ملاحظة ضرورية :

بدأت فكرة هذه المقالة كتعليق للكاتب على تعليق للناقد الدكتور صالح الرزوق عطفاً على مقالة للروائي والناقد الأستاذ "قصي الشيخ عسكر" عن مجموعة الشاعر يحيى السماوي الجديدة "حديقة من أزاهير الكلمات" واللذين – تعليق صالح ومقالة قصي - نُشرا في موقع الناقد العراقي يوم أمس ، ولكن كتابة التعليق أثارت شجوناً وهموماً وأفكاراً مهمة في نفس وذهن الكاتب رأى أن يطلّلع عليها السادة القرّاء بصورة مقالة مستقلة وليس تعليقاً طويلاً جدا فجاءت على الشكل التالي.

المقالة :

مقالات الأستاذ "قصي الشيخ عسكر" هي في الحقيقة دراسات مُركّزة ومُكثّفة ومُثقلة بالأفكار والرؤى والإحالات "الضمنية" الذكية والمواقف الأخلاقية المُشرّفة التي يعود جانب منها إلى ما اشار إليه د. صالح الرزوق عن منحدر قصي النضالي وتربيته العائلية. وأتذكر "مقالة" (من صفحتين) نشرناها له عن الكلمات ذات المعاني المزدوجة في لغتين مثلا وكانت في حقيقتها تصلح لبحث طويل أو أطروحة في علم اللغة المقارن. وفي رواياته تلمس الجزالة والرشاقة وانعدام الترهل. وهذه "المقالة" عن مجموعة الشاعر الكبير يحيى السماوي تصلح – بلا شك - دراسة طويلة أو أطروحة. فمن التنظير لقصيدة النثر وأصلها في التراث وأثر التلاعب بالموسيقى العروضية في تشكيلها وتأكيد الشعر في النثر والنثر في الشعر وتصنيف الشعراء وصلة الشعر بالفلسفة والدلالات الرقمية وفلسفة الغار النبوي وغيرها الكثير تمهيدا للوصول إلى رؤى في مجموعة يحيى السماوي الجديدة ، هذا المبدع – أي السماوي - الذي كلّما قرأتَه أكثر اكتشفتَ معانٍ ودلالات وخصائص فنّية تجديدية مُضافة تستحق الأطاريح . وبالنسبة إلى التفاتة قصي الذكيّة حول دلالات الألوان في شعر يحيى ، أحيل أخي قصي إلى أطروحة دكتوراه للباحث رسول بلاوي هي – من وجهة نظري - أفضل ما تناول دلالات الألوان في شعر يحيى ونشرناها متسلسة في الموقع.

الناقد المجيد المتحضّر مثل قصي الشيخ عسكر وصالح الرزوق هو الذي يقدّم "أكبر عدد من الأفكار في أقل عدد من الكلمات" وهذا سرّ "قصر" مقالاتهما ورشاقتها وكثافة لغتها. كما أن هذا يفسّر أنه ليس عيثاً أن يكون قصي الشيخ عسكرمن روّاد كتابة أدب الخيال العلمي في الوطن العربي، وأن يكون صالح الرزوق "عالماً" منهجياً في النقد.

وتهمني في هذه العجالة الإشارة إلى "الخجل" النقدي إذا جاز الوصف لدى نقادنا ومبدعينا والذي وجدتُ – من خلال متابعتي – أنّ الإثنين يعانيان منه. فأنا بخلاف صالح وقصي أرفض هذا الموقف وأراه من بقايا "التربية العربية الأصيلة" التي مكانها سوح العلاقات الاجتماعية العربية، ولا محلّ لها في العمل النقدي ، ولا أرى أي منقصة في كتابة ناقدين عن أعمال إبداعية لهما بصورة متقابلة لأنك تنقد نصّاً وتحلّله ولا تكتب عن مقالة نقدية مقابلة عنك تمتدحها لزميلك الكاتب ، ولا يمكن أن تمر المواقف الإخوانية على القارىء اللبيب أبداً. ثمّ لماذا نحرم القارىء والثقافة النقدية من رؤى لصالح الرزوق عن رواية مثلا لقصي ، ومن رؤى لقصي عن مجموعة قصصية لصالح الرزوق تحت ذريعة الخجل خصوصا أنني أعرف مسبقا ومن خلال تاريخ الإثنين أنهما لا يحابيان على حساب قداسة الإبداع ، وأن رؤاهما غنية ومتفرّدة تثري فكرة القارىء عن النص ، وتضىء النص بقوّة غير تقليدية ؟

وهنا أقول أيضاً أنني أؤيد رأي الأستاذ قصي عن صالح الرزوق بقوة، فهو ليس ناقدا أدبيّا عاديّاً بل هو ناقد مُفكّر ومتفلسف عالم في الثقافة السورية والعربية ، وعلينا أن نفخر به ، وهو يستحق أكثر من كتاب عنه.

وحتى تعليقات صالح الرزوق قد يأتي يوم ينبري فيه باحث منصف ليدرسها فهي مدرسة في "بناء" التعليق وتناوله للنص والإضافة إليه ونقده والأهم "ربطه" بإحالات إلى نصوص أخرى تضيئه أكثر وتعبّر عن ثراء فكر الناقد وموسوعيته.

لاحِظْ سيّدي القارىء كم من الأفكار أثارتها في أذهاننا مقالة قصي القصيرة وتعليق د. صالح الأقصر ؟

إنّهما مثقفان مبدعان " مُقلقان " ضروريان للحزم ولضبط ثقافتنا المائعة المترهلة ..

وبالمناسبة ، نحن في موقع الناقد العراقي ، ننشر الآن بصورة مسلسلة رواية "الرباط" (رواية مهجرية كما سمّاها) للروائي قصي الشيخ عسكر يمكن للسادة القرّاء متابعتها ليعرفوا أن قصي ينحت محورا جديدا في الرواية العراقية وسيتبعه - كما علمت – بمحور جديد يثري مسار السرد العراقي ويتعلق بالرواية التاريخية.

لكن مشكلتنا في الثقافة العربية ومنها السورية والعراقية أنّنا ننتظر وفاة قصي وصالح لكي نشمّر عن سواعدنا النقدية والمعرفية لاستعراض مناقبهما الفكرية والنقدية والإبداعية لأمسية أو أمسيتين ونهيل التراب عليهما سريعاً (وكأننا – وفق التركيبة العربية السادومازوخية - ما مصدقين أنهما ماتا وخلصنا منهما) .

ولأنني – وبلا تردّد وبلا خجل زائد – صاحب مدرسة خرق القاعدة العراقية الأصيلة "مغنّية الحي لا تُطربُ" والإحتفاء بالمبدعين العراقيين وهم أحياء فأصدرت خمسين كتابا أكثر من ثلاثة أرباعها عن مبدعين أحياء ما زالت المؤسسات الثقافية العراقية تنتظر بصبر كل صباح خبر نعيهم كي تحتفي بهم على القاعدة المعروفة في بلادنا العزيزة وهي من طبائع أهلنا الأحبّة، أقول : يجوز أن المؤسسات الثقافية العراقية والسورية تنتظر نعي قصي الشيخ عسكر وصالح الرزوق لتضع على قبريهما أكاليل من الزهور ونحن نعلم جيّداً وفق مقولة شاعر صيني يبدو أنه كان مثلهما ؛ مُهمّاً ومغدوراً، دعا إلى تكريمه وهو "حيّ" ، فصاح :

(إنّ الموتى لا يشمّون الزهور)

كيف تضيع شخصيّة الشّاعر ومتى؟

سؤلان يفرضهما واقع حال الثّقافة المعاصرة بشكل عامّ، وليس العربيّ أو الفلسطينيّ وحدهما، فثمّة كتّاب كثيرون يعانون من ضياع الشخصيّة، وأنّهم ما زالوا يبحثون عن طريقهم على الرّغم من كثرة مؤلّفاتهم، وحضورهم الإعلاميّ والثّقافيّ، المفتعل أحيانا، ولأنّ بعض هؤلاء الكتّاب ذوو يد طولى، حزبيّة أو مناصبيّة أو سلطويّة ثقافيّة.

لعلّ ما يشجّع على هذا الافتراض ما يشاهده القارئ العربيّ من تنقّل الكتّاب ما بين الشّعر والسّرد والمقال السّياسيّ والقراءات النّقديّة "الانطباعيّة التّطفليّة الطّفليّة" غالبا، دون أن يُحدث هذا الكاتب أو ذاك بصمة حادّة في مجال معيّن، فمن المعروف أنّ كتّابا كبارا كانوا شعراء كبارا أيضا، فدرويش كتب النّثر الفنيّ بجماليّة عالية، وكتب المقال السّياسيّ والافتتاحياّت الأدبيّة- السّيوثقافيّة، وخاصّة افتتاحيّات مجلّة الكرمل على امتداد أعدادها التّسعين (صدر العدد تسعين بعد وفاة درويش، فكتب الافتتاحيّة الكاتب حسن خضر الّذي كان يشغل مدير التّحرير في المجلّة)، وكذلك فعل إميل حبيبي في افتتاحيّاته لمجلّة "مشارف"، وأنّ سميح القاسم كتب الرّواية والمقال أيضا، والكاتب اللّبناني إلياس خوري مواظب على كتابة المقال الثّقافيّ الأدبيّ في الصّحف، والأمر نفسه يقال عن الشّاعر الرّاحل فاروق شوشة الّذي استمرّ لعقود يكتب المقال الأدبيّ في مجلّة العربيّ الكويتيّة، بالإضافة إلى برنامجه الإذاعيّ المشهور "لغتنا الجميلة" في الإذاعة المصريّة، وغير هؤلاء كثيرون في الغرب والشرق، فكيف أدّعي ضياع شخصيّات الكتّاب والشّعراء تحديدا بتعدّد كتاباتهم؟

إنّ الأمر لا يتعلق فقط بطائفة من الكتّاب الحيارى الّذين لا تدري هل هم شعراء أم روائيون أم نقّاد، ودخولهم إلى حقول الأدب دون أن يكونوا راسخي الأقدام في حقل واحد يعرفون به، بل قد يمتدّ إلى شعراء مكرّسين في السّاحة الشّعريّة على ما سأورد بعد قليل. ما زلت أذكر ذلك النّقاش الحادّ مع أحد الأصدقاء فيما إذا كانت واحدة من الكاتبات شاعرة، وقد كنّا نعدّ لأمسية شعريّة، فحلفت بيقين العارف أنّها ليست شاعرة بل تكتب قصص الأطفال والرّواية، متجنّبا صفة الرّوائيّة، وصاحبي يصرّ على أنّها شاعرة وتكتب الشّعر، وبعد أخذ وردّ، وتمترس القناعات، استقرّ رأي صاحبي على أنّها شاعرة، مكتفيا بامتداح جمالها الّذي وصفه بالآسر، فضحكت وسكتّ متوقّعا كيف تدخل الجميلات محدودات الموهبة ومتواضعات الثّقافة إلى نوادي الكتابة بهذا الشّكل الجماليّ الجسديّ أوّلا وقبل أيّ اعتبار أدبيّ، وما أكثرهنّ! وربّما خصّصت لهذه الظّاهرة وقفة مستقلّة، فهي تستحقّ.

أحاول الآن استذكار بعض الحوارات مع الكتّاب الّذين يكتبون الشّعر والرّواية، وربّما تاهت شخصيّاتهم بين هذين الجنسين، ففي حوارات متعدّدة مع الكاتب إبراهيم نصر الله بدت الرّواية مسيطرة على تلك الحوارات، وكانت ازدواجيّة الشّاعر والرّوائي حاضرة، وكيف أثّرت الرّواية في لغة الشّاعر أو أبعدته عن الشّعر الّذي حقّق فيه إنجازات مهمّة على الرّغم من تواضع سوق الشّعر بعامّة وانفضاض المجتمع الثّقافيّ من قرّاء ونقّاد وناشرين عن الشّعر والشّعراء.

يبين نصر الله لمحاوريه أنّه كتب الرّواية قبل الشّعر، ولكنّه نشر الشّعر قبل أن ينشر أوّل رواية كتبها، لقد كان يدافع عن روائيّته، وليس عن شاعريّته، وربّما شعر المرء أنّه يتأرجح بين الصّفتين، ويريد الاحتفاظ بهما، مع أنّه أميل للرّواية أكثر، وهذا واضح لأنّه بنى مشروعا روائيّا واضح المعالم، وسخّر إنتاجه الأدبيّ لهذا المشروع الّذي أطلق عليه "الملهاة الفلسطينيّة"، ويعمل عليه منذ سنوات، في حين ظلّ الشّعر يتيما في حضرته دون أن يشكّل مشروعا موازيا، وكأنّه تحوّل إلى مجرد دفقات شعوريّة ترفيهيّة ليس أكثر، ولعلّ هذا هو السّبب الّذي حدا بنصر الله أن ينشرمؤخّرا ديوانا من شعر الحبّ، وكأنّه يرمّم صورة الشّاعر في داخله، أو يحاول رثاء فنّ قد توفي فيه منذ رضي مفارقته إلى فنّ الرّواية، هذا الفنّ الّذي أضحى فرصة أكبر للثّراء الماديّ والشّهرة، وتمدّد السّلطة الإبداعيّة للكتّاب.

لعلّ القارئ سيلاحظ مثلا أنّ أحد محاوريه، وهو يصوغ السّؤال بهذا الشّكل كان يرى تواضعه كشاعر: "لديك اشتغالات إبداعيّة متعدّدة إضافة إلى كتابة الرّواية، كالفنّ التّشكيليّ، والشّعر، كيف تستثمر هذه الفنون في نصّك السّرديّ؟" ألم تلاحظوا معي أنّ الشّعر لدى نصر الله في وعي المحاور ليس أكثر من هواية كالفنّ التّشكيليّ، بل إنّ الفنّ التّشكيليّ مقدّم على الشّعر، ونصر الله لا يُعرف أنّه فنان تشكيليّ لتتنازع هذه الصّفة مع صفة الشّاعر؟ إضافة إلى أنّ المركزيّة في السّؤال تدور حول الرّواية، وأنّ هذه المواهب الإضافيّة من الفنّ التّشكيليّ والشّعر مسخران لخدمة الرّواية.

إنّ هذا الالتباس في شخصيّة كاتب وأديب معروف، تتنازعه صفتان كلّ واحدة تشدّه نحو الأخرى، ولم تعودا متعايشتين كما يريد الكاتب أن يقول حتّى لو مجّد الشّعر بإجاباته عن أسئلة أخرى يرى فيها "الشّعر عافية العالم"، فالحقيقة الّتي يراها القارئ العربيّ ضمور الشّاعر وتلاشيه، وإن حضر فحضوره هامشيّ لصالح الرّواية؛ فكم قارئا مثقّفا إلّا القلّة القليلة، يعرف دواوين إبراهيم نصر الله أو يعرف أنّه شاعر أصلا؟ في حين يعلم هذا القارئ أغلب روايات نصر الله، إن لم يكن كلّها، وقرأ معظمها وأعجب بها، ويسعى إلى الإقبال عليها واقتنائها، بل كم ناقدا توجّه إلى مسيرة الشّاعر إبراهيم نصر الله بقراءات ومراجعات نقديّة، بالقياس إلى تلك القراءات النّقديّة المتكاثرة حول عالمه الرّوائيّ المتعدّد والثّريّ، وخاصّة بعد منافسته على جائزة البوكر العربيّة ووصول بعض رواياته إلى القائمتين الطّويلة والقصيرة، وبعد فوزه بجائزة كتارا للّرواية العربيّة المنشورة؟

هذه حالة من حالات متعدّدة، في مسيرة الشّعراء، فكثيرون قد انقلبوا على الشّعر، وخانوه خيانة عظمى، وطعنوه في مقتل، وابتعدوا عنه وهو ينزف، فشاعر مثل المتوكّل طه، وهو معروف كشاعر يصرّ على أن يفارق صفته ليدخل السّرد، مزاحما الكتّاب على صفة الرّوائيّ، وربّما المنافسة أيضا على الدّخول إلى قوائم الجوائز العربيّة، فبعد أن أصدر المتوكّل رواية "نساء أويا" و"رامبير حفلة تنكّريّة"، وأخيرا "شهد النّارـ نصوص الجسد" يبتعد المتوكّل طه خطوة بعد أخرى عن الشّعر، وهو بذلك يساعد على ضياع شخصيّته الشّعرية الّتي عُرف بها، إذ كان صوتا شعريّا مقاوما معروفا في أوساط الدّارسين بهذا، ولم تخل دراسة أو مختارات شعريّة عن "شعر المقاومة في جيله الثّاني" إلا وللمتوكّل فيها ذكر.

عدا أنّ شخصيّة المتوكّل طه الأدبيّة تعاني من ضياع مضاعف في أنّه انضم إلى "السّلك الأكاديميّ النّقديّ"، ما يعني أنّه أصبح منظّرا وناقدا يشتغل على النّظريّات أكثر من الإبداع، ويقوم بتقديم الكتّاب في حفلات توقيع الكتب، ما يجرّه ذلك إلى نوع من المجاملات المحسوبة عليه بكلّ تأكيد، وفي هذا تأثير كبير على طزاجة المبدع الفطريّة الّتي تحتكم إلى منطقها الخاصّ غير الخاضع للنظريات، بل إنّ كلّ تجربة إبداعيّة حقيقيّة تخلق شروطها النّقديّة الّتي تجبر النّقّاد على الانصياع لشروطها، وتجعلهم حيرى أمام هذا العمل الأدبيّ أو ذاك، وهذه المسألة تذكّر بظاهرة "الشّعراء العلماء" في التّراث العربيّ القديم، الّذين جاء شعرهم ضعيفا بالمقارنة بشعر الشّعراء، فكيف لك أن تقارن نقديّا بين شعر الشّافعيّ الفقيه الأصوليّ والفرزدق مثلا، أو بين شعر ابن حزم الأندلسيّ وشعر لسان الدين بن الخطيب؟ والمسألة ذاتها ما زالت محل طرح نقديّ معاصر في ذلك الأدب الّذي ينتجه الأكاديميّون، والصّعوبة البالغة في وصول أحدهم إلى إحراز إنجاز أدبيّ مميّز لأنّه سيظلّ مشدودا في لاوعيه إلى نظريّات تعلّمها، ولها سيطرتها المخفيّة على شخصيّته الأدبيّة بوجه عامّ، أدرك الكاتب ذلك أم لم يدركه.

هذان نموذجان شعريّان مكرّسان في الشّعر قبل الرّواية، وهناك الكثيرون مثلهما، فما هي حال المتطفلين السّاعين إلى ممارسة أكثر من نوع أدبيّ وهم في بداية مسيرتهم الأدبيّة، فلا شكّ في أنّ هذه الإشكاليّة أكثر حضورا، لتساهم في ضياع الشخصيّة الأدبيّة أكثر فأكثر، لنرى كتّابا مفتّتين عديمي الشّخصيّة الأدبيّة فيما يكتبون، فلا هم شعراء ليعرفوا بالشّعر، ولا هم روائيّون ليعرفوا بالرّواية، وبالتّأكيد فإنّهم ليسوا نقّادا بارعين؛ ليعرفوا بالنقد، ولعلّ هذه الإشكاليّة ستساهم في انعدام الشّاعر الحقيقيّ، والرّوائيّ الفذّ والنّاقد الّذي يتربّع على عرش النّقد، كلّ في فلكه غير متنازع عليه في صفة الانتساب لواحد من الفنون التّجنيسيّة ليعرف بها، ويكون فيها علامة مميّزة.

clip_image002_2d035.jpg

صدرت سرديّة "اللفتاوية" للكاتب المقدسي جميل السلحوت عام 2017 عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس، وتقع السردية الموجّهة لليافعين والتي صممت غلافها رشا السرميطي ويحمل لوحة للفنان محمد نصر الله في 64 صفحة من الحجم المتوسط.

 قد يُختزل تاريخ وطن وقرية وعائلة في شخص امرأة عمل الزمن في وجهها حتى علته التجاعيد، وفي جسمها حتّى نحل ولم تعد تستطع القيام أو القعود، لكنّ روحها تتّقد بالعطاء، وقلبها يفيض بالحبّ والوفاء، وثوبها المطرّز يختزل في عروقه تاريخ وطن ضاربة جذوره في أعماق التّاريخ. هذه المرأة التي قد لا نلقي لها بالا، أو قد تساء معاملتها ساعة عجزها، أو قد يُنظر إليها باستخفاف، لهي بحقّ أغنى من كتب التّاريخ، تنطق بالحكمة، وتفيض بالحبّ والرّحمة، القرب منها مغنم، والإحسان إليها برّ؛ فهي منبع العطاء، فيها أصالة تراب الوطن وعذوبة مائه.

 يجسّد الكاتب في هذه السرديّة الموجّه للأطفال اليافعين، شخصيّة امرأة فلسطينيّة من قرية لفتا، عاصرت النكبة في شبابها، ثمّ أنشأت أسرة في لجوئها، صابرة على ضيم الغربة وذلّ الشّتات، ثمّ أصبحت وحيدة بعد موت زوجها وتفرّق أبنائها من حولها، لكنّها ما زالت تحمل في قلبها الحبّ والعطاء لعائلتها، وتتشبّث ببقايا ذكريات من قريتها، وتتفانى في حبّ أبنائها وأحفادها وحبّ القدس ومسجدها الأقصى. ويستغلّ الكاتب هذه الشّخصيّة ليعطي الدروس للأطفال اليانعين ويجعلهم يستخلصون العبر، في ثوب سرديّ ممتع ومشوّق، وبلغة تناسب سنّهم وأحداث اجتماعيّة تتكرّر أمام أعينهم في حياتهم اليوميّة، لكنّه يلفت انتباههم إلى ما وراء هذه الأحداث، وإلى العلاقات الاجتماعيّة المتشابكة والتي قد تؤدّي إلى سوء معاملة الوالدين أو التّقصير بحقهما.

 جوهر هذه القصّة هو برّ الوالدين والإحسان إليهما، خاصّة في كبرهما وضعفهما. يصف الكاتب شعور المرأة التي يموت عنها زوجها وتجد نفسها وحيدة غير مرغوب بها من أبنائها، الذين أذبلت فتيل عمرها من أجلهم، تسهر الليالي الطّوال تطبّبهم وتعتني بهم وهي ترجو لهم الحياة، بينما يتلهّى عنها بعضهم عندما تصبح بحاجته، أو يخدمها وهو يتمنّى لها الموت والراحة من العناء.

 ويبيّن الكاتب، لقرّائه الأطفال، اختلاف طبائع البشر ونظرتهم للأشياء، من خلال المواقف المختلفة لزوجات أبناء اللفتاويّة تجاهها، ثمّ ينتصر لعنصر الخير في كلّ منهن، ويرسم الصّورة الحسنة التي يجب أن تكون لهؤلاء النّسوة، وهنّ في نهاية القصّة يتسابقن لخدمة المرأة العجوز وتقديم العون لها. وأحداث هذه القصة هي صورة واقعيّة لما يحدث في كثير من العائلات، قد يراه الأطفال بأعينهم في حياتهم اليوميّة، لكن الكاتب يصوغه بأسلوب أدبيّ ممتع ويلفت نظرهم إلى مواطن العبرة فيه.

 ويشير الكاتب إلى كثير من عادات وتّقاليد العائلات الفلسطينيّة في القدس وقراها قديما وحديثا، فيذكر عادات الأعراس وبعض الأكلات التراثيّة كالمفتول، ويعرّف الناشئة بها، ويذكر العديد من الأمثال والأقوال الشعبيّة. وكذلك يبيّن الكاتب ارتباط المقدسيّين قديما وحديثا بالمسجد الأقصى المبارك، كونه جزء من حياتهم اليوميّة، وارتباطهم العقديّ والوجدانيّ به، ويلفت النّظر إلى المخاطر التي تحيط به من الاحتلال الصهيونيّ، واعتداء المحتّل الهمجيّ على الأطفال، وعدم رحمته بالكبار. ويتحدث الكاتب خلال أحداث القصّة عن تاريخ قرية لفتا وكارثة تهجيرها.

 تتمسّك اللفتاويّة بذكريات بلدتها لفتا التي هجّرها الاحتلال في العام 1948، وتحتفظ بمفتاح بيتها مثلها مثل كلّ اللاجئين الذين ينتظرون العودة إلى الوطن ويزداد حبّهم وتمسّكهم به كلّما مرّت السنون، ولا تتخلّى عن هذا المفتاح إلا لتنقله إلى أحفادها، وتنقل إليهم حبّ الأرض والإصرار على العودة، لتنتقل إلى الآخرة وهي قريرة العيْن وقد رأت برّ أبنائها بها، ثمّ رأت فيهم روح المقاومة والأمل بالعودة إلى الوطن السليب.

clip_image002_b8246.jpg

   إحتفت عمَّان بشاعرها جهاد أبو حشيش ومولوده الروائي الثاني بعد سلسلة من دواوين الشِعر، وفي حديقة نادي الأردن في جبل اللويبدة العريق الذي بدأ يشهد عودة النشاط الثقافي فيه بعد شبه سبات رمضان، كان قراء وأصدقاء وأحبة جهاد يتوافدون مبكرا لحضور حفل الإشهار وتقديم الشهادات الإبداعية في الرواية، فشهدت حديقة النادي حضورا مكثفا، ليبدأ الحفل في الموعد المحدد بحديث قدمه عريف الحفل د. غسان عبد الخالق الباحث والناقد ورئيس جمعية النقاد الأردنيين، وكان هذا الحديث المرتجل بحد ذاته شهادة إبداعية من ناقد ومتخصص، ليقدم بعدها الكاتب والإعلامي الاستاذ محمود الريماوي والذي قدم قراءة تحليلية متميزة للرواية ومن ضمن ما قاله: " على صعيد  الرؤى الفكرية وإذا جاز لنا الفصل بين ما هو فكري وفني في العمل، فقد نجحت  رواية "ذئب الله" في  التغلغل في احشاء مجتمع  قبلي قديم، ما زالت مفاعيله وقيمه سارية حتى ايام الناس هذه، ويعبّر البطل عواد الباز عن  تلك التناقضات التي تمور في الواقع الاجتماعي، فهو يحمل اسم خال له سقط غيلة وغدراً،  وامه تسمى الذلول حيث يتم تزويجها كنوع من الانتقام منها ومن عائلة القاتل،  وقد عاش هذا البطل طفولة حياة تزخر بالقسوة فقد حرم من  البقاء في كنف امه  عقابا لتلك الأم ..  مع اغفال انه هو  قد تعرض  للعقوبة  طفلا. وحرم من حياة طبيعية ، ثم سرعان ما  تبلغ  مأساته واحدة من ذراها الرهيبة حين يعبث بسلاح   تنطلق منه  رصاصة الى جسد امه الذلول فيهتف لأول مرة: يمة .. اذ كان ممنوعا عليه ان يخاطب  أمه باللقب الأمومي.  ومع هذه الصدمة الرهيبة فإن البيئة من حوله تطمئنه انه لم يقترف خطأ فاحشا. وهنا  بدأت بذرة العنف تنمو لديه حتى قادته الى امتشاق السلاح مع الفدائييين ثم الانتقال من ذلك الى التجارة بالسلاح ، والانضواء المصلحي في  تنظيم جهادي متطرف والانتقال الى تديّن شكلي تمليه المصلحة".

الدكتور رامي أبو شهاب قدم شهادة طويلة اقرب إلى دراسة أكاديمية في الرواية ومن ضمن ما قاله: " ثمة بين التكوينات السردية لرواية ذئب الله المباشرة أنساق مضمرة يمكن أن نقع عليها بين تضاعيف هذا العمل الذي يسعى إلى الوقوف على تفسيرات ذات طابع نفسي اجتماعي لنمط من المسالك التي ميزت عصرنا الحالي بحيث تحول الدين إلى نموذج للتدمير، وهو أحد أدوات السيطرة وامتلاك القوة ..... وعلى ما يبدو فإن نمط الاختطاف يبدو شكلا من أشكال الإشكالية الثقافية في مجتمع لا يمكن له أن يتقبل هذا النتاج الجديد من فراغ، إنما ثمة مبررات وأسباب منطقية، أفضت بنا إلى هذه البنى التي تنهض على منظومة القوة والسلطة التي شكلت في ثنايا النص أنساقاً إلى حد ما تبدو غير حاسمة في تشكيل علاقات القوة، ولكنها تتشكل ضمن بناء لا واع من القيم المرآوية التي تحدث عنها جاك لاكان في تشكيل فهم الذات لذاتها في حدود تموضعها".

   ثم تحدث الشاعر والروائي جهاد أبو حشيش وشكر الحضور والمشاركين وقال: " اسمحوا لي أنْ أقولَ: "إنني أكتبُ كمَا أحيا، كما أتنفسُّ، فأنا ممن لا يتنصّلُون من أنفسِهم/ ومن خطاياهم/ ومن أصدقائِهم/ وأخطاءِ أصدقائِهم، وحتى من تقديرِ خصومِهم. أكتب لأنني أحتاجُ إلى من يشاركُني قلقي تجاهَ كلِّ شي، أكتبُ لأصل إلى الراحةِ التي أفتقدُها أكثرَ كلَّما كتبتُ أكثرَ وكأنَّ اكتشافَ الحقيقةِ لنْ يملكك أكثرَ من الرعبِ مما نحن ذاهبون إليه، عدميةً، وعبثاً، وانغلاقاً.

   في روايتي السابقةِ "بيمان، درب الليمون"، لمْ أتمكَّنْ من قتلِ الشاعر، فظلّ يمشي مع الروائي جنباً إلى جنبٍ ويذهبُ به بعيداً إلى حيث يفرُّ من حقيقيةِ السردِ أحياناً. أما في "ذئب الله" فقد قررتُ أن أقتلَه منذُ المفردةِ الأولى في الروايةِ، وأتمنى أنْ أكونَ قد نجحتُ في ذلك.

"ذئبُ الله" هي فضيحتُنا؛ فضيحةُ ما نحيا من عبثٍ وتناقضاتٍ، فضيحةُ عدمِ قدرتِنا على رؤيةِ صورتِنا الحقيقيةِ في المرآة، وهي فضيحتي الشخصيةُ أيضاً على نحوٍ ما.

   "ذئبُ الله" بطريقةٍ أو بأخرى وبعيداً عن الحكايةِ، تحاولُ أنْ تقولَ بطرقٍ كثيرةٍ، إنَّ العقلَ التبريريَّ لنْ ينتجَ مجتمعاً صحيّاً قادراً على الحياة. وإنَّ الآخرَ قد يستغلُّ المنتجَ الذهنيَّ والنفسيَّ السالبَ الذي يتكوّنُ كنتيجةٍ طبيعيَّةٍ للعلاقاتِ المجتمعيَّةِ والاقتصاديةِ التي تفتقد قدرتَها على التطوّر نتيجةً لسلطة النصِّ، كون المجتمعاتِ العربيةِ هي الوحيدةَ التي يشكلُ فيها النصُّ الماضويُّ سلطةً أقوى من أيِّ سلطةٍ أخرى بحكمِ ارتكازِها إلى المقدسِ، الذي يتمُّ تأويلُه لخدمةِ الآنيِّ مبتعداً عن مسارِه الحقيقيِّ".

   ثم جرى فتح المجال للحضور للنقاش، ومنهم من تمكن من قراءة الرواية قبل الحفل، ومنهم إعتمد على ما قرأ عن الرواية أو ما سمعه بالحفل، لذا اختلفت الملاحظات وتنوعت بين ملاحظات دخلت في صميم الرواية أو ملاحظات ركزت على الشكليات وخاصة الإسم، فيظهر أننا وفي هذه المرحلة التي أصبح التحريم فيها منهجا مسيطرا، لم نعد ننتبه للذئاب التي تتستر بعباءة الدين لتنهش الدين نفسه وتدمر المجتمعات، وصار الكثير يتمسكون بالشكليات وقشور الدين وليس روح الدين نفسه.

   لن أتحدث الآن عن الرواية التي سعدت بقرائتها منذ لحظة صدورها وقبل الإعلان عنها بنسخة قدمها لي كاتبها المبدع والصديق جهاد أبو حشيش، فشهادتي قد تكون مجروحة الآن، ولذا سأترك الحديث وتقديم شهادتي إلى المستقبل الذي آمل أن لا يطول انتظاره، وأكتفي بالإشارة إلى أن الرواية حظيت على اهتمام كبير من النقاد والمهتمين ومنهم د. عادل سمارة، والدكتور الناقد كمال أبو ديب وإشراف بن مراد المساعفة وغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة الآن بإستحضار أسمائهم.

" أرتجل الحياة...!" عنوان لديوان شعري بقلم الشاعر الشاب أحمد عبده الحريشي، من منشورات اتحاد كتاب المغرب مطبعة عكاظ الجديدة. وبرأيي، كل ناقد يملك ذوقا شعريا مرهفا وزادا فنيا مستقيما- قبل المفاهيم النقدية والعتاد المعرفي الصارم- لا يمكن إلا أن يعلن عن ميلاد شاعر يشتغل بحصافة واحترافية على نسج الكلام واللعب بخيوطه لعبا ليس مجانيا ولا بريئا لأن المراد منه تطعيم الذائقة الفنية والإسهام في الإعلاء من الخطاب الشعري الذي يخلق علاقات غير معتادة بين الذات الشاعرة والآخر والطبيعة والكون والمقدس وغيرها...

 في العنوان " أرتجل الحياة...!" تناص خفي قد لا يكون إراديا استحضر الشاعر فيه قامة فكرية باذخة من واحتنا التراثية الخالدة هي الجاحظ الكبير ( توفي سنة 255 ه )، فقد تباهى أبو عثمان في سياق تمجيد الشخصية العربية القادرة على الارتجال والطبع والتدفق في إنتاج الخطب المؤثرة في الظروف الحرجة على حساب الأعاجم الذين لا يستطيعون إنتاج القول الثقيل إلا بعد التصنع وطول التفكير والمدارسة والمعاناة والخلوة مع النفس ودراسة الكتب*. معروف أن الجاحظ كان يفضل السليقة والطبع العربيين في مواجهة المشروع الشعوبي الفارسي المستند إلى تراث فهلوي ضخم. ولا شك في أن الحاضنة الفكرية آنذاك تلقفت رأي الجاحظ بالقبول والمناصرة، إلا أن تلك القناعة الجاحظية طعنة نجلاء في خاصرة "الشعرية" العربية لكونها جردتها من أسمى ما يعتز به الإنسان وهي خاصية التفكير والتحقيق والتخطيط. و"أرتجل الحياة" بقدر ما في ذلك من بساطة وقدرة الذات على التأقلم مع المستجدات والمواقف بالبديهة والسذاجة والبساطة، فإنها بالمقابل تفيد عجز الذات عن قوننة الحياة والتحكم فيها وهندستها بتصميم ورؤية فكرية مجهرية وموجهة. إن ارتجال الحياة يجعل الذات تابعة للحياة وفاقدة للإرادة والكفايات اللازمة لممارسة فعل الحياة والإبداع والتأثير. وكخلاصة في هاته الجزئية، فإنني أعتقد أنه لا يسمح لشاعر يرفع شعار الإبداع والخلق أن يكون شعاره الارتجال لأن الوجه الثاني للشعر في عصرنا الراهن هو الفكر ولا ينهض الفكر إلا على المعاناة والسهر واختمار التجربة.

في الإهداء** أو ما يقوم مقام الإهداء، ينفتح شاعرنا الشاب على قامة أخرى شغلت الناس في عصرها وهي المتنبي العظيم في بيته المشهور والخالد:

على قلق كأن الريح تحتي ******* أوجهها يمينا أو شمالا.

ورغم الفوارق المائزة في البيتين (حيث يبدو المتنبي أكثر صلابة ومضاء وقدرة على الفعل والتأثير، بينما أحمد عبده يفخر بمؤهلاته غير المسبوقة في ترتيل الحزن و"صنعه أو التعايش معه" ليصبح أسطورة لها قدسيتها وتعاليها) فإن الجامع بينهما هو إخضاع الطبيعة لإرادة الشاعرين لتصبح خادمة لهما وتابعة (المتنبي قلّم أظافر الريح وعبده جعل الماء وهو المادة الأكثر حضورا في الأرض يسجد له). تلك أنانية قد لا نغفرها لأي كان لكنها مقبولة من الشاعر بل ومطلوبة منه شريطة أن تكون حاضنة للإبداع ومحفزة عليه.

1 – سؤال الهوية: لو تتبعت ضمير المتكلم العائد على الشاعر لوجدته يسكن الصفحات والأسطر كلها تقريبا، وهذا يعني أن الشاعر يكتب الحياة والشعر أو يرتجلهما بمرآة ذاته، وبالتالي فالشاعر يأتي أولا ثم تأتي بعده الحياة ثانيا. وعندما يجعل الشاعر من نفسه مركز القصيدة ونواتها فإنما يبعث للقارئ برسالة تشير إلى نقاء الذات وطهرها وامتيازها لدرجة يصبح معها الشاعر قادرا على اللعب بالمعنى وخلق عالم حصري يتأسس على الغرابة والفوضى وما على القارئ إن أراد درء الفتنة سوى الإذعان والتسليم، أما لو ابتلي الشاعر العنيد بقارئ أشد منه عنادا فستصبح القصيدة ميدانا للتجاذبات و استعراض العضلات، وكلما احترمت المعركة أدبيات الصراع انبجس المعنى الإبداعي ساخنا ومشعا. يقول الشاعر: أنا...لا تسألي عني/ فما لك عندي الردُّ/ أنا المبثوث/ في الأشياء/ لا قرب/ ولا بعد/ أنا من مجمع البحرين/ لا جزر/ ولا مد. هذا الشاعر المبثوث في أجزاء الكون حيث تتمازج طينة الشاعر وشظايا الكون ألا يصير داعيا أو بالأحرى "داعية" إلى وحدة الوجود؟ ولذلك يتعاظم الشاعر بعظمة العالم ويُختزل العالم ويتكثف في جسد الشاعر. ويكتب أيضا بلغة مراوغة ماكرة: أنا وردُ/ دمي مرُّ/ ويُجنى من فمي الشَّهدُ. ولا يعتقدن القارئ أن المقصود بالورد الزهور، بل المقصود بالورد في لغة الضاد وكما يقتضي السياق صفة لصيقة بالأسد المكتمل والممتلك لشروط القوة والحياء والحياة. وتتضخم ذات الشاعر لتصبح قرينة للأجرام الكبرى: سماويُّ أنا مذ كنتُ/ - يا موتي-/ سماوي/ أصادقُ/ كل عاصفة/ فلي في تِيهها وحيُ. ولا عجب بالتالي أن تصل نرجسية الشاعر إلى حد توجيه سهام الانتقاص إلى الموت لا لشيء سوى أن الموت، كما يراه الشاعر، كائن أرضي محايث: سماوي/ أنا مذ كنتُ/ - يا موتي -/ سماوي.../ فأشهِرْ وجهك/ الأرضيَّ في وجهي/ أنا حي../أنا حي. ومن كان فوق الموت لا يخشى سلطة ما مهما كان مصدرها: سأسكب/ خمرة العصيان/ حتى يثمل الكأس/ وأهدم شرعة الأصنام../لا شيخ../ولا قسُّ. ولا غرابة أخيرا أن يصير الكون معادلا موضوعيا لذات الشاعر، فيصبح الغوص في مكنونات الذات الشاعرة مفضيا بالضرورة إلى اكتشاف متاهات الكون وأسراره والتواءاته: أغوص/ إلى قرار الكون/ حين أغوص/ في نفسي.

2 – سؤال الأداء الشعري: الشعر عند أحمد عبده مسلك يخوض فيه الحيارى بالمعنى الأنطولوجي: على أشعاري/ الحيرى/ يذوب الشكل والقصد. وتصير الكلمة الشعرية رقصا على حافة الموت: يظل الشعر/ - في الأبدي -/ أزهارا على قبري.../ تقيم.../ على حدود الخلد... و " الحقيقة الشعرية" لدى شاعرنا مغايرة كليا للمعرفة العلمية والعقلانية التي تتوسل الاستدلال والمنطق والنصوص السلطوية، بل هي معرفة مضللة لا معنى لها في ذاتها بل في قدرتها على التصدي للغة والفكر الجمعيين: ففي أسرار معرفتي/ تساوى الشيء والضد. والشعر انخراط إرادي في مملكة الجنون : أنا/ مجنون أوراق/ رضعت الطهر/ فيها. كما أن الشاعر واع تماما بمطواعية الشعر ومقدرته على هز العالم وزحزحته بما لا تستطيعه الحواس والأجساد: أتيت/ قصيدة خضراء/ من لا شيء تبتكر/ تفيض/ بصيرتي برؤى/ تعي/ ما لا يعي البصر. وترتقي العلاقة بين الشاعر والأشياء إلى درجة الفعل الجنسي الخلاق: أغازل/ جوهر الأشياء/ في لغتي../ وفي حسي.. لكننا، على غير المنتظر، نعثر على فهم متخلف ورجعي لحقيقة الشعر يكاد يعصف بكل البناء النظري السابق، إذ يجعل الشاعر الشعر نقيضا للنثر موظفا تناصا قرآنيا موسويا توظيفا بائسا: وقيل/ ألقِ العصا شعرا/ سيلقف كل ما نثروا.

3 – المرأة في ضيافة الشاعر: يرسم الشاعر لعيني المرأة التي يخاطبها لوحة راقية تمزج بين معاناة الشاعر التي تثمر شعرا وبين الله الذي يتمرأى في تلكما العينين مانحا إياهما حضورا إلهيا قدسيا: أيا ليلية العينين/ في لونيهما/ قدري../ على عينيك/ يكتبني مداد/ أسود السهر/ حديثا/ في سماء الروح/ بين النجم والقمر/ ففي ليليهما/ يحلو تجلي/ الله في البشر. وعلى هدي الشعراء الكبار الذين وجدوا في المرأة تماسا مع الموت والتماسا للفناء في عشق الوجود، يعتبر أحمد عبده الحب والموت قرينين يستند كل منهما إلى الآخر: تحاصر/ في الهوى/ امرأةٌ دمي/ والحب أطواق/ وللموت/ احتمالات/ على يدها/ وإشراق/ لها/ كالطعنة النجلاء/ في الأعماق أعماق/ ولي صمت الشهيد/ ولي برغم البوح/ إطباق. وفي سَوْرة العشق وحمياه يدرك الشاعر المطلق، وفي المطلق تبطل وظيفة التفكير فتعيش الذات انخطافا قد يقصر وقد يطول قياسا إلى شدة التجربة وعنفها. وعندما ينحسر العشق تسترد الذات توازنها المستباح، لكنه لا يؤدي بالضرورة إلى صناعة الحكمة لأن احتمال الضياع وارد: أنا المطلق../ إذا أعشق../ أنا المتفلسف الأحمق... !!

 ومرة أخرى، عندما يعتصم الشاعر بأناه الباذخة المتعالية تتقزم مكانة المرأة وتتراجع، فيرى أنه لا معنى لها إلا بوجوده: فهي عاجزة عن تعرف جسدها وخصوصياته إلا بترخيص منه وتوجيه متأثرا بالشاعر نزار قباني في الكثير من تجاوزاته عندما كان لا يمنح المرأة هويتها وأنوثتها إلا بتوقيع من الشاعر مرورا بسريره الخلاق: تقول/ أنا جمالي لي/ وليس حضورَ شخص فيه/ أقول:/ إذا بدوني نِلْتِ/ ثغرك مرة/ " بوسيه ".

 إلى هنا نتوقف وما زالت الرحلة تطول، وكان بإمكاننا أن نفرد عنوانا للتناص وعنوانا للإيقاع وعنوانا للعب اللغوي وآخر لمعجم التصوف... ولكننا نرى أن عابر السبيل الذواقة يستطيب ظلال الواحة ونخيلها أكثر من أن يقذف ثمارها ويتلف خيراتها.

بن العربي غرابي، أستاذ في التعليم الإعدادي، ميسور، المملكة المغربية.

المزيد من المقالات...