clip_image001_6e75d.gif

 هو الشاعر الإسلامي الكبير عبد الله بيك الشيخ عيسى السلامة القاصّ ، والمفكر المعروف الذي أصدر خمس دواوين شعرية، وخمس روايات، ومجموعة من القصص القصيرة ، والبحوث والمقالات.. كما حصل على مراكز متقدمة من مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين، وتجمع شعراء بلا حدود، وحصد جائزة شاعر عكاظ عام 1430هـ/2009م..

 يعد شعره في مستوى فني راق ، فهو جزل الأسلوب، متين العبارات، فصيح الألفاظ ، واسع الخيال، جمله متماسكة يشدّ بعضها بعضاً، ويأخذ بعضها برقاب بعض ...

المولد والنشأة :

 والشاعر الإسلامي أبو ياسر (عبد الله عيسى السلامة ) من مواليد عام 1944م في قرية الحديدي، التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى رجل سكنها، ودفن فيها، من قبيلة (الحديدين) المشهورة، وكانت تسمى قبل ذلك (الناعورة)، يزيدُ عددُ سكانها على ألفي نسمة، تعتمد على زراعة القطن والحبوب وزراعة الأشجار المثمرة والزيتون، وهذه القرية تابعة لناحية (الخفسة) القريبة من مطار (الجراح ) العسكري، والتي تبعد حوالي / 100/ كم شرقي حلب، و30كم عن مدينة منبج ، وكانتْ من أوائل البلدان التي ثارت على طاغية الشام، وتتابعَ على السيطرة عليها الجيش الحرّ، ثم تنظيم الدولة الإسلامية، ثم عاد إليها النظام، بعد أن دمرها بالطيران والصواريخ، وهجر أكثر من ألف أسرة، وتتبع إدارياً لمنطقة (منبج) مدينة الشعر والشعراء التي أهدت إلى العالم : الشاعر الكبير (البحتري)، ودوقلة المنبجي، وعمر أبو ريشة، ومحمد منلا غزيل، ويوسف عبيد المحيميد، وعبد الله عيسى السلامة ..وغيرهم كثير، وتقع منبج في الريف الشرقي لمحافظة حلب في سورية .

ونشأ شاعرنا الحبيب في أسرة ريفية مسلمة محافظة، تنتمي إلى قبيلة (الولدة) إحدى فروع (البوشعبان)، والتي ترجع إلى قبيلة (زبيد) في اليمن، فوالده (الحاج عيسى ) كان ممن تعلم القراءة والكتابة في كتاتيب القرية، وكان مختاراً في قرية الحديدي في الستينات قبل استلام البعث مقاليد السلطة في سورية، ينظم الشعر النبطي، فتوجه ذلك الوالد للعمل في الأرض الزراعية التي ورثها عن أبيه، وتوفي في أواسط التسعينات من القرن العشرين - رحمه الله تعالى رحمة واسعة - .

 وأما الوالدة ( دلّة ) فهي ربة منزل، أمية لا تعرف القراءة والكتابة، حفظت الفاتحة وبعض السور القصيرة لقراءتها في صلاتها، تنتمي إلى قبيلة (الناصر) إحدى فروع (البوشعبان) ، وقد توفيت الوالدة الفاضلة – رحمها الله – في عام 2004م .

وعاش الشاعر بين إخوته الذين بلغ عددهم سبعة ذكور، وهم :

-عبد اللطيف، ومحمد (توفي) ، والمحامي عبد الإله الذي ينظم الشعر، وسعد الله، والمهندس عبد السلام الذي يحمل أربع شهادات ماجستير من جامعات ماليزيا، وحميدي .وترتيب الشاعر هو الثالث بينهم .

 وله ثلاث أخوات تعلمن القراءة والكتابة على يد الشيخ المعلم الفلسطيني ( عبد الغني سليم).

دراسته ومراحل تعليمه :

درس عبد الله عيسى السلامة مبادئ القراءة والحساب وتلاوة القرآن على يد المعلم الفلسطيني ( عبد الغني سليم ) في قرية الحديدي .

ثم درس المرحلة الابتدائية في قريته، وحصل على شهادتها، وكانت تمنح في الصف الخامس عام 1955م ..وكان يدرسه في تلك الفترة المبكرة من العمر معلم فلسطيني ( عبد الغني سليم ) هاجر بعد الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين عام 1948م .

-ثم درس المرحلة الإعدادية حيث دخل في الصف السادس ( الأول الإعدادي ) في مدينة منبج عام 1956م .

-ثم أكمل دراسة الصف السابع والثامن والتاسع في إعدادية (سيف الدولة ) بحلب في الأعوام 1957- 1959م .. وكان يدرسه في تلك المرحلة الأستاذ محمد علي الهاشمي رحمه الله قبل أن يحصل على الدكتوراه، وينتقل إلى التدريس الجامعي .

وكذلك تلقى العلم على يد الأستاذ محمود فاخوري الذي انتقل بعد ذلك للتدريس في جامعة حلب .

ولا ينسى الشاعر فضل أحد أساتذته في تلك الفترة ألا وهو محمد سعاد السمان رحمه الله .

وبعدها انتقل إلى ثانوية (هنانو)، فدرس الصف العاشر في العام الدراسي 1960- 1961م.

ثم درس الصف الحادي عشر في ثانوية (الرائد العربي) في حلب عام 1961- 1962م .

وحصل على الشهادة الثانوية (الفرع الأدبي ) من ( المعهد العربي الإسلامي ) في حلب عام 1962- 1963م.

ومن أبرز أساتذته في المرحلة الثانوية هو الأستاذ الدكتور محمد فاروق بطل -حفظه الله- .

وكان مستواه العلمي جيداً في كافة مراحل الدراسة، ولا سيما في مادة اللغة العربية التي عشقها، وأحبها، وأبدع فيها، وكان من زملاء دراسته في المرحلة الإعدادية والثانوية: يمان عمر الأميري، والمدرّس محمد عطا جذبة، والمنشد المتألق (محمد أمين الترمذي) .

- ثم انتقل عام 1964م إلى دمشق لإكمال دراسته، وقد حصل في السنة الأول على درجة جيد جداً، فنالَ منحة مالية جيدة، وتابع تفوقه حتى حصل على شهادة الليسانس في الآداب، قسم اللغة العربية، من جامعة دمشق عام 1968م.

ونهل العلم على أيدي أساتذتها، وكان من أبرزهم :

1-الأستاذ سعيد الأفغاني (1909- 1997م) : نحوي بحاثة، ولد في دمشق، من عائلة ترجع في أصولها إلى مدينة (كونر) في أفغانستان، درس عليه عبد الله عيسى السلامة ( النحو والصرف) .

2-الأستاذ أحمد راتب النفاخ ( 1927- 1992م): عالم في الفقه والقراءات والتفسير والحديث واللغة والنحو والصرف والشعر وغير ذلك من علوم الدين والعربية ، ولد في حي الصالحية في دمشق ، وأسرته معروفة بسمو الأخلاق ورفعتها، وقد درس عبد الله السلامة عليه (الأدب الجاهلي) .

3-الدكتور شكري عمر فيصل ( 1918- 1985م ): ولد في حي العقيبة في دمشق لأسرة فقيرة، جاء أبوه من حمص إلى دمشق قبل الحرب العالمية الأولى ، حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة فؤاد الأول ( القاهرة الآن) درس السلامة عليه (النقد الأدبي) .

4-الدكتور عبد الكريم الأشتر ( 1927- 2011م ) : ولد في حلب ، وحصل على ليسانس في اللغة العربية من جامعة دمشق عام 1952م ، عين مدرساً في ثانويات حلب عام 1954م لمدة أربع سنوات، ثم حصل على الدكتوراه وانتقل إلى التدريس الجامعي ، وتوفي صباح الجمعة في 7 / 10 / 2011م ، وقد درس الشاعر عليه مادة (الأدب الحديث) .

5-الدكتور إحسان النص (1921- 2012م ) : من مواليد دمشق، درس الأدب العربي في مصر ، وعاد مدرساً في ثانوياتها ثم في الجامعة السورية ، درس عليه الشاعر ( الأدب الأموي) .

6-الدكتور مازن المبارك ( 1930- معاصر ) : من أسرة علمية مباركة، هاجرت من الجزائر مع الأمير عبد القادر الجزائري وسكنت دمشق ، عمل في التدريس في كلية الآداب ، ثم شغل منصب رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق ، تلقى الشاعر على يديه (فقه اللغة ).

7-الدكتور محمد أديب الصالح ( 1926- 2017م ): رئيس قسم القرآن والسنة في جامعة دمشق، وأستاذ أصول الفقه بكلية الحقوق فيها، ورئيس قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ورئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام، وقد درس عليه الشاعر عبد الله عيسى السلامة علوم الحديث.

8-الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ( 1929- 2013م ): ولد في جيلكا ، هاجر بصحبة والده إلى دمشق، درس في كلية الشريعة في جامعة دمشق، ثم أكمل دراساته العليا في الأزهر، عمل في التدريس، وصار رئيساً لقسم العقائد والأديان اغتيل عام 2013م، وقد درس الشاعر عليه علوم القرآن .

 وكان من زملائه المقربين في الجامعة: عبد المجيد القادري، والدكتور صلاح كزارة ..وغيرهما.

 وبعدها توجه عام 1984م إلى لبنان من أجل الدراسة، فحصل على شهادة ليسانس في الحقوق من جامعة بيروت العربية عام 1987م...ولم يكن يداوم فيها، بل كان يقدم الامتحانات في الجامعة الأردنية في عمان ..

أعماله والوظائف التي تقلدها :

 وبعد تأدية خدمة العلم برتبة ملازم مجند بين عامي ( 1969- 1972م ) عمل مدرساً في ثانويات مدينة حلب وريفها .

 ثم غادر سورية في أحداث الثمانينات من القرن الماضي، فعمل مدرساً في كلية المجتمع الإسلامي في الزرقاء، الأردن بين عامي / 1983- 1987م / .

دخوله السجن :

دخل الشاعر (عبد الله عيسى السلامة) في سجن الحلبوني بدمشق عام 1973م، لأسباب سياسية ، وعندما كان في المعتقل ترامى إلى سمعه نبأ وفاة الأستاذ المرشد (حسن الهضيبي) – رحمه الله -، فرثاه بقصيدة تحت عنوان: ( مشعل عزة)، ومطلعها :

(أتينا إلى الدنيا، فكنّا لها فجرا فقرّت بنا عيناً ، وطابت بنا ذكرا )

[1] - ثآليل في جبهة السامري : ص 23 .

clip_image001_40df5.jpg

clip_image003_74720.jpg

clip_image005_bcc78.jpg

تحاول الدكتورة سناء كامل الشعلان في مجموعتها القصصية الجديدة ((قافلة العطش))، أن تسجل معالم البادية والصحراء، بعلاقاتها وقيمها وأعرافها البدوية والقبلية، ولعل مجموعة ((قافلة العطش)) من المجموعات القصصية العربية المهمة التي تحتفي بالبادية وعلاقاتها وأعرافها، وهي لا تشكل صورة مشرقة لهذه البادية كما صورتها الكلاسيكيات الأدبية، إذ تصبح البادية عندها صحراء قاتلة، وفضاء طارداً لساكنيه، الذين بدورهم ينفرون منه و لا يرغبون بالعيش فيه، ومن ثمة يريدون تبديله بفضاء جديد أكثر إنسانية و حضارة وانفتاحا معرفيا صور الآخر بحسّه الجمالي والحضاري، وتحديدا صوب العلاقات المدينية التي ينتفي منها القتل و السلب والنهب واختطاف النساء. يقول الخطاب القصصي: ((كانوا قافلة قد لوّحتها الشمس، وأضنتها المهمّة، واستفزّها العطش، جاءوا يدثّرون الرمال وحكاياها التي لا تنتهي بعباءات سوداء تشبه أحقادهم وغضبهم وشكوكهم. تقدمّ كبيرهم، كان طليعتهم بالسن وبالكلمة وبالغضب، (...) قال(...): " جئنا نفتدي بمالنا نساءنا اللواتي أسرتموهنّ في غارتكم على مضاربنا" ص 9.

وإذا كان صوت البادية هو الصوت القوي السائد الذي يكرّس أعراف القبيلة و الدم والقتل والاختطاف على أحداث القصة الأولى(قافلة العطش) التي توسم المجموعة باسمها، فإنّ ثمة وعيا حادا لدى الشخوص لتغيير هذا الواقع وإحداث شرخ في بناه الفكريّة و المعرفيّة، وأعرافه القبلية. فبطل القصة يختطف امرأة جميلة يراها قمرا وحلما جميلا، وأملا، لا تتحقق سعادته إلاّ بالحصول عليها، ويخطف رجاله مجموعة من نساء القبيلة نفسها، عندها ـ وفقا لعادات القبائل وأعرافها البدويّة ـ يذهب رجال القبيلة(المخطوفة نساؤها) ليفدوا نساءهم و بناتهم، ويتقدّمون بالفدية من الأموال طالبين إطلاق سرح نسائهم، إلى بطل القبيلة الخاطفة وسيدها الذي خطف أجمل امرأة من قبيلتهم.

و يشير الخطاب القصصي إلى شهامة هذا البطل وإحداثه شرخا في علاقات القبائل وأعرافها، فبدلا من أن يأخذ المال الفدية، ويضمّه إلى ممتلكات قبيلته، و يطلق النساء من الأسر، و بذلك يكون حقق معادلة القبائل و موازينها، وأعرافها البدوية، فإنه يعفو عن جميع النساء المختطفات، عافا عن المال أيضا، حبا بالمرأة الجميلة التي عشقها وأحبّها حبا ملأ عليه كيانه و ذاكرته. يقول الراوي: " لقد أكرم قومها لأجلها، أمر بأن يقدّم الماء و الغذاء للقافلة التي جاءت تستردّ مهره القمري، رفض المال، ورفض الفداء، بل أنعم على كلّ النساء بالحرية، وخيّرهن بين البقاء أو الرحيل مع أبناء عشيرتهن، فاخترن كلهنّ الرحيل، (...) تأمّل جسدها السابح في ثيابها الفضفاضة، اضطربت أصابع يديه عندما تخيّلها تسرح في شعرها، الذي تداعبه الريح بلا خجل، صوت خلخالها وخرزها الصدفي الذي تتزيّن به أحدث بعزفه الحزين زلزالا في نفسه، التي امتدّت لتحتضن الصحراء كلّها لتحضنها هي بالذات". ص11-12.

فالبطل عاشق متيّم، و هو لا يريد مالا، يريد امرأة حبيبة مغايرة لنساء قبيلته كلها، والخطاب القصصي، في بنيته العميقة، يشير إلى رغبة أفراد القبائل البدوية بتجاوز محرمات قبائلهم وقوانينها، وبتجاوز الأنساق المعرفيّة فيها والمكرّسة بسلطة القبيلة، فهذا البطل لا يريد امرأة من قبيلته على الرغم من توافر نساء قبيلته وبكثرة، هو يريد صوتا أنثويا مغايرا لأصوات قبيلته. لقد أسر المرأة الجميلة، وأرادها زوجة وحبيبة لا امرأة مهانة أسيرة مختطفة، وأحبّها حبا ملأ شغافه، وهي ـ بدلا من أن تحقد على خاطفها الذي أذلّها وأهان حريتها وكرامتها، وشرخ أعراف قبيلتها، إذ حوّلها من امرأة سيدة، حرة، إلى عبدة مستلبة مخطوفة ـ أحبت هذا الخاطف، و أرادت أيضا أن تغيّر ميزان العلاقات القبلية أو البدوية، وأن تخرج عن أعراف قبيلتها البدوية، أو تحدث شرخا فيها، وهي في حقيقة الأمر ترفض أعراف هذه القبيلة وعاداتها، هذه الأعراف التي ترى نساء القبيلة جزءا لا يتجزأ من ممتلكاتها، من مال ومواش وقطاعات زراعية.

لقد أحبّت البطل الخاطف ـ متجاوزة أعراف قبيلتها التي ترى ذلك معيبا ومخجلا بحق المرأة الحرّة التي ترضى خاطفها ـ فولاء المرأة، مثلها مثل كل أفراد القبيلة، يجب أن يكون ولا ء دمويا، و قبليا، قبل أي ولاء آخر، و في القبيلة لا قيمة للحبّ والعشق إن لم يتحدد بهذا الولاء، فامرأة القبيلة ملك لابن عمها أو قريبها، أو أي رجل آخر من أفراد هذه القبيلة، ومن ثمة يحرم عليها أن تكون ملكا لأي فرد من أي قبيلة أخرى. ومن هنا فإن الخطاب القصصي يستنفر عداوة والدها ضدها، وعداوة جميع أفراد القبيلة، إذ يدعو والدها ـ سيد قبيلتها ـ جميع أفرا د قبيلته إلى قتلها لأنها خرقت أعراف القبيلة. يقول الخطاب القصصي: " ارتفعت سيوف القبيلة مهدّدة سيوف الضيوف، التي هددت الأسيرة العاشقة بالموت، صرخ الأب: " خائنة، ساقطة، اقتلوها، لقد جلبت العار لنا، كيف تختارين أسرك على أهلك؟! لقد جئت ببدعة ما سمعت بها العرب من قبل، كيف تقبل حرّة أن تكون في ظلّ آسرها؟". ص 12 ـ 13.

غير أنّ حبّها لخاطفها ـ كما يؤكّد الخطاب القصصي ـ أقوى من أي ولا ء آخر، فخاطفها هو البديل الجمالي و الحضاري، أو بتعبير آخر هو الفضاء المعرفي الذي تطمح من خلاله إلى تحقيق إنسانيتها من جهة، و تحقيق حريتها من جهة أخرى، وإلى سيادة خلفية معرفيّة وحضارية جديدة مدينية بدلا من خلفية البادية والقبيلة والصحراء، هذه الصحراء العطشى إلى الحب. و ها هي تعلن حبّها لهذا البدوي الأسمر الذي خطفها متحديا جميع أعراف قبيلتها. تقول القصة: ((كانت على وشك أن تعتلي هودجها، بقبضته القوية منعها من إكمال صعودها، وقال بمزيد من الانكسار: " من ستختارين؟".

نظرت في عينيه: " أنا عطشى... عطشى كما لم أعطش في حياتي". اقترب البدوي الأسمر خطوة أخرى منها، كاد يسمع صهيلها الأنثوي، و قال: " عطشى إلى ماذا؟"

قالت بصوت متهدّج: "عطشى إليك... ". ص 12.

وإذا كانت هذه المرأة قد تحلّت بأعلى درجات الشجاعة واجترأت على جميع أعراف قبيلتها علنا، ومن دون خوف أو وجل، فإن بذور التمرد كانت كامنة في نفوس جميع نساء القبيلة المخطوفات، غير أنّ هذه البذور ظلّت كامنة، إذ كانت هاته النسوة تحمل في أعماقهنّ رغبة بالخروج من فضاء قبيلتهن إلى فضاء القبيلة الخاطفة. وتشير هذه الرغبة ـ في مستواها الرمزي والإشاري إلى الرغبة بتبديل المكان القبلي البدوي بمكان أكثر رحابة في الحبّ والعشق، و الخروج عن كابوس القبيلة وسلطتها. وقدّ أحسّ رجال القبيلة، بعد أن استردوا هاته النسوة من الأسر، برغباتهن الجامحة بالتجديد والتغيير، والخروج عن جمود المكان بعلاقاته الاستلابية، علاقات العرف السائد، كوأد البنات خوفا من العار والفقر، واعتبار النساء سلعة مملوكة، مثل أي سلعة أخرى، من ممتلكات القبيلة كالأموال والمواشي والملكيات الزراعية. فما كان من هؤلاء الرجال القبليين إلا أن قتلوا جميع نسائهم، لأنهم اكتشفوا أن لديهن رغبة الخروج عن أعراف القبلة، ورغبة بالتجديد المعرفي والجنسي في آن، فهن عطشى إلى الحب، وإلى كل ما هو جديد، بعيد عن الرتابة الخانقة، رتابة البادية والصحراء: "شعرت القافلة أنها محمّلة دون إرادتها بالعطش، العطش إلى الحبّ والعشق، لكن أحدا لم يجرؤ على أن يصرّح بعطشه، عند أول واحة سرابية ذبح الرجال الكثير من نسائهم اللواتي رأوا في عيونهنّ واحات عطشى". ص 13.

وزيادة في قتامة الطقس البدوي والقبلي لدى سكان الصحراء والقبائل، فإن الخطاب القصصي لم يكتف بأن يجعل الرجال يذبحون نساءهم التوّاقات إلى عوالم جديدة، بل جعلهم يئدون بناتهم اللواتي لم تنم رغباتهن بعد، خوفا من أن تولد عندهن هذه الرغبات الجامحة بالتغيير والخروج عن أنساق القبائل وأعرافها المعرفية في ما بعد " وعندما وصلوا إلى مضاربهم وأدوا طفلاتهم الصغيرات، خوفا من أن يضعفن يوما أمام عطشهن، و في المساء شهد رجال القبيلة بكائية حزينة، فقد كانوا هم الأخرون عطاشا". ص 13.

إذاً ليست النساء عطشى إلى الحب والمعرفة والتجديد في صحراء القبائل فحسب، كما يشير الخطاب القصصي، بل الرجال هم راغبون أيضا بهذا التجديد، و كسر قساوة أعرافهم وقوانينهم الصارمة، غير أن قوانين البادية هي الأصل والأقوى، وهي الجذر الذي لا يمكن انتزاعه أبدا من تربة الصحراء العطشى القاسية والموحشة، و لذا فإن العرف القبلي والبدوي لا يمكن تجاوزه أبدا في ظلّ ما تفرزه الأنساق المعرفية البدوية، ومن هنا سيظل أفراد الصحراء والبادية في الخطاب القصصي، سواء أكانوا رئيسين أم ثانويين، مستلبين في طموحاتهم وأحلامهم ورغباتهم بالتجديد والمغايرة، تقول القاصة: " لكنّ الرمال كانت تعرف أنها مجبرة عل ابتلاع ضحاياها الناعمة خوفا من أن ترتوي يوما، كان مسموحا للقوافل أن تعطش وتعطش، ولها أن تموت إن أرادت، لكن الويل لمن يرتوي في سفر هذا العطش الأكبر". ص 14.

وفي القصة الثانية الموسومة بـ ((النافذة العاشقة)) يدين الخطاب القصصي الحالة الدونيّة التي وصلت إليها المرأة العربية، فهي مستلبة لا إرادة لها بفعل سلطة الرجل الاستبدادية التي تهمّش هذه المرأة، وتحوّلها من امرأة معطاءة مبدعة فعّالة في البيت والمجتمع والمؤسسة إلى مستكينة خانعة لرغبات الرجل، وتحديدا الجنسية المتحفزة دائما، ويدين هذا الخطاب سلطة الرجل الذكورية المستبدة التي لا ترى في المرأة إلاّ وعاء للذّة والإنجاب، ومن ثمة يدين العلاقات المشوّهة بين الجنسين: الجنس الأقوى/ الرجل المستبد، والجنس الأضعف الخانع/ فاقد الإرادة/ المرأة التي روضت نفسها على قبول واقعها المتخلف، وروّضت جسدها لأن يكون وعاء للتفريغ الجنساني بعيدا عن الحسّ الجمالي الإنساني الذي يحكم طبيعة العلاقة الحضارية بين الرجل و المرأة، وفي آن دفنت مشاعرها وتطلعاتها ورغباتها أمام سطوة رغبات زوجها الشهوانية المندفعة. تقول القصة: ((لم تكن تأبه بجسدها الذي ترهل دون مبالاة بأعين الرقباء، ولا بملابسها ذات الموضة القديمة المنسيّة، ولا بخضرة عينيها اللتين غرقت فيهما الأحلام منذ زمن طويل، بالتحديد منذ أن تزّوجت رجلا لا يعرف من طقوس الرجولة إلاّ لحظات الفراش، التي تمرّ مثل التقاء غريبين في مرفأ عتيق، ثمّ سريعا يلوّحان لبعضهما بالوداع دون أدنى مشاعر)). ص 15.

ولقد أسهم الرجل الاستبدادي في قتل جماليات نفسها، حتى جعلها تنسى عاطفتها وإحساسها الجمالي بالحب، و تنسى زينتها وملابسها الجميلة، وهي مظاهر مهمة في حياة أي امرأة. ومن هنا فقد عمل الخطاب القصصي على تشكيل فضاء آخر معاد لفضاء الاستبداد، وهو فضاء نافذة المطبخ الذي يشير رمزيا ـ في الخطاب القصصي ـ إلى الحرية وإلى الأمل بالحب المفقود و إلى أحلام بعيدة الجموح تطمح للقاء رجل فارس جميل مغاير لزوجها الرتيب المستبد، ومغاير في آن لرتابتها المعتادة في تربيتها لأولادها وعلاقاتها معهم، فما كان منها إلاّ أن لجأت إلى نافذة المطبخ، الفضاء الحالم المنفتح على عالم جمالي آخر، النافذة التي ((التي قتلتها تنظيفا وتلميعا، ثمّ كستها بالقماش الشفاف ذي التخريمات الزخرفيّة، وطوّقت الجنبات المتدليّة من هذا القماش بشرائط السيتان الحمراء.)) ص 16.

لقد بدا فضاء النافذة أهم الفضاءات المكانية في حياتها، لأن إحساسا بالدفء والجمال تشكّل جديدا في حياتها اليومية، وكسر جمود هذه الحياة مع أطفالها وزجها المستبد، وتقف وراء هذا الإحساس رغبة عارمة دفينة بلقاء رجل يعيد إليها كل الأحلام الجميلة التي غابت عنها، يعيد إليها إحساسها بأنها أنثى مرغوبة، وبأن لها حريتها وإرادتها بعد أن سلبها زوجها جميع آفاق الحرية ورغباتها. تقول القصة: ((ثمّ فتحت هذه النافذة طاقة صغيرة على أنوثتها، وولّدت عندها رغبة الانتظار وأشواق اللقاء. لم تكن قد خبرت من قبل معنى لذّة الانتظار، ولم يكن انتظارها يطول للشاب الأسمر ذي الهدبين السرمديين، والقامة الممتدة بسخاء، إذ سرعان ما يطلّ ليفي بنذره اليومي بين يديها، كان من الواضح أنّه يصغرها بعقد من الزمن، ويكبرها بعقود من الحيوية والسعادة والأمنيات والطيش)). ص 16.

ومن الملاحظ في مجموعة ((قافلة العطش)) أن الخطاب القصصي يحتفي بالأبطال ـ سواء أكانوا رجالا أم نساء ـ الذين يكرهون فضاء الصحراء، وينفرون منه، لأنه فضاء قاس يخنق تطلعات قاطنيه، و رغباتهم المتأججة، ففي قصة ((تحقيق صحفي))، تعبّر بطلة القصة عن كراهيتها لهذا الفضاء قائلة: ((هي تكره الصحراء، لأنها تشبه قسوة حياتها، وتكره أنّها مضطرة إلى أن تتجشم رحلة طويلة في صحراء لا تعرف نهاية، و تبتلع الآهات والرغبات)). ص 62. وإن كانت بطلة القصة مضطرة لأن تتعامل مع فضاء الصحراء الشاسع، فإنّها تتعامل معه بنفور واضح، ولا يهمّها منه إلاّ بقدر ما يحقق لها من مكاسب ماليّة، أي أنّ علاقتها به علاقة وظائفيّة (على حدّ تعبير فلاديمير بروب)، وعندما تتحقق هذه العلاقة الوظائفية ستنفر منه، فهي بحاجة إلى المال، ومضطرة للذهاب إلى هذا الفضاء لكسبه، لأنها ((تجري تحقيقا صحافيا عن بدو الطوارق في ديارهم، وعزاؤها الوحيد أنّ هذا التحقيق سيدرّ عليها مبلغا جيدا من المال، إذ إنه سينشر في مجلة فرنسية مشهورة تراسلها منذ سنوات، وهي الآن في أشدّ الحاجة إلى المال لتسديد فواتير المحامي الموكل بقضيتها)). ص 62.

وهذه البطلة الكارهة لفضاء الصحراء، هي أيضا نافرة من قاطنيه، لأنهم مثله غير حضاريين أو غير مدينيين في تعاملاتهم مع المرأة بوصفها كائن إنساني، فهم يفضلون عليها ناقة جرباء، فإذا كانت هذه الناقة مهمة في حياتهم لأنها تقدم لهم خدمات يحتاجونها فإن المرأة هي الأخرى تصبح سلعة مثلها مثل الناقة، ولها وظيفة مهمة ـ بغض عن إنسانية هذه الوظيفة وجمالياتها ـ إنها وظيفة ولادة الذكور وإمتاع الرجال جنسيا وغريزيا. تقول القصة: ((بدت متبرمة فضولية، وهي تسأل(...) عن الصورة الاجتماعية لامرأة الطوارق، وإن كانت معنيّة من الانتهاء من التحقيق الصحفي لتقفل راجعة إلى العاصمة أكثر من الوقوف طويلا عند حياة أفراد تظنّ أنهم في هكذا مفازة قد يقدّمون حياة ناقة جرباء على حياة امرأة)). ص 64.

غير أنه يمكن القول إن المدينة العربية المعاصرة، على الرغم من انفتاحها المعرفي والحضاري، وعلى الرغم من مظاهر التقدم التكنولوجي والازدهار المعرفي فيها، وتكريس النظريات الفكرية التي تدعو إلى إعطاء المرأة حقوقها، فهي لا تزال ترى في المرأة عالة على المجتمع، ولا تزال ترى فيها شرا ومفسدة، ومنبعا للفتن وإثارة الغرائز وإفساد الشباب، باستثناءات جد طفيفة، ولا يزال الحس البدوي والقبلي والصحراوي هو السائد في نسق العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة.

وممّا يثير الانتباه في هذه المجموعة القصصية استخدام لغة جميلة سهلة لا تعقيد فيها ولا تكلف، ولا صعوبة، لغة قادرة على أن تستوعب الرؤى المعرفيّة التي تريد القاصة أن تبثّها في خطابها القصصي، بحيث لا تبدو كلمة واحدة في مجموعتها تحتاج إلى الرجوع إلى المعاجم لفهم معناها.

وقد كان لقدرة القاصة المتميزة في استخدام تقنيات الفضاء القصصي ومكوّناته دور واضح في تجسيد مجمل الرؤى المعرفيّة والإيديولوجية في الخطاب القصصي، وعلاقاتها بالسرد والحوار، هذه الرؤى التي أرادت أن تبثّها في بنية هذا الخطاب.

ولعلّ ما يمكن أن نسميه بفضاء الحلم والتخيّل، والرقي إلى مجتمع حضاري بجميع علاقاته، هو أهمّ الفضاءات النفسيّة في هذه المجموعة. ويبقى فضاء الصحراء والبادية ـ كما أشير إلى ذلك سابقا ـ فضاء مهم جدا تنمو من خلاله الوحدات السردية والأحداث القصصية، وتطرح رؤيتها وملفوظها الإيديولوجي والاجتماعي. وعلى مستوى التقنية الشكليّة يطغى السرد على حساب الحوار الذي يبدو مكثّفا وقصيرا في معظم قصص القاصة، ففضاء البادية الشاسع الرتيب هو الذي يشكّل جوا خانقا لشخوص هذه البادية، هذا الفضاء اللاحركي، أو ما يمكن أن نطلق عليه الثابت الكموني أسهم بدوره في امتداد السرد وطوله، ومن ثمة تقليص لغة الحوار وإلغائها أحيانا، وهذا التقليص يشير في البنية الرمزية إلى خلل في طبيعة العلاقات الإنسانية في بادية محكومة بالثبات والجمود وعدم الحركيّة, وإلى الغربة بين هذه الشخصيات، وعدم تواصلها الحضاري مع بعضها من جهة، وإلى الغربة والاستلاب بينها وبين الفضاء المكاني الذي تقطنه من جهة أخرى.

يعيش الطفل سنواته الثلاث الأولى مستكشفًا لما حوله، محاولًا الحصول على المعرفة ذاتيًّا، تخمينًا أو إبداعًا. ثمّ يبدأ بالاعتماد على أبويه ومربيه، فيحاول أن يعرف عن طريق أسئلته المكرورة عن كلّ ما يحيط به، ويراه، ولكن ليس تعرّفًا ذاتيًّا، بل نتيجة المنظومة التربوية التي تحكم المجتمع البطريركي إذ يبدأ بالاعتياد على العيش وسط علاقاته، والإذعان لقيمه، والقبول بوصاية الأكبر على حياته منذ سن الثالثة تقريبًا؛ وفي غالبية أجوبة الكبار ما يكرّس لدى الطفل القيم الاتكالية والاستكانة والقبول، وفي البعض منها ما يعيده لعناية البحث والاستكشاف وتوجيه تفكيره للخروج عن المألوف سعيًّا على دروب الخلق والابتكار.

إن هدف أدب الطفولة الموجّه للأطفال بحسب سنيّ عمرهم، بصفته أحد ميادين التربية والتعليم والتثقيف والترفيه، هو توجيه الطفل وترسيخ ميوله الأصيلة بشخصيته نحو الابتكار والتقصّي، وذلك بدفعه لتنمية التفكيرالإبداعي لديه من خلال تطوير لغة العصر التواصلية المتعلقة بالنطق والنظر والسمع والعقل الباطن والحركة، التي تتيح فرصًا لإسهام الطفل بحلّ مشاكله لوحده، بتحريض عواطفه، وتحفيزه لمعرفة غرائزه وجسده، وتنمية ملكة الخيال لديه، حتّى يلج عملية التجريب والمغامرة التي تشكّل أرضيّة مناسبة لبناء ذاته الفاعلة.

أول قصص خاصة بالأطفال كانت في كتاب حكايات أمي الإوزة لـ تشارلز بيرو (1628- 1703) الذي صدر في فرنسا عام 1697، وطورت رواية روبنسون كروزو للكاتب دانيال ديفو (1660 – 1731) ورواية رحلات جلفر لجوناثان سويفت (1667 – 1745) وجاء بعد ذلك الألمانيان الأخوان جريم، ثم كان ظهور كتاب أليس في بلاد العجائب عام 1846، وفي العصر الرومانسي لمع اسم هانس كريستيان أندرسن (1805 – 1873) الذي ترجمت أقاصيصه إلى جميع لغات العالم.

تأخّر شيوع أدب الأطفال في البلدان العربية، مع تأخّر بداية عصر اليقظة العربية نسبة إلى عصر النهضة الأوروبي، إلى أن بدأ في لبنان، فكانت محاولات ناصيف اليازجي (1800 – 1871) وأحمد فارس الشدياق (1805 – 1887) ثم في مصر إثر البعثات التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا، ولعلّ رفاعة الطهطاوي الذي ترجم قصص تشارلز بيرو للأطفال عن الفرنسيّة، وعمّم قراءتها في المدارس من موقع مسؤوليته في الحكومة، أن يكون أول من طرق أبواب أدب الطفولة العربي، ثمّ اضطرب هذا الأدب حتّى جاء أحمد شوقي وأصدر مجموعة حكايات للأطفال بأسلوب لافونتين عام 1898م[1]، بعده كتب محمد الهراوي سمير للأطفال، إلى أن جاء كامل الكيلاني الذي عدّ رائد أدب الأطفال العربيّ الحديث بإنتاجه الغزير فتمكّن من موقَعَة أدبه وقصصه ضمن الآداب العالميّة للأطفال، إذ تمّ ترجمة كتبه لعشرات اللغات الأجنبيّة[2]، كما برز اسم الكاتب يعقوب الشاروني (1931 -     ) المتخصّص بأدب الأطفال، إذ كتب أول قصة منذ عام 1959، وبلغ مجموع كتبه أكثر من أربعمائة كتاب للأطفال، ترجم كثير منها إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والماليزية والألمانية والمجرية، وحاز الشاروني على عشرات الجوائز المصرية والعربية والعالمية كان آخرها جائزة أفضل كتاب على المستوى العالمي من المجلس العالمي لكتب الأطفال بسويسرا عام 2016 عن روايته (ليلة النار)، إضافة إلى مشاركته بعشرات لجان التحكيم الأدبيّة، كما كتبت دراسات كثيرة حول أدبه، ومنها رسائل جامعيّة.

انتشر أدب الطفولة في العالم العربي في أواخر ستينيات القرن العشرين، ففي العراق أنشئت مكتبات خاصّة للأطفال، وصدر عدة مجلات منها: مجلتي ومزمار، وفي الكويت مع مجلة سعد عام 1969، وفي الأردن بدأ أدب الأطفال عام 1979 مع صدور مجلة سامر عامر، ثم في البحرين والسعودية التي ظهر فيها مجلة الجيل الجديد، والشبل عن دار عكاظ، إضافة إلى انتشار أدب الأطفال في ذات الفترة في المغرب العربي والجزائر وتونس، وفي السودان وليبيا[3]. كما كان للسوريين نصيب من هذا الانتشار، فنشطت حركة التأليف للأطفال فكتب عادل أبو شنب وسليم بركات وسليمان العيسى الذي أصدر ديوان الأطفال[4] إلى جانب زكريا تامر.

 ولعلّ توضيح المفارقة الجماليّة بين المحبة والكراهية، الخير والشرّ، الحرية والقهر، العدالة والظلم، والجمال والبشاعة، فرض اختيار موضوعات انسجمت مع تطلعات كتّاب أدب الطفولة العربي بهدف الانتصار لمعاني الخير مستلهمين القيم والمعاني من الديانات السماوية، لا سيما القرآن الكريم، موظفّين الفولوكلور والحكايات الشعبيّة الموروثة، كسيرة عنترة، وذات الهمة، والملك الظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن، وعلي الزيبق، وشهرزاد، والسندباد... حتّى غدت "مصدرًا جيدًا من مصادر ثقافة الطفل، لا تقلّ أهمية ـ إن لم تكن تتفوّق ـ على هؤلاء الأبطال المعاصرين، الذين يتفوّقون بالحاسوب وغيره من الأدوات العصرية"[5] وفقًا لوجهة نظر الكاتب، وقد كانت ألف ليلة وليلة قد نشرت منذ عام 1704 على يد المستشرق جالان باللغة الفرنسية، ثم ترجمتها دار بولاق عام 1837 وأصدرتها بطبعتها المطبوعة، وظلّت منهلًا عظيمًا لكتاب قصص الأطفال إذ أخذ منها كتاب القصة الكثير ولايزال كثيرٌ منهم يأخذون منها.

عرّف سمر الفيصل قصة الأطفال بأنّها: "جنس أدبي نثري قصصي موجّه إلى الطفل، ملائم لعالمه، يضم حكاية شائقة ليس لها موضوع محدّد أو طول معين، شخصياتها واضحة الأفعال، ولغتها مستمدة من معجم الطفل، تطرح قيمة ضمنية، وتعبّر عن مغزىً ذي أساس تربوي مستمد من علم نفس الطفل"[6] والحقّ أنّه لا يكفي من الكبار أن يستذكروا طفولتهم حتى يكتبوا للأطفال بل عليهم أن يعيشوا في طفولة الجيل الذي يتلقى النصّ في زمن القراءة، عليهم ان يدركوا المتغيرات التي تطرأ على المجتمع وعلى الفرد، لا سيما التغيرات التي تطرأ على الطفولة في أثناء فترة نموّه.

وعلى الرغم من عدم الاتفاق على تعريف مفهوم أدب الطفل إلّا أن كتّاب قصص الطفولة انطلقوا باختيارهم الحكايات المرويّة شفهيًّا والمستمدة من البيئة التي يعيشها الأطفال، وبلغة محبّبة وقريبة من اللغة التي ولد الطفل في حضنها، لإكسابه مهارات عقلية متعددة لتعينه على بناء شخصيته، وقد كثر إنتاج أدب الأطفال وتنوعت موضوعاته فمنها الاجتماعية والتاريخية والسياسية والعلمية، وذلك بهدف ترسيخ معاني البطولة والمغامرة والفكاهة والخيال العلمي.

[1] - أحمد شوقي، مقدمة الشوقيات (دار الكاتب العربي: القاهرة) ص11

[2] - هيفاء شرايحة، أدب الأطفال ومكتباتهم (المطبعة الوطنية: عمان، ط2،) ص29

[3] - علي عبد الله خليفة، كتابات (دار الغد: البحرين، 1976) ص173

[4] - سليمان العيسى، ديوان غنوا يا أطفال (دار العودة: بيروت، 1978) ص4- 5

[5] - محمد قرانيا، قصائد الأطفال في سورية (اتحاد الكتاب العرب: دمشق، 2003) ص 96 وما بعد.

[6] - سمر روحي الفيصل، الشكل الفني لقصة الطفل في سورية (مجلة الموقف الأدبي: دمشق، 1988، عدد 208 ـ 209 ـ 210) ص102

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 281

-1-

هل من المبالغة القول: إن اللهجات العربيَّة كانت- منذ أن كانت العربيَّة- وراء صعوبة اللغة العربيَّة واتساعها إلى درجة التبدُّد؟ ذلك أن ما جُمِع في كُتب اللغة، ودُوِّن في المعجمات، وقُعِّد في كتب النحو، هو في حقيقة الأمر جملةُ لهجاتٍ عربيَّة، أو لغاتٍ عربيَّة، أو لُغيَّات، كما كانوا يسمُّونها. بسببها أصبح في العربيَّة تضخُّمٌ مرضيٌّ في مفرداتها، وترادفاتٌ فيما بينها، ممَّا لم يسبق له مثيل ولم يلحق له مثيل، مع تضادٍّ في بعض الحالات في معاني المفردات عينها. إلى جانب تراكيب نحويَّة شتَّى، اضطرب النُّحاة في تقعيدها، واصطرعوا، بَصْريِّين وكوفيِّين وغير كوفيِّين وبَصْريِّين، حولها، وقلَّما اتَّفقوا؛ لأنهم بإزاء لغاتٍ لا لغة واحدة. على أن لاضطراب النُّحاة أسبابه الأخرى التي تتعلَّق بتنافسهم، وتحوُّل حِرفتهم إلى تجارةٍ رائجة، ربما اقتضت من بعضهم الكذب وانتحال الشواهد، ونِسبة الكلام إلى هذا الأعرابي أو ذاك، إذا لزم الأمر. بدءًا من (سيبويه)، الذي كان يَعرض في كتابه إلى بعض لهجات العرب، مظهِرًا سعة المعرفة بكلام العرب، وما دام القائل تسري في عروقه الدماء العربيَّة، بالأصالة أو بالولاء، فهو حُجَّة، يَحِقُّ له أن يُدَوِّخ الأُمَّة بأجيالها من وراء كلمةٍ تفوَّه بها! صحيحٌ أن علماء اللغة قد اجتهدوا لحصر مصدر ما جمعوا من العربيًّة في وسط الجزيرة العربيَّة دون أطرافها، تحاشيًا لأشباح العُجمة من هنا أو من هناك، لكنها بقيت اللهجات بين قبائل العرب، المتناحرة المتعازلة، محلَّ احتفاءٍ وإجلالٍ وتمجيد، ومعينًا لا ينضب للتنوُّع والاختلاف، في مستوى المُعجم والبناء النحوي. فأُوْرِث العربُ من ذلك العجب العجاب. من أمثلة ذلك ما قالوه حول تذكير الفعل وتأنيثه لفاعله، فأجازوا: «طلعت الشمس»، و«طلع الشمس». قائلين: إن كليهما جائز، وإنْ كان الأوَّل راجحًا والآخَر مرجوحًا. والسبب أن الأوَّل لهجةٌ والآخَر لهجة. ثمَّ دخلوا لذلك في جدالٍ عقيم، طويلٍ لم ينته إلى اليوم، ولن ينتهي إلى يوم الدِّين! ولاختراع التعليلات قسَّموا المؤنَّث إلى مؤنَّثٍ حقيقيٍّ، وهو ما كان ذا حِرٍ من المخلوقات، ومؤنَّثٍ مجازيٍّ لا حِرَ له!  وعليك، إذن، أن تفحص الأعضاء التناسليَّة للكلمات حتى لا يقع الخلط والاختلاط، لا قدَّر الله!  كما أن أولئك النحاة غلَّبوا المذكَّر على المؤنَّث؛ وذلك بأثرٍ ثقافيٍّ ذكوريٍّ واضح، لا علاقة له بشؤون اللغة، وإنْ كانت اللغة قد حُمِّلت أمراضه. فباب المؤنَّث في العربيَّة بابٌ عويص، فيما باب المذكَّر بابٌ واضحٌ يسير، كما هو الحال في الموقف من الرجل والمرأة في المجتمع العربي عمومًا. حتى قالوا في هذا: إن التذكير هو الأصل، وإذا ذكَّرنا المؤنَّث، فإنما عُدْنا به إلى الأصل، والعَوْد إلى الأصل فضيلة!

نعم، لم يكن أمام اللغويِّين ولا أمام النُّحاة سبيلٌ إلى التخلُّص من لهجات العرب المتداخلة في لسانهم المتوارث، نثرًا وشعرًا، منذ أسواق العرب، غير أنهم إلى ذلك قد زادوا الطين بلَّة بتتبع لهجات العرب، ونوادر استعمالات الأعراب، والمباهاة بغرائب الإبل اللغويَّة من ذلك كلِّه، يُدِلُّ واحدهم به تعالُمًا وحِجاجًا. في حين كان من مصلحةِ عربيَّةٍ موحَّدةٍ الأخذُ بعربيَّةٍ واحدةٍ مستقرَّة، مطَّردة، سائدة، ونبذ ما سواها، من الشاذِّ والنادر والقليل، في ذِمَّة التاريخ اللغوي. بَيْدَ أن جذر المرض العربيِّ المزمن يظلُّ التشرذمَ بينهم وعدمَ التوحُّد أو حتى الاتفاق. 

-2-

في حِوارٍ مع الشاعر السُّوري الراحل (عُمَر الفرَّا)، إبَّان أحد مهرجانات «هلا فبراير»، في فضائيَّة (الكويت)، أشار إلى أن سبب عدم بروز الشِّعر اللَّهَجي على الشِّعر الفصيح في (سوريا) هو حظْر نشر العاميَّة في الصحف. فالدولة العربيَّة الوحيدة التي تمنع نشر العاميَّة كتابيًّا: سوريا. ولعلَّ شاعرًا مبدعًا كعُمَر الفرَّا، الفصيح/ العاميّ، جاء خلاصة تلك التجربة العربيَّة الفريدة.  قمع؟  نعم، سمِّه قمعًا، لكنه هاهنا قمعٌ لفساد، ولا حريَّة لفاسد! ذلك أن أنصار نشر العاميَّة المحدثين يستكملون مشروع التراثيِّين في إفساد العربيَّة، ولكن على نحوٍ أشدَّ انفصامًا وتأسيسًا لفوضى لسانيَّة غير خلَّاقة.

-3-

منذ أربعة عشر قرنًا لم يتَّفق العربُ على شيءٍ، حتى على نقط حرف الياء؛ فهي تُكتب في العالم العربي منقوطة للتفريق بينها وبين الألف المقصورة، على حين تُكتب في (مِصْر) غير منقوطة؛ لا لسببٍ، غير التعصُّب لمواريث الآباء، والعودة إلى ما قبل إعجام اللغة. ولذا لا تستغرب إذا سمعت من المثقَّفين مَن يقول، على قناة فضائيَّة، هذه العبارة مثلًا: «كانت المعجزة في هذا النصِّ الذي [أُوْحَى] إليه من الله سبحانه»! وهو معذور، وإنْ كان لا يُعذَر في جهله الشخصي؛ لأن «أُوحِيَ» و"أَوْحَى" تكتبان في الكوكب المِصْري العزيز بصورةٍ واحدة، هكذا: «أوحى»، وافهمها كما تشاء! فكيف يتعلَّم الأطفال الأبجديَّة، ويفرِّقون بين حروفها وكلماتها، إذا كان الكبار لا يستطيعون؟! أم أن عليهم أن يعودوا إلى الهيروغليفيَّة؛ جرَّاء تعصُّب الأقطار العربيَّة لما أَلِفَت وعنادها الصبياني؟! كأن العربيَّة- الغريبة بين أهلها- كانت تنقصها مثل هذه المعمَّيات الكتابيَّة! 

ومن سوابق ذلك في التراث كتابة «مِئَة» هكذا: «مائة»، وإنْ كان ذلك لسببٍ خطِّيٍّ قديم انتفى اليوم؛ وهو ما أدَّى إلى سماعك تشدُّق كثيرين، حتى من عِلْيَة المتعلِّمين، وربما من أساتذة اللغة العربيَّة، بنطق الكلمة: «ماءة»، في خطاباتهم الرسميَّة الفُصحى، ظنًّا منهم أن تلك هي الكلمة بصيغتها الفصيحة، لا «مِئة»! ولو استَفتوا العامِّيَّ الأُمِّيَّ، لما سمعوه ينطق «ماءة» قط، بل «مِيَة»، بتسهيل الهمزة! لكنها مأساتنا الكتابيَّة والتعليميَّة والإعلاميَّة.

-4-

ونعود إلى القول إنه كان ينبغي عدم التكثر من مومياوات هذا التراث المحنَّط الذي لا ساحل لبحره، حتى لقد أُثِر عن (الأصمعي) قوله الدالُّ: «من عَلِم لغةَ العَرَب، لم يخطِّئ أحدًا». وهذا يعني شيئًا واحدًا: أن العربيَّة لم تَعُد لغةً كما نعرف اللغات، بل «سَلَطة» من اللغات الحلزونيَّة المتوالجة، بأوجهها المتناسلة بلا حدود؛ فصار لكلِّ قولٍ وجه، ولكلِّ تعبيرٍ شاهد، ولكلِّ بناءٍ تخريج. وما هكذا اللغة الجيِّدة، التي يمكن أن تؤدِّي وظيفتها الحضاريَّة والعِلْمِيَّة، وحتى الأدبيَّة، وما هكذا وظيفة عِلْمَي اللغة والنحو في الأصل، من حيث هما وسيلتان لتقنين اللسان في كلِّ أُمَّة من الأُمم. كما ليس في هذا من دليل على سعة العربيَّة، ولا شجاعتها، بل على شتاتها وعِيِّها وعدم انضباطها. لكن ما العمل، وقد أصبح كلُّ ما نعقَ به أعرابيٌّ حُجَّةً أبديَّة؟!  فحُشِر ذلك بقضِّه وقضيضه بين دفَّتي كتاب، وأريد أن تُحشى به الرؤوس، ثُمَّ أريد أن تُصنَع من ذلك كلِّه لغةٌ واحدة.. وهيهات! واستمرَّ الخَلَفُ في عبادة السَّلَف، واتخاذهم مُثُلًا عُليا في النظر إلى اللغة والتفكير بشأنها، ورُمِي من خالفهم أو حاد عن مذهبهم أو ناقشه بالمُروق.

لن تكون للعَرَب لغةٌ قابلةٌ للحياة، والتطوُّر، طيِّعةٌ لمتطلَّبات العِلْم والتقنية، محترمةٌ بين أبنائها قبل غيرهم، ما لم ينفضوا عنهم غبار «المرحوم»!

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «هل العَرَبيَّة لغةٌ أم لغات؟»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الأربعاء 1 نوفمبر 2017، ص18].

 

 clip_image001_534cd.jpg

إن الشعر الفلسطيني جزءٌ أصيل من مسيرة الشعر العربي ، ولسنا حالةً خاصة أو استثنائية بسبب وضعنا الخاص كما كانت دوماً النظرة المسبقة حول الشعر الفلسطيني ، والتي أدت إلى أن يصرخ محمود درويش قائلاً : ( ارحمونا من هذا الحب القاسي ) .

 وان أصالة ورسوخ التجربة المعاصرة للشعر الفلسطيني تنبع من اللغة المشتركة والهّم العام والمصير الواحد ، فالآلام والتحديات والطموحات واحدة على امتداد جغرافيا الوطن العربي ، واختلاف المضمون الفلسطيني شيء بدهيّ ، لأن المضمون يختلف من بلدٍ إلى بلد ، بل ومن شاعر إلى شاعر آخر ، وهذا جيد ، وحالة طبيعية بلا شك .

 والشعر الفلسطيني ترسّخ كثيرًا في وجدان الوطن العربي وفي العالم عبر الترجمات الواسعة التي حظيت بها بعض التجارب والأسماء المكرسة ، كما ترسّخ في وجداننا الكثير من الشعر العربي والعالمي ، وبالتالي فإن الصورة متبادلة ومطمْئنة إزاء مستقبل الشعر الفلسطيني ، والذي سيعيش أكثر وأكثر وعبر التجارب الجديدة أيضاً كونها تجارب مبدعة ولديها مقولتها ورؤيتها وشعريتها الخاصة  .

وإذا أردنا أن نتحدث عن " شاعر فلسطيني كبير " ، لم يحظى بما حظي به شعراء آخرون من جيله ، فإنني سأتحدث عن الشاعر أديب رفيق محمود (1933) من بلدة عنبتا ، والذي أصدر قرابة 10 مجموعات شعرية وروايتان ، وكتب القصيدة الأولى عن القدس بعد احتلال حزيران 67 كما ذكر صديقي الشاعر البروفيسور فاروق مواسي في دراسته الهامة ( القدس في الشعر الفلسطيني ) ، وقصيدته بعنوان ( كلمات بالأزميل على سور القدس ) ، حيث يسافر الشاعر في ملكوت قصيدته ليصلّي في القدس ، ويقبّل البلاط ويمضي واصفًا لنا أجواء القدس :

 

أسير في الشوارع التي أحبّ شارعًا فشارعا  أقلب العينيْن في الجدران، في المطرز الفضفاض  في الشموع 

 

ثم يمضي الشاعر مستوحياً تاريخ صلاح الدين :

 

أواه يا مدينة السلام يا روعة الصهيل، كبة الخيول تعبر الأبواب في وضح النهار هذا صلاح الدين..

 

إنّه يودّ لو يستلّ سيف البطل ليقاوم هذه الحضارة المحنّطة وهذا الاحتلال البغيض الذي شوه صورة وقداسة المكان المقدس ، وليزيل القار ، ليزجر الغراب ،  وفي مثل هذا الجو القاتم يعود ليستذكر جمال المدينة وروعتها :

 

أواه يا مدينة السلام ، أين روعتك أقول : أين بهجتك ؟

 

حاول الشاعر أديب رفيق محمود أن يبحث عن مسارات خاصة لقصيدته ، وقد ظهرت بشكل جلي تلك المضامين التي استقى منها نصوصه الشعرية ، حيث وظف الأسطورة والتراث والدين والطبيعة والجغرافيا والموت والحياة والمرأة والوطن ، وأحتشدت قصائده بذاكرة المكان باحثاً عن التفاصيل التي يغفلها الآخرون ، وهذه الظواهر كما رأى الكاتب لطفي كتانة في مقالته عن الشاعر يختزن بها قاموس الشاعر وهي موصوفة لذاتها أو أنها موظفة في صور تقرب من المعادل أو البديل الموضوعي .

وكما يقول الشاعر العراقي  د. علي جعفر العلاّق : " الذاكرة تتحول إلى بئر طافح " ومن هنا فان الشاعر الفلسطيني أديب رفيق محمود بئرٌ طافحٌ بالمعرفة وذاكرته تشكل مخزون ثقافي ومعرفي هائل وظفه في بناء النص الشعر ، ولا تتم كتابة الشعر بمعزل عن تلك الذاكرة / البئر وهذا ما يجعل شعره نسيجاً محكماً تشكله وتغذيه العناصر المشكلة لذاكرة الشاعر وما تحمله من رؤى ومواقف ، ومن هنا تكونت صوره الذاتية والوجدانية المقترنة بجغرافيا الوطن.

 كما أن الذاكرة عملت على استعادة حكايات عاشها الشاعر كفقدان الأرض واليتم والتي تجلت في العديد من قصائد ( الأعمال الكاملة ) التي جاءت بـ 517 صفحة من الحجم الكبير وتضم 154 قصيدة مختلفة الشكل والمضمون والبنية الشعرية .

وتجلت صورة " الشهيد " بصور متعددة في شعر أديب رفيق محمود ، إليكم هذا المثال من قصيدة ( النسر المهاجر ) :

 

" لحزنك المطلّ والغروب يسبق الشروق في سماء غربته

لنسرك الجسور لن يظلّ جاثماً

فقد يعود ذات ليلةٍ مع الرياح

ويح قلبك الرقيق لا تسآءلي * متى يعود

فالرياح تعرف الشمال والجنوب

طويلةٌ هي الطريق .. " ( ص 268 – 269 )

 

أو كما يقول في قصيدة ( عرس الدّم ) :

 

" روحك تلتف على عنق القاتل

صرختك الحرة في أفواه الناس صلاة

قبضتك الصّلبة تقرع باب الحرية

جبهتك المرفوعة علمٌ للشجعان

دمك المنعوف على خدِّ الأرض كتابة .. " ( ص 271 – 272 )

 

ينتهج الشاعر مسلك الذاتية كتجلٍ من تجليات التعبير عن الرغبة في البحث عن الكينونة في واقع متحول ومتقلب المناخات ، مما يفرض على الذات أن تفتح منافذ لتضيء هذا الملتبس والمُعْتم في الذات والواقع بلغة تركن إلى الترميز والتشفير ، وتستعيد ذاكرة الذات والعالم في صور تشكيلية تتميز بجماليات فنية مُبْهِرَة ومستفزة ، وهذا ما يجعل الشاعر دائما في حضرة موشومة بالانفعالية ، في الوقت الذي " نجد الصوفيّ يوجد في حضرة تفاعلية ، وهنا مكمن الاختلاف ، فالصوفيّ ينسى الذات لتندغم مع الآخر الإلهي ، في حين أن هاجس الشاعر يتمثل في التعبير عن الذات ، كما نجد الصوفي يخصب الوجود بسؤال الفيض ، والشاعر يشحن اللغة بطاقة المشاعر والعواطف " ، كما يقول في قصيدة ( يقين ) :

 

" وأويت إلى صخرة

ويدي تحتضن القيثار إلى صدري

فتغّنت فوق البحر نوارس حبي للناس

وفكّت في روحي الّلغز الكامن في الشّفرة

وتبيّن لي أنّ الوجه المشرق وجه الشعب

وأن الجسد الفولاذ هو الشعب ..

 

**

 

وأنّ الله هو الحق

وأنّ الشوكة في الوردة

والنحلة في الزهرة .. " ( ص 77 )

 

تحفل قصائد أديب رفيق محمود بدلالات فلسفية وتاريخية وسياسية ، مليئة بانصهارات " الأنا " وسؤاله ، وأسئلته الفلسفية والاجتماعية ، بمتن شعري رصين  يستنطق الذاكرة الجمعية ، وتعكس القصائد واقع حال الشعب الفلسطيني ، ويصير الشاعر هنا مؤرخاً ومحرضاً ، بل وناطقاً باسم الشعب في مختلف قضاياه .

الشعر من خلال استعراض تجربة الشاعر أديب رفيق محمود يشكل ضرورة إبداعية ، وليس مجرد ترف عقلي عابر أو متعة تقف حد النشوة الشعرية وتذوب وتنتهي ، فالإبداع عنده لا ينحت برصيد ثقافي هزيل ، بل ينبع من ثقافة ورؤى فنية تصل به إلى التميّز والتفرد وهو يعبر عن المجتمع في جوانب حياته تطبع شخصية القارئ لشعره وتشعره بما يدور حوله وهذا ما يصبو إليه المتصفح للكثير من القصائد لأنه يعبر عن الإنسان البسيط ، عن الأرض والطبيعة وعن الوطن والإنسانية المعذبة وعن العروبة وعن تاريخ وذاكرة البلد التي تحتضن ذكريات وطفولة الشاعر ، كما في قصيدته ( عنبتا ) :

 

" أحب فيك الصور القديمة

أحب فحم الليل والصبايا

أحب موالاً كأنه تميمة

في جيد نسمة الصّبا ، حميمة .

 

حاراتك الغبرا على ضيقها

ميدان شمسٍ تفرش النهارا

طيرت روحي في سنا شروقها

كنحلةٍ تعبّ من رحيقها .. " ( ص 305 )

 

أو كما يقول في مقطع آخر من نفس القصيدة :

 

" يا شامة ً خضراء في وطني

يا كعبة ً في الأرض أعبدها

لو مت يوماً أعطني كفني

بالعشب " يمّا " كفّني بدني " ( ص 308 )

 

يأخذنا الشاعر بعيداً بتلك اللغة البارعة البسيطة والممتنعة ، كأنها جزء خارق من جماليات الوجود ،  نحس بها ،  بنداوتها وعذوبتها ، وفيها ذلك المسّ الحنون الذي يشعل الروح ، وفيها شيء خفيّ مبهم يلامس وجداننا حتّى نذوب فيه بنشوةٍ عذبة تأخذنا بعيداً خارج الزمان والمكان ، كما يقول في قصيدة ( الأم ) :

 

" كانت الأم صبية

صاغها الخالق كالصبح المنوّر

فتنةً ، لوّنها فصل الربيع بالأماني

وهبت عينين في لون السماء

كل عينٍ منهما كنز عطاء ..

 

**

 

كانت الأم تغنيه وتدعو

أن يمد الله في أيامه

أن يكون الغار تاجاً لجبينه .. " ( ص 336 – 337 )

 

في تجربة أديب رفيق محمود نجد الشاعر والمعلم في ذات الوقت ، حيث تنعكس شخصية المعلم على شخصية الشاعر الكاتب يمارس مهارة اللغة وجمالية الأسلوب بدفق شعري مذهل ، يحمل ذكريات الوطن ويحاول استرجاعه بكل ما أوتي من قوة اللغة ، في محاولة واضحة من الشاعر لإنعاش الذاكرة عبر المقولة الشعرية ، يتصدى للنسيان وللذاكرة الحجرية ليعيد لفلسطين جذورها الأولى وهويتها الباقية الموزعة ،  كما في قصائده بين ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل .

أترككم مع الشاعر أديب رفيق محمود ، لعل المستقبل القريب ينصفه وتكون أشعاره وتجربته عنوان لدراسات وقراءات مستقصية تأكيداً على مكانته كشاعر مجدد ومعلم في الحركة الشعرية الفلسطينية .

تجربة ثرية لا بد من العودة إليها مراتٍ ومرات لنتناول في العديد من خصائص التجربة ومزايا القصيدة من زوايا مختلفة .

المزيد من المقالات...