clip_image002_d991b.jpg

clip_image004_505af.jpg

عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، صدر قبل أيّام قليلة كتاب نصوص أدبيّة بعنوان "عناقيد" للكاتبة  الفلسطينيّة الشّابّة أماني محمّد من عرابة البطوف. ويقع الكتاب في 261 صفحة من الحجم المتوسط، ويحمل غلافه لوحة لهبة خطبا.

لا أعرف السّيّدة أماني محمد دراوشة شخصيّا، وفوجئت عندما عرضت عليّ اصدارها الأوّل "عناقيد" طالبة النّصيحة، وما بخلت عليها برأيي، قرأت النّصوص، وأبديت لها بعض الملاحظات، واحترمت رغبتها بكتابة تقديم لهذه النّصوص اللافتة بلغتها ومضمونها، وطريقتها في السّرد الانسيابيّ الذي لا ينقصه عنصر التّشويق.

والقارئ لهذه النّصوص سيتوقّف أمامها متمعّنا مستمتعا، ويبدو واضحا من خلال النّصوص أنّ الكاتبة تملك لغة جميلة تحلّق من خلالها في فضاء الفكر والمعرفة، فثقافتها الاجتماعيّة  وتجاربها الحياتيّة، واطّلاعها على معاناة بنات جنسها، اللواتي يعشن في مجتمع ذكوريّ لا يحترم انسانيّة الأنثى، يشكّل وازعا ودافعا منها للانحياز لنصف المجتمع الذي هي نفسها لبنة من لبناته، وهذا سرّ ابداعها، فمهما انحاز الرّجل إلى قضايا النّساء، فإنّه لا يعرفها أكثر من المرأة نفسها.

والكاتبة الزّوجة والأمّ، ومن خلال معايشتها للواقع ومن خلال تجاربها الحياتيّة وتجارب قريباتها وزميلاتها ومعارفها من النّساء، لم ترتض السّكوت أو أن تقف موقف المراقب اللامبالي، ومن هنا بدأت مخاطبتها لبنات جنسها ناصحة ومرشدة بشكل مدروس لا ينقصه المنطق، في محاولة منها لبناء مجتمع انسانيّ متوازن وسعيد، فهي ترى الأسرة السّعيدة من خلال علاقة متوازنة ومتكافئة بين شريكي الحياة "الرّجل والمرأة". وإذا ما تحقّق ذلك فإنّ تربية الأبناء ورعايتهم بطريق صحيحة ستخلق جيلا سيكون عمادا للمستقبل.

وكاتبتنا التي ركّزت على بناء الانسان السّويّ وإن بطريقة غير مباشرة، تدرك انعكاسات ذلك على حياة الانسان كفرد وكعضو يجب أن ينجح في حياته، وأن يكون عضوا فاعلا في مجتمعه.

وسيلاحظ القارئ أنّ كاتبتنا قد كتبت بمداد فكرها، لتبرّئ نفسها من سلبيات تراها وتسمعها وتنفر منها. وساعدها في ذلك مخزونها اللغوي، ولغتها الرّشيقة الشّعريّة التي حلّقت من خلالها في سماء الابداع.

غير أنّ كاتبتنا لم تقصر "عناقيدها" على نصح النّساء وتربية الأبناء، بل تعدّتها إلى الغزل والعشق، فكتبت غزلا بالرّجل، وكتبت عن الوطن وهمومه أيضا.

ويلاحظ أيضا أنّ الكاتبة لم تصنّف "عناقيدها" تحت صنف أدبيّ معيّن، - مع أنّها كتبت أدبا رفيعا-، وكأنّها تتمرّد على المألوف، في محاولة منها لإيصال ما تؤمن به من خلال التّجريب، وهذا يسجّل لصالحها، مع الانتباه أنّ لديها القدرة على كتابة الأقصوصة والقصّة القصيرة لو أرادت ذلك، لكنّ سردها لنصوصها يحمل في طيّاته أسلوب السّرد الرّوائيّ، وبعض نصوصها تصلح بأن تكون نواة لرواية متكاملة.

clip_image002_868c3.jpg

clip_image004_b836c.jpg

في المختارات الشّعريّة الصّادرة عن الاتّحاد العام للكتّاب العرب الفلسطينيّين (48) الّتي أعدّها الشّاعر سامي مهنا تحت عنوان "مختارات من شعر المقاومة الفلسطينيّة في الدّاخل 48"، يحشد فيها (126) نصّاً شعريّاً، مكتفياً بنصّ واحد لكلّ شاعر، متوخّياً جامعها أن "تعطي الصّورة شبه الكاملة عن الحالة الشّعريّة الوطنيّة بكلّ أجيالها، من الرّعيل الأول، حتّى جيل الشّباب الحالي"، ومحدّدا كذلك الهدف من ورائها بقوله "شعر المقاومة الفلسطينيّة هي المقولة الدّائمة أن فلسطين أرض ولادة لشعب حيّ ومبدع، وهو سيّدها وابنها منذ آلاف السّنين". (المقدّمة، ص6-7)

جاءت المختارات في (416) صفحة من القطع المتوسّط، معرّفاً بالشّاعر وتاريخ ميلاده أو تاريخ ميلاده ووفاته، اجتهد أن يرتّب فيها الشّعراء ترتيباً أبتثيّاً، ولكنّه لم يتّخذ هذا منهجاً عامّاً، فجاءت المختارات مقسومة إلى قسمين، قسم مكوّن من ثمانية شعراء غير خاضعين للتّرتيب الأبتثيّ ذاك، وهم: محمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين وتوفيق زيّاد وسالم جبران ونزيه خير وطه محمّد علي وحنّا أبو حنّا، وكأنّه يصنّف هؤلاء الشّعراء تصنيفاً نقديّاً معيّناً، وقد افتقرت المقدّمة من توضيح هذه "المنهجيّة" غير الموضوعيّة، بل إنّ فيها ما فيها من انحياز واضح لأسماء بعينها، على الرّغم من أنّه خالف العرف النّقديّ السّائد في الدّراسات النّقديّة والأدبيّة الفلسطينيّة، بأن قدّم راشد حسين على توفيق زيّاد، وهو الّذي يشكّل مع درويش والقاسم ثلاثيّة شعر المقاومة في جيله الأوّل، مؤخّراً حنّا أبو حنّا، ومقدّماً عليه نزيه خير وطه محمّد علي.

ويتبيّن أنّ الشّاعر سامي مهنّا، وهو يقوم ببناء هذه المختارات لم يكن ذا منهجيّة محدّدة في الاختيار، ما خلا العشوائيّة الواضحة، إن صحّ تسمية العشوائيّة منهجاً، في تلك النّصوص الّتي لم تكن كلّها ذات جودة فنيّة عالية، بل إنّ بعضها يعاني من الإخلالات في الوزن والصّورة الشّعريّة والبناء اللّغوي والأخطاء اللّغويّة، ولعلّ ما يعيب تلك المختارات أنّ المساحة الممنوحة للشّعراء غير متساوية، فهناك شعراء استهلكوا ما يزيد عن ثلاث صفحات وبعضهم كان يكتفى بإدراج نصّ قصير له. وربّما هنا يبرز أيضا الانحياز الضّمنيّ لبعض الأصوات الشّعريّة على حساب أخرى. عدا أنّه أدرج نصوصاً باهتة جدّاً لا تمثّل شعر المقاومة، ولا يستحقّ أصحابها أن يسمّوا شعراء، فاللّغة ركيكة والمعاني سطحيّة، واختلطت بنصوص شعريّة عالية المستوى لشعراء مكرّسين ولهم مكانتهم الأدبيّة والشّعريّة.

تمثّل هذه المختارات المدارس الشّعريّة الثّلاث (الشّعر التّقليديّ المقفّى، والشّعر الحرّ، وقصيدة النّثر)، وتناول فيها أصحابها موضوعات قصيدة المقاومة التّقليديّة من ذكر النّكبة ومآسيها والشّهداء والأسرى والحديث عن المدن الفلسطينيّة، وخاصّة حيفا ويافا والقدس، وتغنّوا بالبحر، والانتماء لهذه البقعة الجغرافيّة من العالم، ويصوّر بعضها عن طريق المقابلة بين الأنا الجمعيّة الفلسطينيّة والآخر المحتلّ، تلك الثّنائيّة المعروفة، المتمثّلة بثبات الفلسطينيّ صاحب التّاريخ الطّويل والحقّ الشّرعيّ والقانونيّ وطارئيّة المحتلّ القادم من الهناك، ليجعل هذا الثّابت لاجئاً ويعاني الأمرّين، إما تحت سلطة عنصريّة أو في شتات لا يرحم.

في حين جاءت بعض القصائد مشبعة بالشّعر والتّقنيات الشّعريّة المتقدّمة، سواء في الأسلوب الشّعريّ أم في العبارة الشّعريّة، بما فيها الصّورة البلاغيّة المدهشة، فوظّف فيها أصحابها الأسطورة والرّمزيّة والأقنعة التّاريخيّة والحوار الفنيّ المنضبط ضمن هيكليّة القصيدة، أو انتهاج الأسلوب السّاخر، هذا الأسلوب الّذي لم يعد ينتبه إليه الشّعراء، والأدباء عموماً إلّا نادراً ونادراً جدّاً. غرقت مجموعة من النّصوص في السّطحيّة والسّذاجة والخواء الفكريّ والرّوحيّ، وجاءت مباشرة مملّة ممجوجة، وسقطت في سرديّة وحكائيّة مشهديّة لتكون مشاهد قصصيّة خائبة، واعتمد بعضها على "شعريّة الاستفهام" مع أنّ هذه الأسئلة في القصائد المختارة كانت مغلقة، تقريريّة أو إنكاريّة، لا تحمل قلق الوجود الإنسانيّ أو فنّيّات الأفق المفتوح على إجابات ملبسة، ما يعني أنّ شاعر المقاومة هنا كان ينطق عن يقين، ليس يقين الإيجابيّات الفنّيّة بل يقين من امتلك مفاتيح المعرفة الكونيّة، مع أنّه يعيش كلّ حالات القلق الإنسانيّ في "بقعة" تغصّ بالإشكاليّات بأوضاع غير إنسانيّة بالمطلق.

إن ما اشتملت عليه تلك المختارات الشّعريّة من نصوص في الأعمّ الأغلب، يفتح أبواب النّقد على مصرعيها، ليس في محاكمات نصّيّة منفردة لتلك القصائد فقط، بل مساءلة الشّعريّة ذاتها، بدءاً بشعريّة الاختيار وحساسيّتها الجماليّة والفنّيّة، ولنتذكّر رأي عبد القادر البغداديّ في أبي تمام مؤلّف كتاب الحماسة، فقد دلّ هذا الاختيار "على غزارة علمه (أبي تمام) وكمال فضله وإتقان معرفته، بحسن اختياره. وهو في جمعه للحماسة أشعر منه في شعره"، وأن نقف ثانيا على شعريّة قصيدة المقاومة وأدواتها بشكل عامّ، تلك القصيدة الّتي لم تتقدّم، على ما يبدو، بعد شعرائها الكبار، بل تشظّت وارتبكت، وارتكبت حماقات شتّى، وأخيرا مساءلة تلك المنهجيّة المعتمدة هنا، والمنحازة إلى السّهولة مع الإخلال الواضح بهذه السّهولة أيضاً، وضرورة البحث عن منهجيّة أكثر موضوعيّة، تعطي لهذه المختارات جانبا من القوّة، حتى وهي تفتقر إلى قوّة المادّة الأدبيّة.

في ظنّي هذه هي الأسئلة المهمّة الّتي يجب أن نطيل الوقوف عندها مليّاً، لنتأمّل المشهد جيّداً قبل أن نخطو خطوة واحدة نحو تجميع نصوص تسيء للشّعر الفلسطينيّ، وتنحدر به في هوّة الرّداءة، وإعادة تسويقها وتدويرها، بدل أن تعرُج فيه نحو معارج الجمال والخلود.

فكم سيبقى من نصوص هؤلاء الشّعراء بعد حين من الدّهر؟ لا شكّ في أنّ المتابع للشّأن الثّقافيّ غير المتعجّل سيعرف الجواب، ولكنّه سيمتنع عن أن يقولها، رأفة، أو خجلاً، أو ربّما وراء الأكمة ما وراءها!

مقدمة  :   الشَّاعرة ُ والأديبة ُ والناقدة ُ  " نجاح نجم " من  سكان  مدينةِ     "الناصرة "،  تكتبُ  الشِّعرَ  والخواطرَ الأدبيَّة  والقصَّة َ والمقالة َ الصَّحفيَّة  والنقديَّة  والدراسات  والأبحاث على أنواعِهَا  منذ  أكثر من عشرين  سنة .. وهي  خريجة ُ جامعةِ حيفا - حاصلة ٌ على اللقب  الأول )  b.a )  في  اللغةِ  العربيَّة  وآدابها ...عملت  في  سلكِ  التعليم  لفتراتٍ  متقطعة ... وفي مجال الصحافة أيضا .. نشرت بعضا من  إنتاجها الأدبي والشِّعري في العديدِ  من الصحفِ والمجلات المحليَّة ، ولكنها لا  تسعى  وراءَ الأضواءِ  وكانت مقلة ، نوعا ما، في  مجال النشر رغم  الكمِّ الكبير من  إنتاجها الأدبي  والشعري المتواصل . وكما  أنهُ  لم  يكتب عنها  أيُّ  كاتبٍ  وناقدٍ محلِّي  ولم  يتناولوا أدبَها ويلقوا عليهِ  الأضواء . وديوانها هذا الذي  بين أيدينا هو  أوَّلُ  إصدار      لها  ( صدرَ  أواخر عام  (2001 )  .

مدخل:الشَّاعرة ُ والأديبة ُ"نجاح نجم" من الشاعراتِ والكاتباتِ المُبدعات  محليًّا،ويشرِّفني أن أكونَ أوَّلَ  شخص يكتبُ عنها وعن أدبها، وأكون الرائدَ  والطليعيَّ في  إزاحةِ  الستار  وتركيز الأضواء  على  جوانب  عديدةٍ  هامَّةٍ من  محطاتِها الإبداعيَّة...إبداعات إنسانة  ساهمت  بشكل  فعليٍّ  في  تطوير وتقدُّم  الحركةِ  الأدبيَّة  محليًّا.. وعملت  على  بناءِ  وتكامل  النسيج  الأدبي والثقافي الإبداعي  المحلي . 

   ولنرجع لديوانِها "ألكترا " فهو باكرة إنتاجها المطبوع - كما ذكرتُ أعلاه -  ويقعُ  هذا  الديوان  في 96  صفحة من  الحجم  المتوسط ، تحليه  صورة على  الغلاف، وقصائد  هذا  الديوان  من  ناحيةٍ  شكليَّةٍ  على  نمطِ   الشعر الحديثِ الحرِّ ولكن توجدُ فيهِ موسيقى  داخليَّة  أخَّاذة  .. وتلتزمُ نجاحُ أحيانا  وفي مقاطع  عديدة  في  هذه  القصائد  بالقوافي  فهي  متمكنة ٌ جدا من اللغةِ  العربيَّةِ  وقواعدِها  وصرفها  ونحوها، وتعرفُ  جيِّدًا  كيف  تحيكُ  وتسبكُ الكلمات   الجميلة   وتنسجُهَا  بشكل  متناغم   مموسق  يكونُ  لها  انعكاسها الإيجابي الذوقي ويكونُ لها عذوبتها وإيقاعُهَا الجميل وسحرُها على النفوس والقلوب  والمشاعر  . 

     تعالجُ الشاعرة ُ في هذه القصائد مواضيعَ عديدة  وهامَّة، منها : الوطنيَّة والسِّياسيَّة والوجدانيَّة  والإجتماعيَّة  والفلسفيَّة ...وتركِّزُ  بشكلٍ خاصّ على  موضوع المرأةِ ( المرأة الشرقيَّة  العربيَّة) المهضوم حقها  في هذا العصر.      وسأتناولُ ، بدوري، بعضَ القصائد  من هذا الديوان  مع  الدراسةِ  والتحليل وسأبدأ  بقصيدة  " ألكترا " حيث  وضعت عنوانَ   الديوان  على  اسم  هذه  القصيدة ... وهي طويلة ٌ جدًّا  تقعُ  في 21  صفحة  نشرت أجزاءً  منها  في  صحيفةِ  كل العرب .. تتطرَّقُ   الشَّاعرةُ   فيها  إلى  عدَّة  مواضيع  إنسانيَّة وسياسيَّة  واجتماعيَّة...ولكنَّ الموضوعَ  الرئيسي الذي يدورُ معظمُ  الحديث عليه هو " قضيَّة  المرأة " التي هُضِمَ حقُّها في  مجتمعنا العربي والشَّرقي .  وتوظفُ " نجاح" في هذه القصيدةِ الجنسَ أحيانا  لتصل إلى أهدافٍ عديدة .  تقولُ  في مطلع  القصيدةِ :

( "  أسكبْ  كوبَ  الحليب  العاشر //  للمرَّةِ  التاسعة  والتسعين //

    أسكُبْهُ  بداخلي ...  // 

    أسكُب  كوبَ  الحليب  الأبيض //  إلى باطن ..  // تجويف  عميق  //

وتقول : ( " أسكب.. الكأسَ  // المُدَمَّى ..//  لستُ  داودَ  أنا   //

  أملكُ  تسعًا  وتسعينَ  نعجة ً .. //   وأشتهي واحدة ً أخرى  ..  //

 بيدِ  مملوك ..  //  غريب // 

أحِبُّ سليمانَ   الملك ... // ولستُ  بلقسيا ... //   ولا  ملكة َ سبأ   //

أسكبُ  الكوبَ  الأوَّل .. //  أسكب الكوبَ الأخير.. //                         فطرة ُ الخلق الأولى //  خلقني  لوحًا أبيض .. //   مُهمَّشا .. // 

طباشير  فكرتي  الأخيرة //   خلقتها    أنا  ... // 

من  ذاكرةِ .. //   عدمي  الأخير !   //

وتقولُ : ( " أسكبُ  حليبَ  أمِّي  الكريهَ ..//

      سندريلا  كنتُ   في  بيت  خالتي  //  

     رقما  منَ  الأرقام .. //  أحصاهَا  أبي  .. // 

     في بطن جُبٍّ  وضعَني إخوتي //  و في  قعر خابيةٍ ..//

    هندمُوا   بزَّتي   //   نياشين  الفحولة  المفترسه... //

     قلّدتُ  فساتيني// أوسمة  شرف..// حاصرت عنق سلاسل ثقيلهْ//..إلخ.

  إنَّ المعاني والأهدافَ في هذه القصيدةِ  تقريبا واضحة ٌ ومفهومة ٌ للإنسان  المُطلع  والمثقف، فهي تخاطبُ الرَّجلَ الشَّرقيَّ المُتزَمِّتَ هنا  بكلِّ  صراحةٍ  ...وتستعملُ  وتوظفُ  كلمة َ الحليب  رمزا   للجنس  وللذكورةِ  والخصوبةِ  والتلقيح ...فهذا الحليبُ  المخصبُ هو  مُدَمَّى  لأنهُ  لا  يخرجُ   وينبثقُ  عن المَحبَّةِ   والإنسجام  العاطفي   والروحي  والفكري ... لأنَّ  الرجلَ  الشَّرقي  يُعاملُ المرأة َ أو الزوجة  بالأحرى ( معظم الشَّرقيِّين)  كأنها  دمية ٌ  ومتاعٌ  للذةِ  والمتعةِ  لا أكثر وأدَاة ٌ للإنجاب ولقضاءِ الوَطر..فبعدَ أن يقضي الرجلُ الشرقيُّ  وَطرَهُ  وشهوَتهُ  من  المرأةِ   ينتهي  كلُّ  شيىءٍ  وكأنهُ  لا  يعرفها     (مثلما العلاقة بين الحيوانات  والبهائم - حسب  رأيها).. وتقولُ : إنها  تحبُّ  سليمانَ الملك .. أي أنها  تحبُّ  الرجلَ  الحكيمَ  المتَّزن  والمتسربل  بالوعي  والذكاءِ  والفطنةِ   ويكونُ  كاملَ  الأوصافِ ، ولكنها   ليست  بلقيسا   لتأتي وتخضع وتسجد  لهُ، بل هي على  تواضُعِهَا امرأة وفتاة ٌ شرقيَّة ٌ لها  كيانها   وقيمتها ( تتحدَّثُ على لسان  كلّ  امرأةٍ  وفتاة  شرقيَّة ) ويوجدُ  لها  كرامة ٌ  وعزَّة ُ  نفس  وكيان  وشخصيَّة ٌ  مستقلة   وقويَّة  وليست  رخيصة ً  فيجبُ أن تُعاملَ من قبل الرَّجل بالطريقةِ الإنسانيَّةِ  والحضاريَّة  والمعقولة، وليسَ  بالعنفِ  ولا  تعاقب جسديًّا  وروحيًّا لأتفهِ الأسبابِ وكأنها خادمة أو جارية.  وهي بدورها ( الشَّاعرة / المرأة ) قد خلقها  الباري  لوحًا  وصفحة ً بيضاء  لا  تعرفُ الحقدَ  والكراهية َ... ولكنَّ  جورَ  وظلمَ  المجتمع  والرَّجل  بشكل خاص يجعلها  تحقدُ أحيانا وتحسبُ  لكلِّ شيىء حسابَهُ، وتنظرُ لأمور عديدةٍ في الحياةِ والوجود  بمنظار سوداويٍّ ، ويجعلها تضعُ النقاط َ على الحروفِ   في كلِّ  خطوةٍ  وفي  كلِّ  تجربةٍ  وموقفٍ  يُوَاجهُهَا، وذلك  في قولِها : 

( " قطرة ُ الخلق  الأولى //  خلقني  لوحًا   أبيضَ //    مُهمَّشًا     // 

    طباشير  فكرتي الأخيرة // خلقتُهَا  أنا // من  ذاكرةِ عدمي الأخيرْ //). 

    يوجدُ في هذه الجمل والتعابير معاني فلسفيَّة عميقة، وتستعملُ  الشَّاعرة ُ بعضَ الرموز والتوظيفات  الدلاليَّة  الجديدة التي لم  يستعملها أحدٌ من  قبلها إطلاقا . فهي أوَّلُ  شاعرةٍ  عربيَّةٍ  تقولُ : ( طباشير  فكرتي الأخيرة !)  أو  عبارة " ذاكرة  عدمي الأخير  "... والمقصودُ هنا ( فحوى  كلامها ) : إنها  جاءت إلى هذا الوجودِ  صفحة ً بيضاء  بريئة...ولكنَّ أيديلوجيتها  وأفكارَها  ومبادئها  المتمسكة  بها  هي   بنفسِها  خلقتها  وأوجدتهَا  من  ذاكرةِ  عدمِها  الأخير... والمقصودُ  بعدمِهَا  الأخير أي ظلم المجتمع  والرجل الشرقي  لها  ( للمرأة )     فهو العدمُ  بحدِّ  ذاته . وهذه  الذاكرة  العدميَّة  المُمْحِلة ُجعلتها ،بدورها، تخلقُ  لها  ذاكرة ً جديدة ً وتتخذ ُ  لها  نهجًا  وفكرًا  جديدا  تقدُّميًّا  رائدًا  في هذا  المجتمع  الذكوري... تتخذ ُ  نهجًا  يرفضُ  التبعيَّة َ والتراجعَ   والإنصياعَ  والإنغلاقَ  وترفضُ   القيودَ  الصَّارمة َ التي  يفرضُها المجتمعُ  على  المرأةِ العربيَّةِ والشرقيَّة  دونَ مُبَرِّرِ . فهي  مع التقدُّم  الحضاري ومع حُرِّيَّةِ  المرأةِ   وتحقيق  شخصيَّتها  وكيانها  واستقلاليَّتها  الفكريَّة .  وتقصدُ الشَّاعرة ُ بجملة :  ( أسكب حبيب  أمِّي الكريهَ)...أي أنها  تحاولُ  أن  تمحو وتزيلَ من  شخصَّيتِهَا وذاكرتِهَا كلَّ فكرةٍ انهزاميَّة ورجعيَّةٍ حملتها عن أمِّها وعن النساء والعجائز عن  واقع  وموقع المرأةِ الشرقيَّة  في نظرهن،  وكلّ  شعور  وإحساس  بالنقص ..أي أنَّ المرأة َ هي مجرَّد ُ أداةٍ  للجنس وللتناسل  وللولادةِ   ومتاع ٌ  للرجل ،  فعليها أن  تخدمَهُ   وتلبِّي  وتحققَ  كلَّ  رغباتهِ ونزواتهِ، ولا  يحقُّ  لها  أن  تتعلَّمَ   وتحققَ  مصيرَها  وكيانهَا   ويكونَ  لها   رأيٌ   في  الحياة  ... فالشاعرة ُ " نجاح  نجم " هي  ضدُّ  كلِّ  هذه  الأفكار المُتخلِّفةِ المتوارثة، ولهذا هيَ  سكبت  حليبَ  أمِّها  الكريه . أي  أفكار أمِّهَا  والأمهات الرَّجعيَّات  فكريًّا  اللواتي لديهنَّ عقدُ النقص  ويعتقدنَ أنهنَّ ضلعٌ قاصر والرجل أفضل منهنَّ بكثير ويمتازُ ويتفوقُ عليهنَّ في كلِّ المجالات .   

    وتوظفُ  الشَّاعرة ُ  شخصيَّة َ " سندريلا "، وسندريلا  هي  فتاة ٌ جميلة ٌ جدًّا وضعَ  اللهُ  فيها  كلَّ  ما هو جميل - من:  ذكاء  وجمال وآداب ( حسب الأسطورة ) ولكنها  ظُلِمَت  من  قبل  خالتِهاَ ( زوجة  أبيها )... وفي النهايةِ  تحققُ  سندريلا  كيانها  وتستردُّ  حُرِّيَّتها  وتتزوَّجُ  من  الأمير... وهكذا هي الشَّاعرة ُ فهي  سندريلا هذا العصر-  كما ترى نفسها - لا  ينقصُها شيىءٌ .. ولكن من حيث كونها  فتاة (أنثى ) في مجتمع عربيٍّ  مُحافظ  فهذا المجتمعُ  مُجرَّدُ  حجر عثرة  أمامَ  حرِّيَتها  وتقدُّمها  وانطلاقها  العلمي والأدبي  وفي صددِ  تحقيق المصير والكيان.. ولكنها  لم  تيأسْ، فتابعت المشوارَ بإصرار وحققت  ذاتهَا  وانتصرت   مثل  سندريلا  في  نهايةِ  المطاف .   وفي  هذه  القصيدة ِ الطويلةِ  نجدُ الكثيرَ من التشبيهاتِ  والإستعاراتِ الجديدةِ  التي  لم  يستعملها  شاعرٌ عربيٌّ  من قبل، مثل :

1 - دلتا جروحي . 2- هشيمُ  أنوثتي  يقاتلُ  مخرزًا. وتقصدُ  بالجملةِ الثانيةِ  أي أنَّ المرأة َمثل الكف الذي يلاطمُ المخرز، والمخرزُ هو الرجلُ والمجتمع الشرقي .. وإنَّهُ  لتشبيه ٌ جميلٌ  وناجح .   وأمَّا  عندما  تتحدَّثُ  عن  الأنوثةِ  المتأجِّجَةِ المُشتعلةِ  فتعَبِّرُ  بهذه  الكلمات :

( "   تشعلُ  أنوثتي  حرائقَ  روما   //  روما  بمعبدِ  ألوهِيَّتِهَا  الجميل //

.. أي انَّ الأنوثة َ المكبوتة َ قد  تتفاقمُ  وتنفجرُ  وتحرقُ  كلَّ   شيىءٍ  أمامَها  ... فالإنعكاساتُ والهَزَّاتُ الإجتماعيَّة والسياسيَّة هذه هي الحرائق. وكثيراتٌ  هُنَّ  النساء اللواتي  لعبنَ  أدوارًا هامَّة ً في المجتمع  والتاريخ ، ومنهنَّ  من غيَّرَ مجرى التاريخ  .  ومدينة ُ روما  هي رمزٌ  لتاريخ   وحضارةٍ  عريقةٍ وعاصمة لأمبراطوريَّة  حكمت  وفرضت  هيمنتهَا على الكثير من الشعوب  فترة  طويلة ... وتقولُ  الشَّاعرة ُ :

عيونُ  أبي  شلال  قهوة   .. // لم  أتناسَخْ  من  هَوام //  وجود  هلامي //.. ...إلى غير ذلك من الكلماتِ وللتشبيهاتِ الجديدة . ولننتقل إلى قصيدة  أخرة بعنوان :( "حائط  من الإسمنت والحديد "- صفحة 34 -  35 ) وهي مهداة ٌ  إلى  روح الشهيد "أسيل عاصلة "  فتقولُ  فيها :

( " نحنُ الضياءُ والحقُّ   والصدقُ   لنا 

    السَّمسُ  لنا  //  وهمُ الظلامُ  يا " أسيل " 

    بتنا   ليالي  مظلمة ً  وبلا  شموع  وبلا  أصيلْ  //

   قرنا  وقرنْ .. //   الآنَ  حينَ  رأوا الشَّمعة َ الأولى  تضاءْ //

   ثارَ  الغضبُ ، غضببٌ  تأجَّجَ  في الصُّدورْ ..  //  ماذا  تريدْ   //

  حُكامُنا .. صُنَّاعُنا .. ملوكُنا ..سلاطيننا ..// ظلامُنا // مصَّاصُو  دمائنا.. //  

  ماذا  أرادُوا //  ماذا  أرادُوا  كي  نريدْ //   ماذا  أرادُوا .. // 

  أسَوائِمُ  بلا  هويّة  ولا  انتماءْ // هُوَ  ما  أخرجَ  أحبابَنا  إلى  الشَّوارعْ //

  صارخينَ .. //  الطفلُ   مات .. //   يا    حبيبْ .. // 

  صرخة ٌ  وحيدة ٌ  صاعقة ٌ  //  الطفلُ   ماتْ ... //

 " ومحمَّدُ الدُّرَّة "   شهيد ...  //   للّه   درُّكَ  من  شهيدْ  //

  يا محمَّد  .. يا خاتمَ  الأنبياء...  //  يا  حبيبْ //  "  )  ..  إلخ  . 

      هذه القصيدة ُ جميلة ٌ وغنيَّة ٌ بمضامينها  ومعانيها  المُتمَاوجَةِ ... وتشعُّ بموسيقاها الداخليَّة وبنبرتها الحماسيَّة  المتأجِّجة التي تحرِّكُ  المشاعرَ وتهزُّ الضمائرَ .

     كتبت " نجاحُ " هذه القصيدةَ  في أحداثِ  الإنتفاضةِ  الثانية - ( في هبَّةِ أكتوبر عام  2000 ) حيث  سقط َ  يومَها  عدَّة ُ  شهداء  من  عربِ  الداخل  ومن بينهم " أسيل عاصله " من  قريةِ  عرابة  البطوف -  الذي  ترثيه ِ في  هذه القصيدةِ ،  وكما  تعرضُ  وتشرحُ  بإسهابٍ  الوضعَ  المحلي  والعربي وموقفَ  الشَّعب   الفلسطيني  الشُّجاع   داخل  الخطين  الأحمر   والأخضر  (  فلسطينيي الضفة والقطاع وفلسطينيي  الداخل عرب ال 48 ) وأنهم على حَقٍّ  ويناضلون لأجل الحقوق ولا يخافون بطشَ المعتدي الظالم  مهما  كانَ يملكُ  من آلاتِ  ومعدَّاتِ  وتراسنات  القتل  والإبادةِ  الحديثة  والتيكنيلوجيَّة  المتطوِّرة ،  فتقولُ الشَّاعرة ُ :

( " نحنُ الضياءُ  والصِّدقُ والحقُّ  لنا ")... وهذا صحيحٌ  بالتأكيد  فالشَّمسُ والحُرِّيَّة ُ لنا  والحقُّ ... ولكنهم ( المعتدون ) همُ  الظلام .

   وتذكرُ  كيفَ أنَّ  الشَّرقَ  والعالم العربي رزحُوا ورضخُوا  سنينا وقرونا طويلة ً تحتَ نير الظلم  والإستعمار...وحينما  بدؤُوا يستفيقون  ويستيقضون من الظلمةِ ويرونَ الفجرَ والنجومَ  والحريَّة َ ثارَغضبَ الناقمونَ  وأصحاب المطامع والمآرب الإستعماريَّة وأرادوا أن  يطفئوا  شمعة َ الفكر والإنطلاقةِ  التقدميَّة والعلميَّة للشعب العربي . وتنتقدُ الشَّاعرة ُ بعنفٍ، في هذه القصيدة ،  الأنظمة َ العربيَّة َ الرَّجعيَّة، فهم  مَصَّاصُو  دماءِ  الشَّعب ولا يريدونَ الفجرَ  والحريَّة َ  لهُ ...لا  يريدونَ  للشعبِ  الفلسطيني  أن  يأخذ َ  وينالَ  حقوقه... أو  بالأحرى لا  يساندونهُ  ويساعدونهُ  ويدعمونهُ  في محنتهِ  ومآسيهِ  وفي كفاحهِ  الدَّؤُوب غير المتكافىء ، لأجل الحريَّةِ  والعدالة ِ والسلام  .    والشَّعبُ  الفلسطيني  المكلومُ   والمظلومُ   دائما  عزيزٌ  وأبيُّ  النفس ،  فهوَ  كالعنقاءِ  يُبعَثُ من  بين الرَّمادِ، ودائما  يتجدَّدُ  نشاطا وفكرا  ثوريًّا  ونظالا  وكفاحًا .. وهذا الشَّعبُ  لا يرضى  ولا  يقبلُ  أن  يكونَ بدون هويَّةٍ  وانتماء   ،بل هو الذي بهرَ جميعَ شعوب الأرض في حُبِّهِ للوطن وفي الشَّهادةِ والفداء   لأجل الحريَّةِ  والكرامةِ والدفاع عن الحقِّ المهضوم . فلأجل الحريَّةِ والحقّ  خرجَ الشَّعبُ الفلسطيني  والأطفالُ  والأحبابُ إلى الشَّوارع  في  مظاهراتٍ عارمةٍ  رغمَ  الأطواق الأمنيَّةِ والقواتِ العسكريَّة  الكبيرة المُدجَّجة بالسلاح  لتحولَ  وتمنعَ الشَّعبَ الفلسطيني من التعبيرعن واقعهِ المؤلم  ورفضهِ  لهذا الواقع  .   وتذكرُ في هذه القصيدةِ  الشَّهيد "محمد الدُّرَّة " الذي أصبحَ رمزًا للإنتفاضةِ الثانيةِ  وكيف  كانَ الفلسطينيُّون  يهتفون  في المظاهرات  باسمهِ فتقولُ :  

( " الطفلُ   مات ... // ومحمَّدُ  الدُّرَّة  شهيد //  للهِ درّكَ من شهيدْ ..  //

    وتذكرُ  أيضا الشهيد " أسيل عاصله "  في  العديدِ من  مقاطع القصيدةِ .

وبإختصار القصيدة   جميلة  ٌ وحماسيَّة  وتجسِّدُ   الواقعَ  والفترة َ التاريخيَّة وهي ( إنتفاضة الأقصى عام  2000 )  وتجسِّدُ  الواقع العربي  والفلسطيني   وتذكرُ أسماءَ  بعضَ الذين استشهدوا في هَبَّةِ  أكتوبر . وللشَّاعرةِ العديدُ  من القصائد  الوطنيَّة  في هذا الديوان .  ولننتقل إلى قصيدةٍ  أخرى  من الديوان (القصيدة الأخيرة ) وهي بعنوان:(" إعترافات -  شعر غنائي ")  والقصيدة  غنائيَّة - ذاتيَّة ووجدانيَّة  تترعُها الشَّاعرة ُ وتضمِّخُها بصورٍ جديدةٍ  وبرُؤيةٍ   متطوِّرةٍ  وبحليةٍ  قشيبة تختلفُ كليًّا عن النهج  التقليدي المألوف ( العمودي  أو شعر التفعيلة وحتى النثري) وتستعملُ فيها الكثيرَمن الرُّموز والتوظيقات الجديدة . وتتحدَّثُ  في القصيدةِ  بشكل عام عن المرأةِ  ودورها في المجتمع وعن  موضوع  الحبِّ والعشق  وما  هي  نظرة ُ المجتمع  الإجماليَّة  للمرأةِ ...وخاصَّة  المرأة  والفتاة  التي  تحبُّ  وتعشقُ، وموقف  المجتمع  من  هذا  الموضوع   ومنها  .   و" نجاح"  تدافعُ  عن موقفِ المرأةِ  والفتاةِ ، وتذكرُ أنَّ الكثيرات من النساءِ يُحبُّونَ في حياتِهم ( وهذا حقهنّ)..ولكن لا  يجرؤُونَ على إظهار حُبِِّهنَّ  بسببِ  نظرةِ  المجتمع  السَّلبيًّة  وموقفهِ  ضدَّهنَّ .  فالمجتمعُ  الشرقي ( حتى الآن ) أجواؤُهُ  تشبهُ  فترة َ محاكم  التفتيش، ولكنَّ  المرأة َ ليست  قالبا  من الثلج  لا تحسُّ ، بل هي مثل الرَّجل لها جسدُهَا ولها عواطف  ومشاعر متأجِّجة   فتحبُّ  وتعشقُ  وتشتهي  وَتُثارُ، ولكنَّهَا  دائما  تخفي  مشاعرهَا   وتكبتُ  وتدفنُ  أحاسيسَها  في  داخلِها  خوفا  من  عقاب المجتمع الصَّارم  لها ..وأمَّا الرَّجلُ  فمسموحٌ  لهُ  أن  يفعلَ ما يشاء ، فتقولُ في القصيدةِ ( صفحة  93 )  :

 ( "  يسألني هل أحببتُ ؟ // عن أيِّ  حُبٍّ  يسألون /  وَلادة ُ  تحتلُّنِي

( " أعلنتُ   حُبِّيَ  مَرَّة ً //    مَرَّة ً ...  //   وتلوَ  المَرَّهْ  ... // " ) .                                                                                                    

        وتوظفُ  هنا  شخصيَّة  " وَلاَّدَة "  ابنةِ الخليفة المستكفي  الأندلسيَّة التي أحبَّت عدَّة  مرَّات  ووقعَ  في  غرامِها الشَّاعرُ  الكبير " إبن زيدون "  ...  وتقولُ أيضا :

( " يسألُني  هل  أحببتُ  ؟ //    محاكمُ  التفتيش  تسألُ  غانيه  // 

     قطعة  صفيحٍ  بارد ... //  كأسُ  خمرٍ  فارغة //

     يسألني هل أحببتُ //  من  قالَ   يومًا // إنَّني  قطبٌ  شماليٌّ  تجمَّدْ  //

     أعجازُ   نخل ٍ  خاويهْ  //   " ) . 

       المعاني هنا  واضحة ٌ جدًّا  في القصيدةِ ، فالشَّاعرة ُ أو المرأة ُ العربيَّة  بشكل عام  هي ليست القطبَ  الشَّمالي  المتجمِّد  ولا  جذعَ   نخل   يابس لا حياة  فيهِ ..بل هي إنسانة ٌ لها مشاعِرُهَا  ولواعِجُهَا  الجيَّاشة  وَتُثار وتتأجَّجُ عاطفيًّا وجنسيًّا  مثلَ الرجل .   وتقولُ  الشاعرة ُ في القصيدةِ  :

( " يسألني هل أحببتُ ... //  ومن  هو  حُبِّي  الأخير   // 

    شمسٌ  حزينة ٌ  مشاعري  //   قمرٌ  يختبىءُ  بجوانحي // 

    حبَّاتُ رملٍ  ساخنة // 

وتقولُ :(" يسألني هل  أحببتُ  //  ومن   هوَ  حبِّي    الأخير    //

         عروسة ُ الثلج   أنا  //  صحراءُ  هذا  الشَّرق ِ  قلبي  // ) ... إلخ   . 

       وهي بدورِهَا ( الشاعرة )  تجيبُ الذي  يسألها  ويستفسرُ : هل أحببت  يوما  أم  لا .. ومن  هو حُبُّها  الأخير ؟ ... فتقولُ :  إنَّ   مشاعرَها   جريئة وواضحة ٌ  مثل الشَّمس  ( والتشبيه  هنا  جديد )   فمشاعرها  حارَّة ٌ ودافئة  ولا  تستطيعُ أن تخفيها لأنها  تستطع  كالشَّمس . وبجوانِحِهَا  قد اختبأ  القمر -  رمز  للجمال  والرومانسيَّة  والحب والعشق .  وهي نموذجٌ حيٌّ  ومرآة ٌ للمحبَّةِ  الصادقةِ  الحقيقيَّةِ  وللإخلاص  والوداعةِ  والرومانسيَّة  الحالمة ... وهي أيضا  حبَّاتُ  رمل ساخنة  ( حذفت هنا أداة التشبيه) .. أي  مثل حبات الرمل الساخنة  عند  الهجير ( الحَرُّ الشديد ساعات الظهر )  فإنها  متأجِّجَة ٌ وملتهبة بالأنوثةِ  والعواطف . وهي عروسٌ رائعة ُالجمال غنيَّة ٌ بالعواطفِ  والاحاسيس  البرئيئةِ والمشاعر المرهفةِ والمبادىء والمُثل ..ولكنَّ المجتمعَ  وكلَّ من حولها  مثلُ الجليد  لا يحسُّ  ولا   يشعرُ   وَمُتجَرِّدٌ  من  العواطفِ والشُّعور ويفكِّرُ  فقط  في الأمور المادّيَّة .. فهي عروسٌ  بين الجليد ، وهي أيضًا صحراءُ هذا الشَّرق ... صحراءٌ  في رَحَابَةِ واتساع صدرها  وصمتِها ومتاهاتِها وألغازها  وفي  سخونتِها وحَرِّها، وهي  صحراءٌ   قاحلة ٌ  بحاجةٍ لمطر...وتحتاجُ  لإنسان  يفهمُهَا  وَيُدركُ   كُنهَهَا  وحقيقتَها  وقيمتهَا  وَيُحِبُّهَا     وَيُحَوِّلُ  صحراءَ  حياتِها ( صحرائِها )  إلى  جنائن  وورود ... وهكذا  هي المرأة ُالشَّرقيَّة في معظم الأحيان وكلُّ امرأةٍ في هذا الوجود بحاجةٍ  لرجل . 

   وأخيرا سأكتفي  بهذا القدر من إستعراض  وتحليل  القصائد .

  وفي النهايةِ نهنِّىءُ الشاعرة َ والاديبة المبدعة " نجاح نجم "  على إصدار هذا الديوان ونتمنَّى لها  المزيدَ من الإصدارات القريبة - الشعريَّة والنثريَّة .    

تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي (15) (فصل جديد)

(15)

غروب مُمِيت

تحليل قصّة "الرحيل"

 

"الرحيل يعني قليلاً من الموت"

                           "قول مأثور"

 

من سمات نصوص مجموعة القاسمي هذه هي أنّ لا صلة لطبيعة المكان ونوعيته بالموضوعة المركزيّة في هذه النصوص وهي الموت . فالكثير من الكتّاب يحاولون انتقاء أمكنة معيّنة وتأثيثها بصورة تجعلها مسرحاً مناسباً للواقعة التي توصل أو تتضمن حادثة الموت ، وفي الغالب يصمّمون المكان كـ "أرضيّة" متضادّة او متجانسة مع هذه الموضوعة الثقيلة المُخيفة والخانقة . لكن بالنسبة للقاسمي أيّ مكان – ومهما كانت طبيعته ونوعيته – يصلح ليكون مسرحاً للمثكل ، وكأنّه يبغي تثبيت سطوة الموت ؛ لا فرق بين صحراء أو بحر أو حديقة أو شقّة أو غرفة في مشفى .

وفي غرفة مُستشفى صغيرة تجري أحداث قصّة "الرحيل" ، ولاحظ أنّها القصّة الوحيدة التي تتضمّن مفردة لها صلة بعنوان المجموعة الرئيسي "أوان الرحيل" ، حيث اعتاد الكثير من القصّاصين على أن يختاروا عنوان أفضل قصص المجموعة – كما يتصوّرونها – لتكون عنواناً رئيسيّاً لها . طبعاً ، هناك قصّاصون يضعون عنواناً مستقلّاً لمجموعاتهم حين تكون هناك ثيمة مركزيّة تجمع جميع النصوص أو أغلبها . وهذا ما قام به القاسمي الذي اختار هذا العنوان الجامع : "أوان الرحيل" ليكون الخيط "الأسود" الذي يربط حلقات النصوص بقوّة ليحفظ وحدتها ويعزّز تماسكها ، أو الإطار الكلّي الذي يضمّها وكأنّه نعش دلاليّ كبير .

ولأوّل مرّة يفتتح القاسمي قصّة من قصصه بفقرة طويلة هي عبارة عن جملة كاملة بلا توقّفات ؛ أي بلا نقاط ، وصاحب الجملة "الطويلة" التي بلا فواصل في الأدب الحديث هو "مرسيا بروست" في "غرام سوان" . يقول القاسمي:

(عندما دخلتْ عليه وحدها ، تعوده في المستشفى ، خلال أسبوعه الأخير من صراعه الخاسر المرير مع الموت ، كان يطلّ بعينيه المُتعَبَتيْن ، عبر نافذة غرفته الكائنة في الطابق السابع ، ليشاهد بشيء من الأسى والغصّة ، البحر الممتدّ أمامه إلى ما لا نهاية ، وقد بدت أمواجه وهي تغادر الشاطىء بلا رجعة إثر سفينة راحلة نحو الأفق ، حيث تتبعثرُ اشلاء الشمس الغاربة الشاحبة اللون ، التي تقطّع أوصالها غيومٌ سود أخذت تغطّي صفحة السماء وتتحرّك مثل قطعان جاموس مذعور في اتجاه الغرب بفعل الريح الشرقيّة، لا يخترق سيطرتها على الفضاء إلّا سربٌ من الطيور المهاجرة . ) (ص 301) .

وهذه الفقرة / الجملة الطويلة ، تثبّت في نفس القارىء عمليّة الرحيل بحركيّتها المعروفة ابتعاداً ونأياً ؛ كانتقال في المكان بين نقطتين ، وهو ما يتضمّنه الجذر "رَحَلَ" ، وكأنّه غياب في طور التحقّق ، أو فناء مُعطّل . والقاص يضع أمام عيني الرجل المريض ، وهو يطل من نافذة غرفته "بروفة" لعمليّة الرحيل الأزليّة التي تضطلع بأدائها مكوّنات الطبيعة كل لحظة . لكّنها بالنسبة لهذه الطبيعة الصمّاء حركة "دائريّة" خالدة لا تنقطع ولا تنتهي . أمّا رحيلنا نحن البشر فهي نقلة باتجاه واحد لا رجعة منه . ورحيل الرجل تؤكّده حركات الرحيل الجزئيّة التي تجري أمام عينيه المُتعبتين ، فالأمواج تغادر الشاطىء بلا رجعة لتلحق بسفينة "راحلة" ، والغيوم تتحرّك مذعورة نحو الغرب ، وأسراب الطيور مهاجرة . أحياناً تتظافر الطبيعة مع الموت لترسم أمام عيني الإنسان المفجوع مصيره القاتم المحتّم لتتآمر مع المُثكل ويثبتا له أنّ لا فائدة من المقاومة أو الصراع الذي يخوضه . هذه لعبة لا مجال فيها للتعادل بين طرفي النزال ، والمُشكلة أنّ الطرف المهزوم فيها مُحدّد مُسبقاً مهما كانت الجهود التي يبذلها ؛ لعبة الحركة فيها دائماً من الشرق إلى الغرب ، ولهذا كرّر الكاتب مفردة "الغرب" ثلاث مرّات في هذه الفقرة الإفتتاحية ، حركة تبدأ من إطلالتنا الشرقية مع الشمس على الحياة لتنتهي في الغرب حيث تبتلعنا ظلمات العالم الأسفل مع أشلاء الشمس الغاربة الشاحبة . أعمارنا رحلة بمقدار يوم واحد ؛ بين شروقه وغروبه ، يكفي لتساقط أوراق شجرة حياتنا لتكنسها الريح الشرقية بلا رحمة نحو بوّابة الغروب :

(كانت الأشجار المُصفرّة تتساقط من الأغصان بكثرة لتغطّي حديقةَ المستشفى بدثار خريفي من ألوان شاحبة ، ثمّ سرعان ما تدفعها الريح بقسوة نحو البوّابة الغربية ، كأنّها تكنسها أو تطردها من الحديقة الرحبة إلى الدروب الخارجيّة الضيّقة) (ص 301) .

ويسري في نفسك شعور بأنّ عمليّة الطرد هذه الدائبة العزوم منذ فجر خليقتنا ، هي جذر أسطورة "الطرد" الأصلية من الفردوس ، وليس لنا من شغل سوى استعادتها بمثابرة لا توصف في نتاجاتنا الإبداعية ، لعلّ هذا التكرار يطفىء شيئاً من ألسنة الجحيم الذي تخلّفه في نفوسنا .

وقد "قبض" القاسمي نفوسنا ، ونفس الرجل ، حين رسم هذا المشهد ، فجعل حتى الألوان وكأنّها جزء من عمليّة "حداد" كونيّة شاملة تتحرّك بلا هوادة من الأزل إلى الأبد ، فالألوان سود وصفر غاربة شاحبة ، وكأنّ هذا الرجل يراقب موته ببطء وهدوء مرير ، ويعيد قراءة نبأ رحيله أو خبر نعيه ، كلّ لحظة ، مكتوباً على جسد الطبيعة التي تعرضه أمام عينيه بتشفٍّ لئيم .

ومع امتداد هذه الفقرة وطولها ، يمتدّ بنا هاجس الرحيل ويستولي على موجّهات انتباهتنا حتى لنكاد ننسى جملة "دخلتْ عليه" الافتتاحية ، ولا نتذكّرها إلّا مع عودة القاص إلى التذكير بحركة دخول المرأة من جديد عبر التفاتة الرجل إليها :

(التفتً ، رآها ، فسرى بريقٌ خاطفٌ في عينيه وشبحُ ابتسامةٍ على شفتيه ، ينمّان عن سرورٍ خفيٍّ مخنوقٍ بحضورها . جلستْ على حافّة سريره . أخذتْ يده اليمنى بكفّيها ، وأدنتها بلطفٍ من كنزتها الصوفيّة بالقرب من موضع القلب بين الضلوع ، وكأنّها تريدُ أن تهبه شيئاً من دفئها وشبابها ونبض فؤادها . أخذا ينظران إلى أحدهما الآخر بصمتٍ دون أن ينطقا بشيء) (ص 301) .

وبالتفاتته ، يكون الموت قد التفت إلى الحياة ، والحياة دخلت على الموت . يتقابلان في غرفة صغيرة مُخصّصة اصلاً لصراع الحياة ضد الموت . هذا الصراع الصامت عادة والذي يقرض حياتنا بهدوء . ولا يمثل دخول المرأة إلى الغرفة دخولاً للحياة لأنّها أنثى حسب ، بل لأن هذه المرأة المُحدّدة مليئة بالدفء والشباب والحيويّة . ولا أعلم مقدار دقّة استنتاج معلّم فيينا عن حقد الأحياء على الأموات والذين يحتضرون ، لكن من المؤكّد أنّ إحساس كفّ المريض الذابلة بنبض قلب المرأة وهي تضمّها إلى صدرها ، لا يشعره بروعة الحياة وعنفوانها حسب ، بل بقسوة الموت ، وباليأس من استعادة هذه النبضات الشابّة القويّة التي وهنت لديه وهي في طريقها للتلاشي ، وباستحالة أن يهبه أحد الأحياء شيئاً منها كما يعتقد الراوي . فصحيح أنّ المرأة كانت تريد أن تنقل شيئاً من دفء روحها وفوران شبابها إلى عروق الرجل اليابسة ، إلّا أنّ كليهما يدرك أنّ هذه تمنيّات يحلّق معها الرومانسيّون ثم تهوي لتتكسّر على صخرة الحقيقة القاسية . وهنا علينا أن نتحدّث عن حسد حقيقي يمور في نفوس الأموات ومن يحتضرون على الأحياء .. على عنفوان شبابهم ، ودفء أكفّهم ، ونبضات قلوبهم . قرأتُ مرّة حادثة عن "هايني" شاعر ألمانيا العظيم بعد أن أقعده المرض على كرسي متحرّك ، أنّه جلس في الشرفة ذات صباح ، يراقب كلباً . ثم انسحب إلى غرفته ناقماً ، لأنّه – كما يقول – حسد الكلب لأنّه يبصبص بذيله ! ومثلما يذكّر الحيُّ الميتَ باستحالة تأجيل عمليّة الرحيل القسريّة ، فإن الميّتَ – بالمقابل – يذكّر الحيَّ بأنّ الرحلة نفسها تنتظره حتماً ، وبأنه سيركب قطار الموت السريع قريباً رغماً عن أنفه . ومثل هذا الحوار البليغ الجارح للطرفين لا يمكن التجاسر على التعبير عنه باللغة .. ستعلن اللغة عجزها هنا وترفع رايتها البيضاء .. وستشتغل لغة أخرى .. هي لغة العيون ، ولهذا لخّص القاسمي هذه المحنة الحواريّة بحلقة مُفرغة أو مُقفلة ، لا فرق ، من تبادل النظرات بين الطرفين : الرجل والمرأة :

(أخذا ينظران إلى أحدهما الآخر بصمتٍ دون أن ينطقا بشيء)

ومن هنا ، بل منذ سطر الاستهلال الثاني الذي وصف فيه القاصُّ الرجلَ بأنّه (كان يطلّ بعينيه المُتعبتين ...) تعمّد القاسمي أن يعطّل لغة الحوار الشفاهيّة ، ويستعيض عنها بلغة الحوار العينيّة (نسبة إلى العين) اللاشفاهية ، ففي حضرة الموت وعلى طريقة عبد الوهاب البياتي يحصل (نزف في ذاكرة المحكوم بالإعدام) لا أحد يستطيع إيقافه من ناحية ، ولا يستطيع أي مخزون لغوي ملاحقته والتعبير عنه من ناحية أخرى . ولهذا جعل القاسمي عيني المرأة وعيني الرجل تقوم بلعبة الاتصال والتوصيل . كانت المرأة تسأل الرجل ، والرجل يسأل المرأة ، ويردّ أحدهما على الآخر في حوار عميق مستمرّ ومؤلم .. ولكنه صامت فقد تكفّلت به العيون . جعل القاصُّ الرجلَ " يقرأ " بعينيه المُتعبتين بلاغة مشهد الرحيل الطبيعي الكوني الذي أطلّ عليه . وحين التفت الرجل إلى المرأة ، لم يستطع إعلان فرحه المُحيى بقدومها ، ليس لأنّه مُتعب ، ولكن لأن لا مفردة أو جملة قادرة على أن تلخّص سرور الميّت حين تدخل عليه الحياة ، فرسمها القاص كـ "بريقٍ خاطفٍ في عينيه" و "شبح ابتسامة على شفتيه" ، وكأنّ الشفتين الواهنتين أيضاً بذلا ما في وسعهما لتجسيد البريق الخاطف .

يمكن للعينين أن تحلّا محل اللغة الشفاهية بكفاءة خصوصاً حين يتأسّس التواصل على اساس قاعدة من الارتباط النفسي العاطفي المتين ، يمكنهما أن تسألا وتجيبا ، أن تشكّكا وتتأكّدا ، أن تتتفّحصا وتشخصا علل القلوب الحبيبة . ولهذا يمكن اعتبار العمى أقسى إعاقة تصيب الإنسان على الإطلاق .. أكثر قسوة وتعطيلاً من الشلل والصمم والبكم . ويبدو أنّ القاسمي قد اختار المضيّ مع لغة العين وإيحاءاتها لأنّ الطرفين قد بلغا من اختزان مرارات الحقائق ماعاد مستحيلاً الإفصاح عنه بالحديث المباشر دون انجراحات مُهلكة لا يستطيع أيٌّ منهما تحمّلها ؛ الرجل المريض بسبب خسارته لصراعه المرير مع الموت ، والمرأة بفعل شعورها العميق والثابت بأنّ كشفها لما تبغيه للرجل بصورة مباشرة قد يقضي عليه ، خصوصاً أنّها الآن قد قطعت الخطوة الأولى الضروريّة في التأكّد من أنّ المرض قد حطّم جسده وروحه حين تشكّكت وشخّصت حالته الصحّية عبر النظر إلى عينيه :

(تأمّلتْ عينيه المُتعبتين ، فبدتْ لها أهدابها مثل وريقات زهرتي عبّاد شمسٍ ذابلتين ، وفي أغوارهما يخبو الضياء الذي عهِدَتْهُ ) (ص 301) .

وهذه "الوريقات" – وقد صغّرها القاص ليتناسب المشبّه مع المشبّه به - لن تكون عصيّة على أن تكنسها الرياح الشرقيّة نحو بوّابة الرحيل النهائي الغربيّة ، حالها حال أوراق أشجار الحديقة المُصفرّة التي كانت تكنسها الريح في الحديقة أمام "عينيه" . تأكّدت عينا المرأة الآن من أنّ الرجل المُسجّى أمامها قد هدّه المرض تماماً . من جانب الرجل ، جاست عيناه خلال عيني المرأة الحبيبة .. و .. :

(أطال النظر في عينيها ، فحيّرته المعاني . غابت منهما تلك الرقّة وذلك الحنان ، وحلّ محلهما تصميمٌ وعزمٌ على شيءٍ لم يُدرِك كُنهه) (ص 301) .

و"انظر" سيّدي القارىء إلى الفارق الشاسع بين غيابين : غياب بريق الحياة الذي "عهدته" المرأة في عيني الرجل ، وغياب الرقّة التي "عهدها" الرجل في عيني المرأة . وبسبب اختلاف العاطفتين جذريّاً استخدم القاسمي فعلين مختلفين : "تأمّل" للمرأة بما يعنيه من استغراق ذهني وتفكّر عميق فهي تنظر في "عيني" الموت إذا ساغ الوصف ، و "أطال" للرجل الذي كان "يفتّش" وينظر في "عيني" الحياة بحثاً عن عواطفها المراوغة المتشابكة .

ويبدو أنّ الأداة اللغويّة "العينيّة" تختلف عن اللغة اللسانية في أنّها أداة تشتغل على الأعماق ، لا شغل لها بـ "السطوح" النفسيّة ، تحاول سبر المكنون فوراً وبلا مقدّمات ، وتبغي دائماً التقاط العواطف والمشاعر ، وليس شرطاً معرفة "موضوعاتها . فالمرأة "عرفت" فوراً أنّ الرجل ليس بخير أبداً ، لأنّ بريق الحياة والإصرار على البقاء يظهر في العيون أوّلاً . كم هي الحالات التي يقول لنا فيها شخص حبيب أنّه بخير ، ونشعر فوراً حين ننظر في عينيه أنّه ليس بخير . والرجل أيضاً "عرف" عاطفة التصميم والعزم وليس شرطاً أن يعرف موضوعها .

يأتي الآن السؤال عن الحال والأحوال مُتأخّراً كما يبدو في الظاهر ، فقد كان - كما هو مقرّر اجتماعيّاً - أن يكون في البداية . لكن هذا من امتيازات الأداة العينيّة اللغويّة ، فهي قد سألتْ وأجابتْ و"عرفتْ" . ومع ذلك فقد سألها بـ "عينيه" :

(استفسر بعينيه عن حالها . لم تُجِبْ . هربتْ منها الكلمات ، تعثّرتْ العبارات ولم تبلغ شفتيها . حوّلت عينيها بعيداً عنه ، ولكنّها لم تستطع أن تمنع الدموع من الصعود والتجمّع في عينيها الواسعتين دون أن تنهمر عبراتٍ ، مثل نقاط الغيث المُتجمّعة على زجاج نافذةٍ بعد ليلةٍ مُمطرة) ( ص 301 و302) .

يُدخِل القاص هنا متغيّرات مُضافة تُثري التعبير اللغوي العيني اللاشفاهي طبعاً ، متغيّرات لا تتمتّع بها اللغة الشفاهية ، وأوّلها "الحركة" ، فإشاحة المرأة عينيها بعيداً عن الرجل تُغني عن الكثير من الكلام ، مثلما تُثري حركات إغماض العينين أو اتساعهما أو رمشهما ورفيفهما التعبيرات اللغويّة حتى الشفاهيّة منها ، وثانيها "الدموع" التي كانت دلالتها مُتضادة في الحقيقة ، فقد يؤوّلها "مخزوننا الدلالي" المسبّق والإتفاقي على أنّه تعبيرٌ عن الألم والتفجّع والتمزّق والحيرة ، ولكن "إنسراب" تشبيه "لاشعوري" قلب هذا التأويل التقليدي : "مثل نقاط الغيث المُتجمّعة على زجاج نافذةٍ بعد ليلةٍ مُمطرة" ، فهي تشي بإضمار وتضبيب المشاعر الحقيقية وتمويهها . يذكّرني هذا الموقف بمقولة للمبدع الكبير "محمود درويش" يعرّف بها الترجمة بالقول أنّها "قبلة من وراء الزجاج" . هنا تلوّح عواطف المرأة لعيني الرجل من وراء زجاج الدموع . وقد ضاعفت هذه الغلالة الشفيفة المُخاتلة من حيرة الرجل التي أثارتها ، قبل قليل ، "حيرة المعاني" المُكتظّة في عيني المرأة . صار عليه الآن أن يبحث عن "الجواب" على تساؤلاته التي تراكبت في موضع آخر ، ولكن – وبإصرار واعٍ من القاص – باستخدام عينيه أيضاً ، لالتقاط الجواب بعد استراحة رغائبية عند القوام الأنثوي الأهيف الذي حُرِم منه لإشباع روح ملهوفة قتلها العطش ، الغريزة تبحث عن إشباعها حتى عندما تكون رجلاها متدليتان في القبر كما تقول الحكمة الشعبيّة الباهرة :

(تحوّلتْ نظراته من عينيها إلى وجهها المليح وقوامها الأهيف وهندامها الأنيق ، فلمح إلى جانب حقيبتها الجلديّة ملفاً ورقيّاً . وبعد تردّد لم يطُلْ ، أشار بعينيه إلى الملف ، فناولتْهُ إيّاه . أخذه بيدين مرتعشتين ، تصفّحه بصعوبة . بدا عليه أنّه أدرك محتواه . ألقاه إلى جانبه على السرير.) (ص 302) .

وحتى الآن ، وما بعد "الآن" بقليل يستمر الحوار عن طريق العيون ، سؤالٌ وجواب ، طلبٌ واستجابة ، رجاءٌ ورفض ، التماسٌ وعناد ، إلى أنْ وصل غيظُ النفسِ المكظومة الزُبى ، ولم يعدْ بريق العيون المُنذر ولا تحديقاتها الآمرة كافية للتعبير عمّا يريده القلب ، فانفلتت ، ولأوّل مرّة ، الكلمات . ويبدو أنّ الإنسان قد اخترع اللغة في موقف حاسم كانت له علاقة مصيريّة بالموت ، وحين وصل احتدامه حدّاً عجزت معه كل الأدوات والوسائل اللاشفويّة عن التعبير عنه :

(نظر إليها . كانت مُطرقة . انتظر برهةً . رفعت رأسها . التقت نظراتهما . هزّ رأسه أنْ لا تفعلي . ولكّنه استشفّ في عينيها عناداً وتصميماً . أطرق برهة كأنّه يفكّر في حجّةٍ لإقناعها ، ثمّ نظر إليها وقال بلهجةٍ آمرة تشوبها نبرةُ رجاء وكأنّه يلفظ وصيّته الأخيرة :

-         لا ترحلي .. إبقِ أنتِ .. لا تغادري البلاد) (ص 302) 

هل هذا التوقيت ، هو التوقيت الملائم الذي تقوم به امرأة بإبلاغ رجلٍ محطّم يوشك على الموت بعد أن خسر صراعه المرير مع الموت ، وتحبّه ، مهما كان نوع هذا الحبّ ، بنبأ رحيلها ؟

لقد شاهدت بأمّ عينيها – عُدْنا إلى العيون ! – ذبوله ، وارتعاشه ، وخبوّ ضياء عينيه . كان قريباً من الموت ، ومع ذلك لم تتردّد في أن تأتي لزيارته ، وهي تحمل معها ملف رحيلها عن البلاد ، ملفٌ كان مكشوفاً بجانب حقيبتها أمام عينيه . هل كان بإمكانها الإفصاح عن مشاعرها "المميتة" ، وهي تعلم أنّها قد تودي بحياة الرجل الذي تحبّه ؟ . هل تنبري العيون للتدخّل حين تسحقنا الأحاسيس بالذنب التي "تكشفها" الكلمات ؟ وهل تسعفنا العيون أيضاً في تمرير التسويات السلوكيّة المُنطوية على العدوان بأقلّ الخسائر ؟ وهل ستنبثق المعاني الدفينة بعد طول قمع مع تفجّر الدموع المُحتبسة ؟ :

(جاهدتْ لتتكلّم ، ولكن الدموع المُتجمّعة في المآقي خنقت الكلمات . بذلت مجهوداً كبيراً لتُخفي الدموع عنه ، ولكنّها لم تتمكّن ، فانفلتتْ خارجةً من الغرفة ، قبل أنْ تنهمرَ الدموع على خدّيها الأسيلين) (ص 302) .

ويبدو أن وصف ملاسة الخدّين ونعومتهما – الأسيلين – يعود إلى الكاتب في هذا الموقف المحتدم المزحوم بالعواطف الآسية الهائجة ، كنوعٍ من السلوك الإستراقي الذي يتيح للمؤلّف حدّاً أدنى من مكافأة الجهود بدافع ذاتي مشروع .

وتصل ذروة القصّة الآن ، ليس لأنّ المرأة الراحلة لم تستطع إخفاء دموعها وخيبة قلبها الجريح حسب ، بل للموقف الذي ارتفع به القاص شيئاً فشيئاً ليصل ذروة لقاء "مَوْتَيْن" إذا جاز الوصف : موت الرجل الذي ستسقط ورقة عمره الأخيرة برحيل المرأة القاسي لتكنسها الريح الشرقيّة نحو بوّابة الغروب ، وموت المرأة برحيلها تاركة بلادها حيث قرّر البشر في أقوالهم المأثورة منذ أقدم الأزمنة أنّ "الرحيل يعني قليلاً من الموت" .

القصّة التي تمّ تحليلها

_____________

الرحيل

____

د. علي القاسمي

عندما دخلتْ عليه وحدها، تعوده في المُستَشفى، خلال الأسبوع الأخير من صراعه الخاسر المرير مع الموت، كان يطلُّ بعينَيْه المُتعَبتَيْن، عبر نافذةِ غرفته الكائنة في الطابق السابع، ليشاهد بشيء من الأسى والغصَّة، البحرَ الممتد أمامه إلى ما لا نهاية، وقد بدت أمواجه وهي تغادر الشاطئ بلا رجعة إثر سفينة راحلة نحو الأفق، حيث تتبعثر أشلاء الشمس الغاربة الشاحبة اللون، التي تقطّع أوصالها غيوم سوداء أخذت تُغطّي صفحة السماء وتتحرَّك مثل قطعان جاموس مذعور فياتّجاه الغرب بفعلِ الريحِ الشرقيّة، لا يخترق سيطرتها على الفضاء إلا سرب من الطيور المُهاجِرة. وكانت أوراق الأشجار المصفرَّة تتساقط من الأغصان بكثرة لتغطّي حديقة المستشفى بدثار خريفيّ من ألوان شاحبة، ثم سرعان ما تدفعها الريح بقسوة نحو البوابة الغربيّة وكأنَّها تكنسها أو تطردها من الحديقة الرحبة إلى الدروب الخارجيّة الضيقة.

التفتَ، رآها، فسرى بريقٌ خاطفٌ في عينيه وشبحُ ابتسامةٍ على شفتيه، ينمّان عن سرورٍ خفيٍّ مخنوقٍ بحضورها. جلستْ على حافة سريره. أخذتْ يدَه اليمنى بكفيّها، وأدنتها بلُطفٍ من كنزتها الصوفيّة بالقُرب من موضعِ القلب بين الضلوع، وكأنّها تريد أن تهِبهُ شيئاً من دفئها وشبابها ونبض فؤادها. أخذا ينظران إلى أحدهما الآخر بصمتٍ دون أن ينطقا بشيءٍ.

تأمَّلتْ عينَيه المُتعبتين، فبدتْ لها أهدابهما مثل وريقات زهرتَي عبّاد شمس ذابلتَين، وفي أغوارهمايخبو الضياء الذي عهدتْه. أطال النظر في عينيها، فحيّرته المعاني. غابت منهما تلك الرقَّة وذلك الحنان، وحلَّ مَحلَّهما تصميمٌ وعزمٌ على شيء لم يُدرِك كُنْهه. استفسر بعينَيه عن حالها. لم تُجِب. هربتْ منها الكلمات، تعثَّرتِ العبارات ولم تبلغ شفتَيها. حوّلتْ عينيها بعيداً عنه، ولكنَّها لم تستطِع أن تمنع الدموع من الصعود والتجمُّع في عينيها الواسعتَين دون أن تنهمر عبراتٍ، مثل نقاط الغيث المُتجمِّعة على زجاج نافذة بعدَ ليلةٍ ممطرةٍ.

تحوَّلت نظراته من عينَيها إلى وجهها المليح وقوامها الأهيف وهندامها الأنيق، فلمحَ إلى جانبِ حقيبتها الجلديّة ملفّاً ورقيّاً. وبعد تردُّد لم يطُل، أشار بعينَيه إلى الملفِّ، فناولتْه إياه. أخذه بيدَين مرتعشتَين، تصفَّحه بصعوبةٍ. بدا عليه أنَّه أدرك محتواه. ألقاه إلى جانبه على السرير.

نظر إليها. كانت مُطرِقة ً. انتظر برهة. رفعتْ رأسها. التقتْ نظراتهما. هزَّ رأسه أن لا تفعلي. ولكنَّه استشفَّ في عينيها عناداً وتصميماً. أطرقَ برهةً كأنَّه يفكِّر في حجة لإقناعها، ثمَّ نظر إليها وقال بلهجةٍ آمرةٍ تشوبها نبرةُ رجاء وكأنَّه يلفظ وصيَّته الأخيرة:

ـ لا ترحلي.. ابقِ أنتِ.. لا تغادري البلاد.

جاهدتْ لتتكلَّم، ولكنَّ الدموع المُتجمِّعة في المآقي خنقتِ الكلمات. بذلتْ مجهوداً كبيراً لتُخفي الدموع عنه، ولكنَّها لم تتمكَّن، فانفلتتْ خارجةً من الغرفة، قبل أن تنهمر الدموع على خدّيها الأسيلَين.

clip_image002_0ab93.jpg 

clip_image004_f5cda.jpg

عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس، صدرت قبل أيّام قليلة رواية "قلب مرقع" باكورة اصدارات الكاتبة الفلسطينية بيان شراونة، وتقع الرواية  التي صمّم غلافها فادي حمدان في 158 صفحة من الحجم الكبير.

في هذه الرّواية، تطرق الكاتبة الفلسطينيّة الشّابّة بيان شراونة بابا لا يزال مغلقا أمام الرّواية الفلسطينيّة بشكل خاص، والعربيّة بشكل عام، وهو باب الحياة الاجتماعية من خلال الأسر المفكّكة، ووقوع الأطفال ضحايا لذلك.

فسالي وأمل شقيقتان، والدهما مدمن كحول ومخدّرات، وأمّهما امرأة عاديّة مغلوبة على أمرهما، تتعرّض للشّتائم والضّرب بشكل مستمر من زوجها، ولا خيارات أمامها سوى الرّضوخ والسّكوت في مجتمع لا يستسيغ الطلاق، وحفاظا على أطفالها. الزّوج أبو رفعت يحبّ ابنته أمل، ويكره ابنته سالي لأنّه يعتبرها "زيادة" في الأسرة، إضافة إلى كونها ليست جميلة مثل شقيقتها أمل، لذا فإن سالي تتعرّض إلى الاضطهاد والضّرب بلا سبب، وموقف الأب السّكّير هذا أثار نار الغيرة بين الشّقيقتين. ولم يتوقّف عند هذا الحدّ بل دمّر الأسرة. وشرّد الأطفال بين دور الرّعاية التي ترعاها الشّؤون الاجتماعية، وملاجئ الايواء والأديرة.

 ضياع الأسرة الذي تسبّب به الأب جعل أطفالها عرضة لأطماع المنحرفين، فمثلا سالي تعرّضت للاغتصاب وهي طفلة، وأودعت في دار رعاية وحماية على جريمة لا ذنب لها بها، بل هي ضحيّة لها، ومن ثمّ أودعت في ملجأ تابع لأحد الأديرة.

 الرّواية لم تقتصر على طرح حكاية سالي وأسرتها بل تعدّت ذلك بكثير، فسالي سردت ما تعرّضت له هي وأخريات في دار الرّعاية وملجأ الدّير من اهانات وانتهاكات لحقّها في طفولة آمنة. وسردت حكايات طفلات أخريات من نزلاء هذه الأماكن. منها حكاية تلك الطفلة سلام، وهي طفلة لقيطة، ألقت بها والدتها أمام الدّير منذ ساعة ولادتها الأولى مع رسالة لمن يلتقطها. وسردت معاناة هذه الطفلة وما تتعرّض له من أذى من قبل النّزيلات. ولكلّ طفلة وطفل من روّاد هذه الأماكن حكايته المثيرة والمرعبة.

والرّواية تعرض لموقف المجتمع السّلبي من الأطفال الضّحايا مثل سالي. فسالي التي تعرّضت للاغتصاب في طفولتها لم تجد من يحميها، أو يدافع عنها، ولم تجد صدرا حنونا سوى صدر جدّتها لأمّها، والتي كانت هي الأخرى أي الجدّة تعاني من الوحدة بعد أن تخلى عنها أبناؤها العاقّون.

ومجتمعنا الذي لا يرى شرف المرأة وعفّتها إلا من خلال "غشاء البكارة" لم يرحم سالي، فخالد بن الأسرة الفقيرة وجار الجدّة عشق سالي وعشقته، وجاء مع والدته لخطبتها، وعندما اعترفت له بأنّها فقدت عذريّتها بحادثة اغتصاب، تركها، وتزوّج من أخرى، وأنجب طفلة سمّاها سالي أيضا، فعاد لسالي وتزوّجها شبه مرغم بعد وفاة زوجته.

ومثلما عاد خالد صدفة لزواج سالي، التقت سالي وهي بصحبة خالد صدفة بمغتصبها، فانهال خالد عليه ضربا، وعندما حاول النّجاة من بين يدي خالد صدمته سيّارة ومات.

بينما أصيب والد سالي بجلطة دماغيّة شلّته وأخرسته، وبقي ينتظر حتفه حتى مات ذليلا.

وتزوّجت أمل شقيقة سالي من رجل ثريّ.

في حين عادت والدة "سلام" الثّريّة زميلة سالي في الملجأ و"تبنّت" ابنتها، ولاحقا أخبرتها أنّها أمّها ووفرّت لها حياة كريمة.

وسالي تحسّنت ظروفها عندما عملت في مكتبة، والتقت خالد صدفة وتزوّجا.

مجتمع مريض: أبو رفعت مدمن كحول ومخدّرات، دمّر أسرته ولم يجد من يردعه، الجدّة أبناؤها عاقّون تركوها وحدها حتّى وفاتها، سالي طفلة تعاني وتتعرّض للاغتصاب ولا تجد من يحميها، مغتصب مجرم بقي طليقا ولم يجد من يعاقبه سوى ضحيّته من خلال زوجها، أطفال دور الحماية والملاجئ يتعرّضون لمعاناة كبيرة ولا يجدون من يحميهم. مجتمع لا يفهم الشّرف إلا من خلال ما بين فخذي المرأة، والضّحيّة دائما هي الأنثى. وغير ذلك.

بين العذريّة والشّرف: ركّزت الرّواية على قضيّة العذريّة والشّرف، وجاء على لسان سالي أكثر من مرّة على ضرورة التّفريق بين مفهوم الشّرف، ومفهوم عذريّة الفتاة.

شخصيّات الرّواية:

سالي: وهي الشّخصيّة الرّئيسيّة، طفلة رافقتها التّعاسة منذ ولادتها، تعرّضت للاهانة والضّرب والاذلال من والدها المنحرف مدمن الكحول والمخدّرات، تعرّضت للاغتصاب وهي طفلة، وضعت في دار رعاية تتبع الشّؤون الاجتماعية، وبعدها في ملجأ تابع لدير، وفيهما تعرّضت لمعاملة سيّئة وقاسية، كانت موهوبة وقويّة، حاولت التّغلب على كلّ مصاعبها. ونجحت إلى حدّ كبير.

أمّ سالي: امرأة تقليديّة بسيطة، تزوّجت من رجل سكّير منحرف، كانت تتعرّض للضّرب والاهانة بسبب وبدونه، وبذلت جهودها للحفاظ على أطفالها، لم تتخلّ عن زوجها عندما أصيب بجلطة دماغيّة شلّته وأخرسته، وبقيت ترعاه حتّى وفاته.

خالد: شابّ عاديّ من أسرة فقيرة، أحبّ سالي وأحبّته، لم يتزوّج سالي بعد معرفته بأنّها ليست عذراء، أحتراما لتقاليد المجتمع إلا بعد أن أرغمته ظروفه على ذلك بعد وفاة زوجته التي تركت له طفلة تحتاج من يرعاها.

البناء الرّوائي: تركت الكاتبة شخصيّاتها تتحرّك بعفويّة تامّة رغم مرارة المراحل التي مرّت بها، وتطوّرّت الأحداث وتتابعت، دون تدخلّ الكاتبة، ممّا أعطى السّرد مصداقيّة عند المتلقي.

عنصر التّشويق: تتوالى الأحداث بطريقة انسيابيّة مشوّقة رغم مرارة المضمون، ممّا يشدّ القارئ لمتابعتها حتّى النّهاية.

وماذا بعد؟

هذه الرّواية تشي لنا بأنّنا أمام روائيّة شابّة سيكون لها شأن في عالم الأدب إذا ما واصلت تثقيف نفسها، وتطوير لغتها.

ويسجّل لها أنّها طرقت بابا يكاد يكون بكرا في الأدب الفلسطيني خاصّة، وإن سبقها إليه بعض الرّوائيّين العرب أمثال الكاتب المغربيّ الرّاحل محمد شكري.

المزيد من المقالات...