clip_image002_93a33.jpg

clip_image004_1b48e.jpg

حسن عبادي

وصف ونستون تشرتشل في حينه إيطاليا: "خاصرة أوروبا الرّخوة"؛ ويُطلق المصطلح عسكريا على منطقة الضعف بالنسبة لدولة أو منطقة ما، وها هو الكاتب جميل السلحوت يُعنوِن روايته الأخيرة: "الخاصرة الرّخوة" "الصادرة عن مكتبة كل شيء الحيفاويّة لصاحبها صالح عباسي، تحوي 264 صفحة، تصميم شربل إلياس" لجميل السلحوت العديد من الأعمال الروائيّة ومنها: "ظلام النهار"، جنّة الجحيم"، "رولا"، "زمن وضحة" "عذارى في وجه العاصفة"، "عند بوابّة السماء"، روايات لليافعين ومنها: "عشّ الدبابير"، "البلاد العجيبة"، "لنّوش" "اللفتاويّة"، "كنان يتعرّف على مدينته"، قصص للأطفال ومنها: "المخاض"، "ميرا تحبّ الطيور"، "النّمل والبقرة"، أدب السيرة ومنها: "أشواك البراري-طفولتي"، "من بين الصخور-مرحلة عشتها"، أدب ساخر ومنها: "حمار الشيخ"، "أنا وحماري"، أبحاث ومنها: "ثقافة الهبل وتقديس الجهل"، أدب الرحلات ومنها: "كنت هناك"، "في بلاد العمّ سام" وغيرها).

تناول في روايته الهمّ النّسوي وتطرق لمعاناة المرأة الفلسطينيّة ومحاولة تمرّدها على القيود والتقاليد وسلطة الرجل في مجتمع ذكوريّ، وتناول همومها اليوميّة محاولا نقل صورة حقيقيّة لظلمِها واضطهادها، بؤسها وشقائها، فنجد "المرأة خاصرة المجتمع الرّخوة" (ص.126)، وتطرّق إلى ازدواجية مواقف المرأة تجاه قضايا المرأة فهي عدوّها الأوّل واللدود.

تحكي الرواية قصّة زواج "جمانة وأسامة"، "صابرين ويونس"، و"عائشة وزياد"؛ باءت جميعها بالفشل والطلاق، كلّ لأسبابه، جمانة الجامعيّة تتزوّج أسامة المتزمّت دينيًا والمتأثر بكتابات ابن عثيمين وابن باز وغيرهما، ويحمل فكرا تكفيريّا جعله يمنع الغناء والرقص في حفل زواجه، يحرمها من الشغل خارج البيت، يعترض على قراءتها للقصص والروايات بوصفها "خطيئة لأنها من الخيال والخيال شيء لا يحاكي الواقع، فهو كذب والكذب حرام"، يعترض على ولادتها في مستشفى حتى لا يكشف عليها طبيب، يمنعها من الاحتفال بعيد ميلاد ابنهما البكر، لأنّه تقليد للكفّار ممّا يؤدّي للطلاق.

أمّا صابرين فتتزوّج يونس الذّهبيّ "المُنفتِح"، يقنعها بخلع حجابها، مارس معها الجنس خارج إطار الزواج لتحمِل ويتزوجّان، ممّا لا يمنعه من إقامة العلاقات الجنسيّة متعدّدة المواهب، مع الذكور والإناث بما فيه الجنس الجماعي ويؤدّي إلى الطلاق.

أمّا عائشة فتتزوّج زياد وعمرها خمسة عشر عاما ليطلّقها بعد ثلاث أشهر، متّهما إيّاها بشرفها بسبب بكارتها المطاطية، فتتزوّج ثانيةً وتحمل، وحين تعسّرت ولادتها تبيّن أنّها لا تزال تحتفظ بعذريّتها!

المرأة اللا بطل في الرواية، عائشة التي أاغتصبت طفولتها ليزوّجوها قاصرا، جمانة جامعيّة متديّنة تؤمن أنّ الدين الإسلامي دين يُسر لا عُسر ،ومثقّفة مطّلعة على الأدب العالمي وفكره، تصير ضحيّة تطرّف زوجها المتديّن ذو الفكر المتحجّر العنيف المتزمّت والتكفيريّ، صابرين جامعيّة "مُنفلتة" تقع ضحيّة نزوات زوجها المتهوّر، كلّ وعقليّتها ومفاهيمها الاجتماعيّة والأخلاقيّة، كلّ ووليدها، ضحايا المجتمع لأنّهن نساء وخاصرة مجتمعنا الرّخوة.

حاول الكاتب تعرية المجتمع أمام المرآة، بدون مكياج وتزييف وقشور، بجرأة، يكشف زيف المجتمع (العلاقة الزوجيّة/الأسريّة/الاجتماعيّة)، تناول بجرأة الممنوعات/المحرّمات/المقدّسات وحطّم التابوهات، واجه الجهل الذي واكب التخويف والترهيب للسيطرة على المجتمع؛ ليبقى متخلّفا ورجعيّا، بدل التقدّم والتحضّر والتمدّن، تناول قضيّة الصمت لكي لا تفضح العائلة، وهذا حال كلّ النساء فلماذا ترفض أو تحتجّ؟

تطرّق جميل السلحوت لدور المرأةِ، فانتقدَ في روايته بشدّةٍ النظرةَ النمطيّةَ المتكلّسةَ حولَ دورها في مرآة أدبِنا، وثارَ على النظرةِ الدونيّةِ للأمّ/المرأة، وحاول تصويرها بصورةٍ إيجابيّة. وكذلك الأمر للأب "اللاجئ"، فهمّه تعليم بناته وتأمين مستقبلهن واحترام رأيهنّ: "كيف الرّأي رأيي؟ الرأي الأوّل والأخير لجمانة"، "كلّ شي بخناق إلا الزّواج باتّفاق"، "لن أزوّج أيّا من بناتي قبل أن تحصل على شهادتها الجامعيّة الأولى، فتعليم البنت حصن حصين لها".

ثار ضدّ ذكوريّة مجتمعنا حين صوّر بسخرية لاذعة تعدّد الخُطّاب ليد جمانة: الأستاذ محمد الفايز جاءها خاطبا وهي في الصف السّابع! المهندس رزق رجب جاءها خاطبا بعد أن أنهت الصّف التّاسع! أكثر من خمسة شباب أنهوا دراستهم الجامعيّة جاءوها خطّابا أثناء دراستها في المرحلة الثانويّة! خاطب في بداية الثلاثينات من عمره ويحمل شهادة الأستاذيّة "الدكتوراة" في الآداب جاءها خاطبا عندما ظهرت نتائج "التّوجيهي"!

يتناول الكاتب قضيّة النكبة وأثرها على المجتمع الفلسطيني: "عيسى الحمّاد ليس مقطوعا من شجرة، لكنّ الزّمن جار عليه كما جار على غيره من أبناء شعبنا، الذين غادروا ديارهم مكرهين عام النّكبة، بسبب ما تعرّضوا له من قتل وتدمير وتشريد، وتشتّتوا في بقاع الأرض، وهذا لا يعيبهم" (ص.13)

وظّف السّخرية السّوداء القاتلة؛ ليصوّر الوضع البائس لتقاليد وعادات وأفكار بالية، أكل عليها الدّهر وشرب: "ابني يريد فتاة صغيرة ليربّيها على يديه، فقالت لها جمانة ضاحكة: "وهل يعتبر ابنك الدكتور الزّوجة خروفا يريد أن يسمّنه حتى يأتي يوم نحره؟"(ص.34)، حين حاول أسامة تقبيل جمانة عنوة سألته ساخرة: "وهل أباح لك أئمّتنا الأوائل أن تغلق عليّ الباب، وتغتصب القبلات منّي؟" (ص.42)، صابرين سألت بلهجة ساخرة: "لم أفهم كلامك يا عمّ، فكيف يلعب الفأر في عبّك؟"(ص.195) ووصلت ذروتها حين أنهى الرواية بجملة غريبة لوالدة أسامة حين أخبر والديه بما جرى بينه وبين جمانة، فقالت والدته: "لا ردّها الله، وقد فعلتَ خيرا بطلاقها، سنزوّجك صابرين ابنة عمّك، فلديها عشرات آلاف الدّنانير التي حصلت عليها من طليقها" ليصوّر ازدواجية المعايير.

استعملَ جميل السلحوت لغة بسيطة وسهلة نسبيّا، وخالية في مجملِها من غريبِ اللفظِ، اعتمدَ لغةً عربيّةً فصحى ذات أصوات متعدّدة، ومنها الرّاوي والشخصيات، ولا ينقصها عنصر التّشويق وتبّلها بالعاميّة أحيانا مستعينا بالأمثال الشعبيّة المحليّة الفلسطينيّة، التي زادتها جمالا وجاءت أصيلة لا دخيلة، ممّا زاد من متانة الرّواية، وعلى سبيل المثال: "بيجي للرّدي يوم يتشرّط ويتمظرط فيه"، "معلّقة لا هي مطلقة ولا متزوّجة"، "حظّك يفلق الصخر"، "العرض ما بنحمى بالسّيف"، "همّ البنات للممات"، "نصّ الألف خمسميّة"، "كل واحد زردته على قدر رقبته"، "من برّة رخام ومن جوّه سخام"، "لا يعجبها العجب ولا الصّيام في رجب"، "وللي مشتهي البرقوق هيّو في السّوق"، "ذنب الكلب دايما اعوج"، "الطّبع غلب التطبّع"، "البسّة بتوكل عشاها"، "طريق تاخذ ما تردّ"، "هل طخّيت الضّبع؟"، "مثل حيّة التّبن تقرص وبتتخبّا"، "يا مؤمّن للنّسوان يا مؤمّن للميّة في الغربال"، "بعد ما شاب ودّوه للكتّاب"، "كل شاة بعرقوبها معلّقة"، "اللي ما بشوف من الغربال أعمى"، "تعريص الغنيّ وموت الفقير لا يعرف بهما أحد"، "دارت على حلّ شعرها"، "تنشوف الصّبي بنصلّي على النّبي"، "اللي بقرب المسعد بسعد"، "اللي بروح ع السّوق بتسوّق"، "غُلُب بستيرِه ولا غُلُب بفضيحه"، ووُفّق في ذلك.

جاءت لغته حداثيّة، ولم يخش الاستعانة بمصطلحات أجنبيّة، وتبنّاها بعفوية مهضومة حين استعمل بعض تلك المفردات: "تمكيجي"، "كاسيت"، "الكشك"، "لابتوب"، "الكيك"، "البنج"، "سكايب" وغيرها.

أبدع الكاتب برسم صورة جمانة بكلماته الشّاعريّة: "خدودها بيضاء تعلوها حمرة كما التفّاح، عيناها فيهما زرقة سماء صافية، شفتاها لذيذة كقطعة حلوى شهيّة، أسنانها كعقد اللؤلؤ الطبيعيّ، أنفاسها تبعث الدفء في القلب، غرّاء فرعاء، نحيلة الخصر بلا اعوجاج، تمشي بدلال كزهرة يهبّ عليها نسيم عليل، صوتها مغناج دون تصنّع. أنفها مستقيم كمنقار حمامة برّيّة" (ص.46)

أعجبتني الرّواية بجرأة التعامل مع موضوعها وعناصرها، ولكن هناك ملاحظات لا بدّ منها: هناك بعض الأخطاء المطبعيّة، وأخرى بنيويّة، وعلى سبيل المثال: يجب حذف كلمة"زملائها"(ص.29)، "جمانة" وليس "أسمهان" (ص.50)، "أبو أسامة" وليس "أبو وضّاح" (ص.117)، "أبو جمانة" وليس "أبو أسامة"(ص.131)، أسرة "العروس" وليس العريس (ص.215).

كذلك الأمر إسرافه بالاستعانة بأحاديث نبويّة ومصادر وعناوين وأسماء أثقلت على سيرورة النص الروائي، لأنّنا لسنا بصدد بحث دينيّ علميّ.

أقحم الكاتب إسرائيل والاحتلال بتكلّف لا يخدم النصّ، وهو بغنى عن ذلك: "أنت تعلمين أنّ الاحتلال قد أهلك البشر والشّجر والحجر، ودمّر الاقتصاد"(ص.173)، "لماذا لا تشتري لنا تلفازا ومذياعا...لنطمئنّ على أهلنا الذين يتعرّضون لجرائم الاحتلال؟"(ص.175)، "بكت أيّام العزّ التي عاشتها في قدسها الذبيحة...قدسها محتلّة من عدوّ أهلك البشر والشجر والحجر"(ص.208) وغيرها.

راق لي موقف الكاتب المُناصر للمرأة، وهو بصيص الأمل بمستقبل أفضل حين جاء على لسان جمانة "قراري ليس ناتجا عن غضب في مشكلة معيّنة، ولو كان ذلك كما تقولين، لتحمّلته، لكنّ أسامة لم يحترم إنسانيّتي يوما ما، فالرّجل غريب في تصرّفاته، لديه معتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، وتعامل معي كدمية لا قيمة لها، وبالتّالي فإنّني اتّخذت قراري بعقل ورويّة، ولو كنت في الوطن لما تحمّلته هذين العامين اللذين كنت أعدّهما بالدّقيقة" (ص.249) ما أن سمعت جمانة كلمة الطّلاق حتى رقصت فرحا، وأطلقت زغرودة مدوّية. صدق فريدريك انجلز حين قال:"تحرّر المرأة معيار تحرّر المجتمع".

يصوّر الغلاف وجه امرأة حزينة وخائفة، فهي نقطة الضّعف، نقطة ضّعف مجتمعنا وخاصرته الرّخوة، مُستَهدفة من قبل الجميع ولكنّها الأمل، أتساءل حيال غياب صاحب "'لوحة" الغلاف الرائعة، التي تتلاءم مع عنوان الإصدار، الذي لم يُعطَ حقّه.

clip_image002_be821.jpg

clip_image004_224ce.jpg

صدرت رواية "الخاصرة الرّخوة" للأديب المقدسي جميل السلحوت أواخر العام 2019 عن مكتبة كل شيء في حيفا، وتقع الرّواية في 260 صفحة من الحجم المتوسّط.

الكاتب يستمر في محاربة الجهل ، وكأنه أخذ على عاتقه خوض هذه الحرب، التي من شأنها أن تُغير المجتمع ، وتساعد في رُقيه وتقدمة.

كانت البداية  منذ رواياته الأولى في سداسيّته "درب الآلام الفلسطيني  " ظلام النهار، جنة الجحيم، هوان النعيم، برد الصيف، العسف ورولا" والتي أظهرت العادات والتقاليد البالية ، وبعد ذلك في روايتيه "زمن وضحة" و "رواية عذارى في وجه العاصفة" حيث قدم الكاتب جميل السلحوت معاناة المرأة في مجتمع قاصر النظر جاهل الفكر، رغم ما  تواجهه المرأة من آثار الحرب ، أمّا أبرز مؤلفاته التي حاربت الجهل  فهي" ثقافة الهبل وتقديس الجهل" الذي شمل صور الجهل المنتشرة في المجتمع  في شتى المجالات، وأشكاله صور تصادفنا يوميا،  وفي " الخاصرة الرخوة" يظهر مواقف التطرف الديني، الذي يعود بالويلات على الزوجة، على عكس ما نادى إليه ديننا العظيم، بإعطائها حقوقها في اختيار الزوج والتعليم وحرية الرأي، و احترام الزوج لها، وقد كان آخر ما اوصى  به الرسول صلى الله عليه و سلم وهو على فراش الموت: "أوصيكم بالنساء خيرا"، وكذلك نهى ديننا عن البخل.

الرواية صرخة  ضد تهميش المرأة، والعقلية الذكورية، وادّعاء التديّن ، فتح الكاتب الأبواب الموصدة وطرح العلاقات والتداخل والإشكاليات التي لم تجد طريقها للحسم في واقعنا.

أظهرت الرواية ثلاث إشكاليات، حرية المرأة في تحديد مصيرها، من حيث تعليمها ، اختيار شريك حياتها، بناء بيتها، ومشاركة الزوج، وتعامل زوجها معها ككيان لها رغباتها وهواياتها ونظرتها للأمور، لا طاعته طاعة عمياء.

الإشكالية الثانية " التديّن" الذي لا يعبر عن روح الإسلام، كبطل الرواية " اسامة"  حيث كان يتعامل مع زوجته " جمانة" من خلال خطاب تهجمي يبتعد عن روح الشريعة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم.

الإشكالية الثالثة" عفة المرأة وشرفها " تتزوج صابرين وتنجب بعد ستة أشهر من زواجها، ومن جهة أخرى تتطلق عائشة ابنة الخمسة عشر ربيعا، بعد أن تعيش مع زوجها ثلاثة أشهر الذي طعن بشرفها، وبعد سنوات ومن زواجها الثاني أثناء مخاضها يكشف الطبيب لأهلها وزوجها عذريتها، جهل علمي يضاف للجهل الديني والإنساني والأخلاقي.

تطرح الرواية سؤال: هل العفة والخيانة والدين تُحدد حسب سلوك الإنسان على التحكم بإظهار ما يريد أن يراه المجتمع فقط؟

بالنهاية تطلق صابرين الفتاة التي مارست علاقة غير شرعية قبل الزواج، ومع ذلك فإنّ والدة أسامة تقترحها زوجة لأبنها أسامة المتطرف بتديّنه، هذه النهاية طعنة في الخاصرة الرخوة لمجتمع مزيف بمعتقداته وبتدينه وبشرفه .

ومن الناحية العاطفية ، لم تُحب " جمانة " أسامة منذ اللحظة الأولى، الحب لا يأتي بعد الزواج، هناك قبول بالآخر تعايش عِشرة ، لكن إن لم يطرق الحب القلب عند أول نظرة فلن يأتي أبدا، لم تتبع " جمانة " عواطفها، مع أنها متعلمة وابنة رجل عصامي يجتهد من أجل بناته الخمسة، أفنى حياته كلها في تربيتهن والحرص على تعليمهن.

لم تدق "جمانة" الجدار، وانجرفت نحو التيار، ولم ترَ شواهد تشجعها على الاستمرار، لكنها استمرت، الآف الفتيات كجمانة يلاحقهنَ شبح العنوسة ، وبحجة العريس المناسب ماديَا، وتحت ذريعة النصيب تكمل حياتها، وعندما تختنق تماما ترفع الراية البيضاء، وقد جرفت لنصيبها نصيب ابن  لا يملك عائلة متكاملة، ولا يعيش بكنف والدية.

جمانة وعائشة وصابرين، ثلاث مطلقات مع ثلاثة أبناء ، الحياة غير السوية منذ أول ليلة، تبنى عليها حيوات، والجهل يتغذى على ثقافة المجتمع، ينمو ويكبر وينجب أجيال، أعود للنهاية مرة آخري، الكاتب جعل تلك النهاية الساخرة ،عقابا لاستمرار الجهل .

تُظهر الرواية حاجة المجتمع  بأن يمسك العصا من الوسط، فالتطرف في النظرة للأمور: الدينية والأخلاقية وبنية المجتمع  هو الجهل بعينه.

وإذا عدنا إلى الآية السابقة التي انطلقنا منها، فإننا نجد أن الحقيقة الدماغية المستخرجة من التفكير في السماوات والأرض، ظهرت في صيغة {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} ومعناها يدل على حقيقة، ينفي فيها التفكير معنى العبثية عن الحياة والكون والإنسان، ويقر بأن الإنسان خُلق لمقصد محدد، وعندما ظهرت هذه الحقيقة بوضوحها أمام القلب المستقيم الفطرة، أصدر قيمة هذه الحقيقة والموقف منها لدى هذا القلب، وظهرت قيمة الحقيقة في صيغة {سبحانك فقنا عذاب النار} حيث ظهر هذا القلب الخائف أمام انتفاء العبثية وجدّية الحياة، وجاء على شكل دعاء وتعظيم لله سبحانه وتعالى، يتجلى فيه الإيمان والخضوع

والاستعاذة بالله من عذاب النار. وهكذا ظهرت قيمة الحقيقة والموقف منها منضبطة بمعيار متلازم، لا انفصال فيه بين الموقف والقيمة وهي أيضاً متصلة بالرؤية الفكرية التي كوَّنتها؛ لأن القلب هو الذي يعقل علم الدماغ وتفكيره وحقائقه ومفاهيمه، ويستفيد منها ويسترشد بها، أو يعرض عنها وينفر منها، وهكذا فهو يعقل قيمة هذه الحقائق ويدرك جدواها في إشباع ميوله وحاجاته وغرائزه وطموحاته.

ونلاحظ أن عملية المعرفة تتدرج في دماغ يعقل حقائق عالم الشهادة، وقلب يعقل وجه المصلحة من هذه الحقائق.

أما إذا عمي القلب عن إدراك هذه الحقائق ووجه الحق فيها، فمعنى ذلك أنه عرضت أمامه حقائق الحياة وحقائق التفكير ومفاهيمه عنها، لكنه لم يستجب لها، ولم يستفد منها، وأصبحت هذه الحقائق مجرد معلومات عابرة لم تؤثر في موقفه، ولم تعدل من استجابته، وما الفائدة من الحقائق التي يتعب الفكر الدماغي في الوصول إليها، إذا لم يقبلها القلب ويسترشد بها في تهذيب مشاعره وحاجاته وفطرته، حتى يدرك جوهر الحياة وحقائقها، فيخاف وقت الخوف، ويطمئن وقت الطمأنينة، ويتعظ وقت الاتعاظ، ويكره وقت الكره، ويحب وقت الحب. ولذلك وصف الله تعالى هذه القلوب بلسان الجمع في قوله {لهم قلوب يعقلون بها} [الحج:46]؛ لأنهم في آية أخرى تفصل حالهم: {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} [الكهف:101]. لا من قوى فكرهم ولا من فكر غيرهم؛ لأن مملكة الهوى تخضعهم لرغباتها، فهم لا يرون الحياة إلا من خلال منظارها.

ولا تخلو عملية التجاذب بين القطبين (الدماغ والقلب) من تبادل التأثر والتأثير فيما بينهما، بحثاً عن الوعي الأفضل والأمثل؛ فتارة يضيق القلب بحالات الجمود والتقليد الذي يعيشه الفكر أحياناً، فيدفع القلق القلبي الدماغ للنشاط والتفكير بحثاً عن العلم والتفسير والطمأنينة، وتارة يقوم التفكير الدماغي بهداية العواطف الجامحة لدى القلب، بما لديه من فكر، وبخاصة أمام حالات الجدة والدهشة والمفاجأة، يرشدها ويربيها؛ لتفيق من هياجها وتخضع للفهم الأفضل فيما استجد عن قناعة ورضى وتسليم

وفي نهاية المطاف، لا بأس من التفريق بين العلم في بعض معانيه وبين المعلومات؛ فالعلم: يدل على حالة استفادة القلب من تفكير الدماغ ومفاهيمه وحقائقه. وفي هذه الحالة يستفيد القلب ويهتدي، وتتحول الحقائق إلى هداية في أعماقه وارتقاء في مشاعره وطباعه وتهذيب في فطرته وانضباط في أهوائه، ثم يمتد هذا العلم إلى سلوك ظاهر في جوارحه وأفعاله وأقواله.

أما المعلومات: فتدل على الحالة الأخرى المغايرة، وهي الحالة التي تمرر فيها حقائق الدماغ عن الحياة وتفكيره وجهوده، وتعرض أمام بصيرة القلب لكنه لا يتعظ بها، ولا يتكيف معها في هداية فطرته، وهذا القلب عمي عن تلك الفائدة وقبول الحق منها، رغم أنها قريبة منه، وفي متناوله، وقد وصف الله سبحانه هذا النوع من القلوب بقوله: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46]؛ لأنها جعلت الإشباع هدفاً وهاجساً ومعبوداً، واستبعدت عملية تعلم الحق من أهدافها، فتحولت الحقائق إلى مجرد معلومات يختزنها في الذاكرة، ولكنه لا يستفيد منها ولا يعتبر بها. قال الإمام الشافعي رحمه الله: \"ليس العلم ما تحفظ، إنما العلم ما نفع\" ) (. ومن الأبيات الجميلة التي دارت في فلك الآية القرآنية قول أحمد شوقي:

لقد أنلتك أذناً غير واعية ورُبّ مستمع والقلب في صمم

الخلاصة:

وهكذا نرى أن المعرفة في المفهوم القرآني، تتدرج في قنوات العقل البشري من الواقع الخارجي (عالم الشهادة) إلى الحواس، ومنها إلى الدماغ ومنه إلى القلب، وهو أرقى الدرجات في السلم المعرفي وأعلاها، ضمن سلسلة من التواصل والتفاعل، تصنع المفاهيم وتكشف الحقائق وتصدر الأحكام التي تشكل الرؤية الفكرية للأديب، فيستقبلها القلب بإصدار قيمة الحقيقة والموقف منها.

وتتم عملية المعرفة تلك في ترابط وتشابك وتجاذب بين قطبي العقل (الدماغ والقلب) حتى تصل إلى مرحلة الحقيقة الكاملة بجميع أبعادها: الواقعية والحسية والفكرية والمنهجية والقلبية.

وكان الهدف من شرحها مفككة هنا، هو تسهيل عملية فهمها فقط، وقديماً قال أحد الحكماء: (إن الله جعل القلب أمير الجسد، وملك الأعضاء، فجميع الجوارح تنقاد له، وكل الحواس تطيعه، والقلب وزيره العقل) ) (، وقصد بالعقل هنا الدماغ والفكر وهو من قبيل إطلاق الكل وإرادة الجزء.

*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )

( 1337 – 1435ه ) / ( 1919 – 2014م )

clip_image002_39362.jpg

تمهيد:

كل أمة بعث الله فيها عظماء وحكماء ومفكرين، لكي تدوم الخيرية، وتبلغ دين الله والأمة التي تريد الحياة والفلاح، لا بد أن يكون فيها ذلك، وأن يتربى الجيل الصاعد على سير هؤلاء الحكماء والعلماء والمفكرين والصالحين، ليستلهم من حياتهم العبر والدروس التي يسير بها في حياته العملية.

ومنذ سنوات قليلة ودَّع العالم الإسلامي، وودعت الأمة الإسلامية الكبرى في مشارق الأرض ومغاربها الجمعة (الرابع من جمادى الآخرة سنة 1435هـ - الرابع من أبريل سنة 2014م): قطباً من أقطابها، وعلماً من أعلامها، وقلماً من أقلامها، ونجماً من نجومها، وأحد أبرز المفكرين الإسلاميين المعاصرين، عضو المجلس العالمي للمساجد، وأستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة بجامعة أم القرى، وشقيق الشهيد سيد قطب، ورفيق جهاده، ويعتبر الأستاذ محمد قطب في طليعة المفكرين الحركيين والدعاة الإسلاميين، وأحد أبرز دعاة الصحوة الإسلامية في العصر الحديث وأحد أكبر منظريها، الذي وَهَبَ عمره من أوله إلى آخره لها ولدينها، ودعوتها وثقافتها، وحضارتها وتراثها، وهو الداعية الكبير، والكاتب العزيز، المصري وطناً، الإسلامي هُوية، العالمي امتداداً، الأستاذ محمد قطب، الذي لقي ربه بمكة المكرمة بجوار بيت الله الحرام، بعد حياة حافلة راضية، ثائرة على الطاغوت، مؤمنة بالله تعالى، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]. قضى هذه الحياة في خدمة الفكرة الإسلامية والدعوة الإسلامية، التي كان (رحمه الله) بها يعيش، ولها يحيا، ومن أجلها يدرِّس ويحاضر، ويؤلف ويكتب، ويدعو ويربِّي، حتى لقي ربه راضياً مرضياً.

نشأته، وحياته العملية:

بقي الشهيد سيد قطب الولد الوحيد لأمه ما يزيد على ثلاثة عشر عاماً، إلى أن ولد محمد بن قطب بن إبراهيم بن حسين الشاذلي في 26 إبريل 1919 م / 1337ه في قرية (موشا ) بمحافظة أسيوط في صعيد مصر، وتسمى بلد ( الشيخ عبد الفتاح)، نسبة إلى أحد أوليائها، وله مقام بارز فيها .

ونشأ الشيخ محمد قطب في أسرة كريمة مكونة من أبوين وأخوين وثلاث أخوات.

وكان والده الحاج ( قطب إبراهيم  حسين الشاذلي ) كريماً مضيافاً، يقيم الولائم والموائد الكثيرة في مختلف المناسبات الإسلامية كالعيدين، وعاشوراء ، والإسراء والمعراج ، وليالي رمضان ، والمولد النبوي ، فيجتمع عنده أهل القرية، ويقدم لهم الطعام ، ويستمعون لآيات القرآن الكريم، وكان يكثر من الصدقة في سبيل الله على الفقراء والمساكين . ولا يبخل على أهل بيته بشيء، يعمل بالزارعة، لم يكمل تعليمه الابتدائي، و لكنه كان ممن يحب القراءة والمطالعة في الصحف ولا سيما ( اللواء)، وكان عضواً في لجنة الحزب الوطني في القرية، وكان أحد مثقفي القرية رغم أنه لم يكمل تعليمه نظراً للظروف الاقتصادية السيئة، وصار الوالد عميد الأسرة المكلّف حفظ اسمها ومركزها، في الوقت الذي لم ينله من الميراث إلا نصيب محدود، لا ينهض بما كانت تنهض به ثروة الأسرة مجتمعة، على حين لا يستطيع أن ينقص شيئاً من تكاليف المظهر في الريف .

وكانت الأم (فاطمة حسين عثمان ) من أسرة عربية عريقة تجمع بين الرقي العلمي بجانب الوجاهة الريفية، وكانت الوالدة محبة للعلم، مما كان له الأثر على أبنائها، وهي لم تكن أقل من زوجها تديناً واستقامة، فقد كانت حريصة على صلواتها وعبادتها، وكانت كثيرة الصدقة، وكانت تعد الطعام بنفسها للعمال في المزارع وللقراء الذين يأتون لقراءة القرآن في البيت، تقرباً إلى الله .

وكان لها إخوة أربعة، اثنان منهم درسا في الأزهر الشريف، وكان خاله  السيد (أحمد حسين عثمان) يعمل في الصحافة، وينتمي إلى حزب الوفد، هذه البيئة العلمية جعلت الأم تحرص على إرسال ولديها سيد، ومحمد إلى القاهرة لتلقي العلم. فاستقرت الأسرة في القاهرة عند سيد بعد وفاة الوالدين الكريمين.

وللشيخ محمد قطب أخ أكبر منه هو شهيد الإسلام سيد قطب: (1906- 1966م)، وصاحب الظلال المفكر المعروف، وثلاثة أخوات هنّ: نفيسة قطب: التي نالها نصيب من المحنة، كباقي هذه الأسرة المجاهدة، حيث سجنت، وعذبت، وعذب ولداها (رفعت، وعزمي) خاصة رفعت الذي اتهم أنه الواسطة بينها وبين خاله سيد قطب – رحمه الله –، وظل تحت التعذيب الشديد لكي يعترف، ولكنه أبى، وثبت وصبر حتى فاضت روحه إلى بارئها، رحمها الله تعالى.

- وأمينة قطب: الأديبة الشاعرة لها في تيار الحياة، وفي الطريق، ورسائل إلى شهيد، وخطبت إلى الشهيد كمال السنانيري، وبقيت تنتظر من 1954 وحتى 1973م، وتزوجت به ثم اعتقل في عهد السادات، وبقي يعذب حتى فراق الحياة، وزعم الطغاة أنه انتحر .

- وحميدة قطب: ساعدت أسر المعتقلين، وعذبت عذاباً شديداً في السجن ولبثت فيه ست سنوات وبضعة أشهر، ثم أفرج عنها، وتزوجت د. حمدي مسعود، وتوفيت عام 2014م، رحمة الله عليها، وصدر لها عدة كتب.

دراسته، ومراحل تعليمه:

بدأ محمد قطب دراسته في القاهرة، فأتم المرحلتين الابتدائية، ثم الثانوية،   وكان الأستاذ محمد قطب يرغب في الالتحاق بكلية الآداب لدراسة اللغة العربية وآدابها، ولكن بناء على رغبة الشهيد سيد قطب التحق بجامعة القاهرة، ودرس اللغة الإنجليزية وآدابها، وتخرج فيها عام 1940م، ثم درس في معهد التربية العالي للمعلمين، وحصل على دبلوم المعهد العالي للمعلمين في التربية وعلم النفس عام 1941م .

وكان في شبابه يهتم بالمطالعة المستمرة، واشتهر بغزارة الإنتاج الأدبي والفكري، ففي مقدمة إحدى محاضراته صرح بأنه كان يقرأ كتيباً أو مئة صفحة من كتاب كبير كل يوم.

شيوخه، وتلامذته:

من أهم شيوخه ومعلميه ومربيه، ثلاثة شخصيات كان لهم الأثر العظيم في حياته العلمية والأدبية والأخلاقية وهم:

1-أبوه الحاج قطب إبراهيم: وتعلم منه حبّ الدين على الفطرة السليمة البعيدة عن المادية والبعيدة عن شوائب المدنية الحديثة.

2-أخوه الشهيد سيد قطب: ويعتبره قطعة من روحه، وله أثر كبير في تربيته وتوجيهه . وقد أهدى أول كتبه (سخريات صغيرة ) إلى سيد – رحمه الله -: أخي الذي علمني كيف أقرأ ، وكيف أكتب، منذ طفولتي فكان لي والداً وأخاً وصديقاً، إليه أهدي هذا الكتاب لعلي أستطيع أن أفي بشيء من الدين العظيم، ويقول الشيخ: لقد عايشت أفكار سيد بكل اتجاهاته منذ تفتح ذهني للوعي، ولما بلغت المرحلة الثانوية جعل يشركني في مجالات تفكيره، ويتيح لي الفرصة للمناقشة لمختلف الموضوعات فامتزجت أرواحنا وأفكارنا امتزاجاً كبيراً .

3-خاله أحمد حسين عثمان: وعن تأثير خاله الأستاذ قائلاً: كان لوجودنا مع خالي ذي النشاط السياسي والأدبي والصحافي أثره الملموس في توجهنا – أنا وأخي – نحو الأدب والشعر وتغذية ميلنا إلى القراءة والإطلاع وإذ كان خالي على صلة وثيقة بالعقاد مما اجتذبنا به فكرياً وأدبياً.

4- عباس محمود العقاد: بدأ محمد قطب بقراءة كتب العقاد، والمازني، وطه حسين، وهو في التاسعة من عمره، ويعترف محمد قطب بتأثير العقاد عليه حيث تعلم منه الصبر على معالجة الأفكار بشيء من العمق، وعدم تناولها في سطوحها، وأسلوبياً يتمثل في التركيز على الدقة في التعبير.

وأبرز تلاميذه:

انتشر تلاميذه في آفاق الكون فكلّ من قرأ التوحيد في السعودية، أو درسه هو من تلاميذ الشيخ، وتلاميذه منتشرون فضلاً عن السعودية في الأردن ومصر والسودان وباكستان ونيجيريا وغيرها، ومن أبرز هؤلاء:

1-            الشيخ د. سفر عبد الرحمن الحوالي: الذي تتلمذ عليه في الدراسات العليا في مرحلة الماجستير ( العلمانية)، والدكتوراه ( ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي).

2-            محمد سعيد القحطاني: أشرف محمد قطب على شهادة الماجستير.

3-            هدى مرعي ( الأردن ): نالت درجة الدكتوراه على يديه.

4-            د. صالح الرقب ( الأردن ): حصل على الماجستير عن جهود المودودي ومنهجه في الإصلاح.

أعماله، ومسؤولياته:

والتحق بعد تخرجه بوظيفة في وزارة التربية والتعليم حيث عمل بالتدريس لمدة ست سنوات في المرحلتين الابتدائية والإعدادية مدرساً لمادة التاريخ الإسلامي، فضلاً عن مادة الإنجليزي قبل أن ينتقل إلى أعمال في مجالات أخرى.

فقد انتقل إلى العمل مشرفاً على إدارة الكتب المصرية، ثم عمل بإدارة الترجمة بوزارة المعارف خمس سنوات، ثم بالتدريس مرة أخرى لعامين، ثم مشرفاً على مشروع الألف كتاب بوزارة التعليم العالي.

وفي عام 1972م وبعد خروجه من سجنه سافر إلى السعودية، حيث تعاقدت معه جامعة الملك عبد العزيز في مكة- والتي هي جامعة أم القرى حالياً – وعمل فيها أستاذاً في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة.

وأما عن درجته العلمية، فقد بين فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي أن الجامعات السعودية – يومها – كانت تعطي الدرجات العلمية بالأهلية والشهرة العلمية، وليس بالشهادات ولا بالأقدمية، فالأستاذ محمد قطب وغيره كانوا لا يحملون شهادة الدكتوراه ولكنهم جميعاً يعينون في درجة أستاذ لما تميز به عطاؤهم العلمي.

تأثره بأخيه سيد:

تأثر الأستاذ محمد قطب بأخيه سيد إذ كان يكبره باثنتي عشرة سنة، وكان يشرف على تعليمه وتوجيهه، وكان له كالأب والصديق.. ولذلك قال محمد قطب عن أخيه: "لقد عايشت أفكار سيد بكل اتجاهاته منذ تفتح ذهني للوعي، ولما بلغت المرحلة الثانوية جعل يشركني في مجالات تفكيره، ويتيح لي فرصة المناقشة لمختلف الموضوعات؛ ولذلك امتزجت أفكارنا وأرواحنا امتزاجاً كبيراً، بالإضافة إلى علاقة الأخوة والنشأة في الأسرة الواحدة وما يهيئه ذلك من تقارب وتجاوب.. لقد كانت صلة سيد بي من حيث التربية يتمثل فيها العطف والحسم في آن واحد، فلا هو اللين المفسد ولا الشديد المنفر، كما أنه كان يشجعني على القراءة في مختلف المجالات، وكان هو نفسه نهماً في القراءة فساعدني هذا التوجيه على حب المطالعة منذ عهد الطفولة".

كما تأثر الأستاذ محمد قطب بخاله وفي ذلك يقول: "كان لوجودنا مع خالي ذي النشاط السياسي والأدبي والصحافي أثره الملموس في توجيهنا - أنا وأخي - نحو الأدب والشعر وتغذية ميلنا إلى القراءة والاطلاع..

اهتمامه بالأدب:

الأدب هو مفتاح شخصية محمد قطب؛ فقد كان شديد التركيز على أهمية الأدب في مخاطبة القراء والمستمعين، لذلك كان يقول: "غير خاف أن الأدب ألوان مختلفة، ولكل لون خصائصه المناسبة.. وحين أتحدث عن التعبير غير المباشر فلا يمكن أن يتطرق ذهني إلى المقالة والبحث والدراسة والموعظة، التي تلقى على الناس مباشرة بقصد التوجيه والتذكير، إنما أقصد بذلك الشعر والقصة بأنواعها والمسرحية.. ففي هذه الفنون يحسن دائماً أن يتوارى المؤلف، وأن يتوارى القصد المباشر، وأن يصل المؤلف إلى هدفه من خلال عرضه مشاهد حية، شعورية وفكرية، وحسية، يتصرف الناس فيها تصرفاتهم التي تتناسب مع مواقفهم المختلفة ومن خلال براعة العرض يتبين الموقف الصحيح، أو الذي ينبغي أن يتجه إليه الناس، وهي طريقة أكثر تأثيراً في هذه الفنون من التعبير المباشر الذي يفسد على القارئ أو المشاهد متعة المشاركة مع أشخاص القصة أو المسرحية، ومتعة استخلاص القصة بنفسه لنفسه. والملحوظ أن الشعر والقصة والمسرحية إذا لجأت إلى التعبير المباشر تستوي مع الموعظة بكون تأثيرها يكون عابراً مؤقتاً، ثم لا يلبث أن يخفت، ويضيع.. على حين تظل مع التعبير غير المباشر مؤهلة للخلود."

انضمامه إلى الحركة الإسلامية:

وعندما اتجه شقيقه الشهيد سيد قطب الاتجاه الإسلامي، وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين عام 1952م، انضم شقيقه محمد بعده بشهور، وهو ما يزال في العشرين، وتكونت لديه حصيلة عظيمة بسبب خبرته، وظل وفياً لأخيه، ولدعوة الإسلام طيلة عمره المبارك.

محنة الأستاذ محمد قطب:

تعرض آل قطب لمحنة شديدة أيام حكم عبد الناصر، ورأى وإخوته شدة التعذيب في سجون عبد الناصر، حيث أدخل سجون الطغاة مرتين:

-الأولى: عام 1954م مع آلاف المعتقلين من الإخوان المسلمين، ولكنه لم يصدر عليه حكم، فبقي موقوفاً سنوات عديدة، ثم أفرج عنه، قال الأستاذ محمد قطب عن هذه المحنة بعد مسرحية حادث المنشية الشهير سنة 1954م: "كانت فتنة السجن الحربي بالغة الأثر في نفسي إذ كانت أول تجربة من نوعها، وكانت من العنف والضراوة بحيث يمكن لي القول إنها غيرت نفسي تغييراً كاملاً من بعض الجوانب على الأقل.

ثم أفرج عن محمد قطب، وحمل عبء الأسرة عشر سنوات حتى أفرج عن أخيه سيد.

-الثانية: وهي الأكثر ألماً ومشقة ، حيث اعتقل الاثنان عام 1965م. إذ كان أول من أعتقل في تلك الأحداث، وكان نصيب الأستاذ محمد  أن يقضي فيه ست سنوات متصلة من 30 يوليو 1965م إلى 17 أكتوبر عام 1971م، يقول محمد قطب عن تلك الحقبة المظلمة من تاريخ مصر: (وكان نصيب أخي الإعدام بعد محاكمة صورية مع ثلة من كرام الشهداء، وقتل في هذه المجزرة واحد من أبناء أختي أثناء التعذيب دون إعلان، واعتقلت شقيقاتي الثلاث ومنهن الكبرى أم ذلك الشهيد، وعذبت الشقيقة الصغرى ثم حكم عليها بالسجن عشر سنوات، وتعرضنا جميعاً لحملة ضارية من التنكيل الذي لا يخطر على بال إنسان، وكان ذلك كله جزءاً من الحرب المسلطة على الإسلام ، يقودها، نيابة عن الصليبية العالمية والصهيونية الدولية، مخلوقون يحملون أسماء مسلمين."

وصور التعذيب التي وصفها في إحدى محاضراته بأنّها أسوأ من محاكم التفتيش، وكان يثني على إخوانه المعتقلين، ويروي ما فعلته التربية الإيمانية من فيهم من عجائب في السجون.  

وقال عن تلك المحنة في مكان آخر: "كانت هذه السنوات الست بكل أحداثها ووقائعها هي في النهاية زاد على الطريق"، وقد عذب عذاباً شديداً حتى أشيع أنه قتل تحت التعذيب، ثم تبين كذب الشائعة فسمي ( الشهيد الحي ).

رحلة الغربة:

وبعد خروجه من السجن غادر مصر إلى السعودية عام 1972م، وكان يقيم في مكة المكرمة حيث تفرغ للتدريس في جامعة الملك عبد العزيز فرع مكة المكرمة – قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة أم القرى حالياً –، ثم عمل أستاذاً للدراسات العليا فيها، وتفرغ فيها للدعوة، وتأليف الكتب وإلقاء المحاضرات.

جهوده العلمية:

سافر الأستاذ محمد قطب إلى السعودية، فعمل مدرساً في كلية الشريعة بجامعة أم القرى في مكة المكرمة، ثم في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، واستفاد منه طلابه، وتعلقوا به، وأنزلته المملكة آنذاك منزلته، فكان محاضراً في كل الجامعات وشتى المناسبات، وحظيت كتبه بالشهرة والانتشار، وطلب منه وزير التعليم العالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ بإشارة من الأستاذ محمد المبارك أن يكتب (منهاج التوحيد) لطلاب الثانوية، فألف كتاب (التوحيد) بأجزائه الثلاثة، وقرأه ألوف الطلاب، وانتفعوا به، ثم غُيِّر المنهاج إلى أسلوب آخر، وكاتب آخر.

مؤلفاته:

استمر تدفقه في عالم التأليف، يمتع المسلمين في بلاد العرب، والعالم الإسلامي، وعالم الغرب والشرق، بكتبه القيمة، التي تقدم البيّنات، وترد على الشبهات، وتقاوم الباطل، وتنشر الحق، وأمد المكتبة الإسلامية بكتبه الإسلامية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، ويمد الجامعات بما يمد به شبابها من فقه وثقافة، وهذه الكتب هي:

1- دراسات في النفس الإنسانية:

2- التطور والثبات في حياة البشرية:

3- منهج التربية الإسلامية ( بجزئيه: النظرية والتطبيق): فاز بجائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية بالاشتراك مع د. مقداد يالجن (تركيا).

4- منهج الفن الإسلامي: وضع فيه أسس الأدب الإسلامي، وجاء بأمثلة تطبيقية عليها.

5- جاهلية القرن العشرين – صدر عن دار الشروق عام (1965)، ويقع الكتاب في 330 صفحة.

6- الإنسان بين المادية والإسلام – وهو أول مؤلف له صدر عام (1951)، وقد صدرت الطبعة التاسعة عن دار الشروق عام 1988م، ويقع في 232 ص من القطع الكبير . وقد ردّ فيه على نظرية فرويد والنظرية الماركسية التي تجعل الإنسان آلة ومادة خاضعة للتحليل والتركيب، ونسوا دور العالم المعنوي والأخلاقي والديني، وعرض الكاتب لنظرة الإسلام نحو الإنسان وتحدث عن حقوقه في الحياة والتعلم والعمل ...

7- دراسات قرآنية: أعادت طباعته دار الشروق أكثر من 8 مرات، ويقع في 531 صفحة.

8- هل نحن مسلمون؟ - صدر عام (1959)، وأما الطبعة الأولى عن دار الشروق فقد صدرت عام 1988م، والطبعة السادسة عام 2002م، ويقع الكتاب في 228 ص من القطع الكبير.

9- شبهات حول الإسلام: طبع دار الشروق، ويقع في 228 ص.

10.في النفس والمجتمع: وهو كتاب لطيف طبعته دار الشروق.

11- حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية.

12- قبسات من الرسول – صدر عام (1957).

13- معركة التقاليد.

14- مذاهب فكرية معاصرة: صدرت الطبعة التاسعة عن دار الشروق عام 2001م ، ويقع الكتاب في 660 ص من القطع الكبير.

تناول فيه الدين والكنيسة: لمحة تاريخية، وتحريف الدين، وطغيان الكنيسة ورجال الدين، وفساد رجال الدين، الرهبانية وفضائح الأديرة، ومهزلة صكوك الغفران، ومحاكم التفتيش، ومساندة الكنيسة للظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

دور اليهود في إفساد أوربا، الديمقراطية، الشيوعية وتحدث تحت هذا العنوان عن المادية الجدلية، وهل المادة سيقت الفكر في الوجود، وقوانين المادة التي تحكم الطبيعة والبشر، والمادية التاريخية، وكيف تفسر الدين والأخلاق، وتحدث عن التفسير المادي للتاريخ، والمذاهب الاقتصادية بين النظرية والتطبيق، العلمانية، والعقلانية، القومية والوطنية الإنسانية الإلحاد الإسلام ومستقبل البشرية.

15- مغالطات: طبعته دار الشروق عام (2006)، ويقع في 93 ص.

16- مفاهيم ينبغي أن تصحح: طبع دار الشروق، ويقع في 388 ص.

17- كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟: الطبعة الأولى صدرت عن دار الشروق عام 1992م، ويقع الكتاب في 268 ص، من القطع الكبير.

وتناول فيه الشيخ محمد قطب عدة قضايا تتعلق بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، لماذا نعيد كتابة التاريخ ؟ الجاهلية، الإسلام، البعثة وصدر الإسلام، المدّ الإسلامي، بدء الانحسار، الصحوة الإسلامية، خيوط المستقبل.

18- لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهج حياة: وفيه رد واسع على الفكر الإرجائي.

19- دروس من محنة البوسنة والهرسك.

20- العلمانيون والإسلام.

21- هلم نخرج من ظلمات التيه.

22- واقعنا المعاصر: الطبعة الأولى صدرت في دار الشروق عام 1997م، ويقع الكتاب في 532 ص من القطع الكبير.

تناول فيه الموضوعات التالية: نظرة إلى الجيل الجديد، صدق الإيمان، وجدية الأخذ من الكتاب والسنة، وصدق الجهاد في سبيل الله، تحقيق معنى الأمة في صورته الحقيقية، تحقيق العدل الرباني في واقع الأرض، أخلاقيات لا إله إلا الله، الوفاء بالمواثيق، الحركة العلمية الإسلامية، الحركة الحضارية الإسلامية، خط الانحراف، آثار الانحراف، ثم تكلم عن التخلف العقدي، والعلمي ، والحضاري، والاقتصادي، والحربي، والفكري والثقافي، ثم تحدث الشيخ محمد قطب عن الغزو الصليبي ودور الحملة الفرنسية، ودور محمد علي باشا، ودور الاحتلال البريطاني وأدواته في الإفساد، ومناهج التعليم، وسائل الإعلام، قضية تحرير المرأة، مجال الفكر والأدب، مجال السياسة .

بروز الزعامات العلمانية وخلو الساحة من القيادة الدينية، استيراد النظم والمبادئ من أوربا، الانقلابات العسكرية واستخدام الاشتراكية لحرب الإسلام، قضية الحكم على الناس، منهج الحركة، السمع والطاعة، والقيادة المطلوبة، هل نتعلم في المدارس الجاهلية، وماذا نتقلد من الوظائف في المجتمع الجاهلي، وهل ترغب الناس في الإسلام بذكر محاسن النظام الإسلامي ؟ التطرف، نظرة إلى المستقبل.

23- قضية التنوير في العالم الإسلامي: الطبعة الأولى في دار الشروق – عام 1420ه / 1999م. ويقع الكتاب في / 108 ص، من القطع الكبير.

تناول فيه أمراض الأمة في العقيدة والسلوك، وتتجلى في التخلف العقدي، والأخلاقي، والحضاري، والعلمي، والاقتصادي، والحربي، والعسكري، والفكري.

ثم تحدث عن منهج التغيير في حركة التنوير.

وعدد أبرز منجزاتها على صعيد قضية تحرير المرأة، قضية حرية الفكر، الحرية السياسية، ..حصيلة التنوير في قرنين، والمستقبل للإسلام.

24- كيف ندعو الناس؟:

25- المسلمون والعولمة.

26- ركائز الإيمان: طبع دار الشروق، عام 2001م، ويقع في 452 ص.

27- لا يأتون بمثله!: طبع دار الشروق عام 2002م، ويقع الكتاب في 212 ص.

28- من قضايا الفكر الإسلامي المعاصر.

29- حول التفسير الإسلامي للتاريخ: رد فيه على التفسير المادي للتاريخ، وبين نظرية الإسلام حول الصراع التاريخي..

30- الجهاد الأفغاني ودلالاته.

31- دروس تربوية من القرآن الكريم.

32- حول تطبيق الشريعة.

33- المستشرقون والإسلام.

34- هذا هو الإسلام.

35- رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر.

36- مكانة التربية في العمل الإسلامي.

37- سخريات صغيرة.

38- الأطياف الأربعة – بالاشتراك.

39- مذاهب فكرية معاصرة.

40- ماذا يعطي الإسلام للبشرية.

وهناك العديد من المؤلفات والمقالات والأبحاث والمحاضرات القيمة التي تنتظر النشر.. منها:

1-أزمة فكر: وهي محاضرة صوتية من موقع إسلام ويب.

2-التيارات الفكرية: وهي محاضرة صوتية من موقع إسلام ويب.

3- المسلم المعاصر بين التيارات المعاصرة وهي محاضرة صوتية من موقع إسلام ويب.

4- واقعنا المعاصر: وهي محاضرة مصورة من موقع إسلام ويب.

5- محاضرة الجاهلية المعاصرة: من موقع اليوتيوب.

6- قضية تحرير المرأة: موقع إسلام ويب.

الإشراف على الرسائل العلمية:

كما أنه أشرف على العديد من الرسائل الجامعية، نذكر منها:

1-الولاء والبراء – سعيد القحطاني – رسالة ماجستير – جامعة أم القرى بمكة – إشراف محمد قطب.

2-ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي – سفر الحوالي – إشراف محمد قطب.

3-الأدلة على صدق النبوة – هدى عبد الكريم درويش – إشراف محمد قطب.

4-أبو الأعلى المودودي: ومنهاجه في الإصلاح والدعوة – د. صالح الرقب.

5- المدخل إلى ظلال القرآن – د. صلاح عبد الفتاح الخالدي – مناقشة محمد قطب.

6- العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة – سفر الحوالي.

7- الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر وآثارها في حياة الأمة – علي بخيت بن عبد الله الزهراني.

8- أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية والرد على الطوائف الضالة – علي بن نفيع العلياني.

9- الوثنية الحديثة وموقف الإسلام منها – يوسف الأحمد.

10- المجتمع الإسلامي المعاصر في صورته الواقعية وكيف ينبغي أن يكون – مصطفى النيجيري.

11-أثر الفكر الغربي في انحراف المجتمع المسلم في شبه القارة الهندية – خادم حسين إلهي بخش.

12- محمد إقبال وموقفه من الحضارة الغربية.

13- أبو الأعلى المودودي ومناهجه في الإصلاح والدعوة – صالح الرقب.

14- منهج الدعوة النبوية في المرحلة المكية – علي الحربي.

وتمتاز كتب الأستاذ محمد قطب التي تجاوزت الأربعين والتي لاقت استحسان القراء بسبب دقة معانيها ومتانة أسلوبها ولغتها، وبعدها عن مواطن الجدل والخلاف وتميزت أعماله بالابتكار والتجديد واستنباط الأفكار.

ولقد كان يعيد طباعة كتبه القديمة مرات ومرات، وكثيراً ما كان يراجع نفسه فيها، ويتراءى له من الأفكار ما قد يعاتب عليه نفسه.

انظر إلى ما كتبه في مقدمة الطبعة الرابعة، بعد عشرين سنة من الطبعة الأولى، لكتابه الأول (الإنسان بين المادية والإسلام). يقول - رحمه الله -:

"هذا الكتاب هو أول كتبي، ومن أحبها إلي!

إنه يمثل في نفسي خط الاهتداء إلى الإسلام!

ولقد عشته سنوات طويلة قبل كتابته بالفعل. عشته خواطر متفرقة، وتأملات متشعبة في النفس والحياة. ولكنها لم تتبلور، ولم تأخذ صورتها النهائية، إلا في أثناء كتابة الكتاب!

ولذلك أحسست وأنا أكتبه، أنني أجد نفسي! وأجد إسلامي واضح الصورة، مفصل القسمات!

ولقد كان مدخلي إليه هو دراسة النفس الإنسانيَّة. وما زال هذا أوسع مداخل البحث لدي. فأنا أشعر دائماً أن دراسة النفس الإنسانيَّة هي القاعدة التي نبني عليها معرفتنا وتصوراتنا، في كل ما يختص "بالإنسان" سواء كان أدباً وفنًاً، أو تاريخاً، أو سياسة، أو اقتصاداً، أو اجتماعاً، أو تربية وعلم نفس.. وأننا لا نستطيع أن نخوض في هذه المجالات بغير تصور سليم، ودراسة وافية للنفس الإنسانية.

وأيًاً كان الرأي، فهذا هو المدخل الخاص الذي دخلت منه إلى الدراسة الموضوعية في هذا الكتاب، وفي كتب كثيرة تالية.. وما زلت مقتنعاً بأنه يمكننا التوصل إلى كثير من الحقائق عن هذا الطريق!

ثم إن هذا الكتاب– في الوقت الذي تبلورت فيه أفكاري ومشاعري و"مدخلي" إلى الإسلام ذاته- كان في الحقيقة "مستودعاً" لكثير من الأفكار التالية التي تولدت عنه، فكانت امتداداً له أو بلورة أو تخصيصاً لما جاء فيه من موضوعات. وبهذه النظرة أنظر مثلاً إلى كتاب "شبهات حول الإسلام" و"في النفس والمجتمع" و"معركة التقاليد" و"منهج التربية الإسلامية" و"دراسات في النفس الإنسانية" و"التطور والثبات في حياة البشرية" وحتى "جاهلية القرن العشرين"!

لقد كانت كلها بذوراً محتواة في الكتاب، أو براعم تفتحت فيما بعد، وامتدت في شتى الاتجاهات..

وربما كان هذا كله تفسيراً للصلة النفسية التي تربطني بالكتاب!

غير أنه ينبغي لي أن أقول: إنني عند مراجعتي له من أجل هذه الطبعة – وتلك أول مراجعة حقيقية منذ كتبته أول مرة سنة 1951- وجدت أن هذه المدة المتطاولة من الزمن قد فعلت فعلها، ولا شك في طريقة تفكيري وفي موقفي من بعض قضايا الكتاب!

لقد وجدت مثلاً أنني أعطيت فرويد – والتفكير الغربي عامة- أكثر مما ينبغي من "التوقير العلمي"! وأن هذا التفكير الغربي– بما فيه فرويد بالذات- لا يستحق كل هذا التوقير، ولا كل هذه العناية بتفنيده! ولست أعني بذلك أنني عدلت عن منهج المناقشة الموضوعية لأية فكرة أو نظرية، بل هذا الذي ينبغي دائماً أن نفعله. ولكن المناقشة الموضوعية شيء و"التوقير" شيء آخر.. وأرى اليوم- بعد زيادة خبرتي بانحرافات الفكر الغربي، وبمخططات الإفساد التي تخطط لإفساد البشرية - أن ذلك الفكر يناقش- إذا لزم الأمر- مناقشة موضوعية، نعم، ولكن بغير الحفاوة والاحتفال الذي كان قبل عشرين سنة من الزمان! وأن الأجدر بنا أن نعرض حقائق الإسلام المشرقة الوضيئة، دون التفات لتلك الانحرافات!".

زواجه، وأسرته:

تزوج الأستاذ محمد قطب بعدما أفرج عنه، وبعدما تقدم به العمر ( تجاوز الخمسين) من دكتورة تعود أصولها إلى أسرة دمشقية عريقة، وأنجب ثلاثة أبناء بررة: أسامة، وعبد الرحمن، فضلاً عن ابنة واحدة ( ألاء) تخصصت في علم التاريخ.

ومن صفاته الشخصية يلاحظ عليه يلاحظ عليه التواضع الشديد، وإنكار الذات، رغم مكانته العلمية الكبيرة، ففي محاضرة علمية مصورة يخاطب الحضور وهم طلاب العلم في جامعة أم القرى فيقول: ( وإن كنت في كل مرة أجد منكم هذه الحفاوة أحس بالحرج، فأرجو ألا تكونوا مخدوعين في محاضركم، وأرجو أن أكون عند حسن الظن.

قالوا عن الأستاذ محمد قطب:

وصفه المستشار عبد الله العقيل بقوله: (لم تكن معرفتي أول الأمر بالأخ محمد قطب عميقة كمعرفتي بأخيه الشهيد سيد قطب، الذي كنا نكثر التردد عليه في بيته بحلوان أثناء الدراسة بالأزهر مع إخواننا طلبة البعوث من العراق وسورية وفلسطين والأردن والسودان والبحرين وغيرها، ونستفيد من توجيهاته وآرائه في مختلف القضايا التي تهم الشباب المسلم، ولكن بعد سنوات حين خرج من السجن، واشترى شقة في نفس البناية التي أمتلك فيها شقة بمنطقة (ألماظة) بمصر الجديدة، وهي للحاجة زينب الغزالي، وكان الواسطة بالشراء لي وله هو الشهيد محمد كمال السنانيري زوج الأخت أمينة قطب، رحم الله الجميع.

وقد أتاح لنا الجوار في السكن فترة الصيف كثرة اللقاءات والحوارات والتعارف بين العائلات، وكان للحاجة زينب الغزالي دور كبير في الدعوة إلى الله، فكانت كخلية النحل التي لا تهدأ ولا ينقطع بيتها من الزوار ليلاً ونهاراً لبحث قضايا الإسلام والمسلمين.

وحين عملت بمكة المكرمة برابطة العالم الإسلامي كثرت الزيارات بيني وبين الأخ محمد قطب، وكانت جلساتنا محورها الأساسي دراسة حال المسلمين في العالم ومخططات أعداء الإسلام في الشرق والغرب لوأد الصحوة الإسلامية وتصفية العاملين للإسلام، وتجهيل عامة المسلمين، وإبعادهم عن الأهداف الحقيقية لنصرة الإسلام، ومنهج القرآن والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة.

وكذا تكررت اللقاءات بالأستاذ محمد قطب داخل المملكة وخارجها، حيث كانت لقاءاتنا مع الأستاذ أبي الأعلى المودودي والدكتور خورشيد أحمد في لندن، ومع الدكتور محمد حميد الله في باريس، وكذلك في تركيا مع الدكتور نجم الدين أربكان، وتلامذته العاملين في الدعوة الإسلامية بتركيا.

الجوائز التي حصل عليها:

وأثناء عمله في التدريس في السعودية حصل الأستاذ محمد قطب على جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية في سنة 1988م / 1408ه تقديراً لجهوده المتميزة في تقديم وجهة نظر إسلامية تربوية قائمة على الكتاب والسنة، ومنح الجائزة على جهوده في كتاب ( منهج التربية الإسلامية: بجزئيه النظرية والتطبيق)، والذي يعتبر من أفضل كتب التربية الإسلامية في العصر الحديث.

حصل على الجائزة بالاشتراك مع الدكتور الداعية التركي مقداد يالجن حفظه الله.    

وعندما تسلم الشيخ محمد قطب حصته من الجائزة تبرع بها للجهاد الأفغاني، ولهيئة الإغاثة الإسلامية.

مشاركاته في المؤتمرات والندوات الدولية:

وقد شارك في العديد من المتمرات الإسلامية، وألقى العديد من الأبحاث وزار العديد من الدول العربية والإسلامية، حيث كان يواظب على حضور ملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر، وساهم مع العديد من العلماء في إصلاح ذات البين بين المجاهدين الأفغاني، وكان معه الشيخ عبد المجيد الزنداني، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وعبد المجيد ذنيبات، كما ساهم في تقريب وجهات النظر بين إخوان الأمس في السودان: عمر البشير، وحسن الترابي ..وغيرها .

جهوده في الدعوة والإصلاح:

قدّم الأستاذ محمد قطب الفكر الإسلامي بأسلوب دقيق رشيق، وكان صاحب وجهات نظر مستقلة متميزة عن طروحات معاصريه، يعتمد على التربية القائمة على منهاج النبوة، والعناية بالنفس الإنسانية في عملية الإصلاح والتغيير.

عمل أكاديمياً وأشرف على أبحاث جامعية، وألف عشرات الكتب، وكان له كتابات أيضاً في مجال الأدب، واستهدفت كتاباته توعية المجتمع الإسلامي.

رأى مشاركة الإسلاميين في العملية السياسية عبث لا يؤدي إلى نتيجة، وتفكير ساذج مهما كانت مبرراته، وينطوي على مزالق خطيرة تصيب الدعوة الإسلامية في الصميم ويعوقها كثيراً بالرغم مما يبدو لأول وهلة أن هذه المشاركة تمكن للدعوة في التربية وتعجل لها الخطوات.

ويحدد المزالق التي تترتب على مشاركة الإسلاميين في العملية السياسية في ثلاث:

-المزلق العقائدي: حيث لا يجوز للمسلم من زاوية العقيدة أن يشرع في مجلس بغير ما أنزل الله ويعلن بسلوكه العملي في كل مناسبة أنه يرفض التحاكم بغير شريعة الله.

-ومزلق تمييع القضية بالنسبة للجماهير، وفي الوقت الذي يقال فيه في كل مناسبة أن الحكم بغير ما أنزل الله باطل وأنه لا شرعية إلا للحكم الذي يحكم بما أنزل الله. ترى الجماهير أن هؤلاء الذين يقولون لها ذلك يشاركون فيما يدعون إليه الجماهير بعدم المشاركة.

ولهذا لا نتوقع من الجماهير أن تمتنع عن المشاركة في كل حكم غير حكم الله، وهي ترى أن الإسلاميين يشاركون فيه.

-والمزلق الثالث: مزلق الوقوع في اللعبة السياسية: يقرر الأستاذ محمد قطب أن الخاسر في اللعبة السياسية هم الإسلاميين، والرابحون هم أعداء الإسلام الذين ينظفون سمعتهم أمام الجماهير بتعاون الإسلاميين معهم، أو اشتراكهم معهم في أي أمر من الأمور، أو بتمييع قضية الإسلاميين في نظر الجماهير، وزوال تميزهم في الساحة.

وينتهي محمد قطب إلى القول بأن من المفروض على الإسلاميين ألا يشاركوا في جاهلية السياسة من حولهم، وأن يعرف الناس عنهم أنهم أصحاب قضية أعلى وأشرف من كل التشكيلات السياسية الأخرى التي تريد الحياة الدنيا وحدها، وتتصارع على متاع الأرض، ولا تعرف في سياستها الأخلاق الإسلامية، ولا المعاني الإسلامية فضلاً عن مناداتها بالشعارات الجاهلية وإعراضها عن الشريعة.

ونقل الأستاذ محمد المجذوب أنّ محمد قطب نبّه في كتبه إلى خطر الصدام مع الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم العربي قبل القدرة عليه، وقبل أن يفهم الناس ـ المحكومون بهذه الأنظمة ـ معني كلمة التوحيد وضرورة الحكم بما أنزل الله، واستدل على ذلك بقوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين).

وأنّه قال: إن قيادات الجماعة الإسلامية كانت تفتقد إلى الوعي والخبرة التي تمكنها من إدراك خطر التورط في مواجهة مع النظام السياسي.

ورأى قطب أن موقف الغرب من الإسلام هو موقف صليبي واضح، وما يقول عنه الغرب: "إنه تسامح مع الإسلام "، إنما هو في الحقيقة مجرد شعارات فارغة، وتوقع أن تكون أوضاع الأقليات الإسلامية في الغرب ـ وأمريكا خاصة ـ في منتهى الصعوبة والخطورة، ونبه المسلمين هناك للاستعداد للأخطر والأسوأ.

وتصدى في مؤلّفاته ومحاضراته لتصحيح بعض المفاهيم الإسلامية، وذلك بردها إلى صورتها الأولى المستمدة من القرآن الكريم وسنة رسول الله (ص) مثل: مفهوم لا إله إلا الله، والعبادة، والقضاء والقدر، والدنيا والآخرة، والحضارة .  

موقف الشيخ محمد قطب من الغزو الفكري:

كتب الباحث نافذ حسين حسن البواب رسالة ماجستير في العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية بغزة 2017م، تناولت الدراسة موقف الشيخ محمد قطب من الغزو الفكري، كالتغريب وما تفرع منه من أفكار، كالعلمانية والقومية، والديمقراطية والعقلانية وبعض القضايا المثارة حول المرأة، ثم الفلسفات الإلحادية، ومن ثم قام الشيخ بالرد عليها ودحضها.

وأهم نتائج الدراسة:

1-معرفة مكانة هذه الشخصية الإسلامية الكبيرة، واكتشاف حجمها العلمي.

2-معرفة جهود الشيخ الكبيرة في محاربة الأفكار والمذاهب التي كانت سائدة في عصره ...

3-ومعرفة أن المنهج الوحيد للنجاة في الدنيا والآخرة، هو التمسك بالعقيدة الإسلامية الصحيحة.

وأهم توصيات الدراسة:

1-دراسة فكر الشيخ محمد قطب بشكل موسع، والعمل على نشر كتبه بين طلبة العلم.

2-عمل الأبحاث عن كل فن من فنون التي تناولها الشيخ، كل على حدة، ككلامه عن المذاهب الفكرية والقومية وتحرير المرأة وقضايا الإلحاد وغيرها، حيث يحتاج كل منها إلى رسالة وبحث خاص مستقل به للكتابة فيه.

3-العمل على وضع مختصرات لكتب الشيخ، لتسهل قراءتها والبحث فيها.

الجانب العقدي عند الشيخ محمد قطب:

عرف الشيخ محمد قطب العقيدة عدة تعاريف منها:

إن العقيدة هي لا إله إلا الله، وأن لا نعبد إلا الله، ولا إله غيره.

وهي الالتزام بما أنزل الله، وما أنزل الله، يشمل الحياة كلها بجميع جوانبها.

وهي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وما يقتضيه ذلك في حياة الإنسان اعتقاداً وفكراً وسلوكاً ..وليس حصرها في مجرد التصديق للنجاة في الآخرة، والإقرار اللفظي للنجاة في الدنيا .

بمعنى الإيمان بوجود الله ووحدانيته، وبمعنى العبادة لله وإخلاص الدين له .

مما سبق من تعريفات للعقيدة لا أرى اختلافاً بينها وبين ما عرفها السلف، ..

وأركان العقيدة عند الشيخ محمد قطب هي:

الإيمان بالله، فيدعو إلى توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وتوحيد العبادة لله، وتوحيد الحاكمية لله، وتطبيق شريعة الله .

والإيمان بالملائكة، والكتب السماوية، والإيمان بالرسل، وباليوم الآخر .  فالعقيدة التي شرحها الشيخ هي عقيدة أهل السنة والجماعة .

موقفه من الصوفية:

كثيراً ما تكلم الشيخ عن الفكر الصوفي، وتغلغله في الأمة الإسلامية وخاصة مع بداية الخلافة العباسية حتى نهايتها، وكان له الأثر السلبي في ضعف الأمة، وانتشار البدع والخرافات، ولكن الشيخ استثنى الصوفية الحقيقية، والتي كان منهم الكثير من المجاهدين والدعاة الذين نشروا الإسلام في آسيا وأفريقيا، والتي لم يصل إليها غيرهم.

ومن السلبيات التي ذكرها الشيخ محمد قطب للصوفية:

1-الرهبانية التي أحدثوها في الإسلام، كما أحدثت النصارى الرهبانية في العصور الوسطى.

2-الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما غلت النصارى في عيسى صلى الله عليه وسلم.

3-التعلق بالخوارق سواء في قضاء الحاجات، أو شفاء الأمراض، أو غيرها من الأمور، بدلاً من اتخاذ الأسباب مع التوكل الحق على الله.

4-الانصراف عن العلم الدنيوي من طب وفلك ورياضيات؛ لأنه بفهمهم متعلق بالدنيا الفانية.

5-الانصراف عن المشي في مناكب الأرض والسعي وراء الرزق، والاكتفاء بالكفاف.

6-الانصراف عن مصارعة الباطل ومحاولة إزهاقه، لأن الله قد أقامهم – بزعمهم – فيما أراد، ولو أراد غير ذلك لكان، وحين يريد فإنه سيغير من عنده، ويخلق الأسباب.

وكانت النتيجة كما يقول الشيخ محمد قطب: هي ما أصاب العالم الإسلامي من الفقر والجهل والمرض والضعف والتخلف في جميع الميادين، ولا يستقيم أمر الدين على هذا النحو، ولا يستقيم حال الأمة كذلك، ولا تستطيع أن تؤدي رسالتها الكبرى التي ناطها الله بها، وهي أن تكون هادية ورائدة لكل البشرية.

الفكر الإرجائي كما يراه الشيخ محمد قطب:

وهو الفكر الذي يخرج العمل من مقتضى الإيمان، والذي يقول: الإيمان هو التصديق، أو هو التصديق والإقرار، وليس العمل داخلاً في مقتضى الإيمان.

وهذا الفكر لا يقل خطورة عن التصوف السلبي، فالإيمان قول وعمل واعتقاد، والفكر الإرجائي قد أدى إلى انحراف عقدي، وتصور للدين غير صحيح، وسلوك غير صحيح، فزاد تفلت الناس من التكاليف بغير حرج في صدورهم، لأنهم يعتقدون أنهم مؤمنون ما داموا مصدقين بالقلب ومقرين باللسان.

أثر العقيدة على حياة الإنسانية:

بين الشيخ محمد قطب أثر العقيدة على الحياة الإنسانية، فعددها:

تعمل على تعميق الشعور بتقوى الله وخشيته، والخوف من حسابه يوم القيامة.

تعمل على تقرير مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يترتب عليه منع انتشار الفساد في الأرض.

تعمل على تقرير مبدأ التكافل الاجتماعي، والمحافظة على الأخلاق في المجتمع المسلم.

تعمل على تطبيق العدل الرباني والتسامح الديني مع الطوائف غير المسلمة.

كيد رخيص:

واستمراراً لمسلسل المحن الذي تعرض له الأستاذ محمد قطب أراد أناس من المملكة أن يخرجوه منها، مع من خرج من الإخوان، ولكن كثيرين توسطوا له، وحققوا له ما أراد، من الإقامة والاستقرار بمكة المكرمة، دون أن يمارس أي نشاط، فوافقوا على ذلك فبقي بها، حتى وافاه الأجل وهو فيها {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11].

كعادة تيار الجامي والمدخلي من تشويه صورة رموز العمل الإسلامي وإسقاطهم حتى لا يتأثر بهم الناس ويفقدوا الزعامة في احتكار التوجيه الديني للناس فبعد خبر وفاة الشيخ محمد قطب وبعد الرثاء الكبير له من الأمة للفقيد لم يتحمل هؤلاء القوم كالعادة وأحسوا بذهاب البوصلة عنهم مما يعانونه من عقد نفسية وسلوكية فقاموا بالهجوم على الشيخ محمد قطب وفكره ولم يراعوا حتى حرمة الميت!

ليس هذا هم المهم فالعجيب أن الشيخ محمد الجامي في كتابه (حقيقة الديمقراطية) يحيل إلى أحد كتب محمد قطب، ويثني عليه، وفي كتاب آخر يأتي بمقولات لمحمد قطب وسيد قطب، فالعجب كل العجب من تناقض هؤلاء الذين يشك المسلم المخلص في ولائهم السياسي فهم يبدون كأفراخ للماسونية العالمية وأذناب لها .

اللهم ارحم آل قطب الأبرار، وارحم محمد قطب واغفر له، وعافه واعف عنه، وتقبل منه، واكتبه في عبادك المرضيين، وعلمائك العاملين، ودعاتك الصادقين، وأسكنه الفردوس الأعلى، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين.

وفاته:

توفي الشيخ العلامة محمد قطب - رحمه الله- في مستشفى المركز الطبي الدولي بجدة، بمدينة جدّة في السعودية في عقب صلاة عشاء يوم السبت 5 جمادى الآخرة 1435ه / الموافق 5/4/2014م، وصلي عليه في الحرم المكي، وشيعه جمع غفير من الدعاة والمشايخ وعدد من الأكاديميين بجامعة أم القرى وأساتذة الجامعات وتلاميذ الراحل، وودع جثمانه في موكب مهيب إلى مقابر المعلاّة بالعدل، حيث دفن بعد صلاة العشاء بمدافن مكة المكرمة.

وجاءت هذه الوفاة بعد حياة طويلة، من العلم والمعاناة والصبر على تحمل الأذى والظلم والقهر، وهذه الحياة مليئة بالأفكار النيرة، والعلم الغزير الذي تنوع بين علم يبحر في القرآن، وعلم آخر في مناهج الدعوة، وثالث في تفنيد المذاهب الفكرية المعاصرة، ورابع في رد شبهات العلمانيين والملحدين ودعاة التقريب، وغيرها من العلوم الأخرى، ....

أصداء الرحيل:

الأمة المسلمة تودع علامة الفكر والدعوة والتربية:

وكتب د. يوسف القرضاوي يقول:

ودَّع العالم الإسلامي، وودعت الأمة الإسلامية الكبرى في مشارق الأرض ومغاربها الجمعة (رابع جمادى الآخرة سنة 1435هـ - رابع أبريل سنة 2014م): قطبًا من أقطابها، وعلمًا من أعلامها، وقلمًا من أقلامها، ونجمًا من نجومها، وَهَبَ عمره من أوله إلى آخره لها ولدينها، ودعوتها وثقافتها، وحضارتها وتراثها، وهو الداعية الكبير، والكاتب القدير، المصري وطنا، الإسلامي هُوية، العالمي امتدادا: الأستاذ محمد قطب، الذي صلى الناس عليه عشاء في الحرم المكي، وصليت عليه وإخواني في قطر.

بعد حياة حافلة راضية، ثائرة على الطاغوت، مؤمنة بالله، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]. قضى هذه الحياة في خدمة الفكرة الإسلامية والدعوة الإسلامية، التي بها يعيش، ولها يحيا، ومن أجلها يدرِّس ويحاضر، ويؤلف ويكتب، ويدعو ويربِّي، حتى لقي ربه راضيًا مرضيًا، بمكة المكرمة بجوار بيت الله الحرام.

ولقد لقي ما لقي، وقاسى ما قاسى، في سبيل دعوته وفكرته؛ دخل السجن، وسُقِي المر، وتحمَّل الأذى، وتلقى نبأ قتل الظالمين أخاه سيد قطب صاحب (العدالة) و(الظلال) و(خصائص التصور الإسلامي ومقوماته)، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وردد ما قاله يعقوب: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18].

وتلقى بعد ذلك نبأ وفاة زوج شقيقته كمال السنانيري، الذي سيق إلى معتقلات السادات، وتوفي في بداية عهد مبارك، في شبهة إيذاء وتعذيب، أدى إلى نهاية حياته رحمه الله.

كان محمد قطب آخر عضو في أسرة قطب إبراهيم، وهم أطياف أربعة: سيد، ومحمد، وأمينة، ومديحة. وكانوا كلهم من أصحاب القلم، ومن أهل النور والدعوة إلى الإسلام، وإنا لندعو الله أن يتقبلهم في الصالحين.

آل قطب كلهم برجالهم ونسائهم: أسرة أدب ودعوة، وثقافة وفكر، وقد كان موطنهم بالصعيد، فانتقلوا إلى القاهرة، ومن القاهرة انتقلوا بفكرهم ودعوتهم إلى العالم العربي، بل العالم الإسلامي، بل إلى كل العالم.

وكان سيد قطب في بداية حياته من مدرسة العقاد، في الأدب والنقد، ولم يكن من أنصار الرافعي، المعروف بانتمائه للإسلام.

وكان محمد قطب في أول أمره مشغولًا بالأدب والفن، حتى انتقل الرجلان معا إلى الإسلام، سيد قطب في كتابه (التصوير الفني للقرآن) وكتابه الآخر (مشاهد القيامة في القرآن)، وكان الكتابان فتحًا جديدًا في اتجاههما الفريد. ثم دخل الدعوة بكتابه ( العدالة الاجتماعية في الإسلام) وبدأ محمد قطب يوجه قلمه وفكره، ليكتب عن الإسلام.

كان أول كتاب قدمه إلى عالَم المؤلفين هو: (الإنسان بين المادية والإسلام). فدّل على أصالةٍ في فكره، وتمكُّن في علمٍه، ونبوغٍ في مواهبه.

واستمر تدفقه في عالم التأليف، يمتع المسلمين في بلاد العرب، والعالم الإسلامي، وعالم الغرب والشرق، بكتبه القيمة، التي تقدم البيّنات، وترد على الشبهات، وتقاوم الباطل، وتنشر الحق، فهو من الطائفة المنصورة، التي شهد لها محمد صلى الله عليه وسلم، بأنها التي تظل قائمة على الحق، لا يضرها من خالفها، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وهي التي قال الله فيها: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181].

قدم من أول ما قدم (شبهات حول الإسلام)، و(منهج التربية الإسلامية)، و(منهج الفن الإسلامي)، و(جاهلية القرن العشرين). ويعني بها جاهلية الغرب التي زيف بها الحقائق، وروج بها الأباطيل، وقدم للناس حلوى مسمومة، ولكنها في عُلَب جميلة، وكان عندنا نحن جاهلية القرن الرابع عشر، ولكنها جاهلية مقلِّدة، اتخذت الغرب ربًّا، فاتخذ أهلها  له عبيدًا.

وما زال محمد قطب، وخصوصًا بعد فقد شقيقه الأكبر سيد قطب، الذي أصر عبد الناصر على إعدامه رغم توسط المتوسطين، وشفاعة الشافعين له من زعماء العالم العربي، فلقي ربه شهيدًا، كما قال الله {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140].

وظل أخوه محمد يحمل الراية، ويمد المكتبة الإسلامية بكتبه الإسلامية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، وكلها قذائف في وجه الباطل، وكواكب في سماء الحق، ويمد الجامعات بما يمد به شبابها من فقه وثقافة، حتى استقرَّ به المقام في مكة -حفظها الله- يدرِّس لشبابها، ويهيئهم لحمل الماجستير والدكتوراه، وقد تتلمذ عليه كثيرون، ودانوا لفكره.

وقد كنت، وكثيرون مثلي، ننتظر ظهور كتبه الجديدة، فنتلقفها لنقرأها وندرسها ونقتبس منها، ومنها: (واقعنا المعاصر)، و(مذاهب فكرية معاصرة)، و(كيف نكتب التاريخ الإسلامي)، و(دراسات قرآنية)، و(حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية)، و(مفاهيم ينبغي أن تصحح) وغيرها.

ولقد كان يعيد طباعة كتبه القديمة مرات ومرات، وكثيرًا ما كان يراجع نفسه فيها، ويتراءى له من الأفكار ما قد يعاتب عليه نفسه. انظر إلى ما كتبه في مقدمة الطبعة الرابعة، بعد عشرين سنة من الطبعة الأولى، لكتابه الأول (الإنسان بين المادية والإسلام).يقول رحمه الله:

"هذا الكتاب هو أول كتبي، ومن أحبها إلي!

إنه يمثل في نفسي خط الاهتداء إلى الإسلام!

ولقد عشته سنوات طويلة قبل كتابته بالفعل. عشته خواطر متفرقة، وتأملات متشعبة في النفس والحياة. ولكنها لم تتبلور، ولم تأخذ صورتها النهائية، إلا في أثناء كتابة الكتاب!

ولذلك أحسست وأنا أكتبه، أنني أجد نفسي! وأجد إسلامي واضح الصورة، مفصل القسمات!

ولقد كان مدخلي إليه هو دراسة النفس الإنسانيَّة. وما زال هذا أوسع مداخل البحث لدي. فأنا أشعر دائمًا أن دراسة النفس الإنسانيَّة هي القاعدة التي نبني عليها معرفتنا وتصوراتنا، في كل ما يختص "بالإنسان" سواء كان أدبًا وفنًّا، أو تاريخًا، أو سياسة، أو اقتصادًا، أو اجتماعًا، أو تربية وعلم نفس.. وأننا لا نستطيع أن نخوض في هذه المجالات بغير تصور سليم، ودراسة وافية للنفس الإنسانية.

وأيًّا كان الرأي، فهذا هو المدخل الخاص الذي دخلت منه إلى الدراسة الموضوعية في هذا الكتاب، وفي كتب كثيرة تالية.. وما زلت مقتنعًا بأنه يمكننا التوصل إلى كثير من الحقائق عن هذا الطريق!

ثم إن هذا الكتاب– في الوقت الذي تبلورت فيه أفكاري ومشاعري و"مدخلي" إلى الإسلام ذاته- كان في الحقيقة "مستودعًا" لكثير من الأفكار التالية التي تولدت عنه، فكانت امتدادًا له أو بلورة أو تخصيصًا لما جاء فيه من موضوعات. وبهذه النظرة أنظر مثلًا إلى كتاب "شبهات حول الإسلام" و"في النفس والمجتمع" و"معركة التقاليد" و"منهج التربية الإسلامية" و"دراسات في النفس الإنسانية" و"التطور والثبات في حياة البشرية" وحتى "جاهلية القرن العشرين"!

لقد كانت كلها بذورًا محتواة في الكتاب، أو براعم تفتحت فيما بعد، وامتدت في شتى الاتجاهات..

وربما كان هذا كله تفسيرًا للصلة النفسية التي تربطني بالكتاب!

غير أنه ينبغي لي أن أقول: إنني عند مراجعتي له من أجل هذه الطبعة– وتلك أول مراجعة حقيقية منذ كتبته أول مرة سنة 1951- وجدت أن هذه المدة المتطاولة من الزمن قد فعلت فعلها، ولا شك في طريقة تفكيري وفي موقفي من بعض قضايا الكتاب!

لقد وجدت مثلًا أنني أعطيت فرويد–والتفكير الغربي عامة- أكثر مما ينبغي من "التوقير العلمي"! وأن هذا التفكير الغربي–بما فيه فرويد بالذات- لا يستحق كل هذا التوقير، ولا كل هذه العناية بتفنيده! ولست أعني بذلك أنني عدلت عن منهج المناقشة الموضوعية لأية فكرة أو نظرية. بل هذا الذي ينبغي دائمًا أن نفعله. ولكن المناقشة الموضوعية شيء و"التوقير" شيء آخر.. وأرى اليوم– بعد زيادة خبرتي بانحرافات الفكر الغربي، وبمخططات الإفساد التي تخطط لإفساد البشرية– أن ذلك الفكر يناقش- إذا لزم الأمر- مناقشة موضوعية، نعم، ولكن بغير الحفاوة والاحتفال الذي كان قبل عشرين سنة من الزمان! وأن الأجدر بنا أن نعرض حقائق الإسلام المشرقة الوضيئة، دون التفات لتلك الانحرافات!".

ومن أهم كتبه (منهج التربية الإسلامية) بجزئيه، وقد نال على تأليفه لهذا الكتاب جائزة الملك فيصل، وهو جدير بذلك.

إن محمد قطب- بكتبه المتنوعة في موضوعاتها وموادها، أو في محاضراته الشائقة المركزة وفي إنتاجه الغزير- أصبح يمثِّل مدرسة إسلامية في الدعوة والتربية، والحوار والفكر الإسلامي، الذي يتميز بالأسلوب النيِّر، الذي يخاطب العقل، ويحرك العاطفة، ويحاور الآخر، ويرد على الغرب، كما يرد على المخالفين، ويثير في الشباب اعتزازًا خالصًا للإسلام، وتكاتفا عليه، وجهادا في سبيله، ورفضا لما سواه.

لا أريد أن أظهر ما فارق به محمد قطب غيره، فليس هذا وقت الممايزة ولا المفاضلة، حسبنا أن الرجل كان ابن الإسلام في كل ما يصدر عنه، لا يتبنى فكرا غيره، ولا يشرك به دينا ولا مذهبا ولا فلسفة لمخلوق، كبر أو صغر، شرقيا كان أو غربيا، بل رأيناه فيما طبعه أخيرا من كتبه الأولى يعتذر عما كان فيه من توقير زائد لبعض رجالات الغرب الذين رآهم حادوا عن سواء السبيل مثل (فرويد) في كتابه الأول (الإنسان بين المادية والإسلام). وهو كلما اتسعت ثقافته وامتدت وتعمقت، ازداد إيمانا بصدقية الإسلام، وأحقيته بأن يسود ويقود؛ لأنه كلمة الله الوحيدة في هذا الوجود، وكلمة الله هي العليا.

تزوج الأستاذ محمد قطب بعدما تقدم به العمر من أسرة دمشقية عريقة، وأنجب ثلاثة أبناء بررة: أسامة، وعبد الرحمن، وابنته المتخصصة في علم التاريخ.

وبقي رغم طول مكثه في المملكة يحمل الجنسية المصرية، إلى أن أنتقل إلى رحمة الله.

انتقل مدرسًا في قسم الدراسات العليا بجامعة الملك عبد العزيز بمكة، والتي سميت بعدُ بجامعة (أم القرى)، واستفاد منه طلابه، وتعلقوا به، وأنزلته المملكة آنذاك منزلته، فكان محاضرًا في كل الجامعات وشتى المناسبات، وحظيت كتبه بالشهرة والانتشار، وطلب منه وزير التعليم العالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ بإشارة من الأستاذ محمد المبارك أن يكتب (منهاج التوحيد) لطلاب الثانوية، فألف كتاب (التوحيد) بأجزائه الثلاثة، وقرأه ألوف الطلاب وانتفعوا به، ثم غُيِّر المنهاج إلى أسلوب آخر، وكاتب آخر. وقد أخرج فيما بعد كتبه التي كتبها في منهج التوحيد إلى كتاب سماه: "ركائز الإيمان"، وهو من كتبه التي يستفاد منها كسائر كتبه.

وبعض الشباب السعودي الذين تخرجوا على يديه، وساروا على دربه، وحملوا فكره الحر، ودافعوا عنه، وجادلوا رجال المملكة، بما آمنوا به، وأشرف على بعض رسائلهم، ولا يعني إشرافه الموافقة على كل ما كتبوه، بل الطالب هو الذي يحمل مسؤولية ما سطره بقلمه، واختاره بفكره؛ ربما كان موقف هؤلاء الطلبة وتشددهم أحيانا، هو الذي خوف بعض العلماء على فكرهم التقليدي الموروث من الشيخ محمد وأمثاله، ولعل هذا هو الذي سول لبعض غلاة المشايخ والعلمانيين أن يطلب إبعاده عن المملكة.

وكم دُعي محمد قطب إلى محاضرات في بلاد شتى: في بلاد الخليج ومنها قطر، وفي بلاد العرب وغيرها، يستمع إليها العلماء والمفكرون والدعاة، ويستمع إليها المثقفون، والشباب والشابات خاصة، فتؤثر محاضراته في أفكارهم وتنورها، وتؤثر في عواطفهم وتوجهها، وتؤثر في عزائمهم وتحفزها.

وقد دعوته أكثر من مرة إلى جامعة قطر، وإلى كلية الشريعة فيها، فاستجاب لدعوتنا عدة مرات، وألقى محاضرات جامعية، ومحاضرات عامة، واستفاد الطلبة، واستفاد الجمهور، وسعد العلماء والدعاة والمهتمون بالشأن الإسلامي بالجلوس والمحادثة والمناقشة معه. وكم شعرت بالسعادة حين دعوته في بيتي مع الإخوة، فاستجاب، وملأ بيتنا سرورا وبهجة.

وقد دعوته لينتقل إلى قطر، ليعمل فيها، ويستقر بها، وكل أهل قطر يرحب به، وكم حاول معه صديقنا وصديقه الدكتور عبد الرحمن بن عمير النعيمي، ولكنه رفض أن يترك جوار المسجد الحرام الذي جعله الله قياما للناس وأمنا.

وقد أراد أناس من المملكة أن يخرجوه منها، مع من خرج من الإخوان، ولكن كثيرين توسطوا له، وحققوا له ما أراد، من الإقامة والاستقرار بمكة المكرمة، دون أن يمارس أي نشاط، فوافقوا على ذلك فبقي بها، حتى وافاه الأجل وهو فيها {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11].

كان محمد قطب يعرف أن لي ملاحظات على كتابات شقيقه الشهيد سيد قطب، وما يضره هذا؛ لأن ما قاله إنما قاله عن اجتهاد، والمجتهد – وإن أخطأ- مأجور على اجتهاده أجرا واحدا. وربما كان لي ملاحظات على بعض كتبه هو، ولكنه لم يكلمني قط في ذلك، ولم أكلمه، لأننا نتحدث في المتفق عليه، لا في المختلف فيه، وهو يعلم أن اختلاف الناس في بعض هذه الأمور وارد، وأن لكلٍّ فكرَه، ولا حرج عليه فيما اجتهد فيه، وكل مجتهد يعتز باجتهاده، وهذا من حقه، وإنما المهم هنا هو النية "وإنما لكل امرئ ما نوى".

وكنت لقيته عدة مرات في زياراتي إلى مكة المكرمة وجدة، وكم دعاني أن أزوره في بيته في مكة المكرمة، ووعدته بذلك، وكم تمنيته والله، ولكن كل زياراتي في مكة كانت سريعة، ولم يتحقق لي ما رجاه مني، فأرجو أن يسعني صفحه، فما له مني غير المودة والتقدير والحب في الله، وصدق الله إذ يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].

وكنت على تواصل معه، ولما بلغني دخوله إلى المستشفى في رمضان 1423، إثر نوبة قلبية، اتصلت به، واطمأننت على صحته، وبثثته حبي وتقديري ودعائي الخالص.

كان محمد قطب في عالم الدعوة والثقافة الإسلامية في دنيا المسلمين: نورًا يهدي، وغيثًا يُحيي، وروحًا يسري، وصوتًا يدوِّي، وعزمًا يقوّي، وشمسًا تشرق، وشهابًا يثقب ويحرق، ولكنه لا يحرق إلا الشياطين.

اللهم ارحم آل قطب الأبرار، وارحم محمد قطب واغفر له، وعافه واعف عنه، وتقبل منه، واكتبه في عبادك المرضيين، وعلمائك العاملين، ودعاتك الصادقين، وأسكنه الفردوس الأعلى، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين.

السبت 5 جمادى الآخرة 1435 - 05 أبريل 2014

رابطة العلماء السوريين تعزي الأمة الإسلامية بوفاة علامة الفكر والدعوة والتربية الأستاذ الكبير محمد قطب:

الأربعاء 9 جمادى الآخرة 1435 - 9 أبريل 2014 م:

تتقدم رابطة العلماء السوريين للأمة الإسلامية الكبرى في مشارق الأرض ومغاربها بأصدق التعازي بوفاة العالم المفكر الكبير والداعية  القدير والمجاهد بفكره وقلمه الأستاذ محد قطب الذي وافته المنية صباح يوم    الجمعة (رابع جمادى الآخرة سنة 1435هـ رابع نيسان سنة 2014م) عن قرابة مائة عام ،وصلى الناس عليه عشاء في الحرم المكي الشريف الذي جاوره لأكثر من أربعين عاما مدرسا  ومحاضرا وكاتبا منقطعا في محراب العلم والفكر والدعوة إلى الله على بصيرة.

لقد ودعت الأمة بوفاته قطبًا من أقطابها، وعلمًا من أعلامها، وقلمًا من أقلامها، ونجمًا من نجومها، وَهَبَ عمره من أوله إلى آخره لها ولدينها، ودعوتها وثقافتها، وحضارتها وتراثها.

ودعت الأمة هذا المفكر الكبير بعد حياة حافلة في خدمة الفكرة الإسلامية والدعوة الإسلامية، ولقد لقي ما لقي، وقاسى ما قاسى، في سبيل دعوته وفكرته؛ دخل السجن، وسُقِي المر، وتحمَّل الأذى، وتلقى نبأ قتل الظالمين أخاه سيد قطب صاحب (العدالة) و(الظلال) و(خصائص التصور الإسلامي ومقوماته)، بصبر جميل، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وردد ما قاله يعقوب: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف:18].

كان محمد قطب آخر عضو في أسرة قطب إبراهيم، وهم أطياف أربعة: سيد، ومحمد، وأمينة، وحميدة. وكانوا كلهم من أصحاب القلم، ومن أهل الفكر والدعوة إلى الإسلام.

كان أول كتاب قدمه في عالم الفكر والتأليف هو: (الإنسان بين المادية والإسلام). فدّل على أصالةٍ في فكره، وتمكُّن في علمٍه، ونبوغٍ في مواهبه.

وما زال - بعد استشهاد أخيه سيد -   يحمل الراية، ويمد المكتبة الإسلامية بكتبه الإسلامية، وكلها قذائف في وجه الباطل، وكواكب في سماء الحق، ويمد الجامعات بما يمد به شبابها من فكر وثقافة، حتى استقرَّ به المقام في مكة -حرسها الله- يدرِّس لشبابها، ويهيئهم لحمل أمانة العلم والدعوة ، وقد تتلمذ عليه كثيرون، ونهلوا من علمه وفكره وبصيرته.

وقدم للمكتبة الإسلامية روائع الفكر، فكتب بعد كتابه الأول: " الإنسان بين المادية والإسلام": (شبهات حول الإسلام)، و(منهج التربية الإسلامية)، و(منهج الفن الإسلامي)، و(جاهلية القرن العشرين)، و(واقعنا المعاصر)، و(مذاهب فكرية معاصرة)، و(كيف نكتب التاريخ الإسلامي)، و(دراسات قرآنية)، و(حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية)، و(مفاهيم ينبغي أن تصحح) وغيرها.

ومن أهم كتبه (منهج التربية الإسلامية) بجزئيه، وقد نال على تأليفه لهذا الكتاب جائزة الملك فيصل، وهو جدير بذلك.

انتقل في أوائل السبعينيات الميلادية مدرسًا في قسم الدراسات العليا بجامعة الملك عبد العزيز بمكة، والتي سميت بعدُ بجامعة (أم القرى)، واستفاد منه طلابه، وتعلقوا به، وأنزلته المملكة  منزلته، التي يستحقها، فكان محاضرًا في كل الجامعات وشتى المناسبات، وحظيت كتبه بالشهرة والانتشار، وطلب منه وزير التعليم العالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ بإشارة من الأستاذ محمد المبارك أن يكتب (منهاج التوحيد) لطلاب الثانوية، فألف كتاب (التوحيد) بأجزائه الثلاثة، وقرأه ألوف الطلاب وانتفعوا به، وقد أخرج فيما بعد كتبه التي كتبها في منهج التوحيد إلى كتاب سماه: "ركائز الإيمان"، وهو من كتبه التي يستفاد منها كسائر كتبه.

إن محمد قطب- بكتبه المتنوعة في موضوعاتها وموادها، أو في محاضراته الشائقة المركزة وفي إنتاجه الغزير- أصبح يمثِّل مدرسة إسلامية في الدعوة والتربية، والحوار والفكر الإسلامي، الذي يتميز بالأسلوب النيِّر، الذي يخاطب العقل، ويحرك العاطفة، ويحاور الآخر، ويرد على الغرب، كما يرد على المخالفين، ويثير في الشباب اعتزازًا خالصًا للإسلام، وتكاتفا عليه، وجهادا في سبيله، ورفضا لما سواه.

كان محمد قطب - كما قال الدكتور القرضاوي- في عالم الدعوة والثقافة الإسلامية في دنيا المسلمين: نورًا يهدي، وغيثًا يُحيي، وروحًا يسري، وصوتًا يدوِّي، وعزمًا يقوّي، وشمسًا تشرق، وشهابًا يثقب ويحرق، ولكنه لا يحرق إلا الشياطين.

اللهم ارحم آل قطب الأبرار، وارحم محمد قطب، واغفر له، وعافه، واعف عنه، وتقبل منه، واكتبه في عبادك المرضيين، وعلمائك العاملين، ودعاتك الصادقين، وأسكنه الفردوس الأعلى، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين.

الشيخ عزام ينعى المفكر الكبير محمد قطب، ويعزي الشعب المصري بوفاته:

غزة سما نعى عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الشيخ نافذ عزام، المفكر الإسلامي محمد قطب (92 عامًا) الذي وافته المنية بالأمس في مدينة جدة السعودية، متقدمًا بالتعزية لأهله وذويه وللشعب المصري الشقيق وللأمة العربية والإسلامية.

وقال الشيخ عزام في نعي المفكر قطب:" فقد العالم الإسلامي اليوم واحداً من المفكرين الكبار الذين أثروا المكتبة الإنسانية، وأثروا في أديان عديدة".

ووصف الشيخ عزام، قطب بالمفكر الكبير، مشيراً إلى أنه الشقيق الأصغر للمفكر والمعلم الشهيد سيد قطب، الذي نذر حياته للإسلام والإنسانية بشكل عام.

وأضاف:" وإذ نشعر بالخسارة لغياب المفكر الكبير محمد قطب نؤكد على أن هذه الأمة قادرة دوماً على إنجاب العظماء، وسيهتدي أبناؤها بما قدمه أمثال سيد ومحمد قطب من خدمات كبيرة للإسلام وللحقيقة التي لا زالت محاصرةً في عالمنا المعاصر".

ونعاه المستشار عبد الله العقيل، وكتب عنه مقالاً، كما كتب عنه الدكتور محمد لطفي الصباغ، ونشر مقاله بعد وفاته.

ورثاه العديد من الشعراء أبرزهم الشيخ حامد العلي، ومحمد أحمد الفراج، ..وغيرهم.

ويقول الشيخ د. صالح الرقب: ( لقد كان الأستاذ محمد قطب من الدعاة الذين هم منارات الهدى ولسان الأمة الناطق بالحق، وقلبها النابض بالإيمان، وعقلها المفكر، وضميرها الحي اليقظ، وهو الداعية الصادق الذي يستقيم في أقواله وأفعاله، ويفرض عليك كي تكون قدوة صالحة للمدعوين من خلال سيرته وأخلاقه وأعماله، وأن تكون صادقاً في حمل أعباء الدعوة بكل إخلاص ..

ومن الصفات الحميدة التي تميز بها شيخنا وأستاذنا صفة الحلم وسعة الصدر، ولا ريب أن الحلم من أشرف وأجمل ما يتصف به أصحاب الدعوة الربانية وكل ذي غاية كبيرة، ولقد منّ الله تعالى على الشيخ فحباه بالحلم والأناة، ولذا اتسع صدره، وامتدّ حلمه، وعذر الناس من أنفسهم، وخاصة ممن اختلف معهم، وأساؤوا الأدب معه، وانتقدوا منهجه الفكري أو منهج أخيه الشهيد سيد قطب من دعاة السلفية  وكان – رحمه الله – يمتلك قدرة عجيبة في تحقيق هدفه، وبكل وضوح، الذي يسعى إلى تحقيقه عندما يطرح فكرة في كتبه أو ندواته أو أحاديثه مع مستمعيه، وكان أستاذاً عفيفاً ، فلم يقف عند أبواب الحكام أو الملوك طمعاً في منزلة حكومية، أو وظيفة كبرى دنيوية ، إنما كان همه وقصارى مراده الدعوة إلى الله وخدمة دينه، وإرضاء ربه تعالى.

محمد قطب: الحركة الإسلامية تحتاج لمزيد من التربية:

حوار أجراه: أ. كمال حبيب:

يمثل الأستاذ محمد قطب علامة فكرية وحركية بارزة بالنسبة للحركة الإسلامية المعاصرة، فهو صاحب مؤلفات هامة تؤسس للفكر الإسلامي المعاصر من منطلق معرفي إسلامي مخالف لنظرية المعرفة الغربية ، وهو يربط بين الفكر والواقع عبر العديد من مؤلفاته التي حاولت تفسير الواقع أيضا من منظور إسلامي ، ويرجع الفضل لمحمد قطب في تأسيس مدرسة إسلامية ذات طابع حركي داخل الجامعات السعودية عبر إشرافه على العديد من الرسائل الجامعية التي رسخت العلاقة بين مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبين المشاكل الفكرية والحركية المعاصرة ، وقدر لهذه الرسائل الجامعية أن تتجاوز في تأثيرها المملكة العربية السعودية لبقية العالم الإسلامي بعد طبعها في كتب .

استقبلني الأستاذ محمد قطب في منزله بمكة المكرمة، وطال بنا الحديث حول المشاكل الجديدة التي تواجه العالم الإسلامي والحركات الإسلامية بعد الهجمة الأمريكية الشرسة الأخيرة على العالم الإسلامي ، وأدهشني أن محمد قطب يشعر بالتفاؤل ، وبأن ما يجري ليس شرًّا كله ، وأنه شر يأتي معه بالخير ، ومن وجهة نظره فإن من أكبر الخير الذي يواكب هذا الشر هو انكشاف الوجه الأمريكي الصليبي في الحرب على العالم الإسلامي ، فلم يعد هناك شيء مستور أو مخفي ، الحرب تدار علنا وعلى رؤوس الأشهاد .

ويكشف الأستاذ قطب أن اليهود هم الذين يقودون أمريكا في هذه الحرب على العالم الإسلامي، ويؤكد أن ما حدث في 11 سبتمبر هو من فعل اليهود، وهم الذين سعوا لتوظيفه ضد العالم الإسلامي، ويتوقع محمد قطب أن تكون الحركة الإسلامية أقوى من ذي قبل، وأنها ستكون أكثر وعيًا وخبرة بفعل ما يجري عليها من ضغوط خاصة على المسرح الدولي.

امتد الحديث مع الأستاذ محمد قطب على مدار أكثر من ساعتين، كان الرجل فيها يبدو شديد النكران لذاته لحد أنه رفض تماما أن يتحدث عن نفسه لأقدمه للقراء.

وإلى تفاصيل الحوار:

بدأ الأستاذ محمد قطب بالحديث عن التطورات التي حدثت للجماعة الإسلامية في مصر، وقال: إنه نبه في كتبه إلى خطر الصدام مع الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم العربي قبل القدرة عليه ، وقبل أن يفهم الناس ـ المحكومون بهذه الأنظمة ـ معني كلمة التوحيد وضرورة الحكم بما أنزل الله ، واستدل على ذلك بقوله تعالى: ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ).

واستطرد محمد قطب قائلاً: إن قيادات الجماعة الإسلامية كانت تفتقد إلى الوعي والخبرة التي تمكنها من إدراك خطر التورط في مواجهة مع النظام السياسي .

ومضى ليقول : إن ما يجري اليوم من تطورات على الساحة الدولية والفلسطينية يشير إلى قرب قيام الساعة (في رأيه)، ويشير إلى تحقق وعد النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المسلمين لليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر فيقول الشجر والحجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي فتعالَ فاقتله.

واستدل على ذلك بسورة الإسراء في قوله تعالى: ( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما عَلَوا تتبيرًا )، ويتفق مع آراء المفسرين الذين يقولون: إنه إذا جاء وعد الآخرة هذه (جئنا بكم لفيفاً) .. أي جاء بنو إسرائيل من كل أصقاع الأرض إلى فلسطين استعدادًا للمواجهة الكبرى بين المسلمين وبين اليهود.

وأكد الأستاذ محمد قطب على أن موقف الغرب من الإسلام هو موقف صليبي واضح وهذا مكسب، وما يقول عنه الغرب: “إنه تسامح مع الإسلام ”،   إنما هو في الحقيقة مجرد شعارات فارغة. وتوقع أن تكون أوضاع الأقليات الإسلامية في الغرب ـ وأمريكا خاصة ـ في منتهى الصعوبة والخطورة، ونبه المسلمين هناك للاستعداد للأخطر والأسوأ.

ـ قلت له: لكن هناك اجتهادات فكرية جديدة تتحدث عن خطأ الاجتهاد في تعجل الصدام مع الأنظمة السياسية في الداخل، ولكن من منطلقات مختلفة عما قدمت من ضرورة استبانة سبيل المجرمين أولاً، هذه المنطلقات هي تقدير المصالح والمفاسد ؟.

وأجاب الأستاذ قطب بقوله: الاجتهادات والمآلات هي جزء من بيان حكم الله في هذا الأمر، والمصالح والمفاسد معتبرة شرعًا، وتكشف عن خطأ التسرع في مواجهة الأنظمة السياسية من جانب الحركة الإسلامية.

ـ سألته: ولكن أين نضع فكر سيد قطب من تطور الحالة الفكرية للحركة الإسلامية؟

فكر سيد قطب هو الامتداد الحقيقي لفكر حسن البنا؛ فحسن البنا في رسالة التعاليم يقول: “ولا نكفر مسلمًا بذنب متى نطق بالشهادتين وعمل بمقتضاها”، وسيد قطب يتحدث عن قيد أو شرط “وعمل بمقتضاها”.

وأضاف: لا شك أن الإخوان قدموا نموذجًا مهمّا في الجندية والتكافل، لكن في جوانب أخرى أهملوها، ولم يوجهوا لها الاهتمام الكافي.

ويقول: في عام 1948 حدث وعي جديد عند حسن البنا تمثل في أن الحكام ليسوا مسلمين إذا لم يحكموا شريعة الله ، وأتباعه الذين جاؤوا من بعده إما أنهم لم يدركوا هذا الوعي الجديد في خط تفكيره أو أهملوه عن قصد .

ـ ولكن متى حدث التحول الفكري الحقيقي عند سيد قطب ؟

التحول الفكري نشأ عند سيد بعد مذبحة 1945، فعبد الناصر ذبح الإخوان في السجون، والجماهير كانت تصفق له، وتساءل : هل لو كانت هذه الجماهير تملك الوعي كانت ستصفق للطاغية ؟!! وتناقش سيد في هذا الأمر مع الشيخ محمد هواش ، وانتهي الاثنان إلى أن هذه الجماهير لو كانت تعلم حقيقة لا إله الا الله ما كانت صفقت للطاغية ، من هنا يجب أن تبدأ الدعوة من كلمة التوحيد .

ـ ولكن هل راجع سيد الظلال وفق رؤيته الفكرية الجديدة ؟

كان هناك 18 جزءًا صادرة قبل سجنه، فأكمل في السجن حتى الجزء الثلاثين، ثم راجع عشرة أجزاء مما كتبه من قبل، وكان يود إكمال المراجعة إلى النهاية، لكنه لم يستطع.

كان سيد يؤمل في أن يصدر كتابا اسمه في ظلال السيرة، لكنه لم يستطع أن يكتبه.

ـ ولكن كيف تحول سيد قطب إلى الاتجاه الإسلامي ؟

سيد نشأ نشأة قرآنية متدينة، وهو تأثر بالعقاد .. فقد كان خالي صديقًا للعقاد، وكان سيد يصحبه لمنزله، وأصدر سيد عام 1947 مجلة اسمها ” الفكر الجديد ” لكنها توقفت بعد 13 عددًا، وكان الفكر الشيوعي مكتسحًا في هذا الوقت، ومجلة ” الفكر الجديد ” تقول: الفساد لا يمكن أن يستمر، والحل في العودة للإسلام، في هذا الوقت صدر أمر باعتقال سيد، لكن رئيس الوزراء لم يشأ أن يعتقله، فأصدر أمرًا بإرساله ضمن بعثة إلى أمريكا لدراسة نظام التعليم هناك، وسافر فعلاً للبعثة، وظل في أمريكا من عام 1948-195. وفي هذه الفترة كان ألف كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام )، وحتى هذه اللحظة لم يكن له صلة بجماعة الإخوان، ولكن عام 1949 شاهد، وهو في أمريكا حفلة ماجنة مخمورة احتفالاً بمقتل حسن البنا فقرر أن يكون عضوًا بهذه الجماعة التي يحتفل الأمريكان لمقتل زعيمها، وقال: لابد وأن أكون جنديّا فيها .

وأضاف محمد قطب : إن بدايات سيد الإسلامية بدأت على المستوى الفكري من الناحية البلاغية ، فكانت هناك قضية في هذه الوقت تتحدث عن ” هل إذا تغير اللفظ تغير المعنى، أم أن تغير اللفظ لا يؤثر في معناه؟”، ولاحظ سيد أن القرآن الكريم حين يتغير اللفظ يأتي بمعان جديدة ويعطي صورًا جديدة للمعاني ، فمشاهد القيامة في القرآن الكريم كل مرة تأتي في صور ومعان جديدة ، فاللفظ حين يتغير يأتي بصور ومعان جديدة ، وكتب كتابه ( مشاهد القيامة في القرآن ) .

ـ ما هو تصوركم لمستقبل الحركة الإسلامية في ظل التطورات الدولية والإقليمية الجديدة ؟

وعي الحركة الإسلامية لا يزال قليلاً، وكثير من الوعي بدا العقل ولكنه لم ينزل إلى القلب، الوعي المعرفي وحده لا يحرك، لكنه حين يصبح عقيدة يكون مخزونًا للحركة، وهذا ما أقصده بالتربية .

القرآن الكريم بدأ بـ “اقرأ” ، وأكمل بـ “فاعلم ” .. فلابد من تحويل القراءة إلى مشاعر وسلوك ومنهج حياة، وهذا ما نقصده بالتربية، المعرفة وحدها لا تحرك. فالوعي المصحوب بالتربية هو الوقود القادم للحركة الإسلامية.

ومعركة فلسطين هي جزء من تكوين الوعي والتربية للحركة الإسلامية ، فاليهود هم الذين يديرون المعركة ، والحمار الأمريكي هو الذي ينفذها ، وانكشاف هذا العداء للإسلام والمسلمين مهم؛ لأنه يزيد من خبرة ووعي الحركة الإسلامية .

وأشار محمد قطب إلى أن الأمة تنتظر قيادة تقود الجميع، وتأخذ بيدهم إلى النصر المبين .

ـ هل العمل السياسي والمجتمعي ليس مطروحًا على تفكيركم كما كان بالنسبة لسيد قطب ؟

السياسة والاقتصاد والاجتماع هامة لكل مجتمع، كما هي هامة للمجتمع المسلم، لكن السياسة والاقتصاد جاءت في المدينة بعد أن اكتمل التكوين العقيدى، وبعد أن ارتبطت السياسة والاقتصاد والاجتماع بالعقيدة وبكلمة التوحيد، ونحن نأمل أن ترتبط السياسة وتنضبط بالقواعد الإسلامية وهذا أمل سيتحقق بمزيد من العلم الشرعي ومزيد من التجربة والخبرة وبمزيد من الضغط العالمي .

ـ ما هو تقييمكم لأحداث سبتمبر ؟

ظني أن أحداث سبتمبر من تخطيط اليهود، فهم المستفيدون منها، وهناك الكثير من الشواهد على ذلك، وهم يحاولون توظيفها ضد العالم الإسلامي والعربي.

ـ كيف ترون مالك بن نبي المفكر الجزائري المعروف ؟

مالك كان مسجونا في فرنسا، وهو في البداية تأثر بالحضارة الغربية، وكان لها وهج في حسه، لكن فكره استقام بعد ذلك واكتمل ونضج.

ـ لكنكم تتحدثون عن الحركة الإسلامية وكأنها حالة واحدة، رغم أن هناك تنويعات هائلة في داخل العالم الإسلامي ؟.

الوسط الدعوي لم يكن جنسًا واحدًا ، لكن البناء الذي بناه الرسول صلى الله عليه وسلم حمل هؤلاء جميعًا إلى غاية الدين الإسلامي ومقاصده وأهدافه .

clip_image004_965d0.jpg

شخصية الأستاذ محمد قطب في الشعر الإسلامي المعاصر

وقد نظم محمد قطب في شبابه الشعر، ونشر كثيراً من قصائده في الرسالة والثقافة أيضاً، وقد توقف عن نظم الشعر بعد التزامه، وتوجه إلى الفكر والكتابة والتأليف، والعجيب أن سيد قطب ألقى غربته على شقيقه محمد بحيث قال محمد قطب مبيناً غربته هو الآخر في قصيدة غريب التي صاغها وهو في الحادية والعشرين من عمره:

غريب أنا في ذلك الكون كله            على سعة في الكون توحي بإيناس

غريب بنفسي عن نفوس كثيرة           غريب بفكري عن دنى ذلك الناس

وأحسبُ أني تائه في غمارهم       كما ضلّ ومض في غمار الدجى القاسي

لأحسبُ في دنياهمُ كلّ ضلة              وأحسبها دنيا من شرور وأرجاس

ولكنني أقفرت يوماً من المنى                  وجئتُ إلى الظلماء غير مزوّدِ

فلفتني الظلماء من كلّ جانب ٍ            وبثتْ لي الأشواك في كلّ مقصدِ

وما أرتوي من موردٍ أيّ مورد                  وما ألتقي إلا بدجوان أجرد ِ

وطاولَ قلبي للسكون وللكرى                 بليداً من الإحساس أي تبلّدِ

فلما أفقتُ اليومَ من ذلك الكرى      تلمّستُ حولي الكون علّي أهتدي

فألفيتني فيه غريباً مشرّداً                       أهوّمُ في وادٍ من التيه سرمد ِ

بصيرة لسيد قطب في شقيقه محمد :

لسيّد بصيرة نافذة في شقيقه محمد، حيث كان يعدّه ليخلفه من بعده، وعندما نشر ديوانه ( الشاطئ المجهول) أهداه لشقيقه محمد، ومما جاء في إهدائه قوله :

أخي ذلك اللفظ الذي في حروفه             رموز وألغازٌ لشتى العواطف

أخي ذلك اللحن الذي في رنينه                 ترانيم إخلاص وريّا تآلف

أخي أنتَ نفسي حيثما أنتَ صورةٌ       لآمالي القصوى التي لم تشارف

تمنيتُ ما أعيا المقادير، إنما                وجدتكَ رمزاً للأماني الصوادف

فأنتَ عزائي في حياة قصيرة ٍ            وأنتَ امتدادي في الحياة وخالفي

تخذتك لي ابناً، ثم خدناً ، فيا ترى   أعيش لألقى منك إحساس عاطفِ

وقد تحققت أمنية ( سيد) في شقيقه، فمدّ الله في عمره، وخلف سيد، واعتبر امتداداً له في حياته، وخالفاً في آرائه وأفكاره .

رثاء الإمام محمد قطب:

وكتب الشاعر عبد الله بن نجاح آل طاجن أبياتاً عابرة نظمها في 4/ جمادى الآخرة 1435ه يقول فيها:

مات الإمام اليوم من ذا يخلفه ؟      ومن الذي في الدار ذي لا يألفه؟

قد كان شهماً داعياً في أمةٍ            لا شيءَ عن نشر الشريعة يصرفه

طوبى له! ولنحنُ نشهدُ دائماً          للشيخ بالإخلاص ذا ما نعرفه !

رمز الجهاد بكلمة وعقيدة ٍ               والكفر بالعلم المصفى يقصفه

لقد كان الأستاذ محمد قطب شهماً شجاعاً دافع عن الشريعة، وردّ الشبهات، وكان مجاهداً مخلصاً، ويعجب الشاعر من أولئك النفر الذين راحوا ينشرون فقه الكراهية من علم أو دراية، ويتناسون فضل الرجال الأعلام، ويتمسكون بخطأ هنا أو هناك :

قد كان بعض الناس يكرهه عمى             وجهالة لكنه لا يعرفه !

حسداً وحقداً فيهم متأصلٌ                  ولسانه يجري به لا يوقفه

اسكت إذا لم تدر يا بن جهالة    إن كنت تجهله ! فكيف ستنصفه؟

فعليه رحمة ربنا وسلامه                   والقبر نور أنت رب منصفه

والحق أن الشيخ ليس بميتٍ               فلعلمه في الناس باق نقطفه

ذهب الكبير:

وكتب الشاعر الداعية الشيخ حامد عبد الله العلي ( الكويت) أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية التربية بالكويت، قصيدة، جاء في مطلعها:

ذهب الكبير العالم المسماح        فتعطلت من بعده الأفراحُ

وتحشرجت بالصدر أطول غصةٍ     والقلب مزّق جانبيه جراحُ

وبدا كأن الجوّ يبكي نائحاً          فعليه لو حلَّ النواحُ يُناح ُ

لقد حزنت لفقد الإمام الطبيعة والبلدان، وبكت عليه مكة وشعابها وجامعتها، والمدينة وأهلها، والقدس وحاراتها:

وبدا بمكة كلّ شيء صامتاً         من صدمة في طيها الأتراحُ

أم القرى تبكي، وطيبة مثلها        والقدسُ دمعُ خدودها لوّاحُ

ما ماتَ واحدُ أمة في أمة          بل هدّ من تحيا به الأرواحُ

أفكاره سبل الهدى:

لقد كان الشيخ محمد قطب عملاقاً من عمالقة الفكر الإسلامي الحركي، فكان نير الفكر، قطباً في العلوم، نشر العلم النافع بين الناس:

أفكاره سبل الهدى، وكلامه       درج الفلاح، وعقله مصباحُ

قطبُ العلوم، فكلُّ نجم ٍ حوله      ومحمد قطبُ به الإصلاحُ

من أسرة بالدين ربى أهلها            فعطاؤها بين الورى فوّاحُ

يا ناشراً بالناس علماً نافعاً           يغدى على أدواحه ويراحُ

وسوف يخلّد التاريخ ذلك الفكر والمفكر الذي موات الأمة بالعلم:

ما متَّ ، كلا ، بل تعيش مخلّداً      فبكلّ جيلٍ مادح صدّاحُ

ما زال يحيي بعد موت عالماً       والجهلُ موت بالحياة صُراحُ

رثاء محمد قطب :

وكتب محمد أحمد الفراج قصيدة في رثاء المفكر محمد قطب يقول في مستهلها:

رد كوثر الراحات قد ذهب الظما      وانهل وعلّ فكلها ري وما

فطالما فيها جرعت الكأس من      آلامها ومضغت فيها العلقما

واليوم أبشر والبشارة قربة           وأقدم على أغنى الكرام مكرما

فأمامك الشهداء من أحبابكم          ومحمد صلى عليه وسلما

الله أكرم من بخيل شانئ        لو قيل أعطِ من التراب لقال: ما

ويعرض الشاعر بذلك التيار الذي رضي أن يعيش ذيلاً للطغاة والجلادين وأذناب الماسونية، الذين راحوا يوزعون التهم بدل التأبين والرثاء والتعزية:

تأبى عليه خلائق ما عوّدت          إلا السفاهة والبذاءة والعمى

بالأمس مات مثلث معبوده        عيسى وموسى فاستماتوا مأتما

واليوم تنطلق الشتائم ما رعوا         علماً ولا شيخاً وقوراً مسلما

أفتلك لبرالية قد بشروا           بفضائها الفضفاض من لهم انتمى

أين الفضاء مما ترى فضفاضها      يسع الورى إلا الأقصى المجرما

مثل الذين تشمتوا بمماته               مثل الصبي يروم بحراً أيهما

القطب غاب وإن تغب أقطابنا       من للسراة سرت بليل أظلما

ظلماته قد أطبقت وفجاجه        قد أظلمت والكون داج أعتما

هام الدليل بها وغاب خبيرها         عنها وحار حليمها وتلعثما

الله يكشف كربة لا كاشف           من دونه ويحلها ربّ السما

فقيد الدعوة:

لقد كان الأستاذ محمد قطب بطلاً يقول الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، وكان أمل الأمة ملء السمع والبصر، سار على نهج السلف، ومضى على الطريق ولم يفتر ولم يملّ :

لله درك من بطل                    لله درك من أمل

سرت كما سار الألى        ما حدت عن نهج الأول

أمضيت عمرك كاتباً          ما مال سعيك أو بطل

أوضحت سر جماله             ما جاء خير الرسل

لقد أوضح سرّ الجمال في حديث الرسول، وكان كتابه ( قبسات من الرسول ) نبراساً يهدي ومنارة تضيء الدرب للأجيال:

ربيت تربية الصلاح              فزاد قدرك واحتمل

لم تخش طاغوتاً تقيل من            سما أو من نزل

ما زال علمك راسخاً         يملأ الصحائف والمقل

ما زال ذكرك عالياً              أعظم بطلاب نهل

وسجنت ظلماً واضحاً       مارق عظمك أو رهل

وصبرت مرفوع الجبين          وعزّ شأنك يا نَكَلْ

لقد ربي محمد قطب على التقوى والورع والصلاح، فجمع بين جلالة القدر والحسب والنسب، لم يخش الطغاة، وترك علماً نافعاً يملأ العيون والصحف والمجلات، وسجن أكثر من مرة، ولكن بقي شجاعاً مرفوع الرأس:

لو شئت أن تحيا كما            تحيا البهائم في الجبل

أو أن تعيش كما يعيش          الساهرون مع القبل

لكن روحك كوكب          وضاء ما أحلى العسل

لم تخش جباراً فجر            كلا ولا خفت الخطل

في روحك انسجم الشآم      فطاب فعلك يا سبل

أحببتُ فيك زهادةً              وصلابة وزن القلل

إن غيب الموت الجسد        فضياء علمك ما أفل

ارحل أخي مكرماً           هل آخر الليل الأجل

يكفيك أنك قد بذلت           وربنا ما قد غفل

لقد كان الأستاذ محمد قطب زاهداً صلباً في الحق، إن غيب الموت جسده، فإن علمه ما زال ينير طريق المجاهدين، لقد بذل وسعه في إصلاح الأمة، وتوجيه الشباب، والنصيحة لعامة المسلمين وأئمتهم، وعاش حميداً، ومات غريباً سعيداً.

الخاتمة:

رحل الأستاذ الداعية المجاهد محمد قطب، وانقطعت برحيله تلك السلسة المباركة، فقد كان امتداداً لفكر الشهيد سيد قطب، وبقي الواجب على تلاميذه أن يكملوا المشوار.

فأفكار العظماء لا تموت بموتهم، وأحلام الكبار لا تنقضي برحيلهم، وإنما تمتد في الآماد وعبر العصور والدهور ..

اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، وسلام على آل قطب في الخالدين.

مصادر البحث:

1-سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد – د. صلاح الدين الخالدي – دار القلم بدمشق.

2-جائزة الملك فيصل العالميّة للدراسات الإسلاميّة، الأمانة العامّة.

3-مجلّة المجتمع: س 20 ،ع 922 ، تاريخ 27 يونيو 1989 مقال: الإسلام والكونجرس  د. أحمد إبراهيم خضر.

4-علماء ومفكرون عرفتهم: للأستاذ محمد المجذوب - ص275. 

5-المدينة نيوز - وفاة المفكّر الإسلامي محمد قطب.

6-أعلام الصحوة الإسلاميّة- محمد علي شاهين .

7- السابقون إلى الدار الآخرة - أ. محمد قطب (رحمه الله) الداعية الأديب

(1919 – 2014م) - المستشار عبد الله العقيل.

8- موقع الشيخ حامد العلي – على الشبكة العالمية ( الأنترنت).

9- موقع رابطة أدباء الشام.

clip_image002_e1417.jpg

clip_image004_35530.jpg

صدرت رواية "الخاصرة الرّخوة" للأديب المقدسي جميل السلحوت أواخر العام 2019 عن مكتبة كل شيء في حيفا، وتقع الرّواية التي صمّمها ومنتتجها شربل الياس في 260 صفحة من الحجم المتوسّط.

عنوان الرواية لافت للانتباه، لن أتوقف عنده الآن، وسيكون لي عودة إليه فيما بعد، إذ أنني ألِفتُ هذا التعبير في ميدان الصّراعات العسكريّة ولم أقرأه في ميدان الأدب والسّرد والفنّ. فما/مَن الخاصرة الرّخوة؟ هل من علاقة مع صورة الغلاف؟ سأبحث عن الجواب في الرّواية.

ذلك هو عنوان رواية جديدة للكاتب المقدسي جميل السلحوت، وسبق له أن نشر عدّة روايات وقصصا للكبار والصّغار، بالإضافة إلى مقالات ودراسات نقديّة وأدبيّة واجتماعيّة، ونشاطه معروف في ندوة اليوم السّابع المقدسية ومواقع الأنترنت والأنشطة الثّقافيّة في القدس وغيرها.

أكرمني الكاتب في مبادرة لطيفة متوقعة منه بأن أرسل لي نسخة إلكترونية للرواية في مرحلة مونتاجها النهائي كما يبدو.

"نحن في انتظار الرّدّ على طلبنا منك" ص ١٢.

جملة قالها إمام المسجد لأبي جمانة بعد أن خطبها لأسامة، بعد نقاش قصير يشفّ عن فجوة في التّصوّر عن دور المرأة ومكانتها بين أبو أسامة، والد الخاطب، وبين أبو جمانة، المخطوبة، ويحاول إمام المسجد المتكلم في الخِطبة أن لا يخرج الحوار عن السيطرة، لأنّ والد أسامة كان يمثل فكرة عتيقة عن دور المرأة ومكانتها، ممّا دفع والد جمانة، أن يعترض عى ذلك الرأي بالقول إنّه لن يزوّجهم خادمة.

قبل الحديث عن الجملة التي اقتبستها سابقا أشير إلى أنّنا ومنذ الصّفحات الأولى يكشف لنا السّارد عن بعض الملامح لشخصيّاته بصورة تفضي إلى خلافات جوهريّة وأساسيّة في رؤيتها للحياة، وهذه الاختلافات في وجهات النّظر هي القاعدة للتّناقض الفكريّ الاجتماعيّ بين الشّخصيّات، وستكون مواقع الرّؤية هذه والمواقف المختلفة في وجهات النّظر هي مادّة الصّراع بالمعنى الفنّيّ في العمل السّرديّ.

ما زال من المبكر أن أتحدّث عن ذلك التّناقض الفكريّ وتداعياته، وكيف ستسير الأحداث، لكنّني أتوقّع أن يكون هناك مزج بين هموم اجتماعيّة وفكريّة وسياسيّة تتفاعل لتشكّل جوهر فضاءات الرّواية. ما زلت في الصفحات الأولى من الرّواية.

أعود إلى جملة الإمام الأخيرة حول ردّ والد جمانة على طلبه، وقد اختصر الإمام الجلسة، وأعتقد أنه عجّل بالمغادرة حتى لا يسمح بمزيد من النّقاش بين والد أسامة ووالد جمانه، فيفشل مشروع الزّواج، بل ربّما مشروع الرّواية كلّه، وتنتهي في صفحاتها الأولى.

أعتقد أن جملة الإمام حول انتظار الرّدّ جملة مفصليّة في تداعي أحداث الرّواية، فقد أبقى لنا السّارد هنا بابا مشرعا للأحداث الآتية، وأبقى خيطا نتعلّق به، فوالد جمانة لم يحسم الموقف قبولا أو رفضا، وترك الاحتمالين واردين، وربّما تكون موافقته محفوفة بمخاطر مستقبليّة، لا سيّما وأنّ تأجيل الرّدّ كان مبنيّا على رأي جمانة، وهو موقف بالتّأكيد لا يرضي عقليّة والد أسامة، الذي يعتقد أن لا رأي للبنت في هذا الأمر، وأنّ تعليمها مسألة لا قيمة لها ما دامت حصلت على زوج كفؤ ومقتدر، ومقياس الكفاءة والمقدرة الماليّة عنصر مهمّ في فهم شخصيّته، وكلماته حول تأجيل الزّواج وعدم رضاه عنه، وحديثه عن مقدرة ولده ماليّا تنطلق من موقفه الفكريّ التقليديّ الذي لا يقيم اعتبارا للمرأة في قرار مصيرها. وربّما من المناسب أن أسأل مسبقا: هل كان والد أسامة مدفوعا أو كارها لهذه الخطوة، ويفكّر في إفشالها؟ أعتقد أنّ الأمر يتعلق بالبنية الفكريّة للرّجل العربيّ التّقليديّ وفكره عن دور المرأة وتعليمها ورأيها.. إلخ.

وما دام أنّ الإمام ينتظر الرّدّ فعلينا أن ننتظر معه في متابعة الأحداث والاستمرار في رحلة الرّواية.

تمييز اجتماعي

يلامس جميل السلحوت في هذه الرّواية مسألة دقيقة وحسّاسة ومحرجة في المجتمع الفلسطينيّ، وأعتقد أنّ باعثها كان الجهل بالمخطّط الصّهيونيّ الشّامل، وبرزت على السّطح في مواقف تناقضيّة مؤثّرة لم تخل منها حتّى ثوراتنا على مرّ قرن من الزّمان، فقد وصفت ثورة ٣٦ بأنّها ثورة الفلاحين، أو ثورة المخيّمات... إلخ. تلك المسألة الحسّاسة المحرجة هي التّمييز بين اللاجئ الفلسطينيّ والمواطن الفلسطينيّ، الذي لم يقع تحت الاحتلال بعد، أو وقع تحت الاحتلال لكنّه لم يلجأ أو لم يُهجّر. ووجد هذا التّمييز الضّيّق الأفق في مدن الضّفّة الغربيّة وقراها كما وجد في قطاع غزّة أيضا، وأبرز ما كانت تثار هذه النّعرة التّمييزيّة عندما تكون في سياق الارتباط بالزّواج. وهذه واحدة فقط من سمات المجتمع الفلسطينيّ تقليديّا؛ فدائما كانت هناك نعرات تمييزيّة بين مدينة وأخرى، لسبب أو لآخر لا معنى له، ومثال بئر الماء بين اللد والرّملة أسهلها، بالاضافة إلى تمييز عنصريّ بين المدينة والقرية تحت عنوان مدني مقابل فلاح، وفلاح مقابل بدويّ، ومنحت صفات وخصال ومناقص تحت عناوين مختلفة.

سعيد والد أسامة يستعلي على عيسى الحماد كونه لاجئا بأنّه مقطوع من شجرة، وكان عليه أن يقبل بتزويج ابنته ويسكت: " يكفيه أنّه وحيد لا قريب له، ولا عزوة عنده، فليستر بناته وينخرس" ص ١٢

هذا كلام جارح ومنقصة وفي غاية الأهانة ويحمل دلالات اجتماعيّة خطيرة، وفي مضمونه مطعن قاسٍ، ممّا أثار الإمام، موضّحا رأيه ومحتجّا بغضب على موقف سعيد: "وعيسى الحمّاد ليس مقطوعا من شجرة، لكنّ الزّمن جار عليه كما جار على غيره من أبناء شعبنا، الذين غادروا ديارهم مكرهين عام النّكبة بسبب ما تعرّضوا له من قتل وتدمير وتشريد، وتشتّتوا في بقاع الأرض، وهذا لا يعيبهم يا أبا أسامة. وأبو جمانة شاء حظّه أن يكون بيننا، بينما تشتّت عائلته في أرض اللجوء، وهو واحد منّا له ما لنا وعليه ما علينا."ص١٣

موقف سعيد هذا لم يثر حفيظة الامام فقط، بل أثار حفيظة عزّالدين، أخ سعيد، كما أساء للعريس أسامة الذي احتجّ بأسلوب ناعم يدل على قمع والده له.

لا شكّ أنّ مثل هذا الموقف في مطلع الرّواية يقودنا قسرا إلى زمن الرّواية، ذلك العنصر الذي لم يُفصَح عنه بعد، فغالبا، وهذا توقّع من عندي، أن تكون هذه الأحداث قد جرت قبل عام 1967 حين وقع الجميع تحت الاحتلال، ولكنّ ذلك ليس شرطا، فلا أعتقد أن تلك العقلية انتهت باحتلال الضّفّة الغربيّة.

وعلى أيّة حال فإن كانت أحداث الرّواية قبل 1967 فيحب أن نجيب عن سؤال: في أيّ جامعة كانت تدرس جمانة؟ إذ أنّه لا توجد جامعة في الضّفّة الغربيّة آنذاك، وما كان في الأردنّ قبل احتلال الضّفّة الغربيّة سوى جامعة فتيّة واحدة هي الجامعة الأردنيّة، وكان من شبه المستحيل اجتماعيّا واقتصاديّا إرسال البنت أبعد من ذلك للدّراسة.

عيسى الحمّاد ديمقراطي فيّ الاستشارة سلطويّ في القرار

حاول سعيد الحمّاد أن يقنع جمانة، ابنته، لتتزوّج من أسامة، وكلّف والدتها لتعتني بذلك، وإقناعها لترضى به زوجا، بعد رفض جمانة لفكرة الزّواج مطلقا. لم تفلح محاولة الأمّ، ومع تحفّظاته على سلوك عائلة أسامة وبخاصّة أمّه الغيور المحاربة للتّعلم، غير أنّ حرص الوالد عيسى الميّال إلى العقل التقليديّ شيئا ما في هذه الخصوصيّة، أقصد زواج البنت، كلّ ذلك جعله يتّكئ على حالة أنّ أسامة سيعيش مع جمانة في السّعوديّة بعيدا عن تأثيرات العائلة، وأنّه كأب يعرف مصلحة ابنته أكثر منها، وأنّه أب يقلقه ستر بناته، بهذه المبرّرات أقنع عيسى الحمّاد نفسه بصوابيّة رأيه واتّخذ قراره نيابة عن جمانة، وضدّ إرادتها الرّافضة للزّواج كفكرة، بسبب غلبة رومانسيّة شابّة: "حسم أبو جمانة الأمر وقرّر أنّ نصيب جمانة سيكون مع أسامة، فهو رجل دين وعلم، ومع ذلك سيترك محاولة إقناع جمانة حتّى يوم الجمعة القادم، وإن بقيت على إصرارها فلن يوافقها على هذا الرّأي، وهي لا تستطيع الخروج عن رأيه، كما أنّه على قناعة بأنه يعرف مصلحتها أكثر ممّا تعرفها هي." ص 21.

كلّما صادفت مثل هذا الموقف من أب (يعرف مصلحتها أكثر ممّا تعرفها هي) أضعُ يدي على قلبي، ذلك أنّ ظلما كبيرا يقع تحت يافطة حرص الأب والأهل وادّعاء المعرفة اليقينيّة إزاء معرفة مشوّشة أو لا معرفة لدى البنت، ومعرفة مصلحة الشّخص أكثر من الشّخص ذاته، ويُتّخذ القرار نيابة عن الفرد المعنيّ، ثم تقع التّبعات غير المُرضية على رأس هذا/ هذه.

مثل هذه الأمور في العادة تحمل مجازفات ومخاطر لا ينفع فيها "بعض الشّرّ أهون من بعض"، بل غالبا ما يكون كلّ الشر في اتخاذ القرار نيابة عن صاحب الشأن أو إكراهه على ما لا يريد.

هكذا تقول لنا دروس الواقع ووقائعه، فماذا سيقول لنا السّارد؟

المرأة الهشّة

يُحمّل جميل السلحوت المرأة/ البنت جزءا كبيرا من مسؤوليّة ما يقع عليها من ظلم في الحياة الاجتماعيّة في المجتمع الفلسطيتي، ذلك أنّها ليست قويّة بما يكفي لحماية نفسها، مع أنّها تعلّمت، ممّا يفرض عليها بالقوّة وخاصّة في مسألة الزّواج، الذي هو حياة مصيريّة كاملة. هذا ما أدركته جمانة، ولكن بعد فوات الأوان. لقد حاولت جمانة إنقاذ نفسها من شَرَك الزّواج المرتّب عائليّا، والذي نُصِب بسرعة وبمفاجآت، لكنّها لم تبذل مقاومة كافية؛ لتفلت من الشَّرَك. هذا في الحقيقة هو نتيجة لتربيتنا التّقليديّة، حيث على البنت (وحتّى الشّابّ أيضا) طاعة والديها، وإفهامها أنّهما يعرفان مصلحتها أكثر منها، وتلك لعمري قاعدة ليست سليمة بالمطلق.

بطرق التفافيّة فرض عيسى الحمّاد وزوجته لطيفة زواجا لم تكن جمانة مستعدّة له، وزوجا لا ترغب في الزّواج منه، بل نفرت منه لسلوكه الغريب في أوّل خلوة، وعائلة لم تكن ترتاح للعيش في كنفها، وبسرعة لفلفت العائلتان عقد القران، وكأنّهم يعملون على إخفاء سرّ، أو الفراغ من الموضوع قبل أن يستيقظ ضمير أحدهم فيفشل المشروع.

كلّ ذلك كان ضربات متلاحقة على رأس جمانة، وكأنّه مقصود؛ كي لا تعطى لها فرصة تقييم ما يجري، والاستعداد للتّعامل معه بهدوء. وممّا زاد الطين بلّة، وزاد من تأثير تلك الضّربات السّلوك الصّبيانيّ الشّبقيّ الذي سلكه أسامة حين اختلى بجمانة، سلوك يفتقد إلى الذّوق وإلى احترام الأنثى كإنسان ذي مشاعر، كما ينقصه احترام الذّات، وأقرب إلى سلوك همجيّ غريزيّ، تحت عنوان شرعيّ، هو أن جمانة أصبحت زوجة له، حجّة تتجاهل مشاعر فتاة صغيرة فوجئت بصعقات جعلتها تقوم بردود أفعال إزاء خاطبها، وإزاء نفسها وبدل أن يكون عقد قرانها فرحا لها، جلب لها المتاعب والضّغوط، وكشف لها عن مجموعة من الأخطاء في سلوك خاطبها، وفي سلوك العائلتين، وفي أعراف المجتمع المتعنصر للذّكورة، بل اكتشفت ضعف ذاتها.

هربت جمانة من غارة غريزيّة شنّها عليها خاطبها بحجّة أنّها ذاهبة لصلاة العشاء، بينما فقد الشّيخ أسامة طهارته، وفي غرفتها وجدت جمانة نفسها تراجع ذاتها، ولا شكّ أنّ لسان حالها ومقالها هو ما حمّلها السّارد الغائب الممسك بخيوط اللعبة كاملة، ولا تكاد تفرّ منه ولو حركة واحدة: " لامت نفسها أكثر من مرّة لعدم وقوفها بصرامة ضدّ موقف أبيها بخصوص الزّواج من أسامة، وبّخت نفسها؛ لأنّها قبلت أن تبقى معه على انفراد في صالون البيت، لم تقتنع بحجج أبيها وحجج إمام المسجد بالاستعجال بعقد القران؛ كي يتمكنّ الخاطبان من مصافحة بعضهما، والجلوس على انفراد. رأت أنّ أسامة استغلّ عقد الزّواج؛ وتعامل معها كما يتعامل الزّوجان، بل إنّه تعامل معها كدمية يمتلكها، وهذا خلاف رغبتها وخلاف مبادئها والتّربية التي نشأت عليها. أمضت ليلتها تحلّق في فضاء تحلم به، بعد أن وجدت نفسها مغلوبة على أمرها في صحراء قاحلة، لعنت اليوم الذي ولدت فيه كأنثى في بلاد لا تحترم إنسانيّتها، رأت قمرها يختبئ خلف غيوم سوداء متراكمة" ص 44.

إذن جمانة (فكر السّارد/الراوي) تلوم ضعفها وتلوم والديها وتلوم المجتمع كلّه على ما يلحق بالمرأة من ظلم فقط لأنّها أنثى. هكذا كان أقوى موقف اتّخذته جمانة (المرأة) حتى الآن لتحافظ على حقوقها، وهو أنّها لعنت اليوم الذي ولدت فيه كأنثى، وهذا موقف في غاية الضّعف في مقاومة حياة مفروضة ومرفوضة ومصير إنسان.

الرّاوي/ الكاتب يدين المرأة ذاتها لأنّها ليست قويّة بما يكفي لتغيّر مفاهيم المجتمع ولتحمي نفسها من مظالمه، وتكتفي بكلام صامت ذاتيّ وعلى انفراد.

هل ستنتقل جمانة من لوم الذّات والمجتمع إلى الرّفض القاطع والعلنيّ في وجه خاطبها وفي وجه والديها والمجتمع؟

أشكّ في ذلك إذ أنّ المقدّمات حتى الآن توحي بعكس ذلك تماما، ولكن علينا الانتظار والتّرقب.

موقف تحميل المرأة جزءا كبيرا ممّا يلحق بها من ظلم نتيجة ضعفها، موقف متكرّر في الرّواية الفلسطينيّة، وبصورة جليّة في روايات سحر خليفة التي أدانت ضعف المرأة وحمّلتها مسؤوليّة ما يلحق بها بسبب الجهل أو التّفريط والضّعف.

ولكن الكاتب السلحوت يدين المجتمع كلّه، فهو لم يتوقّف عند موقف جمانة فقط كمسؤول عما سيصيبها، بل هو يُخطّئ جميع المشتركين في هذه الزّيجات بتواطؤ مقصود أو بسبب جهل وعادات وأعراف وفكر عتيق. المجتمع كلّه خاطئ في هذه القضايا الاجتماعيّة، وهذا ما يتطابق تماما مع فكر جميل السلحوت الذي يعبّر عنه دائما في مقالاته. وهذا يطرح قضيّة المؤلّف والرّاوي، كما سيأتي فيما بعد.

مقاييس جمال المرأة

تغنّى الشّعراء العرب قديما وحديثا بجمال المرأة، ولم تختلف هذه المعايير كثيرا في البئية العربيّة منذ ما قبل الاسلام إلى اليوم، وباختصار كانت هذه المقاييس كلّها تنصبُّ على الشّكل، على المادّة، على ما يُلمس أو يُرى كالطّول واللون والشّعر، وعلى البدانة والنّحافة، وعلى طول العنق ولون العيون والشّفاه والصّدر وما إلى ذلك.

وبما أنّنا في شأن الحديث عن الشّيخ أسامة فأنّنا رأينا بعض ملامح شخصيّته من قبل فيما كتبت ونشرت، ولكنّنا كلما تقدمنا في القراءة تكشّفت لنا سمات أخرى وخصائص أخرى في شخصيّته.

بالتّأكيد أنّ أسامة لم يعجبه ترك جمانه له متذرعة بصلاة العشاء، وربّما فهم من ذلك أنّها غير راغبة فيه، وحاول أن يجد لها العذر من تدلّل وحياء وتمنُّع، وعاش ليلة خطبته في قلق وتوتّر، فلم ينم يعمل على إقناع نفسه بمسوغات شرعيّة بأنّ هجمته على شفتي جمانة وصدرها كانت مشروعة، بل اختار من آيات القرآن ما يبرّر له ما فوق ذلك "فأتوا حرثكم أنّى شئتم" ص45 مع أنّ سياق الآية ليس هو ما أخذها أسامة إليه ليرضي غرائزة المشتعلة.

أسامة شخصيّة لديها الاستعداد للبحث عن النّصوص الشّرعيّة التي تسوّغ له سلوكه، وكأنّ الاصل هو سلوك البشر ورغباتهم، وعلى النّصوص الشّرعيّة أن تلبي تلك الرّغبات، وليس على الرّغبات أن تنضبط بروح النّصوص الشّرعيّة ومعانيها. هذا لمس لقضيّة تتّسع مجالاتها ولا تتوقف عند العلاقة الزّوجيّة، فإنّها تحمل إسقاطات كثيرة في الحياة.

ومن جهة أخرى لم يخرج أسامة في إعجابه بجمانة عن مقاييس الجمال المادّيّة، بل لم يتطرّق حتّى الآن إلى أيّ صفة من صفاتها الأخلاقيّة؛ ولذلك كان جلّ تركيزه على الصّفات البدنيّة لجمانة: " بقي يرسم صورة لجمانة في خياله، فخدودها بيضاء تعلوها حمرة كالتّفاح، عيناها فيها زرقة سماء صافية، شفتاها لذيذة كقطعة حلوى شهيّة، أسنانها كعقد اللؤلؤ الطّبيعيّ، أنفاسها تبعث الدّفء في القلب، غرّاء فرعاء، نحيلة الخصر بلا اعوجاج، تمشي بدلال كزهرة يهبّ عليها نسيم عليل، صوتها مغناج دون تصنّع. أنفها مستقيم كمنقار حمامة برّيّة." ص 46. زيبدو عنصر آخر في شخصيّة أسامة، ففيه نزعة شكّيّة مريبة، إذ خطر بباله وجود رجل آخر في حياة جمانة، ولم يفكّر في أن تجافي جمانة عنه كان بسبب اندفاعه الشّبقي واغتصاب القبل منها رغما عنها. أسامة كان مستعدّا للتّخلي عن جمانة بسهولة أمام غيرة والدته منها، ومحاولتها توجيه الدّفّة، دفّة حياة أسامة وجمانة، كما تريد . ص 49.

وأسامة الغرائزيّ شيخ متشدّد، ففي حفلة الخطوبة أراد أن يمنع الغناء والرّقص لأنّه حرام كما قال. كلّ ما كان يهمّه هو امتلاك جمانة كونها أمرأة مادّة للمتعة، ولذلك لم نره يتحدّث عن أخلاقها أو عن صدقها، أو عن بساطتها، أو عن قناعتها وعدم طمعها في الماديّات. لم نر أسامة يحاول أن يفهم ما تفكّر به جمانة، لم يحاورها ليستكشف ما تفكّر به نحوه او نحو الحياة. كل ما لام أهله عليه أنّهم تأخّروا في الخطبة، فلن يتمكن من اصطحاب جمانة معه إلى السّعوديّة، ولم يفكّر ولو للحظة أنّ جمانة لم تكمل دراستها الجامعيّة، وأنّ ذلك كان شرطا للزّواج. لم يفكر أسامة بردود فعل جمانة على هجمات قُبَلِهِ التي اغتصبها إيّاها.

ذكّرني هذا المشهد بمقولة يكرّرها بعض النّاس حين يربطون بين الإيمان والاكل والنّوم والنّكاح، في حين أنّ الإيمان الحقيقي يسمو بروح الإنسان ويرتقي بها فوق المادّيّات ولا يتجاهلها، ويسمو به فوق الذّات الأنانية، ويقيم اعتبارا عاليا للقيم الإنسانيّة، ولا يلوي عنق النّصوص لتلبّي الرّغبات الذّاتيّة.

جعل الإسلام العلاقة الزّوجيّة علاقة سكن وأمان واطمئنان تكسوها المودّة والرّحمة، ولا تكون هذه إلا باللطف واللين وطيب المعشر، واحترام مشاعر الإنسان وأحاسيسه، وليس وقوع الرّجل على المرأة كوقوع البهيمة. لم نجد الشّيخ أسامة، حتى الآن على الأقلّ، يقيم اعتبارا لتلك المشاعر والأحاسيس في تعامله مع جمانة في البيت وفي السّيارة وفي السّوق.

هل هي مصادفة أن يكون أسامة دارسا للشّريعة ويعمل في السّعوديّة، وما علاقة ذلك بمنهج تفكيره؟

لعلنا نجد جوابا لهذا السؤال فيما بعد.

ممارسات الاحتلال

ذكرتُ من قبل إنني لا أستبعد أن يمزج الرّوائي جميل السلحوت في هذه الرّواية بين أبعاد الحياة الاجتماعيّة وأبعاد الحياة السّياسيّة، فالحياة واحدة ذات جوانب متداخلة، ولا يمكن أن يكتب أحد في الشّأن الفلسطينيّ ويغفل عن الجانب السّياسيّ لأنّه هو سبب لكلّ ما يعيشه الفلسطينيّون.

لقد سبق أن ذكرت أنّ عائلة جمانة كانت ضحيّة التّهجير من فلسطين عام 1948وقد انعكس هذا في بعد اجتماعيّ في كلام والد أسامة حين خطب له جمانة. الاحتلال للضّفّة الغربيّة وللقدس يبرز بروزا واضحا في الرّواية من خلال ممارسة جنود الاحتلال؛ لمنع المصلّين من الدّخول إلى الحرم القدسيّ، هذا من جهة، ومن جهة ثانية في ممارسات جنود الاحتلال وشرطته لسلوكيّات تعسّفيّة غير أخلاقيّة مع المواطنين الفلسطينيّين.

لقد وضع السلحوت صورة هذه الممارسات في لوحتين: الأولى حين تكلّم الشّرطيّ الإسرائيليّ بخشونة مع والد جمانة، ومنع والداها من الوقوف معها أثناء الحديث إليها، ومنعهما من الدّخول إلى كشك الشّرطة أثناء محاولة تفتيشها. واللوحة الثّانية حين أصرّ الشرطي على دخول جمانة إلى الكشك، واستفزازها لفظيّا، ثم التّحرش بها، ثم بسحبها من يدها، ثم الطّلب من الشّرطيّة نزع ملابس جمانة وتفتيش صدرها، في مشهد يخلو من التخلق، ثم منعها من دخول المسجد للصّلاة لأنّها امرأة دون الأربعين من عمرها.

هذا التّدبير الإداريّ الأخير، وهو التّضييق على الفلسطينيّين، وبخاصّة فيما يتعلق بالصّلاة في المسجد الأقصى، أراد الكاتب أن يشير من خلاله بصورة واقعيّة إلى التّعسّف الذي تمارسه سلطة الاحتلال ضدّ المقدّسات الإسلاميّة في القدس وضدّ المصلّين. وحين نتحدّث عن ذلك فإنّ ذلك مساس بمقدّسين عاليي القيمة والقدسية عند الفلسطيني: الدّين، وبخاصّة في مقدسات القدس، والعِرض. وقد تمّ المساس بقدسية الرّمزين. ولا شكّ أن الكاتب يعايش مثل هذه الوقائع عن قرب بحكم إقامته في المدينة نفسها، ومعايشته اليوميّة لممارسات شرطة الاحتلال، وقد اقتطع هذا المشهد لأنّه كما ذكرت فيه مساس بمقدّسين، فما بالك بممارسات أخرى؟

هل سيكون لذلك توظيف مستقبلي في أحداث الرّواية التّالية؟

أوّل توظيف سريع ظهر فورا في الأفكار التي طرقت رأس جمانة وهي تعود إلى البيت، وقد يكون لها توظيفات أُخر.

وفي هذا المشهد تبرز صورة الشّرطي الإسرائيليّ، والشّخصيّة اليهوديّة، فالشّرطيّان الرّجلان مستفزّان، متعجرفان، يخاطبان المواطنين الفلسطينيّين باستعلاء من جهة، وبقسوة من جهة أخرى، وبإهانة لمعتقداتهم ومشاعرهم الدّينية والخُلُقيّة بالتّغزل المبتذل والتّحرّش بجمانة.

أمّا الشّخصيّة الإسرائيليّة الثّالثة وهي الشّرطيّة اليهوديّة الأنثى، التي رفضت طلب زميلها الشّرطيّ أن تقوم بنزع ثياب جمانة وتفتيش صدرها، وسواء كان رفضها لاعتبارات إنسانيّة أخلاقيّة، أو لاعتبارات الغيرة والحسد، فإنّها لم تفعل ما طلب منها، لقولها: " دخلت الشّرطيّة وسألت زميليها بالعبريّة:

ماذا تريدان منها؟

 نريد أن تخلعي ملابسها؛ لتفتيش جسدها.

التفتت إليهما داليا وسألت بعصبيّة:

يكفي! ماذا تخبّئ النّساء في صدورهنّ؟

الشّرطيّ: إنّها جميلة جدّا.

داليا ساخرة: وبنات اليهود جميلات ولهنّ صدور بارزة أيضاً." ص 83.

ثم أخذت الشّرطية هويّة جمانة وأعطتها إيّاها طالبة منها العودة إلى البيت؛ لأنها ممنوعة من دخول المسجد الاقصى. هل يريد الكاتب أن يميّز بين يهود شرّيرين ويهود طيّبين؟ وإن كان كذاك فهل هذه الطّيبة فطريّة عامّة أو ظرفيّة؟ لعلنا نجد سبيلا لذاك مستقبلا.

موقف الاحتلال الذي شهدته جمانة وممارساته معها ومع النّساء المجلببات جعلها تطرح أسئلة محرجة، وقد كان في ذاكرتها ووعيها موقف أسامة الذي أراد أن يفرض عليها النّقاب بالقوّة، وكأن جمانة/الرّاوي تسجّل تناقضا فكريّا وأخلاقيّا لدى بعض المتديّنين المسلمين، فهم يتشدّدون في مسائل شرعيّة ليست قطعيّة وفيها آراء تسمح للمرأة بكشف كفّيها وقدميها، ولا يعيرون انتباها لما هو أخطر، وهو ممارسة الاحتلال في الكشف عن عورات المسلمات، وهذا تفكير نقديّ عميق يصدر من فتاة تتقيّد بما هو متّفق عليه شرعا بين كبار علماء المذاهب الاسلاميّة. إذن نحن نستشرف هنا ميدان معركة فكريّة بين أسامة ممثِّلا لفكر متشدّد مغلق إقصائيّ ولا يقبل النّقاش، وجمانة ممثّلة لفكر إسلاميّ متفتّح ونقديّ. وقد تشكّل هذه القضيّة قاعدة مهمّة في حياة أسامة وجمانة وفي أحداث الرّواية الآتية.

فهل يصدر هذا الموقف عن الشّخصيّة أو هو توجيه من الرّاوي الغائب المراقب العليم؟ ولي عودة إلى هذه النّقطة فيما بعد.

مصيبة العذريّة:

كنّا نسرح مع جمانة وأفكارها بخصوص الأقصى، وبخصوص النّهج الفكريّ، والفرق بين نهجها ونهج خاطبها أسامة، ذلك أنّ أسامة ذو منهج فكريّ شرعيّ متحجّر وإقصائيّ وعنفيّ ومغلق، وضدّ الحوار وضدّ الاطّلاع على وجهات نظر غير ما لُقَنَهُ من منهج فقهيّ وفكريّ محدّد، في حين كانت جمانة تمثّل منهجا إسلاميّا فكريّا متفتّحا مطلعا على وجهات النّظر الشّرعيّة الإسلاميّة المتعدّدة وتأخذ منها ما هو مُجمَعٌ عليه من العلماء لتسيير حياتها، وفوق ذلك هي تطّلع على الفكر العالميّ والآداب العالميّة، وممّا اطّلعت عليه في هذا الصّعيد كان روايات كافكا بما هو معروف عن أدب كافكا من سوداويّة وغرائبيّة.

يغلق الكاتب النّصّ السّرديّ مع جمانة فجأة، لنجد أنفسنا أيضا فجأة أمام مختلف في مكان مختلف، وبشخصيّات مختلفة، وبقضيّة مختلفة، مشهد في قسم الولادة بمستشفى، مشهد هو مزيج من الصّراخ والفرح الهستيريّ اللافت للانتباه، والمثير للشّفقة والفضوليّة ممّن شاهده. وفي زحمة هذا الصّراخ والفرح الهستيري، نتابع الأحداث مع صبحة، التي تطلب بالهاتف على عجل من زوجها أن يأتي هو والمختار وإمام المسجد سريعا إلى المستشفى، بدون أن نعرف، أو يعرفوا السّرّ من وراء هذا الاستدعاء الطّارئ والسّريع والمُلحّ. وبعد وصولهم ينكشف الأمر عن أن عائشة، ابنة صبحة، في حالة ولادة متعسّرة بسبب أنّها ما زالت عذراء، وحتى يتيّسر أمر الولادة لا بد أن تقوم الطّبيبة بإزالة غشاء عذريّتها بالمشرط، فوجدتها صبحة فرصة للحصول على موافقة والد عائشة لعمل ذلك، هذا من جهة، ولنشر خبر براءة ابنتها من ارتكاب الخطيئة قبل زواجها من مازن زوجها السّابق.

لم يكن اختيار صبحة للمختار وإمام المسجد للشّهادة والاستماع إلى الرّأي الطّبّيّ مصادفة، فالمختار كان شاهدا على مجريات حياة عائشة مع مازن، كما كان شاهدا على طلاق مازن لها. أمّا إمام المسجد فشاهد على الزّواج ولا بدّ أن يكون شاهدا على البراءة، ولتبييض عرض عائشة لما له من كلمة مسموعة، بوصفه مرجعا دينيّا واجتماعيّا مسموعا.

تأخذنا الأحداث في استرجاع إلى الماضي، إلى تاريخ زواج مازن من عائشة، وفي هذا التّاريخ عدّة خطايا، هي خطايا اجتماعيّة شائة، ولها تبعاتها الخطيرة، أوّلها تزويج البنات القاصرات، والثّانية تزويجهنّ بدون استشارتهنّ أو الاستماع إلى آرائهنّ، وعلى قمّة تلك الخطايا ما يقع على البنت نتيجة الجهل بوضع حالة العذريّة وفقدها، فالعرف الشعبي لا يعترف بعذريّة البنت، وبصون شرفها وعرضها إلا عندما يثبت ذلك بالعين المجرّدة. ذلك ناتج عن جهل بالوضع الفسيولوجيّ للأنثى، حتّى من قبل النّساء المجرّبات، هذا من جهة، ونتيجة الفكرة الشكّي الاتّهاميّ الجاهز الذي أوّل ما يتبادر إلى أذهان العامّة، فلا يكفي جهلهم، بل يرفضون الاستماع، أو الاقتناع باحتمالات براءة عائشة (كرمز للمرأة عامّة) من تهمة ارتكاب الفاحشة، وخيانة الشّرف والعرض، والتثبّت من ذلك طبيا قبل إشاعة الاتّهامات التي تودي بحياة البشر وبسمعتهم.

حالة عائشة ومازن هي حالة نموذجيّة للأفكار التّقليديّة الجاهلة بتركيب جسم الأنثى، وبحالة من الاستعصاء في الفكر التقليديّ غير القابل للفهم والتّغيّر بحسب ما يقتضيه العلم والطّبّ والمنطق، ولذلك أصبحت عائشة ضحيّة على عدّة مستويات اجتماعيّة، وإذ لم تثبت براءتها لأنّ دم عذريّتها لم يشاهَد بالعين المجرّدة، فقد عانت معاناة شديدة هي وأهلها، وطلّقها مازن بشهادة المختار بعد ثلاثة أشهر من زواجه منها، وعانت عائشة خلال هذه الأشهر من النّبذ الاجتماعيّ والإهانة والضّرب والتّعيير، وعادت إلى بيت والدها بعد ثلاثة أشهر كسيرة الجناح والنّفس، ولم يستمع أحد إلى الأيمان التي كانت تغلظها في أنّه لم يمسسها أحد قبل مازن. رجعت إلى بيت والدها مهزومة، مدمّرة الشّخصيّة، مريضة بإسقاط الاعتبار الاجتماعيّ لها ولوالديها ولأسرتها، وعاشت كخادمة ذليلة مكسورة الخاطر محطّمة الشّخصيّة، حتّى أنّ الوالد والوالدة كانا قد ألحّا عليها لمعرفة الجاني، ولمّا لم يكن هناك جان، ظلّت تتعذّب عائشة سنتين وثلاثة أشهر إلى أن قيض الله فارس، الذي كان أسيرا، ومن قرية أخرى، وعمره أكثر من ضعف عمرها، ويتزوّجها، وبعد ثلاث سنوات نحن أمام هذا المشهد الهستيريّ من والدتها صبحة.

وهنا يتبارد للذّهن أسئلة: لماذا لم تُقتَل عائشة على يد والدها أو على يد أحد إخوتها كما هو شائع للأسف ظلما في البيئة العربيّة والإسلاميّة؟

لم يقتل الكاتب عائشة لأنّه يريد أن يدين المجتمع، ولا يردي أن يدين عائشة لذنب لم ترتكبه، ولذلك أبقاها حيّة إلى أن تثبت براءتها وهذه إدانة أكبر من أيّ إدانة أخرى.

لماذا لم يكن فارس، زوج عائشة الحاليّ، حاضرا في المستشفى يوم ولادتها لمولوده، ولماذا هو في العمل في ذلك اليوم، وهل كان غيابه لذلك السّبب؟

ما فعلته صبحة يشير ضمنا إلى أن مسألة العذريّة ما زالت تتفاعل بصورة أو أخرى، وتلاحق عائشة حتى لحظة إثبات براءتها طبّيّا في هذه اللحظة فقط، وقد تكون سببا في مشكلات لم ترد في القصّة لإدراك المؤلّف أنّ الاستطراد في ذلك سيخلّ ببنية السّرد، فقد يكون فارس قد طلّق عائشة، وقد يكون قد هجرها، وقد... وقد. لا نعرف بالضّبط ماذا حدث لعائشة بعد زفافها لفارس، ولكن صراخ الأمّ الهستيريّ والإفصاح أمام المختار وإمام المسجد، وإعلان براءة ابنتها المظلومة والمفضوحة، كلّ هذا يشير إلى أن قضيّة العذريّة ما زالت تلاحق عائشة وقد تكون هي السّبب في غياب فارس عن المستشفى، وكذلك عائلته، التي قال لنا الكاتب على خجل وبكلمات قليلة أنّها فرحت بالحفيد الجديد.

إقحام قصّة عائشة في رواية جمانة وإسامة كان هدفه إدانة المجتمع الجاهل العنيد، الجاهل علميّا وطبّيّا، والعنيد في رفض المفاهيم الجديدة القائمة على العلم، فوالد مازن يرفض أن يُجرى لعائشة فحص طبّيّ من البداية لمعرفة الحالة، ويصرّ على أن ذلك يثبت بالفعل لا بالفحص. والمجتمع مدان كذلك لأنّه يتسلّى بكوارث المرأة التي تلوكها الألسنة، وتلحق مصائب اجتماعيّة ونفسيّة، ولذلك عاشت عائشة وعائلتها الكوابيس والأمراض النّفسيّة والانطواء، وهذه حالة أهون منها الموت بالنّسبة لعائشة.

في هذه الجزئيّة، قصّة مازن وعائشة، وجدها الكاتب مناسبة للتّثقيف والتّعليم والإرشاد، فقد سرد معلومات طبّيّة مفصلة أراد منها توعية المجتمع وتثقيفه حتّى لا تقع نساء ضحايا نتيجة هذا الجهل. فهل التّثقيف والتّعليم والإرشاد من مهمّات الرّواية؟ وهل على الرّاوي أن يكون واعظا ومعلّما بطريقة مباشرة، وعليه أن يثبت هذا الدّور علميّا؟

لا أعتقد أن ذلك من مهمّات النّصّ السّرديّ، فقصّة عائشة ومازن وفارس بعثرت الأحداث، وقطعت الموضوع الأساسيّ للرّواية بقصّة أخرى، وأخذتها بعيدا عن سياق قضيّتها المحوريّة، وقد أضرّ هذا التّشتت بتماسك بناء الرّواية، فقضيّة عائشة مختلفة تماما عن قضيّة جمانة وإن كانت القصّة تؤرّقها، ولم تكن تفاصيل قصّة عائشة ضروريّة لإثارة قلق جمانة، ففي ذهن كل فتاة في مجتمعنا هذا القلق الضّمنيّ لسبب أو لآخر. أرى أنّه لم يكن من الضّرورة سرد هذه القصّة المطوّلة لعائشة من أجل أن نثير سؤال العذريّة في ذهن جمانة وصويحباتها، فهكذا سؤال هو تحصيل حاصل.

إرهاصات مقلقة

استمعت جمانة إلى قصّة عائشة تلوك عرضها نساء جاهلات، ممّا أثار في نفسها قرفا من تلك الأفكار والعقليّات، و قلقا على مستقبلها مع أسامة الذي ربّته والدة شرّيرة محترفة في حبك المشكلات، وهو الرّجل الذي لا يؤمن بالطّبّ ولا بالعلم. تلك نظرة تشاؤميّة سوداويّة لحياة جمانة في تلك البيئة مغلقة الآفاق.

في هذا السّياق، وفي جوّ البؤس هذا، وبعد لسعات من لسان والدة أسامة بالأمس عند زيارتها هي ووالدتها لعائلة أبي أسامة، وفي سياق التّفكير في هذه المقدّمات، تستذكر جمانة من ثقافتها كافكا الذي أمضى حياته دون زواج مع أنّه ارتبط بامرأة وخطبها مرّتين، ولكنّهما انفصلا دون زواج: "وباتت على قناعة بأنّ حياة العزوبيّة للإناث أفضل من الحياة الزّوجيّة، التي ربّما ستتمخّض عن كوارث لا علاقة للمرأة فيها، وقد تبدأ هذه الكوارث من الليلة الأولى للزّواج في مجتمعات لا تفهم الحياة إلا من خلال رحم المرأة. قرأتْ أنّ كافكا قد عاش واحدا وأربعين عاما ”1883-1924“، ومات بالسّل، فهل لو طال به العمر كان سيتزوّج أم أنّه أسقط هذا الخيار من حياته؟ ولماذا لم يفكّر بأن يكون أبا؟ وهل لحياة الفقر والحرمان التي عاشها علاقة بعزوفه عن الزّواج؟ لكنّها رجّحت أنّ عزوفه عن الزّواج كان عن قناعة، وهذا يظهر جليّا في رواياته وفلسفته في فهم الحياة." ص 120.

مقدمات جمانة أفضت إلى استنتاج أن حياة العزوبيّة للإناث أفضل من كوارث لا علاقة للمرأة بها. هذا المخزون المركب من خبرة جمانة مع حماتها، وخبرتها بشخصيّة أسامة، ومعرفتها بما في المجتمع من جهل وتخلّف أخذ جمانة بعيدا إلى حدّ التّفكير في الإضراب عن الزّواج.. يفهم ذلك من خلال قناعتها ّنّ كافكا لم يتزوّج بسبب رؤيته للحياة، فلسفته، فهل هذا مقدمة لكي تتبنّى جمانة فلسفة كافكا وبخاصّة في مسألة الزّواج؟

قد تكون توصّلت إلى مقدّمات لمثل ذلك القرار بناء على رؤيتها وخبراتها في هذا المجتمع. ولكن إن كان هذا هو خيار دفع الكاتب/الرّاوي الشّخصيّة لتبنّيه فهل يشكّل هذا حلّا وعلاجا لتلك الظّواهر الاجتماعيّة المستعصية؟

بالتّأكيد لا، ولكنّه حلّ فردي قد يلجأ إليه بعض الأفراد، وتبقى الظّاهرة مستقرّة ومتحكّمة. وقد يشكّل ذلك، إن حصل، هروبا من مواجهة الظّواهر ومحاربتها، والعمل على تغيير الظّواهر السّلبيّة في المجتمع.

يوما بعد يوم تصطدم جمانة بموقف يبعدها عن أسامة، وبخاصّة عقليّة أسامة نفسه، فلا انسجام ولا توافق فكريّا بينها وبينه يمكن أن يخفّف من الضّغوط التي تواجهها وتفكّر فيها، بل على العكس، يمثّل هو الهمّ الأكبر من خلال محاولاته الحجر على فكر جمانة وعقلها المتفتّح. جمانة نبت غريب مجتهد مثقّف محلّل نقديّ في بيئة آسنة جامدة متحجّرة ومغلقة، وهذه قاعدة للصّراع والصّدام والتناقض بينها وبين المحيط حولها، فهل تنكسر جمانة أو تتمرّد؟

هل جمانة هي الخاصرة الرخوة؟

جمع وطرح وعنوان الرواية

أشرت في وقت سابق إلى زمن أحداث هذه الرّواية وظننت أنّ زمنها سبق نكسة عام 1967 اجتهادا منّي كان قائما على أساس تمييز أبي أسامة بين اللاجئ الفلسطينيّ، والفلسطينيّ غير اللاجئ في الضّفّة الغربيّة عندما قرّر خطبة جمانة لأسامة، وقلت إنّ هذه النّزعة وجدت بعد اللجوء عام 1948، ولم أكن أتصوّر أنّها مستمرّة وممتدّة حتّى اليوم.

ومن جهة أخرى تساءلت بناء على ما سبق عن الجامعة التي كانت جمانة تدرس فيها ومكانها، كما تساءلت عن ماهيّة الخاصرة الرّخوة التي حملت الرّواية عنوانها منها.

في منتصف الرّواية تقريبا يُحسم موضوع زمن الرّواية، كما يحسم أمر عنونتها؛ إذ تتخرج جمانة من الجامعة في الشّهر الذي يعود فيه أسامة من السّعوديّة مستعدّا للزّواج، ويذكر الرّاوي أنّ عودة أسامة كانت في السّادس من يونيو عام 2006، أي أنّ أحداث الرّواية محصورة حتى الآن بين 2005 و 2006، وهذا يفتح الباب للإجابة عن الجامعة التي درست فيها جمانة، إذ أنّ هناك عددا من الجامعات الفلسطينيّة في الضّفّة الغربيّة في الزّمن المذكور، لا كما ذكرت سابقا متوهّما أنّ أحداث الرّواية تعود إلى أيّام لا تتوفّر فيها جامعات في الضّفّة الغربيّة، ومنها جامعة القدس التي ضمّت بعض فروع من دار الطفل العربي. لهذا اقتضى التّنويه، واستدراكا منّي وتصويبا لما اجتهدتُه سابقا.

أمّا عنوان الرّواية (الخاصرة الرّخوة) والذي تساءلتُ حوله في مطلع قراءتي للرّواية، فإنّنا نجده منطوقا على لسان جمانة، إذ قالت: "فالمرأة خاصرة المجتمع الرخوة" . ص125.

لماذا؟

في مراجعة قامت بها جمانة كانت قلقة من أنّ مشروع زواجها تحف به المخاطر لاعتبارات ومقدّمات ذكرتُها سابقا، ولكنّها قررت خوض تلك المغامرة " وأصبحت على قناعة بأنّ زواجها من أسامة مغامرة غير مضمونة النّتائج، لكنّها في الوقت نفسه قرّرت أن تخوض هذه التّجربة نزولا عند رغبة والديها، وخوفا من الطّلاق قبل الزّواج، فطلاق المرأة في هذا المجتمع يبقى لعنة تطاردها، ولا أحد يرحم المطلّقة بغضّ النّظر عن أسباب طلاقها، وسواء كانت ظالمة أم مظلومة" ص 125.

ولأنّ المرأة في المجتمع هي نقطة الضّعف، نقطة الضّعف أمام ضغط الوالدين أو أمام رغبتهما، ونقطة الضّعف أمام الزّوج، ونقطة الضّعف المستهدفة من المجتمع كلّه سواء كانت ظالمة أو مظلومة، لذلك فهي الخاصرة الرّخوة في المجتمع، وهي المعرّضة للطّعنات، وإليها توجّه السّهام، ولذلك قالت جمانة أنّ المرأة هي خاصرة المجتمع الرّخوة. ولهذا السّبب جاء العنوان كما هو عليه تأكيدا لهذه الحالة الاجتماعيّة، ولهذا السّبب أيضا حمل الغلاف صورة وجه امرأة ورأسها وقد جللها البؤس والحزن والفزع.

نماذج بشرية

فيما كتبتُ سابقا بعض عناصر من شخصيّة أسامة قدّمها لنا الكاتب جميل السلحوت بالتّدريج، وهذه سمة فنّيّة سليمة وصحيحة في بناء الرّواية، فالرّاوي لم يقدم لنا الشّخصيّات كتلا واحدة، بل عرضها متطوّرة مع أحداث الرّواية، وكلما تقدّم القارئ في الرّواية سيكتشف عناصر جديدة في كلّ شخصيّة من الشخصيّات، وبخاصّة شخصيّة أسامة وجمانة، فهي شخصيّات نامية متطوّرة بتطوّر الأحداث، وكانت شخصّة أسامة وجمانة هي أكثر الشّخصيّات نموّا وتطوّرا في حين غلب على الشخصيّات الأخرى الثّبات، وفي النّهاية فإنّ تلك الشّخصيات تتدرّج في أهميّتها، فهي شخصيّات ثانويّة، ذات أدوار في الاحداث لكنّها ليست بأهمّيّة دور أسامة وجمانة.

وعود إلى أسامة، فقد سبق وأن أشرت ألى سمات في شخصيّته، سأعيد ذكرها باختصار، وأضيف إليها الصّفات والسّمات التي انكشفت مع تطوّر الأحداث، وها هي في نقاط.

شابّ فلسطينيّ يحمل فكرا إسلاميّا متطرّفا إقصائيّا مغلقا أحاديّ الرّؤية لا يقبل الحوار، أو وجهات النّظر المخالفة، ويأخذ الفكر الشّرعيّ من مصادر محدّدة ذات توجّه متشدّد ويعمل على فرض هذا الفكر على الآخرين، ومن ليس معه فهو عدوّه.

نظرته إلى المرأة نظرة جسديّة ماديّة ولا قيمة لعقلها وفكرها وثقافتها، فلا تعدو المرأة عنده إلا مادّة للاستمتاع وتفريغ الشّهوة.

لدى أسامة نزعة ريبة وشكّ واتّهام ضمنيَ للمرأة، فكونها مادّة للاستمتاع فلا يمنعها شيء من ممارسة هذه المتعة بدون ضوابط، وفي ذلك اتّهام للمرأة فقط لكونها امرأة، ولذلك كان يسهل عليه التّخلي عن جمانة إزاء أيّ شبهة موهومة، أو طعنة كاذبة مغرضة.

شخصيّة ضعيفة مسحوقة أمام أمّه بخاصّة، ولا يخالف لها أمرا، ويتركها تتدخّل في كلّ صغيرة وكبيرة في حياته، بل بسمح لها بالتّمادي في خصوصيّاته وخصوصيّات جمانة، وقد ظلّ كذلك بذريعة الحرص على رضا الوالدين، وليس الأمر كذلك، بل هو أفسح المجال لامرأة شرّيرة قادرة على تحطيم تلك الأسرة الفتيّة.

يقابل هذه الشّخصيّة المهزوزة فإنّه يحاول أن يفرض على جمانة شخصيّة قويّة من خلال إصدار الأوامر والنّواهي فيما هو شرعيّ، وما هو غير شرعيّ، فيما هو من حقوقه، وفيما هو سحق لشخصيّة جمانة، التي أخذت تجاريه في محاولة يائسة منها لإنجاح تجربة زواجها، وتجنيبها الفشل في بداياتها. يحاول أسامة فرض شخصيّة قويّة ظنّا منه أنّ الشخصية القويّة هي في الفرض والأوامر والنّواهي وتوجيه النصوص كبديل للحوار والتفاهم والمودّة والرّحمة التي ذكرها الله كأسس لبناء علاقة زوجيّة. وهذا نابع من فكر متخّلف لا ينظر للمرأة ككيان فكريّ وعاطفيّ وإنسانيّ وأخلاقيّ وثقافيّ لا يقلّ عن الرّجل، يتكامل معه ولا يتعارض أو يتناقض.

أسامة رجل بخيل في غاية البخل وما يهمّه هو جمع المال، فعلى مدى عام تقريبا لم يكلّم أسامة جمانة هاتفيّا إلا ثلاث مرّات لدقائق معدودة، والجميع يعرف أنّ الاتّصالات شبه مجّانيّة، وأسامة استعرض أمام جمانة بأن تطلب منه ما تريد من السّعوديّة، ثم نجده يبخل عليها بزجاجة عطر تحبّه لأنّ ثمنها مرتفع، ويأتي لها بزجاجة بخمسين ريالا. يا للرخص. ويشتري أسامة أثاثا لبيتهم في الرياض مستعملا من أحد أصدقائه، أثاث يشبه ما يتخلّى عنه النّاس، ويستأجر بيتا قذرا متهالكا عفنا في محيط بائس، يقيم فيه المخالفون والمشرّدون، كلّ هئا بذريعة الاقتصاد وتوفير المال لحياة في المستقبل. إنّ ذلك يشبه انفصاما في الشّخصيّة، فهو يظهر أنّه يحرص على كرامة زوجته، وفي الوقت ذاته يلقي بها في مستنقع موبوء، ويعرض عليها أن ياتي لها بما تحبّ وتهوى، ثم ياتي لها بما يوفّر عليه نقوده ورخيص الثّمن والإيجار، وله في كلّ حالة تخريج شرعيّ.

أسامة شخص مدّع مكابر مندفع فاشل، فأمام والده وأخيه فحل قادر على فضّ الكرة الأرضيّة، بينما هو في الواقع فاشل في الدّخول في عروسه، وتجد له والدته العذر باتّهام جمانة ووالدتها.

إذن أسامة شخصيّة نموذجيّة مركّبة من عدّة شخصيّات معا، شخصيّة تحمل الصّفات السّابقة ليس من المأمول والمتوقّع أن بكون ناجحا في حياته الزّوجية مع جمانة، الفتاة الطّموحة المتفتذحة المثقّفة المتطلّعة للنّجاح والإنتاج.

هل هي بادرة يقظة؟

بعض المواقف، وبعض الأشخاص يحتاجون إلى صدمة، لكي يتنبهوا ويراجعوا خطواتهم، ويلاحظوا من حولهم، ويقيموا خطواتهم، ويعيدوا النظر فيما حولهم، وفيمن حولهم، وفي مراجعة قرا اتهم، وتغيير مواقفهم، واتخاذ مواقف جديدة، والأفراد مختلفون في لزوم هذه الصدمة لهم أو عدمها، وهم مختلفون في درجة قوة الصّدمة التي يحتاجونها ليفتحوا عيونهم، ويقيموا الأشياء والأشخاص تقييما سليما.

رأينا أسامة من قبل الزّواج تابعا في رأيه لوالدته وعائلته، ولا يفكّر مطلقا في سلوكهم، أو تصرفاتهم، أو مواقفهم من جمانة وعائلتها، حتّى أنّه ألغى الموعد الأوّل لحفل زفافه بإشارة من والدته قبل الرّجوع إلى والده، ورأينا تدخّل والدته في كلّ صغيرة وكبيرة في خصوصيّاتهما، وأساءت تفسير مواقف جمانة في أكثر من موقف، وسمع أسامة أمّه تطعن في أنسبائه ولم يحتجّ بكلمة على سلوكها، ولم يحاول أن ينبّهها إلى ذلك ولو بملاحظة هيّنة ليّنة، بل عبّر أكثر من مرة لوالدته أنّه مستعد للتّضحية بجمانة وبهذا النسب دون أن يرفّ له رمش.

هل هي بادرة وعي على حياته وعلى مستقبله مع جمانة عندما أدرك نّ فرقا هائلا بين رؤية أسرته إزاء جمانة، وسلوك أسرة جمانة إزاءه، وما تحرص عليه أمّه في الطعن بجمانة، وما تحرص عليه جمانة في كيل المديح له، وما تثيره والدته في نفسه ضدّ جمانه، وما تطمئن به عائلة جمانة ابنتها في توثيق عرى محبّتها له، فماذا حدث ليصل أسامة إلى هذه النّتيجة: " شعر أسامة بالرّضا من حديث جمانة مع والديها وشقيقتها، قارن بينهم وبين والدته، فحزن على نفسه." 181.

في أوّل اتّصال هاتفيّ مرئيّ بين أسامة وعائلته جرى الحوار التالي: " اتّصل بداية ببيت أهله على برنامج“سكايب“ حيث يكون

صوت وصورة، ردّ عليه أبوه، بعد تبادل التّحيّات سأله أبوه:

كيف جمانة يا أسامة؟

 الحمد لله، إنّها بخير وتهديك السّلام.

الأجاويد." لست بحاجة لأوصيك بها خيرا، ”فالنّساء وديعة

 توكّل على الله يا أبي.

وهنا أمسكت والدته الهاتف وسألت:

 كيفك حبيبي؟ طمئنّي عنك، كيف بنت لطيفة معك؟

 الحمد لله ماما نحن بخير، ولا نريد إلا رضاكم وسلامتكم.

الحمد لله، سلِّط كاميرا الهاتف على غرف البيت، لأرى ما اشتريتموه من أثاث؟

 حاضر يا أمّي...وقام يدور في البيت بدءا من الصّالون وقال:

 هذا الصّالون، هل ترينه؟ ثمّ انتقل إلى غرفة النّوم، ثمّ المطبخ فالحمّام.

 ضحكت أمّه وقالت:

من أين أتيت بهذا الأثاث يا أسامة؟ هل يوجد عندكم سوق للخردوات؟ وهل أعجب بنت لطيفة؟

 لا يا أمّي هذا أثاث مستعمل، اشتريته من زميل غادر البلاد بعد أن ترك عمله. "وللي ما بغني بستر" يا ماما، وكما تعلمين فإقامتنا ليست دائمة في هذه البلاد، فلماذا نضيّع فلوسنا على أشياء تافهة؟

والله إنّك سبع يا ماما.

انفرطت جمانة ضاحكة عندما سمعت حديث حماتها، لكنّها انتبهت عندما سمعتها تسأله:

أين بنت لطيفة عنك؟

-        هي قريبة منّي هل تريدين الحديث معها؟

-        لا، لم أشتق لها بعد، لكن ابتعد عنها قليلا لأتحدث معك.

ابتعد عن جمانة وقال:

نعم...ماما أنا وحدي.

لم يعلم أنّ جمانة تبعته حافية القدمين دون أن يراها، فقالت له أمّه:

إيّاك أن تؤمّن لبنت لطيفة، والمثل يقول:"يا مؤمّن للنّسوان يا مؤمّن للميّة في الغربال"، حافظ على صحّتك، نوعيّة جمانة لا يشبعن ولا يقنعن.

انسحبت جمانة بعيدا وهي تبتسم على سخافة حماتها، قالت لنفسها:

"رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا" والله صدق من قال:" القرد في عين أمّه غزال."

أنهى أسامة مكالمته مع والدته، عاد إلى جمانة غاضبا دون كلام، سألته:

خيرا يا أسامة، هل أخبرتك الوالدة شيئا خطيرا؟

ردّ عليها بهدوء: لا...كلّ شيء على ما يرام، الآن سأطلب لك والدتك لتتكلّمي معها، طلب لها رقم الهاتف، وأعطاها هاتفه المحمول:

عندما رأت لطيفة ابنتها جمانة ضحكت وقالت:

أهلا بالغالية، طمئنيني عنك يا ابنتي، من يوم سفرك وأنا قلقة عليك، ووالدك يستيقظ صباحا مذعورا يقول:

أرى في منامي أنّ جمانة في ضائقة.

نزلت دموع جمانة وهي تقول:

ماما لا تخافوا عليّ، أنا بخير، وأسامة رجل طيّب أكثر ممّا تتصوّرون.

الأمّ: الحمد لله، وربنا يوفقكم ويحفظكم. لكن لماذا تبكين يا بنيّتي؟

مسحت جمانة دموعها وقالت:

أنا لا أبكي يا أمّي هذه دموع الفرح برؤيتكم والشّوق لكم.

اقتربت تغريد من والدتها، أمسكت الهاتف من يدها وسألت ضاحكة:

يا إلهي كم هو حجم الفراغ الذي تركتِه في بيتنا يا جمانة، طمئنيني عنك.

 جمانة: أنا بخير وأتمنّى لكم الخير.

تغريد: هل ستعملين مدرّسة في السّعوديّة؟

جمانة: لا...فأسامة لم يقبل.

- لِم َ لمْ يقبل فعملك في التّدريس يكون في مدرسة بنات.

 - لا حاجة لنا بالعمل، فدخْل أسامة جيّد والحمد لله.

 - وإذا أصبح عندكما دخلان فما المانع؟

 - اتركينا من هذا الكلام، كيف دراستك؟

 - الحمد لله.

 - أين الوالد يا تغريد؟

ارتبكت تغريد هنيهة وقالت:

 نائم.

 - ليس من عادته أن ينام في مثل هذا الوقت، هل هو مريض؟ قولي الصّدق يا تغريد؟

- قلت لك الوالد بصحّة جيدة، لكنّه عندما يذكر اسمك تنهمر دموعه، الوالد أكثر شخص يفتقدك يا جمانة، ولا يقدر على الحديث معك، لأنّه لا يستطيع التّحكم بعواطفه الجيّاشة.

نزلت دموع جمانة وهي تقول:ّ اه بابا يا حبيبي، لا تخف عليّ، أنا بألف خير. أعطني إياه يا تغريد.

اقتربت تغريد من والدها، مدّت إليه الهاتف وهي تقول: جمانة تريد أن تتحدّث معك. أمسك الهاتف، رأى جمانة على شاشته، عندما رأته جمانة قالت بلهفة:حبيبي بابا، كيفك؟

ردّ عليها باكيا وبصوت متهدّج:

 أ...أنا بـ..خي....ير.

 - لا تقلق عليّ بابا حبيبي، أنا بألف خير وبمنتهى السّعادة.

أمسكت أمّ جمانة الهاتف من زوجها وقالت لجمانة. لا تقلقي يا جمانة، فأنت مميّزة عند أبيك، لأنّك بِكرُنا، والابن البكر غال يا بنيّتي." ص 181.

بالتأكيد لاحظ أسامة بوضوحٍ الودَّ الذي تكنه أسرة جمانة لابنتهم وله، وبالتّأكيد أنّه لاحظ حكمة وحنكة جمانة، وما تتمتع به من ذوق رفيع ولباقة ولياقة وأدب، وهي تُطمئِن أهلها على نفسها وعلى حياتها، ولاحظ كذلك أنّها تحترم وجهة نظره وتتبناها، وتُقنِعُ بها في عدم سماح أسامة لها بالعمل مدرّسة ولا تسمح لأختها بأن تتحدث بما قد يضايق زوجها، "اتركينا من هذا الكلام" ممّا يعني عدم السّماح حتّى لأختها بالتّدخل في حياتهما، حتّى وإن كانت النّصيحة لصالحهما " وإذا أصبح عندكم دخلان فما المانع؟"

لم ير أسامة من جمانة إلا عقلا راجحا وحكمة وصبرا، بل فوق ذلك سمع ثناء عليه وطمأنة لعائلتها عن حياتها معه، فلم تشكُ جمانة من أوامره ونواهيه وفروضه وحرمانه لها من أبسط مقوّمات الحياة (الرّاديو والتلفزيون والكتب والهاتف) والمنزل البائس والأثاث الخردة.

مرايا وثنائيات

قرأنا من قبل كيف أثارث قصّة عائشة وحملُها وهي عذراء، جمانةَ قبيل زفافها، وكيف أرّقتها قضيّة العذريّة، وكيف أصبحت قضيّة العذريّة قصّة النّسوة يتحدّثن بها، ويتبارين في سرد تجاربهنّ، وكيف أن لهذه المسألة المرتبطة بالعرض والشّرف والسّمعة قيمة كبيرة تصبح كالخيط الرّفيع بين الموت والحياة في المجتمعات الإسلاميّة، وترتبط هذه المسألة بالعقيدة الدّينيّة وبالأعراف الاجتماعيّة المرعيّة، والتي تحدّد قيم الفرد والعائلة ومكانتهما في المجتمع، كما أنّ التّفريط بها يقيّض ذلك كلّه.

في مقابل جمانة الفتاة المسلمة الملتزمة شرعيّا والمتفتّحة بذكاء وحكمة ووعي على كتب التّراث الدّيني الإسلاميّ، وعلى الأداب العربيّة والعالميّة نجد فتاة تصغرها قليلا هي صابرين، ابنة عم أسامة، ابنة عز الدين، يشكل سلوكها وصمة، وكان يمكن أن تؤدي إلى كارثة وفضيجة بجلاجل لولا أنّ كلّ الأطراف عملت عل لملمة الموضوع، وزوّجت صابرين ليونس سفيان الذّهبي بين عشية وضحاها حتى لا ينكشف حَمْلُها السفاح جليّا واضحا، مع أنّ جميع من حضر كان يقضم لسانه لئلا ينطق بالمستور.

يقول لنا المؤلف جميل السلحوت بلسان حاله ومقاله معا، إنّ المجتمع الفلسطينيّ متنوّع ومتعدّد الانتماءات والتّوجّهات، وفيه من الميول والأهواء والسلوكات كثير من المتناقضات، وفيه مثل غيره تناقضات لا تخلو من سلبيات تنخر في بنيته.

جمانة تقابلها في الجهة المعاكسة لها صابرين، صابرين عزّالدين التي درست اللغة الإنجليزيّة في جامعة بيرزيت، في حين درست جمانة اللغة العربيّة في جامعة القدس. جمانة رمز الأصالة والتّمسك بالشّرع الإسلاميّ المعتدل المتفتح، في حين أنّ صابرين رمز التّغريب والانفلات والعري إلى حدّ التّفريط بعرضها.

جمانة التي تتقيّد بضوابط الأسرة والعائلة وأعرافها، وتحسب خطواتها بدقّة وتقيم اعتبارا كبيرا لكلماتها ومواقفها، ومطيعة لوالديها حتّى أنّها تقبل بزوج لم تعرفه عن قرب، ولم تقتنع به ابتداء، وكان القبول به أشبه بفرض عليها وبمخاطرة، في حين نجد صابرين وقد وضعت المهندس الذّهبي، ووضعت والده ووالديها والجميع تحت الأمر الواقع، وفرضت رأيها وموقفها بالزّواج من المهندس التّغريبي، خرّيج الهندسة من جامعة بير زيت أيضا. فرضت ما تريد حبّا أو غصبا بالقول أمام يونس الذّهبي لأنّها حملت منه..

صابرين الفتاة التّغريبيّة المنطلقة بلا قيود شرعيّة أو اجتماعيّة تخلع زيّها الشّرعيّ، وتتابع الموضة الغربيّة والماركات، وتعيش مع يونس حياة المجتمع الغربيّ في سيّارته، وفي الفنادق، وفي الشّواطئ، بعيدا عن ضوابط المجتمع وأعرافه، إلى أن عاشرها معاشرة الأزواج، بحسب اعترافها لوالدتها بصفاقة، تحت عنوان الحبّ، فحملت منه ووضعت الجميع تحت الأمر الواقع، بالكذب والالتواء، وصارت قصّة تلوكها ألسنة الرّجال قبل النّساء.

مؤسّستان وطنيّتان أكاديميّتان تعكس كلّ منهما توجُّها مضادا لما تعكسه الأخرى، جامعة القدس التي تُخرِّج جمانة ترمز إلى أنذها ذات توجّه عربيّ إسلاميّ وأصيل وملتزم بالعرف والتّقاليد المرعيّة اجتماعيّا، تقابلها جامعة بيرزيت التي رمزت من خلال يونس وصابرين إلى منهج التّغريب والعلم والسّلوك المنفلت، والفكر التّغريبيّ الذي يخرق القواعد والأصول والأعراف، ولا يقيم وَزْنا لقيم سائدة وراسخة في المجتمع.

وفي مقابل شخصيّة أسامة الشّابّ الأزهريّ المتديّن بتشدد وتطرف وانغلاق على فكر مُوجَّه أحاديّ الرؤية والفكر، والملتزم بأعراف المجتمع إلى حدّ فرض النّقاب على جمانة وتقييد حركتها، واختيار الكتب التي تطلع عليها، ولا يسمح لأحد أن يرى زوجته، هناك يونس الذّهبي، ابن سفيان الذّهبي، رجل الأعمال الغنيّ الثّريّ الذي لايخجل من التّعبير عن انفلات ابنه، وهناك ولده المهندس يونس صاحب المال والثّراء والسّياحات مع صابرين في المنتجعات والفنادق، والذي يبعثر المال يمينا وشمالا دون حساب، فيقدّم مهر صابرين سيّارة فاخرة، بينما ترضى جمانة بأقل من مهرها البالغ ٢٥٠ غرام ذهب.

هاتان صورتان كبيرتان من النّماذج المتضادّة في المجتمع الفلسطينيّ، يسجّل المؤلّف سلوك نماذج من كلّ منهما؛ ليكشف ما ينخر في هذا المجتمع من اختلالات، وقد أمسك المؤلف بخيوط العمل الرّوائيّ، يحرّك شخوصه؛ ليمثلّ كلّ منهم نمطا وفكرا متمايزا عمّا يمثله الآخر.

لو دقّقنا في هذه الشّخصيّات لوجدنا أنّ بناء الرّواية قائم على الثّنائيّة المتقابلة بما يشبه المرايا المتعاكسة، فمرآة فاطمة الشّريرة أمّ أسامة، تقابلها مرآة لطيفة الطيّبة أمّ جمانة، وأسامة المتطرّف دينيا يقابله يونس المنحرف دينيّا وأخلاقيّا، وأسامة مقتدر الحال والشّحيح على نفسه وزوجه، يقابله يونس المسرف والمبذّر، ومقابل جمانة الملتزمة شرعيّا وأخلاقيّا هناك صابرين المنطلقة دون حدود، وفي مقابل حياة أقرب إلى البساطة والفقر، هناك حياة البذخ والفيلات والسّيارات والقصور والفنادق والسّياحات.

ما يقوله السلحوت في هذه المرايا إن المجتمع الفلسطيني، مثله مثل بقيّة المجتمعات، فيه من التّيّارات والانتماءات الاجتماعيّة والفكريّة ما في سائر المجتمعات، وأن لا علاقة للدّم بذلك، فصابرين المنطلقة ذات الميول الغربيّة هي ابنة عمّ أسامة الإسلاميّ المتطرّف، يجمعهما التّطرّف، ويفرّقهما الاتّجاه، فأسامة إسلاميّ متشدّد وصابرين منطلقة بفكر تحرّريّ غربيّ. كلاهما متطرّف على طريقته، وكلاهما يشكّل خللا وعدم توازن في المجتمع.

ما أريد قوله هنا إن سمة الثّنائيّة والتّقابليّة هي إحدى صور التّقنيّات التي وظّفها السلحوت في هذه الرّواية للكشف، بل لفضح ما يحضر في المجتمع الفلسطينيّ، في إدانة واستنكار للتّطرّف في أيّ لون من ألوان الحياة كان. أسلوب المرايا المتعاكسة أسلوب كاشف قادر على تقليب الصّور والصّفحات وكشف المستور لفضحه، ليس لمجرد الفضح بل لإصلاح الخلل. لسان حال الرواية يقول:

أيّها المجتمع هذه بعض حقائقك المكشوفة والمخفيّة فكيف ستعالجها؟ وهذه أمراضك فكيف ستداويها؟ وهذه عِلَلُكَ فكيف تشفى منها؟ وهذه الثّغرات المفتوحة عليك فكيف تَسدُّها؟ وهذه المهدّدات لحياتك وانسجامك وتناسق حركتك، فكيف تتعامل معها؟

ليس من الضّروري أن يجيب الرّوائيّ على ذلك، فهو يكشف ويضيء ويفضح ويترك القرار لصاحب القرار.

"أنت طالق" منهجان ونتيجة واحدة

سبق أن أشرتُ إلى منهج أسامة الإسلاميّ المتشدّد والمتسلّط والمنغلق الوهّابيّ، وإلى منهج يونس الذّهبي التّغريبيّ المتحرّر.

تزوّج يونس وصابرين في حفل باذخ وفاضح في جو ملبّد بالأقاويل والشّكوك، وسافرا لقضاء شهر العسل في أوروبا، وصبيحة زواجهما يموت والدها، عزّ الدّين، كمدا ممّا سمع ورأى، ولا يخبرها يونس عن ذلك إلا بعد نحو أسبوعين، ثم تنجب ابنة بعد ستّة أشهر من زواجهما... ويطلّقها يونس بعد أن اكتشفت أنّه يخونها في فراش الزّوجيّة مع امرأتين.

وفي الرّياض عاشت جمانة حياة القسوة والتّسلّط والقهر مع أسامة، وبعد عشرة أشهر من زواجها تنجب ابنها سعيدا في البيت الخرب على يد امرأة بعد معاناة مخاض عسير طويل، وبعد مضيّ سنتين في السّعوديّة يعود أسامة وجمانة إلى الضّفّة الغربيّة، وفي أوّل زيارة تقوم بها جمانة إلى عائلتها أخبرتهم أنّها قررت أن تخلع أسامة بسبب ما رأته منه، وما عانت معه. يطلق أسامة جمانة " أنت طالق يا جمانة" ، وتنتهي الرّواية بشماتة فاطمة بكنّتها جمانة.

نتيجة الحكاية هي أنّ جمانة وصابرين ضحيّتان: الأولى ضحيّة تطرّف يلبس لبوس الشّرع والدّين، والثانية ضحيّة تطرّف يلبس لباس التّحرّر والتّغريب، الأوّل قاسٍ ومتسلّط وقامع وقاتل لمعاني الطّيبة والصّبر والتّفتح، ويتعامل مع المرأة كآلة لتفريغ شحنته الجنسيّة وماكينة للتّفريخ، وتعمل كروبوت بالرّيموت كونترول، والآخر مستهتر يعامل المرأة كدمية يستمتع بها ثم يتخلّى عنها، ويستر فواحشه بالمال.

كلا المنهجين فاشلان ذلك لأنهّما متطرفان، أي أنّ التّطرف مصيره الفشل والخيبة. وبوادر هذا الفشل ومقدّماته كانت تظهر تباعا منذ الصّفحات الأولى للرّواية، فلم يكن أسامة أو يونس يقيم اعتبارا للمرأة كإنسان، بل تعامل كلّ منهما مع المراة كمادة وسلعة للمتعة.

ولكن لماذا جعل الكاتب كلا المرأتين تنجبان، واحدة تنجب ولدا، والأخرى تنجب بنتا؟ جناية التّطرف لا تتوقّف عند جيل واحد، بل إنّ ضحايا التّطرّف ممتدّة ومتوالدة، وهذا تقبيح للتّطرّف يطال حتّى الأطفال الأبرياء. هل سوف يتزوّج سعيد الطفل من جورجيت الطفلة مستقبلا؟

سأحتفظ بهذا السؤال وانا أقرأ الروايات القادمة للسلحوت.

في كلا المنهجين هناك شكل وادّعاء للحبّ، فالتّطرّف لا يعرف الوفاء ولا يعرف الحبّ. المتطرف لا يهمه سوى ذاته، ولا يهمه الآخرون حتى لو كانوا فلذة كبده. أسامة متبجّح بفحولته، ويونس متبجّح بماله وبذخه، وكلاهما تخلّص من زوجته وكأنما كان ينتظر أن تحين تلك اللحظة.

انتهت الرّواية بجملة غريبة مريبة لوالدة أسامة " أخبر أسامة والديه بما جرى بينه وبين جمانة، فقالت والدته:

لا ردّها الله، وقد فعلتَ خيرا بطلاقها، سنزوّجك صابرين ابنة عمّك، فلديها عشرات آلاف الدّنانير التي حصلت عليها من طليقها."

هذه الجملة الغريبة ذات دلالات ومعاني، فأمّ أسامة تعرف كلّ شيء عن صابرين، وقالت في حقّها طعنا كثيرا، وتعرف منهج أسامة ومنهج صابرين، فهل أعماها شرّها وحقدها على جمانة وعلى صابرين معا؛ لتفكّر بتزويج ولدها من صابرين؟

هي نفسها، فاطمة، أم أسامة، فسّرت أنّ سبب هذا الزّواج، أو على الأدقّ اقتراحها الزّواج، هو الطّمع بالمال، مال صابرين، فهل غلبت قيمة المال على القيم الأخرى التي تتشدّق بها هذه المرأة الشّرّيرة، سليطة اللسان، الفضّاحة، كما رسمها لنا الرّاوي في مواقفها في الرّواية كاملة؟

وهل أنتظر أن يكون موضوع الرّواية القادمة لجميل السلحوت هو الإعلاء من شأن المال ونتائجه؟

شخصيّات ونماذج وواقع

تعتبر الشّخصية هي العنصر الأساسي في العمل الرّوائيّ؛ لأنّها هي المحرّك الرّئيس للاحداث ولعمليّة السّرد، وهي الفاعل في الصّراع، ولا تكتمل إلا عندما يضع الكاتب نقطة النّهاية في الكتابة، أو عندما ينتهي القارئ من قراءة الكلمة الأخيرة في الرّواية.

ولقد قيل وكتب الكثير الكثير عن الشّخصيّة الرّوائيّة وعن مصادرها وأنواعها وأدوارها وعن علاقتها بالواقع وبالمؤلّف. وما يهمني الآن هو الوقوف على علاقة الشّخصيّة بالواقع وبالمؤلّف من حيث الصّفات والفكر.

استهلّ جميل السلحوت روايته بهذا التّحفظ: "ملاحظة: الأسماء الواردة في هذا النّص متخيّلة، وإن وجد شبيه لها على أرض الواقع فهو محض صدفة." ص 4.

هذه الملاحظة نهج متكرّر ليس في روايات السلحوت السّابقة فقط، بل في كثير من الأعمال الروائيّة العربيّة، فلماذا هذا التّحفظ؟

ينبعث هذا التّحفظ، وهذه الملاحظة من خشية المؤلّف من أن تتطابق شخصيّاته التي صنعها لفظيّا مع شخصيّات واقعيّة في الحياة، وهي تشير إلى أنّ تلك الشّخصيّات قد التقطها المؤلّف من الحياة الواقعيّة حوله، مضيفا إليها شيئا من الخيال، ومع ذلك ظلّ إحساسه أنّ ما أضافه خياله لم يخرجها من دائرة الواقع لشدّة التصاقها به وتمثيلها له، وبالتّالي فإنّ ذلك يشكّل قلقا أخلاقيّا وقانونيّا للمؤلّف، وهذا ما يدفعه لهذا الاحتراز والتّحفّظ.

هذا يقودني بالضّرورة إلى القول إن رواية الخاصرة الرّخوة، تصوّر الواقع، وتتمثل تفاصيله، وتنبش في خباياه وخفاياه، وتفضح أسراره، وتضع الإصبع على دمامله وجروحه، وتشير إلى ما في ذلك المجتمع من خلل، وما فيه من خصائص ذات طابع إيجابيّ وإن قلّ، وهذا بحدّ ذاته دليل على مدى اطّلاع الكاتب على واقع المجتمع، وما يملكه المؤلّف من قدرات تحليليّة، ومن عين ناقدة لسلوكات ذلك المجتمع وقيمه وأفكاره وتصوّراته، ثم قدرته عل تصنيفها في قوائم أو أطر، ثم قدرته على إلباس تلك المفاهيم والمواقف والقيم والافكار لشخصيّات استلهمها من الواقع، وأضاف إليها ما يجعلها شخصيّات روائيّة تستقلّ بذاتها عن أشخاص الواقع الحيّ. لكنّه قلق من مطابقتها للواقع كليّا.

تحفظ السلحوت ينطلق من الخشية أن تتطابق تلك الشّخصيات، مسمّيات، وصفات، وسلوكا مع أشخاص يعيشون بين ظهرانينا، وليس ذلك فقط، بل حتّى تصوّرا ولغة وعادات وأسلوب حياة.

صحيح أنّ السلحوت يدرك أنّ شخصيّاته هي شخصياّت روائيّة، وهي كائنات ورقية من صنع يديه كما يرى رولان بارت، ولكنّها لشدّة التصاقها بالواقع وتمثيله تكاد تلمسها في الواقع وتراها وتسمعها.

فهل فعلا كان الأمر كذلك في الخاصرة الرّخوة؟

لقد سبر السلحوت المجتمع حوله، وصنّفه، ووضعه في قوالب فكريّة وسرديّة تجعل القارئ يشعر فعلا، وهو يتابع حركة مسرحيّة، أنّه يشاهد حياة حقيقيّة تعيش فيها الشّخصيّات بهذه المفاهيم، وبهذه الأفكار، وبهذه القيم، ولا يكاد يخرج أفراد المجتمع الحقيقيّ عن الأطر والتّصنيفات التي وضعها المؤلّف فيها، بكلّ ما في تلك الأطر من صفات وخصائص. هذه الأطر المحكومة بتصوّرات المؤلف، والتي لا تفلت خيوطها من بين يديه، يتحرّك كلّ منها بحركة محسوبة ومضبوطة بقدر ما يسمح به المؤلف؛ لتؤدّي دورا أو أدوارا موضوعة ومحدّدة سلفا للوصول إلى نتيحة مرسومة مسبقا، بل كأنّ حوافّ كلّ شخصيّة من الشّخصيّات قد نحتت وقُدّت بحدّ السّيف، هو قلم المؤلف، لتمثّل فكرة، ولتجسّد موقفا، ولذلك تستطيع كقارئ أن تتكهنّ من الصّفحات الأولى بسيرورة الأحداث ونتائجها، لأنّ الشّخصيّات قد تقولبت، فالمقدّمات تؤدّي إلى النّتائج، ولن يحدث فرق إلا في التّفاصيل الصّغيرة، فتلك شخصيّات مسيّرة محكومة بقدريّة مخطّط مسبق لها.

اختلاف الثّقافة، واختلاف المفاهيم، واختلاف مصادر المعرفة والمرجعيّات، واختلاف التّوجّهات، واختلاف الطّبقات الاجتماعيّة، واختلاف الأعمار، واختلاف الآمال والطّموحات، واختلاف الأساليب في الوصول إلى الأهداف، واختلاف التّصوّرات عن الحياة والعالم والإنسان والذّات والآخر، تلك التي تحدثتُ عنها فيما سبق، كانت أساس الصّراع الحاد في المجتمع، وهي أسباب الشّروخ العميقة في بنيته، وهي عناصر الصّراع في العمل الرّوائيّ، وهي بمقدّماتها تفضي بالضّرورة إلى النّتائج التي قرأناها.

هذا التّطرف المتشنّج في كلا الاتّجاهين، وهذه الفوضى في المفهوميّة والسّلوك هي المسؤولة عمّا يعاني منه الأفراد في ذلك المجتمع، وبالتّالي المجتمع كلّه، من كوابيس تؤرّقه، وكلّ فرد فيه يأرق ويقلق، وكلّ منهم يعبّر عن أزمته بطريقته، وينهج في الحياة بأسلوبه، فكانت النّتيجة إمّا ان يكون جانيا أو أن يكون ضحية، لأنّ الموازين مختلّة، والعدالة مفقودة، ولا اعتراف بحقوق الآخرين، وتؤدّي السّلوكات إلى كوارث نتيحة تلك الفوضى الضّاربة العارمة، فطلاق صابرين وجمانة كارثة مزدوجة لهما ولطفليهما، وعزّالدّين يقضي منفجرا كمدا وقهرا ليلة زفاف ابنته بدل أن يكون فرحا سعيدا لفرح فلذة كبده، هكذا تحوّلت قرّة العين إلى قاتل من غير أن تدري؛ لأنها انطلقت في عالم ليس لها به جذور. وحياة أسامة رجعت إلى الصّفر، ويونس ضاع فوق ضياعه القديم، ولسان فاطمة يلوك الأعراض ويضرب يمينا وشمالا على غير هدى سوى هدى الشّرّ إن كان للشّرّ هدى، ويكظم الآخرون غيظهم وحسراتهم ويشدّون بمعاصمهم على جراح نازفة.

مرجعيّات هذا المجتمع ومصادر ثقافته وتربيته لا انسجام بينها، ممّا أدّى إلى تلك التّناقضات التي قادته إلى الفشل، إلى مقتله.

واحدة من هذه المرجعيّات هي المفاهيم العتيقة التى عفا عليها الزّمن والتي تنخر في بنية هذا المجتمع وتأكلة كالسّوس والصّدأ، ومثال ذلك التّمييز الاجتماعيّ والتّعامل بفوقيّة مقيتة.

ومرجعيّة أخرى تعود إلى التّراث (أسامة) فلا تستلهم منه إلا شكليّات لا تلائم هذا الزّمان وأهله، بل تقتل الإنسانيّة في الإنسان، وتجعل منه كائنا جبّارا متسلّطا يفرض ما يشبه الموت على من يفترض أن يرعاه ويحفظه ويرقيه، أو تحوّل الإنسان إلى تابع ذليل لا إرادة ولا رأي ولا شخصيّة له (جمانة). ومال فائض عن الحاجة لا نعرف من أين أتى يستغلّ في الحرام وفي انتهاك حرمات الله، وفي الفجور (يونس)، وآخر تائه ضائع على غير هدى سوى هدى الرّغبة (صابرين).

تناقض هذه المرجعيّات أرهق الجميع، وجلب الكوارث والظّلم، وليس ذلك فقط، بل أخذ هذا الظّلمُ، وهذا الفجورُ في سيله العرمرم بذور خير كان يمكن أن تنتج ثمارا طيّبة، فجمانة كانت بذرة خير قضى عليها تطرّف دينيّ، وصابرين كانت بذرة خير خلع فجور المال لباسها الشّرعيّ، وألبسها لباس العهر والفجور وانتهت ضحيّة هي وابنتها كما جمانة وولدها.

فهل فوق هذه الإدانة من إدانة؟ هل بعد هذا الكشف والفضح كشف وفضح؟

يبدو أنّ هذه الرّواية ما زالت تفتح الشّهيّة للحديث.

مصادر معرفية وفكرية

ذكر سابقا أنّ الشّخصيّات في العمل الرّوائيّ كائنات ورقيّة لفظيّة أضفى عليها المؤلّف صفات معيّنة؛ ليقول أشياء معيّنة، ويجعلها تنطق وتتحرّك وتتصرّف من أجل تخيّل مواقف؛ وليجري على يديها أحداثا ذات مغزى. ونتعرّف على تلك الشّخصيّات وصفاتها ممّا يقال عنها، أو ممّا تقوله عن ذاتها، وممّا يستخلص يُستَشفُّ من تصرّفاتها وسلوكها؛ ليعكس صفاتها.

والصّفات لا تلصق بالشّخصيّات الرّوائيّة اعتباطا، بل يؤتى بها لتؤدّي وظائف في العمل الرّوائيّ، ينتج عنها الصّراع الضّروريّ في المنجز الرّوائيّ.

وبالعودة إلى الخاصرة الرّخوة فإنّنا نجد أنّ تلك الشّخصيّات رئيسيّة وثانويّة شخصيّات مُسطّحة، ذلك أنّها كلّها بقيت ثابتة الصّفات طيلة الرّواية، ولم تنمُ ولم تتطوّر بتغيّر العلاقات البشريّة أو بنموّ الصّراع، فملامح تلك الشّخصيّات ظلّت كما هي منذ بداية الرّواية حتى نهايتها، وكان يسهل التّكهنّ بما ستسلكه تلك الرّوايات، وما ستكون مصائرها، فأسامة كان منذ البداية شيخا أزهريّا متشدّدا ومن المتوقّع إلى أين سينتهي في علاقته بجمانة، وكذلك بقية الشّخصيّات.

وعودة إلى مصادر المعرفة والفكر التي شكّلت عقليّة كلّ واحد وواحدة من الشّخصيّات، فهناك مجموعة من الشّخصيّات الثّانويّة والمتفاوتة في ثانويّتها، وتضمّ والد أسامه ووالدته وعمّه عزّالدين وزوجته وأمّ جمانة ووالدها وآخرين، وجميع هؤلاء من مجتمع فلسطينيّ تقليديّ ليس لهم حظّ كبير من العلم والثّقافة سوى الثّقافة الشّعبيّة الموروثة، واليوميّة التي ظهرت من خلال الأمثال والحكم والتّصرّفات الطّبيعيّة المألوفة وممارسة العادات الاجتماعيّة المستقرّة في المجتمع عبر الأجيال، ولا جديد أو مفاجآت في سلوك هؤلاء وتصرّفاتهم سوى ما وجدناه في حفل زواج يونس وصابرين من قيم وعادات دخيلة، تتناقض وما هو مألوف ممّا أثار أصحاب القيم المجتمعيّة التّقليديّة، وكانت تلك السّلوكات مدانة ومستهجنة ومنتقدة، وكان خروجها عن المألوف بسبب الثّراء والتّأثّر بالفكر الغربيّ المنطلق من عقال البيئة المحليّة.

المنظومات القيميّة والفكريّة التي تشكّلت لدى هذه الشّخصيّات عامّة كانت منظومات متوارثة، ومتعارف عليها، في اللفظ، والسّلوك وطريقة التّفكير، وهي تضمّ في داخلها تفاوتا يبعث على صدامات وتناقضات صغيرة ضمن التّناقضات الاجتماعيّة الكبرى، كالفرق بين لطيفة، أمّ جمانة، وفاطمة، أمّ أسامة، والاحتكاكات التي حصلت بينهما. ولكن هناك منظومات فكريّة جديدة، وطارئة، بفعل تفاعلات وعوامل جديدة. من ذلك شخصيّات جيل جديد تأثّر بمؤثّرات وبمنظومات قيم جديدة، وعلى رأس هؤلاء أسامة وجمانة، وصابرين، ويونس ووالده. ومن الشّخصيات البارزة ذات الدور في الرّواية شخصيّة صابرين، ونجد الإيحاء إلى مصادر فكرها التّغريبيّ المنطلق يأتي من معلومة صغيرة وهي دراستها اللغة الإنجليزيّة في جامعة بيرزيت، وكأنّ هذه العلاقة، مضافا إليها علاقتها بيونس ابن الثّراء المفرط، والمتخرّج من الجامعة ذاتها مهندسا، كان مصدرا لكي تتأثّر صابرين بهذا الفكر الغربيّ، فتخلع الحجاب، وتتبنى الفكر التّغريبي شكلا وسلوكا وفكرا. وفي الوقت ذاته أدّى الثّراء الفاحش إلى خروج والد يونس عن المألوف في مهر صابرين، وفي حفل زفافها على ولده يونس.

أمّا جمانة فقد درست اللغة العربيّة في جامعة القدس، وقرأت كتب الأدب العربيّ من القديم والحديث، واطّلعت على آداب عالميّة مشهورة ومؤثّرة، واطلعت على كتب شرعيّة متنوّعة المشارب والتّوجّهات من القديم في كتب الأصول، ومن مؤلّفين إسلاميّين محدثين، وكلّ ذلك أنتج شخصيّة مثقّفة ثقافة واسعة، وأنتج سعة أفق، وسعة في الصّدر، ورغبة في الحوار للوصول إلى القناعات، وأنتج رغبة في الاطّلاع الدّائم، والحرص على معرفة الجديد، بأسلوب راق أخلاقيّا، لا يؤمن بالصّدام بل بالحوار والمنطق والفكر النّاقد، مع رفعة في الحوار وسموّ في الأخلاق، ولكن مع شيء من نزعة سوداويّة حسّاسة (المسخ لكافكا). هذه الشّخصية هي نتاج ما قرأته وما اطّلعت عليه من آداب صنعت منها شخصيّة مؤدّبة بالمعنى الأخلاقيّ والفكريّ، واستشهاداتها أمام أسامة بما اطّلعت عليه من كتب يدلّ على ثقافة واسعة وعريضة ومتنوعة، صقلت شخصيّتها بتلك الصّفات وجعلتها تسلك ما سلكت بسموّ ورقيّ وتهذيب على غير ما فعلت صابرين.

وأمّا أسامة، الشّخصيّة الرّئيسة في الرّواية، فإنّنا نجد فكره يتكوّن من دراساته التي اطّلع عليها، وفي مصادر فكره التي ذكرها بنفسه في إيراد الحجج، وهذه المصادر أسّست على دراسة الشّريعة في الأزهر، ثم الاتّكاء كليّا على كتب السّلفيّة المتشدّدة قديما وحديثا، مثل كتب ابن تيميّة، وكتب المتشدّدين الوهّابيّين المعاصرين وأقوالهم وفتاواهم. كما أنّ أسامة كان يعتمد على نصوص القرآن الكريم والأحاديث النّبويّة الشّريفة بانتقائيّة وقصد، بمعنى أنّه ينتقي من نصوص والقرآن، أو الحديث، أو حتّى آراء العلماء، ما يؤيّد ويدعم فكرة يتبنّاها مسبقا، ثمّ يبحث في النّصوص والكتب والفتاوى عمّا يدعم رأيه المتشدّد المسبق.

أسامة نشّأته فاطمة، أمّه، الشّريرة، الحقود، الغيور، المتهوّرة، وسليطة اللسان، فكأنّما أورثته شبقها، وأوجدت فيه نزعة إلى الفوقيّة والاستعلاء وحبّ السّيطرة والتّسلط، وغرست فيه رغبة في الأنانيّة والتّفرد، ونزعة إلى القسوة، ونزعة إلى الانغلاق، وعزّز هذه النّزعات ما اكتسبه من قراءاته الانتقائيّة، وما وقع تحت تأثيره أثناء وجوده في السّعوديّة من التّأثّر بالفكر المتشدّد القديم والحديث.

كلّ تلك العوامل صنعت منه إنسانا قاسيا، وأكثر ما ظهر ذلك علاقته بجمانة، زوجته، فظهر متسلّطا يحبّ السّيطرة وفرض رأيه، بخيلا شحيحا لا يقبل الحوار ماديّا شبقا، لا يقيم للمرأة اعتبارات إنسانيّة، ولكي يمارس هذه الصّفات كان يقوم بانتقاء النّصوص الشّرعيّة وآراء العلماء والفقهاء الذين تلقن آراءهم المتشدّدة، ولا يتردّد في توجيهها لخدمة غرضه أو إخراجها من سياقها؛ ليدعم وجهة نظره وقمع وجهة النّظر الأخرى بسيف الشّرع وسلاحه.

إنّ إيراد مصادر المعرفة والفكر هذه في الرّواية يدل! على مخزون اجتماعيّ تراثيّ، وعلى معارف موسوعيّة في الفكر والعلم والأدب لدى المؤلّف، وكان توظيف هذه المتناصّات من أمثال كثيرة جدّا وآراء علماء، ونصوص موفقّا وحققت الهدف الذي جيء بها من أجله في رسم الشّخصيّات وإحداث الصّراع المطلوب للعمل الرّوائيّ، ولم يكن هناك ما يسبّب الخلل الفنّيّ إلا نادرا جدّا حين الإطالة قليلا حول المعلومات الطبّيّة عن العذرية، إذ غلبت على تلك الفقرة نزعة التعليم والتّثقيف.

المزيد من المقالات...