"حينما تصبح مبدعاً، لن ترى بعدها الأمور في العالم كما يراها الأشخاص العاديّون". (الرّوائي بريان مور)

يتضّح لنا من حكمة الرّوائي الإيرلندي براين مور أنّ الإنسان يصير إلى الإبداع، أو لعلّه بمعنى أصحّ ينتقل من مرحلة الإبداع بالقوّة إلى الإبداع بالفعل. فلا شكّ في أنّ بذور الإبداع حاضرة في كلّ شخص. ومرحلة الطّفولة تبرهن عن مشروع إبداع لدى الطّفل من جهة اكتشاف الأشياء، وابتكار بعضها، والتّمرّد على التّقليد وانتهاج طرق مختلفة. لكنّ الإبداع لينتقل من مرحلة القوّة إلى الفعل يحتاج تدريباً وتنمية وتربية واحتراماً للقدرات ليبرز الإبداع كجوهر إنسانيّ. وإذا ما أُهمل الإبداع الإنسانيّ بقي الإنسان عاديّاً، يسلك في هذه الحياة دون أيّ إدراك لقوّة الخلق الكامنة فيه. فالإبداع أشبه بالخلق. قدرة على الإبهار والإدهاش وقدرة على القبض على العقل والرّوح بهدف معاينة الجمال.

الإبداع نعمة خاصّة للإنسان لكن لا بدّ من التّمييز بين الإبداع المؤقّت أو المرحليّ وبين الإبداع الحقيقيّ أي الإبداع الخالد. ذاك الّذي يتخطّى الزّمان والمكان، ويبقى أوّلاً. إنّ الإبداع المرحليّ ومضة آنيّة، تبهر لفترة وجيزة أو طويلة، لكنّه لا يخلد بمجرّد أن يظهر إبداع آخر. وأمّا الإبداع الحقيقيّ، فهو ذاك الّذي وسط إبداعات كثيرة يحافظ على مكانته، بل وكأنّي به يصبح شخصاً، يحلّ أينما كان. لم يترك سقراط كتابات، وجلّ ما نعرفه عنه استقيناه من روايات تلامذته، لكنّه حاضر وبقوّة بفكره وفلسفته منذ قرون. حمل كتاب النّبيّ لجبران خليل جبران سمة الإبداع الخالد. هذا الكتاب الّذي ظهر سنة 1923 نقرأه اليوم وكأنّه معاصر لنا. وكتب فيكتور هوغو رواية البؤساء ليقرأها آخر إنسان في التّاريخ. ورسم ليوناردو دافينتشي الموناليزا لعصور لن يمرّ بها. ونحت مايكل أنجلو تمثال موسى وبثّ فيه الحياة وكأنّي به يحيي النّبي موسى من جديد وإلى الأبد. وإبداعات لا تعدّ ولا تحصى لا يمكن التّطرّق إليها في هذا المقال تفرض ذاتها للأبد دون أن تزاحمها إبداعات أخرى. من هنا يمكن الاستدلال على الإبداع، بحيث أنّه قائم بذاته، يبدأ من حيث تولد الفكرة في المبدع وينتهي باستحالته إلى لغة يتحدّث بها كثيرون.

لا يقتصر الإبداع على إظهار أعمال خارقة، وإنّما يكمن في إظهار الجمال البسيط بمحبّة خارقة. ولا ينحصر بأشخاص محدّدين دون سواهم، بل هو جزء لا يتجزّأ من كلّ إنسان تمكّنه بصيرته من استنطاق الجمال وتجسيده ليحاكي الكون بأسره. فالأمّ التّي تربّي أولاداً من مختلف الأعمار وتنتقل بين المراحل العمريّة تبرهن عن إبداع خاصّ يبقى متجذّراً في قلب الإنسان. أو عامل يبتكر طريقة خاصّة لإتمام عمله يتحوّل إلى خبرة تُمنح لآخرين. الإبداع حالة الذّروة الإنسانيّة في لحظاتها الهائمة بالجمال والغائبة عن الزّمن عن وعيٍ حتّى تتمكّن من تخطّيه.

يقول مكسيم غوركي:"يكمن في كلّ إنسان قوّة الباني الحكيمة ولا بد من إفساح التّطوّر والازدهار لها لكي تثري الأرض بعجائب ومعجزات جديدة." إذاً، فتغيير العالم ممكن إذا ما استحوذ عليه الجمال. وتبديل سلوكيّات الإنسان ممكنة إذا ما تربّى على الجماليّات الإبداعيّة. واستئصال الشّرّ من العالم ممكن إذا ما جرح الجمال الإنسان وزلزل كيانه ليفيض منه الخير، جوهره الحقيقيّ.

المصطلح هو وعاء لغوي ضخم ومستودع جامع يحتوي في داخله (المناهج والدلالات والحقائق والمكونات..) التي تعكس المخزون الفكري والثقافي لذاكرة الأمة.

وهو في تطوره التاريخي (كائن حي ذو هوية كاملة، تسجل ظروف ولادته وتطوره الدلالي، ما يعترض هذا المفهوم أو يعتوره، من صحة ومرض وشحن وتفريغ، وأول ما تصاب به الأمم في أطوار ضعفها الفكري هو طمس مفاهيمها..)(1) واختلاط مصطلحاتها وما يرافق ذلك من إهمال خصوصيات

هويتها الحضارية، وبذلك يحصل الاضطراب وتضيع اللغة الموحدة التي توحد فكرها، وتحميها من الخلاف والتشتت.

مما سبق ندرك أهمية العودة إلى مصطلح "الأدب" وتاريخ ظهوره في ثقافة أمتنا، وما رافق ذلك من تطور لدلالة هذا المصطلح، تساعدنا في إدراك معانيها المختزنة، وما اعتوره من تقلبات، تفيد الباحثين من أبناء الأمة في تذكر مفاهيمها وتأصيل كيانها في لحظات تداعي الحضارات الطامعة عليها.

يقول شوقي ضيف: (كلمة "أدب" من الكلمات التي تطور معناها بتطور حياة الأمة العربية وانتقالها من دور البداوة إلى أدوار الحضارة، وقد اختلفت عليها معان متقاربة حتى أخذت معناها الذي يتبادر إلى أذهاننا اليوم وهو الكلام الإنشائي البليغ الذي يقصد به التأثير في عواطف القراء والسامعين سواء أكان من الشعر أم من النثر).(2)

والملاحظ لمشتقات الكلمة التي كانت سائدة في العصر الجاهلي أنها كانت تدل على المعنى الحسي نحو: الآدب: الداعي للطعام، ومن ذلك المأدبة: الطعام الذي يدعى إليه الناس.

ومع قلة الشواهد التي تتوسع في استعمال الكلمة إلا أنها انتقلت من المعنى الحسي إلى معنى آخر يدل على ما يرافق الكرم والطعام والضيافة والعلاقات الاجتماعية من (تهذيب) يتمتع به (الآداب) المكرم للناس: كأن لا يكون مناناً في كرمه، وأن يكون بشوشاً في استقبال ضيفه، وأن لا ينتقر الضيوف انتقاراً، أي ينتخب وينتقي، بل يكرم الناس جميعاً دون تمييز. وقد يطرح (المتأدب) ما يتمتع به من تهذيب في ضيافته، من ابتعاد عن السلوك المذموم كالجشع في الأكل، والتهام الطعام والإثقال على المضيف. فمن الأول قول طرفة في أخلاق (الآدب) مفتخراً بقومه يقول:

نحن في المشتاة ندعو الجفلى        لا ترى الآدب منا ينتقر(3)

ومن أمثلة الثاني قول الشنفرى في (المتأدب) دون ذكر اللفظ ذاته، مفتخراً بنفسه يقول:

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن         بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل(4)

وقد تطور اللفظ بدلالته وإن لم تصلنا الشواهد الكافية على ذلك التطور، ولكننا نلمس هذا من خلال أقدم النصوص التي تتصل بهذه الكلمة في فجر الإٍسلام حيث ظهرت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أدبني ربي فاحسن تأديبي)(5) ولا يخفى أن المقصد من –أدبني- في هذا النص يعني (علمني وهذبني).

وهذا يدل على أن هذه الكلمة كانت في عهده صلى الله عليه وسلم مادة (التهذيب والتعليم) وفي ذلك إشارة لتطور هذا المعنى في نهاية العهد الجاهلي الذي انتهى ببداية عهده صلى الله عليه وسلم.

وهكذا استمرت هذه الكلمة طوال فترة العهد الإسلامي الأول والأموي على المعنى أو الدلالة نفسها، ولكنها ترسخت وتأصلت في الحياة الثقافية العربية، ثم ظهر إلى جانبها كلمة (المؤدب) التي كانت تطلق على من يعلم أبناء الخلفاء والأمراء (ما تطمح إليه نفوس آبائهم فيهم من معرفة الثقافة العربية).(6)

وبحكم انتشار العلم وبروز دور المؤدب (المعلم) بدأت الكلمة تستقل ويتضح معناها في هذا الاتجاه، حيث كان المؤدب يعلم تلاميذه القراءة والكتابة أولاً ثم يعطيهم قسطاً من التهذيب والمعرفة وكانت وسيلته في التهذيب والمعرفة تقوم على الانتقاء والانتخاب من فنون القول الجيد المؤثر (الشعر والخطابة والقصص والحكمة والأمثال والوصايا..) بالإضافة إلى تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف والسير والأنساب والتاريخ وبذلك أصبحت الكلمة بحكم هذا الاتساع تقابل كلمة العلم.

وقد وردت أقوال عن الخلفاء والعلماء يوصون المؤدب ويدلونه على كيفية الاختيار لمادة التعليم والتهذيب والعمل كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى الأشعري: (مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي..)(7)

ولما جاء العصر العباسي وازداد سوق الثقافة العربية الإسلامية ارتفاعاً بدأت كلمة (الأدب) تظهر في خضم الازدهار الثقافي وفي تعابير الكتاب ومؤلفاتهم، فمنهم من استعملها للدلالة على معرفة أشعار العرب وأخبارهم ولغتهم، ومنهم من اتسع بها لتشمل كل المعارف التي ترقى بالإنسان فظهرت كتب مثل (الأدب الصغير) و(الأدب الكبير) لابن المقفع وكتاب (الأدب) لابن المعتز، و(البيان والتبيين) للجاحظ، و(العقد الفريد) لابن عبد ربه، حتى قال ابن خلدون: (الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف) () وكأنها أصبحت ترادف كلمة الثقافة بمعناها الموسوعي.

ثم أخذت هذه الكلمة تستقل تدريجياً في دلالتها عن معنى التهذيب، لتصبح علماً خاصاً جامعاً على فنون القول الجيد الراقي التي كانت معروفة عند العرب في الجاهلية كـ (الشعر والخطابة والقصص والأمثال والحكمة والوصايا والرسائل) وما أضاف لها العرب في العصر العباسي من فنون جديدة نحو (التوقيعات، والخاطرة، والمناظرة، وأدب الرحلات والمقامات والسيرة...) وغيرها.

واستمر هذا المصطلح في مسيرته حتى القرن التاسع عشر، ليدل على ما ينتجه العقل والشعور من خلال اللغة، ثم استقل في نهاية الأمر على معنى الأدب الخالص، بعد أن استقلت العلوم بدلالتها وعناوينها، ليكون مصطلحاً خاصاً على فنون الشعر والنثر، وقد أضاف لها العرب في القرن العشرين الفنون التالية: (فن الرواية، وفن المقالة، وفن المسرحية، والحديث الإذاعي، والندوة والحوار والمرافعات، وغيرها من الفنون...) وذلك بحكم انتشار الطباعة والصحافة والإذاعة، وإلى هذا المصطلح ينصرف الذهن في الدراسات الأدبية الحديثة.

ومن خلال استعراض مسيرة هذا المصطلح يمكننا أن نسجل الملاحظات التالية:

1 – أن العرب منذ الجاهلية كانت لهم مجموعة من الفنون القولية التي تعتمد الفصاحة والبيان الجميل، وهي ما نسميه في عصرنا بالأنواع الأدبية كـ (الشعر، والخطابة، والمثل، والحكمة، والوصايا، والقصص والرسائل..) ولكنهم لم يتوصلوا إلى اسم جامع يجمعها في مصطلح واحد، بل كان العرب يتعاملون مع هذه الفنون، كأنواع منفصلة عن بعضها.

2 – وفي العصر العباسي بدأ استعمال مصطلح (الأدب) ليدل على فنون الكلام الجيد المؤثر في العواطف من الشعر والنثر، وهي التي كان يختارها المؤدب في تهذيب تلاميذه، وأخيراً بدأ اللفظ يستقل عن معنى التهذيب ليصبح مصطلحاً جامعاً على فنون الأدب الخالص، وبخاصة في القرن التاسع عشر، بعد أن استقلت العلوم الاجتماعية ومالت إلى التخصص.

مع أن المعنى اللغوي القديم ما زال مستعملاً بمعنى التهذيب حتى أيامنا، ولا تزال بعض الجامعات تستعمل مصطلح (كلية الآداب) في تقسيماتها ليدل على المعنى الثقافي الموسوعي القديم.

3 – لقد اكتشف العرب المتعة الجاذبة في الفنون الأدبية فسموها (سحر البيان) فجعلوا من الشعر والخطابة والمثل والقصة مادة سمرهم في مجالسهم ونواديهم، وعندما أوغلوا في تلك المتعة، اكتشفوا فوائد كثيرة تختلط بتلك الفنون الممتعة، وبذلك تعرفوا على الفائدة العظيمة للأدب والوظيفة التي يمكن أن يؤديها، فجعلوا منه مادة التهذيب والتعليم التي يستعملها المؤدب (المعلم) في تعليم أبناء الخلفاء والأمراء وأبناء الأمة عندما اتسعت قاعدة التعليم، وبذلك اكتشفوا تأثير هذا السحر فوظفوه في حياتهم قبل أن يتمكنوا من تفسيره، ولم يكن عندهم من علم حول طبيعة الأدب إلا القليل وذلك من خلال تذوقهم الفطري لسحر الأدب وجمال المعاني، وما كانوا يتداولونه في أسواقهم الأدبية من تذوق فطري انطباعي سريع حول ما يلقى من الشعر أو النثر.

4 – ثم تطور الأمر حتى ظهر النقد المنهجي العميق في العصر العباسي، وعندها تعمقت صلاتهم بطبيعة الأدب، وتأصلت عند النقاد، ومما ساعد في ظهور هذه المرحلة الجادة في تفهم طبيعة الأدب، ما رافق تلك الفترة من نشأة وتطور لعلوم اللغة العربية وما كان لها من فضل كبير في تعميق تلك الجهود. وهو أمر يلفت نظرنا إلى أهمية التمييز بين (وظيفة الأدب) و (طبيعة الأدب) وما بينهما من علاقة متينة، تقوم على التأثر والتأثير، وأثر هذه العلاقة وفائدتها لنا في التنظير للأدب الإسلامي، لأنه يكشف لنا قيمة طبيعة الأدب وأهميتها في تحقيق وظيفته، وذلك أن الأدب الراقي في تحقيق طبيعته هو الأدب الناجح في أداء الوظيفة والتأثير.

5 – كما دلتنا سيرة المصطلح على الدور التربوي العظيم للأدب في تاريخ الأمة، وأهمية الأدب تربوياً في تشكيل ذوق الأمة وبناء الوعي العام عند أجيالها، وهو أمر يمكن أن يتوسع فيه علماء التربية والثقافة في دراساتهم التربوية والثقافية المعاصرة.

6 – إن كشف تاريخ هذا المصطلح فيه فائدة عظيمة، تخدم دراساتنا في تعريف (الأدب الإسلامي) وتجذير مفاهيمه، لأن الأدب الإسلامي في تجربته النموذجية الأولى (أدب الصحابة) الكرام رضي الله عنهم، نشأ في أحضان الأدب العربي، وتغذى بخبراته الفنية الغنية، ثم بدأ تأثير الإسلام في الأدب العربي، فأخذ يصبغه بصبغته الفنية والشرعية، عندما أسلم العربي، وأخضع نفسه للإسلام في عقيدته وشريعته ونظامه للحياة، واستمر تأثير النموذج الإسلامي الأول في الأدب العربي عبر عصوره الممتدة، وقد تعتوره حالات قوة أو ضعف وانفلات بحسب قرب المسلم من إسلامه أو ابتعاده عنه.

وهنا يجب تذكير دعاة الأدب الإسلامي بتاريخ نشأة الأدب الإسلامي في تجربته الأولى في عهد الصحابة وارتباطها بالأدب العربي، ليس في الأدب الإسلامي المكتوب باللغة العربية فحسب، بل بالأدب الإسلامي المكتوب بلغات الشعوب الإسلامية الأخرى، لأن ذلك يساعد الأدب الإسلامي المعاصر في إيضاح أمور كثيرة يحتاج إليها أثناء معركته في الحياة الأدبية والثقافية والنقدية.

   2 – مصطلح النقد الإسلامي

       (تاريخ ومراحل وطموحات)

من خلال المراجعة السابقة لمصطلح الأدب عند العرب وجدنا أن العرب لم يعرفوا مصطلح الأدب كمصطلح جامع (للفنون الأدبية) طوال فترة الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي، لأن ظهوره جاء متأخراً في العصر العباسي، وهذا معناه أن الصحابة مارسوا الفنون الأدبية كفنون منفصلة عن بعضها، كما كان سائداً في عصرهم.

وهكذا ظهر الأدب الإسلامي في تجربته النموذجية الأولى على يد الصحابة الكرام رضي الله عنهم- وكان التوجيه التأسيسي لهذا الجيل في أدبه، يتم من القرآن الكريم وآياته، التي تكلمت عن البيان والكلمة وأثرها، والآيات التي فصلت قضية فن الشعر، ومن خلال حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهه لشعراء الدعوة، ومن فقه الصحابة للقرآن والسنة، ومن تذوقهم لما يقال بين ظهرانيهم من الفنون الأدبية، التي تمرسوا بها (الشعر، والخطابة، والرسائل، والأمثال، والحكم، والوصايا) وغيرها. هذه هي مصادر الفقه الأدبي الإسلامي، ولكن الشيء الذي لم يتم إنجازه في تلك الفترة، وما تلاها من العصور الإسلامية هو أن المسلمين لم يتمكنوا من استخراج الفقه النقدي من تلك المصادر.

لم يطرح مصطلح (الأدب الإسلامي) إلا بعد ظهور مصطلح الأدب العربي واستقراره في الثقافة العربية، وكان ذلك عندما بدأت عملية الإحياء والتجديد الإسلامية في عصر النهضة الحديثة، وبالتحديد في النصف الثاني من القرن العشرين، على يد دعاة الإسلام المعاصرين، لمواجهة عملية التغريب والتخريب الثقافي التي كانت تغزو الأمة من جوانب حياتها المختلفة.

والهدف من هذا التمهيد، هو الإشارة إلى الظروف التي اكتنفت ظهور مصطلح النقد الإسلامي، الذي أخذ على عاتقه مسئولية الدعوة إلى الأدب الإسلامي، للتعرف على الظروف والعوامل التي أدت إلى بروز الأزمة التي يعاني منها هذا النقد في أيامنا، وذلك بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على الدعوة المعاصرة إليه، والتي ظهرت على يد الرواد الأوائل له، وحيث ظهر الجهد الريادي لهذا النقد، بجهود متفاوتة من الشهيد سيد قطب، والدكتور صلاح الدين السلجوقي، والدكتور نجيب الكيلاني – رحمهم الله جميعاً-، ثم جهود كل من محمد قطب وعماد الدين خليل ويوسف العظم وغيرهم.

ثم تلا ذلك جهود مباركة لعدد من العلماء، الأجلاء في الجامعات العربية أمثال: الدكتور شكري فيصل، والدكتور محمد محمد حسين، والدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، والأستاذ أنور الجندي(9)... وغيرهم ساعدت في تأصيل الوعي الأدبي والثقافي العام لدى أبناء الأمة.

ويمكننا متابعة موجات الجهد الذي بذل في التأسيس للنقد الإسلامي الحديث، ودعوته إلى الأدب الإسلامي من خلال مراحل نختزلها في المصطلحات التالية:

1 – مرحلة الريادة (جيل الرواد) (10):

وهي المرحلة التي ظهر فيها رواد النقد الإسلامي في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين أمثال: سيد قطب، والسلجوقي والكيلاني ومحمد قطب وعماد الدين خليل وغيرهم من الرواد المتناثرين في أقطار الوطن العربي، والذين لم تسعفنا المراجع أو الظروف في التعرف على جهودهم.

ويهمنا أن تتعرف على (نموذج الرائد) بشكل عام ووصفه والتعرف على أهمية فعله الريادي في هذا المجال.

فالرائد بشكل عام: هو مكتشف يتعرف على ظاهرة ما، لأنه أدرك أهميتها قبل كثير من الناس، ويكون فضله واضحاً، عندما يلفت نظر الناس من حوله إلى أهمية الظاهرة أو الفكرة التي اكتشفها، كما أنه يسلط الضوء على تلك الظاهرة ويضعها في بؤرة الاهتمام، وهو بهذا يقدح شرارة التأسيس ويثير الانتباه إلى تلك الظاهرة.

وعندها يتحلق المهتمون بهذه الظاهرة، لدراستها ومتابعتها، وإيضاح معالمها، والتفصيل لبعض خفاياها، ثم الدعوة إليها.

وتمتاز رؤية الرائد في تلك الفترة للظاهرة أو الفكرة تلك بأنها رؤية أولية استطلاعية، كما أنها تتأثر بقدراته وعلمه وخبراته، ومقدار الجهد المبذول منه في تلك المرحلة الاستكشافية، فقد يكون الرائد جريئاً متمكناً، وقد يكون لمحه للفكرة طويلاً، فيرى كثيراً من خطوطها ومعالمها، وقد تمنعه الظروف من معاودة المتابعة والمراجعة، فتبقى عند الخطوط الأولية للرؤية.

وقد يكون الرائد متيقظاً، ولكنه قليل الخبرة، غائم الرؤية، يسيطر عليه الانبهار بالمحيط البيئي للظاهرة، فلا يرى الأمور جيداً، أو أن جهده كان لمحاً سريعاً، فهو في النهاية يصف لنا ما تمكن من رؤيته في تجربته تلك، هذا ما استطاع أن ينجزه في تقديم الظاهرة أو التعريف بالفكرة.

ويهمنا أن نؤكد أن فكر الريادة فعل يمتاز بالجرأة، ويقوم على الانتباه والاستكشاف والاستطلاع، ولكنه فعل ناقص غير مكتمل، تلزمه جهود وجولات ومتاعب من دعاته، حتى تتضح معالمه وتستبين سبله.

وهذا ما فعله رواد النقد الإسلامي، وهو أمر طبيعي أن لا يكتمل العلم والفهم لأي قضية إلا بتتابع الجهود واستمرارها في الأجيال المتعاقبة.

وكان فضل هؤلاء النفر، يوم أن نبهوا الأمة إلى ضرورة استكمال فكر النهضة الإسلامية في الجانب الأدبي والثقافي، وإثبات شمولية الإسلام وكماله وصلاحه لكل زمان ومكان، أسوة بالجهود الإسلامية المبذولة في الاتجاه نفسه من مجالات كثيرة: كالاقتصاد والفقه والسياسة وعلم النفس والتربية وغيرها من الجوانب الأخرى التي تؤصل للنهضة الإسلامية.

فقد كانوا رواداً متحمسين يتحسسون طريق النهضة لأمتهم وسط الظلام، الذي يتحسس فيه الرواد الطريق تحسساً، وتحيط بهم عقبات وصيحات من الاستهجان والاستنكار من أبناء الأمة المضبوعين، فما بالك بردة الفعل لدى الأعداء.

2 – مرحلة دعاة الريادة (المقلدون):

استطاع جهد الرواد أن يوصل الدعوة للأدب الإسلامي إلى كثير من الناس الذين أُعجبوا بها، والتفوا من حولها، خاصة بعد أن أدرك الكثيرون أهمية الأدب في حياة الأمم والشعوب، وشاهدوا بأنفسهم كيف استطاع دعاة التغريب أن ينجحوا في استقطاب الناس لدعواتهم وأفكارهم عن طريق الأدب وفنونه المختلفة.

وبذلك ظهر جيل دعاة الريادة وهم الذين تسلموا راية الدعوة للأدب الإسلامي من جيل الرواد، وقد استطاع دعاة الريادة أن يحملوا جهود الرواد حول فكرة الأدب الإسلامي، وأن يوصلوها إلى آفاق جديدة، و تمكنوا من إيصالها إلى قاعدة شعبية واسعة، كما تمكنوا من تذليل كثير من العقبات التي كانت تقف في طريقها، وكانت لهم جهود مباركة في شرح الفكرة والتبشير بها، ونشرها من خلال الكتابة في الصحافة وإصدار الكتب والمحاضرات، ودفع الفكرة إلى الدراسات الجامعية العليا للاعتراف بها، وقد حصلوا على اعتراف فعلي من بعض الجامعات الإسلامية، وكذلك من خلال عقد المؤتمرات التي تهتم بالأدب الإسلامي، وتبحث في شؤونه، وأخيراً تكللت هذه الجهود في جمع دعاة الأدب الإسلامي في رابطة عالمية هي (رابطة الأدب الإسلامي العالمية)(11) من أجل خدمة الأدب الإسلامي وتجذير الدعوة إليه من خلال عمل جماعي مؤسسي، يستعمل الأساليب الممكنة في دفع الدعوة إلى هذا الأدب نحو الأمام.

وهكذا بدأ الاستقطاب لأعداد كبيرة لا بأس بها من المؤمنين بهذا الأدب والداعين إليه، وهذه شهادة حق لجيل دعاة الريادة تكشف فضلهم وجهدهم في الانتصار لهذا الأدب واكتساح الأشواك من طريقه، حتى خفتت حدة المعارضة لهذا الأدب وبدأ الاعتراف به بين شرائح الأدباء والمثقفين يمتد بشكل ملفت للنظر.

لكن المذهل في هذا الجيل الذي نجح في الدعوة إلى فكرة الأدب الإسلامي، أنه لم ينجح في طرح مفاهيم محددة وواضحة حول تعريف الأدب الإسلامي والفكر النقدي الذي يطرحه، فبقيت تعريفات الرواد المختزلة على حالها، دون إضافة أو تفصيل أو تصحيح أو تعديل، يقول الدكتور صالح آدم بيلو بعد ذكره لتعريف سيد قطب للأدب الإسلامي وتعريف محمد قطب للفن الإسلامي معلقاً:

(ويكاد الكاتبون والباحثون الذين خاضوا في هذا الموضوع للوصول إلى تعريف موحد للأدب الإسلامي، لا يخرجون عن ذلك إلا في بعض ألفاظ وعبارات).(12)

ويقول الدكتور محمد زرمان: (وعلى الرغم من هذه النهضة الشاملة، التي شهدتها حركة الأدب الإسلامي فقد بقي المصطلح من الناحية النقدية في حاجة ماسة إلى الدراسة والإثراء والمناقشة والتعمق لمعالجتها معالجة علمية وموضوعية دقيقة).(13)

لأن هذا الجيل (جيل دعاة الريادة) عاش على فكر الرواد وشرحه، ولم يبذل جهداً يذكر في استكمال العمل الريادي وتفصيل الجهد النقدي للرواد، ولم يصلوا إلى نظرية إسلامية في النقد، تأخذ بيد المبدع المسلم نحو الرقي الفني، وعندما حاولوا هداية الإبداع الإسلامي، كانت تطبيقاتهم عشواء، لأنها لا تهتدي بنظرية إسلامية واضحة المعالم، بل كان فعلهم النقدي يقوم على خلط مناهج النقد الغربي المسيطر على الساحة الأدبية، مع مقولات النقد العربي القديم، ومن خلال منظور الخبرة الفردية المتفاوتة من شخص إلى آخر.

ولأنهم لم يصلوا إلى بلورة فقه نقدي مستخرج من الإسلامي والأدب، يوحد منظورنا النقدي ويحمي المبدع المسلم من مزالق الضعف، ويهديه إلى سبل الإبداع والرقي بالأدب الإسلامي، والاستقلال به عن سيطرة النقد الغربي، الذي يسيطر على الساحة الأدبية، برزت الأزمة النقدية التي يعاني منا النقد الإسلامي المعاصر، لأننا لا نملك المقاييس الإسلامية التي نحاكم بها النص الأدبي، فكيف نطالب بإسلامية الأدب؟ ونحن لا نملك نظرية واضحة لإسلامية الأدب، وهو أمر يكشف ضعف الخطاب النقدي، ويؤدي إلى ضعف الاستقطاب الجماهيري لصالحه.

وأظن أن الأسباب التي تقف وراء هذا العجز وهذه الأزمة التي يعاني منها النقد الإسلامي المعاصر، هي أسباب كامنة في عقلية دعاة الريادة، فقد كان فكرهم النقدي يقوم على الآداب بجهود الرواد، يرونا برؤية المبهور، ويرون أن الريادة عظيمة كاملة مكتملة، لقد وقعوا في هالة من التمجيد، منعتهم من محاكمة فعل الرواد، وإنجازاتهم فأصبحوا مقلدين للرواد، لا يرغبون بتجاوز جهودهم أو تخطيها، أو معرفة عيوب فكر الرواد ونقائصه، بل وقفوا ضد محاكمة الريادة ونقد جهودها، يدفعهم حماس للتوسع الأفقي في الدعوة للأدب الإٍسلامي، ويعتمدون الخطاب النقدي العاطفي في كثير من الأحيان، لأنهم يميلون إلى السكون وتكرار الذات، ولأن الرائد أراحهم من مصيبة الريادة ومتاعبها، وهم لا يرغبون بتكرار فعل الرائد، فنقد الريادة يتعبهم ويمنعهم من متعة التمجيد، التي تضمن لهم الراحة والسكون.

ولقد تعاموا عن حقيقة الريادة وتعريفاتها المختزلة، ونقصها وعدم اكتمالها، وضعف محصولها في نظرية الأدب، ولذلك فهم لا يلمسون الأزمة النقدية ولا يعترفون بها، وهاجسهم الوحيد هو التوسع في الدعوة للأدب الإسلامي دون تقييم أو تقويم.

يستثنى من ذلك نشطاء النقاد، الذين أدركوا أن الدعوة إلى فكر الريادة النقدي قد أشبعت، وأن النقد الإسلامي بحاجة إلى قفزة تفصل شيئاً من مشروعه النقدي، فأخذوا على عاتقهم الدعوة إلى فكرة التأسيس للمرحلة الجديدة (دعاة الإبداع).

3 – مرحلة دعاة الإبداع (الحلم والطموح):

وهكذا قضى جيل الرواد، وبقي منهم اثنان، أما الأول فهو محمد قطب الذي انقطع عن التنظير للأدب الإسلامي، وتفرغ لقضايا الفكر الإسلامي، ولكنه ترك كتاب (منهج الفن الإسلامي) في الساحة الأدبية، ليطبع مرحلة دعاة الريادة بطابعه وتأثيره، وأما الثاني فهو الدكتور عماد الدين خليل، الذي استطاع أن يخترق مرحلة (دعاة الريادة) نحو التأسيس لمرحلة الإبداع أو دعاة الإبداع، بعد أن تخلص من تأثير مدرسة (منهج الفن الإسلامي) وخاصة في كتاباته الأخيرة، التي كشفت عن نقلة نوعية في تفكيره النقدي، يرفده في ذلك جهود ثلة من نشطاء الجيل الثاني (دعاة الريادة) الذين لم يعجبهم الضعف والركون الذي أصاب المرحلة.

ثم انضم إليهم جهد مبارك من الجيل الثالث، الذي ولد وقد يسرت له الجهود السابقة وضوحاً في رؤية المرحلة الثالثة وما تحتاج إليه، من الدعوة إلى الإبداع وجهود التأصيل، وهذا يذكرنا بالتقاء جهود الأجيال في هذه المرحلة، وتضافرها في خدمة المشروع النقدي للأدب الإسلامي، كالجهود التي ظهرت من الدكتور حسن الأمراني، ومحمد بن عزوز، وسهيلة زين العابدين، ومحمد الحسناوي، وعبد الله الطنطاوي، ومأمون جرار، ومحمد إقبال عروري،ومحمد حسن بريغش، ومحمد صالح الشنطي، وسعيد الغزاوي، ووليد قصاب، وعمر بو قرورة، ومحمد شلال الحناحنة، وأحمد بسام ساعي، وصالح آدم بيلو.. .وغيرهم.

وقد تأكدت ملامح هذه المرحلة، بعد ميلاد رابطة الأدب الإسلامي العالمية، في الجهود التي تمثل الحلم والطموح والأمل في أيامنا، وتعبر عن رغبة دعاة الأدب الإسلامي في الخروج من حالة التهرب من نقد الذات، ونقد المنجزات النقدية، للتعرف على الأزمة النقدية وأسبابها، لتخليص الأدب الإسلامي ودعوته من حالة الضعف والركود، والانطلاق به إلى آفاق جديدة وانتصارات جديدة.

ومن مظاهر هذه المرحلة كثرة تجارب التأصيل التي تدل على الرغبة الملحة في الخروج من حال الضعف وتقليد الريادة، والاتجاه نحو البحث عن أسس النظرية الإسلامية في النقد، من مرجعياتها الشرعية (القرآن الكريم، و السنة الشريفة، وأدب الصحابة الكرام) بالإضافة إلى مرجعيتها من الأدب نفسه.

نرى جهود الأجيال التي التقت في هذه المرحلة، وهي متعطشة إلى إنجاز مشروع النقد الإسلامي، في أعمال متناثرة هنا وهناك ولكنها لم تصل بعد إلى مرحلة التيار القوي المؤثر القادر على الأخذ بزمام الأمور، بسبب العقبات الكثيرة التي تعترض طريقها.

ويمكننا أن نتصور نموذج المبدع وما يجب أن يفعله ليساعد هذا الجيل على النضج والامتداد، يدفعنا إلى ذلك شوق لرؤية مشروعنا الأدبي الإسلامي، وهو يمتد ليحقق للأمة هويتها الثقافية، ويعيد لها مقاييس ذوقها.

وها أنا ذا أرسم صورة المبدع كما أتصورها في ذهني وطموحي، فالمبدع فيما نرى:

يرى الريادة عملاً استكشافياً ناقصاً غير مكتمل.

كما أنه لا يسقط في حالة تمجيد الريادة، التي وقع فيها دعاة الريادة.

يعتبر الريادة فاتحة الطريق، ولكنه أيضاً يميز خبرة الريادة وقوتها وضعفها ويعرف لها عذرها وفضلها، ويدرك الظروف التي أحاطت بها.

يملك جرأة الرائد، ويكرر تجربة الرائد في إعادة الاكتشاف، مرات ومرات لا يخاف ولا يهاب، وهو بذلك يكمل خبرة الريادة وفعلها وإنجازاتها ويطورها، ويسير بها نحو النضج، يتجاوزها باحثاً عن الإبداع والتأصيل والإضافة النوعية للنقد الإسلامي، حتى يصل به إلى مرحلة الاستقلال عن نظريات الواقع، معتمداً في ذلك كله المرجعية الشرعية والأدبية، ولذلك نحن بحاجة إلى أن يتسع الإبداع حتى يصبح تياراً عريضاً ليحرك النقد الإسلامي من حالة السكون إلى حالة الحركة حتى نرى ميلاد المنهج النقدي الذي يستطيع أن يكون ابناً شرعياً حقيقياً للرؤية الإسلامية الفكرية من (القرآن والسنة) والرؤية الفنية الجمالية من (النصوص الأدبية الإبداعية) التي أبدعتها قريحة الأديب المسلم عبر عصور تراثه العريق الممتد من العصر الجاهلي حتى عصرنا الحاضر، أو ما يراه الناقد المسلم من الإضافات المؤصلة لمشروع النظرية الإسلامية في الأدب.

مظاهر الأزمة في النقد الإٍسلامي المعاصر(14)

(خواطر وأفكار سريعة)

يمكننا أن نسجل بعض مظاهر الأزمة النقدية في هذه العجالة، من خلال الإشارات السريعة للمظاهر البارزة على السطح، ضمن النقاط التالية:

1 – استمر دعاة النقد الإسلامي على التعريفات الناقصة المختزلة التي طرحها الرواد قبل أكثر من أربعين عاماً، ولم يغيروا فيها شيئاً سوى بعض الكلمات والعبارات، وهذا يدل على قلة الجهد المبذول في تعريف الأدب الإسلامي وتفصيل دقائقه، واستخراج مصطلحاته ومفاهيمه الخاصة به، مما أفقد (مشروع الأدب الإسلامي) الخطاب النقدي الجاد والمقنع للآخرين، وبذلك كان ضعف الخطاب النقدي سبباً لضعف الاستقطاب للأدب الإسلامي، وكثيراً ما نقف عاجزين في تعريف الأدب الإسلامي أمام أنفسنا وأمام الآخرين، بسبب قلة الحصاد النقدي الموجود بين أيدينا، وهو حال نابع من وهم الاكتمال الذي سيطر على تفكير دعاة الريادة.

2 – الوقوع في حالة وهم الاكتمال:

كثير من دعاة النقد الإسلامي يعيشون حالة وهم الاكتمال، فقد وقع في وهمهم أن تجربة الرواد قد اكتملت من جميع جوانبها، وما عليهم إلا أن ينزلوا لواقع التطبيق النقدي، ولكنهم نسوا أنهم لا يملكون نظرية إسلامية نقدية واضحة المقاييس، تهدي التطبيق وتشكل معياراً للحكم على الأدب، وبذلك ظهرت تطبيقات عشواء ليس لها منهجية إسلامية سوى الخبرة الفردية.

3 – الاتكاء على تقنيات النقد الغربي:

وعندما وقع هؤلاء الواهمون في حالة من وهم الاكتمال، ولم يجدوا الأداة النقدية في فكر الرواد استعاروا تقنيات النقد الغربي وخلطوها بالنقد العربي القديم، وظنوا بذلك أنهم حققوا للنقد الإسلامي مقاييسه، فبدأت محاكمة النصوص الإسلامية من هذا المنظور، فأدى ذلك إلى الارتباك وفقدان القدرة على النصح النقدي للمبدع، فسادت التطبيقات الفضفاضة والمجاملة والمدح والتهرب من التوجيه النقدي السليم، ففقد المبدع المسلم من يأخذ بيده ويشرف على صقل تجربته ويحفزه نحو معارج الابتكار مما أدى إلى تكريس الضعف والسطحية في الإنتاج.

وعاش الأديب المسلم على ما يملكه من ثقافة نقدية خاصة كوَّنها باجتهاده، ولكنه لا يملك نقداً إسلامياً يحقق طموحه في توضيح (إسلامية الأدب) ومقاييسها.

4 – فقدان اللغة النقدية المشتركة:

أين هي اللغة النقدية الواحدة المشتركة لمشروع النقد الإسلامي؟ التي لو تكلمنا بها، استطعنا أن نفهم مقاصد بعضنا دون عناء أو تعب.

أظن أننا لم نصل بعد إلى تلك اللغة، لأننا ما زلنا نبحث عنها، ولن نصل إلى امتلاك تلك اللغة، إلا إذا وصلنا إلى النظرية الأم، التي توحد فقهنا ونظرتنا وفكرتنا، حول قضايا الأدب المتشعبة.

وعندما نصل إلى تلك اللغة النقدية المشتركة، سوف نتخاطب بلغة المصطلح، فيفهم بعضنا بعضاً، لأنها لغة نقدية علمية متفق عليها، وليست لغة الخبرة النقدية العائمة التي نتخاطب بها الآن في نقدنا الإسلامي العشوائي.

وهذه اللغة النقدية المشتركة التي نطمح في الوصول إليها، لا تتأتى جزافاً ولا تنبع من الفراغ والعفوية، وإنما تأتي بالقصد والتخطيط والتحديد والتوحيد للمرجعية والمنهج والغاية.

وهي لا تأتي إلا بعد الكد والجهد من المبدعين المخلصين، الذين يجمعون بين النضج والمنهجية العالية، وعندها تستطيع هذه الفئة أن تفرض فقهها وتفسيرها وخطابها النقدي المقنع، وحيث يطمئن الناس إلى صفاء إسلاميتها ووعيها الأدبي، ثم تمتد هذه اللغة بعد أن تتشكل وتتكامل وتتبلور فتكون لغة نقدية مفهومة للجميع، ويبدأ انتشار تلك اللغة النقدية المؤصلة شرعاً وأدباً حتى تستقر ويصطلح عليها.

وهو أمر سهل الحصول عند العمل الجاد، ولكن لا بد من تحقيق شروط حصوله، وهو توحيد المرجعية والمنهج، لأن توحيد المرجعية هو الذي يوجد اللغة المشتركة، وهو الذي يوحد الفكر والمفاهيم ويقرب التجارب من بعضها.

وهو أمر مفقود في لغة النقد الإسلامي الحالي الآن، لأننا نأخذ من مشارب متعددة، تؤدي إلى التباعد والتباين ولا تؤدي إلى التقارب والتوحد.

هذه اللغة النقدية الواحدة التي تعبر عن وحدة التفكير والمنهج والمصطلح والممارسة والتطبيق، لا يمكن أن تظهر قبل أن نحدد مرجعية التنظير للأدب الإسلامي، التي تضمن لنا الانطلاقة القوية الموحدة، وأظن أن هذه المرجعية محددة بـ(القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأدب الصحابة والراشدين) لاستخراج أصول الفقه النقدي، ثم يأتي بعد ذلك دور الأجيال الإسلامية في تجديد الفقه النقدي ومده بخبرات وإبداعات جديدة، وعند ذلك يحق لهذا النقد أن ينتسب إلى الإسلام لأنه خرج منه واحتكم إليه.

5 – وأخيراً وليس آخراً، كان الهدف من هذه المقدمة الطويلة التي تناولت تاريخ مصطلح الأدب عند العرب، ثم عرجت على مصطلح النقد الإسلامي الذي طرح (قضية الأدب الإسلامي) في الساحة الأدبية، والظروف التي اعتورت هذا المصطلح، تمهيداً لطرح موضوعنا الجديد (مفهوم الأدب الإسلامي في ضوء نظرية العلم والمعرفة) لأن الأدب الإسلامي ظهر في أحضان الأدب العربي في صدر الإسلام، ثم بدأت الدعوة الحديثة للأدب الإسلامي، وقد ألقينا الضوء على الظروف التي كانت سبباً في بروز أزمة النقد الإسلامي وانعكاساتها على الأدب الإسلامي، وغموض مفهومه الذي لم يلق العناية الكافية، التي تبلور مفهومه وتفصل مقاصده، بسبب قلة الجهود المبذولة، وبقاء التعريفات المختزلة التي طرحها الرواد وتأتي محاولتنا القادمة لتعريف الأدب الإسلامي، تمهيداً للاهتمام بهذه القضية لعلنا نجدد الانتباه والجدال والسجال الذي يعمقها ويؤصلها.

4 – دوافع هذا البحث وفوائده

1 – بحثنا هذا هو بداية لمشروع هدفه التعريف بمصطلح (الأدب الإسلامي) على أسس من البحث عن البدايات الفكرية وتفاصيلها في ضوء نظرية المعرفة، للاستفادة منها في إيضاح معالم المصطلح.

2 – التعريفات المختزلة التي سيطرت على ساحة النقد الإسلامي، لا توصل الباحث إلى فهم واضح لمشروع الأدب الإسلامي، لأنها لم تتعب نفسها في البحث عن الأسس الفكرية الجادة للمشروع، وهي عاجزة عن تقديم الخطاب النقدي المقنع، مما يؤدي إلى عجز متراكم في عملية التنظير النقدي ومصطلحاته ولا يساعد في إيضاح دقائق الفكر النقدي، ولذلك يبقى النقد الإسلامي كسيحاً عاجزاً، إذا لم يستند إلى حكمة نقدية مفصلة ترتوي من ينابيع القرآن الكريم والسنة الشريفة وأدب الصحابة، وهذا هو السبب الذي جر الناقد الإسلامي إلى الاتكاء على مقولات النقد الغربي تحت عباءة (الحكمة ضالة المؤمن) ويبقى في حالة من التبعية، لأنه يتهرب من البحث عن الأصول الفكرية التي تفسر له نظريته الإسلامية في النقد.

فلا بد من الصبر على متاعب مرحلة التأسيس للنقد الإسلامي، إذا أردنا أن نخرج نظريتنا من داخل الإسلام، حتى نستطيع أن ننتمي إليه. لأن النقاء واستقلال النقد الإسلامي بنفسه عن الآخرين، لا يتأتى إلا من خلال المصطلحات النقدية التي تتوالد أثناء عملية التفصيل الجاد للنقد الإسلامي، وبميلاد هذه المصطلحات تتضح معالمه ويتيسر استقلاله ويبين خطابه.

3 – التعريفات المختزلة التي قدمها جيل الرواد للأدب الإسلامي، هي تعريفات ريادية غير مكتملة، وينقصها التحديد الشامل، لأن الرواد قد قدحوا لنا شرارة التأسيس، فعلقوا لافتة الأدب الإسلامي في أرض المشروع، ووظيفة هذه اللافتة أن تعلن عن البدء في المشروع، مشروع التأسيس للنقد الإسلامي ومفاهيمه التي تهتدي بها جهود المبدعين، وهنا يبدأ الخلاف:

- بعضنا يعتبر التعريف قد اكتمل وما عليه إلا أن يبدأ.

- وبعضنا يستعجل العمل ويريدنا أن نبدأ البناء دون حفر الأساس.

- وبعضنا يريد استيراد خرائط المشروع وتفاصيلها النقدية من أوروبا، لأنه يريد وبسرعة فائقة أن ينهي البناء، لينقل اللافتة من أرض المشروع إلى ظهر البناء.

- ونسينا أننا نؤسس لمشروع أدبي ينتسب إلى الإسلام، نسينا أن نستفتي الإسلام نفسه، لأن الإسلام آخر من يستفتى في حالات الاستعجال والانفعال، ولأنه وقع في وهمنا أن الإسلام يرضى منا أن يرفع اسمه فوق أي بناء، حتى لو تحكم فيه الهوى والمزاج، فكثيراً ما يقع المسلمون في الأحوال والأفعال، ثم يفطنون بعد فوات الأوان إلى استفتاء الإسلام، (وخلق الإنسان عجولاً)!!

5 – من أجل ذلك رأيت أن أبدأ مشروعي هذا في محاولة هدفها التفصيل لمفردات المشروع النقدي، وبقدر ما نستطيع، وذلك من خلال البحث عن أصول (الظاهرة الأدبية) في النفس البشرية وفي ضوء (نظرية العلم والمعرفة).

لأن نظرية العلم والمعرفة هي الأقرب من غيرها إلى تفسير الوعي الإبداعي والنشاط الفكري عند الإنسان، هذا من جانب، ومن جانب آخر، لأن الأدب يشكل نوعاً فريداً من أنواع النشاط الذي ينتجه العقل البشري، أثناء خلافته في عمارة هذه الأرض، وفي هذا مدخل مفيد لتعريف الظاهرة الأدبية أولاً، ثم الانتقال إلى التعريف العام للأدب، ومن ثم التعريف الخاص بالأدب الإسلامي ثانياً.

والله ولي التوفيق

الهوامش:

* ألقيت هذه المحاضرة في مقر رابطة الأدب الإسلامي العالمية – المكتب الإقليمي عمان في 10/8/2002 ضمن موسمها الثقافي.

1 – دورة المفاهيم الإسلامية/ معهد الفكر الإسلامي/ المنعقد في الجامعة الأردنية/ الورقة الثانية/ 1996

2 – تاريخ الأدب العربي/ شوقي ضيف/ ط9، ص3/ دار المعارف

3 – ديوان طرفة ابن العبد

4 – لامية العرب. الشنفرى

 5 – الحديث (أدبني ربي...) انظر النهاية/ ابن الأثير/ غريب الحديث والأثر ج1، ص3 والوافي في تاريخ الأدب/ فائز الغول ومجموعة من المؤلفين ج1، ص5

6 – تاريخ الأدب العربي/ شوق ضيف ص8.

7 – العمدة ج1/11

8 – مقدمة ابن خلدون ص408

9 – انظر كتب كل من:

د. شكري فيصل المجتمعات الإسلامية وتطورها اللغوي والأدبي في القرن الأول وتطور الغزل...

د. محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية في الأدب، حصوننا مهددة من الداخل...

د. عبد الرحمن رأفت الباشا: نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد - الرياض 1985

أ. أنور الجندي: دراسات إسلامية معاصرة.

10 – انظر كتب كل من:

سيد قطب: في التاريخ فكرة ومنهاج، وفي ظلال القرآن، والنقد الأدبي أصوله ومناهجه..

محمد قطب: منهج الفن الإسلامي.

وصلاح الدين السلجوقي: الفن الإسلامي من خلال كتاب الإسلامية والمذاهب الأدبية.

ونجيب الكيلاني: الإسلامية والمذاهب الأدبية ومدخل إلى الأدب الإسلامي من سلسلة كتاب الأمة.

11 – رابطة الأدب الإسلامي العالمية: القوانين والأنظمة، ومجلة الأدب الإسلامي، الإصدارات والنشر ومقابلات صحفية متعددة مع الدكتور عبد القدوس أبو صالح (رئيس الرابطة) التي يشرح فيها فكرة الرابطة.

12 – من قضايا الأدب الإسلامي: د. صالح آدم بيلو ص 57

13 – ملخصات مؤتمر الأدب الإسلامي: الأدب الإسلامي النشأة والمصطلح د. محمد زرمان/ ص17/ جامعة الزرقاء الأهلية/1999.

14 – انظر في (سيمياء الأدب/ حسن الأمراني) و(الثنائيات الأساسية/ عماد الدين خليل) من كتاب مؤتمر الأدب الإسلامي في جامعة الزرقاء الأهلية 1999 (ومقدمة في نظرية الأدب الإسلامي/ عباس المناصرة/ دار البشير 1997).

clip_image002_da2c0.jpg

وصلني من صديقي ورفيقي الفلسطيني الجميل ، الشاعر الرقيق والناقد القدير محمد علوش ، ابن نزلة عيسى في الضفة الغربية ، قضاء طولكرم ، ديوانه الشعري الثالث " أتطلع للآتي " ، وكان صدر له سابقاً ديوان " سترون في الطريق خطاي " وديوان " خطى الجبل " .

محمد علوش هو أحد المبدعين الفلسطينيين الذين أعشق أشعارهم ، ولا أمل منها مهما أعدت قراءتها ، فهو ممن يعبرون عن مكنون الوطن وقضايا الشعب والناس ، من خلال دوره كمثقف نوعي وكاتب سياسي ومبدع ملتزم وناقد أصيل له إسهامات شعرية ونقدية إبداعية ، وكتابات سياسية تحتضنها الصحف والدوريات الثقافية المحلية والعربية والعالمية والمواقع الالكترونية المختلفة . 

وهو صاحب رسالة ثقافية وأدبية ، وموهبة شعرية ، وذو شاعرية محلقة وديباجة متمكنة من اللغة والبيان والتعبير أي تمكن ، ويدهشنا بلغته الشاعرية الناعمة ، اللغة الرشيقة الموحية ، فهي لغة من المألوف المتداول التي لا تفقد وهجها ولا صفة الشاعرية والإيحاء ، وهو شاعر يصر على النزول إلى النبض والذوق الشعبي محتفياً بهموم الناس البسطاء الكادحين والمسحوقين ، متعالياً على البلاط وشعر المناسبات وسلاطين الأدب وسدنة الثقافة ، ومصراً على أن الشاعر الذي في قلبه وصميمه إنسان منحاز للطبقات الشعبية الكادحة الطامحة بالتغيير ، التواقة للحياة الكريمة الشريفة السعيدة الرغيدة ، والمتطلعة لمستقبل أفضل وأجمل .أما موسيقاه الداخلية فهي صافية وعذبة ورقراقة تنساب في الروح والوجدان ، دون وسائط ، بينما نجد مضامينه ومواضيعه وموتيفاته إنسانية ووطنية وسياسية مستوحاة من الواقع السياسي ، وعذابات الجماهير ، وأوجاع شعبه ومعاناته ، وهموم وطنه ، وتظل قصيدته شاهداً فكرياً وروحياً ووجدانياً وإنسانياً وفنياً على تواصل نكبتنا الحضارية وقضيتنا الوطنية ومأساتنا التراجيدية ، وعلى عمق الجرح والقضية الطبقية في مجتمعنا الفلسطيني ومجتمعاتنا العربية والكون الإنساني . 

بينما شكل القصيدة التي يعتمد عليها محمد علوش في خطابه الشعري فهي قصيدة النثر بكل ما تحمله من ثورة وتمرد على الشكل البنائي اللغوي والفني والهندسي للقصيدة التقليدية الكلاسيكية ، رغم انه اعتمد التفعيلة وغنائية الشعر العمودي في قصيدته " وأتيت أعراس الخليل " .

محمد علوش محاصر بالحزن في مدينته الفلسطينية ، ومتأجج بالغضب في آن ، لما آل إليه الوضع العربي السياسي ، ثائراً على الحكام والأنظمة العربية المتخاذلة المتهادنة ، معرياً حقيقة الواقع البائس ، طامحاً وحالماً بالتغيير المنشود ، متطلعاً إلى الآتي الجميل .

جاء ديوان محمد علوش في ١٣٥صفحة من الحجم المتوسط ، ويحتوي على ٤٣ قصيدة تتنوع في موضوعاتها وألوانها ، وجاء في الإهداء : " إليك طريقاً أخرى نحو الحرية للحلم الذي يجمعنا .. والى الأمل الذي يعطينا الأمل دائماً بغد أفضل " .

قدم للديوان الشاعر والكاتب والناقد الفلسطيني محمد دلة ، مؤكداً على أن محمد علوش " لم يأت إلى الشعر من عتمة الايدولوجيا أو من رتابة الموروث الشعري وخصوبته ، هو هكذا جاء وحده مغامرة لغوية ملتصقة بأناه وأنا شعبه المعمد بصيرورة اللغة والتراب ، فهو شاعر ينتمي بكامل ذاكرته المعشوشبة إلى المهمشين والمسحوقين ، إلى تراتيل أناشيدهم الصباحية وحسهم الإنساني بالعدالة والتضامن وصناعة مستقبل أجمل " .

 قصائد الديوان تحمل في طياتها معاني الوطن والحب والإنسان ورائحة التراب وعبق الزعتر البري والسنديان الجليلي والياسمين الدمشقي ، وأحلام الفقراء والمشردين ، وتتراوح بين الوجدانية والتأملية والوطنية ، وتحلق في سماوات الخيال البعيدة ، فيكتب لمدينته الحزينة ، ويعيش وجع الغربة ، ويستمع إلى صرخات الفقراء ، ويثور بوجه المال الوحشي ، وينام على أصوات الباعة المتجولين في شوارع وأزقة مدينته الملأى بالناس الباحثين عن رغيف الخبز وكفاف يومهم ، ويفيض حبر قلمه حتى يبلغ ذروة الجنون بعد أن تأجل النهار ، باحثاً عن وطن في وطنه ، ويخاطب المسحوقين الغلابى المشردين الذين " وحدهم من يصعدون إلى الله ، ومن تفتح لهم باب السماء ، وتصلي ملائكة المطر وتفرد لهم أجنحتها أمام لهيب الخيام " .ويناجي حيفا التي تركب الموج وتنتظر لقاء العمر ، دمعة دمعة ، وشمعة شمعة ، حيفا التي غيروا وجهها وملامحها ومعالمها وشوهوا جذوة التاريخ فيها ، واغتصبوا ذاكرة المكان . ويرسل وردة إلى بيروت ، الوردة المشتهاة ، ونزيف الأرز ، ووجع الضاحية ، ودمع السماء الذي يروي روح الأرض ، ويقف على حافة وضفاف الحلم ليعانق النوارس والأمواج الثائرة في بحر غزة الصمود والجرح المتواصل ، التي سقطت في الصمت وحيدة في زمن الموت ، ملفعة بالنشيد ، تحرس العرين .

 ويخاطب إخوته الذين تركوه جوعاً وعرياً وأسقطوه وخذلوه وشربوا نخب دمه ، وغمروه بالنسيان ، ويفتح باب الليل العالي صارخاً وهاتفاً للعودة ، ويسكن البحر نخلاً ، ويزرع في قميص الرمل آيات الأغنيات والصلوات ، مشرعاً صدره للرصاص الذي يلتحم مع الموج والهديل ، ويأتي إلى أمه أجمل ما في الكون ، التي تزرع الأمل في قلبه ونفسه ، أمه التي توقظ الحدائق كل صباح ، وتعلق قنديل النهار على شجرة الخبز ، وتشق الحلم رغيفاً ، وتبعث الرماد في عيون المستحيل ، ويأتي إلى أعراس الخليل ليحتسي وجع النبيذ عنباً ، ويمشي في وديانها وجبالها صوب ما كتبته يد التاريخ يستمطر الشهبا ، متطلعاً إلى الآتي بكل ثقة وإيمان ، معانقاً فجر الغزالة التي تحرس الكرم والمواسم والفرح ، حالماً بالشمس التي ينسج خيوطها غزالاً في صهيل الجنوب ، وغزالاً تطارده القصيدة العلوشية .

 ديوان محمد علوش يحفل بالجمالية الشعرية والصور الأنيقة الفاتنة ، وبالأخيلة والأوصاف والتشابيه والمحسنات البديعية ، لزيادة عمق الجمالية والموسيقى الشعرية في جرس الكلمات العذبة ، وتأتي مفرداته فصيحة وصوره خلابة منسجمة مع موضوع القصيدة بلا ابتذال ، وبكل عفوية صادقة وشفافة .

محمد علوش شاعر غزير يواصل العطاء بتوهجه المضيء المشع بالدهشة والإبهار ، انه شاعر موهوب متميز حقيقي ، يملك ناصية الكلمة واللغة ، ويقدم لنا باقات معطرة من الزهور الجميلة في بستانه الشعري العامر بكل ألوان وأنواع الورود والأزاهير .

تحية لك يا صديقي المعتق الرائع الشاعر والناقد والمناضل محمد علوش ، وثق تماماً أن الغد دوماً أجمل ، رغم الحلكة ودياجير ظلام الاحتلال ، فلا تفقد الأمل وتطلع دائما إلى الآتي الجميل الذي تستشرفه قصائدك الخلابة ذات النكهة الفلسطينية الطولكرمية المميزة ، مع خالص الحب والتقدير وتحيات الوفاء ، والتمنيات لك بالمزيد من العطاء والإبداع في مساقات الشعر والنقد ، ونحن في الانتظار دائماً .

كاتب وناقد فلسطيني من فلسطيني 48 

clip_image002_a97b7.jpg

clip_image004_0030d.jpg

يقدّم ديوان الشاعرة الفلسطينية فاطمة نزال بعنوان "إصعد إلى عليائك فيّ" فرضية أساسية ترتبط بذاتية المرأة، وهي أن وعي المرأة وشعورها ينبثقان من احتياجاتها الفسيولوجية وغرائزها الجسدية مما يؤثر على تجاربها الجنسية والعقل الباطني لديها. والصوت الأنثوي القويّ الذي نسمعه في جميع قصائدها ما هو إلا استعارة طنانة، تبغي الشاعرة عن طريقها تفكيك اللغة الذكورية والممارسات الاجتماعية التي تفرض على المرأة نمطًا ممنهجا من الحياة، يتّسم بالكبت والحرمان والانهزام والتقوقع. وفي هذا تُظهر الشاعرة قوّة وجرأة في التعبير نراهما بوضوح في الألفاظ والإيحاءات الجنسية الصريحة التي تستخدمها الشاعرة، ومن أمثلة ذلك هذه المصطلحات "فض بكارة" و"رعشة" و"رجفة جسد" و"عذراء" وغيرها من الكلمات التي تشير إلى جنسانية المرأة. كما تمهّد الشاعرة أيضا الطريق لنشوء لغة أدبية خاصة بالمرأة، وهذه اللغة، كما تقول الكاتبة والمفكرة الفرنسية هيلين سيكسو، تقع خارج نطاق الخطاب الذكوري. وهذا ما تعبّر عنه الشاعرة بوضوح في قصيدتها غير المعنونة التي تفتتح بها القسم الثالث من ديوانها بعنوان "لا مستور بين طيّات الكلام:"

سأمتطي صهوة فكرة جامحة

أروضها بطلاوة الحرف

أصوغ منها نصّا

يوقظ البنات الغافيات في خدر الخيال

يهرعن على شرفاته

راقصات على المعنى

منتشيات

وسابحات في ملكوت من أثير "ص 85"

أمّا "الفكرة الجامحة" التي تتحدث عنها الشاعرة من وجهة نظري فهي التعبير بحرية عن جنسانية المرأة ليس بدورها الاجتماعي الجنسي التقليدي المحدود الذي يسعى دائما لإسعاد الرجل وتلبية رغباته (مثل المرأة العذراء أو بنت الليل أو الزوجة أو الأمّ)، بل عن جنسانيتها من أجل ذاتها، ومن أجل تعزيز هويتها الأنثوية. وتدعو الشاعرة في قصيدتها كافة "البنات الغافيات" أن يستيقظن ويحررن أنفسهنّ من الأوهام التي توحي بمركزية الرجل في هذا الكون، وأن يمتطين معها صهوة فكرتها الجامحة، ويُعرّفن أنفسهنّ ليس بلغة الرجل بل بلغتهن الخاصة، لغة أجسادهن، لأنه كما تقول الشاعرة:

لا مستور بين طيّات الكلام

ابقر بطن السطر

ودع دمه يسيل على المجاز (ص 97).

لا تستحي الشاعرة من جسدها ولا تعتبره عورة، بل تفتخر بكونها امرأة لها جسد يشكل جزءا من هويتها وكينونتها. تخاطب الشاعرة الرجل بكبرياء وبنبرة ملؤها التحدي والنديّة وتقول:

حواء التي أخرجتك من الجنة

تجلس الآن هناك تقضم التفاحة

لا حاجة لورقة توت تغطي سوأتها

لا سوأة أصلا

لا ضلع أعوج "ص 100".

لا تحتاج حواء أن تغطي جسدها فهو مصدر قوة لها، وعليها أن تكون هي المسؤولة عنه، وعمّا تفعل به. ففي هذه القصيدة نجد أن الشاعرة تحرر نفسها مما يسميه فرويد "عقدة الخصاء" التي تجعل من المرأة، كما يقول فرويد وافلاطون من قبله، رجلا غير مكتمل بسبب فقدانها للعضو الذكري. وهذا ما أدى بفرويد إلى وصف حياة المرأة الجنسية بـ"القارة المُعتِمة"، مشيرا إلى تعقيداتها ورغباتها وكل ما تتضمنه من تصرفات وهواجس ودوافع. فاعتبر كثيرون أن حياة الذكر الجنسية هي بسيطة وواضحة، وما يريده الرجال جنسيا ليس بالمعقّد كالنساء. وبالفعل تنجح الشاعرة بهدم نظرية ما يمكن تسميته بالاضطهاد الجنسي للمرأة، والإطاحة بالأيديولوجيات الذكورية نحو خلق خطاب أنثوي نسوي نابع من الغرائز الطبيعية للمرأة، وليس من مصادر اجتماعية ثقافية. فهي تريد أن تحب "كما أشتهي لا كما ينبغي" "ص 43"

وفي أكثر من قصيدة نجد أن الشاعرة دائمة البحث عن ذاتها، عن "الأنا" في داخلها. فتقول في قصيدة "حنين":

عليّ أن أعثر

على أناي "ص 20"

وترجو أن تعود إلى "ظلي/وبعض من صباي". وفي قصيدة "صدى" تذكر الشاعرة أنها لا تسمع:

 سوى موجة متكسرة

 على الرمل

تجتر زبدًا من أعماق الأنا "ص 25"

وفي قصائد أخرى تستجدي الشاعرة الرجوع إلى الماضي إلى صباها وطفولتها، فهي تصرخ متضرعة في قصيدة "براءة:

ردنّي طفلة ...

ردنّي ... ردنّي ...

ردنّي إليّ ... (ص 43).

فالشاعرة تريد أن ترجع طفلة وأن تحيا الماضي مرة أخرى، كي تشكل ذاتها من جديد، وكي "أعيد تشكيل السنابل في ضفيرتي/لأرسم قلبًا لم يشقه سهم طائش/لقصة حب بلهاء" (ص 43). هي تريد أن تحب وتشتهي على هواها؛ لأن جسدها ملك لها، تريد أن تعشق "كما أشتهي وليس كما ينبغي" "ص 43"

نستنتج مما سبق أن الشاعرة كي تكتشف ذاتها تحاول أولا الغوص في "أعماق الأنا" لديها أي في عقلها الباطني، وثانيا أن تعود إلى طفولتها وهي المرحلة التي تتشكل فيها هوية الفرد الاجتماعية والجنسية. فهوية الفرد الاجتماعية والجنسية ليست فطرية أو متأصلة في الفرد منذ ولادته، بل أنها تتطور مع تفاعل الفرد مع أسرته وافراد مجتمعه والنظم الاجتماعية السائدة، التي يفرضها الأب والأم على أبنائهما وبناتهما. وفي كثير من الأحيان ينشأ تعارضا بين ما يريده الفرد أن يكون وما يشكل هويته الحقيقة وبين ما يكتسبه الفرد وما يشكل هويته الزائفة. يظهر هذا التضاد الثنائي بوضوح في قصيدة "آلهة" التي تتحدث فيها عن أمها وتصفها بالآلهة التي "تعيد الأشياء إلى قداستها" (ص 31). لكن في نفس الوقت هي الأمّ التي تزرع في عقل ابنتها ونفسيتها "الموروث" الاجتماعي الزائف، الذي ترفضه الشاعرة وتقرر حمل صليبها على كتفها وتحدّي ما هو قائم. سوف تنزف لكن ستبقى قامتها مرفوعة نحو السماء بكبرياء وشموخ: "سأحمل الصليب على ظهري وأسير نازفة الخطا/لكنّ قامتي تُعانق السماء" "ص 31"

تحب الشاعرة أمها كثيرا وهي تهدي ديوانها الشعري إلى روح أمّها البهية، وتصفها بأنها "كانت الأمان لروحي" (ص32). وكما يقول فرويد الحب الأول الذي يختبره الفرد هو حب الأم. لكن في القسم الثاني من الكتاب بعنوان "ادخل دهاليزك المعتمة لترى النور" نجد أن الشاعرة قد انتقلت من حب أمها الأوليّ إلى حب الرجل إذ لم تعد بحاجة إلى حنان الأم كما كان الوضع عليه عندما كانت صغيرة تضع رأسها على حجر أمها، وتقرأ لها التعاويذ والتراتيل، بل أصبحت بعد أن كبرت وأحسّت بذاتها بحاجة إلى نوع آخر من الحب: حب يروي عطش الجسد. وعلى الرغم من اكتمالها إلا أنها تدعو الرجل لتقاسم هذا النعيم الذي يمنحه جسدها في قصيدة "اكتمال":

إنني امرأة

كل كامل متكامل

مني وبي فيّ

وأنت الند

الذي تقاسم

هذا النعيم لو دريت "ص49"

لكن كما يقول الأستاذ رائد محمد الحواري في تعليقه على ديوان الشعر ترفض الشاعرة فكرة الهرولة وراء الرجل، "وتدعو إلى اغتنام الفرصة التي أتيحت، فلا مجال لتكرارها في المستقبل، فهي تأتي مرة واحدة، إن اغتنمها كانت له، وإن تركها كانت عليه". فالشاعرة ليست مثل زوجة فوطيفار التي تحاول إغراء يوسف بل هي امرأة متمردة لها الحق أن تقبل أو ترفض:

ما أنا بامرأة العزيز

ولا أنت بيوسف

وما إغواء حرفي

قدّ قميص كلماتك

فإن استبقت الباب فهو مشرّع

لكن لا ترجو إيابا لقلب

أوصدتُه بوجه الريح

كي لا تثرثر

بابتهالاتك

أغلقتُ سمعي

والجوارح كلها

ولست راغبة

بوصل قطعته بانهزامك "ص 37-38"

من ناحية أخرى، تعبر الشاعرة عن رغبتها الالتصاق بالرجل، لكن دون سطوته عليها، ودون الاستسلام له، فنراها تنشد في قصيدة "معك":

لي فلسفتي .. ولي نسكي

ولي كل المحظور من لغتي

ولي أنت "ص 74"

وتضيف في نهاية القصيدة:

لي أنت وكل ما في العيش

من رغد أنت صانعه

رعاك الله يا كل أمنيتي "ص 76"

كما أنها تدعو إلى صياغة علاقة جديدة مع الرجل، وتدعوه إلى فتح صفحة جديدة في علاقته مع المرأة، والبحث عن "وعد جديد". فالمرأة لا تعيش من أجل الرجل، بل تعيش معه، وهذا ما يحدد أو يشكل صلب العلاقة بينهما وطبيعتها. تقول الشاعرة في قصيدة "مرايا" معبرّة عن الوحدة الناتجة من مثل هذه العلاقة:

انفض عن كاهلك اليأس

وابحث عن وعد جديد

أصرخ فيك، عليك، ومنك

...

أكتب أنك أحببتني حتى ثملت من كأس غوايتي "ص 73".

clip_image002_2ae48.jpg

clip_image004_04a6b.jpg

القدس: 21-12-2017 ناقشت ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس ديوان"اصعد إلى عليائك فيّ" للشاعرة الفلسطينية فاطمة نزال. ويقع الدّيوان الصادر عام 2017 عن مكتبة كلّ شيء الحيفاويّة، وقدّم له الحبيب بالحاج سالم من تونس في 120 صفحة من الحجم المتوسط، ويحمل غلافه الأول لوحة للأديب الفنّان محمود شاهين.

بدأ النقاش جميل السلحوت:

أعترف أنّني لم أقرأ شيئا للشّاعرة الفلسطينيّة فاطمة نزّال من قبل، فأنا أتهيّب أو أحاذر من قراءة الدّواوين الشّعريّة التي تصدر لشواعر وشعراء شباب لكثرة الغثّ منها، خصوصا وأنّ هناك عشرات الكتب صدرت وعلى غلافها "ديوان شعر"، مع أنّ ما جاء فيها ليس شعرا ولا خاطرة ولا أقصوصة، بل لا علاقة له بالابداع، هذا مع التّأكيد أنّني أفرح فرحا طفوليّا كلّما مرّ بي كاتب أو شاعر شابّ مجيد.

وفاطمة نزّال شاعرة شابّة وأعتقد أنّ هذا الدّيوان هو اصدارها الأوّل، لذا فإنّني وضعت ديوانها "اصعد إلى عليائكّ فيّ" على رفّ المكتبة لأقرأه في وقت الفراغ الزّائد عندي. وها أنا أقرأه من باب الالتزام ببرنامج ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة، والتي نعطي فيها الأولويّة لنقاش اصدارات محلّيّة للتّعريف بأدبنا وأدبائنا المحلّيّين، وذلك بسبب الحصار الثّقافيّ الجائر الذي فرضه المحتلون علينا قبل ظهور "الانترنت" في تسعينات القرن الماضي.

وما أن شرعت بقراءة ديوان فاطمة نزّال قافزا عن تقديم الكتاب، لأنّ غالبيّة من يقدّمون لكتاب يهيلون عليه وعلى كاتبه أطنانا من المدائح التي لم تحظ بها معلّقات الشّعر العربيّ، حتّى وجدت نفسي أمام شاعرة متميّزة قد تقلب ما اعتدت عليه في نظرتي للاصدارات الشّابّة. فقد وجدت نفسي أمام شاعرة حقيقيّة، تملك ناصية الكلمة، أدهشتني بجمال صورها الشّعريّة، وبجرأتها في قول ما تريد من خلال لغة انسيابيّة كأنّها تعزف سمفونيّة الحياة، يأخذ إيقاعها وموسيقاها لبّ قارئها والمستمع إليها. وهذه الجماليّات اللغويّة تأتي عفويّة لا تصنّع فيها، مّما يشي أنّنا أمام شاعرة موهوبة تبوح بما في دواخلها؛ لتقدّم لنا شعرا جميلا يعزف ألحان المشاعر الحقيقيّة للانسان. وهذه المشاعر الجيّاشة الصّادقة وجماليّة اللغة، في الدّيوان ليست حكرا على قصيدة واحدة في الدّيوان، بل هي دفق شعريّ يشي بتميّز واضح" وهذا يدفعني إلى مخاطبة صاحبة الدّيوان :"فاطمة نزّال : أنت شاعرة، وهذا يكفيك."

وكتب ابراهيم جوهر:

دعوة للصعود الإنساني الرّاقي على سلّم الكلمات والصور والإيحاءات الإنسانية المحمّلة بالتّوق لغد أفضل، يحمل بساتين للأطفال وخبزا للجوعى وانسجاما لإنسان يعاني من اغتراب الواقع وغربة الرّوح.

بثقة وموسيقى تحاور الشّاعرة آخرها الكامن فيها تارة، وذاك الموازي لها في تردّده تدعوه للصّعود، ولا صعود بغير إرادة وتوق للتّغيير.

توظّف الشّاعرة "فاطمة نزال" مفرداتها البسيطة لتنسج ثوبا للفرح والحياة موشّى بربيع لوحاته زهور القلوب وبلسم الفؤاد بما تحفل به نداءات طفلة بريئة، تعزف لحنا إنسانيا، يعلي من نشوة الرّوح التي اعتراها صدأ الجهل والضياع في براري البحث عن درب للخلاص.

بهذا الصّعود الذي ترسمه الشّاعرة في ديوانها الأول يعود للشّعر وقعه ولغته الأليفة غير المغرقة برموز متنافرة. إنها ببساطة تقول:

هذه الحياة أكثر بساطة مما نظن، فهيّا بنا نصعد إلى عليائها ولنغادر قاعها الملوّث ولنتسلّح بالحب والفرح والانسجام.

وكتب عبدالله دعيس:

كانت الشّاعرة فاطمة نزّال موفّقة باختيار عنوان ديوانها (اصعد إلى عليائك فيّ) والذي هو شطر من قصيدة بعنوان مدارج. هذا النّص الذي يخاطب المتلقّي بلغة إنثويّة صريحة، يشي بما ستفصح عنه القصائد، بلسان امرأة واضحة في مشاعرها حدّ البوح، وبصور شعريّة جميلة تستقيها من الطبيعة، فتكون الطبيعة مرآة تعكس دواخل نفسها ومكنونات عشقها، تخاطب بها الآخر عما يدور في نفسها دون مواربة. امرأة بامتياز، مشاعرها مميّزة وعواطفها جيّاشة، تعتزّ بالأنثى داخلها، ولا تخجل مما يجيش في خاطرها، تتعالى بكونها أنثى، لكنّها لا تترفّع عن الرجل ولا تنأى بنفسها بعيدا عنه، فهو محور عشقها وغاية مشاعرها، فهذا البوح الأنثويّ يتغنّى بسمفونيّة عشق بمشاعر جيّاشة واضحة لا تُخفي من خباياها شيئا.

اصعد إلى عليائك فيّ

فقد نذرت لك ما تكاثف في مزن الرّوح

وما يساقط من رطب

ما أنضجه قيظ الشوق

وما تخمّر من عنب

نهجت الشاعرة في ديوانها منهجين أعطياه التّميز والجمال: رسم صور حيّة من جمال الطبيعة بحركاتها وسكناتها، والتّناص مع القرآن الكريم بشكل واضح ومنهج قويم من أولى قصائدها إلى نهاياتها.

تأمل قولها:

ظِلي دثار الليل لجبين الشمس

ظِلي يعانق نور الله

حين يشقّ صدر العتمة بعسعسة ناعمة

يتنفّس انبلاج الصّبح من روحي

وأفيض على الكون.

يتساءل القارئ لقصائد الديوان عمّا تبحث عنه الشاعرة وعن أيّ عشق ترجو، فيجد الإجابة بوضوح لا يقبل التأويل في كلّ سطر من أسطر قصائدها، حيث ترسم طريق العشق بأشواكه ومخاطره وجماله ومتعته، وتراه في كلّ ما يحيط بها من مظاهر الطبيعة التي تستعيرها لترسم بها لوحات فنّية تعبّر عن حقيقة مشاعر المرأة، وعن نقائها الفطريّ الذي لا تلوّثه أدران الخطيئة.

فدرب المريد شائكة

غابة عذراء لم تمسسها سوى قبل الندى

وظل السحاب

وتبدو الشاعرة أحيانا حائرة في تصاريف الدهر ومرور جيل في إثر جيل، يحيا الإنسان حاملا الأمل والألم في ثناياه، ليندثر ويمهّد الطريق لغيره ليحيا. فسنابل نيسان الخضراء تجف لتصبح قمحا وتُطحن لتصبح خبزا. لكنها ترى الموت طريقا لحياة جديدة ولحاضر ينهض على رفات الماضي.

أيها الموت أسرع بخطاك

واحصد ما استطعت من أرواحنا

فالبيادر غلال من أجسادنا

الدماء جداول

والأرض باقية باقية

أمّا كلماتها فتخرج عفوية جميلة مفاجأة، فهي كالنرجس الذي ينبثق من أرض مقفرة مع أول أمطار كانون، والكمأة التي تبعثها شدّة الرعد.

كلماتي

ثورة النرجس في تقلبات كانون الأول

انبثاق الكمأة

في هزيم الرّعد...

وهي الطلع الذي يحمل

لقاح الفكرة المجنونة

لتختمر في اللاوعي

قصيدة وتراتيل...

وتصور الشاعرة شوق الأنثى ووصالها وحبها وإخلاصها، ثم التردّد الذي يعتريها عندما تريد أن تتصل بحبيبها، ثم استيائها من صمت الرجل وعدم الإفصاح عن حبه لها، وتُبرز قلق الأنثى من انقضاء زهرة شبابها، ولكنها تعود لتدرك أن الحب يعيش في الأنثى مهما تقدمت بها االأيام. أما الشك فيستحيل غولا ينغّص على المرأة حياتها، فتكون فريسة حمقاء له.

تعتريني رعشة ذكرى

كلما مرّت

كأنها الدهشة الأولى...

فأبتسم وعيني ترى المشهد

ما زلت على قيد الحبّ وما زال قلبي منتشيا

بخمرته....

وديدن الشاعرة الصراحة التامة، والبعد عن المغمغة في وصف توق الأنثى للرجل والرجل للمرأة، وتعتبر من يترفع عن هذه العلاقة كاذبا يتوارى خلف خداعه.

لا اعتراف أدلي به أيها الراهب

اخلع عنك هذا الثوب

وجهك عارٍ كما الحقيقة وإن توارى

خلف جدار

وتحاول أن تنفي عن المرأة ما يلحق بها من عار، وتدعوها إلى الجرأة في ملاحقة حبها كالفراشة التي تحوم حول النار، وأن تتعلم قول لا. وقد تصبح الأنثى شرسة، ولكن لا بد من يد الرجل لتنتشلها.

فراشة تركل طرف الضوء

تغازله وتمضي برقصتها

غير عابئة بالاحتراق...

بعض الموت حياة

إن كان البرزخ بينهما

قبلة...

وفي خضم حديثها عن العشق تبرز المرأة الأم أيضا واضحة في قصائدها.

حين كانت أمي ترتق الوقت بخيط صبرها

وتهيل على الوجع تراب قلبها

لم تكن تحب البكاء، لكنه كان يتفنّن في وخز

مآقيها...

والأمّ هي الأرض أيضا، تمنّ على أبنائها بخيراتها وتحزن لهجرانهم لها، فينقلب عليهم حزنها غربة وشقاء.

تستأنس الأرض

بساكنها

فتجري له لباء صدرها

جداولا تسقيه...

فإن هجر

جفّ منبعها

وتصحّرت

حتى لا تهبَ

من لا يستحقّ

وصالها

إلا غربةً وتيه

ولا تنسى الشاعرة ما يدور حولها من أحداث مفجعة، فتتدفّق شاعريتها بوصف رائع في قصيدة (إلى صديقتي) وبأسلوب مؤثر مفعم بالعاطفة.

ومن الفصد ما يُشفي

لا النزف مرعب يا صديقتي، ولا الجرح الدامي

يؤلم دائما

كثير من الوجع يخدّر الحواس

آخر مشهد

كان لرضيع متشبث بثدي كرزي متخثر

على ناصية رصيف...

أخر مشهد

كان لقبر شهيد قضى منذ عقد

يُفتح

ليعانق العم ابن أخيه...

طازجا الدّم والرائحة والجرح النازف

آخر مشهد

كان لطفلة تحتضن دميتها المحترقة

وهي شعثاء ممزقة الثياب

ترنو إلى أنقاض غرفتها المحطمة تحت جدار

نصفه انهار

والآخر ما زال مسرحا للريح...

آخر مشهد

كان لأمواج تلاطم قاربا

تصفع من فيه بكفّ الصقيع

وتُلقي بهم زبدا أحمر على شواطئ منسيّة

فهذا الديوان هو بحقّ بوح امرأة تهذي بما يجيش بخاطرها، مستلهمة كلماتها من روعة الطبيعة، وشفافيّة نفس شاعرة، ترى الجمال حولها فتعكسه على ما بداخلها من احتدام مشاعر وأفكار.

أمّا هدى عثمان أبو غوش فقد قالت:

إصعد إلى عليائك فيّ" عنوان مُميز، ملفت للنظر ،فيه أغراء للسّامع ،فيه صوت انثى تخاطب الذكر بجُرأة بصيغة الأمر ،وتطلب منه أن يصعد إلى مجده وذروته من خلالها.

قسّمت الشّاعرة ديوانها الشّعري إلى ثلاثة أقسام: ففي القسم الأول عبّرت عن علاقتهاومشاعرها بأُمِّهاوقضايا إنسانيّةأُخرى ،القسم الثاني يتطرق إلى وجدانيّة الشّاعرةوقلبها،أمّاالقسم الثالث فاحتوى على قصائد قصيرة جدا غير معنونّة تحمل صورا شعريّة جميلةأيضا ذات طابع وجدانيّ.

القسم الثاني من الدّيوان يجذب القارئ أكثر  من الأقسام الأُخرى لما فيه من جُرأة في التعبير عن العاطفة ،العشق والإشتياق.

تأتي الشّاعرة بصور شعريّة تمزج صور العشق بالإشارات الدّينية لتعبّر عن حنينها عشقها ولوعة اشتياقها للحبيب وأثر الفراق، وتمنيت لو أنّ الشّاعرة ابتعدت عن زجّها بتلك الإشارات لما فيها من قداسة .

تقول في قصيدة "أوّل الغيث":

تفقد كفيّ روحي

إنهما يرسمان

لوحة عشق على جسدي.

وتتابع الشاعرة فتقول:

"كيف أتلمّس دفأهما

كيف أُلاحق شبق عدوهما

على مرابع صباي

كيف بسعيهما بين صفاي ومرواي

قد فّجرا ينابيع حنيني

إلى قُبلة من شفتيك".

وفي قصيدة "غواية" تقول:

"طاف الكون بلفتها

أضحت بؤرة

أمست كعبة العشاق

وقِبلةَ نساك التماهي".

وأيضا فإنّها استخدمت إشارات من القرآن الكريم من "سورة يوسف" في قصيدة" نهاية".

تأثرت بالأساطير فذكرت( عنات، إنكي،ّ اينانا).

تتكرر كلمة القُبلة عدة مرات في هذا القسم من( 118، 106 ، 108)للتأكيد على الفقد ووجع الفراق.

تقول في قصيدة "قُبلة":

"وأحنُّ لذلك الوعد

على شفا قبلة

انتظرتك".

وفي قصيدة "صرتهم"تقول:

"....

تلفنا عتمة

شجرة

تستر قُبلتين مسروقتين".

وفي قصيدة وهم:

"حين قبلتك ذات عناق لمقلتينا

لم أدرِ أن تلك القبلة

ستفتح النار

من كل الجبهات".

استخدمت الشّاعرة في صورها الشّعريّة ايحاءات جنسيّة فاستخدمت عدة كلمات توحي بذلك.(فض بكارة، رعشة ،رجفة جسد ،ألعق ما ألعق على شفتيّك،شهد العناق،.....).

جاءت بعض القصائد مقيّدة أنفاسها منقطعة بحيث تحرم القارئ من التخيّل والتّأمل كما في قصيدة "مرايا" حين تسأل وتجيب دون أن تتيح للقارئء أن يقرأ المشهد الشعريّ.

تقول: "أتبحث عنّي في عيون العاشقين

إذن دخلت متاهة لن تخرج منها ".

نجحت الشّاعرة في استخدام الإستعارات الجميلة وأكثرت من المناداة والخطابة .

حسب رأيي الشّخصي، لم يكن هنالك حاجة لمقدمة الكتاب "شاعرة قلبها بألف باب". لأن القارئ يريد أن يكتشف فحوى الكتاب وقدرة الشّاعرة بمفرده.

بقي أن أقول أنّها شاعرة كانت حُبلى بالعواطف الجيّاشة فولدتها فوق مساحات الذكرى،الحنين والفراق.

وقالت رائدة أبو الصوي:

"اصعد إلى عليائك في" و (ادخل دهاليزك المعتمة لترى النور) و "لا مستور بين طيات الكلام" تدفق وتوهج بالمشاعر وابداع بالصور الشعرية .باقة من الأزهار الملونه بأجمل الألوان .سرب من الطيور المغردة بأعذب الألحان .حلقت بنا الشاعرة وصعدت الى الأعالي عبر صفحات ديوانها السهل الممتنع .وجدت نفسي محلقة بلا أجنحة عبر كلماتها المنتقاه بدقة فائقة .نظمت كلماتها كما ينظم الصائغ عقد من اللؤلؤ، نظمتها وجمعتها في خيط من حرير وأهدتها الى كل قاريء ذواق .القصائد تلامس الواقع بطريقة مختلفة، طريقة تحمل بصمة الشاعرة ،تحدثت عن الأم والأخ والوطن .

بعثت رسالة  إلى صديقتها، في ديوان الشعر جمعت الشاعرة بين القضايا الأنسانية، الاجتماعية، الوجدانية والوطنية وغلفتها بأنفاسها ومشاعرها وتجربة حياة غنية بالأحداث .

في ص (54) صورة في منتهى الجمال .

على شفا قبلة تفتحت كليلكة .

توشحت بالأبيض الزهري .

توسدت جفنيك .

وبحر يتوق لمد وجزر مقلتيك .

من أجمل الصور الشعرية .الشاعرة تربطها علاقة قوية جدا بوالدتها ويظهر هذا الارتباط من خلال قصيدة "دفء"

تمر يمينك على جبيني المحموم .

تضعين رأسي على حجرك .

تقرأين المعوذتين .

وبعض التراتيل .

في يدك الأخرى رشة الملح .

تنثرينها على جمر الكانون وتشهقين ثلاثا.

"ملحة بعين الي شافك وما صلى على النبي"

تأثر الشاعرة بوالدتها أعطاها تلك القوة في انتقاء الكلمات الجياشة العذبة .

قالت لها أمّها (سيدة هذا الكون أنت) ص15

اهداء الديوان الى روح والدتها البهية .مشاعر جياشة متوهجة صادقة تنطلق بتلقائية

تحدثت في ديوانها عن معاناة لم يتطرق لها من قبل مثل معاناة مرضى  الربو .

تحدثت عن الموت وعن الشهادة .

في هذا الديوان نشوة وفرحة وفلسفة وحكم ومشاعر رقيقة وموسيقى وطاقة ايجابية .

ديوان شعر يستحق الاقتناء .

ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان .

وجدت ضالتي في ديوان الشاعرة الفلسطينية فاطمة نزال

استمتاع وراحة واسترخاء شعرت بهذه المشاعر وأنا ابحر في أمواج بحر هذا الديوان وأهيم في أعماقه .شعرت بالارتواء شعرت بالاكتفاء .

وكتبت هدى خوجا:

           لوحة الغلاف تتناسب مع المحتوى والعنوان، الغلاف يشمل على عدّة كائنات مع وجوه مختلفة في التّركيب والصّورة، وإنسان وهياكل عظمية متراكمة ومختلفة الأطوال، وكمجموعة من ظل الصّورة والمرايا المختلفة، بألوان أساسيّة منها الأخضر والأحمر والأبيض والأزرق.

تبدأ ديوانها بقصيدة فيء النرجس: 

    معطرة بالنّدى وبياض القلب وظمأ الحبّ، وشمس خجولة تقبّل النّافذة الحزينة لتهب للقلب ألف باب وباب، ويبقى الحنين.

أما في قصيدة إلى صديقتي 

فنجد التّكرار المحبّذ مثل" آخر مشهد"  

الّتي تعبّر عن الجرح والأسى والموت والألم.

وأيضا في قصيدة" براءة

ردّني طفلة

ردّني لسيرتي الأولى

ردّني خصلة غجريّة

ردّني...ردّني

ردّني إليّ..."

تأثرت الشّاعرة بنظرية التّحليل النّفسي" لسيجموند فرويد"حيث برزت الأنا والوعي واللاوعي مثال:من قصيدة ندى "على الرّمل

تجترّزبدا من أعماق الأنا"

"يصارع وجوده

يا أنا يا أنا"

" وليل عسعس

أوغل في اللاوعي"

وفي لامستور بين طيّات الكلام

"لتختمر في اللاوعي

قصيدة وتراتيل..."

ونجد في قصيدة نهاية

تناص مع سورة يوسف في القرآن الكريم

"ما أنا بامرأة العزيز

ولا أنت بيوسف...

وما إغواء حرفي

قدّ قميص كلماتك"

وتتناثر الحروف بين برد كانون؛ وأواق تشرين ثم يزهر لوز الرّبيع، وسنابل القمح تينع ولكن كيف ومتى وأين!

وفي قصيدة صدى

القمح الّذي"

أينع في سنابل نيسان"

أما في مواجهة

"الليلة بدر

تموز يلفظ أنفاسه

النّوافذ مشرعة"

أما في غواية

" وصوت هديل

يناجي فيّ الأنثى فتختال الغواية

غير عابئة بشرفات

شرعتها رياح تشرين"

"فكّت ضفائرها فتنتني

تلاكت لتشرين العبث

في خصلاتها"

وفي طيف

"كأنشودة للمطر

تتراقص الكلمات

على وقع

انهمار غيث مسافر"

وفي وهم

"وأذوي كزهرة

داهمها أيلول

ولا أدري يا رفيق الخيال

كيف سأحتمل رياح تشرين

دون أن تدثّرني بالوهم يداك!"ص70

وفي كلماتي ص87

"ثورة النّرجس في تقلبات كانون

انبثاق الكمأة

في هزيم رعد..."

"أشعلت الصّيف في الحديقة

وأطفأته بشتاء دافئ..."ص90

"أصابع قدمي هذا الشّتاء

تتدثّر بقبلة صيف مضى"ص106

وللألوان صدى في الديوان الشّعري الأبيض والأسود والأحمر والأزرق ، ويطغى الأسود تارة ثم الأبيض من جهة أخرى.

" ولي أن أكون

ألوان الطّيف

في الأبيض

كماسة حين التّجلي" ص120

أنظر في المرآة أتفحص

عينيّ الحمراوين"ص116" ويشق سحر السّواد ببياضه؟ هل يستوي الخيطان!

هيت لدواتك "

دعها تفيض على هامشي الأزرق"

لن تفسد البياض " ص103

"يلبد سماء عينيّ بمطر أسود

لا ينهمر"ص92

" توشّحت بالأبيض الزّهريّ

توسّدت جفنيك"ص54"بومضة برق ورعود غيمتين

سوادهما ينذر بالمطر" ص53

" الذي نام ساهد الجفن...

كحّله سواد الليل" ص52

" ما أجمل الخجل

يزينه الخال كحجر أسود"ص51

وأخيرا الكلمات ترقص على الوتر الخامس في شعر فاطمة نزال مع جمال الروح وعزف النّاي " وإنني عشقت الحرف

ودوزنت به على ذلك الوتر" ص82

ويستمر جمال الحرف والنوتة الموسيقية من خلال الحرف والكلمة والشّعر، كفراشة تحط على الأزهار في عليائها.

والنّظر في مرآة الرّوح للوصول والتّحليق في الأعالي.

وقالت آمال القاسم:

هل حقا سيدة هذه الارض انت ؟

فاطمة نزال الصعود الى العلياء من خلالك كان صعبا وقاسيا بل كاد أن يكون مستحيلا،

أعترف أنني وقعت في الخطا عندما بدأت تصفح الديوان، حيث بدأت بقراءة تقديم الأستاذ الحبيب بالحاج سالم من تونس، الذي صاغ قراءته بقالب فلسفي ولغة معقدة نسبيا، الأمر الذي جعلني أشعر أنني أمام كومة من الألغاز، ويفترض بي تفكيكها، فقلت ما شأني بذلك؟

بحثت عن فاطمة ذاتها في القصائد فتعثرت بالاهداء، وكان موجها الى الروح البهية روح الامّ وهنا بيت القصيد، بل كل القصيدة، بدوت مأخوذة بروح الأمّ التي ألقت بظلال فقدانها عليك.

الأمّ المرأة الأنثى هي الأصل في الحب والوفاء والعطاء، هي الأرض الوفية فيها كل الخير والسماء السخية، التي لا تبخل علينا بالأمطار وهي الإله على هذه الارض، فيها الجمال والروح والسكينة، نعم هي الأمّ الآلهة التي تعيد للأشياء قداستها (30):

"حين كانت أمّي ترتق الوقت بخيط صبرها

وتهيل من تراب قلبها

لم تكن تحب البكاء ..لكنه يتفنن في وخز مآقيها

حين كانت تستر عورة الجوع بكفيها المتشققتين

واللقمة مغمسة بملح العرق المتصبب من جبين الشمس "

لأجل هذه الأبيات المغمسة بالوفاء أعلنك سيدة هذه الأرض، فما خاب إنسان دعت له أمّه حين رفعت يديها المشققتين إلى السماء.

غياب الأمّ يغيب الحياة بجمالها وبهائها بحنانها وأحلامها، فلا أستهجن استجداءك العطف وسنوات الطفولة البريئة.

تنوع في العناوين التي يكتنف بعضها الغموض الذي لم يخدم عنصر التشويق عموما، الغموض يسيطر على المضمون ،استخدمت كل الوسائل وسخرت اللغة؛ لتكون طيعة لتشبيهاتها وللدلالة على تناقضاتها وتقلباتها النفسية، فأرسلت رسائل الحزن تارة وتارة أخرى التشاؤم، ولكن سرعان ما ينتشلها الأمل فتعود إليها نزعة التفاؤل.

تنوعت مواضيعها وتباينت العناوين، ولكن للطبيعة حضور الفصول الأربعة، إلا أن فصل الشتاء لا يغيب بأمطاره الغزيرة وسحبه السوداء، وليله الحالك الذي يأسرها، والربيع بفيء نرجسه والصيف بوروده، والأشجار ثرثارة تبوح بالأسرار لعابر السبيل، وتألق حضور الطبيعة في عذراء الغابات التي لم تمسسها سوى قبل الندى (18)رغم الحضور الجميل للطبيعة إلا أنه يخفي بين أزهاره وأشجاره حياة مليئة بالمعاناة قسوة وقهرا، وإلا لما تمنت الانعتاق وما طاقت روحها لطفولة بريئة لا تعرف معنى العذابات، ولا تتمنى الموت بديلا لقهر الزمان.

رغم تباين المواضيع والعناوين إلا أن شاعرتنا توقفت عن تبويب أبياتها الشعرية، فجاءت آخر مجموعة شعرية تحت مسمى واحد، فلماذا أطلقت تلك الأبيات التي لم تتجاوز السطرين مبكرا؟ لماذا لم تدعيها حتى تنضج فتولد قصيدة؟

الوفاء يكون من خلال الأرض، وحدها الأرض تجود على من لا يبخل عليها العطاء، فإذا ما هجرها الانسان (جفت منابعها وتصحرت حتى لا تهب من لا يستحق وصالها 36 )فأيّ وفاء أبلغ وأعمق من هذه العلاقة الفلسفية الجدلية؟

فقدان الشاعرة لأمّها تركها فقيرة للحب والحنان، استجدت العطف من هنا وهناك، ولكنها سرعان ما ابتليت بالحب، ولكنه حب معذب فيه التعالي والكبرياء، فكانت ذروته "اصعد إلى عليائك فيّ"، فهل عبرت الشاعرة عن كل ضعفها فلجأت إلى غوايتها؛ لتنال من محبوبها في ساحات الغواية؟

الصديق وقت الضيق، عندما ازدادت حلكة الليل عليها لجأت إلى صديقتها؛ لتفرغ شحنات التشاؤم واليأس وتسدل الستار على كل المشاهد، وطن متناثرة مشاهده، قبر الشهيد وطفولة على أنقاض حطام المنازل، وأمواج تلاطم الصقيع، وطن ضرب به زلزال إلا أن السلام آت مع الحمائم البيضاء المسمومة، غير واثقة أن السلام سيعم الوطن، فتركت أبواب الفردوس مشرعة في محاولة منها لبث روح الأمل من جديد.

في مواجهة الموت هل اعلنت عن ضعف امراة متشائمة تائهة ضاعت عن نفسها غير مدركة لمآربها؟ فاستعجلت الموت تحث خطاه مفرطة بكل الأرواح ما دامت الأرض باقية، أم انها أعلنت التمرد على ضعفها وخوفها، وأرادت أن تواجه الموت وجها لوجه بكل شجاعة، وفي وضح الليل عندما يكون البدر مكتملا بدرا في سماه؟

يا صاحبة الظل المتسكع بشوارع المدينة أيّ مدينة تلك التي أدميتها بخطاك؟ وأيّ اعجاب أثارت بي لغتك القوية وثراء مفرداتك وتشابيهك البليغة؟

بحثت عنك فاطمة فوجدتك وهما وسرابا غزلته خيوط الشمس الخجولة لولا قول أمّك لك أنك سيدة هذه الأرض.

أخيرا نضجت المرأة العذراء بك، لملمت أشلاء ذاتك المبعثرة، وخططت جوارح قلبك العاشق بحروف من سحر وشعر، ونظمت قصائد عذارى ونثرتها كالقطن المنفوش.

وشارك في النّقاش عدد من الحضور منهم: سامي قرّة، محمد عمريوسف القراعين، د. عزالدين أبو ميزر، طارق السيد وسوسن عابدين الحشيم.

المزيد من المقالات...