clip_image001_4062b.jpg

مقدمة

ها هي ذي قصة عليّ عبد الخالق كما يقدّمها لنا الكاتب حسين ياسين في روايته عليّ: قصة رجل مستقيم الصادرة عن دار الرعاة للدراسات والنشر في رام الله وجسور الثقافية للنشر والتوزيع في عمان. صدرت الطبعة الأولى للرواية منتصف عام 2017 والطبعة الثانية بداية عام 2018.

ثمّة روايات نقرأها لا نلبث بعد الانتهاء من قراءتها أن ننتقل من عالم الخيال الذي نختبره في الرواية إلى عالم الواقع الذي نعيشه وكأن شيئًا لم يكن؛ وعلى العكس من ذلك، هنالك روايات تترك فينا أثرًا عاطفيًا وفكريًا قد يغيّر من مفهومنا للحياة، ويساعدنا على تعميق تجاربنا وتوسيع مداركنا. وهذا في نظري من أهم صفات الأدب الجيد، وهذا ما نجده أيضًا في رواية علي: قصة رجل مستقيم مما جعلها تصل إلى القائمة الطويلة في القائمة العالمية للرواية العربية "البوكر". يصف الدكتور سمير الخطيب الرواية في مقالته بعنوان "عليّ: قصة رجل مستقيم" الصادرة في دنيا الوطن بتاريخ 19 آب 2017 بأنها عمل مُبدع ورائع.  

للرواية أبعاد ملحمّية. أولا، تتحدث الرواية عن قضية عالمية في غاية الأهمية تخص كل إنسان في كل زمان ومكان، هي قضية الحرية والعدالة؛ ثانيًا، اللغة جاءت روائية متماسكة ومبدعة، وكما تقول الدكتورة رباب القاسم سرحان في مداخلتها عن الرواية أثناء حفل إشهار وتوقيع الرواية الذي دعا إليه نادي حيفا الثقافي في 17 تموز 2017، إنفردت الرواية "بلغة مميزة سلسة شعرية مطعمة باللهجة الفلسطينية"؛ ثالثا، تركّز الرواية على شخصية رئيسية واحدة هي شخصية عليّ المغامر الجريء المؤمن بقضيته، ولكن على عكس أبطال الملاحم التقليدية لا يتميز عليّ بأي صفات بطولية خارقة للطبيعة ولا يقوم بأعمال أسطورية، بل هو رجل عاديّ بسيط يعيش يتيمًا ويعمل في الحقل وينضّم لاحقا في صفوف الحزب الشيوعي، ويقاوم الاحتلال البريطاني والصهيوني ثمّ يرحل إلى أسبانيا كي يتطوع للمحاربة في الحرب الأهلية الأسبانية. أخيرًا، تتميز الرواية باحتوائها على الكثير من الأحداث والشخصيات واتساع المساحة الجغرافية التي تدور فيها الأحداث. هكذا يصف الناقد الدكتور رياض كامل عالم رواية عليّ: قصة رجل مستقيم في مقالته بعنوان "الراوي، الوصف وعملية الإيهام بالواقع" الصادرة في مجلة صوت العروبة بتاريخ 8 نيسان 2018: "عالم الرواية واسع ورحب، يشمل أحداثا وشخصيات متنوعة، فضلا عن اتساع رقعة الأمكنة في الداخل الفلسطيني وفي الغربة، وامتداد مساحة الزمن من سن الطفولة فالشباب حتى الثلاثينات من عمر الشخصية المركزية". ويضيف الدكتور سمير الخطيب: "الرواية غنيّة بالمواقف الرومانسية والمواقف البطولية ووصف دقيق للجغرافيا التاريخية والأحداث السياسية ... وتفتح الكثير من المواضيع التي بحاجة إلى دراسة معمّقة".  

أهمية الرواية

ما يشهد على أهمية الرواية الكمّ الكبير من المقالات النقدية التي تنطوي على تحليل أدبي وسياسي وحزبي لمحتوى الرواية، وتقييم شكليّ لمواطن القوة والضعف فيها. ولا بدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى أن هنالك اتفاقا عاما بين أغلبية النقاد على أن أهم ما تتسم به الرواية هو أنها تتحدث عن شاب فلسطيني، شارك في الحرب الأهلية الأسبانية بعد طرده من وطنه عقب رحلة كفاح مريرة ضد المستعمرين البريطانيين والاحتلال الصهيوني لفلسطين. وفي الحقيقة، هذا ما أدى بالأستاذ حسين ياسين إلى كتابة روايته، فقد اكتشف مصادفة أن عليّ عبد الخالق بطل روايته حارب في أسبانيا وقُتل ودُفن فيها. تكشف الكاتبة بديعة زيدان في مقالة لها بعنوان "حسين ياسين ... ورحلة البحث عن عليّ " تمّ نشرها في جريدة الأيامبتاريخ 30 كانون ثاني 2018  كيف عثر المؤلف على معلومات عن عليّ: "قبل خمس سنوات، قرأ ياسين كتابًا للمؤرخ الألماني هارت هوب، عميد كلية التاريخ في لايبزيغ، يتحدث عن فلسطينيين إثنين أحدهما عليّ، والثاني فوزي قُتلوا ودُفنوا في أسبانيا خلال مشاركتهم في الحرب. وقال: بدأت البحث ... فتوجهت لأرشيف الحزب الشيوعي، ولم أعثر على شيء لا في هذه الأرشيفات ولا لدى كبار الس،. في العام 2016 صدرت مذكرات محمود المغربي وحرّرها ماهر الشريف، وتضمنت سطرًا حول علي ... وهنا الحديث عن شخص يُدعى علي عبد الخالق، وبعدها صدرت مذكرات نجاتي صدقي، وأشارت إلى أن عليًا كان عضو لجنة مركزية في الحزب الشيوعي حارب وقُتل ودُفن في أسبانيا. توجهت إلى المراجع العبرية، فوجدت 23 مرجعًا حول الحرب الأهلية الأسبانية، وفيها عثرت على اسمه وصورته، وبدأت الكتابة."

تكمن أهمية الرواية أصلا في أنها تسلّط الضوء على شخصية شاب عاش في النصف الأول من القرن الماضي، حارب في أسبانيا لكنه لم يترك خلفه أي أثر عن الحرب، على عكس الكثيرين من قوميات أخرى ممن شاركوا في الحرب، ولهذا السبب طواه النسيان، ولم يحظ إلا بذكر ضئيل ونادر في بعض الكتب، إلى أن اكتشفه مصادفة الكاتب حسين ياسين وقدّمه للقارئ العربي. عندما سُئل الكاتب حسين ياسين في مقابلة ضمن برنامج "صباحنا غير" في أيلول 2017 عن تغييب شخصيات عربية مثل عليّ في كتب التاريخ، أجاب: أن العرب لم يكتبوا أبدًا عن الحرب الأهلية الأسبانية، ولذلك تمّ تغييب دور المحاربين العرب الذين تطوّعوا في الحرب، يقول الكاتب بامتعاض: "هناك نقص فينا، خلل في المؤسسة الفكرية العربية".

إضافة إلى ما سبق، تكتسب رواية "عليّ: قصة رجل مستقيم" أهمية خاصة لأنها تتحدث عن حقبة حرجة في تاريخ فلسطين أوائل القرن العشرين، حيث يعالج الكاتب الوضع الفلسطيني خلال فترة زمنية تراوحت ما بين ثورة البراق عام 1929 وما بين مقتل عليّ في آذار عام 1938. تزخر الرواية بالأحداث السياسية، وفي نفس الوقت تقدّم صورة حيّة عن الحياة الاجتماعية الفلسطينية في ذلك الوقت، فضلا عن ذلك، تتناول الرواية العلاقة ما بين الحزب الشيوعي الفلسطيني عربًا ويهودًا وعلاقة الإثنين مع الحركة الوطنية الفلسطينية ومع الحركة الصهيونية، وهذا "موضوع لم يسبق التطرق إليه"، يقول الكاتب حسين ياسين.

علي رجل المبادئ

تشكل المبادئ خارطة الطريق لسلوك الإنسان، ومن الواضح أن الدافع وراء تصرفات وأفعال عليّ هو مبدأ الحرية والاستقلال والعدالة للجميع. يقول عليّ: "الدنيا سياسة سلاحها مبادئ وعقيدة" (ص 44). وهذا في الواقع ما يجعله رجلا مستقيمًا. وكان عليّ يؤمن بأنه "لا يوجد شعب واحد على وجه البسيطة يمكن أن يرضى بغير الحرية" (ص 53). عزاؤه في من وراء تطوعه في الحرب الأسبانية أنه يخدم "قضية عادلة"، وهو يؤمن "بعدالة النضال"، وأن الحرب الأسبانية ستظل نبراسًا وقدوة لكل انصار الحرية" (ص 298).

يؤمن عليّ أن رسالة الحزب الشيوعي الذي ينتمي له هي تحقيق العدالة والحرية ليس فقط في فلسطين، بل في أيّ مكان آخر من العالم، ولهذا السبب هو لم يمانع في أن يذهب إلى أسبانيا، ويلتحق بالألوية الأممية كي يقاتل إلى جانب الجمهوريين ضد القوميين. وبعد انضمامه إلى الحزب يشعر بسعادة كبرى وأن أمانيه للمساهمة في تحقيق الحرية والعدالة سوف تتحقق، ولذلك نراه ينخرط في الحركة الوطنية والنضال السياسي ضد المستعمر البريطاني في فلسطين، فتارة يشارك في المظاهرات ويعلّق الملصقات ويقرأ كتابات ماركس ولينين، وتارة أخرى يتضامن مع العمال والفلاحين. يقول عليّ مزهوًا بنفسه: "مساهمتي في النضال تتكثف، دخلت النضال من أوسع أبوابه، ما فاتني شيء من الفعاليات الوطنية" (ص 80).   

في القدس تُلقي السلطات البريطانية بالتعاون من اليشوف القبض على عليّ، وتقوم بترحيله إلى أسبانيا، يُرحّب علي بفكرة ترحيله إلى أسبانيا؛ لأن المعركة من اجل العدل والحرية والسلام هي معركة عالمية وإنسانية، هي معركة "بين قوى الظلام وأنصار الحرية، بالنسبة للثائر، كل جبهة ضد الظلم هي جبهة نضال عادل" (ص 236). ويتساءل بعض النقاد أليس من باب أولى أن يبقى عليّ في فلسطين للنضال ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني؟ على سبيل المثال، في مقالته "نوستالجيا شيوعية نمطية" الصادرة في مجلة فلسطينultra الإلكترونية بتاريخ 18 شباط 2018 يتهم الباحث عز الدين التميمي الكاتب حسين ياسين بانشغاله "بمحاولة تجاوز التناقض الفجّ في فكرة ترك الصراع الفلسطيني البريطاني الصهيوني والالتحاق بمعركة على أرض أخرى". لكن من وجهة نظري لا أعتقد أن هنالك أيّ تناقض وذلك لسببين هما:

 السبب الأول: هو أن عليّ يُجبر من جانب قوات الاستعمار البريطاني والصهيوني على الرحيل والتهجير من فلسطين إلى أسبانيا والحصول على موافقة حزبه للذهاب إليها، فلم يكن لديه أيّ خيار آخر في ذلك. يقول عليّ: "فراق الوطن صعب! التهجير، صعب. لو تطوعت بمحض إرادتي، لو كان وطني ينعم بالحرية، لكان الأمر أهون وأبهج" (ص 241).

والسبب الثاني هو أن عليّ لم يتخلّ عن مبدئه لتحقيق العدل والحرية، وما لم يتمكن من تحقيقه في فلسطين يحاول تحقيقه في أسبانيا. يقول عالم النفس النمساوي فيكتور فرانكل في كتابه البحث عن معنى الحياة بانه يمكن حرمان الإنسان من كل شيء عدا شيئًا واحدًا هو حرية اختياره للطريق الذي يسلكه، بصرف النظر عن المكان والزمان. فالمبدأ هو الدافع الذي يذهب عليّ من أجله إلى اسبانيا، أمّا المكان وأمّا الجغرافيا فما هما سوى المسرح الذي يؤدي فيه علي دور المناضل المؤمن بقضيته. 

بخلاف الصراع في فلسطين الذي هو أصلا صراع على الأرض، كانت الحرب الأهلية الأسبانية (1936-1939) بالدرجة الأولى حربا ايديولوجية أو فكرية. بدأت الحرب عام 1936 عندما قام القوميون المؤيدون للفاشية بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو؟ن وبتشجيع من الكنيسة الكاثوليكية والطبقة الأرستقراطية بالتمرد على الحكومة الائتلافية ذات الميول الاشتراكية، والتي وصلت إلى الحكم نتيجة انتخابات ديمقراطية. وفي تلك الفترة (الثلاثنيات والأربعينيات من القرن الماضي)  كانت دول العالم تعاني من الكساد الكبير نتيجة الأزمة الاقتصادية التي عصفت بها؛ مما أدى إلى زعزعة ثقة الكثيرين بجدوى النظام الرأسمالي والسوق الحرة، ولذلك بدا للكثيرين أن الاشتراكية القومية والشيوعية توفران بدائل للرأسمالية، وأصبحت اسبانيا ساحة معركة بالوكالة حيث كان بالإمكان اختبار هذه الإيديولوجيات عسكريا. كان ذهاب عليّ إلى أسبانيا والتطوع في الحرب الأسبانية اختبارا لإيمانه بالاشتراكية الشيوعية ومدى إمكانية تحقيقها للعدالة والحرية. يقول عليّ: "إنني متطوع عربي ]فلسطيني[ جئت لأدافع عن الحرية في مدريد" (ص 270). ولأن الحرب الأهلية الأسبانية كانت في الأصل والجوهر حربا أيديولوجية فكرية فقد جذبت العديد من المتطوعين بلغ عددهم بحسب المصادر المختلفة نحو 40 ألفا من أكثر من 56 قومية، ومن ضمنهم كان المفكرون والأدباء الذين شعروا وآمنوا بضرورة تصوير الحرب وتمثيلها فنيا وأدبيا. أذكر على سبيل المثال الكاتب البريطاني جورج أوريل الذي قدّم شهادة حيّة عن تجربته في الحرب في كتابه "الولاء لكتالونيا"، والذي يقابله عليّ في مدريد ويصفه بأنه "طويل القامة، يبدو عليه الوقار، لغته إنجليزية ... لاحقا عرفت أنه الكاتب البريطاني، جورج أورويل" (ص 247). وأيضا الكاتب الأمريكي إرنست همينجوي الذي كتب روايته الشهيرة "لمن تقرع الأجراس" وفيها يسرد  قصة الشاب الأمريكي روبرت جوردن الذي ينضم إلى صفوف الألوية الأممية إبان الحرب الأهلية الأسبانية. مثل أورويل وهمنجواي، ينضم عليّ إلى صفوف المقاتلين الأمميّن في الحرب الأهلية الأسبانية بوصفه رجل مبادئ يؤمن بالحرية والعدالة.

علي والتاريخ

 لم يترك علي أي أثر عن مشاركته في الحرب الأهلية الأسبانية، لذلك لا نعرف بالتفصيل عن طبيعة نضاله في أسبانيا، كما أن المؤرخ الألماني هارت هوب لا يتحدث إلا بشكل عابر عن فلسطينيين إثنين هما عليّ وفوزي اللذين قُتلا ودُفنا في أسبانيا. ويرد اسم عليّ أيضا في مذكرات محمود المغربي ونجاتي صدقي وبعض المراجع العبرية التي لجأ إليها الكاتب حسين ياسين أثناء بحثه. وبكلمات الكاتب حسين ياسين: "فالهيكل العظمي (علي) حقيقي ... بينما بقية التفاصيل خيالية". ومن منظور الدكتور عادل سمارة في مقالة له بعنوان "قراءة في رواية عليّ قصة رجل مستقيم" صدرت في مجلة كنعان الإلكترونية بتاريخ 25 أيار 201: "ليس الأدب، ولا سيما الروائي، بالعمل التاريخي الموثق واقعيا. ولكن، هل من قبيل المبالغة القول بأن الأدب حاضنة فضفاضة مرنة للتاريخ الذي هو نفسه حاضنة الوجود البشري"؟  وعليه لا يمكننا اعتبار رواية عليّ: قصة رجل شجاع على أنها رواية تتمتع بمصداقية تاريخية لأن الأحداث سواء في فلسطين أو في أسبانيا هي من نسيج خيال المؤلف، وهي محدودة زمانيا ومكانيا. من ناحية أخرى، لا بد من الإشادة بالكاتب حسين ياسين لأنه أبدع في التحرر من قيود الكتابة التاريخية وأطلق العنان لخياله، وبالفعل أنتج عملا أدبيا عن حقبة تاريخية وحدث تاريخي بالغ الأهمية لطالما تمّ تجاهله من جانب المؤرخين والكتاب العرب.      

يعرض الكاتب لمحة خيالية موجزة عن مجريات الحرب كما يرويها بطلها عليّ. فنرى عليّ يحارب ويأسر الجنود، ويحقق معهم ويُطلق الرصاص ويُصاب وفي النهاية يُقتل. وقد نجح المؤلف في تصوير أحداث الحرب بواقعها الأليم، فنقرأ مثلا: "كأننا حمم خرجت من بركان، أو سهام تطايرت. نطلق الرصاص ونعدو نحو العدو. نقذف القنابل ونعدو نحو العدو" (ص 317-318). يقضي عليّ نحو سنتين في أسبانيا يحارب في صفوف الجمهوريين وبالتحديد من تشرين أول 1936 حتى إصابته واستشهاده في 17 آذار 1938.

موقف عليّ من الحرب

يرى عليّ أن الحرب تعكس صورة مصغرّة لكارثة إنسانية عالمية، وهذه الكارثة يختبرها عليّ في خضم الحرب الأسبانية بين القتلى والجرحى والدمار. الحرب في نظره مأساة عالمية: "في الحرب يهجرك الإنساني ... عندما يصبح محيطك أجساما ممزقة وبقايا بشرية، لا تعود تقوى على الإيمان بشيء. الحرب آلة جهنمية تذيب العقل وصفاء الضمير ... لم أتصّور أن الموت، الذي يمثل الشيء الأكثر استثنائية وخرقا للمألوف في حياة الإنسان، يصبح الشيء الوحيد المنهجي والمألوف. لا شك أن الحرب هي خطيئة الله على الأرض" (ص 312).

يُبدي عليّ تعاطفا ورحمة مع ضحايا الحرب وضحايا العنف. يصف عليّ موت طفلة بأسلوب شعري يزخر بالعاطفة الصادقة: "رصاصة شاردة شقت صدر فتاة صغيرة، سال الدم عللى فستانها الأبيض، سقطت من يدها لعبتها الصغيرة وانكسرت على رصيف الشارع، زعيق الأمّ يتردد في أذن السامعين، أخذت ابنتها ولاذت في البيت، يركض خلفها طبيب الكتيبة، يُصدر شهادة وفاة للطفلة الصغيرة، ما ذنب الصغار في لعبة الكبار"؟ (ص 273). مثل هذا الوصف يخلق تفاعلا قويا بين القارئ والنص، ويؤدي بالقارئ إلى خوض نفس التجربة التي يخوضها عليّ ولكن ليس واقعيا بل خياليا.

لم يكن عليّ يعلم قبل وصوله إلى اسبانيا والتطوع في الحرب ماذا يتوقع أو ماذا سيحدث له. فقد كان مدفوعا بمثاليات ومبادئ آمن بها وورثها عن الحزب الشيوعي الذي ينتمي له. ومما لاشك فيه أنه صُدم من هول ما شاهده واختبره في الحرب الأسبانية على الرغم من تجربته النضالية الطويلة والواسعة في فلسطين. هكذا يصف عليّ شعوره بعد إطلاق أول رصاصة من بندقيته نحو جندي فاشي: "تلك كانت أول مرّة في حياتي أوجه فيها بندقيتي نحو إنسان، نحو رأس جندي فاشي، تسارعت دقات قلبي، ضجيج حاد في الأذنين، علا لهاثي ... الشعور بأنني اقتل إنسانا أقلقني جدا، عرق غزير فاض من جميع مسامات جسدي.، أغرق في عرق لزج" (ص 274). يؤمن عليّ أن الحرب هي النقيض التام للإنسانية والحياة: "يا إلهي! لا أريد أعداء، أحب الكل، أحب الإنسان. أحب الحياة" (ص 283). ويرى عليّ أيضا أن الحرب تملأ الإنسان بالوحشية والحقد: "الحرب تفعل بي مثلما تفعل النار بالهشيم، تجردني من إنسانيتي، ينتصر الوحشي في داخلي. أمتلئ غيظا وحقدا وعدوانية، يا إلهي! لا يزال الحب أجمل من الكراهية، والحياة أشرف من الموت ... (ص 284). لكن عزاءه الوحيد أنه في الحرب الأسبانية "نخدم قضية عادلة" (ص 298). يناضل عليّ كي يُبقي مشاعره الإنسانية حيّة مشتعلة وسط القتل والدمار والدماء الغزيرة: "الحرب تعطيل الحواسّ وإخراج الإنساني من الإنسان" (ص 312-313).

خلاصة

المبادئ تغيّر التاريخ وليس الإنسان؛ لأن الإنسان يزول وتبقى المبادئ، فبعد وفاة عليّ بحوالي ثمانين عاما ما يزال الإنسان عامة والإنسان الفلسطيني خاصة يكافح من أجل الحرية والعدل والسلام، في عالم معاصر تكاد تفقد فيه هذه المبادئ جوهر معناها. يعلمنا عليّ أنه مهما بلغت الصعاب والتحديات ومهما كان الثمن الذي ندفعه فإنه علينا دائما الالتزام بالمبادئ الإنسانية في كل مكان وزمان، ويعلمنا عليّ أيضا درسا هامّا هو أن وطن الإنسان ليس قطعة من الأرض، بل هو المبدأ الذي نؤمن به، وأن الوطنية الحقيقية هي الولاء والإخلاص لذلك المبدأ.

الفصل الثاني :

ليلة تسليم جلجامش لليهود

 # مغالطات من صفحة المقدّمة : التناص المزعوم :

-----------------------------------------------------

 من مفارقات كتاب الأستاذ ناجح المعموري هذا هو ان عنوانه هو "الأصول الاسطورية في قصة يوسف التوراتي" ، لكن لاحظ ما يقوله في الأسطر الأولى من مقدمة كتابه :

(كنت منذ سنوات مهتما بقصة يوسف التوراتي وعلاقته التناصية مع ملحمة جلجامش بوصفها نصا مكرسا لعب دورا بارزا في التأثير على الآداب الشرقية ، وتبدّى هذا في الملاحم والنصوص الأدبية وتوصلت القراءة الى التناصات المهمة بين الملحمة وسفر التكوين ، وقدمت هذه التوصلات ضمن كتاب (ملحمة جلجامش والتوراة) الذي صدر في دمشق عن دار المدى 2009 - ص 31) (1).

وهو تقديم غريب يقفز من تناص ملحمة جلجامش مع قصة يوسف التوراتي الى تناصات ملحمة جلجامش مع سفر التكوين !!

ثم يعود إلى القول :

(واستمر اهتمامي بقصة يوسف التوراتي وحصرا قميصه الأحمر وصلة ذلك مع الالوهة الشابة المذكرة في الشرق، وفعلا تأكدت العلاقة الثقافية القائمة بين عدد من الآلهة ويوسف - الصفحة نفسها) (2).

الآن عدنا إلى موضوعة الأصول الأسطورية لقصة يوسف التوراتي ليعود الأستاذ ناجح ويقول قبيل النهاية :

(تظل ملحمة جلجامش الشهيرة جدا نصا مؤثرا في قصة يوسف التوراتي ولا يمكن تجاهل تأثيره المبكر في كل ثقافات الشرق الأدنى القديم وكان لحكاية الأخوين المصرية مجال متمركز أيضا. وقد اتضح للقراءة بأنها قد نسخت في النص التوراتي ، ولا تحتاج إلى جهد كبير بمعرفة واكتشاف التفاصيل المرتحلة.

أما النص الأسطوري السوري فانه ساعد الدراسة على رسم إطارها الجديد المرتبط بتكون لحظة الالوهة والتضحية بأهم العلامات الدالة على نظام الخصب والانبعاث - ص 32 و33) (3).

ومن يقرأ هذا المقطع ويربطه بعبارة الاستهلال ، سيعتقد أن الكتاب يتركز على كشف صلة قصة يوسف التوراتي بملحمة جلجامش ، وأن حكاية الأخوين والنص الأسطوري السوري ما هما إلا حاشية على المتن . ولكن ما سيجده هو عكس ذلك تماماً حيث كان التركيز الأساسي على صلة قصة يوسف التوراتي بحكاية الأخوين أولا ، والأسطورة السورية ثانيا ، وبعد (194) مئة وأربع وتسعون صفحة ، يأتي قسم عنوانه (ملحمة جلجامش وقصة يوسف التوراتي) ويتكوّن من (17) سبع عشرة صفحة فقط ، يتحدّث فيه ناجح عن التناص (المزعوم) ، بين ملحمة جلجامش وقصة يوسف التوراتي .

وأقول أنّ هذا التناص "مزعوم" ، لأن كل ما يقدّمه ناجح عن التناص بين الملحمة والقصة مفبرك وملفق ولا أساس له ، ويمكن دحضه بمجرد تحريك مفردات قليلة من مكانها في التحليل .

# ظاهرة خطيرة في الثقافة العربية : بدون هذا التناص لا محل للدولة اليهودية في الوطن العربي :

-------

لكن قبل ذلك دعوني أتوقف عند ظاهرة خطيرة صارت تبرز في الثقافة العربية منذ أكثر من عقدين ، وتمس جانباً من مشروع الصديق الباحث ناجح المعموري هذا : كشف الأصول الأسطورية لقصة يوسف التوراتي . وسنجد أن الأصول الأسطورية التي يركّز عليها هي أصول تتعلق بالعراق ومصر تحديداً والشرق الأوسط عموماً !! . يقول ناجح في المقدّمة بعد أن يعرض تعلّقه بكشف أصول قصة يوسف التوراتي الأسطورية :

(وستساهم هذه الدراسة في توسيع المجال التوراتي والإشارة إلى مصادره الحيوية / الفعالة التي صاغت البنية الذهنية التوراتية والتي تسللت إلى ديانات الشرق المؤسسة وأخذت منها ما يساعدها على إعادة صياغة النص التوراتي الذي ظل شفافاً ، كاشفاً عن طبقات ثقافية ليست له ، على الرغم من محاولات الكهنة اليهود لإضاعة وطمس العناصر الدينية الأخرى - ص 32) (4).

وناجح – كما يبدو واضحا – دقيق في القول إن الكهنة اليهود حاولوا إضاعة وطمس العناصر الدينية الأخر . ولكنه يقع في كبوة كبيرة حين يحاول إثبات وجود "تناص" عفوي بين الجانبين : التوراتي ، والعراقي والمصري القديم ، لأنّ ما حصل هو سرقة كبرى وعملية سطو مدروسة وذكيّة من قبل الكهنة اليهود ، وذلك لإرباك تراث المنطقة ووقائعها التاريخية التي تحمل الأسطورة جانباً كبيراً منها أوّلاً ، ولجعل التوراة تبدو وكأنّها وريث "شرعي" للإنجازات الفكرية والأسطورية العظيمة التي حققتها حضارتا النيل ووادي الرافدين (مصر والعراق) ، وكذلك الحضارة السورية القديمة .

ولم يعد سرّاً القول بأن الجهات اليهودية الصهيونية المعاصرة تخصص الأموال ومراكز البحوث ودور النشر وتسخّر الباحثين المميزين – من دون أن يعلموا في كثير من الأحوال - لكي يعملوا بدأب وبكل طريقة ليكشفوا الأصول الأسطورية للفكر التوراتي حتى لو عن طريق الكذب والتلفيق . فمن دون هذا المشروع الذي يجعل الفكر التوراتي جزءا أصيلا من مكوّنات فكر المنطقة ، ووريثا لإنجازاتها الأسطورية الريادية العظيمة ، لن يكون هناك مستقبل فكري وقبول نفسي مؤسس عليه ، للمشروع اليهودي الصهيوني في فلسطين ، خصوصا وهو مقبل على إعلان دولته اليهودية في فلسطين المحتلة ، وستبقى "إسرائيل" كيانا هجينا لا يمكن أن تستقبله ثقافة المنطقة (ثقافة العراق ومصر وسوريا خصوصا) التي هي ثقافة مناقضة تماماً للفكر التوراتي الذي يريد ناجح جعله فكرا مصادره الحيوية الفعالة كامنة في ديانات الشرق المؤسسة كما يقول في مقدّمة كتابه (ص 32) . وكلامه هذا لا يمكن أن يصدر من باحث عربي في مجال الأسطورة لأن معناه أنه لا يعرف المميزات الأساسية لديانات الشرق الأدنى القديم ، ولا يدرك أنها مناقضة بصورة جذرية للفكر التوراتي كما سنشرح ذلك بالتفصيل .

وفي ختام المقدّمة يعلن ناجح عن ثقته بأن دراسته هذه سوف تثير الإهتمام :

(وأنا وائق بأن هذه الدراسة المتواضعة ستثير اهتماماً ، مثلما ستساهم بتعميق المجال الثقافي المعني بالأسطورة والتوراة ، كما إنها تنطوي ضمنا على اعتراف بكل من ساهم بالكشف عن اصالة الحضارات ودورها الكبير في إنتاج وصياغة الديانات القديمة - ص 33) (5).

وفعلا ستثير هذه الدراسة الإهتمام ، فهي ستكون – وبحسن النيّة المؤكّد - جزءاً من مشروع خطير يُنفّذ - ويا للخيبة والألم – بالنوايا الحسنة ، وبعرق وجهد وعناء الطرف الذي سوف يكون الخاسر الأوحد من تحقيق أهدافه وهو نحن .

(1)

النفس الإنسانية مجبولة على تفريغ طاقاتها السلبية كطاقة الغضب إذا امتلأت النفس بها لأي سبب من الأسباب؛ فلو أن إنسانا يعبر طريقا، ووجد شابا يضرب هرما- لامتلأت نفسه غضبا مرة واحدة، ولقفز يضرب الشاب من دون أن يسأل أو يستفسر.

ولو أن إنسانا وجد رجلا يضرب امرأة لفعل الفعل ذاته من دون أن يستفسر، ومن دون أن يفكر في العواقب و ... و... لماذا؟

لأن هذه الطاقات السلبية يضر كبتها؛ لذا امتدح الله تعالى ضبط هذه العاطفة وجعل ذلك من صفات المتقين والمؤمنين، فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، وقال: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 36، 37].

وصار ذلك خصلة مدح عند الناس أن يمدحوا الذي يحلم ولا يجهل سريعا، والذي يصبر على جهل الآخر، وما ذلك إلا لعلمهم أن ذلك صعب وليس سهلا.

(2)

ومن يقرأ عملا أدبيا أو يشاهد عملا فنيا، ويعايش أحداثه الرئيسة والفرعية، وينفعل بها ويتخذ مواقف حيال ما يحدث فيها- تنمو داخله مشاعر تجاه ما يحدث، وينبغي أن تأتي الأحداث بما يفرغ هذه المشاعر إذا كانت سلبية قبل أن ينتهي العمل. فلو أن عملا كان عماده بغي شخصية من شخصياته، وانتهى من دون وجود ردع لها- لكان ذلك سلبيا على المستوى النفسي والمستوى المعرفي عند المتلقي وإهدار لقيم، وذلك في الحبكات المباشرة المتصاعدة مع الحدث من البدء حتى الذروة إلى الانطفاء، إلا إذا كان غرض الأديب إبقاء طاقة الغضب تجاه قضية عمله لأسباب أُخَر.

وفي الأعمال التي تكون حبكتها غير مباشرة كالأعمال الحوارية أو الأعمال التي تعتمد حبكات لا تزرع الشعور زرعا، لكنها تعمل على الفِكَر فلسفة أو عرضا أو غير ذلك حسب ما يرى الأديب- فإن نصرة اتجاه ضد ما يراه المتلقي وعدم سرد أدلة الرأي الذي يراه المتلقي على لسان إحدى شخصيات العمل يجعل المتلقي صاحب طاقة شعورية سلبية لكنها فكرية أكثر منها عاطفية نفسية.

(3)

والتطهير هو ذلك الفعل الذي ينهجه الأدباء بأن يجد كلٌّ جزاء فعله لا لغرض فني فقط إنما لغرض مراعاة نفسية المتلقي وعقليته، وهذا هو العدل الذي يمثل قيمة حياتية ونفسية وواقعية؛ فالإنسان لا ينبغي أن يعيش في منطقة سلبية فقط من دون إشارة إلى المنطقة المضاءة حتى يظل التوازن النفسي والعقلي محققا.

ومن خلال هذا العنصر يؤثر العمل الأدبي والفني في تغيير نفسية المتلقي وقناعاته.

يعتبر العقاد من أكبر الكتّاب العرب في القرن العشرين، وأغزرهم إنتاجاً، وسمّاه سعد زغلول "جبار المنطق"، وكان متنوع الإنتاج فكتب الشعر، وأنشأ مدرسة شعرية سُميت "مدرسة الديوان"، وشكلها مع اثنين آخرين هما: عبد الرحمن شكري، وإبراهيم المازني، لكن أبرز ما كتبه هو مجموعة مؤلفات تحت مسمى "العبقريات".

وقد تحدّث فيها عن عبقريات إسلامية من مثل: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان، وعلي، وآخرين رضي الله عنهم. كما كتب عن عبقريات أخرى غير إسلامية من مثل: فرنكلين برناردشو، غاندي.. إلخ، والسؤال الذي يَرِد: لماذا كتب العقاد العبقريات؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد لنا من أن نجيب على سؤالين قبل ذلك وهما: بماذا يؤمن ويعتقد العقاد؟ ومتى كتب العبقريات؟

العقاد هو ابن ثورة 1919م التي قادها سعد زغلول، والتي قامت بعد الحرب العالمية الأولى مطالبة باستقلال مصر عن الاحتلال الإنجليزي، وقد أثمرت هذه الثورة نظاماً ديمقراطياً في مصر، وتمثّل هذا النظام الديمقراطي في دستور عام 1923م، وقد حدد هذا الدستور سلطات الملك، وانبثق عنه برلمان ترأسه سعد زغلول عام 1926م، كما كان العقاد أحد أعضاء هذا البرلمان، كما أعطى الدستور للشعب حقوق تشكيل الأحزاب، وإنشاء الصحف، وحرية الرأي، والمظاهرات، وتشكيل النقابات، والقيام بالإضرابات.. إلخ. 

وإذ أردنا أن نتساءل بماذا يؤمن العقاد؟ نقول إن العقاد يؤمن بأمرين: 

الأول: يؤمن العقاد بالنظام الديمقراطي إيماناً كاملاً، ويؤمن بأنه النظام الأمثل الذي سينقذ الشعب المصري، وينقله نقلة حضارية بعيدة، ويعتقد أن النظام الديمقراطي الإنجليزي هو النظام الأمثل الذي يجب أن تحتذيه مصر. ولم يؤمن بالنظام الديمقراطي إيماناً نظرياً فقط، بل تعداه إلى الموقف العملي، ودخل السجن دفاعاً عن النظام الديمقراطي، وذلك عام 1930م، عندما هاجم وزارة إسماعيل صدقي التي عطلت الدستور، فشنّ العقاد عليها حملة صحفية، فقدمته الوزارة إلى المحاكمة، وحُكم عليه بالسجن وقضى تسعة أشهر فيه، وعندما خرج من السجن توجه إلى قبر سعد زغلول وألقى قصيدة قال فيها:

وكنت جنين السجن تسعة أشهر فها أنذا فى ساحة الخلد أولد عداتي وصحبي لا اختلاف عليهم سيعهدني كل كما كان يعهد

الثاني: يؤمن العقاد بالفرد، وبدور الفرد في المجتمع، متأثراً بفيلسوفين هما: شوبنهو ونيتشة، ويعتقد العقاد بأن الذاتية هي الغاية من الرقيّ، وأن الرقيّ إنما هو الانتقال من وجود مبهم سائب إلى وجود ذات، إلى وجود يعلم ذاته. وطبّق ذلك على الانتقال من الجماد إلى عالم النبات إلى عالم الحيوان إلى عالم الإنسان.

ووقف العقاد موقفاً منحازاً وغير متوازن إلى جانب الفرد على حساب الجانب الجماعي في الفرد والأمة، نتيجة من نتائج إيمانه بالديمقراطية التي تقوم على الفرد كأصل من أصولها، وتقوم على إطلاق حرية حياة الفرد دون حدود، وتعتبر أن الفرد فقط هو الباني والمحرك للتاريخ. بعد أن ألقينا الضوء على جوانب من البناء الفكري للعقاد، نسأل: متى كتب العقاد عبقرياته؟ كتب العقاد عبقرياته غداة أن أصبح النظام الديمقراطي مهدداً على المستويين العالمي والمصري.

لقد هدد النظام النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا النظام الديمقراطي على مستوى العالم في أوروبا وأمريكا، وبالفعل نشبت الحرب العالمية الثانية عام 1939م بين هذين النظامين، كما هدد النظام الديمقراطي في مصر ثلاث تيارات صاعدة: الإسلاميون بقيادة الإخوان المسلمين، والحركات اليسارية بقيادة الحزب الشيوعي المصري، والحركات الفاشية بقيادة حزب مصر الفتاة، في هذا الوقت الذي أصبح ركنا إيمان العقاد: الفرد والديمقراطية مهددين في داخل مصر وخارجها، تصدّى للتيارات الصاعدة بالمحاربة، فحارب كل تيار بصورة مختلفة عن الآخر. في ضوء المواجهة مع الشيوعية، كتب العقاد عدداً من الكتب فنّد فيها النظرية الماركسية، وبيّن أخطاء الشيوعية على المستوى العملي والتطبيقي، ومنها: الشيوعية والإنسانية، الدين أفيون الشعوب.. إلخ.

وفي مواجهة النازية والفاشية كتاب العقاد "هتلر في الميزان" عام 1941م مهاجماً النظام النازي في ألمانيا، ومُدافعاً عن الديمقراطية الإنجليزية، وقد تبنته السفارة البريطانية في مصر، وطبعت منه آلاف النسخ، ووزعته في كل أنحاء العالم العربي كوثيقة في الدعاية لها في حربها مع هتلر. ودعا العقاد في هذا الكتاب الحكومة المصرية والشعب المصري إلى الوقوف إلى جانب إنجلترا في حربها مع هتلر، لأنه يرى أن مصر يجب أن تقف إلى جانب الديمقراطية في وجه الديكتاتورية، ناسياً أو متناسياً سلسلة الجرائم التي ارتكبها الإنجليز في حق مصر وشعبها وحق الأمة الإسلامية، في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية...إلخ. وفي مواجهة التيار الإسلامي والإخوان المسلمين، كتب العقاد "العبقريات" التي شملت الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعدداً كبيراً من الصحابة ومنهم أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وعائشة رضي الله عنهم. فكيف أراد أن يواجه بهذه العبقريات التيار الإسلامي؟

تأثر العقاد في حديثه عن العبقريات ببعض المدارس الأوروبية التي تقدس الأفراد والطبائع الفردية، وتفسر مختلف حوادث التاريخ على هذين الأساسين، وأشار العقاد في كتاب العبقريات إلى مدرسة العالم الإيطالي لومبروزو، التي توصلت بعد التجربة والدراسة والمقارنة أنّ للعبقريات علامات لا تخطئها على صورة من الصور في أحد من أهلها. فيكون العبقري طويلاً بائن الطول، أو قصيراً بائن القصر، ويعمل بيده اليسرى أو بكلتا اليدين، ويلفت النظر بغزارة شعره، أو بنزارة الشعر على غير المعهود، ويكثر بين العبقريين من كل طراز جيشان الشعور، وفرط الحس، وغرابة الاستجابة للطوارئ، فيكون فيهم من تفرط ثورته، كما يكون فيهم من يفرط هدوؤه.. إلخ.

http://blogs.aljazeera.net/file/get/b4b4224b-4b15-47b8-a9a6-37bfc608ae78

وقد طبّق معطيات هذه المدرسة على العبقريات التي درسها، وسأشير في هذا المقال -لضيق المجال- إلى جانب من حديثه عن عبقرية أبي بكر الصديق دون العبقريات الأخرى كعبقرية الرسول وعمر وعثمان...إلخ، والتي فصّلت الحديث عنها في كتابي "الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم"، فوصف العقاد أبا بكر فقال: "كان أبوبكر -كما رأينا- رجلاً عصي المزاج، دقيق البنية، خفيف اللحم، صغير التركيب. تكوين يغلب على أصحابه أحد أمرين: إن كانوا من كرام النحيزة فهم مطبوعين على الإعجاب بالبطولة، والإيمان بالأبطال. وإن كانوا من لئام النحيزة فهم مطبوعون على الحسد والكبر". لذلك اعتبر العقاد أن إيمان أبي بكر الصديق عائد إلى إعجابه ببطولة محمد (صلى الله عليه وسلم)، مشدوهاً أمامها، مسحوراً بها، مقلداً له في كل أمر. ولكن اعتبار العلاقة بين أبي بكر والرسول (صلى الله عليه وسلم) قائمة على الإعجاب بالبطولة تصوير مجزوء وغير دقيق، وكذلك محاولة تفسير تصرفات أبي بكر الصديق باتباع الرسول وتقليده بأنها منطلقة من هذا العامل تفسير محدود وغير محيط.

ليس من شك بأن الرسول جدير بالإعجاب من قبل أبي بكر لأنه الإنسان الأكمل في كل شيء على وجه البسيطة منذ الأزل وإلى قيام الساعة. لكن أين دور الإسلام في بناء شخصية أبي بكر؟ هذا الإسلام الذي آمن به أبوبكر الصديق واستسلم له، والذي بنى عقله بناءً سليماً في الإيمان بالله الواحد الأحد، وطهره من خرافات وأوهام الشرك، وبنى قلبه بناءً سليماً في تعظيم الله، ورجاء جنته، والخوف من ناره، فجعله خلقاً آخر، فأصبح شجاعاً مقداماً مضحياً بماله وشخصه في سبيل الإسلام، كما أظهرت سيرته ذلك في عدة مواقع وأبرزها الهجرة مع الرسول (صلى الله عليه وسلم).

من المؤكد أن هناك عاملاً ثالثاً أغفله العقاد في بناء شخصية أبي بكر الصديق، وهو تربية الرسول (صلى الله عليه وسلم) له، وهو الذي عُرف أنه خير مُربّ لأصحابه، يصقل مواهبهم، ويُنمّي محاور القوة، وجوانب الخير عندهم من خلال علم دقيق بإمكاناتهم ومعادنهم الممتازة. لذلك فنحن نؤمن بأن ثلاثة عوامل صاغت عبقرية أبي بكر الصديق، وهي: معدنه الممتاز من جهة، والإسلام العظيم من جهة ثانية، وتربية الرسول (صلى الله عليه وسلم) له من جهة ثالثة، وليس عاملاً واحداً كما ركّز عليه العقاد، وهو المعدن الممتاز والعوامل الوراثية، انتصاراً لإيمانه بالفرد والديمقراطية.

الخلاصة: استعرضنا مسيرة العقاد، فوجدناه مؤمناً بالديمقراطية وبالفرد، وسخّر حياته من أجلهما، لذلك حارب الجهات التي هددت الديمقراطية منذ الحرب العالمية الثانية في داخل مصر وخارجها، فكتب "هتلر في الميزان" في مواجهة النازية، وكتب كتباً متعددة في مواجهة الشيوعية، وكتب "العبقريات" في مواجهة التيار الإسلامي.

 

clip_image002_f4604.jpg

في ذكرياته عن الطفولة المعذبة في " اشواك البراري " الصادر قبل أيام عن مكتبة كل شيء الحيفاوية.. روى الأديب  جميل السلحوت رواية اجيال كاملة من الفلسطينيين المولودين في ريف القدس والبراري الممتدة حتى تخوم وشواطئ  البحر الميت، وصّور قلمه المبدع بصدق وشفافية عالية ظروف الحياة والمعاناة الصعبة التي اكتنفت حياة أجيال من البشر لم تكن لهم أيّة خيارات في هذا الواقع المأساوي المغلف بأساطير الفقر والجهل والتخلف والحياة البدائية.

ويمكن القول ان  " أشواك البراري " هي قصة كل واحد من  أبناء شعبنا عاش تقريبا نفس الظروف والمعاناة والقمع والقهر والاضطهاد بجميع اشكالها والوانها، ورصد الشيخ اللكاتب بعينه اللماحة وفكره المتقد المستنير أدق التفاصيل لحياة تمور بالتيارات الاجتماعية والسياسية الصاعدة والمشحونة  بالفوران العاتي،  وهي تكابد للخروج من قوقعة الالتصاق بما هو سائد من قيم وأفكار وعادات قبلية متزمتة وبالية  الى رحاب وآفاق جديدة تلامس روح التقدم والانعتاق من ربقة الجهل والظلم والتخلف، وتنشد التغيير لما هو أفضل وأجمل لانسان هذا العصر، إنها  باختصار.. حكاية  الانسان الذي قام من أجل حياة كريمة وراقية.

وباسلوبه الحكائي المتدفق بسلاسة وامتاع يغوص شيخنا في تلافيف ودهاليز الواقع المرّ،  كاشفا  لنا الكثير من خباياه، متحينا الفرصة للانقضاض عليه والمساهمة في تغييره من خلال امتشاق سيف العلم والتعليم، الذي يبني بيوت العز والكرم، ويهدم بيوت الجهل والتخلف والرجعية، وتمكن الكاتب في سيرته عن مرحلة طفولته  " أشواك البراري " من تصوير الحياة كما هي، وأحالها الى شريط سينمائي جميل ومشوق يتراءى أمام أعيننا وناظرينا. وكأننا بتنا جزءا منخرطا في هذا السياق التاريخي المحمل بالمصائب والمؤامرات التي تترى على شعبنا وهو يناضل بكل ما أوتي من قوة؛ لرد هذه الغزوة  الصهيونية عنه، إلا أنه يقع ضحية لها لكنه لم يستسلم ولم ولن يرفع الراية  البيضاء، بل ينهض من جديد، ويتعثر أحيانا ولكنه يواصل التحديق واتباع البوصلة التى ستقوده الى شواطئ الحرية والأمان يوما ما.

ومن خلال تجربته الحياتية الشخصية يرسم جميل السلحوت سطور حياة عاشها كما أشار هو ربما الملاىيين من أبناء هذه الأمّة، حيث تماهى الخاص بالعام، ومزج الكاتب بصورة فنية أدبية مبدعة بين نواحي الحياة المختلفة، وكيف جاهد لتطوير وتثقيف نفسه رغم ما مرّ عليه من آلام شخصية، مثل  فقدانه لعينه اليسرى  والعذاب الذي مرّ به في رحلة العلاج القائم على الطب الشعبي، والخزعبلات والشعوذات التي كانت سائدة في المجتمع الريفي، وممارسته للعديد من الاأعمال الشاقة  كرعاية الأغنام  وحيدا في البراري والمناطق المنعزلة، والعمل في الآثار  والأحافير في منطقة طنطورة فرعون في سلوان، وغير ذلك من الأعمال الشاقة على كاهل طفل  أو صبي صغير.

وعدا عن سمة الصدق التي تميزت بها  " أشواك البراري  " ظهر جليا سمة أخرى وهي المصداقية، حيث تبدت في الاشارة الى مختلف أطياف المجتمع العشائري والوطني دون التحيز أو محاباة العشيرة أو الحزب السياسي، وإنما رصد واقعي والاعتراف لكل ذي حق بحقه، والترفع عن النظرة الضيقة، وإنما تغليب البعد الوطني والقومي كما  في الاشارة الى علاقته الأولى مع الأخوة المسيحيين، وكذلك في ذكر أقدم المنازل التي شيدت في جبل المكبر لعائلات من السواحرة، وكذلك أولى العائلات التي بدأت في اسلوب الزراعة باسلوب علمي ومنهجي .. وهكذا.

اشواك البراري .. قصة من لا قصة له، لا أظن أن هذه الإضاءة والعجالة  البسيطة والمختزلة جدا تعطيها ولو نزرا يسيرا من حقها، لأن حقها الأساسي في قراءتها والتمعن في " روحها " الوثابة المنطلقة نحو فضاءات الكون. إن هذه الصورة الانطباعية عنها عاجزة ومبتسرة ومبتورة، ولا غنى عن اصطحاب أشواك البراري في رحلة مطالعة شائقة، لمن يبحث عن الجواهر الثلاث، العلم  والتقدم والحياة في ظلال الحرية، واذا كانت هذه ذكريات الطفولة يا شيخنا .. فماذا مع ذكريات الصبا والشباب والكهولة .. وهي مليئة بجواهر الحكمة السبعة.. وان غدا لناظره قريب.

المزيد من المقالات...