هوامش على قصيدة جبران "المواكب" وغناء السيدة فيروز

أعطني الناي وغنِّ .. فالغنا سرّ الخلود

وأنين الناي يبقى .. بعد أن يفنى الوجود 

وجد الناي يوم وجد  الحزن في جوى كل إنسان،قصبة قصية على ضفاف وادي مر بها راع متوحد اخترمها ثقبها بعدد ثقوب نفسه ثم انتحى بها مكان قصيا تحت زعرورة جرداء عجفاء وأرسل أول صوت حنين شجي رمادي حين سمع القطيع ذلك الصوت لم يأبه له إلا عنزة كانت قد فقدت جديها افترسه ذئب عرفت  لوعة الفقد والحزن لكن لم تعرف كيف تثغو  به ليتميز عن بقية ثغاء الماعز حين سمعت الناي صاحت كما صاح أرخميدس في  حوض الحمام أوريكا أوريكا  وجدتها وجدتها  هذا ما كنت أبحث عنه اكتشف أرخميدس قانون الطفو فخرج عاريا يصيح في شوارع أثينا واكتشفت المعزى قانون الوجود الذات المتألمة.

من ذلك اليوم وهي مدمنة على سماع ذلك الصوت كل زوال وكل أصيل تقترب من  الزعرورة الجرداء  لتسمع ذلك الصوت المتوحد الغامض  المنساب في الفضاء  على ظهور نسمات الهواء ليلامس شغاف كل قلب حزين.

سأل الراعي القصبة:-  لم تنقلين الصوت هكذا حزينا أكثر من اللازم ما أردت ذلك ؟

ردت القصبة:-  حزنك وحزني اجتمعا فجاء الصوت هكذا حزينا !

قال الراعي:-  لا أنكر أني حزين منذ عشت في رحاب الطبيعة بينكم معشر الماعز اكتسبت أخلاقكم وأخلاق الطبيعة كنت أتامل في الموت والحياة والأبد  والأزل والروح والجسد ولكن ضرورة الحياة الاجتماعية تلقي بي في خضم الأخلاق الاجتماعية البشرية :

الرياء مقابل العفوية  والعطاء مقابل الأنانية والبساطة مقابل التكلف والفطرة مقابل السلطة.

-         ولم أنت حزينة؟ سأل الراعي

-         لأني كنت  متوحدة منذ سمعت ذلك الشاعر الأعمى يقول:

توحد فإن الله ربك واحد** ولا ترغبن في عشرة الرؤساء

 أبيت الاندغام مع القصب  حين ترى القصب من بعيد  لا تميز واحدة كله متشابه أنا مثلا علي نقطة سوداء ميتة لا تراها من بعيد ولكنها  كانت مؤلمة لي لأنها لا تتغذى لا يصل  الماء إليها  لذا انتحيت مكانا قصيا لأشعر الآخرين بإنيتي بكينونتي بمشكلتي. أريد من يتحدث عني لا عن القصب ككل يشير إلي لا إلى القصب  ذلك الجبل حيت تراه من بعيد شماريخ  مبهجة للعين ولكن وسط الجبل  يكمن راهب وقاطع طريق وبقايا جيفة وزهرة عوسج الاندماج يفقدك خصوصيتك  ستصبح رقما بدل ذات مستقلة. الجحيم هم الآخرون والنعيم هم الآخرون أيضا  عش منفصلا متصلا ومتصلا منفصلا بقدر التزامك بضرورة الحياة الاجتماعية، والتزامك الاخلاقي وماعدا ذلك لا تلفت لأحد ولا تبال بأحد فكثير من الأعراف مطبوعة بطابع الرياء والتصنع والمباهاة والتسلط ولذة العبودية وأصفادها والانتحار الأحمق قي التقليد.

من أجل ذلك صار الناي شعار المتوحد لا يقبل الاندغام مع الآلات الموسيقية ، كل الآلات  تسير إلى تحسين وتعديل وتطوير وبعضها إلى زوال إلا هو كالفطرة  كالحليب لا يقبل تعديلا ولا تحسينا بسيط بساطة الأرض المغبرة  الرحبة حنون حنو الأبجدية إلى سيدها من ينتشلها من وحدتها ويجمع بينها يعقد زفافا بين حروفها على إيقاع ذلك الناي وتتناسل  الأحزان وأصوات الناي ومعاني الحروف بعد أن صارت كلمات ليست كالكلمات منها شعر ذلك الشاعر وبلاغة ذلك الكاتب.

ميراث الألم يقتسمه أصحاب العقول والقلوب التركة للأكثر رهافة حس ،   حظ الإثنين لمن رهف حسه أكثر لا ذكورة ولا أنوثة في هذه الفريضة من تلك التركة ومنها ينعم الناس بالغناء ويترنحون طربا للمغنية وهي تغني لأبي فراس:

بلى إني مشتاق وعندي لوعة

ولكن مثلي لا يذاع له ســـــــر

إذا اليل أضواني بسطت يد الهوى

وأذللت دمعا من خلائقه الكبــــــر

مع أنه ألم ومن تلك التركة بالذات !

ويسعد القارئ وهويتصفح بمتعة القراءة آنا كارنينا ومدام بوفاري وأحدب نوتردام والعجوز والبحر والخبز الحافي ولكن الخيط الوحيد لذي يجمعها الألم فمن رحمه يولد الابداع حتى أن القائل قال:

إن الشقاء سلم إلى السما

فعدن ميراث لمن تألما

لا ينبغ عادة أبناء الاغنياء ولا الوجهاء فالعادة أن يتبلد حسهم وتنشط غرائزهم بفعل النعمة ولن يكون منهم لا عالم ولا شاعر ولا فنان عظيم لقد وفتهم النعمة حقهم متاع الحياة الدنيا بينما ينبغ الفقراء فمنهم العالم والشاعر والفنان وفي مسار كل  واحد قصة ألم  حتى  الأنبياء كان لهم نصيبهم من تركة الألم .

حين التقى قيس بليلى قالت له ألست القائل:

أصلي فما أدري إذا ما ذكرتهـــا

اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا؟

وما بي إشراك ولكن حبــــــــــها

كعود الشجا أعيا الطبيب المداويا

قال: بلى

من أجل أن تقول وتقول متعنتا في البعاد والحرمان وفي ألمه لو تزوجتني ما وجدت شيئا كثيرا ستمل لقمة عيش وعيال وأصهار والتزامات وروتين عش مجنونا ومحروما وأنا كذلك وللناس روعة ذلك الشعر وخلودنا معا إنها  الضريبة على القيمة المضافة.

ومن أجل ذلك ذهب بجماليون إلى كبير الآلهة يسأله أن يرد المرأة تمثالا يريد خيالا وألما ليعيش ويبدع تماثيل أخرى.

مازلت المعزى كل مساء تنجذب إلى صوت الناي حين يعزفه الراعي  تترك القطيع وتقترب من الزعرورة لتسمع  ماينقله  الناي من ألمها الجواني ، وحتى الشمس ألفت في مسارها اليومي ذلك العزف وحتى القمر والنجوم  والزعرورة والكون كله يتراقص على صوت ذلك الناي.

 

استقر الشعر العربي في قرون ما قبل الإسلام على منهج من العَروض تتخرج به القصيدة واحدةَ الوزن والقافية، مطلعها هو بابها الذي لا مدخل للشاعر إليها سواه، ولا مخرج حتى يفرغ! وهو ما تَمَلْمَلَتْ منه بعض أحوال الحياة على التاريخ؛ فاستفزت بعض مُتحوِّليها من الشعراء إلى الثورة عليه؛ فاجتازوا حدود القافية، ثم حدود الوزن.

لكن القافية المقصورة (التي رويها الألف الأصلية غير الزائدة)، نوع قديم من القافية، لم يخرجه من الوَحدة علماءُ الشعر وهو غير متمكن فيها.

إن حرف الرَّوِيّ هو قلب القافية الذي به تُعتبر وإليه تَنتسب؛ فيقال: لامية العرب، وسينية البحتري، ودالية المعري، ونونية ابن زيدون، ...، وهكذا. وهو مِلاكها الذي يحفظ عليها شأنها كله، بحيث إذا تعدَّدَ تعدَّدتْ، وإذا توحَّدَ توحَّدتْ. ولا يمتنع أن يكونه أيُّ حرف من حروف العربية، إلا الحروف الهوائية الممدودة أو اللينة أو المُشبَّهة بها؛ فهي حروف كالحركات، ينبغي أن يُلتزم قبلها ما يكون هو الرَّويَّ، ليكون الحرفُ منها هو الوَصْلَ، أي الختام الذي يصل بالقافية إلى غايتها.

إن الشاعر إذا أخرج قافية مطلع قصيدته من المتدارِك (دَنْ دَدَنْ) -وهو أشيع إيقاعات القافية- بمثل "مَدْخَلَا"، وجب أن يستمر عليها بمثل: "هَيْكَلَا، مُشْعَلَا، حَنْظَلَا، وَاعْتَلَى، وَابْتَلَى، سَلْسَلَا، صَلْصَلَا، هَلَّلَا، بَلْبَلَا، جَلْجَلَا، مِنْجَلَا، مَنْ جَلَا، إِنْ عَلَا، لَا وَلَا،..."، وهكذا، يساعده حرف اللام الكثير المادة، الذي لا يكاد يخذل مختاره. فأما إذا أخرجها بمثل "حَبَّذَا=دَنْ دَدَنْ"، فلن يكاد يمضي بعيدا بمثل: "هَكَذَا، مَنْفَذَا، يُحْتَذَى، وَاغْتَذَى، وَالْأَذَى، ذَا وَذَا"، حتى ينقطع، ولأمر ما قال ابن أبي الزوائذ في مقطع ذاليَّته -وقد أخرج قوافيها من إيقاع المتواتِر (دَنْ دَنْ)-:

"هَذِهِ الذَّالُ فَاسْمَعُوهَا وَهَاتُوا شَاعِرًا قَالَ فِي الرَّوِيِّ عَلَى ذَا

قَالَهَا شَاعِرٌ لَوَ انَّ الْقَوَافِي كُنَّ صَخْرًا أَطَارَهُنَّ جُذَاذَا"!

ولا ريب في شدة وطأة الروي على الشعراء جميعا، حتى قال فيه المعري وهو أعلم الشعراء به: "إِذَا جَاءَ الرَّوِيُّ فُضِحَ الْغَوِيُّ"؛ فإن الشاعر إذا ورَّط نفسه فيما لا ذخيرة له عنده تَدَهور إلى الإيطاء (تكرار ما سبق استعماله)، أو الاستدعاء (إضافة ما سبق مثله)، أو غير ذلك من المعايب، أو استأسَرَ للإِرْتاج (الانقطاع دون التكملة)، وكان عن ذلك كله في سِتر، حتى قال ما قال!

ولقد اهتدى الشاعر العربي الجاهلي إلى قَصر القافية، فرتع منه في مرتع، وسرح في مسرح، وانطلق غير متعثر ولا متحرج! نعم؛ فحسبه كلما أدركته القافية أن ينتحي نحو الأسماء والأفعال الأَلِفيَّة لامات أواخرها منقلبةً عن واوات أو ياءات -وما أكثرها- فيغترف منها ما شاء؛ فإذا كان قد أخرج قافية مطلع قصيدته من إيقاع المتدارِك، بمثل "مُنْتَهَى"- أمكنه أن يخرج ما بعدها بمثل: " مُصْطَفَى، مُرْتَضَى، مُقْتَدَى، مُرْتَقَى، مُبْتَغَى، مُقْتَضَى، مُنْتَمَى، مُنْتَدَى، يُشْتَرَى، وَارْتَوَى، فَاكْتَوَى، وَاشْتَهَى، فَاشْتَفَى، وَاهْتَدَى، فَارْتَمَى، وَانْتَحَى، فَانْتَخَى، وَافْتَرَى، إِنْ وَهَى، أَوْ دَعَا، قَدْ أَتَى، بَلْ غَفَا، مَنْ سَمَا، أَوْ وَعَى، قَدْ عَوَى،..."، لا يلزمه إلا أن تكون هذه الألف هي لام الكلمة!

هذا الأسعر الجعفي الشاعر الجاهلي المجهول المولد والممات، يقول في مطلع قصيدة أورد له منها الأصمعي (122- 216هـ)، ثلاثين بيتا:

"أَبْلِغْ أَبَا حُمْرَانَ أَنَّ عَشِيرَتِي نَاجَوْا وَلِلنَّفَرِ الْمُنَاجِينَ التَّوَى

بَاعُوا جَوَادَهُمُ لِتَسْمَنَ أُمُّهُمْ وَلِكَيْ يَبِيتَ عَلَى فِرَاشِهِمُ فَتَى"-

فيخرج قوافيها الثلاثين من إيقاع المتدارِك نفسه، بما يأتي: "ـنَ التَّوَى، ـمُ فَتَى، ذَا تَرَى، ـهَا غِنَى، وَالشَّوَى، ـرُ القُرَى، ـدٌ وَأَى، مَا أَتَى، قَدْ رَأَى، ـةُ النَّسَا، ـنَ الْغَضَا، ـنَ الدُّجَى، ذِي الْغِنَى، مَنْ بَغَى، ـلِ انْقَضَى، ـوَ اللِّحَى، ذَا الْفَتَى، ـنَ الشَّذَى، فَاصْطَلَى، ـلَى الْحَصَى، ـتَى بَكَى، ـطَ النَّدَى، كَالنَّوَى، ـهَا حُلَى، مَنْ عَفَا، ـهَا هُدَى، ـهُمْ غِنَى، ـمَا تَرَى، قَدْ قَضَى، ـدِ اكْتَفَى".

كل أولئك؛ أَلَا ما أَهْنَأَهُ بها من قافية!

ومن مثل ذلك قطعٌ وقصائد معدودات، لامرئ القيس والسموأل وليلى العفيفة ووفاء بن زهير المازني وبشر بن مرثد الشيباني وكعب بن زهير وزيد الخيل، وغيرهم، أشار إليها ونقل منها الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار -رحمه الله، وطيب ثراه!- في مقدمة تحقيقه لشرح ابن هشام اللخمي لمقصورة ابن دريد، بعضها منحول، وبعضها مريب، ولكن بعضها مقبول، كقصيدة الأسعر الجعفي المذكورة آنفا.

ولقد زعم أن من ذلك قول ابن خَذَّاق العَبْديّ:

"اِمْنَعْ مِنَ الْأَعْدَاءِ عِرْضَكَ لَا تَكُنْ لَحْمًا لِآكِلِهِ بِعُودٍ يُشْتَوَى"،

وهو زعم لا يستمسك؛ إذ ينبغي ألا يُقطع في قافية البيت اليتيم برأي، حتى ينضاف إليه غيره، وإلا فغير ممتنع في قافية هذا البيت، أن تكون الواو هي الرويّ، والألف الوصل!

ثم زعم أن لفواصل الآيات القرآنية، أثرا في إغراء الشعراء بالقافية المقصورة. وصدق؛ فما كان أشد وطأة القرآن الكريم على الشعراء، حتى لقد أذهلهم عن أنفسهم؛ فكان منهم من اشتغل به عن الشعر، ومن اشتغل به فيه!

أم كيف بهم إذا تلقَّوْا هاتين السورتين:

سورة الأعلى ذات التسع عشرة آية:

"سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى. فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى. سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى. فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى. وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى. ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى"،

وسورة الليل ذات الإحدى والعشرين آية:

"وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى. وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى. فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى. وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى. إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى. وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى. فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى. لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى. وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى. وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى. إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى. وَلَسَوْفَ يَرْضَى"-

المتفردتين بقَصْرِ فواصل آياتهما كلها!

لربما ندموا من قوافيهم على ما لم يقصروه!

نعم، ولكنهم تمسكوا فيما قصروه بأصلية ألف الروي في كلمتها، وبقيت فواصل القرآن الكريم أوسع مع المقصور ["الْأَعْلَى، فَسَوَّى، فَهَدَى، الْمَرْعَى، أَحْوَى، تَنْسَى، يَخْفَى، يَخْشَى، الْأَشْقَى، يَحْيَى، تَزَكَّى، فَصَلَّى، وَأَبْقَى،وَمُوسَى"، "يَغْشَى، تَجَلَّى، وَاتَّقَى، وَاسْتَغْنَى، تَرَدَّى، لَلْهُدَى، تَلَظَّى، الْأَشْقَى، وَتَوَلَّى، الْأَتْقَى، يَتَزَكَّى، تُجْزَى، الْأَعْلَى،يَرْضَى"]، للمؤنث بالمقصورة الزائدة ["لِلْيُسْرَى، الذِّكْرَى، الدُّنْيَا، الْأُولَى"، "وَالْأُنْثَى، لَشَتَّى، بِالْحُسْنَى، لِلْيُسْرَى،بِالْحُسْنَى، لِلْعُسْرَى، وَالْأُولَى"]، تربأ بنفسها عن أن تشبه غيرها، وتتفلت من أن يشبهها غيرها!

ضَرَبَ الدهرُ ضَرَبانَه، ثم نشأ أبو المقاتل الحُلواني الذي نظم مقصورته ذات التسعين بيتا، في مديح الداعي الحسني بطبرستان سنة 287، مستهلا بقوله:

"قِفَا خَلِيلَيَّ عَلَى تِلْكَ الرُّبَا وَسَائِلَاهَا أَيْنَ هَاتِيكَ الدُّمَى

أَيْنَ اللَّوَاتِي رَبَعَتْ رُبُوعُهَا عَلَيْكَ بِاسْتِخْبَارِهَا تَشْفِي الْجَوَى".

فعارضه أبو بكر بن دريد الذي نظم مقصورته ذات الثلاثة والخمسين ومئتي البيت في مديح ابنَيْ ميكال بالأهواز سنة 294، مستهلا بقوله:

"إِمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ حَاكَى لَوْنُهُ طُرَّةَ صُبْحٍ تَحْتَ أَذْيَالِ الدُّجَى

وَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَمْرِ الْغَضَا".

وأَرْبَى عليه بما احتشد له فيها من الإشارات والتنبيهات والأخبار والأحوال والحكم والأمثال والغريب والأساليب، حتى أخمل ذكره، وطار في الآفاق ذكر الدُّرَيْدِيَّة دون الحُلْوَانِيَّة، حتى اشتغلت بها الأجيال فالأجيال، حفظا ومعارضة وتخميسا وتوشيحا وإعرابا وشرحا وترجمة وغير ذلك، تعلقًا بناظمها الحبر الجليل الجهبذ الفذ فنا وعلما، حتى إن معارضيها لَيَتفاخرون بتضمين مقصوراتهم ذكر ذلك!

ومن أقدم من عارض مقصورة ابن دريد أبو القاسم التنوخي الأنطاكي الذي كان حيا سنة 332هـ، ومن أحدثهم أحد من درست عليهم سنة 1404=1984، النقد الأدبي الحديث بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة، وبين هذا وذاك وبعدهما من لا يُحصَون، أشهرهم أبو مدين الغوث -594هـ- الصوفي الأشهر، وأبو الحسن حازم القرطاجني -684هـ- الذي جعلها في 1003 بيت، وأبو مسلم البهلاني أكبر الشعراء العمانيين على الزمان -1338=1919- الذي جعلها في 391 بيت!

لقد صار للدريدية من الأثر مثل ما للامية العرب ولامية العجم وبانت سعاد وغيرها، كما قال الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، وصدق- وتميز للمقاصير (القصائد المقصورة) كيان كالذي تميز للمعلقات واللاميات والمدائح النبوية وغيرها؛ فاستحقت أن يعتني بها الباحثون مثلما اعتنوا بهن، وأعجب ما ينبغي أن يذكر في حفزهم إلى ذلك، اقتصار الشعراء في إخراج قوافي مقاصيرهم، على الكلمات المقصورة دون المؤنثة بالمقصورة؛ فإنهم إذا اعتلوا لصنيع ابن دريد بسعة علمه ببنية المقصور، أفلا يدلهم صنيع الجاهليين على ذوق لغوي مطلق، ينافس الرأي العلمي المقيد!

clip_image001_ede35.jpg

فدوى طوقان شاعرة فلسطينيّة، من مدينة نابلس مواليد سنة 1917، وتوفيت سنة 2003، من أُسرةٍ غنيّة ، حصلت على لقبِ "شاعرة فلسطين " وهي رمزٌ لكلِ معاناة وظُلمٍ من قبل المجتمع، خاصة الأُسرة في نظرتها السلبيّة للأُنثى .

بداية اخترتُ قصيدة "أُنشودة الحب" لأُشير إلى مدى معاناتها النفسية السيئّة .

"كان وراء البنت الطفلة

عشرة أعوام

حين دعته وصوت مخنوق بالدمع

حنانك خُذني

كن لي أنت الأب

كُن لي الأُم

وكُن الأهل

وحدي أنا

لا شيء أنا

أنا ظِل

وحدي في كون مهجور

فيه الحب تجمّد

فيه الحسّ تبلّد "

من هنا نستشف مدى الحرمان الأُسري والوحدة التي عانت منهما الشاعرة فدوى طوقان منذ ولادتها، فقد كانت أُسرتُها شديدة بتقاليدِها، فلم تكن طفولتُها كباقي الأطفال، بل انزوت في البيت وهو بمثابةِالسِّجن، فكانت أُنثى في بيت كان من المفترض أن يكون وطنها الحب، لكنه أصبح سجنَها .

كان للحرمان العاطفي الذي مرّت به الشاعرة منذ طفولتها بالغ الأثر السلبي على نفسيتها .

ففي كتابها سيرة ذاتيّة" رحلة جبلية رحلة صعبةصعبة"1993 تقول :

وظللت أكره انتمائي إلى العائلة التي جعلني سوء الحظ واحدة من أفرادها، وكنت أُفضل دائما الانتماء إلى عائلة أقل غنى وأكثر حرّيّة .

أحد الأسباب التي جعلت الأُسرة تكرهها، هي ولادتها اُنثى وليس ذكرا فقد كان والدُها يطمح بصبيّ خامس، وأُمها حاولت إجهاضها في حملها إياها .

وهذا ما جعل الأسرة تعلن حالة حرمان عليها، وجعلها بكنف ورعاية إحدى الصبيات التي كانت تعمل في البيت عدا الرضاعة. حُرمت من حنان الأُمومة حيث أهملتها والدتها وكانت تتجاهلها كما يفعل الأب، والشيء الأكثر ايلاما على نفسية الشاعرة كان نكران الأُسرة لاسمها فتمّ مناداتها"يا بنت". وأيضا فإنّهم يتجاهلونها كفرد من الأُسرة بحيث لا يتكلمون عنها كباقي اخوتها.

القلق النفسي وحالة الاكتئاب لازما الشاعرة حتى حين مرضت، فلم يشفع لها المرض أن يحنّ أهلها عليها بل ساؤوا في معاملتهم لها، فسخروا منها ونعتوها بالصفراء، هذا الوصف أثّر عليها فانتهزت ليلة القدر لتشكو لبارئها وتطلب منه أن يجعل لخدِّها لونا جميلا.

قمة الحالة النفسية كانت بعد أن شعرت بعدم الأمان مع أُسرتها، وبأنها منبوذة من المحيط الأُسري، فوصلت لحالة اليأس، فراودتها فكرة الإنتحار منذ سنِّ الثانية عشرة، كانت تقترب إلى صفيحة الكاز والكبريت بيديها؛ لأنها شعرت بالحرمان من الذهاب إلى المدرسة الذي فرضها عليها أخوها يوسف، وعدم خروجها بتاتا من البيت، فذكرت في إحدى حوارتها الإذاعية أن السبب في ذلك فقط من أجل ورقة ألقاها صبي لها، ثم كانت محاولة الإنتحار حين تناولت أقراص الأسبرين، إلاّ أن أحد الأطباء قام بإنقاذها.

تغيّرت الحالة النفسيّة من إحباط ويأس إلى أمل، فقد كان لوقوف أخيها الشاعر إبراهيم طوقان حين رجع من دراسته في بيروت الأثر الإيجابي عليها، وقد أشرق وجه الله عليها، وبثَّ روح الفرح فيها كما تقول  في إحدى حواراتها الإذاعيّة، فقام بتعليمها العلوم وحفظ الشعر، وأشرف على تعليمها وتثقيفها بشكل ذاتي.

ختاما بقي أن أقتبس جملة من أقوال الشاعرة عن أهمية سلامة نفسيّة الطفولة من سيرتها الذاتيّة حيث تقول:إن المشاعر المؤلمة التي نُكابدها في طفولتنا، نظل نحسّ بمذاقها الحاد مهما بلغ بنا العمر .

clip_image002_00a8f.jpg

clip_image004_f24cf.jpg

clip_image006_1e5ec.jpg

برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا، أقام نادي حيفا الثقافي أمسية مميزة، في قاعة كنيسة مار يوحنا الأرثوذكسية في حيفا، وسط حضور مميز من الأدباء والشعراء والأصدقاء والمهتمين بالأدب والثقافة، وذلك بتاريخ 28-9-2017، احتفاءً بالبروفيسور سليمان جبران وتوقيع كتابه (الإيقاع في شعر درويش- نظن كأنه النثر).

تولت عرافة الأمسية رنا صبح، بعد أن رحّب بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافي، وقد كانت مداخلات نقدية جادة للكتاب لكلّ من: د. كلارا سروجي شجراوي حول أهمّيّة الكلمة كسلاح سلميّ برموزها في شعر درويش والإيقاع الملازم له، وتحدّث  د. حسين حمزة حول التناص والإيقاع في شعر درويش الموزون، ورغم أن قصيدة تتصدر الشعر في السنين الأخيرة، إلّا أن درويش لم يكتبها، ولدرويش تصريحات كثيرة يؤكّد فيها أنّه كتب نثرًا لا قصيدة نثر. وفي نهاية اللقاء شكر بروفيسور جبران المُنظّمين والمُتحدّثين والحضور، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة أثناء توقيع الكتاب.

مداخلة العريفة رنا صبح: على هذه الأرض ما يستحق الحياة! نهايةُ أيلولَ، سيّدةٌ تترُكُ الأربعين بكامل مشمشها، ساعة الشمس في السجن، غيمٌ يُقلّدُ سِربًا من الكائنات، هتافاتُ شعب لمَن يَصعدون إلى حتفهم باسمين، وخوفُ الطغاة من الأغنيات. حضرات الأخوة الأدباء والمفكّرين والشعراء والناقدين، الجمهور الكريم، مساؤكم طيبٌ وعنبر. يسرني جدّا أن أشارك اليوم في هذا الحفل المبارك، لإشهار كتاب البروفيسور سليمان جبران، تحت عنوان الإيقاع في شعر درويش- نظم كأنه نثر. أحيّيكم وأرحّب بكم في النادي الثقافيّ حيفا، القائم برعاية المجلس الملي الأرثذكسيّ الوطنيّ الذي آلى على نفسه، إرواء الثقافة والذاكرة والتاريخ والقلم.

الأخوة والأخوات، للشعر موسيقاه الموصولة بروح الكلمة وعبقريّتها، وللمساءِ روح تُغري بالشعر، روح تحوّل الوجدان إلى ذاكرة عظيمة، فكيف بالمساءِ حين يكون مقرونًا بمحمود درويش الغائب الحاضر، كما وصفه البروفسور جبران؟ هذا الاحتفال ما هو إلّا تأكيد لمكانة البروفسور سليمان جبران، الذي  كرّس عمره لدراسة الأدب ونقده، وفي إعمار الحركة الثقافيّة في البلاد، فوهب حياته للعلم والمعرفة والكتابة والكلمة، حتى نقش اسمه في سجلّ الباحثين الطلائعيّين المُجدّدين المُبتكرين. أسأل الله أن يطيل في عمرك بروفسور، وأن يكون مشوارك الإبداعيّ زادًا ومَعينًا لا ينضب.

محمود الذي لا يزال حتى بعد رحيله يملأ الدنيا ويشغل الناس، وُلد أكثر من مرّة، وانتقل من اسم سقط عليه كما تسقط الأسماء على جميع البشر، إلى اسم صاغه كما يشاء، اسم تتحاور فيه الهويّات، وتتنقّل من حكايات متوارثة إلى مجاز شعري كونيّ الزمن، وتتوزّع عبر فضاءات المكان والزمان. محمود: والميم/ المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى/ الحاء/ الحديقةُ والحبيبةُ، حيرتانِ وحسرتان/ الميم/ المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته/ الموعود منفيّا، مريضَ المُشْتَهَى/ الواو/ الوداعُ، الوردةُ الوسطى/ ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ، وَوَعْدُ الوالدين/ والدال/ الدليلُ، الدربُ/ دمعةُ دارةٍ دَرَسَتْ/ ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني.

 ألقت قصيدة "يُحبّونَني ميّتا" لمحمود درويش: يُحبّونني ميتًا ليقولوا: لقد كان منّا ، وكان لنا. سمعتُ الخطى ذاتَها. منذ عشرين عامًا تَدقُّ حائطَ الليل. تأتي ولا تفتحُ الباب. لكنّها تدخلُ الآن. يَخرُجُ منها الثلاثةُ: شاعرٌ، قاتلٌ، قارئٌ. ألَا تشربونَ نبيذًا؟ سألتُ. قالوا. متى تُطلقونَ الرّصاصَ عليّ؟ سألتُ. أجابوا: تمهّل! وَصَفُّوا الكؤوسَ وراحوا يُغنّونَ للشعبِ. قلتُ: متى تبدؤونَ اغتيالي؟ فقالوا: ابتدأنا.. لماذا بعثت إلى الروح أحذيةً، كي تسيرَ على الأرضِ؟ قلت. فقالوا: لماذا كتبتَ القصيدةَ بيضاء والأرضُ سوداءُ جدًّا. أجبتُ: لأنّ ثلاثينَ بحرًا تَصُبُّ بقلبي. فقالوا: لماذا تُحبُّ النبيذَ الفرنسيّ؟ قلتُ: لأنّي جَديرٌ بأجملِ امرأةٍ. كيفَ تطلبُ موتَكَ؟ أزرق مثلَ نجومٍ تسيلُ من السّقفِ. هل تَطلبونَ المَزيدَ مِنَ الخمرِ؟ قالوا: سنشرب. قلتُ: سأسألُكُم أنْ تكونوا بَطيئين، أنْ تَقتلوني روَيْدًا رُويْدًا لأكتبَ شِعرًا أخيرًا لزوجةِ قلبي. ولكنّهم يَضحكونَ ولا يَسرقونَ مِنَ البيتِ غيرَ الكلامِ الّذي سأقولُ لزوجةِ قلبي.

د. كلارا سروجي شجراوي: من مواليد حيفا. حصلت على لقبِ الدكتوراة بتفوّق من جامعة حيفا منذ 2009. لتلتحق بسلك المحاضرين في جامعة حيفا، في قسم اللغة العربيّة وآدابها، في مجالَي الأدب العربيّ الحديث والفلسفة الإسلاميّة.

الناقد والباحث د.حسين حمزة:  ولد في قرية البعنة. حصل على الدكتوراة من جامعة تل أبيب.  يعمل محاضرًا في الكليّة الأكاديميّة العربيّة للتربية في حيفا منذ 1997، ويشغل حاليًّا منصب رئيس قسم اللغة العربيّة فيها. حصل عام 1996 على جائزة لجنة التوجيه الدراسيّ، وفي 2003 على جائزة وزير الثقافة للمبدعين باللغة العربيّة.

مداخلة د. كلارا شجراوي بعنوان الانفلات من أسر المحليّة والإقلاع نحو العالميّة: أهلا بالجمهور الكريم في نادي حيفا الثقافي. نحتفي اليوم بكتاب بروفسور سليمان جبران: "نظم كأنّه نثر: محمود درويش والشعر العربيّ الحديث".

الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات كُتبَت بأوقات مختلفة، لكنّها تمتثل لخطّ سَيرٍ واحدٍ واضحٍ وهو إثبات أنّ الشاعر محمود درويش لم يتخلّ أبدًا عن الإيقاع فالتزم بالتفعيلة حتى في قصائده المتأخرة التي تبدو ظاهريّا نثريةَ الطّابع أو منتميةً لقصيدة النثر. سأتناول مقالًا واحدًا من الكتاب بعنوان "ريتا الواقع والقناع"، كي أتحدّث عن مكانة الشاعر ونزعته الإنسانيّة التي أوصلته إلى العالميّة، بعد ترجمة أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة، فالمقال في نظري يُقدِّم مثالًا واضحًا عن تطوُّر شعر محمود درويش من الذاتيّ إلى الإنسانيّ العامّ أو الكونيّ.

     لقد أحبّ شاعرُ المقاومة محمود درويش فتاة يهوديّة يساريّة تعرّف عليها عندما كان منتميًا للحزب الشيوعي الإسرائيلي في أواسط ستّينات القرن الماضي. هكذا وُلدَت قصيدة "ريتا والبندقيّة" لتكون ريتا الاسمَ البديل لحبيبته اليهوديّة تَمار بِن عَمي، ودام حبّهما عامَين. نُشرت القصيدة في مجموعته "آخر الليل" سنة 1967.

أهميّة هذه القصيدة متعدّدةُ الجوانب فهي تدلّ أوّلا على شخصية الشاعر المنفتحة على الآخر المختلف، وهو الذي أتقن العبريّة والفرنسيّة والإنجليزيّة. كذلك، هي دلالة على أنّ الشاعر لم يعادِ اليهودَ كشعب، إنّما تحدّى المحتلَّ والمغتصِبَ لحقوق الشعب الفلسطيني، وإلاّ كيف نفسّر اهتمامَ خصومِه ومحبّيه من اليهود بشعره فكتبوا عنه الدراسات كما ترجموا أعمالَه؟ على الأقل حبّ من باب "إعرف خصمَك". اشتهرت هذه القصيدة في العالم العربي بعد أن لحّنها وغنّاها الفنّانُ اللبنانيُّ المبدع مارسيل خليفة، دونَ العلم طبعا في تلك الفترة بأنّ ريتا الحقيقيّة هي فتاةٌ يهوديّة. ونحن نعلم أنّ القصائد التي يتمُّ تحويلُها إلى أغانٍ تساهم في شهرة الشاعر، كما حدث مع قصيدة درويش "أحنّ إلى خبز أمّي" و قصيدة "أنا يوسف يا أبي".

نشير هنا إلى أنّ القرّاءَ في العالم العربي قد فسّروا ريتا رمزًا لفلسطين المحاطةِ بالبنادق، وهذا بالطّبع ساهمَ في انتشارها. في الواقع، علاقة الشاعر بريتا اليهوديّة توقّفت بعد أن حملت تمار البندقية وتجنّدت في الجيش الإسرائيلي. وعند اكتشافِ قرّاء محمود درويش في العالم العربي حقيقةَ القصيدة أصيبوا بخيبة أملٍ كُبرى، فمن المستحيل في نظرهم أن يحبّ شاعرُ الثورة والمقاومة فتاةً يهوديّة.

من الواضح لنا أنّ الحبّ لا يعترف بالهُويّات القوميّة ولا بالفوارق الدينيّة. لكنّ الشاعر فهِمَ لاحقًا أنّ حبَّه مستحيلٌ ولذلك اختار تغليبَ النضالِ الشعريِّ على عاطفته. في نظري هذه التجربة دفعت محمود درويش نحو مرحلةٍ جديدة باتَ فيها شعرُه أكثر رمزيّة، وابتعدَ عن لهجة الخطاب الجماعيّة المثيرة في قصائده الأولى التي جعلت الجماهيرَ تطالبه بانفعال شديد بأن يردِّد عليهم قصيدته الشهيرة "بطاقة هويّة" المعروفة أيضا ب"سجّل أنا عربيّ..." بينما كان درويش يرفض خاصّة في المراحل المتقدّمة لشعره، لأنّه يهدف إلى تغيير ذائقة الجمهور كي يكشفَ لهم عالمَه الشعريَّ الجديد. أضيفُ إلى ذلك أنّه من غير المنطقيّ أن يردِّدَ الشاعرُ قصيدةَ "سجّل أنا عربيّ" في دولة عربيّة، والتي يخاطب فيها شرطيّا إسرائيليا. هذه القصيدة هي صرخةُ تحدٍّ جماعيّةٍ للاحتلال الإسرائيلي، أدّت إلى اعتقاله سنة 1967.

إذن، ريتا الأولى الواقعيّة تمثِّل عمليّا مرحلةً من مراحل تطوُّر الشاعر في بساطتها وتلقائيّتها وجمالها الرّقيق. لكنّ القصائد الثلاث التالية، عبرَ سنوات مختلفة، والتي حملت اسم ريتا، تمثِّل فعليّا، وليس عن طريق التأويل فحسب، لريتا كرمز ديناميكي، أقصد الرمزَ النشطَ المتحرِّك الخلاّق والمتغيِّر لفلسطينَ الواقعةِ تحت الاحتلال الإسرائيلي، كما تمثّل اختلاف الأمكنة التي تواجد فيها الشاعر. القصائد هي:

* "ريتا.. أحبّيني"، في مجموعته العصافير تموت في الجليل، 1969.

* "الحديقة النائمة" في مجموعته أعراس، 1977.

* "شتاء ريتا" في مجموعته أحدَ عشرَ كوكبًا، 1992.

     على سبيل المثال، كتب الشاعرُ قصيدته "ريتا.. أحبّيني" سنة 1969 قبل خروجه من إسرائيل. فيها نجد أنّ الأحداثَ تقع في الحلم ليؤكّدَ لنا الفرقَ بين ريتا الواقعيّة وريتا القناع أو الرّمز التي يراها في الحلم ويخاطبها ويحدّثها عن هواجسه ورؤاه المستقبليّة بشأن مصير هذا الوطن الممزَّق. لا يذكر الشاعرُ "فلسطينَ" بتاتا، بل يجعل اليونانَ أو أثينا هي المكان، ليكون حرّا بعيدا عن عيون الرّقابة ف"الحبّ ممنوع../ هنا الشرطيُّ والقَدرُ العتيقْ/ تتكسّرُ الأصنامُ إنْ أعلنتَ حبّكَ/ للعيون السود".  ويقول أيضا لحبيبته ريتا:

"نامي! هنا البوليس منتشرٌ/ هنا البوليسُ، كالزيتونِ، منتشرٌ/ طليقًا في أثينا"

ويفشل الشّاعرُ في امتلاك ريتا/ فلسطين حتى بعد توسّلاته الكثيرة، فليس بمقدور الشاعر الفلسطيني أن يتزوّج من ريتا إلاّ "حينَ ينمو البنفسجُ على قبّعات الجنود".

تمثّل هذه القصائدُ العلاقةَ المتأزّمةَ بين العربي الفلسطينيّ واليهوديّ الإسرائيليّ، وتبيّن استحالةَ العيشِ المشترَك دون اعتراف اليهودي الإسرائيلي بحقّ الشعب الفلسطيني. ترتسم المعركة بينهما بأنّ اليهوديّ يعتمد المسدّسَ سلاحا له بينما لا يملك الشاعر من أدوات المقاومة سوى الكلمة التي تحاول وصفَ الصّراعِ بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين بأنه "صراع بين ذاكرتين".

لا شكّ في أنّ محمود درويش هو الشاعرُ القوميُّ لفلسطين الذي استطاع أن يكون نجمًا جماهيريّا متألّقا دونَ الامتثالِ لما هو مألوفٌ ومعروفٌ وسائدٌ في الشعر. لذلك يمثِّل شعرُه علامةً فارقةً في الشعر العربيّ المعاصر وفي تغيير الذائقةِ الأدبيّة لجمهور القرّاء. استطاع أن يُسمِعَ صوت الفلسطيني المهجَّر المنكوب الذي اغتُصبَت أرضُه وانتُهكت حقوقُه الإنسانيّة، ويحوّلَ الشعر إلى أداة نضال ومقاومة. إلاّ أنّ نجاحَه العالميَّ قد تحقّق عندما استطاع، في المراحل المتقدّمة من شعره، أن يحوِّلَ التجربةَ الذاتيّةَ والمعاناةَ الفلسطينيّةَ المحليّةَ إلى تجربةٍ إنسانيّةٍ عامّةٍ تثير لدى القارئ مشاعرَ الحزنِ والوجعِ النفسيّ إلى جانب الأملِ والتفاؤلِ والقدرةِ على تغييرِ الواقع غيرِ العادل. هذا لا يعني أنّ قصائدَهُ الأولى غيرُ جميلة، فهو كشاعر موهوب (بالفطرة) منذ أن كان فتًى - فقد أصدر ديوانَهُ الشعريَّ الأوّلَ "عصافير بلا أجنحة" عندما كان في التاسعة عشرة من عمره (سنة 1960) – استطاع أن يفهمَ أهميّةَ الوصولِ إلى الشعبِ البسيطِ، فلا يكون الشعرُ وقفًا على طبقةٍ ما. يقول في قصيدة "عن الشعر" (مجموعة أوراق الزيتون 1964):

"قصائدنا، بلا لونِ/ بلا طعمٍ.. بلا صوتِ!/ إذا لم تحمل المصباحَ من بيتٍ إلى بيتِ!/ وإن لم يفهم "البسطا" معانيها/ فأولى أن نذرّيها/ ونخلدَ نحنُ.. للصمتِ!!" 

    هذا الشاعرُ المُهجَّرُ الذي عاش في عدّة دولٍ كالاتحاد السّوفييتي ومصر ولبنان وفرنسا عرف كيف يتحاور مع الأساطيرِ والرّموز ومجموعِ الحضاراتِ الإنسانيّةِ التي تعاقبت على أرض فلسطين دونَ أن ينسى أهميّةَ أن يكونَ الشعرُ قريبًا من القلب والعقل معًا، بمعنى أنّه حافظ على المعادلة الصّعبة وهي البساطةُ المعقَّدَة، وفي ذلك نجاحه. لكنّ حبَّهُ لحيفا، بكرملها الشامخ، كانَ خاصّا، فهو مهما أحبَّ من النساء فحبُّه هذا لا يعادل غصنًا من السّرو في الكرمل الملتهب، ومهما أحبّ من الحقول والبحار في البلاد المختلفة فإنّه لا يعادل قطرةَ ماءٍ على ريشِ قُبّرَةٍ في حجارة حيفا. (من قصيدة "النزول من الكرمل").  وتبقى صرخة محمود درويش عالية: آه... يا وَطَني!..

مداخلة د. حسين حمزة: محمود درويش لم يكتب قصيدة النثر، رغم أنّ هناك مقاطع نثرية ضمَّنها في عدد من إصداراته الأخيرة، وخصوصًا "أثر الفراشة" المنشور تحت صفة "يوميات"، و"في حضرة الغياب" تحت صفة "نص"، إضافةً إلى مقاطع في ديوان أقدم هي "أحبك أو لا أحبك". لم يسمِّ تلك النصوص قصائد نثر، ولو أراد لفعل ذلك.

لِمَ لمْ يبادر درويش إلى خلع صفة "قصيدة نثر"؟ هناك تصريحات كثيرة يؤكّد فيها درويش أنّه كتب نثرًا لا قصيدة نثر. في حوار طويل مع عبده وازن قال: "أكتب نثرًا على هامش الشعر، أو أكتب فائضًا كتابيّا أسمّيه نثرًا". وأيضًا: "ما دمت أكتبُ نثرًا، فأنا أكتب النثر من دون أن أسمّيه قصيدة". وفي موضع آخر أكَّد: "أنا من الشعراء الذين لا يفتخرون إلّا بمدى إخلاصهم لإيقاع الشعر. أحبّ الموسيقى في الشعر. إنّني مُشبَعٌ بجماليّات الإيقاع في الشعر العربيّ، ولا أستطيع أن أعبِّر عن نفسي شعريًّا إلّا بالكتابة الشعريّة الموزونة".

درويش فرَّق بشكل حاسم بين التعبير عن نفسه "شعريّا" وبين التعبير "نثريّا"، فهو شاعرٌ في الشعر وناثر في النثر، فلماذا نُكتِّبه قصيدة النثر عنوةً؟ كان ناثرًا موهوبًا، ولم يكن يُضيرُهُ أن يكون ذاك الناثر الموهوب إلى جانب كونه شاعرًا مرموقًا.

كان صاحب "جداريّة" حريصًا على عدم الخلط بين الأمرين، لكنّه في الوقت عينه، لعب في السنوات التي سبقت رحيله، على فكرة النثر عبر رهانٍ يقوم على إثبات براعته النثريّة داخل قصيدته الموزونة. أراد أن يُصحّح علاقته الشاقة والمُساء فهمُها مع قصيدة النثر، لكن ليس بكتابتها، بل بالإفادة من خصوصيّاتها ومناخاتها.

صادق قصيدة النثر، لكنه لم يقع في غرامها. أغلب صداقاته الأخيرة كانت مع شعراء نثر. لقد اعترف محمود مرارًا بأنّ ما يُكتب من قصائد نثر في العربيّة، أكثر جودةً من أخواتها التفعيليّات، واستثمر علاقات النثر بذكاء شديد، وأخفى الوزن في طيَّات الإيقاع الخافت ومجاهله، وأدار ظهره للصوت العالي والرمزيّات المباشرة والغنائيّة المُفرطة.

في مستهلِّ ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد" استعان بتعبير أخَّاذ لأبي حيّان التوحيدي: "أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظمٍ كأنّه نثر، ونثرٍ كأنّه نظم". أراد أن نعامل قصائده الأخيرة باعتبارها نثرًا مكتوبًا بالوزن، وفرح حين اعتبر بعضُنا أنّ "في حضرة الغياب" قصيدة نثر طويلة. لعب الشاعر في ملعبنا النثري، لكنه لم يغادر ملعبه الفعليّ، ولم يُبدِّل قميصه الإيقاعي بأيٍّ من قمصاننا النثريّة.

درويش تناول نقاط التناص والتضمين والتدوير والأم والأب، وهناك تحوّلات ثلاث في العلاقة مع أبيه، وحين ندرس الشعر العربيّ المعاصر بشفافيّة، نقف  على مراحل تطورّه بشكل أكثر موضوعيّة، واليوم نرى أن قصيدة النثر تتصدر المشهد الثقافي.

هناك بعضُ الرموز ظهرت بشكل واضح في مراحله الأخيرة مثل موتيف "الغياب"، وهذا الرصد يساعد على تَبيان مراحل تطوّر درويش الشعريّ، وهي ركيزةٌ أساسيّة في الشعر تدلّ بشكل مباشر على التحوّل في رؤيا الشاعر للواقع الذي يعبّر عنه، وتشكّل جزءًا أساسيًّا في تمثيل تجربته الشعريّة، فالتحوّل الذي طرأ على شعر محمود درويش، يمثّل الانتقال من رؤية الحدث إلى أثر الحدث، ومن التفاعل المادّيّ مع الفعل إلى استشرافه وتأمِّله، ومن الحضور إلى الغياب. قد يكون ذلك تطوّرًا أساسيًّا عند كلّ شاعر كبير، لكنّ درويش مزج بين الخاصّ والعامّ؛ بين جرحه وجرح شعبه؛ بين موته الذاتيّ وبين موت شعبه. وكان الصراع بين الأيديولوجيّ والجماليّ هو شغلُه الشاغل؛ أي كيف يوازن بين معطياتِ القصيدة الحاضرةِ في المكان والزمان، وبين تحويلِها إلى مشروع جماليّ يتقدّم فيها الفنيّ، ويتوارى فيها الآنيُّ الشفّافُ عن الواقع.

*ملاحظة:

هذه مقدمة طلبها منّي شهيد الثقافة العراقية الراحل "ناظم السعود" لآخر كتبه قبل رحيله.

ناظم : "جئت الى الدنيا بلا إسناد اجتماعي، وبلا غطاء اقتصادي"

(أمام هذا الاحتفال الذي يذكّرني بأيام الشباب التي ولّت بلا أسف، أجدني ازداد حيوية وتصبّرا فانا  أقابل إخوة وأصدقاء وزملاء عشت معهم لأكثر من ثلاثين عاما. وهذه هي عائلتي الحقيقية. وهذا هو ظلي الذي سيبقى في الأرض من بعدي. الانسان لن يموت ما دام الآخرون يتذكرونه، لن يمّحى من الذاكرة ما دام هناك من يلهج باسمه. ماذا أريد من زماني - أنا  الفقير - وقد جئت الى الدنيا بلا إسناد اجتماعي، وبلا غطاء اقتصادي؟ لكنني غنيٌّ بكل هذه القلوب المُحِبة، القلوب التي تُظهر مودّتها لي دائما حتى وأنا اقيم الآن في قرية تتبع ناحية تتبع قضاء من كربلاء. لكني رغم كل الجور الاجتماعي والظلم الجغرافي سعيدٌ لأن المنهج الذي رسمته نجح)

                                                                    ناظم السعود

                                                            منتدى المسرح - 2011

* رحلتي رحلة طويلة.. أوشكت على النهاية حياتيا او صحفيا

(1). اجتاحني شعور عميق بالمرارة وأنا أختم قراءة مخطوطة كتاب أخي الأستاذ ناظم السعود الجديد: "المدوّنة الحادية عشرة: أقباسٌ من  كتاباتي الصحفيّة". فبين ثنايا معانيه المستترة إحساس حارق بالإحباط والنقمة برغم تفاؤلية السعود المعروفة والظاهرة في مقالات هذا الكتاب وغيره بل وفي مسيرته الحياتية – المهنية والشخصية - الطويلة. ولكن إحساس المحلل النفسي غير إحساس الفرد وحتى المثقف العادي. فروح التحليل الناجح يتأسس على هذا الشعور بما هو متخفّ بين عبارات الكلام الملفوظة وخلف جمل السطور المكتوبة من أحاسيس كثيرا ما تخالف النبرة المعلنة، بل قد تنسرب من خلالها. ولكن المشكلة أن هذا الشعور قد يكون مُسقطاً منّي فيجعلني أقرأ رسالة وداع تلوب، أصلا، في أعماقي. هذه الرسالة تململمت مع تقدّمي في قراءة المقالات ثم اشتعلت وأنا أستمع لناظم وهو يقول في حفل تكريمه في منتدى المسرح عام 2011  :

(رحلتي رحلة طويلة.. أوشكت على النهاية حياتيا او صحفيا فلكم الشكر من قبل ومن بعد !).

(2). ولكن لهذا الشعور بالمرارة وجها إيجابيا، فهو شعور بنّاء، فقد وفّر الطاقة النفسية التي جعلت قلم ناظم مبضعاً ينغرز عميقا في لحم المشكلات الثقافية من أجل استئصال أورامها المؤذية لا من أجل تمزيق النسيج الحي فيها ومن حولها كما يفعل، للأسف، الكثيرون من النقّاد الذين ينفثون سموم أنفسهم المحتقنة تحت أغطية عملية النقد الملوّنة الخادعة. عرفت ناظم منذ أكثر من ثلاثين عاما كاتبا وإنسانا بلا عُقد ولا احتقانات ولا سموم نفسية. وهي من الحالات النادرة التي أراها في حياتي وفي عملي العيادي النفسي وفي منهجي النقدي.   

* لأول مرّة يجامل الحكومة الحقيرة

وهذه النفس الصافية – بل البريئة - ولأكن أكثر تطرفا وأقول : الطفلية البيضاء، متصالحة مع ذاتها. وهذا التصالح يتعبه بطبيعة الحال ، لكنه يمنحه في الوقت نفسه وعبر ضريبة "التعب" الاجتماعي هذه، قدرا عاليا من المصداقية التي حين يخالفها يكون هو أول من يشعر بهذه "الخطيئة" فنجده سرعان ما يرفع – وبلا تردّد – راية "الاعتراف". وهذا ما حصل حين بدأت بقراءة المقالة الثالثة من مخطوطة الكتاب: "زهير القيسي وفهد الأسدي ومحمد الخفاجي وهادي الربيعي: أربعة فتحوا عاصمة الثقافة !" وتحسست

روحا "مجاملة" بعيدة عن النهج "الستراتيجي"؛ الحياتي والنقدي، لأبي أسعد، ناظم الجسور. فمن هي هذه المؤسسات الثقافية الرعناء الكذّابة الجاهلة المنحطّة التي يحاول ناظم بتاريخه العريق والمجيد تبييض صفحتها؟ هؤلاء المثقفون الكبار الأربعة لا يصل سياسيو الثقافة إلى كعب أحذيتهم. هؤلاء المثقفون الأربعة كلّهم ماتوا بسبب إهمال المؤسسات الثقافية لهم. في نفس هذه المخطوطة يكتب ناظم مقالة يشرح فيها همومه وضياعه بل الإهانة التي واجهها في مستشفى ابن البيطار وهو يحمل كتابا من وزارة الصحة لرعايته!! يقول ناظم:

  "وأصارحكم أنني ربطت الحال المتخلف الذي شهدته عيانا وحالات تفشي العلل وتعدد الوفيات بشكل مخيف لكثير من الأدباء والمثقفين الذين ودعناهم تباعا: أليس من العجيب أن أسماء عزيزة على الثقافة العراقية رحلت عن هذه الحياة خلال اسابيع معدودة وجميعها اشتكت تفاقم أوضاعها الصحية وتكالب أوجاعها من جراء رقودها او مراجعاتها للمستشفيات العامة: زهير أحمد القيسي، فهد الأسدي، محمد علي الخفاجي، هادي الربيعي ..  أربعة من كبار أدباء العراق فقدناهم في مدد متقاربة ويشتركون في مصير جامع هو أنهم جميعا ضحايا النظام البيروقراطي وغير الإنساني المهيمن على المستشفيات العراقية!"

ولأول مرّة في تاريخنا الثقافي أسمع – وللأسف من ناظم - أن موت مبدعينا سببه تدهوّر الأوضاع في المستشفيات الحكومية. نحن المثقفين الذين عايشنا آلام القيسي والأسدي والخفاجي والربيعي – وقبلهم العشرات من المثقفين الراحلين- نعرف كيف ماتوا وما هو سبب موتهم. إنه الإهمال الرسمي وليس تدهور المستشفيات الحكومية. هل إنشاء مستشفى للمبدعين وهم ثروة العراق أمر مستحيل وسط هذه المئات من مليارات الدولارات المهدورة؟ ثم أن ناظم يقول:

"كنت أدبّ بصعوبة حاملا في صدري جلطتين والثالثة اسمها فقر دائم"

فهل المستشفيات الحكومية هي المسؤولة عن فقر علم عراقي مبدع مثل ناظم السعود؟ هل المستشفيات الحكومية هي التي قامت بنفي – نعم أقول "نفي" وبلا تردد – ناظم إلى قرية في أطراف كربلاء؟ هل المستشفيات الحكومية مسؤولة عن ضيق ذات يد المبدعين وعدم توفر سكن لائق بهم؟

مرّة قال أحد المثقفين الأمريكيين: "من كل شارع ومقهى وحانة استطيع أن آخذ أشخاصا وأدرّبهم ليعملوا كسياسيين ولكنني لا أستطيع تدريب شخصا واحدا ليصبح مبدعا". وعندما سُئل : لماذا؟ أجاب: العمل السياسي يتطلب اتقان موهبة الكذب. أما الإبداع فنبوّة وموهبة من السماء". السياسي كائن أرضي فاني ومنحط والمبدع كائن سماوي خالد، ولهذا يحقد السياسيون على المبدعين أو يتظاهرون بصداقتهم ودعوتهم على العشاء للاحتفاء بهم كدمى والحصول على بركاتهم أمام الجمهور.

* صاحب الضمير الحيّ يتراجع عن المجاملة

(3). هذه "المجاملة"، سرعان ما يشعر بها ناظم السعود نفسه ولا ينتظر من أحد أن ينبهه إليها. والسبب هو أن ناظم صاحب ضمير حي قل نظيره، فنراه يقول في نفس تلك المقالة:

 "لقد لامني كثيرون على ما نشرته وبشّرت به حول افتتاح العاصمة الثقافية وما تضمنته من احتفاءات خاصة بـ " الأقمار الأربعة " بدعوى انه يدخل في باب " الدعاية المؤسساتية"! وهم لا يعلمون ان صاحب السطور ، على امتداد عمره المهني ، كان لا يهمل أية اشراقة ولو كانت بصيصا خجولا إلا وأشار إليها وذاد عن فرصتها فكيف ونحن أمام مهرجان كبير ومحفل مكتنز ببرامجه وخططه وتفاصيله؟!"

·       المثقف العراق المُحتقر يبيّض صفحة محتقريه

وهنا لا بُدّ لي أن أتدخل وأحذّر إخوتي المثقفين من سلوك يقوم به أغلب المثقفين العراقيين منذ عشرات السنين وهو الإحتفاء بأي نشاط إيجابي تقوم به المؤسسة الرسمية وكأنه هبة نازلة من السماء ناسين إهمال هذه المؤسسة التاريخي للمثقفين – ومنهم ناظم - حتى الموت واحتقارها للثقافة وحتى سجنها وإعدامها للمثقفين منذ تأسيس الدولة العراقية.

لماذا يهرول المثقف العراقي ويصفّق لأن السياسي الفلاني والمؤسسة الفلانية قامت بعمل إيجابي؟ إنّه يقوم بتبييض صفحة هذه الجهات السوداء ولا ينظر إلى هذا العمل كرشوة للتغطية على التقصير في واجباتها؟ ما معنى أن نصفّق لطبيب جرّاح يجري عملية واحدة بنجاح وهو كل عمره يفشل في العمليات وأحيانا يقتل المرضى أو يهملهم حتى الموت؟

إن الحكومات المتعاقبة التي تحتقر المثقف تحصل على التزكية من المثقف العراقي المُحتقَر نفسه عندما يهرول ليشارك في انشطة حكومة تحتقره ثمانين سنة وتقدم له الحلوى في مناسبة لساعات أو أيام.

* على المثقف العراقي أن لا يقنع بالرشى العابرة من الدولة

(4). يجب على المثقف العراقي أن ينظر إلى المؤسسة الرسمية كجهة مقصّرة بحقه وبحق الثقافة وكخادم له ولإبداعه ، ويتابع وينتقد ما تقوم به إلى أن تصبح "ثقافية" كل السنوات وكل المراحل وليس في مهرجان أو حفلة أو لقاء ؟؟

على المثقف العراقي أن ينظر إلى أي نشاط وقتي للمؤسسة الثقافية على أنه "رشوة" و "خدعة" وقتية ستحصل منه على التزكية من ضحيتها المثقف نفسه لتعود بعده حليمة الفاسدة إلى عادتها القديمة المعروفة.

·       مواطنو المغرب يعرفون السيّاب ونازك والجواهري أكثر من رئيس الجمهورية العراقية

من يعلّمنا ذلك؟ إنه الصحفي المجاهد "ناظم السعود" نفسه.

فأغلب مقالات الكتاب المقبلة هي إعلان جارح وجسور عن فساد المؤسسة وضياع المثقف والثقافة في بلد علّم الدنيا كلها وكان عبر تاريخه منارة الثقافة بجهود مثقفيه الذين كانوا يشرّفون الحكومات بحضورهم ومنجزهم وسمعتهم الخارجية وليس بجهود وزارات الثقافة. الجواهري والرصافي والسياب كلهم لم تصنعهم الدولة أو المؤسسة الرسمية بل احتقرتهم وسجنتهم وافقرتهم. هم الذين شرّفوا الحكومة عبر تاريخها وليس العكس. واذهب إلى أقصى المغرب العربي واسأل عن شخص اسمه الجواهري أو السياب أو نازك وآخر كان وزيرا في حكومة عراقية، أو رئيس وزراء عراقي وحتى رئيس جمهورية ستجد أن لا أحد يعرف الأخيرين هناك في حين تجد المئات يعرفون مبدعي العراق! اسأل مواطنا في موريتانيا على سبيل المثال مَنْ يعرفْ أكثر: السيّاب أم السيد الرئيس فؤاد معصوم مع كامل احترامي للسيد الرئيس؟ سيقول لك أنه يعرف السياب وأنشودة المطر وسيقرأ لك مقاطع منها.

يقول الشاعر الراحل "محمد جواد الغبان" في كتابه "الجواهري فارس حلبة الأدب" إنّه كان حاضراً سهرة جميلة امتدت حتى الفجر على شرف شاعر العرب الأعظم الجواهري في بيت أحد الأساتذة الجامعيين في بغداد. وكان الجواهري نجم الدعوة المتلألىء كالعادة. وبعد أن قرأ قصيدته الرائعة "فارنا" وهزّ الحاضرن بشعره وإلقائه ، قام الأستاذ صاحب المنزل والدعوة واتجه إلى الجواهري ليصافحه، فقام الجواهري ومد إليه يده، وإذا بالأستاذ وعلى حين غرة يأخذ يد الجواهري ليقبلها، وحين أحس الجواهري بذلك سحب يده بسرعة قائلا له : (أستغفر الله يا أبا فلان)، ولكن الأستاذ أصرّ على تقبيل يد الجواهري إعجاباً به والجواهري يتدافع معه ويصرّ على الامتناع، والحاضرون يصفقون إعجابا بتلك الصورة الباهرة وذلك الموقف المثير، وحين لم لم يترك الأستاذ إصراره لم يجد الجواهري بُداً من أن يصيح بأعلى صوته بالأستاذ الممسك بيده قائلاً له : ويحك يا فلان ما قيمة تقبيلك ليدي، نعال، وهات يدك لكي أقبلها أنا، فتكون يدك عندئذ أول يد يقبلها شاعر العرب الأكبر الجواهري في حياته، وهذا أمر سيجعلك تدخل التاريخ يا أستاذ من أوسع أبوابه، فضج الجميع بالتصفيق وأمطروا وجه الجواهري بالقُبل تقديراً لهذا التصرف العظيم الرائع والعفوي البسيط للجواهري. 

هكذا يعلّمنا الجواهري . وهكذا يقدّم ناظم السعود الدرس بعد الدرس على صفحات مخطوطة كتابه هذا:

·       منذ وفاة السياب عام 1964 لم تنشىء له الدولة متحفاً أو ترمّم بيته

# مقالة "في خمسينية السيّاب : يستذكرونه ... ونلعنه " حيث يقول ناظم:

  " لكم ان تتخيلوا العجب - او حتى الفضيحة الكبرى - معي ذلك ان اتحاد الإمارات هو الذي قدم مقترحا لنظرائه العرب للاحتفال بخمسينية شاعرنا السياب وليس الاتحاد العراقي الصامت الذي يعيش غيبوبة كاملة فلم نسمع له تعليقا او توصية او مبادرة"

ثم يتساءل :

"هل أنهم أقاموا – هنا في بغداد او هناك في البصرة – متحفا يضم مؤثراته ومقتنياته وابداعاته العديدة ؟ أين بيت السياب الموعود ؟ اين يذهب السياح اذا قصدوا البصرة وأرادوا رؤية منزل رائد الشعر العربي الحديث ؟!. وتكبر بي الغصة وربما يتكدر مريض مثلي ازاء اسئلة يجهر بها كل عام دون ان يجد اجابة شافية . كما أن الإجابة المسبقة تنبجس من ايحاءات الخبر المذكور الذي يمد لسانه لنا فيقول بقصدية واضحة " ...  وانطلاقا من ذلك نظم اتحاد كتاب وأدباء دولة الإمارات العربية في أبو ظبي أمسية شعريّة أدائية؛ هي باكورة البدء بالاحتفاء بمرور 50 عاماً على وفاة الشاعر الرائد بدر شاكر السياب (25 كانون الأول 1926 ـ 24 كانون الأول 1964)، أحد أهم مؤسّسي الشعر الحرّ في الأدب العربيّ. وقد كان سبّاقا بهذا الاحتفال قبل كل الدول العربية حتى موطنه ..."!.

"لن اقدم هنا مزيدا من النبش والعرض والمقارنة , ولكنني كتبت قبل ست سنوات او يزيد في مناسبة كهذه ما نصه: " .. عقود متكالبة لم تنجح في دفع المسئولين المحليين أن كان في بغداد العاصمة أم في بصرة  الولادة بإنشاء ولو متحف صغير يجمع عظام السياب وأنفاسه وأصداء كلماته للأجيال  المحاصرة أو الخارجة من كهوف الحكومات ولم تنفع النداءات والاستغاثات بدفع حكام البصرة وبغداد في إعادة الروح لأطلال بيت السياب المتهاوية ولا إغاثة نهر ( بويب ) بجرعة ماء الله فبقي منسيا وآفلا .....أما ( بيت جدي ) و ( شناشيل ابنة ألجلبي ) فبقيا طيفا في عيون المحبين وقراء تراث السياب ولم تمتد يد خيرة أو متبطرة أو باحثة عن الوجاهة في جر الذكرى من السديم وجعلها حية تسعى في جغرافيا أبي الخصيب  ..".. وقد لا يجد هذا النداء صدى عند اصحاب الكهف!) (انتهى حديث ناظم).

·       لا توجد في العراق لا دولة مثقفة ولا دولة ثقافة   

# مقالة "الحكومة والـ " تحولات" : من البؤس ..  إلى المواجهة "، وفيها ينفي ناظم وجود دولة في الثقافة فيقول:

(ان ما نلحظه هو وجود فاعل لطرف واحد (المثقف الفرد) وغياب فاحش للطرف الثاني (المؤسسة الحكومية) بمعنى ان ثقافتنا تقوم وتظهر بل وتعمق وجودها وخطاباتها الفكرية والأدبية والجمالية استنادا الى قواها الداخلية  (...) وأصارحكم أنني عشت سبعة عهود كاملة لم اجد في أي منها اهتماما يذكر بالثقافة : مفهوما ومضامين وعناوين ، بل كنت اجد الهموم الثقافية وشجون المثقفين تتراكم وتعلو كالجبال حتى ما عاد نظري الكليل يحيط بها ولم اشعر يوما ان هناك مسؤولا واحدا او جهة بعينها تهتم بإيجاد الحلول او تسعف المثقف المبتلى بنظرة منصفة تفهم ما يريد وتمهد له دروب إبداعاته او تزيل عنه الفخاخ وما أكثرها !).

# مقالة "هل أتاك حديث (المكتبة المركزية) ؟!"، حيث يقول :

(وفي التحقيق ثمة ما يخجل ويخدش الذات الثقافية والوطنية.. هناك تفاصيل عن الحال الفاجع الذي يوشّح المكتبة المركزية بأسوأ المظاهر وأكثرها خزيآ وإدانة، وهنا أسأل ولا انتظر جوابآ: هل هناك حالة موجعة أكثر من أن تعيش المكتبة حالات من الظلام (السرمدي) بسبب انقطاع التيار الكهربائي عنها؟! ..وهل نصدّق أننا في القرن الواحد والعشرين ونجد اكبر مكتبة علمية وثقافية في العراق وقد أثقلت كاهلها الأوساخ وسخام الحرائق والأتربة المتراكمة حتى أن المطالعين والموظفين يستخدمون كفوفآ واقية ومصابيح يدوية للتجوال في العتمة بحثا عن كتاب أو مرجع او أطروحة علمية ؟) .

ويختمها بالقول : (واذا كانت حجة (المسؤولين) في وزارة التعليم تعود دائما الى ضعف (التخصيصات المالية) فأنا اقولها واكتبها مرارا بأننا نفتقد الى شئ واحد اسمّيه ( التخصيصات الأخلاقية) ..وذلك هو رأس البلاء!!).

·       دولة تحتقر الثقافة والمثقفين

# مقالة "هذا الكلام خطير .. فاحذروه !" ، وفيها يشير إلى احتقار المثقف العراقي وإهماله وعدم دعوته للمشاركة في كتابة دستور البلاد: (استذكرت على الفور ما حدث في بلادنا من محنة مماثلة تخص (استبعاد المبدعين والمثقفين من اللجنة التأسيسية لوضع الدستور الجديد) وكيف ان الذين تم اختيارهم لمسؤولية كتابة الدستور استبعدوا أي ناشط ثقافي سواء أكان أديبا او كاتبا او فنانا من اللجنة المخولة بكتابة الدستور.. يومها كتبتُ مقالا غاضبا عنونته هكذا ( المثقف المحنط بين الأخضر الإبراهيمي وفؤاد معصوم !) إشارة الى الاسمين المكلفين باختيار الأسماء لكتابة الدستور وذكرت فيه ان المثقف العراقي مبعد تماما منذ عقود وعهود عن أية اسهامة او ارتباط بالفعل العام بسبب تجاهل مقصود جاء أولا من العهود الحاكمة" (...)  "نعم ، تم في وقتها استبعاد أي مثقف إبداعي عراقي من المشاركة في كتابة الدستور ففي أية مراجعة جادة لمحتويات الدستور الحالي نكتشف حجم الشحوب الثقافي بل لا يمكن الادعاء ان هناك مادة او فقرة واحدة أشارت الى الثقافة والمثقفين او حتى انتبهت لوجودهم في المجتمع بعكس بقية الكائنات والقوى الظاهرة والمستترة).

·       تكاثر "فقراء الثقافة" وتناسلهم

# مقالة "فقراء الثقافة ... و قانون سكسونيا!" حيث يقول :

(ومن جراء تقادم الممارسات المهمشة والنظرات القاصرة تكاثرت جموع ما اسميهم ( فقراء الثقافة) الذين وجدوا أنفسهم مبعدين عن أية واجهة وليس هناك من إسناد حقيقي يقيهم غول العوز و عسف الحاجة و ذل المرض، وأكثر من هذا إنهم وجدوا وزارة بأسمهم وضعت في أسفل الاهتمام الحكومي حتى قال احد وزرائها صراحة أن ميزانية الوزارة لا تكاد تكفي رواتب لموظفيها (!)  ثم صعقهم تصريح منسوب لأحد البرلمانيين بعد أن أحيلت، بطريقة المحاصصة، وزارة الثقافة ( كحصة إلى كتلته) فقال قولته المشهورة التي ستدخله التأريخ (أعطونا وزارة .. تافهة)..".

وهناك الكثير من المقالات التي يمكن للسيّد القارىء مراجعتها في هذا الكتاب ليجد مبضع السعود، لا قلمه فقط، يخز الجراح النائمة بجسارة وشجاعة هي التي تعودناها منه عبر عقود طويلة. هذا هو ناظم السعود الذي أعرف منذ أكثر من ثلاثين عاما. ومن بين هذه المقالات:

#المثقف وسؤال العاصمة : من ألَصدمة الى القَباحَة !

#حديث عن محنة شرائح المثقفين المستمرة !

#درس من غواتيمالا!!

#العراق بلا نشيد وطني !

#وصية شكسبير :حافظوا على بدري حسون فريد !

#كاظم الحجاج : الكهرباء .. الاعتكاف .. ثم الرضوخ !

#لا تدفعوا مجلة ( تشكيل ) الى مصير معروف !

#درس مجاني لمن يريد أن يتعلّم! 

#من طرد العبقرية العراقية ؟!

وغيرها الكثير.

* رائد الدعوة للإسناد الثقافي

(5). وهناك سمة ثقافية إنسانية حاسمة في سلوك ناظم السعود الثقافي تلازم سمة الحزم والجرأة والجسارة في تشخيص المعضلات الثقافية، وهي ما اصطلح هو على تسميتها بـ "الإسناد الثقافي". ففلسفة ناظم الثقافية تقوم في جانب مهم منها على أهمية دور فصيل الصف الثاني الذي تُطلب منه التضحية والصبر بل الحنو في تعهّد الأصوات الجديدة التي تدفعها نحو مواقع الصف الأول . من دون هذا الموقف التربوي والسلوكي تموت الثقافية ويجف نسغها. كثيرة هي الأصوات التي تعهدها ناظم بالرعاية حتى استوت على سوقها قامات إبداعية مهمة ومؤثرة في بستان الثقافة العراقية الآن (بعضها تنكر له في محنته). يقول ناظم موضحا هذه "الستراتيجية" الثقافية :

( أنا انظر الى العمل الثقافي على انه خطان متوازيان، الخط الأول : المبدعون، أي الناس الذين يعملون في الإبداع من قصاصين الى شعراء الى نقاد، والخط الثاني : المسندون، الذين عملهم الأساسي إسناد الخط الأول، لا ان يكونوا بمعيتهم او يتنافسوا معهم، والاسناد هنا لا يعني ان (تطبطب) على أكتافهم بل بالنقد والتوجيه والنصح وهو جزء من الإسناد، فإذا ما اخطأ المبدع فعليّ توجيهه الذي هو نوع من الإسناد له، وانا وجدت العديد من الشباب خلف الكواليس ومددت لهم يدي البيضاء الساندة لكي انقلهم الى منطقة النور، وللأسف، في الثقافة العراقية يوجد الخط الأول، ولكن الخط الثاني فيه قلة أو ندرة في الساندين، عشت في مصر سنة وربع السنة اطلعت ميدانيا على الصحافة والثقافة وكيف تسند المبدعين في الصف الأول، وهذا شيء عملة نادرة عندنا في العراق، والسبب ان كل من يكتب يريد ان يكون في الواجهة، ولكن هذه الواجهة تحتمل الكثير، لا ينبغي ان امجد الأنا لكي استقطب النور لوجدي، بل المفروض أن استقطب الأنوار للآخرين، وهذا ما اسميه الإسناد الثقافي ).

يعمل الكثير من الكتّاب والنقّاد عندنا على طريقة "قومي رؤوس كلّهم .. " كما قال الراحل علي الشرقي.

ولو قرأت مقالة : "شرايين جديدة في الصحافة الكربلائية !" لتلمست عمليا مقدار الإيمان والجهد والتوثيق والصبر ومسؤولية التعهّد في مجال رعاية الأصوات الصحفية الجديدة. كما تكشف لك مقالة: "اكتشاف ناقد وسط غابة من الكتب والاوهام والأشتات!" الأبعاد نفسها في حقل آخر هو العمل النقدي الأدبي.

* ناقد أدبي يكتب مقالة مفهومة لا ألغاز

 (6). وقد ضم الكتاب مقالات كثيرة أخرى تعكس عمل ناظم السعود كناقد أدبي في مجالات السرد؛ قصة ورواية وفن مقالي، والشعر. وتهمني الإشارة هنا إلى سمة مهمة هي أن ناظم السعود – وأنا مثله واسمحوا لي بهذه اللمسة النرجسية – هو من النقاد القلائل الذين يكتبون نقداً "مفهوما" بعد أن اكتسحنا طوفان الحداثة وما بعد الحداثة النقدية الغربية وأوقع نقادنا – خصوصا الشباب – في مصيدة الإسراف في اللغة المتعالية metalanguage حتى أصبح النص النقدي يحتاج ناقدا يشرحه لنا. مقالات ناظم النقدية ممتعة وحوارية ومفهومة. خذ على سبيل المثال لا الحصر مقالات مثل:

# أحمد ألجنديل:  تمنطق بالقناع واستغاث بمملكة الحيوان!

 #افتراس  ": استحلاب ممض لأيام الوجع !  

#وهل هناك" ضفاف سعيدة " في العراق ؟!

#عشرة اعترافات في مجموعة شعرية !!

#نعيم الصيّاد : يستذّكر الحرب في ديوانه ألأول

#علامتان  في سرد  " جاسم محمد صالح": البطولة .. أنسنة الحيوان !

وغيرها الكثير.

* بطل ماراثون الثقافة العراقية المجاهد

(7). في عام 1999 أو عام 2000 (لا أتذكر التاريخ بالضبط) كنتُ عسكريا في جبهات القتال، وجاءني من يخبرني بإقامة حفل تكريم لناظم السعود في حدائق اتحاد الأدباء ببغداد وأن اللجنة المشرفة على الحفل (وهي مستقلة لا تتبع أي جهة وقامت بالحفل بمبادرة شخصية) تطلب منّي كلمة بهذه المناسبة. فأرسلت كلمة قرأها نيابة عنّي أخي الشاعر المبدع "سلمان داود محمد" وانبرى أحد رؤساء تحرير الصحف المشهورين آنذاك وهو (ا. ص.) للاحتجاج دفاعا عن النظام وعن "الأستاذ" برغم عدم مساسي بهما في الكلمة وكاد يوقعنا في براثن السلطة ويتسبّب في سجننا ، وهو الآن يصول ويجول على شاشات الفضائيات كمقاوم ضد النظام السابق (شلون عدنه مثقفين سفلة)!!. قلتُ في تلك الكلمة :

(لا أدري لِمَ لمْ يحفظ المؤرخون اسم الجندي الفرنسي الذي قطع عشرات الكيلومترات ركضا – تصوّروا ركضاً - كي يُبلغ الامبراطور (نابليون) بشرى النصر في إحدى المعارك:

 قال له نابليون :

-انت جريح .

فقال الجندي:

-أنا ميّت .

ثم سقط ميتاً .

وذكّرت بالجندي اليوناني الذي ركض المسافة التي سُمّيت لاحقا ماراثون لينقل خبر انتصار جيشه إلى سكان مدينته ثم يسقط ميتا ، وقلت أن ناظم السعود يقاتل ثقافيا بهذه الروح الشامخة المتعالية من أجل هدف عظيم هائل اسمه "شرف الثقافة".. وأن موته مؤجل بانتظار الوصول الكبير وتبليغ الرسالة وتسليم الأمانة، وسوف ينتصر في وجداننا ويخلد في ذاكرة الثقافة العراقية العظيمة التي ينحتها المبدعون الشرفاء لا المؤسسات الكسيحة..

تحية للصحفي المجاهد "ناظم السعود" وهو يقدّم نتاجه الثقافي والتربوي الجديد .. متمنيا له الصحة الدائمة والإبداع المتجدّد.

المزيد من المقالات...