يكشف لنا الكاتب الفرنسي فكتور هوجو في كتابه الشهير البؤساء أن الظروف الاجتماعية التي يعيشها الفرد قد تؤدي به إلى ارتكاب الجريمة، فنرى الشخصية الرئيسية جون فالجان يرتكب جنحة ويسرق رغيف خبز كي يُطعم والدته وأخوته الصغار، وعلى الرغم من ضآلة حجم الفعل الذي يقترفه جون فالجان إلا أن المحكمة تحكم بسجنه مدة خمسة أعوام، يحاول خلالها جون فالجان الهرب؛ فتصبح مدة محكوميته 19 عاما، وكل ذلك بسبب سرقة رغيف خبز. أمّا الكاتب الروسي دوستويفسكي في روايته الشهيرة الجريمة والعقاب فيُبيّن لنا أن ارتكاب الجريمة هو عمل طوعي وسلوك عقلاني غالبا ما يتمخض عنه ألم واكتئاب وشعور بالذنب، وصراع أخلاقي في ذهن مُرتكب الجريمة.

يمّر الإنسان أثناء حياته بتجارب شتى منها ما يُعزّز روح الخير فيه، ومنها ما تدفعه رغما عنه إلى اقتراف أعمال متهورة قد يدفع ثمنها غاليا، ولكن من وجهة نظره يعتقد أنه يحقق العدالة ويثور على الظلم. وهذه هي حالة فدوى القابعة في أحد السجون المدنية الفلسطينية، والتي تسمّى تلطيفيا مراكز الإصلاح والتأهيل.

تعرّفت على فدوى أثناء زيارتي إلى أحد السجون الفلسطينية برفقة فريق من خبراء السجون الأوروبيين الذين يعملون على دعم مراكز الإصلاح والتأهيل في فلسطين، ويتخذ هذا الدعم أشكالا مختلفة منها على سبيل المثال ترميم السجون وتأثيثها وبناء سجون جديدة. وكنت كلمّا أزور سجنا أتوق إلى الحديث مع النزلاء، فأطلب إذنا من مدير السجن كي يسمح لي بالتحدث مع بعض النزلاء، وبعد التأكد من براءة مبتغاي يعطيني مدير السجن الإذن بالحديث. ولم أطمح في مقابلة النزلاء الذكور بل اهتممت أكثر بمقابلة النساء من النزلاء؛ لمعرفة الأسباب التي تدفعهن إلى مخالفة القانون وارتكاب الجريمة لا سيما وأن نسبة النساء اللواتي يرتكبن الجريمة في ارتفاع مستمر، وهذا ما يخالف القاعدة عندما يتعلق الأمر بأدوار الجنسين.

كانت النزيلات صغيرات السن، وكانت أكبرهن لا تتعدى الثلاثين عاما. وعندما سألتهن عن سبب محكوميتهن، فأجبن الكثير منهن أنهن قتلن أزواجهن أو حاولن قتلهم، وأن المحكمة حكمت عليهن بالسجن لسنوات طويلة. كانت إجابتهن بمثابة صدمة بالنسبة لي، إذ تساءلت في قرارة نفسي عن الدافع الذي قد يؤدي بزوجة في ريعان شبابها إلى قتل زوجها. وهل بالفعل يمكن لمثل هذه الجرائم أن تحدث في مجتمعنا الفلسطيني المحافظ؟

عندما أحضر حارس السجن فدوى إلى غرفة مدير السجن، حيث أجريت معها المقابلة ظننت للوهلة الأولى أنني أنظر إلى تمثال دبّت فيه الحياة فجأة. كانت تجّر نفسها جرّ،ا تكاد ساقاها لا تحملانها، وتنظر يمنة ويسرة كأنها تكتشف عالما جديدا لم تعتد عليه. لم تشعر فدوى بالحرج من وجودي واستقبالها لي، بل تحدّثت بثقة كبيرة وبكل صدق. كان صوتها ناعما رقيقا مما ولّد في داخلي شعورا بالعطف نحوها. أحسست في صوتها حلاوة شيطانية زادني فضولا وشوقًا للاستماع إلى قصتها.

فدوى فتاة ممتلئة تبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما، طويلة القامة نسبيا مقارنة مع غيرها من الفتيات، داكنة البشرة تميل إلى السمرة، رقيقة وتشّع ملامح وجهها ببراءة صادقة. عيناها العسليتان تلمعان كأنهما مرآتان تعكسان شعورا بالرضى والطمأنينة.

أمضت فدوى طفولتها في قرية نائية في محافظة نابلس وتزوجت مرّتين. عندما بلغت من العمر ثمانية عشر عاما تقدّم لخطبتها شاب كان عمره آنذاك عشرين عاما، ووافقت على الفور نكاية بوالدها الذي كان يعتزم تزويجها من ابن أخيه الذي أحبهّا رغما عنها. وكان ابن عمّها قد صرّح لها بحبه وطلب منها أن تتزوجه، لكن فدوى كانت تكره كرها شديدا زواج الأقارب، فرفضت ذلك الحب وواجهت والدها وتحدّته، وقبلت أن تتزوج الشاب، وهي تعرف تماما أن علاقتها معه لا تستند إلى الحب، وإنما جاءت كردّة فعل على ظلم أبيها وطغيانه عليها. قضت فدوى عاما كاملا مع زوجها وخلال هذه الفترة كانت تشعر وكأنه غريب عنها لا يربطهما رابط سوى الرغبة الجسدية والشهوة، فقررت من تلقاء نفسها أن تتطلق منه دون احتساب النتائج التي قد يسببه طلاقها على حياتها وعلى علاقتها مع أسرتها ومع المجتمع الذي تنتمي له. وبالفعل تمّ الطلاق وتعقدت علاقة فدوى مع أهلها خاصة أباها الذي توهّم أن طلاق ابنته كان عقابا لها على عصيانها لإرادته. غير أن الحظ ابتسم لفدوى مرّة أخرى إذ بعد مرور عدة أشهر من طلاقها تقدّم لزواجها شاب اسمه أمجد ويبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما، شاب وسيم يعمل ميكانيكيا ميسور الحال يؤهله دخله من فتح بيت وإنشاء عائلة. وقد تحمسّت فدوى لبدء حياة جديدة مع أمجد ولدفن مآسيها مع زوجها السابق في قبر النسيان. لم تتردد فدوى بقبول أمجد زوجا لها، لكنها سوف تكتشف قريبا أن قرارها هذا سيدّمر حياتها ويضع نهاية لآمالها وأحلامها.

ألقت الشرطة القبض على فدوى في شباط 2014 متهمة إياها بقتل زوجها مع سبق الإصرار والترصد. أمضت فدوى ثلاثة أعوام ونصف في السجن، وخلال تلك الفترة لم تذهب إلى المحكمة ولو حتى لمرّة واحدة. كانت موقوفة بانتظار المحاكمة. لم تكن متأكدة من المدة التي ستقضيها في السجن بينما قضيّتها عالقة لدى النيابة. وبعد نفاذ صبرها وبناء على مشورة محاميتها لجأت فدوى إلى مؤسسات حقوق الإنسان التي تمكنت من مساعدتها والبدء بإجراءات محاكمتها. ومع ذلك حتى هذه اللحظة لم تبت المحكمة بقضية فدوى، وهي حائرة مستاءة تعيش في حالة من الغموض والحيرة والريبة والخوف من مستقبل مجهول.

قالت فدوى بحسرة وسخط: "حتى الآن أنا موقوفة ولم تتخذ المحكمة بعد قرارا نهائيا بشأني كما أن المحكمة ترفض إطلاق سراحي بالكفالة. فالتأجيل في الحكم يؤثر علينا سلبا خاصة نحن النزيلات اللواتي لهن أطفال. لدي أربعة أطفال، ثلاث بنات وولد وهم الآن في الملجأ لأن أهلي يرفضون استقبالهم بسبب الظروف التي مررت بها والأوضاع التي أعيشها. أطفالي بحاجة لي كما أنني بحاجة لهم".

لم تقتل فدوى زوجها لكنها شريكة في الجريمة. أمّا القاتل الحقيقي فيبدو أنه ابن عمها الذي أحبّها وسعى إلى الزواج منها قبل عدة سنوات. كان ما يزال يضمر لها مشاعر الحب، وعندما حدثته عن علاقتها مع زوجها أمجد، وفي لحظة جنون ودون إيلاء أية اعتبار للعواقب اتخذ ابن عمّها خطوة حمقاء وقام بقتل زوج فدوى، وهو يقبع حتى الآن داخل السجن. وعلى الرغم من أن فدوى لم تتوقع مثل هذا الفعل الشنيع من ابن عمّها إلا أنها أحسّت في صميم ذاتها باغتباط كبير؛ لأنه أنقذها من حياة ذليلة ومهينة، ومن اضطهاد زوج كان يسيء معاملتها ويسبب لها الأذى الجسدي والنفسي. بكت فدوى بحُرقة، وبصوت كئيب عال بعض الشيء، قالت بأنها بريئة وأن الحقيقة ستظهر يوما ما، وأضافت: "على المحكمة أن تُسرّع إجراءات المحاكمة كي أثبت براءتي. أنا ضحية زوج حقير نذل. أنا ضحية مجتمع لا يعرف الرحمة ولا يحترم المرأة".

شعرت بالحيرة والارتباك، وكنت أرغب في تعزيتها ومواساتها. لمست يدها دون أن أدري، وتمنيت لو أنها تجد السلام الداخلي وراحة البال التي حُرمت منها طوال السنين التي قضتها في السجن.

فدوى مقتنعة تمامًا أنها ضحية مجتمع قاس لا مبال، وأنها ضحية أسرة لم تعرها اهتماما ولم تُظهر لها حبا. قالت لي أن والدها متلهف للتخلص منها كونها مجرد فتاة تقع مسؤوليتها على عاتق زوجها. ومنذ إلقاء القبض عليها أصبحت فدوى وصمة عار لعائلتها، وفي أكثر من مناسبة تلقت تهديدات بالقتل من طرف اقاربها. وهنا قاطعتها وقلت لها: "إذن يوفر لك السجن مكانا آمنا يحميك من القتل". ابتسمت مستهجنة سذاجتي وأجابتني: "هذا ممكن، لكنني لا أريد أن أقضي بقية حياتي في السجن هاربة من أسرتي".

سكتت فدوى فجأة عن الكلام وعمّ الهدوء داخل مكتب مدير السجن. ومثل شهريار الذي كان ينتظر بشدة إلى ماذا ستؤول نهاية حكايات شهرزاد، كنت أنتظر بشدة الاستماع إلى بقية قصة فدوى. نظرت إلى فدوى استجدي منها أن تستمر في سرد حكايتها على الرغم من واقعها الأليم والأثر السوداوي الحزين الذي تولدّ فيّ، والذي لازمني مدة طويلة بعد مغادرتي السجن ولقائي مع فدوى. تنهدّت ثم روت لي عن علاقتها مع زوجها أمجد وكيف كان يعاملها.

تحدّثت فدوى بصوت خافت يقرب إلى الهمس، وكأنها تريد أن تطمر ذكريات مؤلمة لا تبغي استذكارها. قالت: "كان زوجي يضربني، وكان يمارس معي الجنس عنوة، وفي بعض الأحيان كان يجلب أصدقاءه كي يمارسوا معي الجنس، وكان كلما حاولت الإفلات يضربني ضربا مبرحا على مرأى ومسمع أصدقائه وهم يتلذذونويتمتعون بآهاتي وبكائي". أضافت فدوى أن زوجها كان يتلذذ بالإساءة له،  ويشعر بنشوة الرجولة. أردفت فدوى في حديثها قائلة: "أعتقد أنه كان يعاني من عقدة النقص. لم يكن إنسانا طبيعيا أبدا". اكتشفت فدوى متأخرا أنها تزوجت من رجل مخبول أدهشها بسلوكه وتصرفاته الشاذة. فقد سمعت عشرات القصص عن نساء ذقن الأمرّين مع أزواجهن، لكنها لم تتصور أبدا أنها يوما ما ستكون ضحية رجل منحرف سادّي.

في المجتمعات التقليدية المحافظة تعتبر الزوجة دائما هي المسؤولة عمّا يجري بينها وبين زوجها،ولذلك لم تتجرأ فدوى على البوح لعائلتها أنها تعاني كثيرا من زوجها. تذمرت فدوى قائلة: "المرأة مصدر عار لأهلها وفي كثير من الأحيان يحاول الأقرباء قتلها". اعتقدت عائلة فدوى أن ابنتهم لا بد أن تكون مذنبة، لأنه تمّ إلقاء القبض عليها وتوقيفها، وهي تستحق العقاب، ولذلك لم يبق أمام فدوى إلا أن تواجه مصيرها وتستسلم له.

لم تكن علاقة فدوى مع أهل زوجها جيدة أيضا، ولذلك قررت أن لا تتواصل معهم. كانت عائلة زوجها متزعزعة ومضطربة يبتليها الكثير من المشاكل، وربما كان لها أثر سلبي على شخصية أمجد. كان أمجد يجد متعة كبيرة في تعنيفها وكان يبتهج حين يرى جسدها يتلوى من الألم مثل الأفعى التي تصارع الموت وهي تصرخ طالبة الرحمة. وعقب تفريغ غضبه على زوجته، كان أمجد يهدأ وكأنه تعاطى مخدرا، ويشّد زوجته إلى جانبه وينام معها فيما يهمس في أذنيها أن تسامحه، ويعدها أن لا يكرّر فعلته مرة أخرى. لكنها كانت تتمنى أن يزيح جسده الثقيل عنها. كانت فدوى تتطلع إلى الحرية والاستقلال.

تحمّلت فدوى الصعاب من أجل أطفالها الأربعة، ثلاث بنات عمر الكبرى منها ثلاثة عشر عاما وولد في عمر السادسة يعيشون جميعهم في ملجأ للأطفال. لم ترغب في تقديم شكوى إلى الشرطة كي تتجنب فضيحة اجتماعية. كان اهتمامها ينصّب فقط على توفير الحماية لأطفالها، وفي نفس الوقت كانت تتشوق إلى الخروج من السجن، لكن تخرج إلى أين؟

كان يبدو على فدوى أنها تقضي أوقاتا سعيدة في السجن، وقالت أنها كانت تعيش مع أخواتها النزيلات في زنزانة واحدة، وأن "معاملة النزلاء كانت جيدة، لكن الروتين اليومي قاتل". تؤمن فدوى بضرورة توفر البرامج التأهيلية للنزيلات كي يستفدن من أوقاتهن، ويتدربن على مهنة معينة، وتعتقد فدوى أيضا أن مثل هذا التأهيل سيساعد النزيلات على الاندماج في المجتمع عند إطلاق سراحهن. لا تفكر فدوى بالعودة إلى أسرتها بعد إطلاق سراحها؛ فبدلا من ذلك تفكر فدوي بكل جدّية بالهجرة إلى بلد آخر مع أطفالها حيث ستتمكن من بداية حياة جديدة. فقد كبر في قلبها كره شديد لعادات وتقاليد مجتمعها؛ لأنها "ضد المرأة". قالت فدوى بمرارة: "النساء في مجتمعنا دائما مذنبات سواء كنّ متزوجات أو مطلقات أو ارامل أو حتى نزيلات في السجن. تزوجت أول مرّة وعانيت نتيجة الطلاق، وتزوجت مرّة ثانية وأساء زوجي لي".

لو رجعت فدوى إلى الوراء إلى سن المراهقة لاتخذت خطوات جريئة في حياتها. كانت لتهجر عائلتها وتعيش مستقلة وتجد لنفسها مهنة أو وظيفة تعتاش منها. وأهم من ذلك، كانت فدوى ستعيش دون زوج أو زواج؛ لأن الزواج في مجتمعنا لا يقوم على الحب الصادق، بل على حماية المرأة من الرذيلة والفحشاء.

انقضت ساعة كاملة منذ أن بدأت فدوى بسرد قصتها. تأثرت كثيرا بروايتها وتمنيت لها أن تتمكن من بداية حياة جديدة. شكرتها وقالت لي أن الحقيقة ستظهر آجلا أم عاجلا. ما تزال فدوى حتى الآن تنتظر حكما بشأن قضيتها. 

clip_image001_e943e.jpg

ناقشت ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني كتاب "ميلاء" للكاتبة المقدسية سعاد المحتسب، والكتاب الصّادر عام 2018 عن دار فضاءات للنّشر والتّوزيع في الأردن، عبارة عن مجموعة نصوص تقع في 130 صفحة من الحجم المتوسّط.

افتتح النقاش مديرة الندوة ديمة جمعة السمان، وأشادت بالكاتبة والكتاب.

وكتبت نزهة أبو غوش:

ميلاء هي المرأة في مجتمع تجاهلها. ميلاء هي الأمّ هي الوطن.

ميلاء هي الفتاة الجميلة الرّاقية الفاتنة، هي البريئة الصّادقة العاشقة، هي الخائفة، هي المقهورة، هي الحبّ، هي الأمل هي مالكة الحرف والكلمة...هي الصّمت.

" هي كامرأة زرقاء يشرب البحر من قاعها وتتساقط النّجوم في فستانها ويلعن الذكور جموحها، ويحلم السّفلة بسقوطها" ص14.

من خلال قراءتنا للنّصوص نجد بصمة سعاد المحتسب واضحة وصريحة، فهي الكاتبة المرأة المتحيّزة لجنسها. المدافعة عنها من ظلم الرّجل وتنكّره لها، وفرض سلطته الذّكوريّة عليها؛ يمكننا القول بأنّها المرأة المنتقمة المتمرّدة على مجتمع يدير ظهره للمرأة لا يحترم أفكارها، ولا مشاعرها، ولا جهدها وأهميّتها كامرأة تبذل كلّ ما لديها من عطاء؛ من أجل الحياة لأطفالها وزوجها وأبنائها؛ ومجتمعها بشكل عام.

حملت سعاد المحتسب راية التّحدّي عالية أمام مجتمعها، وقالت: ها أنا ذا، أستنكر كلّ أساليبكم المشحونة بالسّلبيّة نحو المرأة. هذه مشاعري هذه أفكاري، وهذه عواطفي؛ أنا أكره وأُحبّ، وأحزن، وأتألّم، وأسخط، وأنبذ، ووووووو عليكم أن تتقبّلوني كما أنا؛ لأنّني انسان"

لكنّا في الوقت ذاته نلحظ نفسيّة متعبة مرهقة مستسلمة تريد الوصول إِلى برّ الأمان.

العاطفة في نصوص الكاتبة حملت الكثير من الألم، والحزن والقهر، والحقد، والشّوق والحنين، والمحبّة، والتّذمّر.

نستدلّ من نصّها ص105 أنّ الحروب المتتالية في هذا العالم قد أرهقتها، فلم يعد يهمّها من يُهزم، أو من ينتصر، فهي فقط تبحث عن السّلام النّفسي والأمان؛ هنا تظهر عمق الفكرة لدى الكاتبة وبعد النّظر " فكلّنا في المعركة خاسرون/ لا أريد أن يذبل طفل على السّلالم/ ولا أن تصير الشجرة حطبا/ ولا القمح دما والاسفلت دموعا"

الحزن في نصوص الكاتبة حمل بين طيّاته الأنين، وكتمان الصّرخة؛ كما حمل جرحا عميقا في قلب أُنثى وصمت بوصمة ليس بها أيّ ذنب؛

لكنها الأُنثى المتحديّة في نصوص الكاتبة المحتسب تصدّت لهم بكلّ قوّة" غضبت ميلاء، وكمحارب من فولاذ تصدّت لضرباتهم وحطّمت آلهتهم" ص18.

الشّعور باليأس واللا مبالاة لازم نصوص الكتاب" ميلاء"

" الموسيقى بلا ايقاع والمعادن باهتة والمواقف مكرّرة والخطوات ثقيلة، لا شيء حيّ إلا الموت" ص39.

اللوعة والفقدان شعور لازم النّصوص وعكس شعور الكاتبة ولوعتها على فراق من فقدت. لشّعور بالحسرة والمرارة بدا جليّا أثر في نفسيّة القارئ للنّصوص.

الشّعور بخيبة الأمل ظهر أيضا في نصوص سعاد المحتسب

" ستة وعشرون عاما ونحن نستظلّ بأخيلة ونبني وطنا من طباشير... أوسلو يا جميلتي كيف استطعت أن تكوني بكلّ هذا القبح.."ص120

أعربت الكاتبة عن ضيقها وغضبها على المحتل الّذي يقف خلف الحواجز العسكريّة، وذكرت حاجز قلنديا ومعاناة المواطن عند مروره من هذا الحاجز. كما أنّها عبّرت عن سخطها عن الحياة الصّعبة في ظلّ احتلال في مدينة القدس، وخاصّة وهي أُنثى." أن تكوني مقدسيّة يعني أن تعملي مع راحيل وديفيد وشلومو وتأكلي العسل المسموم والخبز المعجون بالدّم. ص66.

الحبّ في نصوص سعاد خافت مكبوت سرّي تخافه وتتحاشاه؛ لأنّها ترى بأنّ الرّجال دائما كاذبون" فقد علّمتني جدّتي أنّ الرّجال كاذبون وأنّ الحبّ في أعينهم رجس عظيم".

كتبت سعاد المحتسب نصوصها بكلمات ذات لغة شعريّة خرجت من قلبها ومشاعرها بتلقائيّة وعفويّة دون تكلّف، فنجدها لغة سلسة تصل القارئ بسهولة، تحمل ما بين سطورها الرّمزيّة والفكرة الواضحة. هناك تكرار في التّعبير عن الفكرة بأشكال مختلفة، وتحت عناوين مختلفة.

لم تأبه الكاتبة بعلامات التّرقيم داخل النّصوص.

 

وقالت رفيقة عثمان:

  صنّفت الكاتبة الجنس الأدبي في كتابها الجديد (بالنصوص)، كما كُتب على الغلاف؛ تجنُّبا من التصنيف الأدبي غير الصحيح، نظرا للنصوص المكتوبة فهي تعتبر نصوصا نثريّة، وليست شعريّة؛ حيث لا تنطبق عليها مواصفات الشعر، ولا القصّة أو الرواية، ولا حتّى الأقصوصة.

  كافّة النصوص المكتوبة للكاتبة المقدسيّة سعاد المحتسب، كما أعتقد ظهرت كخواطر، أو مذكَّرات، أو عبارة عن تعبيرات ذاتيَة، دوّنتها الكاتبة، كرد فعل للمعاناة التي واجهتها في حياتها؛ تبدو غالبيَّة النصوص انعكاسًا لمعاناة الكاتبة، وما مرَت به، من آلام وإيذاء اللذين حولها، وما واجهته من صدمات وخيبات أمل، وانتكاسات، وفقدان طفلٍ لها؛ وجدت الكاتبة القلم والأوراق مُنفذها الوحيد للتنفيس عن ذاتها، وقوَّة لإرادتها وتحدّيها؛ لمواجهة الصّعاب بطريقة جريئة وصريحة.

 اختارت الكاتبة عنوانا للكتاب باسم "ميلاء"، معنى كلمة ميلاء في قاموس لسان العرب: 

"هو اسم معناه الشجرة الكبيرة ذات الفروع المائلة، وتعني أيضا (القريب)، أو تعني جميلة الجميلات، وهذا المعنى في الأصل العربي، وهناك تحليل آخر لاسم ميلاء، وهو اختصار لكلمة مأخوذة من الاسبانيّة، من كلمة - Milagrous - ومعناها (المعجزة)".

انّ اختيار الكاتبة للعنوان لم يكن عبثا، أو بالصدفة؛ يبدو أنّ الكاتبة أرادت إسقاط المعنى الحقيقي لشخصيّتها، لتي وصفتها بجميلة الجميلات، كما ورد في قصيدة (يحدث)، "وتنظري مرة أخرى للمرآة وتخاطبيها، مساء الخير يا جميلة، كم أنت جميلة، جميلة رغم بشاعة الحياة" صفحة 39. وصفت الكاتبة ميلاء بالعطاء غير المحدود؛ كالشجرة المعطاءة مثل اسمها، وفروعها متدليَّة من ثِقل الثمار عليها؛ وتزداد عطاءً وقوّة مهما عاندتها الرياح العاتية، هكذا هي ميلاء. "ميلاء قلبها مجرّة من حب"، " ميلاء يخزها الشوك، وتزرع وردًا، وترسم على وجوه الأطفال ميناء وتموت غرقا". صفحة 24.

  تحت عنوان ميلاء، تناولت الكاتبة أربع عشرة فقرة، وأسقطت عليها مشاعرها، مخاطبة إياها، في مضامين مختلفة، تبثّ فيها الكاتبة أوجاعها، ومعاناتها، وعن صلابتها، وجمحها، وتصدّيها للمعادين وانتصارها، كما ورد صفحة 18؛ " كلّما كان الليل يفرش حلكته كانت ترسم نجمة". لم تأبه لوصم الآخرين بنعتهم لها بمطلّقة صفحة 18. تبدو النقمة ظاهرة على الحياة، والمجتمع، وظلم النساء؛ غالبة على نصوص الكاتبة " إنّنا في زمن العهر". صفحة 98. "ميلاء شرقيَّة مدجّجة بالغضب" صفحة 34. " العقائد التي تحلّل أربعا وتحرّم الحب، والشرف الذي باسمه تُذبح النساء، والنساء اللواتي يبعن الحب باسم الزواج، والزواج الذي يخلق أجيالا من البؤساء.". صفحة 38.

  وصفت الكاتبة "ميلاء"، بأنّها معطاءة دون أن تُجازى بمقابل، وتعتبر هذا السلوك خيبة، لكنّها في نهاية كل فقرة، تنتصر لنفسها، وتلقي الخيبة على الذكر المُخاطَب " أنت انحنيت، أنت الخيبة، يا عزيزي". صفحة 22. الأطفال ميناء وتموت غرقًا". صفحة 24. أنهت الكاتبة فقرات "ميلاء"، بأنها نجت من المحنة كما ورد صفحة 31: " وحدها عرفت الحقيقة ولوحدها آثرت الخلاص، ونجت من هذه الاكذوبة اللعينة". كذلك صفحة 90: " لكنّني عرفت كيف أنحت بأظافري الأبواب، وكيف أكون أوّل من يقصُّ شريط الوصول".  لا شكّ أن نظرة الكاتبة تسودها التشاؤميَّة، والسوداويَّة بالحياة، فهي ناقمة على الجنس الذكوري بشكل واضح. يبدو هذا واضحا في معظم النصوص النثريّة، كما ورد صفحة 93؛ " وأكّدت لي أنّ وراء كلّ امرأة مقهورة رجل نذل".

 استخدمت الكاتبة لغةً فصحى بليغة منمّقة وجميلة؛ للتعبير عن الذَات؛ إلّا أنّها لم تستخدم علامات الترقيم بالنصوص بتاتا، كما ورد بعض "التناص" في كتاباتها، وخاصّة من القرآن الكريم، مع التحريف للغتها الخاصّة كما ورد صفحة 16؛ " ان الرجال كاذبون وأنّ الحبّ في أعينهم رجس عظيم". كذلك صفحة 28: " ونادى فوق سور عكّا حي على الحياة". صفحة 55؛ " حيّ على الحياة". صفحة 94؛ "وأشهد أنّ لا شريك في قلبي غيرك". وما إلى ذلك.

 أنهت الكاتبة فقرات "ميلاء"، بأنها نجت من المحنة كما ورد صفحة 31: " وحدها عرفت الحقيقة ولوحدها آثرت الخلاص، ونجت من هذه الاكذوبة اللعينة". كذلك صفحة 90: " لكنّني عرفت كيف أنحت بأظافري الأبواب، وكيف أكون أوّل من يقصُّ شريط الوصول".

 لفت انتباهي نص (هلا بالخميس)، صفحة 117؛ كتبت الكاتبة " لن أغرّد هلا بالخميس، فكل ايامكم خميس، وانا أحب السبت المقدّس"، كما يبدو بأنّ الكاتبة سعاد؛ قصدت بأن تغرّد خارج السّرب، فاختارت هلا بالسّبت؛ والمعروف بأنّ يوم السّبت هو يوم مقدّس عند الشعب اليهودي؛ والتفسير حول هذا القول؛ ربّما أرادت الكاتبة أن تستثني نفسها من شعبها؛ وذلك من شدّة الظلم، وعدم إنصافها، ومن شدّة القهر، عبّرت بهذا المفهوم.

ما يثير الاهتمام بنصوص الكاتبة، هو تكرار رثاء فقيدها الطفل، والتعبير عن حزنها الشّديد، وتأثّرها طوال الوقت؛ هذه النصوص كانت لها تأثيرات قويَّة على الأحاسيس، والتعاطف مع الأمّ الكاتبة. (ريشة) صفحة 83، "أن أعيش فضيلة الوفاء فأتمزّق وأن أحيا بدونك فيسحقني الذنب وتعوي الذكريات عاليا في  فناء روحي".

  الصبغة المقدسيّة ظهرت في النصوص، عبّرت الكاتبة عن كونها مقدسيَة، ومدى المعاناة التي تواجهها كمواطنة مقدسيَّة، في حياتها اليوميَّة؛ وخاصَّةً في ظل احتلال، كما ورد 69، في القدس.

   تبدو العاطفة في النصوص جيّاشة، مختلطة المشاعر، ويسودها الحزن، والغضب، والنقمة، مشاعر ثائرة؛ كما تظهر مشاعر الأمومة، والانتماء للوطن، لم التقط مشاعر الفرح في هذه النصوص؛ إلّا أنَّني استشفّ ما وراء هذه النصوص، بوجود عاطفة قويَّة نحو التّحدّي والصمود أمام الصعاب.

  خلاصة القول: أبدعت الكاتبة في التعبير عن نفسها، وعن المعاناة النسائيّة الاجتماعيّة، والسياسيّة، ِوالنحويّ، بحاجة إلى مراجعة. وُفّقت الكاتبة في اختيار العنوان؛ للتعبير المجازي، وتشبيه المعنى بصاحبة القلم، أو الشخصيَّة البطلة في النصوص.

وقالت هدى عثمان أبو غوش:

ميلاء حروفها كصوت موج البحر تبحث عن الحب والأمان، توقظ أسرار الإناث ، فيها عاطفة تستغيث.

جاء سرد النّصوص بإستخدام  الكاتبة للغة شعريّة سهلة، سلسة ومترابطة تشد القارئ  فتجعلنا نتخيّل المشهد، وقد استخدمت ضمير المخاطبة وضمير المتكلم من أجل إيصال أفكارها .

وجعلت من ميلاء، الإسم المؤنث لإسم أميل والتي تعني الشجرة بفروعها الكثيرة، وجميلة الجميلات عنوانا للكتاب، والذي خصصت له عدة صفحات رمزا  للانثى المقهورة، الضعيفة ضحية الفيس بوك، المقتولة، الشجاعة، الصامدة، المطلقة القوية المتمردة، العطشى للحب الخائفة، والتي تبحث عن الخلاص.

ومن خلال النصوص قامت الكاتبة بتمرير رسائل موجعة تتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة ونظرة المجتمع السلبية تجاه الأنثى، وعبرت عن خيبتها من التمزق السياسي ووصفت حالة المقدسي ومشهد الانتظار المؤلم على حاجز قلنديا، والتصرفات السلبية من قبل السائقين حين ينفذ صبرهم ووصفت حالة المشاعر الفياضة اليقظة  في معنى أن تكون كاتبا.

في هذه النصوص نجد الكاتبة أنها تحث المرأة على التحرر من عبودية أفكار المجتمع وذكوريّة الرجل، وتطلب منه أن يشاركها مشاعرها.  كما وجاءت أغلب النصوص تنتقد الرجل بشكل سلبيّ في تعامله مع المرأة ، أمّا الوجه المشرق للرجل فكان ضعيفا، حين تولى الحبر منصب الحب في قلب المرأة.

تقول الكاتبة في إحدى نصوصها"أحببت رجلا من حبر" وفي نص آخر"وراء كل امرأة مقهورة رجل نذل" .

برزت الحالة النفسية المتعبة للأنثى وتجاه المجتمع الذي تراه معجونا بالأكاذيب؛ فتدفقت حالة الغضب وعدم الرّضا، واستخدمت لا الناهية في  مخاطبة الأنثى وأكثرت من التساؤلات.

وعبّرت عن حالة القلق في نص "أرق" نحن لا ننام، نحن نغيب عن الوعي

نأخذ هدنة من ساحة المعركة.

ورغم أن النصوص تحمل الهموم الخاصة والعامة وغياب الفرح إلا أن الكاتبة تضيء شمعة الأمل وتبتعد عن اليأس.

وكتب الدكتور عزالدين أبو ميزر:

قراءة في نصوص الكاتبة سعاد المحتسب" ميلاء" والتي تقع في: 130 صفحة من القطع المتوسط والصادرة عن دار النشر فضاءات في العاصمة الأردنية عمان.

وهذا هو ثاني إصدار للكاتبة الجميلة سعاد والذي كان بعنوان" زهرة في حوض الرّبّ.

من يقرأ مقدمة النصوص والنصوص نفسها يمكنه الوقوف واستشفاف ما عليه الكاتبة من تمكّن لا يخفى على كل ذي نظر من ناصية الكلمة وتوظيفها في ما تريده من معنى، يصل العين وقلب وعقل القاريء بشكل أو بآخر. ولا يخفى عليه جمال العبارة، وإن يكن ذلك ليس في كل النصوص والأحيان.

ومن يقرأ النصوص لا يخفى عليه أيضا ما تنثره الكاتبة على نصوصها الثانية من عطر الألم الذي كان سببا في إصدار كتابها الأوّل ( زهرة في حوض الرّبّ) وكأن الكاتبة حتى اليوم لم تخرج من مأساتها ولا تزال تؤثر في كتاباتها رغم تنوع موضوعاتها.

وفي دعوة الأخت العزيزة والحبيبة الى قلوبنا جميعا السيدة الكاتبة ديمة السمان لمناقشة هذه النصوص دعت الكاتبة باسم الشاعرة والنصوص بالديوان كما دعت الكتاب الأول بالديوان، ولها الحق أن تقول ما تشاء كما أن لنا حق الرد ّعلى ما تقول.

إن رأيي في هذه التسمية معروف وقد بينته في أكثر من مناسبة في هذه الندوة الكريمة.

الشعر له قواعد وأركان أهمها الوزن الشعري والتفعيلة، التي تعطيه الموسيقى الخاصة به، وتجعله قابلا للحفظ والاستظهار عن ظهر قلب، ويجعل من بيت الشعر منه زينة نزين به نصوصنا ونستشهد به أحيانا على ما نقول.

عدا عما يتصف به الشعر من بلاغة واستعارة وخيال وإحساس ورقة في الشعور تشترك بها معه كثير من النصوص التي من الظلم لها ولمن يكتبها أن نسميها شعرا ونسمي صاحبها شاعرا وما هي بشعر وما هو بشاعر.

فالكاتب قد لا يُشق له غبار في روعة ما يكتب وجمال ما يدوّن من نصوص ولكن هذه الروعة وهذا الجمال لا يعطي من يقرّظه ان يسمّي الأشياء بغير أسمائها. فهي نصوص رائعة وجميلة تسلب اللب والقلب بجمالها ودقة توصيفها وحتّى أن كاتبها سمّاها نصوصا وليس شعرا ولا قصائد. فالكلمات وعاء للمعاني وهذا الوعاء ليس لهذا المعنى.

وفي الختام فإنني أهنّيء الكاتبة على بديع نصوصها وجمال عباراتها رغم تأثّرها حتى هذه اللحظة عاطفيّا في كتابتها بما أصابها ولا يعيب ذلك الكاتبة ولا النّص في شيء؛ فلا يمكن للإنسان السويّ ان ينسلخ من انسانيّته وما تحمله من مشاعر وأحاسيس والتي هي جزء لا يتجزّأ عنه ومكوّن أساس فيه.

والنصوص رغم مرارة معانيها وندرة الفرح فيها مع تنوع موضوعاتها فهي جميلة ورائعة وأهنّيء الكاتبة عليها وأبارك لها هذا الاصدار والى جديد اجمل واروع.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وكتب ابراهيم جوهر:

نصوص أدبية ترسم الحياة بألوانها الواقعية

لا تزييف ولا تجميل للحياة التي تنقلها الكاتبة في نصوص "ميلاء". بل سعي وراء الأجمل بتفاصيله الخاصة والعامة في الحياة.

نزفت الكاتبة ألمها الخاص وألم بنات جنسها على شكل نصوص متفرقة يربطها خيط واحد يشبه القاسم المشترك، هو خيط الظلم الاجتماعي وعداوة الأقارب وغدر الأصدقاء.

وقد حملت الكاتبة مضامينها ورسائلها بلغة جميلة ذات إيقاع مستعينة بلغة الشّعر والاستعارة والإيجاز الذي يلمّح أكثر مما يصرّح.

والكاتبة التي تحنّ إلى ماض وهبها بذرة حياة ومستقبل ثم اغتالها، لم تضع في الأسى والدموع، بل بادرت لتبني حياتها الخاصة وفق رؤيتها العالية لمستقبل يجب أن يبزغ من عزم الإرادة.

بحثت في النصوص التي ضمّتها دفّتا الكتاب عن الانكسار والإحباط والنّدم فلم أجد تعبيرا لهذا بل على العكس تماما فكان هناك: التّحدي والتّفاؤل ولوم جهل الآخر قريبا كان أم بعيدا لكيفية فهمه للحياة والناس.

كتبت الكاتبة أربعة عشر نصّا يشكّل كلّ نصّ منها لوحة أو فصلا من رواية سيرة بنسبة ما غير محدّدة، وحمل كلّ فصل منها عنوان "ميلاء" متبوعا برقم من 1 – 14. وفي الصفحة الأخيرة تتحرّر "ميلاء" من الوهم الكبير؛ لتنطلق في براري الحياة تصارع وتواجه؛ لتثبت ذاتها فيكون أن تصيب تارة وتخيب أخرى، لكنها تواصل نبضها على شكل نصوص متفرقة تؤكّد أنّ العقبات التي تعترض حياتنا قد تفجّر طاقاتنا ومواهبنا؛ فنصير عكس ما أريد لنا، فلم نتحطم لكننا نهضنا.

بهذه الرّوح تواجه الكاتبة واقعها ككاتبة تعبّر عن ذاتها وذوات بنات جنسها فتدعوهن للنهوض.

وقال عبدالله دعيس:

شعرت نفسي متطفّلا على عالم المرأة منذ أن شرعت بقراءة إهداء كتاب (ميلاء) للكاتبة سعاد المحتسب؛ حيث علمت أن الكاتبة ترفع سيفا في وجه عالم ذكوري أحاط المرأة بأذرعه القاسية، وسلبها حقّها في حياة تتوق إليها، وأضفى على حياتها ألما ما زالت تتململ تحت ردائه الثقيل. وبعد أن قرأت النصوص، عدت للإهداء؛ لأجده يلخّص كلّ ما أرادت الكاتبة أن تبثّه من خلال نصوصها.

تختار الكاتبة عنوانا مثيرا لكتابها: (ميلاء) وهو اسم غير مألوف لأنثى. عند مطالعة العنوان، يتبادر إلى ذهن القارئ معنى الميل عن شيء إلى شيء آخر. فهل هو الميل بالمعنى الإيجابي؟ وهل يتماهى هذا الاسم مع وصف الله سبحانه وتعالى لإبراهيم الخليل أنّه كان حنيفا، أي مائلا عن الباطل إلى الحقّ؟ ومن خلال النصوص نجد أن الكاتبة تريد للمرأة أن تميل عن كلّ ما ينغّص حياتها إلى حياة أخرى عنوانها الحريّة والانطلاق، ولو كان هذا الميل يعني التّمرّد على الموروث من عادات وتقاليد وقيم. وعند الرجوع إلى المعجم نجد أن (ميلاء) تعني الشجرة كثيرة الفروع، والمرأة، في نصوص سعاد المحتسب، هي تلك الشجرة التي تكاثفت فروعها ومدّت ظلها لتعمّ مستظلّيها بالخير والرّاحة، وتشابك أغصانها يشي بتشابك مشاعر المرأة، وغزارة أوراقها وخضرتها بعطائها اللامنتهي.

نعيش مع ميلاء في نصوص متتابعة، ثمّ تتابع الكاتبة النّصوص اللاحقة على نفس النسق والسمت، وترسم في كلّ منها صورا للمرأة، فنجد فيها:

المرأة في ضعفها وقوّتها، المرأة ظالمة ومظلومة، المرأة المتمرّدة على الأعراف إلى درجة التجنّي، المرأة الحانقة على العائلة والمجتمع المحرّضة عليهما، المرأة التي تتمسك بالوطن رغم نقمتها على أهله وثقافتهم وقيمهم، المرأة الحزينة المكلومة، والأمّ الحريصة الخائفة على اطفالها بشكل مبالغ فيه. وهذه الأمّ الحانية على أطفالها، الصابرة على ما يقع عليها من ظلم، جبانة ضعيفة، لأنها لا تتمرّد وترضى بشظف العيش. لكنّ المرأة تبدو في بعض النّصوص ضعيفة مكسورة.

والكاتبة لا تريد للمرأة دورا سلبيا، فهي تنتقد تلك الفتاة التي تنتظر الزوج والخاطب، دون أن تبادر هي لصناعة الحبّ، الذي لا تتنكّر له الكاتبة رغم الحَنَق الذي تبديه على الرجال، خاصة أولئك الذين يغدرون بالمرأة ولا يقدّرون مشاعرها وإنسانيّتها.

تريد الكاتبة للمرأة أن تتخلّى عن سذاجتها وطيبتها، وتجنح نحو التّمرّد على واقع لا ترضى به، لكنّها لا تصوّر المرأة كمنتقمة، وإنما تتفنّن في تصويرها كضحيّة، إذ لا تميل المرأة للانتقام وإنما تتحوّل إلى تعذيب الذات. وتبرّر الكاتبة للمرأة أي عمل قد تقوم به، حتّى لو كان مخالفا لثقافة المجتمع وأعرافه، لأنه ثورة على ظلم وقع عليها. وتطغى عاطفة الشعور بالأحباط على بعض النصوص، ربما لما يعمّ المجتمع من التخلف الذي يحيط بنا، ونعلّق خيباتنا عليه وعلى شمّاعة القيم التي ترفع الكاتبة عصا العصيان في وجهها، وتتوق لحريّة موهومة، خارج إطارها، قد يكون فيها أضعاف ما نعانيه في كنفها. لذلك أراني أخالف الكاتبة فيما ذهبت إليه عندما أوصلت المرأة إلى درجة الاكتئاب، ولم تفتح لها إلا كوّة صغيرة، وبصيص ضيّق لحياة كريمة.

ماذا تريد الكاتبة؟ ماذا تريد للأسرة؟ وماذا تريد للمرأة؟ وما البديل؟

هل هذه دعوة للحرية؟ أم للتمرّد على القيم؟ أمّا الحرية فنعم، وأمّا القيم فما زال فيها خيطا شفيفا يمنع عقدنا أن ينفرط.

والكاتبة مشاعرها واضحة لا تخفيها خلف غموض الكلمات وإنما تبثّها بصراحة مدوّية. وتريد أن تنفصل عن المجتمع وتزدري كل ما يقوم به حتّى في المناسبات الاجتماعيّة، لكنّها لا تفصل نفسها عن وطنها، حيث تخاطب القدس والوطن وتنقل صمود الأسرى في زنازين الاحتلال، ونلاحظ وجود انفصام بين نظرتها للإنسان وللأرض. وتنهي كتابها بوصف بديع لحاجز قلنديا وكل ما يدور فيه من فوضى واعتداء، وهو يعكس ما يدور من فوضى ومعاناة في داخل نفس المرأة المضطرمة، والحواجز التي يضعها المجتمع أمامها.

 وقد شارك في النقاش عدد من الحضور منهم: محمد عمر يوسف القراعين، نمر القدومي، ماجد الماني، سهير زلوم وجميل السلحوت.

رُؤى ثقافيّة 320

حدَّثنا (ابن الوردي) في المقال السابق عن أن من تراثيِّي العرب، القدماء منهم والمحدثين، مَن أسدوا خدمات جُلَّى للطاعنين في القرآن الكريم والوالغين في دماء العربيَّة، بتعطيلهم فنَّ المجاز، بل إنكارهم إيَّاه. إذ أصبحت البلاغة العربيَّة- كما قال- في مهبِّ المعطِّلة والمشبِّهة في العصر العبَّاسي وما تلاه. ثمَّ أردفَ:

- الطريف أن لهؤلاء تبابعة مقلِّدين، كالحين متعصِّبين، يزعم بعضهم أنه متخصِّص في عِلْم البلاغة، وهو في الوقت نفسه يقول بإنكار المجاز اللغوي!

- ماذا بقي من البلاغة إذن؟

- بل قل: ماذا بقي من اللغة؟ إذا لم يكن مجاز، لم تعد ثمَّة بلاغة، ولا أدب، ولا لغة أصلًا.

- لا يهم؛ المهم ردُّ الكلاميِّين، من المعتزلة والمؤوِّلة، عليهم من الله ما يستحقُّون!

- هو ذاك.  وإلَّا فلولا المجاز لتيبَّست أشجار اللغة وماتت.  لأن المجاز هو إكسير الحياة في اللغة، وأكسجين التنفس الطبيعي لرئتَيها، ونسغ التطوُّر المستمر لذريَّاتها، وعامل المواكَبة الفاعلة فيها لمستجدات الأزمان والثقافات والحضارات.

- ولكن على أيِّ منطقٍ كان يلوي هؤلاء، أم بأيِّ عِلْمٍ جاؤوا ليضيفوا إلى عِلْم اللسان والبلاغة؟ لكأني بهم ما سبقهم بهذا المذهب من أحدٍ من العالمين!

- ولا لحقهم أيضًا، اللهم إلَّا تلاميذ مدرستهم نفسها، التي لا تنطلق أساسًا من اللغة ولا من البلاغة، بل تنطق عن المناكفات الكلاميَّة الإديولوجيَّة. ولا نعرف نظيرًا لبدعتهم تلك لدى أرباب اللغات الأخرى. إن هؤلاء النُّفاة لا يلوون على شيء من منطقٍ أو عِلْم.  وإنَّما مَثَلهم كمَثَل الذي اعترض على (أبي تمَّام)، لمَّا أنشد:

لا تَسقِني ماءَ المَلامِ فإِنَّني ** صَبٌّ قَدِ استَعذَبتُ ماءَ بُكائي

فجاء ذلك المنتقدُ- وقيل هو (عبدالصمد بن المعذل)- بقارورةٍ أو كوز: قائلًا، هازئًا: «ائتني شَربة من ماء المَلام، يا حبيب!»  فقال أبو تمام: «إذا أنت أتيتني بريشة من جناح الذلّ!»  إشارةً إلى الآية القرآنية: ﴿واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة﴾.  وهذا الجواب المفحِم الذي سيق في جدل التقليد مع التحديث في الشِّعر، يصلح جوابًا في الجدل بين المشبِّهة والمعطِّلة، أو قل بين الحنابلة والمعتزلة، ممَّن عصف بهم التعصُّب، حتى كاد يعصف باللغة والبلاغة.  فإنْ لم يكن في القرآن من مجاز، فليأتونا بريشةٍ من جناح الذلِّ على الحقيقة!

- على أن من أنصار الموروث أعداءِ الجديد مَن ظلَّ يقول: «جناح الذلّ» تعبير مأنوس، وللإنسان جناحان! 

- ما جعله مأنوسًا إلَّا القِدَم والتداول. وإلَّا فليس للإنسان جناحان، بل للطائر. فهذا التعبير في أصله استعارة. غير أن المجاز مع الاستعمال يصبح حقيقة، أو شِبه حقيقة. وكثير ممَّا نَعدُّه اليوم حقيقة، إنْ لم يكن كلُّ ما نَعدُّه كذلك، كان في الماضي استعارةً ومجازًا. وتلك طبيعة اللغة. ومشكلة هؤلاء الكُبرَى أنهم يورِّطون أنفسهم فيما فرُّوا منه.  فلئن كانوا فرُّوا من التعطيل بنفي المجاز، فقد وقعوا فيما لا سبيل إلى تنزيه الله عنه إلَّا بالمجاز، كوصفه تعالى: «بخير الماكرين»، مثلًا، وغيره من التعبيرات القرآنية المجازيَّة، التي لا يفهمها على ظاهرها سِوَى غير ناطق من الخلق، أو مَن ران على قلبه التعصُّب والتحزُّب.  لأن القرآن نزل بلسانٍ عربيٍّ مُبين، وجاء وفق اللغة البشريَّة وأساليبها المتداولة، بما فيها من بلاغيَّات لا مناص من التسليم بها، وجاء إلى أناس فهموه حق فهمه، وفق لسانهم البلاغي الشاعري، قبل حذلقات المعتزلة والحنابلة وجدليَّاتهما الفارغة.

وإنَّما وقع المشبِّهة والمعطِّلة- أو رافضو التأويل والقائلون به المتوسِّعون فيه- في حبائل الجدل السقيم خصومةً ومكابرة.  وإلَّا فلا يقتضي إثباتُ الصفات لله، نفيَ المجاز.  ومن رأى تنزيه الله عن المجاز؛ فلِمَ لا يُنزِّهه عن اللغة البشريَّة، أوَّلًا؟ ثمَّ يُنزِّهه عن لغة العرب، ثانيًا، لغة الحُفاة العُراة الأُميِّين رِعاء الشاء؟  أيُنزِّهونه ممَّا لم ينزِّه منه نفسه، وهو القائل عن القرآن: إنه «بلسانٍ عربي»؟!  واللسان العربي معروف الخصائص، وهو كألسنة البشر كافَّة، ليس بخارجٍ عن طبائع اللغات وسُنَنها.  وكان يسعهم أن يُثبِتوا ما اعتقدوا، وإمراره على ظاهره، فما كان من التعبير يحتمل المجاز فهو كذلك، وما لم يحتمله، بقي على وجهه بلا تأويل، مع نفي الكيفية؛ فالأمر غيب، دونما حاجة إلى نفي ظاهرةٍ لغويةٍ إنسانيَّة، وخاصيَّةٍ تعبيريَّةٍ بلاغيَّة، حتى كأنهم بذلك ينفون بلاغة القرآن، ليُقفِلوا المجال إلى غير رجعة دون التأويل للأسماء والصفات. أم لعلهم يتصوَّرون أنهم إذا قالوا بنفي المجاز، قد انتفى بالفعل؟!  أم لعلهم يتوهَّمون أنهم إذا نفوه للأسباب الإديولوجيَّة المشار إليها، قد نفوه عن اللغات؟!

ولقد غلا راكبو هذا التيار الأعجوبة غلوًّا كبيرًا في انتصارهم لإنكار المجاز، وتولَّى كِبرهم في مَن تولَّاه كبيرُهم، الذي خَصَّه مشايعوه، مِن دون الأوَّلين والآخِرين، بجعله، لا شيخهم فحسب، بل «شيخ الإسلام» جملةً وتفصيلًا. كأنما الإسلام محض عشيرة في الصحراء، تحتاج إلى طوطم يشيَّخ على مضاربها، بعد ستة قرون. وهذا التصوُّر الأعرابيُّ في ذاته هو من معالم الغرام المذهبي الغالي وشواهد السويَّة الحضاريَّة البدائيَّة. لكنهم هنا سيصيحون في وجهك: «لا، لسنا نعني ما فهمتَ على الحقيقة، وإنما هذا تعبيرٌ مجازي!» 

- المجاز يحضر متى شاؤوا ويغيب متى شاؤوا، على نهج القُمُّص الذي رأيناه في حوارنا السابق! تشابهت عقولهم!

- نعم. ومن بعد «شيخ الإسلام» واصل تلاميذُه البررةُ البربرةَ عبرَ هذا الطريق الملتوي، منذ القرن السابع للهجرة. متبعين أقوالًا شاذَّة مسبوقين إليها، نُسِبت إلى رجل اسمه (داوود الظاهري، -270هـ)، كان رأسًا في المدرسة الظاهرية المشرقيَّة، ومن بعده ابنه محمَّد؛ إذ كان هؤلاء قد أزَّهم الهاجسُ المذهبي، والعُصابُ العقدي، إلى هذه النِّحلة الظاهريَّة القروسطيَّة. المفارَقة أن ظاهريًّا مغربيًّا كان خصيمهم في مذهبهم. فإذا كان هؤلاء قد اندفعوا في هذا الاتجاه النافي لما سِوَى الفهم السطحي للنصِّ، فقد دفع ذلك (ابنَ حزم الظاهري الأندلسي، -456هـ)، على الضفة المغربيَّة من العالم الإسلامي، إلى تكفير هؤلاء المشارقة المبتدعة القائلين بنفي المجاز في القرآن. ولعلَّ أظهر حجج ابن حزم أنهم بذلك يُفضون إلى نفي بلاغة القرآن وإنكار إعجازه اللغوي. بل إلى تكذيب ما أخبر به القرآن من أنه «بلسانٍ عربيٍّ مُبين». فأيُّ «لسان» أبقوا، أو «عربي».. فضلًا عن أن يكون «مُبينًا»؟

- وهكذا أصبح هؤلاء، من حاملي (أنفلونزا المجاز)، ينفرون من كل استعمال يشتمُّون منه مجازًا، متفيهقين مخطِّئين عباد الله في كلِّ صغيرة من القول وكبيرة.  وهم يظنون أنهم يُحسِنون صنعًا، مفسدين اللغة، معيقين الناس عن استعمالها الاستعمال الصِّحيَّ الحيويَّ الباني، بل مميتين لسان العرب وعبقريته. وليس بغريب بعدئذٍ أن يُنتِج لنا مثلُ هذا الفكر عقليَّةً إسلاميَّةً متخشِّبةً معوقةً، تقف ضِدَّ الجَمال، ضِدَّ الخيال، ضِدَّ الإبداع، ضِدَّ الفنون، ضِدَّ الفِكر، وفي المحصِّلة: ضِدَّ الإنسان واللغة والحداثة والحياة.

يمكننا أن نسجل بعض مظاهر الأزمة النقدية في هذه العجالة، من خلال الإشارات السريعة للمظاهر البارزة على السطح، ضمن النقاط التالية:

1استمر دعاة النقد الإسلامي على التعريفات الناقصة المختزلة التي طرحها الرواد قبل أكثر من أربعين عاماً، ولم يغيروا فيها شيئاً سوى بعض الكلمات والعبارات، وهذا يدل على قلة الجهد المبذول في تعريف الأدب الإسلامي وتفصيل دقائقه، واستخراج مصطلحاته ومفاهيمه الخاصة به، مما أفقد (مشروع الأدب الإسلامي) الخطاب النقدي الجاد والمقنع للآخرين، وبذلك كان ضعف الخطاب النقدي سبباً لضعف الاستقطاب للأدب الإسلامي، وكثيراً ما نقف عاجزين في تعريف الأدب الإسلامي أمام أنفسنا وأمام الآخرين، بسبب قلة الحصاد النقدي الموجود بين أيدينا، وهو حال نابع من وهم الاكتمال الذي سيطر على تفكير دعاة الريادة.

2الوقوع في حالة وهم الاكتمال:

كثير من دعاة النقد الإسلامي يعيشون حالة وهم الاكتمال، فقد وقع في وهمهم أن تجربة الرواد قد اكتملت من جميع جوانبها، وما عليهم إلا أن ينزلوا لواقع التطبيق النقدي، ولكنهم نسوا أنهم لا يملكون نظرية إسلامية نقدية واضحة المقاييس، تهدي التطبيق وتشكل معياراً للحكم على الأدب، وبذلك ظهرت تطبيقات عشواء ليس لها منهجية إسلامية سوى الخبرة الفردية.

3 – الاتكاء على تقنيات النقد الغربي:

وعندما وقع هؤلاء الواهمون في حالة من وهم الاكتمال، ولم يجدوا الأداة النقدية في فكر الرواد استعاروا تقنيات النقد الغربي وخلطوها بالنقد العربي القديم، وظنوا بذلك أنهم حققوا للنقد الإسلامي مقاييسه، فبدأت محاكمة النصوص الإسلامية من هذا المنظور، فأدى ذلك إلى الارتباك وفقدان القدرة على النصح النقدي للمبدع، فسادت التطبيقات الفضفاضة والمجاملة والمدح والتهرب من التوجيه النقدي السليم، ففقد المبدع المسلم من يأخذ بيده ويشرف على صقل تجربته ويحفزه نحو معارج الابتكار مما أدى إلى تكريس الضعف والسطحية في الإنتاج.

وعاش الأديب المسلم على ما يملكه من ثقافة نقدية خاصة كوَّنها باجتهاده، ولكنه لا يملك نقداً إسلامياً يحقق طموحه في توضيح (إسلامية الأدب) ومقاييسها.

4 – فقدان اللغة النقدية المشتركة:

أين هي اللغة النقدية الواحدة المشتركة لمشروع النقد الإسلامي؟ التي لو تكلمنا بها، استطعنا أن نفهم مقاصد بعضنا دون عناء أو تعب.

أظن أننا لم نصل بعد إلى تلك اللغة، لأننا ما زلنا نبحث عنها، ولن نصل إلى امتلاك تلك اللغة، إلا إذا وصلنا إلى النظرية الأم، التي توحد فقهنا ونظرتنا وفكرتنا، حول قضايا الأدب المتشعبة.

وعندما نصل إلى تلك اللغة النقدية المشتركة، سوف نتخاطب بلغة المصطلح، فيفهم بعضنا بعضاً، لأنها لغة نقدية علمية متفق عليها، وليست لغة الخبرة النقدية العائمة التي نتخاطب بها الآن في نقدنا الإسلامي العشوائي.

وهذه اللغة النقدية المشتركة التي نطمح في الوصول إليها، لا تتأتى جزافاً ولا تنبع من الفراغ والعفوية، وإنما تأتي بالقصد والتخطيط والتحديد والتوحيد للمرجعية والمنهج والغاية.

وهي لا تأتي إلا بعد الكد والجهد من المبدعين المخلصين، الذين يجمعون بين النضج والمنهجية العالية، وعندها تستطيع هذه الفئة أن تفرض فقهها وتفسيرها وخطابها النقدي المقنع، وحيث يطمئن الناس إلى صفاء إسلاميتها ووعيها الأدبي، ثم تمتد هذه اللغة بعد أن تتشكل وتتكامل وتتبلور فتكون لغة نقدية مفهومة للجميع، ويبدأ انتشار تلك اللغة النقدية المؤصلة شرعاً وأدباً حتى تستقر ويصطلح عليها.

وهو أمر سهل الحصول عند العمل الجاد، ولكن لا بد من تحقيق شروط حصوله، وهو توحيد المرجعية والمنهج، لأن توحيد المرجعية هو الذي يوجد اللغة المشتركة، وهو الذي يوحد الفكر والمفاهيم ويقرب التجارب من بعضها.

وهو أمر مفقود في لغة النقد الإسلامي الحالي الآن، لأننا نأخذ من مشارب متعددة، تؤدي إلى التباعد والتباين ولا تؤدي إلى التقارب والتوحد.

هذه اللغة النقدية الواحدة التي تعبر عن وحدة التفكير والمنهج والمصطلح والممارسة والتطبيق، لا يمكن أن تظهر قبل أن نحدد مرجعية التنظير للأدب الإسلامي، التي تضمن لنا الانطلاقة القوية الموحدة، وأظن أن هذه المرجعية محددة بـ(القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأدب الصحابة والراشدين) لاستخراج أصول الفقه النقدي، ثم يأتي بعد ذلك دور الأجيال الإسلامية في تجديد الفقه النقدي ومده بخبرات وإبداعات جديدة، وعند ذلك يحق لهذا النقد أن ينتسب إلى الإسلام لأنه خرج منه واحتكم إليه.

5 – وأخيراً وليس آخراً، كان الهدف من هذه المقدمة الطويلة التي تناولت تاريخ مصطلح الأدب عند العرب، ثم عرجت على مصطلح النقد الإسلامي الذي طرح (قضية الأدب الإسلامي) في الساحة الأدبية، والظروف التي اعتورت هذا المصطلح، تمهيداً لطرح موضوعنا الجديد (مفهوم الأدب الإسلامي في ضوء نظرية العلم والمعرفة) لأن الأدب الإسلامي ظهر في أحضان الأدب العربي في صدر الإسلام، ثم بدأت الدعوة الحديثة للأدب الإسلامي، وقد ألقينا الضوء على الظروف التي كانت سبباً في بروز أزمة النقد الإسلامي وانعكاساتها على الأدب الإسلامي، وغموض مفهومه الذي لم يلق العناية الكافية، التي تبلور مفهومه وتفصل مقاصده، بسبب قلة الجهود المبذولة، وبقاء التعريفات المختزلة التي طرحها الرواد وتأتي محاولتنا القادمة لتعريف الأدب الإسلامي، تمهيداً للاهتمام بهذه القضية لعلنا نجدد الانتباه والجدال والسجال الذي يعمقها ويؤصلها.

4 – دوافع هذا البحث وفوائده

1 – بحثنا هذا هو بداية لمشروع هدفه التعريف بمصطلح (الأدب الإسلامي) على أسس من البحث عن البدايات الفكرية وتفاصيلها في ضوء نظرية المعرفة، للاستفادة منها في إيضاح معالم المصطلح.

2 – التعريفات المختزلة التي سيطرت على ساحة النقد الإسلامي، لا توصل الباحث إلى فهم واضح لمشروع الأدب الإسلامي، لأنها لم تتعب نفسها في البحث عن الأسس الفكرية الجادة للمشروع، وهي عاجزة عن تقديم الخطاب النقدي المقنع، مما يؤدي إلى عجز متراكم في عملية التنظير النقدي ومصطلحاته ولا يساعد في إيضاح دقائق الفكر النقدي، ولذلك يبقى النقد الإسلامي كسيحاً عاجزاً، إذا لم يستند إلى حكمة نقدية مفصلة ترتوي من ينابيع القرآن الكريم والسنة الشريفة وأدب الصحابة، وهذا هو السبب الذي جر الناقد الإسلامي إلى الاتكاء على مقولات النقد الغربي تحت عباءة (الحكمة ضالة المؤمن) ويبقى في حالة من التبعية، لأنه يتهرب من البحث عن الأصول الفكرية التي تفسر له نظريته الإسلامية في النقد.

فلا بد من الصبر على متاعب مرحلة التأسيس للنقد الإسلامي، إذا أردنا أن نخرج نظريتنا من داخل الإسلام، حتى نستطيع أن ننتمي إليه. لأن النقاء واستقلال النقد الإسلامي بنفسه عن الآخرين، لا يتأتى إلا من خلال المصطلحات النقدية التي تتوالد أثناء عملية التفصيل الجاد للنقد الإسلامي، وبميلاد هذه المصطلحات تتضح معالمه ويتيسر استقلاله ويبين خطابه.

3 – التعريفات المختزلة التي قدمها جيل الرواد للأدب الإسلامي، هي تعريفات ريادية غير مكتملة، وينقصها التحديد الشامل، لأن الرواد قد قدحوا لنا شرارة التأسيس، فعلقوا لافتة الأدب الإسلامي في أرض المشروع، ووظيفة هذه اللافتة أن تعلن عن البدء في المشروع، مشروع التأسيس للنقد الإسلامي ومفاهيمه التي تهتدي بها جهود المبدعين، وهنا يبدأ الخلاف:

- بعضنا يعتبر التعريف قد اكتمل وما عليه إلا أن يبدأ.

- وبعضنا يستعجل العمل ويريدنا أن نبدأ البناء دون حفر الأساس.

- وبعضنا يريد استيراد خرائط المشروع وتفاصيلها النقدية من أوروبا، لأنه يريد وبسرعة فائقة أن ينهي البناء، لينقل اللافتة من أرض المشروع إلى ظهر البناء.

- ونسينا أننا نؤسس لمشروع أدبي ينتسب إلى الإسلام، نسينا أن نستفتي الإسلام نفسه، لأن الإسلام آخر من يستفتى في حالات الاستعجال والانفعال، ولأنه وقع في وهمنا أن الإسلام يرضى منا أن يرفع اسمه فوق أي بناء، حتى لو تحكم فيه الهوى والمزاج، فكثيراً ما يقع المسلمون في الأحوال والأفعال، ثم يفطنون بعد فوات الأوان إلى استفتاء الإسلام، (وخلق الإنسان عجولاً)!!

5 – من أجل ذلك رأيت أن أبدأ مشروعي هذا في محاولة هدفها التفصيل لمفردات المشروع النقدي، وبقدر ما نستطيع، وذلك من خلال البحث عن أصول (الظاهرة الأدبية) في النفس البشرية وفي ضوء (نظرية العلم والمعرفة).

لأن نظرية العلم والمعرفة هي الأقرب من غيرها إلى تفسير الوعي الإبداعي والنشاط الفكري عند الإنسان، هذا من جانب، ومن جانب آخر، لأن الأدب يشكل نوعاً فريداً من أنواع النشاط الذي ينتجه العقل البشري، أثناء خلافته في عمارة هذه الأرض، وفي هذا مدخل مفيد لتعريف الظاهرة الأدبية أولاً، ثم الانتقال إلى التعريف العام للأدب، ومن ثم التعريف الخاص بالأدب الإسلامي ثانياً.

والله ولي التوفيق

الهوامش:

* ألقيت هذه المحاضرة في مقر رابطة الأدب الإسلامي العالمية – المكتب الإقليمي عمان في 10/8/2002 ضمن موسمها الثقافي.

1 – دورة المفاهيم الإسلامية/ معهد الفكر الإسلامي/ المنعقد في الجامعة الأردنية/ الورقة الثانية/ 1996

2 – تاريخ الأدب العربي/ شوقي ضيف/ ط9، ص3/ دار المعارف

3 – ديوان طرفة ابن العبد

4 – لامية العرب. الشنفرى

 5 – الحديث (أدبني ربي...) انظر النهاية/ ابن الأثير/ غريب الحديث والأثر ج1، ص3 والوافي في تاريخ الأدب/ فائز الغول ومجموعة من المؤلفين ج1، ص5

6 – تاريخ الأدب العربي/ شوق ضيف ص8.

7 – العمدة ج1/11

8 – مقدمة ابن خلدون ص408

9 – انظر كتب كل من:

د. شكري فيصل المجتمعات الإسلامية وتطورها اللغوي والأدبي في القرن الأول وتطور الغزل...

د. محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية في الأدب، حصوننا مهددة من الداخل...

د. عبد الرحمن رأفت الباشا: نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد - الرياض 1985

أ. أنور الجندي: دراسات إسلامية معاصرة.

10 – انظر كتب كل من:

سيد قطب: في التاريخ فكرة ومنهاج، وفي ظلال القرآن، والنقد الأدبي أصوله ومناهجه..

محمد قطب: منهج الفن الإسلامي.

وصلاح الدين السلجوقي: الفن الإسلامي من خلال كتاب الإسلامية والمذاهب الأدبية.

ونجيب الكيلاني: الإسلامية والمذاهب الأدبية ومدخل إلى الأدب الإسلامي من سلسلة كتاب الأمة.

11 – رابطة الأدب الإسلامي العالمية: القوانين والأنظمة، ومجلة الأدب الإسلامي، الإصدارات والنشر ومقابلات صحفية متعددة مع الدكتور عبد القدوس أبو صالح (رئيس الرابطة) التي يشرح فيها فكرة الرابطة.

12 – من قضايا الأدب الإسلامي: د. صالح آدم بيلو ص 57

13 – ملخصات مؤتمر الأدب الإسلامي: الأدب الإسلامي النشأة والمصطلح د. محمد زرمان/ ص17/ جامعة الزرقاء الأهلية/1999.

14 – انظر في (سيمياء الأدب/ حسن الأمراني) و(الثنائيات الأساسية/ عماد الدين خليل) من كتاب مؤتمر الأدب الإسلامي في جامعة الزرقاء الأهلية 1999 (ومقدمة في نظرية الأدب الإسلامي/ عباس المناصرة/ دار البشير 1997).

يتّجهُ النقدُ الذي يُكتبُ في أدبنا المَحلّيّ، وفي العالم العربيّ عامّةً، اتّجاهاتٍ ثلاثة: اتّجاها موضوعيّا، واتّجاها يَجمعُ بينَ الموضوعيّةِ والذّاتيّةِ، واتّجاها ذاتيّا. الأوّل يتقيّدُ بالنّصِّ وحدَهُ، مُتناولا جوانبَهُ المختلفة، ومُحاولا أن يَكشفَ أبعادَهُ كلَّها، بالاعتمادِ على لغتِهِ ومَبناهُ، ودونَ أيِّ تطرُّقٍ لصاحبِ النّصِّ أو لذاتيّةِ الناقدِ. أمّا الثاني فلا يَتقيّدُ بالنّصّ وحدَهُ، ولا يرى أيَّ مُبرّرٍ لعدمِ التطرُّقِ إلى صاحبِ النصِّ وإلى ذاتيّةِ الناقد. وأمّا الثالث فينطلقُ في الأساسِ مِن ذاتيّةِ الناقد، ويحاول مِن خلالِها أن يَكشفَ أبعادَ النّصّ، وقد يتطرّقُ إلى صاحبِ النصِّ، إذا لزِمَ الأمر.

والاتّجاه الأوّل هو الاتّجاه الذي يهتمُّ بهِ الدّارسونَ، ويَعتبرونَهُ نقدًا حقيقيّا، وكثيرًا ما يُخرجُ هؤلاءُ الدارسونَ الاتّجاهيْنِ الآخرَيْنِ مِن دائرةِ النقدِ، مع احترامي الشديدِ لهؤلاءِ الدارسينَ، وللاتّجاه الموضوعيّ، فإنّني لا ألغي الحاجةَ إلى الاتّجاهيْن الآخريْن، مُؤكّدًا أنّهما قادران، إذا أُحسِنَ استعمالُهما، أن يُقدّما إضاءاتٍ إضافيّةً للنّصِّ، وأن يَكشفا أبعادًا أخرى، لا يَلتفتُ إليها النقدُ الموضوعيّ عادةً.

في هذه الدراسةِ النقديّةِ التي أتحدّث عنها والتي كتَبَها د. محمد خليل، اختارَ الناقدُ الاتّجاه الثاني الذي يَجمعُ بينَ الموضوعيّةِ والذّاتيّة، وسأحاوّل إبرازَ هذا الاتّجاه فيما يلي:

يتناول الدكتور محمد خليل في كتابهِ "مرايا" قصّة "وطن العصافير" للشاعر الأديب وهيب وهبة، فيقرؤُها قراءةً نصّيّةً، مُخصِّصًا لها تسعَ صفحاتٍ مِن كتابهِ/مرايا في الأدب والنقد والثقافة (ص234 – 242)، وقد قسّمَ قراءتَهُ لهذهِ القصّة إلى أربعة أقسام:

*في القسمِ الأوّل الذي يتكوّنُ مِن صفحة واحدة (ص 234)، قدّمَ الناقدُ تعريفًا عامًّا بالقصّة والشاعرِ الأديب، وهذا التّعريفُ يتميّزُ بالتقييم الذّاتيّ، إذ قالَ عن القصّة: "يُطلُّ علينا الأديب وهيب وهبة ليُتحِفَنا برائعتِهِ الجديدةِ الموسومةِ بـ "وطن العصافير"، والتي تنضافُ إلى قائمةٍ طويلةٍ مِن نِتاجهِ الإبداعيّ المُتميّز". وقالَ عن الأديب كاتبِ القصّة: "إنّه أديب مبدعٌ، مُرهفُ الإحساسِ والوجدانِ ذو خيالٍ خصب".

وبيّنَ الناقدُ في سياق هذا التقييم، عندَ حديثِهِ عن القصّة، الهدفَ الثاني الذي يَرمي إليهِ الأديبُ مِن خلالِهِ، وهو تحقيقُ السّلامِ والتّعايشِ المنشودِ بينَ شعبَيْ هذه البلاد.

ولأنّ القصّةَ مكتوبةٌ ومنشورةٌ في نسختيْنِ باللّغةِ العربيّةِ والعبريّة، فقد ذكرَ الناقدُ أهمّيّةَ الترجمةِ للتّفاعُلِ بين الثقافات، وللتّبادلِ الحضاريّ، وأضافَ إلى هذه كلمةً قصيرةً عن دوْرِ الفنّ في التّقريبِ بين الأنا والآخر. وبالرّغم مِن التقييم الإيجابيّ الذّاتيّ المُشار إليه أعلاه، فقد ختمَ الناقدُ هذا القسمَ بالقول: "إنّ المديحَ والإطراءَ المفتعَلَ يبقيانِ أحدَ مُنزلقاتِ النقدِ الأدبيّ، ممّا يدعونا إلى أخذ الحذر، والالتزام بالموضوعيّةِ والحياديّة قدرَ المُستطاع، حمايةً لمقاربتِنا هذا النصّ، وطبعًا، يَصدُق هذا القولُ أيضًا عندَ الحديثِ عن مُقاربةِ أيّ نصٍّ أدبيّ، بحسب الاتّجاه الأوّل، الموضوعيّ.

وقد تحدّث الدكتور محمد خليل عن هذه القضيّة، قضيّة المديح والإطراء في موضعٍ آخرَ مِن كتابهِ (ص167)، حيثُ قالَ: "وغنيّ عن القولِ أنّ كلَّ المُجاملاتِ لا تصنعُ أدبًا ولا ثقافة، ناهيك بما فيها مِن إساءةٍ لحركتِنا الأدبيّةِ والثقافيّةِ معًا، لأنّه كلّما كثُرَ التّزيينُ كثُرَ التّزييفُ، فقليلًا مِن التواضُعِ والموضوعيّة." وهذا في رأيي كلامٌ سليمٌ جدّا، ومِنَ المُهمّ أن يتقيّدَ بهِ نُقّادُنا، أيًّا كانَ الاتّجاهُ الذي  يَختارونَه.

في القسم الثاني الذي يتكوّنُ مِن صفحةٍ ونصف (ص 235 – 236)، بيّنَ لنا الناقدُ ما تطمحُ إليهِ هذه القراءةُ النصّيّة، وهو تقديمُ قراءةٍ تتجاوزُ ظاهرَ معنى اللّغةِ في القصّة، وصولًا إلى باطن معناها. هذه القراءةُ تُحاولُ إنتاجَ النصِّ مِن جديد، وقد أظهرَ الناقدُ هنا، معتمدًا على الغذّاميّ، الفرقَ بينَ قراءةِ الشّرحِ والقراءةِ المُنتِجةِ أو المُضيئة؛ فالأولى تأخذُ مِن النصّ ظاهرَ معناهُ، فتكونُ تكريرًا ساذجًا يجترُّ كلماتِ النصِّ نفسَها، بينما تأخذ الثانيةُ ما وراءَ اللّغة، وصولًا إلى معنى المعنى، لكشفِ ما هو في باطن النصّ، فتكونُ فعلًا إبداعيًّا ومَظهرًا ثقافيّا. وقد توسّعَ الناقدُ عن حديثهِ في قراءتهِ الثانية، وهي دون شكّ، تستحقُّ كلّ توسُّعٍ ممكن، لأنّها كما قالَ عنها: "هي القراءةُ الحقيقيّةُ للنّصوصِ الأدبيّة". ومع ذلك، فإنّنا نقولُ دائمًا إنّه لا بدّ مِن الشّرح أوّلًا، إذا كانَ ظاهرُ المعنى غيرَ واضحٍ، لأنّ فهمَ الظاهر شرطٌ لفهم الباطن.

في القسم الثالث، وهو يتكوّنُ مِن ثلاثِ صفحاتٍ (236 -239)، أشارَ الناقدُ إلى الرّاوي في القصّة، فقالَ: "إنّه راوٍ عليم، كلّيّ المعرفة". ثمّ تحدّثَ عن القصّةِ نفسِها، مُورِدًا أحداثها الرّئيسيّة باختصار، وقد نجحَ في نقل صورةٍ واضحةٍ لهذه الأحداث، وذلك على النّحو التّالي: كانتْ هناكَ غابةٌ تعجُّ بالحياة، وتُنظّمُ فيها الأمور على أحسن ما يُرام، فهي دائمًا نشيطةٌ فرحةٌ مسرورة، وكانت العصافيرُ تسرحُ وتمرحُ في هذه الغابةِ التي هي وطنُها الغارقُ بالجَمال، وكان هناكَ حطّابٌ عجوزٌ يقطنُ على ضفافِ النّهر معظمَ فصولِ السّنة، وبينَ عشيّةٍ وضُحاها انقلبت الأمور رأسًا على عقِب، ممّا اضطرّ العصافيرَ أن تولّي هاربةً، وتغادرَ وطنَها. وتغيّرَ الواقعُ الجميلُ، فتحوّلَ إلى حاضرٍ مؤلمٍ تعيسٍ، وقد لاحظ الحطّابُ ذلك، وأدركَ حقيقةَ الأمر: ها هي الفِيَلةُ تهزُّ جذوعَ الأشجار، وتُسقِطُ أعشاشَ العصافير، والحيواناتُ البرّيّةُ الضّخمةُ الأخرى والتّماسيحُ تأكلُ وتفترسُ كلَّ

ما تُصادفُهُ مِنَ العصافير، وتعيثُ في الغابةِ خرابًا وقتلًا وتدميرًا.

بعدَ هذا ربطَ الناقدُ بينَ الأحداثِ وبينَ أحداثِ الواقع الذي عاشَهُ كاتبُ القصّة، وتحدّثَ بشكلٍ عامٍّ عن علاقةِ المُبدع بالواقع، ثمّ انتقلَ ليتحدّثَ باختصارٍ شديدٍ عن تناغُمِ الرّسوماتِ التي أبدعتْها الفنّانة صبحيّة حسن مع مضمون القصّة.

القسم الرّابع يتكوّنُ مِن ثلاثِ صفحاتٍ ونصف (239 -242)، تحدّث الناقدُ  أوّلًا عن الآثارِ السّلبيّةِ التي تركتها الأحداثُ المذكورةُ في الأقسام الثلاثةِ السّابقة، مُبْرِزًا مِن خلالِها ما وردَ في نصّ القصّةِ عن ذلك الواقعِ المُذهلِ والمُؤلم الذي حلَّ بالغابة "وطن العصافير، من قتلٍ وتدميرٍ، وتشريدٍ بالقوّة للعصافير، ومُشيرًا إلى انهيارِ مبادئ الحرّيّةِ والعدلِ وقِيم الحقّ والخيرِ والجَمال، واستبدالِها بالباطلِ والظلمِ والشّرّ والقهر. ثمّ أتبعَ هذا بالموقفِ المُضادّ الُمناهِض لِما حدث، مُعلِنًا أنّهُ لا بدّ مِن إحقاقِ الحقِّ وإعادتِهِ إلى أصحابِهِ، مَهما طرأ مِن تغيّراتِ الزّمان وتحوُّلاتِ المكان. ثمّ نقلَ مِن النصِّ جُملةً رئيسيّةً هامّةً تدعمُ هذا الموقفَ، جاء فيها: "علينا إنقاذ المدينة، وإرجاع الغابة كما كانت". ومِن الواضح أنّ الناقدَ يتماهى مع هذا الموقفِ بشكلٍ كامل.

بعد هذا تحدّثَ الناقدُ عن عددٍ مِن جوانب اللّغة، فبدأ باستعمال الجُملِ الفعليّةِ التي تحملُ دلالةَ الفعل الماضي في الغالبيّةِ العظمى مِن أحداثِ القصّة، مُتوقّفًا عند وظائف الأفعال الماضية والمعاني التي تتعلق بها، كالحركةِ والتّغيير والوصف المتحرّك والخوف والقلق، وربَط هذا بالتأسّي عند الراوي، والشوق إلى الزمن الماضي بكلّ تفاصيلِهِ وأشيائهِ المُلوّنة، حين كانت الغابةُ تنعمُ بالصفاءِ وبالزمن الجميل. واستعمالُ الفعل الماضي هنا مُبرَّرٌ دونَ شكّ، مَهما كانت القراءةُ التفسيريّةُ التي يختارُها الناقد، فهو المحورُ الرّئيسيّ الذي يدورُ حوله ذهنُ الكاتب، حين ينظرُ إلى المشكلةِ المركزيّةِ في القصّة نظرةً شاملة.

ثمّ انتقلَ الناقدُ إلى الأسلوب الشاعريّ الذي استخدمَهُ، وهو أسلوبٌ يقومُ من جهةٍ على لغةٍ سرديّةٍ بسيطةٍ سهلةٍ وقريبةٍ إلى فهم القارئ، ويقومُ من جهةٍ أخرى على لغةٍ تُماثلُ لغةَ القصّ الحديثِ التي تعتمدُ على الرمز اللغويّ المرتبطِ بالواقع، وهو رمزٌ يتّصفُ بالبساطةِ والسهولةِ، واستغلّ الناقدُ المناسبةَ، فتحدّثَ عن أهمّيّة استعمال الرمز في النصوصِ الحديثة، وعن دلالات عددٍ مِن الرموز المُستخدَمةِ في قصّة "وطن العصافير"، ثمّ أتبعَ هذا بالحديثِ عن النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ الذي تدورُ حولَهُ الرموزُ كلّها.

ولا بدّ مِن القول إنّ تفسيرَ الرموز هنا وربْطها بمَرموزٍ إليهِ مُعيّن، هو النزاعُ المذكور، يتعلقُ بالقراءة التفسيريّةِ التي اختارَها الناقدُ لهذا النصّ، وهي في نظر النقدِ الحديثِ قراءةٌ واحدةٌ من بين قراءاتٍ عديدةٍ ممكنة، بل إنّ النظريّةَ التفكيكيّةَ تقولُ إنّ القراءاتِ لمثل هذا النصّ يمكنُ أن تكونَ لا نهائيّةً، وذلك لأنّ القراءة تتعلق بالقارئ، والقرّاءُ مختلفونَ جدّا، فكرًا ورؤية وظروفًا وثقافة. وإذا كان أصحابُ هذه النظريّةِ يقولونَ، بناءً على ما ذُكر، إنّ كلَّ قراءةٍ هي قراءةٌ مغلوطة، فإنّني أقولُ إنّ كلّ قراءةٍ يمكنُ أن تكونَ صحيحةً، ولكنّها ليست القراءةَ الصحيحةَ الوحيدة، فهناك دائمًا قراءاتٌ صحيحةٌ أخرى ممكنة.

بعد هذا انتقلَ الناقدُ للحديثِ عن توظيفِ السؤالِ بكثرةٍ في القصّة، باعتبارِهِ مُكوّنًا رئيسيًّا مِن مكوّناتِ القصّة الحديثة. وأودُّ أن أشيرَ هنا إلى أنّ السؤالَ قد شكّلَ مُكوّنًا رئيسيًّا مِن مُكوّناتِ الحداثةِ الغربيّة، إذ ارتبطَ طرْحُ الأسئلةِ فيها بمحاولاتِ التغييرِ الشاملِ للواقع بالإنسان، ولعلّ هذا الارتباطَ الكامنَ في وعي الناقدِ الدكتور محمد خليل هو الذي جعلَهُ يُسارعُ إلى التأكيدِ في الفقرةِ التالية، لما ذُكرَ أعلاه، على أنّ كاتبَ النصّ موضوع الدراسةِ يهدفُ أو يتطلّعُ إلى تغيير الواقع الراهن، وتغيير الإنسان تغييرًا جذريًّا، وإلى الوصول من خلال هذا التغيير إلى بناءٍ جديدٍ، وإن كان افتراضيًّا أو مُتخيّلًا.

في الفقرتيْن الأخيرتيْن مِن الدراسةِ أورِدَ الناقدُ أقوالَ الحطّاب الذي سبَقَ ذِكرُهُ، وهو شخصيّةٌ هامّة مِن شخصيّاتِ القصّة، ثمّ قالّ إنّ هذه الأقوالَ تشي بفكرةٍ جديرةٍ بالاهتمام وتدعو إلى التفكير، وهي إعمالُ العقل وتفعيلُهُ ولا تعطيلُه، وإعمالُ العقلِ هنا يعني التفكيرَ السليمَ في شؤون الواقع المَعيش، وإيجادَ مَخرَجٍ واقعيٍّ منطقيّ للمشكلةِ المطروحةِ في النصّ، وهذا المَخرجُ هو التوجُّهُ نحوَ السّلام، باعتبارهِ أنشودةَ الحياةِ ورايةَ الحرّيّة. ويُشكّلُ هذا التوجُّهُ نهايةً للقصّة، يتمُّ فيها تقاسمُ الغابةِ مناصفةً بين المتخاصمين، ويتمُّ التفاهمُ والوئامُ في ربوع الغابة.

ولا شكّ أنّ هذا الحلَّ يَعكسُ موقفًا مُعيّنًا موجودًا عندَ الكثيرين مِن أبناءِ الشعبيْن، كما هو موجودٌ عندَ الأديب وهيب وهبة والناقد الدكتور محمد خليل. ومع أنّ هؤلاءَ الكثيرين يَعتبرونَ هذا الحلَّ إيجابيًّا بالنّسبةِ للنّزاع المَرموز إليه، فإنّ معظمَهم يشعرون في أعماقِهم بأنّهُ حلٌّ افتراضيٌّ مثالي، وأنّه مشروط بالتغييرِ الجذريِّ المَذكورِ في القصّةِ والدّراسةِ، وهو تغييرٌ يتناولُ الواقعَ والإنسانَ في هذه البلاد.

ونحنُ مع الشاعر الأديب ومع الناقد نبقى في انتظار هذا التغيير، آمِلينَ أن يبدأ قريبًا، قريبًا جدّا، ومُقدّرينَ تقديرًا كبيرًا كلَّ مَن يُسهمُ في هذا التغييرِ مِن المُبدعينَ والنقّادِ، ورجالِ الفكرِ والإعلاميّين والمُربّينَ والسياسيّينَ وغيرهم، ونحن نقولُ لهم ومعهم جميعًا: تفاءلوا بالخير تجدوه.

المزيد من المقالات...