتي تذكي سواد قلبها نار الغيرة والكراهية لكلّ جميل، والغرور بالجمال أو بالقدرة على الإنجاب، تركيبة نفسية معقدة للأسف سلبية وواقعية يتعامل معها المجتمع رغم فظاظة تصرفاتها وفجاجة أسلوبها وألفاظها تعاملا متسامحا لمجرد التعود أو المكانة الاجتماعية، كأن تكون أمّا أو غير ذلك. وفي طرح النماذج النسائية السلبية ورقة رابحة تحسب للرواية، وتؤكد واقعيتها وجنوحها إلى مقصد معالجة آفات المجتمع.

المكان: استطاعت الرواية أن تسلط الضوء على روحانيات المكان المتمثلة بمدينة القدس وارتباط الشخصيات العاطفي بها، ومفارقة المكان التي تعري الاغتراب في دول الخليج، الذي يتم تصويره جنة للمجتمع الفلسطيني، والذي يكون في بعض الحالات كارثيا، وتمثل ذلك عندما انتقلت جمانة مع زوجها إلى السعودية للعيش معه، في حيّ مريب وفقير وغير آمن نفسيا واجتماعيا، ممّا جعلها تعيش في عزلة كأنها في سجن.

التسلط الذكوري: تمثل في شخصية" أسامة " زوج " جمانة" التي حاولت على طول الرواية فرض آرائها ورغباتها على جمانة مستمدة القوة من الوصاية الذكورية من الزوج على زوجته التي صارت بنظره من مهامه بمجرد توقيع عقد الزواج.

غسيل الدماغ: تمثل في شخصية "أسامة " الذي حاول تغيير عقل واتجاه جمانة عقائديا وفكريا وفرض هيمنته عليها، ولم يتقبل ميولها واتجاهها، وحاصر مجال حريتها منذ عرفها.

لغة الرواية: الرواية كما أسلفنا تنتمي إلى الأدب الواقعي الذي يعتمد أسلوبا سلسا ولغة إيحائية تناسب ثقافة الشخصيات واتجاهاتهم وبيئاتهم.

مما سبق نلاحظ أن معالجة قضية المرأة في الرواية من العمق الذي أدّى إلى تسليط الضوء على مشاكل مجتمعية تفتك بالمجتمع الفلسطيني حتى النخاع، وكان العلاج لها من الجذور، فالمرأة ضحية الأسرة التي تتأثر بأخطاء المجتمع وتمارسها، لتكون بذلك رواية الخاصرة الرخوة حلقة أخرى في حلقات الأدب الواقعي، الذي أخذ على عاتقه التغيير والنهضة عبر التنوير، بورك للروائي الكاتب الكبير جميل السلحوت هذا العمل الرائع.

clip_image001_90ff0.jpg

القدس: 6-2-2020 ناقشت ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس رواية الفتيان"ميسا" للكاتب المقدسي ربحي الشويكي، تقع الرواية الصادرة عام 2017 عن منشورات لجان العمل الثقافي في القدس في 71 صفحة من الحجم المتوسط.

 افتتح الأمسية ابراهيم جوهر فقال:

يسجل لصديقنا الكاتب "ربحي الشويكي" استقلاليته الخاصة في نشر منتجه الإبداعي، فهو مستقل ينشر ما يكتبه تحت عنوان: منشورات لجان العمل الثقافي، وهي المنشورات التي تأسست قبل أربعين عاما ونشطت فترة من الزمن ثم هدأت فلم يعد ينشر تحت اسمها غير صديقنا ربحي.

والعمل الأخير الذي وصلنا هو قصة "ميسا" للفتية والأطفال - كما جاء في التعريف بها - ومن المعلوم أنّ قصة الطفل تختلف عن تلك التي تخاطب الفتى فلا نجاح في الجمع بين الفئتين العمريتين هنا.

تعتني قصة "ميسا" بالحفاظ على البيئة وتبث روح العمل الجماعي وتدعو للمبادرة بالعمل التطوعي وتشير إلى خطر إلقاء النفايات في البحر وإشعال الحرائق في الغابات وأماكن التنزه.

المضامين التي حملتها القصة تستحق الوقوف عندها ونقلها إلى القارئ لكن أسلوب قصة "ميسا" جاء بسيطا تعليميا وشخصياتها كثيرة بحوار متداخل مصطنع وأخطاء عديدة في اللغة ومصادرة وعي الطفل القارئ.

لم يتخلص الكاتب من أسلوب التلقين ونقل المعلومات على طريقة الراوي كلّي العلم فلم يدع قارئه يستنتج ولم يترك شخصياته تعيش وتروي بل قام بنقل الخبر واختصار المرحلة حين تولى مهمة القص والإخبار نيابة عنها.

أرى أنّ خطابنا اليوم لجيل اليوم يجب أن يتخطى أسلوب الكتابة الذي ساد ردحا من الزمن في بلادنا العربية، فابن اليوم لا نعرفه حق المعرفة وهو -كما الأطفال دائما - ذكي وابن مرحلته وله ذكاؤه الخاص.

وكتبت  ديمة جمعة السمان:

غاب عنا الكاتب ربحي الشويكي مدة طويلة؛ ليعود بقصة "ميسا" الموجهة للفتية والأطفال كما حدد الكاتب.

بث الكاتب  من خلال قصته عدة رسائل هامة للفتيان، أهمها ضرورة الحفاظ على نظافة البيئة، ليعيش المواطن بحالة صحية جيدة بعيدا عن التلوث والميكروبات والجراثيم، والتي تتسبب بحالات الوفاة في بعض الأحيان، وضرورة إبعاد حاويات القمامة عن مداخل المنازل، وعدم السماح للكسارات بأن تكون قريبة من الأماكن السكنية لما تتسببه من أمراض تصيب الجهاز التنفسي. كا أكد على ضرورة احترام جمال الحدائق ونظافتها، وعدم قطف الأزهار والورود ورميها.

كما أكد الكاتب على ضرورة توجيه أبنائنا إلى الأعمال التطوعية، وزرع حب الانتماء فيهم، وأشار إلى ضرورة احترام عامل النظافة ومهنته.

كما أشار إلى أهمية دور المعلم في حياة طلبته، ليكون لهم الملجأ في الأزمات، ويكون القدوة الحسنة لهم.

أكد أيضا على أهمية الحفاظ على التنافس الشريف بين الأصدقاء والزملاء، وتقبل الخسارة بروح رياضية.

تطرق إلى بشاعة شراء الذمم، وعلى أهمية أن يحافظ الانسان على قيمه ومبادئه، واحترام الرأي الآخر والاستماع للآراء المختلفة بموضوعية وبديمقراطية، وعدم الإساءة للآخرين لفظيا أو جسديا.

لا شك أن الرسائل التي بثها الكاتب بمنتهى الأهمية، الا أنني لم أر حبكة في القصة، ولم أر أي عنصر تشويق، ولم أجد الخيال المحبب للأطفال والفتيان.

كما أن الموقف الأخير وقيام أنور بطعن ميسا؛ لأنها كانت السبب بخسارتهم في المسابقة الرياضية كان مبالغا فيه وغير مبرر. كما أن الكاتب لم يعلم القارىء بمصير أنور بعد قيامه بهذه الجريمة النكراء.

على الرغم من أن الكاتب حاول أن يبث رسائل توجيهية تعمل على تعديل السلوك عند الفتيان، الا أنني أعتقد أنه كان عليه أن يتروى قبل النشر، إذ أنه لم يوفق في قصته التي خصصها كما ورد على غلافه " للفتية والأطفال"، بالرغم من أننا نعلم تماما بأن صياغة القصة الموجهة للأطفال تكون مختلفة عن الصياغة الموجهة للفتيان، فلكل عمر خصوصية.

وقالت هدى عثمان أبو غوش:

""ميسا"،أهي قصّة أم روايّة؟حيث أشار الكاتب ربحي الشويكي، أنّها قصّة للفتيان وللأطفال".ومن يقرأ الكتاب يلاحظ أنّها روايّة موّجهة للفتيان، وليس للأطفال بسبب طريقة الأسلوب السردي، وخاصيّة عناصرالكتابة لعالم الطفل، وكيف يمزج الكاتب بين فئتين من مراحل العمر، مع العلم أنّ لكلّ مرحلة الأسلوب الخاص في السّرد.

المكان مابين البيت، القريّة، الغابة والبحر، أمّا الزّمان فهو غير مذكور.

تحتوي الرّوايّة على حوادث وقصص عديدة ذات أهمية، نقلها لنا الكاتب من الحياة الواقعيّة، وكأنّ الكاتب يقسّم الرّوايّة لمجموعة قصص؛ ليُبيّن ضرر تأثير رمي النفايات في غير مكانها، في محاولة منه للتأثير على المتلقي، (قصّة رمي النفايّات في ساحة البيت والقريّة، قصّة الشّواء، البحر والتّلوّث..)،وقام بإثارة موضوع أهميّة  الحفاظ على النظافة، والأثرالسّلبي المترتب على الفرد والبيئة في حالة إهمالنا لها، كما ويعزّز أهميّة التعاون والتّطوع ، وتعتبر تلك الحوادث والمشاهد التّي ينقلها لنا الكاتب كصرخات يوجهها إلى المجتمع؛ ليكفّ عن تلك الممارسات السيئة. يكتب الكاتب بضمير الغائب بأسلوبه السردي البسيط الخالي من النواحي الأدبيّة، كالخيال والتّشويق، فالكاتب يقدّم لنا المعلومات، ويخبرنا بالحدث سريعا، فالأحداث متلاحقة، لا ينتظر القارئ ليتفاعل من خلال حواسه سواء بالقلق والفرح أو التساؤلات. هناك شخصيّات عديدة في القصّة، فريقا الحيّ الشرقيّ والغربيّ،أسرة "ميسا" والمعلمة" إعتدال"،لكن لا يوجد شخصيّة واحدة تستقطب القارئ وتجذبه، حتى شخصيّة"ميسا"بطلة الرّوايّة والتّي تحمل عنوانها، نتعرف عليها من خلال السّرد والرواي العليم، أنّها شخصيّة قويّة شجاعة وذكيّة. وكذلك فإنّ ملامح الشخصيّات مختفيّة. ومن خلال الرّوايّة، تظهر حالات العنف بين الفتيّة من كلا الفريقيّن، طعن ميسا من قبل أنور، وهجوم ميسا وأصدقائها على سالم في مشهد آخر، فحالة العنف هنا قصّة وقضيّة أخرى  أدخلها الكاتب، وهي بعيدة عن فكرة الحفاظ على البيئة والنظافة، أرى أنّ الكاتب خرج عن سياق  الفكرة والهدف من القصّة، بل أدخل القارئ في متاهات العنف التّي لم تعالج.

يصرّ الكاتب أن يطلق على المعلّمة إعتدال بين قوسيّن "مس إعتدال"،وليس معلمة، وكان الأحرى  به أن يتمسك باللغة الفصحى. وهناك بعض الأخطاء  اللّغويّة.

وتبقى الرّوايّة في مضمونها المهم، هي الجرس الذّي يرّن كلّ يوم في أذهان اليافعين، للحفاظ على البيئة والنظافة.

وقالت رفيقة عثمان:

احتوت هذه القصّة على واحدٍ وسبعين صفحة من القطع الصغير؛ وحملت عنوان اسم ميسا على اسم البطلة، والمُبادِرة في مشروع نظافة البيئة والتوعية نحو نظام صحّي؛ بمرافقة أصدقائها وصديقاتها.

تطرّق الكاتب للفت النظر نحو تلّويث البيئة المنتشرة في المنطقة، وانتباه الفتيات والفتيان للإصلاح، والمبادرة في إقامة مشروع جماعي تطوّعي؛ لتنظيف الأحياء القريبة، والتنبيه من مخاطرها، سواء كان التلويث على الأرض من رمي القمامة، أو من تلويث المياه وقتل الأسماك، من قِبل المصانع التي ترمي الموادالسّامّة في المياه، كذلك من تلويث الهواء، عند إضرام النّار للشّواء في المتنزّهات العامّة.

  يبدو لي أنّ اختيار الكاتب لهذا الموضوع هامُّ جدًّا؛ نظرًا لإهماله في مجتمهنا العربي عامّة، وفي مجتمعنا المحلّي خاصّة. حاول الكاتب معالجة الموضوع بواسطة تفعيل بعض الأصدقاء أثناء سيرهم على الأقدام، وكلّما لاحظوا خطرا بيئيّا، توجّهوا بأنفسهم لحلّه بأنفسهم، بمساعدة معلّمتهم  "المس اعتدال".

 هنالك جوانب إيجابيّة في هذا العمل الجماعي، نحو إكساب القدرة عند الأطفال في حب العمل التطوّعي لخدمة المجتمع والبيئة المحيطة، والتعاون المشترك لإنجاز مهمات تخص المُلكيّة العامّة، وهذا المفهوم بحاجة إلى تدعيم وغرس قِيم الاهتمام بالممتلكات العامّة في المجتمع، وليس الاهتمام بالممتلكات الخاصّة فحسب.

  ورد التعاون المشترك بين الذّكور والإناث، دون تمييز بينهم، ومنح الكاتب البطولة في قيادة المجموعة للفتاة ميسا، وهذا دعم للجنس الأنثوي نحو غرس قيمة القيادة للأنثى.

ذكر الكاتب تشجيع المنافسة في السّباق والسّباحة، لكن في القصّة لم تكن المنافسة شريفة، بل بادر بعض الفتيان؛ لإفشال الطرف الآخر وعرقلة المنافسة  بإطاحة الغريمة .

 هنالك بعض التحسّبات التربويّة، التي ذُكرت بالقصّة، عندما حدث عِراك بين الفتيان صفحة 45 "فانهالوا عليهم بالضرب"، كذلك عندما تمّ طعن ميسا من الظّهر، وحملها الأصدقاء صفحة 65. يبدو لي هذا الشّجار واستخدام العنف ليس ضروريّا، وكان بالأحرى معالجة المشاكل بالحوار والتفاهم، والتوجّه للمسؤولين، وليس باستخدام العنف بهذ الطريقة، كذلك حمل ميساء المُصابة بالظهر يُعتبر تصرّفا خاطئا، فمن الأجدى توعيتهم نحو الإسعاف الأوّلي، والتصرّف بطريقة صحيحة، دون إحداث الضرر بعد الطعن.

 كل هذه الحملة التوعويّة تنقصها المسؤوليّة الكبرى والمساندة في القريّة من قِبل مجلس القرية، وعدم تحميل الفتيان كل المسؤوليّة؛ كأن يرافق الفتيان مرافق لحراستهم، ومختص بالإسعاف الأوّلي، والاستعداد المنهجي لمواجهة الطوارئ، وحمل الأدوات اللزمة لإنجاز أعمالهم، وألا يكون العمل عشوائيًّا، بل مُخططًا قبل البدء بالعمل.

نهاية القصّة، مُنحت الجائزة للمس اعتدال، أرى بأنّه من الأجدر بهذه الجائزة الفتيان والفتيات الذين بادروا وخطّطوا وعملوا بجد، ربّما للمعلّمة وجميع الفتيان الذين يستحقّون الجائزة والاحتفال بهم من قِبل أبناء القرية.

  تفتقد القصّة لعنصري الزمان والمكان، لم يُذكر اسم القرية أو المدينة وأي بحر، ربّما قصد الكاتب أن يُعمّم الفكرة على كافّة الأماكن ودون تخصيص مكان واحد.

  لغة القصّة تعتبر تقريريّة، سهلة جدّا وسلسة، تكاد القصّة تخلو من السرد الأدبي، واستخدام المحسّنات البديعيّة، والصياغة الأدبيّة، والخيال، والدّعابة ممّا أفقدها عنصر التشويق.

القصّة تُعتبر تعليميّة وتوعويّة للأطفال ما فوق سن العاشرة .

يُنصح اقتناؤها بمكتبات المدارس بعد تعديلها، تربويّا ولغويّا.

وردت الاخطاء النحويّة في القصّة كما يلي:

1.   قالت ميساء لكروان أنظرِ ما أجمل المنطقة – الصحيح أنظري

2.   حتّى لا يلاحقونها كالآخرين – لا يُلاحقوها

3.   هذه الحجارة سأبني بها جدران – جدرانًا

4.   قبل أن يصيبنا فريدًا من ضيق التّنفّس – فريدٌ

5.   أكّد الطبيب أن كسرًا أصاب ساعده ورضوضُ – ورضوضًا

6.   أن تعرضْها – أن تعرضَها

7.   أطلب أن تظلّوا قريبون – قريبين

8.   قالت عفاف ليس هذا مكانًا للشّواء – مكانُ

9.   إنّ للشواء مكانٌ – مكانًا

10.                 صاروا يفكّرون في بدائلٍ – بدائلَ

11.                 لفت نظرها وجودًا أعدادًا كبيرة من الّمك – وجودُ أعدادٍ.

وقالت مريم حمد:

ميسا قصة موجهة للفتيان وتعتني بفكرة النظافة والتعاون وبث روح المبادرة للمشاركة في خدمة الحي والمحيط والحفاظ عليه. فكرة القصة جيدة ونحن بحاجة لها وبشكل كبير في مجتمعنا الذي بات يغط بالنفايات والقاذورات، التي تملأ محيطنا وكأن وجود هذه النفايات بات أمرا طبيعيا تألفه العين، وأنا بدوري أبارك للكاتب على فكرة الكتاب، خاصة أن النظافة وجمالية الأماكن عنصر مهم في حياة كل إنسان، فالمناظر الجميلة والنظيفة تعطي الإنسان الراحة النفسية، وتعكس صورة جميلة عن ثقافته وتقدمه.

ففكرة الكتاب جيدة ومهمة لبناء جيل نظيف ومحب للطبيعة والبيئة، ولكن الكاتب لم يكن موفقا بالأسلوب الذي يجذب به القارئ، خاصة وأن الفتيات والفتيان في هذا الوقت والزمان لا يكترثون ولا يبذلون الجهد في القراءة، ولهم اهتمامات مختلفة من ألعاب الكترونية والعالم الافتراضي الذي يعيشون فيه، لذا مهم جدا أن ينتبه الكاتب لعنصر التشويق، ولطرح فكرته بأسلوب ملهم وجذاب للقراء، وإلا فلن يكملون قراءة الكتاب على الرغم من روعة فكرته.

فالعالم أصبح في تسارع كبير في التكنلوجيا، والتي أصبحت مكوّنا مهما في حياة أطفالنا، حتى أننا أصبحنا لا نفهمهم ولا نعرفهم، وهم بدورهم أصبحوا أقرب للعالم المصور المختصر الذي يوصل الفكرة بأقل عدد من الكلمات والاكتفاء بالرموز والصور.

لذا فكان من المحبذ بأن يطرح الكاتب فكرته بأسلوب فيه مغامرة وتشويق أكثر وبعيدا عن أسلوب التلقين لشد القراء الصغار إلى القراءة.

وقالت رائدة أبو الصوي:

كل كتاب يقرأ من عنوانه، لكن الوضع هنا مختلف ،من يقرأ العنوان  يتوقع عقدة مختلفة ،وأحداثا مختلفة.

محتوى القصة ملحمة بيئية، تدعو إلى الحفاظ على نظافة البيئة.

الكاتب ربحي شويكي قدم قصة إرشادية توعوية ثقافية هادفة،

طرح قضايا في غاية الأهمية في قصة (ميسا)، ومنها ضرورة المحافظة على النظافة الخاصة والعامة في جميع الأماكن . وأشار إلى أن النظافة تبدأ من البيت، وأكد على ضرورة غسل اليدين جيدا، مع أن البعض يتساهل في تلك المسألة، علما أن اليدين من أهم الأعضاء التي تساهم بالحفاظ على صحة كل شخص. .

 نقاش القصة في اليوم السابع جاء متماهيا مع ما تعاني منه البشرية هذه الأيام من "وباء" الكرونا الفيروس الذي اجتاح الصين .نحن في زمن العولمة والتثقيف الصحي وأساليب تحقيق الأمان عن طريق النظافة .

القضية الثانية  في القصة هي تكتيك العمل الجماعي التطوعي والشورى وأسس اختيار الشخص المناسب، ووضعه في المكان المناسب واختيار البطانة الملائمة .

في القصة إشارة رمزية تلميح وليس تصريح إلى المشهد السياسي . طرحها بين السطور ...الحي الغربي وصراعه مع الحي الشرقي . تلميح وليس تصريحا.

في القصة جمالية التكتيك واللجوء إلى المشورة ،وأمرهم شورى بينهم،

عندما اقترح رئيس المجلس المحلي أن عدد الموجودين كبير. فاقترح عليهم أن يتوزعوا إلى مجموعتين، تتخذ كل مجموعة طريقا مستقلا. وأن يلتقوا في مكان قريب من القرية المنوي زيارتها .

استخدام الخرائط عند القيام بالجولات أيضا نقطة جيدة وردت في القصة.

الزراعة والمزارعون وضرورة الحفاظ على الأرض،

التطرق للافتات واللافتة التي أعجبت ميسا ،لا أريد أن أموت طفلا... أو أن أعيش عليلا.

الأماكن في القصة لم تذكر، كي ينطبق الحفاظ على البيئة في كلّ المناطق التي تعاني من تلوث كبير بالبيئة، نتيجة وجود الكسارات فيها مثلا، بعض الأطفال والأهالي يعانوم من الربو، وللأسف الشديد السرطان .  أيضا

المنافسة في القصة كانت مثيرة خلقت الروح في القصة .

جمال الوصف للبحر عندما صعدتاعتلت اعتدال أعلى الصخرة، وشاهدت القمر وهو يستحم في البحر، وكيف تتلاعب فيه الأمواج وتحركه حيث اتجهت .

نهاية القصة مؤثرة خصوصا عندما حصلت مس اعتدال وفريقها على جائزة المهرجان، وعادوا إلى قريتهم يحملون كؤوسهم وجوائزهم، كما حملوا على أكتافهم مس اعتدال وميسا التي تجاوزت مرحلة الخطر .

وقالت دولت الجنيدي أبو ميزر:

تدور القصة حول العمل المشترك من أجل الوصول الى بيئة نظيفة. تبدأ من الاهتمام بتعليم الطفل النظافة منذ الصغر، واشتراك كل أفراد الأسرة بتنظيف البيت، وكل العائلات بتنظيف حول بيوتهم، لتجنب الأمراض والتمتع بهواء نقي وأجواء نظيفة ؛وعن احتياج الزراعة لبيئة نظيفة لئلا يتلوث المحصول، وعن ضرورة جمع الحجارة من الأرض وبناء الجدران حول المزروعات لئلا تنجرف التربة مع مياه الأمطار وتذهب الى الوادي؛ وعن مراعاة النظافة في المتنزّهات، وعدم رمي القاذورات في أيّ مكان إلا بالحاوية المخصّصة لذلك؛ وعدم قطف الأزهار أو خلع النّباتات من جذورها ؛ والحفاظ على الأشجار في الغابة وعدم قطع الاغصان؛ وعدم إشعال النار للشواء إلا في الأماكن المخصصة لذلك لتجنّب الحريق؛ والالتزام بالتّعليمات المكتوبة ؛ وعن وجوب إبعاد الكسّارات والمصانع عن أماكن السّكن لأنها تلوّث الأجواء وتسبّب الأمراض؛ وعن ضرورة الإهتمام بنظافة البحر وعدم إلقاء القاذورات ومخلّفات المصانع أو المواد الكيماويّة فيه؛ لأن الضّرر من ذلك يعود على الإنسان والأسماك ويلوّث البيئة البحريّة ؛ وعن ضرورة زيارة أهل المنطقة للأماكن التي يزورها السيّاح. وتدور أحداث القصّة حول العمل الجماعي وتشكيل فرق رياضيّة للسّباحة والركض، ومشاركة كل من الفريقين تدريب الفريق الآخر للإطّلاع على طريقة لعبهم ومعرفة نقاط ضعفهم؛ والمشاركة في إسعاف المصابين، والعمل بروح الفريق والحوار والتّفاهم، وأن لا يستأثر أحد لوحده بأخذ القرار في الفريق الواحد ،وأن لا يتفرّقوا وأن يجلسوا في أماكن متقاربة. تحدّث الكاتب عن شراء الأندية الرّياضيّة، وذلك موجود في واقعنا، ولكن ليس من الضّروري ذكره في قصّة للأطفال، كذلك لو تجنّب الكاتب أسلوب تعامل أحد الفريقين مع الآخر بأسلوب العصابات الشّرّيرة ونصب المكائد والغدر والمشاجرات لكي لا يفوز الفريق الآخر، وطعن بطلة القصّة ميسا بسكّين على يد أنور من الفريق الثّاني لكان ذلك أفضل، لأنّ كل ذلك عمل على فوضى وتشويش في الطّرح .

ولو حاولنا أن نقارن بين المشروع الجديد، مشروع الحلم الإسلامي المعاصر، وبين المشروع المطبق سابقاً (السيرة النبوية الشريفة) لنتعرف على العناصر التي بقيت لنا منها، حتى نستفيد منها في بناء مشروعنا الجديد، لوجدنا أن العناصر الباقية لنا منها ما يلي:

1- القرآن الكريم كاملاً، وأسباب النزول وعلوم تفسيره.

2- السيرة النبوية الشريفة: السنة (الحديث والفعل والتقرير) التطبيقات، وأعمال النبي عليه السلام وأفعاله وأسباب ورود الحديث وتاريخ الصحابة واستجاباتهم للرسول عليه السلام، والبيئة العربية المحيطة بالدعــوة، والحالة الحــضارية المجاورة والعلاقة بها.

3- الأمة الإسلامية المعاصرة: أُمة ممزقة، ضعيفة، تتفاوت في علاقاتها مع الإسلام فهماً وحملاً.

4- الحالة الحضارية المجاورة: أوروبا وحضارتها المعاصرة، والتي تنظر للأمم نظرة استعلاء وسيطرة وامتلاك، وتهدف في نهاية الأمر إلى تذويب خصوصيات الأُمم وحضارتها في الخصوصية الأوروبية.

ومن خلال هذه المقارنة، نجد أن العناصر المتغيبة عن عصرنا من التجربة الأولى هي:

1- انقطاع الوحي والتوجيه الرباني المباشر.

2- غياب شخص النبي القائد -صلى الله عليه وسلم -.

3- غياب عنصر التصحيح المستمر، الذي كان يرافق التجربة الأولى، نتيجة لانقطاع الوحي وغياب شخص النبي عليه السلام.

4- عنصر إشعاع التجربة الأولى ويقصد به اندفاع تيار الإسلام في بناء الحضارة الإسلامية، حيث كانت السمعة الطيبة، لهذا الخير الذي يحمله الإسلام، تبهر القلوب وتمهدها لاستقباله، وقد ظل إشعاع هذه التجربة يمتد من قرن إلى قرن، حتى وصل إلينا يغرينا بتكرار التجربة، ومع اعترافنا أن قوة هذا العنصر كانت في القرون الأولى أشد وأقوى؛ لقوله عليه السلام (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم...)(1) فهذه الخيرية كانت أشد إشعاعاً في القرون الأولى، ولكن هذه الخيرية مستمرة في هذه الأمة إلى يوم الدين، ولكنه الآن إشعاع ضعيف، لكثرة الحواجز والمثبطات والعوائق وقلة نماذج القدوة الحسنة، التي تساعد في جلاء نوره، ليعودَ جذاباً ومغرياً لأبناء هذا العصر من جديد.

وأمام هذا الحال، نجد مجموعة من الأسئلة، التي تلح علينا، وتحاصرنا، لأنها تبحث عن الإجابات الشافية: كيف نبني سيرة الإسلام الجديدة التي نحلم بها ؟! وكيف نعوض أنفسنا عن انقطاع (الوحي) وغياب (النبي) عليه السلام ؟! كيف نستطيع أن نصل إلى مرحلة (التصحيح المستمر) الذي لا يسمح للمجاملة أن تبقى قانوناً دائماً، ينخر جسم البناء الإسلامي ؟! كيف نعيد (إشعاع التجربة) وبريقها، ليزيل الكسل والعجز من النفوس ؟! كيف ننزل بالإسلام إلى الواقع بمراحل علمية مستخرجة من الإسلام نفسه ؟! والأمة حائرة تريد أن تطمئن إلى نهج في فهم الإسلام يحميها من التخبط، ويعيدها إلى المحجة البيضاء؛ ليعيدها إلى دورها بعد أن تكفل الله لها، بأن لا تجتمع على باطل، وبعد أن رأينا كثرة المشاريع التي قادت الصحوة الإسلامية، وحاولت ولكنها لم تصل إلى الهدف، ولم تحقق من الثمار إلا قليلها، ومن هنا أصبح البحث في الخطوط العلمية، والعملية؛ للتعويض عن العناصر المتغيبة، عن عصرنا، من التجربة الأولى، أمراً ضرورياً تفرضه الحاجة إليه.

المزيد من المقالات...