dfdgsdg1085.jpg

عن مكتبة كل شيء في حيفا صدرت مؤخّرا رواية "في قلبي..." للكاتب المقدسيّ رضوتن صندوقة، وتقع الرّواية الّتي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التّشكيليّ ماهر شهاب القواسمي في 200 صفحة من الحجم المتوسّط، ومنتج الرّواية وأخرجها الأستاذ شربل الياس.

رواية "في قلبي..." هي الرّواية الأولى للمحامي المقدسيّ رضوان صندوقة.

طالعت هذه الرّواية فأدهشتني وسيطرت عليّ من سطرها الأوّل حتّى آخر كلمة فيها، فعنصر التّشويق قادني لقراءتها في جلسة واحدة.

تتحدّث الرّواية عن قصّة حبّ رومانسيّة بين رجل وامرأة، وتشعّبت إلى حكايات وقصص أخرى عن زواج فاشل، لكنّها بقيت مترابطة بخيط شفيف؛ لتخدم الهدف الأوّل، وهو السّلطة الأبويّة القمعيّة، الّتي تتحكّم بحياة الأبناء، فلا تعطيهم أبسط حقوقهم، ومنها حقّهم الفطريّ بالزّواج ممّن يحبّون، وما دام القمع يبدأ من الأسرة والبيت فإنّه يمتد ليعمّ المجتمع، الّذي أفرز سلطات مستبدّة.

وقد لفتت انتباهي الّلغة الأدبيّة الشّاعريّة والشّعريّة الّتي كتبت بها الرّواية، فقد بدا لي الكاتب كأنّه يتغنّى بجماليّات الّلغة، وساعدة في ذلك أنّ روايته رومانسيّة، والرّومانسيّة هي:" هي إناء الحبّ والعشق والغرام وتتشكّل من مزيج من الإحساس بالتّعلّق القويّ والجذّاب والممتع والعاطفيّ في إطار خياليّ حالم جميل تجاه شخص آخر، وغالبا ما تتجمّع هذه الأحاسيس في وحدة من الجاذبيّة العاطفيّة التي تتدرّج صعودا إلى التّمازج الجنسيّ".

 لكنّ الحبّ في رواية "في قلبي..." تدرّج إلى قمّته الّتي كان يجب أن تصل بين فارس الّذي يقرض الشّعر، وبين عشيقته الدّكتورة غدير إلى الزّواج، لكنّ السّلطة الأبويّة رفضت ذلك، ففرض الأب على ابنته أن تكون خطيبة لرجل آخر؛ ليبقى الشّاعر العاشق " فارس" وعشيقته الدّكتورة غدير يعيشان لوعة الحبّ، الّذي لم يكتمل كما يشتهيان، وحكاية فارس وغدير ذكّرتني بقصّة" قيس وليلى" المعروفة في الأدب العربيّ. فهل تأثّر الكاتب رضوان صندوقة بها، أم أنّ روايته جاءت عفو الخاطر؟

والحبّ والرّومانسيّة مترابطان كما تقول د. نرمين الحوطي في مقال نشرته في صحيفة الأنباء الكويتيّة بتاريخ 4-7-2008:" الحبّ والرّومانسية جزء لا يتجزأ، فالرّومانسيّة هي النّواة الأساسيّة للحبّ، والحبّ هو الطّاقة المولّدة للرّومانسيّة، فهما مشاعر يحتاجها البشر، فبدون هذه المشاعر لا يستطيع الإنسان العيش، فهما النّسمات الجميلة التي يستنشقها الإنسان، وهما الماء العذب الذي يروي ظمأه، ولكن ما الفرق بينهما؟ الحبّ هو العلاقة الناجحة بين شخصين، وهو لا يخضع لشروط لأنّ كلّ شخصين حالة خاصّة تختلف عن غيرها. وهو من ضروريّات الحياة، أمّا الرّومانسيّة فهي محاولة من البشر لتجميل الواقع، حيث تتجزّأ إلى الخيال والحلم، ويتمّ من خلالها إضفاء السّعادة على الحياة."

وواضح أنّنا أمام كاتب رومانسيّ، ولو لم يكن كذلك لما استطاع كتابة هذه الرّواية.

لكنّ السّؤال هو هل عاش الكاتب حالة الحبّ الّتي كتب عنها؟ وسواء كان الجواب "نعم" أو "لا" فإنّ هذا لا يغيّر شيئا من قيمة الرّواية، مع التّذكير بأنّ الكاتب يكتب في نصوصه شيئا من حياته، ومع التّأكيد بأنّ حبيبة الكاتب أو حبيب الكاتبة ليس شرطا أن يكون إنسانا من لحم ودم، وقد يكون وليد خيال خصب.

ما علينا، فالرّواية لم تقتصر على حالة العشق بين فارس وغدير، والّتي أفسدتها

 " السّلطة الأبويّة"، عندما وقفت سدّا منيعا بين زواجهما، بل تعدّتها إلى حكايات أخرى، فإحداهنّ فرض عليها زواج البدل، وتمّ طلاقها عندما اختلفت بديلتها مع زوجها وتطلّقا، فتطلّقت هي الأخرى بضغط من حماتها وهي حامل؛ لتنجب طفلا عاش في كنف والدته بعيدا عن والده.

وهناك زواج العمّة الّتي تزوّجت من مغترب في الخليج لا تعرف شيئا عنه، وتفاجأت بأنّه في السّتينات من عمره، فقضت معه مرغمة عشر سنوات، مات بعدها؛ لتمضي بقيّة حياتها أرملة.

وواضح أنّ الكاتب قام بدور السّارد العليم، فقد حرّك شخوص روايته كما يريد، ولم يترك لهم حرّيّة الحركة، حتّى أنّه لم يترك لهم في أكثر من موقف حرّيّة الحوار، ليتحاوروا مع غيرهم، بل كان يسرد ما يقولونه على ألسنتهم بلغة الغائب.

ويبدو أنّ الكاتب قد استفاد في قصص وحكايات روايته من مهنته كمحام، فمن خلال القضايا العائليّة والأسريّة الّتي استلمها كمحام اطلّع علىى الكثير من القضايا المجتمعيّة الّتي ولّدت مشاكل مثيرة أيضا.

وماذا بعد: تعتبر هذه الرّواية إضافة نوعيّة للمكتبة الفلسطينيّة، الّتي تفتقر لروايات الحبّ، وهي موجودة بين أفراد شعبنا مثله مثل بقيّة الشّعوب، وإن طغى الهمّ السّياسيّ على الأدب الفلسطينيّ، مع التّأكيد أنّ هذه القراءة السّريعة للرّواية لا تغني عن مطالعتها والتّمعّن فيها، وهذه الرّواية تنبئنا بمولد روائيّ جديد سيكون ه شأن في عالم الرّواية بشكل خاصّ، وعالم الأدب بشكل عامّ.

dgfgsg1085.jpg

تفاجئنا الشاعرة نينا عامر بعنوان ديوانها المدهش، والمثير للجدل "أسلحة أنثوية عديمة النفع" فهي تجعلنا نسأل، هل جمال الأنثى ورقتّها هو أمرٌ عديم الفائدة أو الجدوى؟ وهي تحتاج إلى أسلحة أخرى؟ أم هي أسلحة كافية؟ وهل القسوة تستطيع أن تحطّم الرقة؟

تقولُ في نصّ أسلحة أنثوية عديمة النفع: "إنّني متسخة بالحياة التي عشتها/ يبدو أنّ ذخيرة أسلحتي لم تعد نافعة/ بالدمع أقيسُ حبّي/ بحنان أفتحُ ضفائر الشجارات".

تكتبُ نينا عامر قصائدها بخاصيّة متفرّدة، يعشقها القارئ لانسيابيتها الغارقة بالجمال والمفرطة بالعذوبة والرقّة الجارحة. هذه الشاعرة نصوصها تصلح كنموذج للدفاع عن قصيدة النثر. وليس كل ما يُكتَب نثراً. ونحن نواجه بهذا الديوان أصحاب الشعر الكلاسيكي الباهت. ففي هذا الديوان جرأة في الحداثة وجرأة في تجاوز المألوف.

فهي في الشعر لا تخشى لومة لائم، تفرغُ كلّ ما في جعبتها من ألم وحنين وجروح غائرة بجرأةٍ عالية. تنزعُ أشواك جلدها على الملأ وتعرّي وجه الحبيب الظالم تارةً ووجه المجتمع القاسي تارةً أخرى. فهي تطالب بحقها في الحياة بالطريقة التي تحبها.

تقول: "عربات أيامي تجرّها سلاحف مرهقة/ تلك المزاجية المزعجة التي تشكو منها الأمهات بات يشكو منها عشيقٌ أربعيني". وفي قصيدة "فستان أحمر مستلقٍ على الذاكرة" تقول: كيف أخبرك أنني عائمة في البلل/ بينما لن أجفّفه معك؟/ أذكّر نفسي أن خشونتك ليست إلاّ انعكاساً للظلام/ قسوتك التي لا تكسرها رقّتي.

تحاول أن تجد حلاً لحياتها وربما لحياة الكثيرات قبلها من النساء الخجولات. كما فعلت الشاعرة النسوية الأمريكية سيلفا بلاث والشاعرة الفرنسية، سيمون دي بوڤوار، والشاعرة المكسيكية فريدا كاهلو. والحلّ لا يكمن عندها بإنجاب طفلٍ كما يريد المجتمع. تقول: لماذا تتكبّد النساء عناء إنجاب طفلٍ/ لن يضطر على الأقل لمسح الغبار عن مشاعرها الطرية؟ فهنا يعلو صوت الأنثى بجرأةٍ وتمرّد، فهي ترفض أن تكون آلة إنجاب لتسعد الآخرين!

تقول الشاعرة نينا عامر: صنعتُ حياتي التي أُحِب/ حفرتُ لها تربة / في أرض من السيراميك ولم تخذلني/ نبتت من تربة السيراميك/ ألفةً ومزاج رقيق وجمعات عائلية.

كما أن هناك توقاً وجنوحاً نحو الحرّية التي لا تزال غائبة في مجتمعنا الشرقي. فالعيش تحت سقف العائلة الشرقية قد يفقد الأنثى أجنحتها ويغتصب سماءٍ حريتها. الأنثى التي تريد أن ترتدي ثوباً يناسبها، تجدُ أثواباً مفصلةً مسبقاً من قبل ولادتها. فهي تارةً واسعة لا تصلح لجسدها؛ أو ضيقة جداً لا تناسب مقاسها. والشيء اللافت في هذا الديوان أنّ الشاعرة هنا، تكتب بجرأة قد تعجز عنها الكثير من الشاعرات بسبب الخوف والعادات الاجتماعية القاسية والشعور بالذنب أحياناً لأنها ستعاقب من قبل السماوات والأرض معاً.

لكن الشاعرة نينا تكتب بحبر القلب. وتحمل غيمة الشعر على كفّها لتهطل على العالم الغارق بالحزن والآفات المنتشرة به من زمنٍ بعيد. فهي ترسمُ لنا صوراً باذخة مليئة بالوجع والقلق والمعاناة.

تقول الشاعرة: الكلام المُرّ الذي/ يتفوّه به رجال العائلة/ على أية حال سأخرجه في الصباح من جسدي كفضلات/ بعدما أشربُ فنجان قهوتي مع سيجارة/ هذه سياسة فعالة للتعايش مع العائلة. ثمّ تعترف لنا: هذا العالم ليسَ مكاناً مناسباً للتنزّه.

الشاعرة تصورُ لنا الأنثى التي ما زالت تحيا كفراشةٍ معذّبة ترفرفُ فوق مصباح الشرق إن اقتربت منه احترقت وإن ابتعدت اتهمت بالإثم والجنوح. ولكن الأنثى هنا فتاة متمردة، معجونة بماء القصائد، ولذا عليها خلْق عالمها الخاص بها. عالم لا يوجد فيه سجان ولا أرض محاطة بالأسلاك الشائكة. ولذا ستعتبر أن الكلام والشجارات شيء سوف تبتلعه وتخرجه مع فضلاتها.

تقول في "نص كورسيه سكسي": أشتّمُ رائحتك في روحي/ وأنظر طويلاً إلى ردفي على المرآة وأصفعها بالنيابة عنك/ هذا كل ما احتاجه لبدء يومٍ جديد.

ثمّ تقول بنبرةٍ صادقة ورغبةٍ عارمة: أغالب رغبتي في كتابة/ رسالة نصّية إليك محتواها/ أشتهيكَ بعنف. فنرى هنا بالرغم من قسوة الحبيب ومازوخيتهُ، ما زالت تفتًش عن الحُبّ ولها جسدٌ يتوق للحنان والرغبة والجنس.

وعندما تتحدث الشاعرة عن الحُبّ الشفاف، نرى أنها تمتلك خيالاً بديعاً وتكتبُ بلغةٍ شديدة العذوبة. شعرتُ خلالها بأنها تشبه الفرسَ الجامحة التي تبحثُ عن فارسٍ يجيد قطع المسافة ويفهم لغة الصهيل. تقول في قصيدة "عيناك اللتان أحُبّ": أصنعُ منك أحلى الأشياء/ فستان حريري مضاء بأصابعك/ ضحكة شهيّة محلاة بصوتك/ كرزة دامية مثل روج أحمر، هي شفتي الملونة بقبلاتك. وفي قبلةً هوائية تقول: أُحبّك برعم وردة/ يزهر من حلمه/ امرأتك الأحلى/ حين تبتسم لصورتي في المرآة.

يا لهذه اللغة الباذخة، الغارقة بالعطر والجمال الآخّاذ! تجذب القارئ وتحملها على بساطٍ ساحر لتضعه على شاطئ الجمال والتأمل والشعر الأنثوي الجميل.

ولكن السؤال هنا؛ هل الحب يحتاج إلى عباءة الحرية؟ ليستطيع الظهور والتجلّي أمام العالم؟ وهل الأنثى الشرقية ما زالت تبحثُ عن سماءٍ بلا قضبان؟ وما زلت تعاني كطائرٍ مقصوص الأجنحة؟

تقول الشاعرة في قصيدة صائد الفراشات: السماء في قلبي والطائر في القفص/ لستُ حجراً/ بل جرعة هائلة من السعادة/ لا آثار لأقدام الحب هنا/ سوى معطف أسود على ياقته تلمّعُ كأنها قصيدة حُبّ. فهنا ربما تتمنى الشاعرة لو أنها خُلقت بجناحين لا بذراعين مقيدتين لا يستطيعان التحليق، والعيش كما يشتهي القلب.

في النهاية أستطيع القول مع أن الديوان كشف عن مساحات من الحزن المترامي في سهول قصيدتها، وعن قلبٍ كسره الحُب، الذي لا يخفى على القارئ، نجحت الشاعرة نينا عامر نجاحاً باهراً بتقديم ديوان رائع، محمل بقصائد وارفة، كُتبت بأسلوب ساحر، غير متكلف وغني بالاستعارات الفريدة، المضمّخة بعطرٍ عصي على النسيان.

gfggfs1085.jpg

قصة " الكوكب الأحمر " قصة موجهة للأطفال بين سن (8-11) عاما، بقلم الأديبة المربية د. روز اليوسف شعبان، التي تؤمن بأهمية القصص  للطّفل، ودورها في تنمية خياله وتطوّر شخصيّته ، إن أُحسِن بناؤها.

القصّة التي صدرت عن أ. دار الهدى، عبد زحالقة تقع في 28 صفحة من القطع المتوسط، تزيّنها رسومات الفنانة رحاب جمال الدّين، ونسّقتها آلاء مارتيني،  تتميّز بالخيال العلمي الذي يتفاعل مع أدمغة أطفال اليوم. فهم يعيشون في ظل عالم تتحكّم التكنولوجيا بأدقّ تفاصيله، وبالتالي يشكّل تربة خصبة لخيالهم، ويثير العديد من تساؤلاتهم، فتكون قاعدة تنعش التّفكير وتقود إلى الإبداع.

لم تكتفي الكاتية بالخيال العلمي المجرد، بل حرصت على تمرير القيم والرّسائل التّربوية للطفل وللأيوين والمدرّسين على حدّ سواء،

ابتدات القصّة بجلسة هادئة لنور ووالديها على شرفة المنزل في ليلة مقمرة، صافية الجوّ، مما جعل الطّفلة نور تستمتع بسحر النّجوم والكواكب، وتسرح بخيالها، فتنقلها أحلام اليقظة إلى كوكب المرّيخ لتلتقي بسكّانه الآليين ( الرّوبوتات) فتتحدّث معهم،  وتدير حوارا جميلا بينها وبين الروبوت الذي وصف حياتهم بالجميلة على كوكب المريخ، إذ أنّها بعيدة كل البعد عن العنف والحروب، عكس ما يحدث على كوكب الأرض.

لقد كان لمدرس مادة العلوم في مدرسة نور تأثيرا كبيرا عليها، إذ كان يعرض بين الفينة والأخرى أفلاما وثائقية تظهر أهم اكتشافات العلماء في كل ما يتعلق بعلم الفضاء، ممّا سحرها، وجعلها تفكّر به ليل نهار.

وهنا أثارت الكاتبة ثلاثة مواضيع في غاية الأهميّة:

أوّلا: دور المدرّس في إطلاع طلبته على كل ما هو جديد من دراسات واختراعات واكتشافات حديثة، وتثقيفهم باستمرار؛ ليواكبوا تطوّرات العالم السّريعة، متجنّبا دور المدرس التّقليدي الذي يلتزم حرفيا بالكتاب المدرسي، بل يحثّ طلبته على التّفكير ، وعلى طرح الاسئلة دون حرج.

ثانيا: أهميّة توفير الهدوء والعلاقة الحميمة بين أفراد الأسرة، إذ أن الجلسات العائلية الهادئة الحميمة، تشعر الطّفل بالأمان، وتسهم في إطلاق خياله الذي يقوده إلى عالم الإبداع.

وقد  أعجبني تصرّف نور مع والديها، إذ استأذنتهما حين غادرت الشّرفة، متوجّهة إلى غرفتها لترسم ما رأته في خيالها.

ثالثا: ركزت الكاتبة على حسن تصرّف والدي نور في التعامل معها حين أيقظاها من حلمها، فهما يعلمان مدى تأثير الحلم على الطّفل، خاصّة وقد كانت نور مصرّة على أنّها كانت في رحلة إلى المرّيخ، وسألتهما: لماذا لم تتركاني في المريخ مع صديقي الآلي؟ وحين اقترحت عليهما أن يسافروا معا إلى المريخ، لم يقمعاها ولم يستخفّا برأيها واقتراحها، بل وعداها بأن يفكرا بالأمر.

كان تصرفا سليما وتربويّا لأبوين خببرين في التعامل مع الطفل.

أما بالنسبة للغة التي استعملتها الكاتبة، فقد كانت لغة موفّقة، بسيطة، ولكن ثريّة بالمفردات الجديدة، والصور الأدبية الجميلة.

وفي الختام، لا شكّ أن القصّة تعتبر إضافة نوعيّة للمكتبة العربيّة.

sgsgggg1085.png

رواية اليتيمة رواية صادرة عن مكتبة كل شيء في حيفا للأديب المقدسي جميل السّلحوت عام 2021. تقع في 260 صفحة من الحجم المتوسّط. وتأتي هذه الرواية ضمن سلسلة روايات السّلحوت الاجتماعية المناصرة للمرأة، التّي جاءت هذه المرّة لتسلّط الضّوء على قضيّة اليتم من خلال رحلة حياة فتاة اسمها عبير بدأت معاناتها حين فقدت أباها وأخويها في حادث سير، وحرمانها من حقّها في التّعليم، وظلم أمّها لها حين قرّرت منح المال الذي حصلت عليه عبير كهديّة تفوّقها من معلّماتها ومديرتها في المدرسة؛ لتتمكّن من الالتحاق بالجامعة لأخيها عزيز لزواجه.

وبدا تمييز الأمّ في معاملتها لابنتها رغم تفوّقها على أخيها في دراستها، وشخصيتها  استنادا لموروث تخلّف مجتمعيّ في قولها:" شقيقك سيحمل اسم أبيه وجدّه، وهذا ما سيفعله أبناؤه من بعده، أَمّا البنات فسينتقلن إلى بيوت أزواجهن".

وفي مدحها الدّائم لعزيز على مسامعه بقولها:" عزيز شابّ-اسم الله عليه- كلّ فتاة تتمنى أن يقبل بها شريكة له."

كما بدا ذلك التّمييز من قبل في كلام جدّة عبير في صغرها:" كم تمنّيت لو كانت هذه البنت ولدا؛ لتكون عونا وسندا لأخيها عزيز؛ وليبقى اسم العائلة خالدا بين أهل البلدة."  كما بدا في قضية الميراث بتسجيل شقّتين وقطعة أرض باسم أخيها عزيز دون أن يسجّل شيئا باسمها.

تستمرّ رحلة ظلم عبير بزواجها من مهيب بتدبير زوجة أخيها، التّي كانت تعرف حالته العصبيّة، وتناوله للمهدئات بحكم أنّه ابن خالتها، مع تستّر أمّه عليه، وكان في الرّواية رسالة بعدم الاغترار بالمظاهر، والماديّات، والحكم على الأشخاص من خلالها، وعدم التّسرّع في عقد القران كما حدث مع عبير إذ انبهرت بوسامة مهيب الخارجيّة، وتسرّعت بقبول الزّواج منه بتشجيع أمّها.

وحين سافرت عبير مع مهيب بعد الزّواج حيث عمله في الكويت، بدأت صدمتها ابتداء من سكنه المشترك مع صديقه في بيت قديم، وضعفه الجنسيّ، ومرضه النّفسي، وظهر دور إيجابيّ لأبيه في سفره إليه ليطمئن عليه؛ خوفا من إفشاله زواجه لمعرفته بطباعه الصّعبة، لكن دون جدوى، وبعد ولادة عبير لم يحتمل صراخ طفله فضربها، وكسر يدها، وانتهت الأمور بالطّلاق، فما بني على ضعف الأساس لا يلبث طويلا لينهار.

رغم ما احتوته الرّواية من تجسيد لمظاهر تخلّف مجتمعيّة، وظلم للفتيات إلّا أنّها لم تخلُ من الإشارة لكثير من العادات والتقاليد الإيجابيّة ومنها:

- رعاية الجدّ لأحفاده بعد وفاة أبيهم، ومحاولة توفير متطلّباتهم بكلّ وسعه، وإظهاره القوّة أمامهم.

- التّكافل الاجتماعيّ الذي بدا في مواطن عدّة في العلاقات بين الجيران والأقارب، كما بدا في جمع المعلمات والمديرة المال لعبير مساعدة لها لإكمال دراستها.

‌ - الرّوابط المتينة الطّيّبة بين الأخوة العرب، كما بدا في العائلة الكويتيّة التي اهتمّت بعبير حين سافرت مع زوجها إلى الكويت، ومعاملتهم لها كأهل بدّدوا عنها ليل غربتها.

‌وتعدّ هذه الرّواية أدبا واقعيا اجتماعيّا نفسيّا، ودعوة لتغيير الأفكار المغلوطة حول الزّواج، والتّخلّص من الأفكار الذّكوريّة البالية.

‌لم تخل الرواية -كباقي روايات الكاتب- من الاستشهاد بآيات القرآن، والأمثال الشّعبيّة، والأسلوب البسيط واللّغة السّهلة مع استخدام لبعض المفردات العاميّة لإيصال الفكرة بأقصر الطّرق إلى القلب، كما لم تغفل عن حضور القدس وأحيائها لتسليط الضّوء على معاناة الفلسطينيين هناك، حيث اختار قرية سلوان أكثر القرى استهدافا مكانا لسكن أبطال الرّواية، وتحدّث عمّا تعانيه بفعل الانتهاكات الإسرائيلية التّي تسعى إلى إخلائها من سكانها الأصليّين، ومنحها للمستوطنين المتطرّفين بين ثنايا الرّواية.

القارئ الضمني هو ذلك القارئ الذي قد يقرأ العمل الأدبي ويقصده بمعنى آخر. هل فكر الكاتب بهذا القارئ؟ وكيف يمكن أن تكون ردة فعله؟ وأحيانا أخرى يتطابق القارئ والكاتب، وقد حدث الأمران معي.

آخرها ما أفاض فيه صديقي الكاتب والباحث الدكتور نبهان عثمان إثر قراءته لكتابي "مساحة شخصية- يوميات الحروب على فلسطين". يتصل بي الدكتور ويعبّر عن إعجابه بالكتاب وأفكاره وبأنني كتبت ما بداخله. في الحقيقة نحن نتطابق في أمور كثيرة أنا والدكتور نبهان، ولاحظت ذلك وأنا أعمل على تحرير كتابه الجديد "الثقافة الاستعمارية والألم البشري". يا لها من صدفة جميلة ومبهرة حقاً!

تحتاج إلى هذا النوع من القراء الكتّاب المثقفين الذين يمثلون مرتبة عليا من الوعي وامتلاك الرؤيا والفكرة، ثمة كتّاب أصدقاء أقرأ لهم ويقرؤون لي، أكتشف أننا نتشابه كثيراً. إنه جميل إلى حد ما، لكن لا بد لك من قارئ مختلف، يختلف معك ليثيرك ويشجعك على أن تنمّي مهارات التفكير والحجاج وتقليب الفكرة على غير وجه، بل ويدفعك إلى الشك بما تكتب لتعيد مراجعة ذلك. هذا النوع من القراء مفيد، وعبقري، وضروري لا سيّما إذا كان متربصا بك، يعتبرك الوجه المضاد لأفكاره.

إلى الآن لم أجرب هذا النوع من القراء بهذه الكيفية بحيث نشكل معاً حلقة من اتجاه معاكس على مستوى الفكرة ونقاشها. اقترب من هذه الصورة قليلا صديقان، الأول الكاتب السياسي عمر حلمي الغول الذي عارضني في كثير من الأفكار التي كنت أضمنها مقالاتي، وصل الأمر به إلى أنه كتب مقالة وافية في الرد على مقالة لي، ونشرها في زاويته الخاصة في جريدة الحياة الجديدة. وأما الصديق الآخر فهو الشاعر والناقد الدكتور المتوكل طه الذي ناقشني مطولا هاتفيا حول مقالتين، إحداهما حول المثقف وعلاقته بالسلطة، والآخر عندما وجهت له رسالة ضمن مقالٍ لمناقشته في فكرة طرحها في ندوة أدبية حول الأسرى الفلسطينيين ودورهم. كلا الصديقين رائع، ورغما عن اختلافهما معي واختلافي معهما في بعض الأفكار والتوجهات السياسية، إلا أن لغة النقاش كانت راقية، وتدل على أن الحكم هو الفكرة وليس التعصب.

أما خارج دائرة الأصدقاء، أي من خارج دائرة المعارف، فثمة كتاب وقرّاء تفاعلوا مع ما أكتب، وكانت آراؤهم محفّزة لي على أن أجد في ما أكتبه أهمية كبيرة، وقد أفسحت لهم ولآرائهم مجالاً في كتبي، مرسخاً بآرائهم أمرين اثنين، وهما: ديمقراطية الكتابة، بما تعنيه من حق الاختلاف، ومنهج النقد التفاعلي الذي أرى أنه من الواجب الأخذ به في كل كتاب جديد، لما له من أهمية نافعة في تصوير الفكرة وبحثها. وسبق أن أشرت إلى ذلك في مقدمة كتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، وعدا هذا فقد خصصت كتابة غير هذه لبحث مسألة النقد التفاعلي كما بدا في تجربتي الكتابية، وخاصة النقدية، مبينا مظاهرها وورودها في كتبي، وأهمية أن يحافظ عليها الكتاب، ويولوها عنايتهم ففيها الكثير من المنفعة للقارئ والكاتب ومناقشة الأفكار سواء بسواء.

يمثّل هؤلاء- إذاً- نوعين من القراء، وثمة نوع آخر مختلف تماماً، هو ما سأتحدث عنه بالتفصيل فيما سيأتي:

في حالات نادرة، أشبه بالهدايا الربانية العظيمة، تمنحك الحياة قارئاً متفحصاً، نهماً، عارفاً، متيقناً من صنعته. نعم صنعته! ليست وحدها الكتابة هي صنعة، بل القراءة صنعة لا تقلّ أهمية عن صنعة الكتابة، و"القراءة عملية معقّدة" كما يقول إدوارد سعيد، لا سيّما القراءة التي يمارسها قراء من هذا النوع؛ الذين لا يطمحون أن يكونوا كتّاباً، ولا نقّاداً، لكنهم يعرفون أن الكتاب جيد، وجيد جدا، بل ممتاز، ويعرفون من خلال معايشتهم تفاصيل كثيرة عن الكتاب المقروء إلى الحد الذي يفاجئ الكاتب نفسه. إنهم فخورون بأنفسهم كونهم كذلك، يكشفون عن روح الكتب وروعتها، ويضعون أيضاً أيديهم على مواطن الخلل التي فيها.

لقد حباني الله- ككل الكتّاب- في حقيقة الأمر بأمثلة كثيرة من هؤلاء القراء المثقفين الذين هم أفضل عندي من النقّاد؛ الأغبياء أحياناً. أغبياء لأنهم حشروا أنفسهم في أسمائهم ونصوصهم، ولا يبحثون ولا يجددون، إنما هم يدورون حول أنفسهم كما يدور الثور بالساقية، ويعتمدون على اللغة النقدية الجاهزة التي تشعر القارئ بالغربة عن النص المنقود.

هؤلاء الأصدقاء يعرّفون أنفسهم بأنهم قراء، لهم مجساتهم الذاتية في الحكم على ما يقرأون؛ فهم لا يملّون من الكتاب، ولا يستطيعون التخلص منه إلا بعد أن يُتِمّوه لآخر جملة فيه، فلا يؤجلونه إلى وقت آخر، فيتحول إلى صديق ورفيق طوال الوقت، وقد يعيدون قراءته على مهل، ويدفعهم إلى متابعة البحث والتحري عن بعض ما جاء فيه، ليضيف لهم في نهاية عملية القراءة شيئا جديدا، مرسخا فيهم قناعاتهم التي شكلوها بفعل الحياة والتجارب، أو يُحدث لديهم قلقا معرفيا لأسئلة جديدة مقلقة، لعلها تساهم في خلق قناعات مغايرة. إنهم يتعاملون مع الكتب بجدية مطلقة؛ إن استطاع الكاتب أن يقنعهم بكتابه منذ الصفحات الأولى، أو من خلال الفقرة التعريفية على الغلاف الخارجي للكتاب.

إنهم يستطيعون أن يقولوا للكتّاب الكثير عن كتبهم: الشكل العام، والعنوان، ولوحة الغلاف، والأفكار، وتفاصيل صغيرة؛ في العبارات، واللغة، والألفاظ، والتراكيب، وثراء اللغة، وإحداث الدهشة، والمتعة، والجدية في التأليف، والرسالة المبتغاة. إنهم عارفون أيضا بمآلات الصنعة الكتابية في بعدها البراغماتي الذي يهم القارئ، وحركة الكتب والأفكار بين عموم المهتمين، ويجيبون ببراعة عن جملة من الأسئلة المتصلة بلبّ عملهم: لماذا يقرأ القراء؟ ولماذا يكتب الكتّاب كتبهم؟ ويعرفون أيضاً أين أخطأ الكاتب، وأين فشل الكتاب في تحقيق رسالته التواصلية مع القراء.

كل هذا حدث مع زميلة قارئة، نهمة، تحب القراءة، ولديها تاريخ طويل فيه، تشعرك كأنها مثل ألبرتو مانغويل في التمتع بفعل القراءة، تتحدث عن هذا الفعل بفرح كبير، كما يتحدث مانغويل نفسه. لقد قرأت زميلتي هذه كتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، وعلى الرغم من أن الكتاب طويل، صغير الخط، مكتظ بالأفكار إلا أنها استطاعت أن تقدّم حول الكتاب أفكارها بوضوح كبير.

لهذه القارئة محدداتها، فأنا لم أكتب رأيي في المسائل المطروحة دون أدلة. في حقيقة الأمر كنت حريصا على أن أدعم وجهة نظري بالأدلة النقلية والعقلية، وأحافظ على إيقاع واحد للكتاب في المناقشة العقلية الهادئة المطمئنة. انتبهتْ إلى ما في الكتاب من أفكار صادمة، لقد أزعجها أن تصطدم بهذا الواقع المرعب للثقافة، وما يدور في كواليسها من امتهان للمرأة، وتشدّد على امتهان المرأة لذاتها، وتمهّد الطريق للآخرين لتكون ضحية تصوراتها وهواجسها وتطلعاتها. لقد كسر الكتاب- كما قالت- تلك الصورة النمطية الذهنية التي تشكلت لديها منذ تعلقت بالقراءة وتعرفت إلى الكتّاب والكاتبات، فكانت ترى الكاتبات قديسات وعظيمات، وفي مكانة رفيعة ومكان عَليّ. جاء هذا الكتاب وكسر تلك الصورة بأطرها كلها، وفتح الملفات السرية للنظر إلى هذا الواقع الثقافي العفن، لقد كان الكتاب كفيلا بأن يسبب لها اكتئابا طويل الأمد، منعها أن تكمل القراءة، وكانت تتحاشى أن يجمعنا الوقت والظروف خشية أن أسألها عن الكتاب ورأيها فيه. لأنها كانت في قمّة الإحباط.

أكدت لهذه القارئة أن هناك خفايا أشد وأبلى، ولم أتطرق إليها، لأنها ستجعل من الكتاب حاوية لخطايا الكتاب والكاتبات، ولأن الهدف ليس هذا بالتأكيد من الكتاب، واكتفيتُ بالإشارة وبينت ما أريد من أفكار بأمثلة محددة لئلا يتحول الكتاب إلى فضيحة ثقافية كبرى لوسط لا ثقافي، يعاني ما يعانيه من مشاكل أخرى هي أعظم من استغلال جنسي لكاتبة والتمتع بها من أجل إرضاء شهوة النفس الأمارة بالسوء لكاتب سمج وشهواني وعديم اللباقة والحس والذوق.

ماذا ستقول- مثلاً- عندما تعلم أن الكتّاب؛ بعضا منهم بالتأكيد تتأطر صورتهم في صورة أشخاص، أكثر انتهازية من أي شخص انتهازي آخر، مصلحجيون من طراز دنيء جداً، وأنهم في العموم ذوو مكائد وحسد ونفسية سوداء في تعاملاتهم البينية، وأنهم يشكلون فيما بينهم شِلَلاً طافحة بالغدر وسوء النوايا، ويتقنون أفعال النميمة الاجتماعية، وأنهم فشلة فكريون وكسالى، وانتقاميون، وكيف سيكون وقع الحقيقة عليها لو علمت أن من الكتّاب منافقين، وكذابين ودجالين، ونصابين، وعملاء مدسوسين، ومروجين للتطبيع، ويدافعون عن حلم الاحتلال والوجود التوراتي في الأرض المقدسة؟ وأنهم ماديّون لا يقدّسون سوى الدولار، ويطوّعون ما لديهم من مهارات وعلاقات مع المستوى السياسي من أجل تحقيق مصالحهم الصغيرة والكبيرة والفوز بالجوائز، والحصول على الامتيازات في الطباعة والسفر والمشاركة في الأنشطة الثقافية المهمة.

لقد اكتشفت دفعة واحدة على نحو صادم أن الكتّاب ليسوا أنبياء، وأن الكاتبات لسن قدّيسات، كما كانت تفكّر وهي بعدُ على مشارف القراءات الأولى لعالم الكتّاب الطافح بالخيال والرومانسية المثالية، وعلى أية حال كنت أشترك معها في هذا التفكير السابح في الصورة الفنتازية إلى أن دخلت هذا الوسط، وتعرفت إلى ما يدور فيه من كواليس ومكائد، وما يعتمل فيه من إقصاء وتشويه سمعة، وتدمير موهبة، وعايشتُ سياسة التعهير الثقافي من الكتّاب والكاتبات على السواء. وعرفت كيف تتم طباعة كتب الكاتبات الجميلات، وكيف يتم إشراكهنّ في المهرجانات الشعرية والمؤتمرات الأدبية في الداخل والخارج، وعرفتُ أيّ ثمن يدفعنه مقابل كل ذلك. وحتى لا تغضب مني جميع الكاتبات الجميلات من ذوات الصور اللامعة، والوجوه الحسنة والقدود الممشوقة والممتلئة، والصدور الفائرة الشهية، والأرداف اللافتة، وتحديدا الجميلات جدا، والأنيقات جدا، وصغيرات السنّ، أؤكد أن الأمر ليس عاماً، وليس هو قاعدة تنطبق على كل كاتبة أو شاعرة مشاركة في ندوة أو مهرجان أو طُبع لها ديوان، أو كتب لها "ناقد كبير" قراءة نقدية في أعمالها أو قدّم لها كتاباً أو ساهم في حفلات توقيع كتبها. فوجود العفن في أي وسط لا يعني انعدام اللبنات الصالحة والصورة المناقضة النقيضة لتكون أمثلة إيجابية.

تتجاوز هذه القارئة تلك الصدمة بعد نقاش طويل ومرهق، وتستعيد القدرة على إكمال الكتاب، فيدور حديث آخر بيننا، تعبّر فيه عن إعجابها بالكثير من التراكيب اللغوية، وتخطّ في نسختها تحت الكثير منها. بل وترى أن الكاتب يجب أن يكون له هذا الثراء اللغوي والمعرفي، وهذا الاقتران المدرك بفطرة الصنعة الكتابية "أن لكل موضوع ألفاظه وتراكيبه التي تفرض نفسها على الكاتب في لحظة الكتابة". أعجبتني جدا هذه الإشارة الذكية، وكأنها تومئ إلى ما يقوله النقّاد إن لكل كاتب معجماً خاصاً به، وإن لكل موضوع معجماً خاصاً به كذلك.

إنها بالفعل قارئة محترفة، فأنا أفعل ذلك أيضاً. وأنا القارئ المحترف، أقرأ الكتب منذ كان عمري 13 عاماً وإلى الآن. لا تنفع نسختي التي أقرأها أي قارئ بعدي لكثرة ما أخطه عليها وما أكتبه من ملاحظات، سبق أن قلت ذلك في تغريدة على توتير (21 سبتمبر 2017): "الكتب التي أقرؤها لا تصلح لأحد من بعدي، ولذلك أيضا لا أعير كتابا قرأته لأحد، فعليه ما عليه من صوتي الداخلي وأنا أقرأ". نعم إنه صوتي وحواراتي مع ذاتي، وكذلك الأمر بالنسبة لأي قارئ، ومع كل هذا، كم تمنيت لو أعطتني نسختها من الكتاب لأتأمل عملها القرائي؛ فأرى صنعتي الكتابية بين يديها على هديٍ من تفكيرها ولأسمع صوتها الداخلي، وأرى صورتي في هذا الصوت. إن هذا- وقد حدث- مذهل جدا، بحقّ، بل ومفرح فرحا لا حدّ له.

تزداد رغبتي في تعريف زميلتي هذه على كتب أخرى، فأمدّها بنسخة من كتاب "شهرزاد ما زالت تروي"، لما بين الكتابين من تشابه في الهدف، وإن اختلفا في طريقة العرض والتناول، فتأتي أيضا ملاحظتها دقيقة وعبقرية في نفورها من القراءات النقدية التي احتواها الكتاب.

لم تستسغ تلك القراءات، وشعرتْ أنها تقرأ عن أعمال أدبية غريبة عنها، فلم تفلح تلك القراءات بجسر الهوة المعرفية ما بين القارئ والقراءة النقدية، فثمة مسافة بينهما، لا تشجع القارئ على القراءة والاستمرار فيها، فهي لا تلبي شغف المعرفة، بمعنى أن الكتابة عاجزة وليس ناقصة فقط، هذا جعلني أفكّر بميزات القراءة النقدية الفاعلة.

أعتقد أن قراءات "شهرزاد ما زالت تروي" تختلف عن قراءات "الكتابة في الوجه والمواجهة"، فلم يظهر اعتراضها إلا على قراءات "شهرزاد..." النقدية. هل تطورتُ نقدياً؛ فثمة سنوات بين الكتابين تزيد عن ستّ سنوات؟ أم أنها هي من شعرت بالملل بعد أن قرأت كتابين لهما الرسالة ذاتها، وربما تقاطعت الأفكار بينهما في منطقة ما؟ هل كانت فلسفة المجموعتين مختلفة أم أن أحدهما تكرار للآخر؟ لقد سألتها عن هذا الهاجس بالتحديد، لأنني أريد أن أعرف السبب، فلم تكن المشكلة في الأفكار ولا في الأسلوب، فقد استمتعتْ بالفصل الأول غير المرتبط بالأعمال النقدية. النتيجة الأخيرة مع هذا الكتاب، لم تكمله، لأن الكتاب في هذا الفصل لم يستطع أن يكون كتابا معرفياً مستقلا بذاته، ظل يعاني من النقص والعجز، ولا يفيد إلا من قرأوا تلك الأعمال فقط والكاتبات اللواتي كتبت عن كتبهنّ، لأنهم وحدهم من يستطيع أن يفهم ماذا كتبت حول العمل الأدبي.

دفعتني ملاحظتها المتبصّرة إلى أن أعود إلى كتاب "شهرزاد ما زالت تروي" لأرى كيف كتبت قراءاته النقدية وأقارن بينها وبين قراءاتي النقدية في كتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة". ثمة إسهاب واضح في الكتاب الثاني، جعل القراءة النقدية أوضح في فكرتها وإضاءتها على العمل الأدبي، إضافة إلى أنني في كتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة" أوردت النصوص المدروسة مع بعض القراءات، وركزت على الاقتباسات في التحليل النصي للأعمال الأخرى، ما جعل القراءة مكتفية بذاتها في أغلب الأحيان، بالإضافة إلى أنني في مقالات هذا الكتاب ركزت على موضوع التنظير النقدي الذي أسهبت فيه عندما تحدثت عن الكاتبات أو أعمالهنّ، وذهبت نحو تعميم الأفكار، وحررتها من الارتباط الحتمي بالنصوص المدروسة.

على أية حال، فإن ما توصلت إليه أيضا مع هذا الكتاب له أهمية نقدية بالغة القيمة، فهي أولا تؤكد ما قاله إدوارد سعيد في أن المقال النقدي لا يغني عن العمل الأدبي، وتوصلتْ إلى هذا الحكم النقدي بخبرتها في القراءة، وثانياً يدفعني رأيها إلى ملاحظة جسر الهوّة بين القارئ والمقال النقدي في المستقبل؛ إذ الأمر الذي يراودني للكتابة حوله، كيف تجعل القراءة النقدية تغني نوعا ما عن قراءة العمل الأدبي؟ أو على الأقل لا تجعل القارئ يشعر باحتياجه للعمل، ويشعر بنوع من عدم الانسجام مع القراءة النقدية. هذا كان أمرا بالغ الأهمية من أجل تجسير الهوة بين القارئ- أي قارئ-، والكتاب- أي كتاب- وخاصة الكتاب النقدي، وفيما بعد بين القارئ وبين المقال النقدي الذي يحلل أي عمل أدبيّ، ويُنشر مستقلاً في الصحيفة أو المجلة فلا بد من الإيضاح والعمل على جسر تلك الهوة المكتشفة. كانت تأتيني قبل هذا الموقف تعليقات على تلك المقالات ولم أكن أهتم بها، تعليقات لها هذا المضمون تقريباً، من مثل: "لم نقرأ العمل لنحكم على صحة القراءة أو منطقيتها".

بعد هذه التجربة توصلت إلى قناعة أنه من الضروري ألا يشعر القارئ أن عليه أن يقرأ الرواية أو ديوان الشعر محل الدراسة، وعلى المقال النقدي أن يُرِيَ القارئ الكتاب، فيحببه إليه أو ينفّره منه، لا أن يجعل بين القارئ والناقد هذه المسافة الداعية إلى قطع التواصل بين أطراف العمل النقدي: القارئ والناقد والمبدع. فالنقد هو الجسر الواصل بين الطرفين، ولا بد من أن يكون هذا الجسر مبنياً بخبرة مهندس فنان، بقراءة نقدية ممتعة ومكتملة الأركان، وعلى الجانب الآخر أسرّ عندما يقول لي أحدهم إنني صرت أكتفي بما كتبته عن أعمال الكتّاب لأحكم على جودتها، وهل هي جديرة بالاقتناء والمتابعة. هذا الحكم جاءني من شخصين مهمين بالنسبة لي، الأول أستاذي الدكتور عادل الأسطة، والآخر الصديق، شريك الأفكار الدائم الكاتب حسن عبّادي. فكلاهما يثق بما أقوله حول أغلبية الأعمال الأدبية، وإن اختلفنا؛ فاختلافنا في بعض الجزئيات، فأنا أحمل في داخلي بعض مميزات د. عادل في الطرح والمناقشة، فإن لم يرضَ عما أقول، فستعجبه- غالباً- طريقة التناول والبحث. وأما حسن فأنا أثق فيه كثيرا، ولذا فإنني غالبا ما أعرض عليه كتبي لمراجعتها قبل أن تصدر. وهو يفعل ذلك، فالكتابة والقراءة بيننا قسمة وتفاعل.

هذا النوع من القراء يمنح الكاتب جرعات من الأدرينالين الذي يضخه في دمائه، فيزداد ثقة على ثقة. أنا- وكل الكتاب- بحاجة إلى مثل هؤلاء القراء الذي يكشفون جماليات ما نكتب. فيعطوننا الرغبة في زيادة العمل ومواصلة المشوار، لأننا بالفعل نقوم بعمل يستحق كل هذه المكابدات والتضحيات بالوقت والجهد والمال.

ترى هذه القارئة الشغوفة بالجمال أن الكاتب يكتب "لنا نحن القراء"، وهذا حق وعدل، فهذه الجموع القارئة التي تلتهم الكتب وتحرص على اقتنائها، هم من يصنع مجد الكاتب وحياته وحيويته وشهرته، ولولا هذه الجموع، لا معنى لوجود الكاتب، فلا كاتب يكتب للفراغ، ولِلّاشيء.

عليّ أن أعترف اعترافا صغيرا، لكنه فاضح، أن بيئة العمل التي أعمل فيها محبطة، فالزملاء لا يقرأون، لا كتبي ولا كتب غيري ولا حتى الكتب الرسمية ولا التعليمات وربما لا يقرؤون الكتب المقررة التي عليهم التعامل معها يوميّا في الميدان، فهم لا يجددون ولا يتجددون، على الرغم من أننا- نحن المشرفين التربويين- من أكثر الموظفين حاجة للقراءة بحكم عملنا التربوي اليومي المتجدد المفتوح على الأفكار وتنوعها واضطرابها. فمنذ ما يقارب 28 عاما عملت فيها في وزارة التربية والتعليم معلما ثم مشرفا تربويا لم أجد في هذا المحيط قارئا جديا سوى أربعة قراء أو خمسة على أبعد تقدير، ومن سوء ما فعلتُ أنني أهديت بعض كتبي إلى زملاء لا يستحقونها، فقد "دحشوها" في أدراج المكاتب، أو بين أوراقهم المهملة، وكنت أرى منظرها وأتـألم، ما دفعني إلى أن أسترجعها، ولم يحدث أن راجعني زميل ليسأل عن نسخته التي تكون قد ضاعت في هذه الحالة. أظن أن الفرَج قد جاءه من غامض علم السماء ليخلصه من هذا الذي حمّل حمله!

تأتي هذه القارئة لتعدّل كفة الميزان، وتقدم لي هذا الذي يطلبه أي كاتب في الكون؛ الاهتمام بكتابه، وقراءته بوعي فكري وبلاغي متقدم، ومناقشته، والتعبير عن الفرحة بقراءته، وأنه كان كتابا جيدا، ومفيدا، ولا بد من أن يُقرأ؛ لأن فيه ما يستحق القراءة، هذا النوع من القراء يستحق أن يكافأ بالمزيد من الكتب الجيدة، وهكذا فعلت وسأفعل دائماً مع كل قارئ جيد يُرضي طموحي، ويسعدني، فمن حقي ككاتب أن أنحاز لمن ينحاز لي من القراء العظماء، ولن أملّ من البحث عن أمثال هؤلاء، لأبذل لهم كتبي عن طيب نفس، طمعاً في توثيق علاقتي بهم كقراء أصدقاء يعرفون للكاتب حقه، ويقدرون بصنعتهم العبقرية هذه صنعته التي يطمح لها أن تكون عبقرية لتتناغم العبقريتان في الهدف وفي النتيجة. فمعاً وسويا من أجل كتابة فاعلة وقراءة أشد تفاعلية.

المزيد من المقالات...