في 9 أغسطس الحالي حلت ذكرى رحيل محمود درويش التاسعة. لم يعش الشاعر العظيم طويلا فقد فارقنا بعد عملية قلب مفتوح ولم يتجاوز السابعة والستين. والسنوات التي أخفى الموت فيها شاعرنا كانت سنوات حضوره الأكبر، فقد تأكد خلالها أن درويش كان ومازال أحد أعظم شعراء العربية وأكبرهم أثرا في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد اكتسب درويش مكانته العالية هذه ليس فقط بفضل إنجازاته في تطوير الشعر العربي، بل ولأن تلك الانجازات الفنية ارتبطت بقضية تاريخية ضخمة هي قضية تحرر الشعب الفلسطيني التي أمست عند درويش تعبيرا عن كل شعب محتل، وعن توق الإنسانية أينما كانت للحرية. في مرحلته الشعرية الأولى حين كان درويش داخل فلسطين كتب"سجل أنا عربي"، و"بين ريتا وعيوني بندقية" واتسم شعره بسطوة الخطاب النضالي. في تلك السنوات وحتى 1970تقريبا عرفته الثقافة العربية شاعرا مقاتلا ملتزما إلي حد ما بالرؤية الماركسية. وانتقل درويش إلي مرحلة ثانية مع خروجه من فلسطين تلمس فيها الحلم القومي العربي حتى عام 1983عندما أجبر الحصار الاسرائيلي وحزب الكتائب الفلسطينيين على مغادرة بيروت. بعدها انتقل درويش إلي البحث عن شعبه داخل عالمه الذاتي، بعد أن كان يبحث عن ذاته داخل شعبه، ولهذا حين كتب في مرحلته ما بعد بيروت:" اخرجوا من أرضنا.. من برنا.. من بحرنا.. من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا" ! كانت قيثارته مازالت صداحة لكن تغلب الحزن عليها وكاد الألم أن يهزم الأمل في أوتارها. شعراء قليلون في تاريخ الثقافة هم من استطاعوا أن يصبحوا رمزا عاما، مثل بابلو نيرودا، ومايكوفسكي، وناظم حكمت، ولوركا، وأيضا محمود درويش. وقد أصبحوا رموزا إنسانية عاما بفضل ارتباطهم بقضايا كبرى، حتى عندما كان اليأس يصيب بعضهم كما حدث مع درويش، فانقضت عليه أقلام تهاجمه لمشاركته في حوار علني مع مثقفي "المابام" الإسرائيلي، وإقامة أمسية شعرية في حيفا عام 2007 بتصريح إسرائيلي وغير ذلك، مما اعتبروه يصب في مصلحة اتفاقية أوسلو. لكن كل مثقف شريف يستطيع أن يتفهم مشاعر اليأس والاحباط في قضية معقدة مثل قضية فلسطين في مرحلة معقدة انحسرت فيها أصوات الكفاح المسلح وأصوات البنادق وتدهورت أوضاع المنطقة العربية إلي حد الاعتراف بالكيان الصهيوني. أستطيع أن أتفهم ذلك رغم اعتقادي الراسخ أن فلسطين لا بد أن تعود كاملة لشعبها مهما طال الزمن وأن تحريرها بالمقاومة سيظل الحل الإنساني الوحيد لكل الأطراف. إلا أن قيمة محمود درويش الكبرى ستبقى في شعره المشبع بالدعوة لتحرير الوطن، والانسان. من غير درويش قادر على أن يكتب: "أيها المارون بين الكلمات العابرة، أيها المارون في الكلمات العابرة، احملوا أسماءكم وانصرفوا، واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا، وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة، وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا، أنكم لن تعرفوا كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء.. فاخرجوا من أرضنا.. من برنا.. من بحرنا.. من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا!".  في قصائد درويش العظيمة تكمن كل رحلته، وكل عشقه لفلسطين وللحرية التي تغنى بها طيلة عمره. ولن يبقى من الشاعر الراحل الكبير موقف سياسي عابر اشترك فيه مع الآلاف لكن سيبقى منه كل ما امتاز به عن الآلاف، أي قصائده التي مجدت الجمال، والحرية، والحب، وكل المعاني النبيلة. لم يكن ما فارقنا مجرد شاعر، بل خريطة وطن ، وخريطة شعر. بعض القصائد تسوقنا للأحلام، وبعضها يردنا إلي الواقع، لكن وفي كل الحالات لا يمكن للشاعر الحقيقي أن يتخلى عما هو جوهري لكل فن ألا وهو النزاهة التي تحكم ما تخطه يداه. وقد كتب درويش كل قصيدة من قصائدة بنزاهة ضمير وروح لا تبارى، أيا كان مذهب تلك القصيدة فنيا أو سياسيا، وعاش درويش أشبه ما يكون بصاري السفينة الذي يتقدمها وهي تشق العاصفة،  وعلى شراعه في الريح منقوشة " فلسطين" بمختلف القصائد، ومختلف المحبات، ومختلف الأحزان، ومختلف الأزمنة، ومختلف الدموع، ومختلف الضحكات، لأن" على الأرض ما يستحق الحياة"، وما يستحق الحياة يستحق كل ذلك. من حق فلسطين أن تفخر بشاعرها، ومن حق درويش أن يفخر بشعبه الفلسطيني الذي تبزغ في أرضه معجزات البطولة كل يوم، وكل ساعة، الشعب الوحيد في تاريخ العالم الذي امتد كفاحه من القرن العشرين إلي القرن الحادي والعشرين، ليمسي ملحمة نضال لا تتكرر في سجل الانسانية.

clip_image002_848bb.jpg

احتضنت المكتبة الشاطئية المنظمة من طرف المكتبة الوسائطية التاشفيني بالجديدة وجمعية أصدقائها وجمعيات صفحات جديدة لقاء فكرياً وثقافياً لتقديم إصدارات نقدية وفكرية للكتاب والنقاد سعيد عاهد، مراد الخطيبي، وعزيز العرباوي، وذلك يوم 18 غشت 2017 ابتداء من الساعة السابعة مساء، حيث سير اللقاء الكاتبة والشاعرة فاطمة بلعروبي. اللقاء عرف تقديماً موفقاً لمسيِّرة اللقاء من خلال تقديم الكتاب المؤلفين كل واحد على حدة وذلك بالتعريف بهم للحضور وبكتبهم المحتفى بها بطريقة متميزة في التسيير والتقديم.

 في البداية تحدث الباحث والمترجم مراد الخطيبي عن كتابه الذي صدر مؤخراً عن دار نور نشر بألمانيا تحت عنوان "الخطاب السياسي والترجمة" وهو كتاب باللغة الإنجليزية حيث قدم أهم الأفكار التي عالجها فيه والقضايا المتعلقة بالترجمة في الخطاب السياسي والعلاقة التي تربط الخطاب السياسي بالترجمة من خلال أفكار العديد من الباحثين الغربيين الذين بحثوا في هذا الموضوع وناقشوه باستفاضة. بعد ذلك تحدث الباحث عن أهمية الترجمة إجابة عن أسئلة المسيرة، والتي تمحورت كلها حول الترجمة وأهميتها لدى الباحث بالدرجة الأولى ثم عند الأديب أيضاً باعتبار أن مراد الخطيبي هو في الآن نفسه باحث ومبدع شاعر.

أما الناقد والكاتب عزيز العرباوي فقد قدم كتابه "الشعر العربي وغموض الحداثة: دراسات نقدية" الصادر عن دار نور نشر بألمانيا 2016، بطريقة أخرى مبتدئاً كلامه بالحديث عن دور الناقد الأدبي في مقاربة النص الأدبي جمالياً وأسلوبياً واختلافه عن الباحث الأكاديمي والمحلل الأدبي الذي يقارب النص طبقاً لمنهج علمي صارم يعتمد على خطوات محددة ومبادئ أساسية لا يمكن الخروج عنها. أما عن الكتاب فقد قدم أهم فصوله التي جاءت فيه. ثم انتقل الناقد إلى الحديث عن كتابه الثاني "بلاغة الخطاب السردي في الرواية السعودية: مقاربة تداولية لرواية طوق الحمام للروائية رجاء عالم" مجيباً عن أسئلة مسيّرة اللقاء حول سبب اختيار النص الروائي وموضوعه الأساسي وعن أهم ما جاء في الكتاب، حيث استفاض في الإجابة عن هذه الأسئلة متحدثاً عن أهم الأفكار التي جاء بها الكتاب خاصة وأن الكتاب ذو طابع أكاديمي محض وهو ثمرة بحث جامعي لنيل الماستر في بلاغة الخطاب فهو كتاب يندرج في إطار منهج جديد أرسى دعائمه الباحث الأكاديمي والكاتب المغربي سعيد جبار أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة. لينتقل في الأخير إلى الحديث عن مخطوط له، لم يتم نشره بعد،ُ حول موضوع "الترجمة والحوار مع الآخر" بعد سؤال طرحته عليه المسيرة يتعلق بنقد الترجمة معتبراً أن الترجمة ليس من السهل على أي أحد الدخول في غمارها لأنها مجال صعب وليس بالهين أما نقد النصوص المترجمة فهو يتطلب من الناقد الاطلاع على النص الأصلي قبل أن يمارس نقده وإلا فلن ينجح في مهمته.

بدوره قدم الكاتب والصحفي سعيد عاهد عن كتابه الجديد "الجريمة والعقاب في مغرب القرن 16م"، حيث تحدث في مداخلته عن أهم ما جاء في الكتاب وعم بعض الممارسات السياسية والأمنية التي عرفها تاريخ المغرب على يد السلطات السياسية الحاكمة آنذاك، بل انتقد سعيد عاهد العديد من الممارسات الأخرى التي عرفها الشعب المغربي منذ ذلك الزمن إلى حدود زمن غير بعيد عنا. إن الدول الحاكمة المتعاقبة على حكم المغرب كانت تمارس العديد من الأفعال في حق السجناء الذين لهم علاقة بالحق العام والمعارضين على وجه الخصوص، مما ترك لدينا قناعة أساسية مفادها أن السلطة في المغرب تعني العقاب بكل أشكاله غير الإنسانية في أغلب الأحيان. وعن سؤال من الجمهور (الذي تفاعل مع الكتاب تفاعلاً كبيراً) حول صورة الغلاف التي تمثل خادماً للسلطة وهو يحمل رأساً مقطوعاً في إناء فضي، أكد الكاتب سعيد عاهد على أن هناك العديد من الصور المقرفة والوحشية موجودة مكتوبة في المتن لم تثر حفيظة القراء بقدر ما أثارته الصورة، لأننا نتأثر بما هو مرئي ومشَاهد أكثر مما نتأثر بما هو مخطوط للأسف الشديد معتبراً أن المطلوب هو تسمية الأشياء بمسمياتها وعدم الركون إلى الكذب والمراوغة والخداع.

رُؤى ثقافيّة 269

-1-

إن الجهل بعَروض الشِّعر وموسيقاه آفة عِلْميَّة لدَى بعض العلماء في مجال الأدب واللغة والتحقيق.  ويكفي أن نستشهد على هذا ببعض صنيع ثلاثة أعلام كبار منهم، وكيف كانوا يقعون في الخطأ، ربما من حيث لا يعلمون، وهم (أحمد أمين، وأحمد الزين، وإبراهيم الإبياري)، عندما حقَّقوا كتاب «العقد الفريد»، لـ(ابن عبدربِّه)(3).  فقد ذكرَ ابن عبد ربِّه أن البحر المتقارب يأتي ضَرْبُه «مقصورًا»، واستشهد على ذلك بشاهدَين، أوردهما المحقِّقون الثلاثة في المطبوع هكذا:

ويَأْوِيْ إلى نِسْوَةٍ بائساتٍ ** وشُعْثٍ مَراضيعَ مِثْلِ السَّعالي

والبيت الآخَر:

على رَسْمِ دَارٍ قِفارٍ وَقَفْتُ ** ومِن ذِكْرِ عَهدِ الحَبيبِ بَكَيْتُ

هكذا أورد هؤلاء المحقِّقون البيتين! 

فهل بقي فيهما شاهد على (القَصْر) في البحر المتقارب؟! 

وهنا يلزم تعريف القَصْر، ما هو؟

هو حذف ساكن السبب الخفيف من آخر التفعيلة وإسكان سابقه، أي أن تفعيلة (فعولن)، تصبح: (فعولْ). 

فهل ذلك كذلك في البيتين السابقين؟ 

كلَّا، وإنما صواب البيت الأوَّل:

ويَأْوِيْ إلى نِسْوَةٍ بائساتٍ ** وشُعْثٍ مَراضيعَ مِثْلِ السَّعالْ

وصواب البيت الآخر:

على رَسْمِ دَارٍ قِفارٍ وَقَفْتُ ** ومِن ذِكْرِ عَهدِ الحَبيبِ بَكَيْتْ

بالوقف، وإلَّا فلا شاهد فيهما كما أوردهما المحقِّقون الثلاثة.

 والبيت الأخير هو من شِعر ابن عبدربِّه نفسه، وهو مقصور، مسكَّن الآخِر لا مضمومه، من أبيات مطلعها:

فُؤادِيْ رَمَيْتَ وَعَقْليْ سَبيتْ ** ودَمْعيْ مَرَيْتَ ونَوْمِيْ نَفَيْتْ

-2-

ومثال آخَر:

أورد (أبو تمَّام) في «حماسته» البيت الآتي:

يا مَنْ رَأَى يومَنا ويومَ بَنِيْ    [م]    التَّيْمِ إِذِ التَـفَّ صِيْـقُـهُ بِـدَمِـهْ

فساقه معظم ناشري «الحماسة» ومحقِّقيها وشارحيها، هكذا:

مَنْ رَأَى يومَنا ويومَ بَنِيْ    [م]    التَّيْمِ إِذِ التَـفَّ صِيْـقُـهُ بِـدَمِـهْ

 مع أن بعض المحقِّقين قد نَبَّه إلى أن في إحدى النَّسَخ: «يا من».(1)  لكنه كان يجب أن لا يُورَد البيت مكسورًا هكذا، بل أن يُعتمَد الصواب في المتن، مع التنبيه في الحاشية إلى ما وُجِد في النسخ.  فلا يعني اعتماد نسخةٍ للتحقيق أن تُنشَر على عواهنها، بأخطائها اللغويَّة والنحويَّة والعَروضيَّة. 

كما وردَ البيت بخطئه هذا أيضًا لدَى:

- (المرزوقي، أبو علي، (1991)، شرح ديوان الحماسة، نشر: أحمد أمين وعبدالسلام هارون (بيروت: دار الجيل)، 1: 330/ 1).

- (المعري، أبو العلاء [منسوب إليه]، (1991)، شرح ديوان حماسة أبي تمَّام، تحقيق: حسين محمَّد نقشة (بيروت: دار الغرب الإسلامي)، 1: 243/ 1).

- (التبريزي، الخطيب، (1938)، شرح ديوان الحماسة، تحقيق: محمَّد محيي الدِّين عبدالحميد (القاهرة: مطبعة حجازي)، 1: 314/ 1). 

وهو مكسور الوزن في تلك الكتب جميعًا، رغم من قام عليها من الشرَّاح والمحقِّقين والناشرين.  وصوابه: «يا مَن رأى».  ووزنه من (البحر المنسرح).  

الغريب أن هؤلاء الشرَّاح والمحقِّقين والناشرين لم يلتفتوا إلى هذا الخطأ في وزن البيت، حتى عندما كانوا يجدون أمامهم تحديد وزنه، وأنه من المنسرح، وذلك مثلما نجد في شرح التبريزي، الذي أتى به مكسورًا، مع ذِكْر وزنه. 

فماذا يعني هذا؟

ما لذلك من تفسير سوى الجهل بالعَروض، أو الغفلة والإهمال، أو هذه العوامل مجتمعة.  وإذا كان قد وقع ذلك في مخطوطٍ قديمٍ لخطأ من الناسخ، فما يُعفي ذلك من التنبيه إليه وتصحيحه ممَّن اضطلع حديثًا بواجب التحقيق والتدقيق وإخراج نصٍّ صحيح. 

غير أني- إبراءً للذِّمَّة!- قد وجدت البيت صحيحًا لدى (الشنتمري، الأعلم، (1992)، شرح حماسة أبي تمَّام، تحقيق: علي المفضَّل حمُّودان (دبي: مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، بالتعاون مع دار الفكر المعاصر- بيروت)، 1: 322/1).

وقِسْ على هذا الكثير، ممَّا تعثُر عليه مصادفةً، ولو تتبَّعت لوجدت منه أكثر.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  (بيروت: دار الكتاب العربي، 1983)، 5: 494.

(2)  يُنظر: أبو تمَّام، (1981)، الحماسة لأبي تمَّام، تحقيق: عبدالله بن عبدالرحيم عسيلان (الرياض: جامعة الإمام محمَّد بن سعود)، 1: 197/ 1. 

.............................................................................

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «في عِلْم العَروض.. وأخطاء المحقِّقين»، المصدر: صحيفة "الرأي" الكويتية، الثلاثاء 8 أغسطس 2017، ص14].

إلى الأخ الشاعر المبدع أبي بشر : يحيى بشير الحاج يحيى .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

إذا أردنا أن نتحدث عن فجر الشعر الإسلامي المعاصر فلا بد لنا أن نتحدث عنك أيها الشاعر الكبير يحيى بشير الحاج يحيى ، فأنت من أبناء سورية الحبيبة الذين جاهدوا وهاجروا ، وطالت هجرتهم حتى كادت أن تستغرق أعمارهم كلها ، ولكن الله أتى بالفرج ، فبرقت سماء سوريا بانتفاض الشعب السوري ، وهانت عنده الأرواح في سبيل الله ، ولا بد لليل سورية أن ينجلي ، فبشرى للمهاجرين ، فلقد أزفت العودة الميمونة بإذن الله .

بشراك يا أخي ، وبشراك بشرانا .

في أواخر عهد الدولة العثمانية عم الجهل جميع أرجائها ، وكان هذا الجهل هو السبب الرئيس في سقوطها بين أنياب الصليبيين الجدد الذين كانوا صاعدين في مجال العلم ، واستمر هؤلاء الصليبيون في فرض الجهل على أمتنا ، وطال ليل الجهل حتى ما بعد النصف الأول من القرن العشرين ، ثم بدأ بصيص العلم في التسلل مخترقاً هذا الليل الجاهلي البئيس ، وإن مما حاوله أعداؤنا إنتاج جيل من أبنائنا يقومون بمهمة التجهيل نيابة عنهم ، فأرسلوا وفوداً من فلذات أكبادنا إلى جامعاتهم ليربوهم على أعينهم ، وقد نجحوا في ذلك ، وقد نجا نفر منهم ، فكانوا كالسهام المرتدة على أعدائنا .

وبدأت الصحوة الإسلامية في جميع الجبهات ، وأسهمت في بروز عدد من الشعراء حملوا على عواتقهم همّ أمتهم ، فأبدعوا شعراً إسلامياً راقياً يدعو إلى النهضة ، ويدعو إلى حكم إسلامي رشيد ، وكنت يا أخي أبا بشر واحداً منهم ، بل من أسبقهم زمناً وشعراً .

لك جهود مقدرة في أدب الطفولة ، وهو الجانب الذي لاقى قصوراً شديداً في دنيا الأدب العربي إلى أن تنبه له الأدباء من أيام أحمد شوقي ، وعلى الرغم من ميول شوقي الإسلامية إلا أن أدب الطفولة لديه لم يتجه في هذا السياق .

لقد كان جهدك في أدب الطفولة شعره ونثره جهداً واسعاً وأدباً مؤثراً ، وعملاً مقدراً .

أريد أن أتحدث عما في مكتبتي من إنتاجك الوافر الجميل ، فقد أصدرت سلسلة "قصص من السيرة للأطفال في أربعة أجزاء" ، رجل أنقذه الله من النار ، أحسن الناس وجوهاً ، خير وافد .

ثم أصدرت سلسلة حكايات شعرية في ستة أجزاء ، عندي منها الجزء الرابع بعنوان "مجير أم عامر" ، ثم أصدرت سلسلة بشر (أناشيد الطفولة) في أربعة أجزاء ، عندي منها ثلاثة : في الأسرة والمجتمع ، في العبادة والسلوك ، في السيرة والجهاد .

 ولك سلاسل أخرى للطفولة : أسمعني حكاية في خمسة أجزاء ، حكايات الإملاء في خمسة أجزاء ، حكايات ونوادر من التراث ، مسرحيات شعرية للناشئين في ستة أجزاء ، عندي منها : صاحب الجنتين وعمر واليتامى ، مسرحيات شعرية للناشئين ، عزيزي الشبل (من سير الصحابة الكرام) ، ديوان تغريد البلابل ، مجموعة أناشيد وحكايات شعرية ، قاضي الجيران وحكايات أخرى ، قصة (حبتان) ، قصة (بالمرصاد) .

ولك بالإضافة إلى هذا الإبداع في أدب الطفولة دراستان مقدرتان : قصص أبنائنا كيف نختارها ، القصة وأثرها في الطفل المسلم .

ولا يسعني بعد أن حرصت على أن أسرد هذا الإبداع الرائع في أدب الطفولة إلا أن أقف رافعاً يدي إجلالاً وإكباراً لقلمك السيّال وأن أرفع صوتي منادياً الآباء والأمهات إلى التوجه إلى هذا الفيض المتدفق والنبع الصافي فيغذون أطفالهم منه حتى يشبوا وقد امتلأت نفوسهم فخراً بهذا الدين العظيم .

لقد نلت تقديراً على جهدك الرائع في أدب الطفولة ، فنلت المركز الأول في مسابقة نادي أبها لقصص الأطفال عام 1408هـ وعلى المركز الثالث في مسابقة شعر الأطفال لرابطة الأدب الإسلامي عام 1420هـ .

ومع اعتقادي بحقك في أن تنال تكريماً أوسع على جهودك في خدمة الطفل المسلم فإني أقول ما قاله عمر بن الخطاب في شهداء نهاوند عندما قيل له : واستشهد يا أمير المؤمنين قوم لا تعرف وجوههم ، فقال : "يكفيهم أن الله يعرفهم" ، يكفيك يا أبا بشر أن الله يعرفك .

وبعد جهودك في ميدان الطفولة فإن لك جولات في الدراسات الأدبية الموجّهة ، منها : موسوعة القصص التربوي ، وتقع هذه الموسوعة في ثلاثة مجلدات ([1]) ، ثم قضايا المسلمين في القصة المعاصرة ، محمد الحسناوي الأديب الداعية ، المرأة وقضايا الحياة في القصة الإسلامية المعاصرة .

وفي عام 1415هـ نشرت لك دار المجتمع للنشر والتوزيع في مدينة جدة بالسعودية كتابك الرائع : القصص الإسلامي المعاصر عرض وتوثيق ، وفي عام 1416هـ زرت دار المجتمع فوجدتك متكرماً قد أهديتني نسخة من هذا الكتاب وأودعتها دار المجتمع ، فتسلمتها منهم شاكراً ، وعندما قرأت هذا الكتاب وجدتك قد بذلت جهداً عظيماً في توثيق جهود القاصين الإسلاميين ، وعرضتها عرضاً سليماً ، وفهرستها فهرسة مفصلة ، وعلى الرغم من محدودية انتشار مثل هذه الأعمال إلا أنها تحتل مكاناً مرموقاً في باب التوثيق الذي نحتاج إليه ونرجع إليه في دراساتنا ، فهو يلم الشتات ، ويفتح الأبواب واسعة أمام الدارسين .

أقول : ولي في هذا الباب كتابان : دواوين الشعر الإسلامي المعاصر دراسة وتوثيق صدر في عام 1985م وكتاب معجم دواوين الشعر العربي المعاصر صدر عام 1424هـ 2003م وثقت فيه لسبعة آلاف ومئة وواحد وخمسين ديواناً صدرت في القرن العشرين ، وكلاهما لم يحظ بالانتشار ، بل كان حظهما من ذلك محدوداً محدوداً محدوداً .

هذه مسيرة في موكب الأدب ، نقدرها لك ، ونحتفي بها ، فهي جديرة بكل ذلك .

إلا أن الإضافة الأدبية الكبرى التي أضفتها لإبداعك كانت الشعر ، فأنت يا أخي شاعر مبدع ، خلقك الله شاعراً ، وكانت إبداعاتك كلها روافد تصب في نهر شعرك .

أقول دائماً إن الشعراء طبقات ، كما أن كل المواهب طبقات ، إلا أن الباحثين والناقدين يختلفون في عدد الطبقات ، كما يختلفون في الشعراء عندما يحلونهم في طبقاتهم ، وهذا كله من باب أذواق الباحثين ومدى تعمقهم في دراسة الشعراء ، وملامح أخرى توجه أحكامهم .

وعندما أردت ان أصنف الشعراء في طبقات وقفت عاجزاً أمام تقدير ثلاثة منهم : المتنبي وشوقي وامرئ القيس ... أيهم يتصدر الشعراء ، فقد كاد الدارسون في قديمهم والحديث أن يطبقوا على المتنبي ، ولهم أسبابهم ، وأصر بعضهم على امرئ القيس ، ولهم أسبابهم ، وقدم بعضهم أحمد شوقي ، وأمروه على الشعر العربي ، واعترض بعضهم فأمره على الشعر المعاصر فقط .

أقول : وكل هؤلاء جدير بالتقديم ، ولا بد من دراسة معمقة لكل منهم حتى نخرج برأي قاطع ، وهيهات هيهات !

وأحببت أن أصنف الشعراء الإسلاميين المعاصرين ، بجعلهم طبقات ثلاث ، الأولى جعلتها تحت عنوان : الشعراء التاريخيون للشعر الإسلامي المعاصر ، والثانية تحت عنوان : أمراء الشعر الإسلامي المعاصر ، والثالثة تضم سائر الشعراء الذين لم يقعوا تحت الطبقتين السابقتين .

ترددت في تنفيذ هذا المشروع ، وقدرت أنه سوف يلاقي اعتراضات كثيرة ونقداً واسعاً ، وسوف يجرُّ عليّ (عداوات) نقدية قد توغر صدور أناس أحبهم وأقدرهم ، ثم انصرفت على ما كنت عزمت .

أنا لا أتردد في تصنيفك مع مجموعة أمراء الشعر الإسلامي المعاصر ، فقد عرفتك شاعراً في زمن متقدم من هذا العصر ، فقد تحدثنا عنك في الجزء السادس من كتابنا "شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث" الصادر عام 1400هـ 1980م ، وذلك في طبعته القديمة ، ولك أكثر من قصيدة رددها عاشقو الشعر الإسلامي المعاصر ، وقد أشرت إليها في أكثر من موضع ، وبين 1400هـ 1980م وبين هذا التاريخ الذي أكتب فيه هذه الكلمة (1433هـ 2012م) اثنان وثلاثون عاماً ، أضفت فيها للشعر الإسلامي المعاصر درراً من قصائد تفاعلت فيها مع الحالة الإسلامية بعمق فكري وبملامح فنية راقية ، وهي موجودة في ديوانك الذي صدر أخيراً بعنوان "نفثات شآمية" .

بدأت بإصدار شعرك مبكراً في مجموعات صغيرة ، فأصدرت مجموعتك الأولى "في ظلال المصطفى" عن دار الأصيل بحلب ، وكتبت القصائد فيها بخط اليد ، ومما يؤسف له أن هذه المجموعة لم تؤرخ حتى نعرف تاريخ إصدارها ، وعندي نسخة منها ، وعندما رجعت إلى كتابنا "شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث" في جزئه السادس وجدتني مؤرخاً مجموعتك هذه في عام 1977م ، ولعل ذلك ورد في إحدى رسائلك إلينا .

إذن فقد بدأت الشعر قبل عام 1977م وهذا في تاريخ الشعر الإسلامي المعاصر تاريخ مبكر .

ومن مجموعاتك الشعرية أيضاً : "تراتيل على أسوار تدمر" و "نقوش على محاريب حماة" و "على أبواب كابل" الصادرة عام 1410هـ 1990م عن دار المطبوعات الحديثة بجدة ، وعندي نسخة منها ، و "على أبواب المدينة" الصادرة في طبعتها الأولى عام 1429هـ 2009م عن دار المأمون في الأردن ، وعندي نسخة منها .

أخي أبا بشر : لا علاقة بين كم الشعر والإبداع ، نمثل بذلك من المعاصرين بعباس محمود العقاد ، فقد صدر له عشرة دواوين ، جمعها في مجلدين كما جمع شوقي شعره في مجلدين ، وهما عندي ، فأما شوقي فنصب أميراً للشعراء ، وأما العقاد فلا يذكره أحد بالشعر ، وهناك من أبدعوا قصيدة واحدة كطرفة بن العبد وعدّ من أصحاب المعلقات !!

أقول هذا وأنا أتصفح ديوانك الذي صدر عام 1432هـ 2011م عن دار الضياء في عمان ، ويضم بين دفتيه عدداً من القصائد السائرة والمبدعة ، تضعك هذه القصائد في نسيج الشعر الإسلامي المعاصر ، لا تنفك عنه ولا ينفك عنك .

أريد هنا أن أشير إلى عدد من هذه القصائد ، وأقتبس أبياتاً من كل قصيدة .

دعني أقتبس الأبيات الأخيرة من أروع روائعك "أم في القيود" وهي في الصفحة 161 من ديوانك الأخير "نفثات شآمية" ، فقد كنت في هذه القصيدة متفائلاً جداً وأنت تعرض للون من المآسي التي طالت نساء المؤمنين وأطفالهم :

بُنَيَّ لئن حُرِمْتَ العطف ظلماً

فما للظلم من عمر مديد

غداً تأتيك أمك بالهدايا

ويأتي الفتح بالنصر الأكيد

دم الشهداء لن يمضي هباء

    

ففجرُ النصر بعض دم الشهيد

وللتوحيد ألويةٌ تعالت

    

فنبضُ القلب من خفق البنود        

لقد كتبت هذه القصيدة عام 1981م في أثناء نكبة حماة ، وقد أكدت أنّ "فجر النصر بعض دم الشهيد" ، وقد كان ، وسوف يتحقق النصر بدماء أولئك الشهداء ... ودم شهداء اليوم ، فالنصر المبين نحققه بدماء الشهداء ، والله يحب أن يقدم المؤمنون الشهداء ، وهو القائل جل جلاله "ويتخذ منكم شهداء" .

وفي درة أخرى بعنوان "شموخ" ص 175 تؤكد على هذه المعاني الجهادية ، ولكني أجد نغمة التحدي مسيطرة على القصيدة من أول بيت فيها إلى آخر بيت :

قد تملِك سوطاً يكويني.  - وتحزُّ القلب ٓ بسكين ِ

قد تجعَلُ غِلَّكَ في عُنُقي - فتضجُّ تئن ُّ شراييني !؟

أو تَغْرِزُ سهمك في كبدي - وبمرّ عذابك ترميني !؟

وتصادِرُ شعراً أكتبُهُ - بشمالي ٓ إن عزّ يميني !

وتجوِّعُ طفلي مِنْ بعدي-  واهاً للطفل المسكين ِ

لكنْ، لن أخضعَ في يومٍ - للذل بضعف. او لين ِ

فتباشيرُ الفجر انطلقَتْ - من جرح شهيدٍ وسجين !

وفي درة ثالثة تستمر نغمة التحدي ، تقول من قصيدة "نفثة شآمية" ص 181 :

برغم القهر والإرهاب والتشريد والمِحَن

برغم " محاكم التفتيش" قد نُبِشَتْ منَ العَفَنِ

برغم نذالةِ الجبناء والدخلاء في وطني

وأرتالٍ من العملاء تحني الرأسَ للوثن

سأحيا رافعاً رأسي ، ولو سُرْبِلْتُ في الكفن

وفي قصيدة الأم بعنوان "حنين" ص 187 :

نداءُ الأم إنْ قالت:بُنَيّا - نشيدٌ خالدٌ في مـسمعيا !

يُغَيِّبُ عن فؤادي كلَّ هَمٍّ - كانُ الهمّ لم يكُ قبل ُ شيّا !

وإن عبس الزمانُ، وعَمَّ يأسٌ - وأظلمت الدنا في مقلتيا 

أضاء حنانُها ظلماتِ عيشي- وأزهرت ِ الاماني في يديّا

وهذه قصيدة قرأتها منذ زمن بعيد ، وأعجبت بها موضوعاً وسبكاً ولحناً : هي قصة سيدة في السبعين أصرت على الاستشهاد دون نزع حجابها ، وهي القصيدة التي تحمل عنوان "هذي الدما من أطيب العطر" ص 188 :

هي حرةٌ كنسائم الفجر -ونقيّةٌ كبراءة الطهر ! 

وأصيلةٌ كالشام، عِزَّتُها - من غير عجرفة ولا كِبر ! 

لَهْفي عليها إذ يُرَوِّعُها - وغدُ الخنا وربيبةُ العهر !؟ 

وبعد : ديوانك "نفثات شآمية" حافل بالروائع ، أخي أبا بشر : إني والله لا أجامل ، ولغيري أن يقرأ قصائدك ويتفرس فيها ، فسوف يوافقني على قولي ، وربما زاد إعجاباً على إعجابي .

شعرك أخي كما قال المتنبي : إن هذا الشعر في الشعر ملك .

جزاك الله يا أخي خيراً على ما قدمت دفاعاً عن أمتك ودينك ، ولك الأجر وأنا إن شاء الله معك .

 ([1]) منهم من يقول مجلد ، فالجمع ثلاثة مجلدات ، ومنهم من يقول مجلدة ، فالجمع ثلاث مجلدات .

تعدُّ هذه الآية من الآيات المشكلة في «القرآن الكريم»؛ لعدم وضوح معناها من حيث اتصالُها بما قبلها، والمعنيُّون بها، حتَّى جعل بعضهم الوقوف عليها من دون ما بعدها خطأ كبيرًا، ويراه وقوفًا ممنوعًا؛ لأنَّه قطْعٌ للمعنى.

ولا شكَّ أنَّ هذا راجعٌ في أصله إلى تحميل الآية فهمًا واحدًا، ومعنىً محدَّدًا وهو «المصلين» الذي لا ينبغي أن يكون «الويل» لهم، فكان لا بدَّ من بيان الحال الدَّاعية إلى ذلك، وهو قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾.

وعند محاولة فهم معنى ﴿المصلين﴾ الواردة فيها اعتمادًا على منهج «تفسير القرآن بالقرآن» نجدُ أنَّ ثمَّة معنى آخر مخالفًا للمعنى الذي درج عليه «المفسّرون» والذي بنى عليه «الفقهاء» أحكام «السَّهو» عن «الصَّلاة»، ويؤكِّد أنَّهم ابتعدوا كثيرًا عن المعنى الذي أراده الله جلَّ وعلا في الآية نفسها.

ولا بدَّ من الإشارة إلى أمرين:

الأوَّل: أنَّ لفظ «صلَّى» قد ورد في القرآن الكريم بمعاني مختلفة، ولم يختصَّ بـ«الصَّلاة المفروضة» دون غيرها، من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾، فالأمر هنا لا يعني «إقامة الصَّلاة» من ركوع وسجود، أي: يجوز أن يكون «الله» جلَّ وعلا و«ملائكتُه» مصلِّيَيْن بناء على هذه الآية؛ لكن لا يعني بحال أنَّهما يركعان أو يسجدان.

الثَّاني: أنَّ معنى «صلَّى» من حيث أصله اللُّغوي يدلُّ على معاني كثيرة؛ ومنها «الدُّعاء» كما مرَّ في الآية السَّالفة، والصَّلاة من الله الرَّحمة، والمصدر من «صلَّى»: «صلاة» وليس «تصلية» كما نصَّت قواعد «النَّحويِّين» على أنَّ مصدر «فعَّل»: «تفعيل»، وقد أورد «القرآن الكريم» أمثلة غيرها تشير إلى عدم صحَّة ما قعَّده «النَّحويُّون» في «قواعدهم»، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً﴾، ولم يقل بناء على «قواعدهم»: «كذَّب: تكذيبًا». و«المصلَّي» أيضًا: الفرس الذي يتلو السَّابق، وغير ذلك من المعاني التي لسنا معنيين بحصرها.

بل إنَّ «القرآن الكريم» أورد «صلَّى» نقيضًا لـ«ولَّى» حيث قابل بينهما فقال تعالى: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾، فلمَّا كان «التّكذيب» مقابلًا للـ«تصديق» كانت «الصَّلاة» مقابلة للـ«تولِّي»، مع التَّنبيه على أنَّ «الصلاة» مصدرٌ لـ«صلَّى».

والمقابلة هي المعتمد في فهم معنى «المصلِّين» في آية «الماعون»، ومفتاحها معرفة الإجابة عن قوله تعالى: ﴿وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾، فلمَاذا لا يسأل الله عزَّ وجلَّ يوم «القيامة» المجرمين عن «ذنوبهم»؟ ولمَ استثناهم من «الحساب»؟! ولم «يبلسون» عندما تقوم «السَّاعة» كما في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾؟ ولم ينكِّسون رؤوسهم عند ربهم في ذلك الوقت كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾؟!

واعتمادًا على منهج «تفسير القرآن بالقرآن» نجدُ أنَّ «القرآن الكريم» نفسه قد أجاب عنها، فبيَّن أنَّ سبب ذلك كله أنَّهم لم يكونوا يؤمنون بـ«يوم الدِّين»، كما في قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾. وأكَّد ذلك في السُّورة نفسها بقوله: ﴿ كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾، وفي موضع آخر قال: ﴿ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ﴾.

ولا يظنُّ عاقل أنَّ مَن يكذِّب بـ«يوم الدِّين» يتحسَّر على عدم «إقامة الصَّلاة» في الحياة الدُّنيا، ولا يظنُّ أنَّ المراد من قوله: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ أنَّهم لم يكونوا يُقيمون الصَّلاة بركوعها أو سجودها.

لذلك نرى أنَّ سورة «الماعون» قد بدأت بذكر مَن يكذب بـ«يوم الدِّين» فقال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ ثم أوردتْ المعاني التي سبق ذكرها في الآيات السَّابقة من سورة «المدثِّر»، ومن بينها أنَّهم لم يكونوا من «المصلِّين»، ولو تنبَّه «المفسِّرون» على الآية الأولى من «الماعون» لعلموا أنَّ الله جلّ وعلا يتحدَّث عمَّن لا يؤمن بـ«يوم الدين»، ومن كانت هذه حاله أنَّى له أن «يقيم الصَّلاة»؟!

بل إنَّ «القرآن الكريم» بيَّن أنَّ هؤلاء لا يُؤذن لهم ليعتذروا يوم «القيامة» فقال تعالى: ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾، ولو تتبَّعنا سورة «المرسلات» كاملة لرأيناها تتحدَّث عن ﴿المكذِّبين﴾ الذي كذَّبوا بـ«يوم الفصل» الذي هو ميقاتهم أجميعن فقال تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.

وبعد أن عرفنا أنَّ «المجرم» هو «المكذِّب» بـ«يوم الدِّين»، وأنَّ سورة «الماعون» تتحدَّث عنه من أوِّلها إلى أخرها، فلا بدَّ من معرفة معنى ﴿المصلّين﴾، والذي يظهر أنَّ المراد قطع العلاقة بينهم وبين الله جلَّ وعلا؛ لأنَّ الأًصل فيها «اللّزوم»، أو «الإقبال» على الله جلَّ وعلا كما بيَّنا من قبلُ، وأنَّها نقيض «التَّولِّي»، دلّ عليه أمور:

أوَّلها: أنَّ «القرآن الكريم» بيَّن أنَّهم لم يكونوا يقرُّون بوجود «الله» كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾.

ثانيها: أنَّ «القرآن الكريم» وصفهم بأنَّهم ﴿سَاهون﴾ والسَّهو يعني: الغفلة مع «السُّكون»، أي: سكنوا عن أيّ حركة تربطهم بالله عزَّ وجلَّ، وثمَّة فرق بين «غفل»  وبين «سهو» وليس هذا مجال بيانه.

ثالثها: أنَّ «القرآن الكريم» بيَّن من خلال المقابلة بين «المجرمين» ومن سواهم أنَّ الآخرين «دائمون» على «صلاتهم»، وشرح صفاتهم وأحوالهم في سورة «المعارج» فقال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾.

فـ«المصلُّون» في هذه الآيات الذين لم يقطعوا صلتهم بـ«الله» جلّ وعلا؛ بل هم ﴿دائمون﴾ عليها، بخلاف «المجرم»، إضافة إلى أنَّ لفظ «المجرم» دلَّ في نفسه على «حالتهم»، وهو من «جَرَم»، والجيم والرَّاء والميم أصل يدلُّ على «القطْع»، ومنه قولهم: جرمتُ صوف الشَّاة إذا: قطعتُه.

فإن قال قائل: لمَ لا يكون المراد من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ الصَّلوات المفروضة؟ قلتُ: يردُّه «القرآن الكريم» نفسه، و«السُّورة» نفسها إذ تابع وصف حالهم فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾، فلمَّا أراد جلّ وعلا «الصّلاة» بمعنى «الصِّلة» قال: ﴿دائمون﴾ وهو مقابل لقوله: ﴿ساهون﴾، ولما أراد «الصلاة المكتوبة» قال: ﴿يحافظون﴾.

بل إنَّ سورة «المعارج» أكَّدت إمهال الله لهم في أنَّهم يخوضون ويلعبون، وهو ما قالوه من قبل: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾، فقال تعالى: ﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾.

رابعُها: أنَّ «الويل» جعله الله عذابًا لمَن يكذبُ بـ«يوم الدِّين» وكرَّر ذلك وأكَّده في سورة «المرسلات» كثيرًا؛ بل تكاد تكون السَّورة من أجل بيان «حالهم»، ولا يعقل أن يكون «الويل» في سورة «الماعون» لمن «سها» عن «صلاته المفروضة» كما ذهب إلى ذلك «المفسّرون» و«الفقهاء» في أحكامهم التي بنوها على فهم خاطئ لما نصَّ عليه «القرآن الكريم».

خامسُها: أنَّ «القرآن الكريم» قد نصَّ على أنَّ «المجرمين» بلفظ هم الذين سيصلون «النَّار» بسبب تكذيبهم بها، وبـ«يوم الدِّين»، واستعمل لفظ «صلى»، فقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾، وقال أيضًا: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.

المزيد من المقالات...