*ملاحظة : هذه المقالة هي جزء من مخطوطة كتاب للكاتب عنوانه "محبرة الخليقة" كان المبدع الراحل جوزف حرب قد اتصل هاتفيا بالمؤلف من بيروت قبل رحيله بأيام مبديا إعجابه الشديد به وعازما على طبعه. يدور الكتاب حول ديوان جوزف حرب "المحبرة" الذي دخل موسوعة غينيس لكونه أضخم ديوان في العالم (1750 صفحة). وهي تحية إلى روحه لكونه عاشق كبير للعراق وهو ما لمسته من خلال لقاءاتي الشخصية به. 

(هي الأرضُ ،

خاليةٌ ، خاويهْ ،

كمعصرةٍ ، ليسَ من عاتقِ الخمرِ

فيها ،

سوى خابيهْ ،

تنامُ بفخّارها

عَتمةُ الزاويهْ )

... و"الرائعة" هي قصيدة المفتتح في ديوان المبدع "جوزف حرب" "المحبرة" الذي يقع في (1725 صفحة) ، وتتكوّن من أحد عشر مقطعا ، ويستهلها الشاعر كما يأتي :

(يديْ

ريحٌ

وطاولتيْ سوادُ الليلِ ، والأوراقُ غيمٌ

عن يمينيْ ، قربَها أقلامُ صندلةٍ ، ومحبرةٌ تقطّرَ

حبرُها الكحليُّ

     من ماءِ البنفسجِ

عنْ

يَساريْ

شمعةٌ من فضّةٍ ، يدعونها : قمراً ،

ولي كرسيّ أيلولٍ ، خفيف الحَور ، أجلسُ فيهِ

مستنداً إلى

        قُزَحَيْ سَحابهْ

وظهرِ عريشةٍ

عند الكتابهْ – ص 11 و12) .

وهذه جلسة أسطورية خارقة "يرتكبها" شاعر من عصرنا ، تخرق حدود الوجود الفردي/ وجودنا البائس الذي تتسع دائرته هنا لتشمل الكون كلّه ، جلسة مشرفة من علٍ ، تتحكّم بالريح وسواد الليل والغيم وماء البنفسج والقمر .. كرسيّه الزمان .. مسنده قوس قُزح السحاب ، ومتكأ ظهره العرائش ، ومسترخياً عند الكتابة .

وإذا كان الشاعر "العادي" يوصف بأنه ابن الطبيعة لأنه يمتح من روحها وصورها ويخلص لقوانين نمائها ، ويتمثل حكمتها وهذا هو الأهم ، فإن شاعرنا هنا هو "أبو الطبيعة" ، أو هو طبيعة كبرى كونية هائلة ؛ يتجسد هذا في "مكتب" إبداعه ومستلزمات كتابته : فيده الريح ، وطاولته سواد الليل ، يخطّ على هذا السواد الكوني قصائده بأقلام الصندل على جسد ورقة الغيم ، بحبر كحلي تقطّر من ماء البنفسج . أما شمعته التي يستهدي بها في عمله الذي يبدأ عادة في الليل فهو : القمر ، وأمّا زمانه ووقت فعله ، فهو وقت قدوم الربيع الباهر حيث صمت الولادة لا يقطعه سوى حفيف الحور .

إنها أجواء ومناخات أسطورة مهيبة ومقلقة نسبيا . وفي جلسته المسترخية هذه يدخل على الشاعر خادمه : السنونو ، يطلب منه الإذن بدخول رسول عليه هو : الملاك . رعيّة الشاعر سماوية لا أرضية ، وبدخول الخادم السنونو نبدأ حكاية عالم الشاعر بإشكالية خلق . وحين نقول "حكاية" فليس الوصف هنا معنويّاً حسب ، بل لأن السمة الحكائية السردية تهيمن على ديوان "المحبرة" بأكمله . فنحن أمام قصّة للخلق والخليقة والكون والحياة والإنسان كما سنرى .

يدخل الملاك بغموضه الباهر المشوّش ، وبخفّة لون مّربك خلطته أنامل وحساسية فنان لم يشهده تاريخ الأرض كـ :

(غامضاً كالزرقةِ الملأى مساءً)

وهنا تتضح عظمة "الكلمة" ، فلو جئت بأعظم رسّام في التاريخ ، وطلبت منه أن يجري بفرشاته وأنابيب ألوانه هذه الخلطة المعجزة : أزرق مملوء بالمساء ، يتضبّب بالزرقة فيلفّه غموض الكينونة - ولعل جوهر بداية عملية الخلق كلّها هو بهذه الصيغة الجنينية اللونية والتركيبية - أقول لو جئنا بهذا الرسام ، ومهما كانت درجة عبقريّته ، لأعلن عجزه فورا عن التعبير عن مثل هذا المشهد الخارق بتركيبيته ، مثلما لا يستطيع تصوير صرخة أم مثكولة جارحة ؛ قد يصوّر تعابير الصرخة على وجه الأم ،  لكن الصرخة نفسها ، لا يمكن تصويرها إلا بأداة من "جنسها" وهي هنا "الكلمة" . إن كلّ ما هو مادي يحدّد إمكانيات "التشخيص" ؛ تشخيص المجرّد ، ويضيّق من قدرات "التصوير" . ومن المفارقات الصعبة التي يتمأزق بها العقل البشري ، هي نزوعه المستحيل لتصوير ما هو مجرّد بما هو مادي !! ولعل هذا واحد من أهم اسرار موقفنا المسلّم بعظمة الصانع الأكبر حين يعلن عقلنا عجزه السافر عن تصويره ، كما أنه – من ناحية أخرى مكمّلة – من دوافع موقف المرجعيات الدينية المتصلّب والشاجب لعملية التصوير عموما ، والذي بدآ خطوته الأولى في التوراة ، فأن تقوم بـ "تصوير" الأشياء من دلالاته المستترة ، معناه أنك "تخلقها" أو "تعيد إنشاءها" في صورة أحسن ، وأن تحاول أو تستطيع تصوير الذات الإلهية ، فهذا يعني أنك مثلها ؛ كفؤها وندّها ، وهل لهذا اختار الله صفة (المصوّر) كواحد من أسمائه الحُسنى ؟ وهل هذا هو سبب كره الآلهة للشعراء الذين شُغْلهم الأساسي هو "التصوير" ، لا باللون المحدود الإمكانات ، ولكن بالكلمة الخارقة التي تحيي وتُميت ؟  :

(  تقدّمَ مرّةً منّي السّنونو

                           خادمي

  قالَ :

  الملاكُ .

  فقلتُ :

            فليدخلْ .

  فأقبلَ لابساً فوفَ الصباحِ ، أخفّ

  من نومِ الخُزامى ، غامضاً كالزُرقةِ المَلأى

  مساءً، حاملاً مخطوطةً من ستّ غيماتٍ، ومكتوباً

  بمنديلٍ ، وقال :

                           الكونُ حمّلنيهما سرّاً إليكْ – ص 12 و13) .

وقد يتساءل القاريء : من أين جاء الشاعر بمفردة "فوف" ، وكيف عنّ له ربطها بمفردة "الصباح" ، فأقول إن هذه من السمات الأسلوبية لجوزف حرب ، حيث تجد في كل شعره هذا العناء والدقّة الهائلة في البحث عن المفردة المناسبة وانتقائها من بين عشرات المفردات المرادفة لها في محيط اللغة . ولعلني لم أكن دقيقا حين اخترت مفردة "البحث" ، فهو – وأي شاعر "محترف" مقتدر صار الشعر مفتاح منظوره إلى الموضوعات ، وروح رؤيته إلى الكون والحياة ، أي صار "اختصاصه" - هو - وحسب التعبير الدقيق لبيكاسو - لا يبحث ، ولكنه "يجد" . إنه مخزون اللاشعور العارم والمكتظ بالمفردات المتحرّكة في صلتها بالأشياء لتنغمر بدلالاتٍ يعود أغلبها إلى عوامل انفعالية وعاطفية واستعارية لا صلة لها بالمعنى القاموسي ولا بالمعنى الإستعمالي والتداولي للمفردة . ولو سألتني هل كان جوزف يعلم أنَ  من معاتي الفُوفُ : الحبَّةُ البيضاءُ في باطن النَّواة تنبت منها النخلة ، والقِشْرُ الرقيقُ يكون على النَّوَى ، وثيابٌ رِقاقٌ مُوَشَّاةٌ مخطَّطة بخطوط بيض طوليّة ، وأنها تعني ، ايضاً ، قِطَعُ القُطْنِ ؟ فأجيبك بأنه لم يكن يعلم بكل تلك المعاني ، ولكنه "وجدها" فيها من خلال بنية الكلمة ، وجرسها الموسيقي ، وطبيعة حرف الفاء "الشفّاف" والمهموس الذي لو استعدت حركته ، متخيلا إياها وأنت مغمض العينين ، لأحسست أن حركته تشبه ملامسة ثياب النور لجسد الصباح ، وهذه الثياب هي فوف الصباح البيض التي ستناسب طبيعتها التركيبة الغامضة و "العطرية" لكيان الملاك الذي سلّم "الأمانة" للشاعر ، وانطلق تتبعه موجات من فوح الآس والغار .

والأمر تفسه يُقال حين تتأمل موقع الفعل "مرى" ، الذي وصف به الشاعر خفقة جناحي الملاك المودّعة في ختام هذا المقطع :

(..

       ولوّح للسنونو بالجناحينِ

اللذينِ مَرَى بياضَهما ،

وطارا – 13) .

فقد يرتبط أحد معانى هذا الفعل – إذا لم تكن تعرف دلالاته القاموسية – بالمرآة ، أي أن الشاعر نحت "فعلاً" ليدلّ به على الطبيعة الصقيلة الشاهقة لبياض الجناحين . لكني أحمل في ذهني واحدة من دلالات هذا الفعل :  مَرَى الرِّيحُ السَّحابَ : أنزلت منه المطر . وقد يرى بعض السادة القرّاء أن هذه المحاولة توغل في التعمية وغموض الدلالة . ولكني أراها تأويلا مناسبا لكن ذو حدود ، وهذه الحدود مطلوبة لكي نلجم فوضى "استجابة القاريء" حين تكون بلا ضوابط ، وهذا ما يوصلنا إليه المنهج التقويضي (التفكيكي) . فلابدّ أن يرتبط التأويل بالسياق العام ، وبالمعقولية الشعرية ضمن إطار الصورة الكلّية فمهما حاول البنيون أو التفكيكيون ونقاد منهج استجابة القارىء ، اللعب على أوتار التأويل ، ولعبة فصل الدال عن المدلول .. إلخ ، فإن ما يمكن لأي أحد - حتى لو كان من سكّان المريخ - أن يلاحظه هو تماثل المعنى الشديد ويقينيّته . فلو قرأ مليون قارىء الرواية الجاسوسية ذاتها (مثل العميل رقم 7 لإيان فليمنغ) لافترض كل واحد منهم أنها قصة عن الجواسيس . ولن يخطىء أحد منهم فيخلط بينها وبين كتاب في الكيمياء الكهربائية . أمّا لو كان المعنى نتاجاً للتأويل لتوقّعنا أن نجد بعض النقاد ممن يرون أن "الدكتور لا" كتيّب في الكيمياء الكهربائية ، وأن جيمس بوند اسم مادة كيمياوية . وما يمكن للمريخي أن يقوله هو أن للنصوص سمة مميزة تتمثل في أن لها معان متقنة ومحددة مرتبطة بها ، وأن هذا واحد من الأشياء التي تميزها عن الأشياء الثقافية الأخرى ، مثل أحجار البناء والناس ، التي ليس لها مثل هذه المعاني . ويبدو أن المعنى المتاح للعموم في نص من النصوص يحدده موضوعيا ترتيب محدّد للكلمات التي يشتمل عليها هذا النص ، واللغة التي كُتب بها ، والأعراف التي تقرر كيفية قراءته ، والإحالات السياقية (إلى أوضاع واقعية ، أو إلى نصوص أخرى) التي يمكن لهذا النص أن يطلقها في أزمنة محددة وفي سياقات قراءة محدّدة . (أحد الأمثلة على سياق من "سياقات القراءة" هو استشارة دليل الهاتف ، ومثال آخر هو فراءة المرء قصيدة من أجل المتعة) . وعليه يمكننا أن نصرف النظر ودون ضرر عن ذلك التناول الذي يرى أن كل قراءة هي تأويل وحسب ، وأن ما من قراءة موثوقة أكثر من غيرها ، كما لو أن من الممكن ومن المشروع أن نقرأ "مرتفعات وزرنج" بوصفها دراسة رصينة في الحبّ السحاقي في الصين في القرن الرابع عشر . فهذه النظرة إلى التأويل هي طريقة الشخص ذي العقل الكسول في التأكيد على أن ما من شيء مهم لكي يتم تفسيره (4) . ووفق هذا المفهوم ، وفي هذا النصّ الشعري ، وتحديداً في هذه الصورة منه ، وحسب البنية النحوية للجملة ، يكون الملاك فاعلاً يستمطر بياض جناحيه الآسر بخفقاته العالية ، مثلما يتسق مع رداء الجسد الملائكي : فوف الصباح  الأبيض ، بل مع الحرّكة الكلّية الخفيفة التي عبّرت عنها المفردات التي حكمها حرفا الفاء والخاء ، ومع حركة التسليم والحمل والتوديع الرقيقة التي تكفّل بها حرف الحاء ، وليس أيّ تأويل آخر :

(...

أخفّ مِنْ نومِ الخزامىْ .. وقالَ :

                  الكونُ حمّلنيهما سرّاً إليك .

                                           وخفّ نحويْ

طافراً بهما ، حملتهما علىْ قوسِ اليدينِ ، فهفّ نحوَ

البابِ وهو مفوّحٌ

                      آساً ،

                      وغارا ،

ولوّح للسنونو بالجناحينِ ... إلخ) .

ولأن الشاعر كان قد رسم أمامنا مستلزمات عمله في مكتبه الشعري الخلاقي ، ومنها أن أوراقه هي الغيم حيث البياض والخفّة والحركية الإنتقالية المسترسلة ، وطابع الرسالة الإستعاري ؛ فالغيم رسالة ، وقد جاء الملاك حاملاً رسالة الكون السرّية ، مخطوطة من ستّ غيمات.. ومكتوبا بمنديل ، ولا تناشز في المكتوب ، فالمنديل "غيمة" وداع المحبّين ، وسحابة دموعهم الصغيرة الدافئة . وقد "حمل" الشاعر، حانياً، المكتوب والمخطوطة اللذين "حمّلهما" الكون للملاك ، بـ "قوس اليدين" المرهف . كلّها "حركات" متسلسلة هادئة وشفيفة .. والأهم "متّصلة" ، هذا الإتصال والديمومة التي عبّر عنها "رمزٌ" وُشّح الكونُ به المنديلَ المكتوب ، هو "جناح عصفور" محاط بفواصل وليس بنقاط . يؤوّل الشاعر هذه "الشفرة" الرمزية التي صاغها الكون بأن الفواصل تشير إلى وحدة هذا الكون الدينامية .. إلى أن كلّ شيء في تواصل وترابط .. لا توجد حدود عازلة ، ودوائر وجود حديدية . الكل يتفاعل بالكل وينفعل به . وهذه "المقدّمة" الإشارية هي روح الرؤية الشعرية التي تنطلق من وحدة مكونات الكون والحياة وتداخلها وصولاً إلى تراسلها الثر . ولا يمكن أن يكون هنك شاعر إن لم يتسلح بهذه النظرية "الإحيائية" والترابطية الملتحمة . فكل ما في الكون حيّ وذو روح تتيح له ديمومة الحركة الحيوية والترابط العضوي الفاعل مع المكوّنات الأخرى بالتحام تبادلي مستمر . 

clip_image002_205f2.jpg

رواية الكاتبة نزهة أبوغوش، "طير بأربعة أجنحة" لليافعين، صدرت عن مكتبة كل شيء الحيفاوية عام 2017.

 تعمَّدت الكاتبة بكتابة خاصّة لليافعين، نظرا لقلَّة القصص والروايات التي تحاكي مشاعرهم وأفكارهم، باللغة العربيَّة، وهذه الفئة تُعتبر مهمَّشة في المجتمع، خاصَّة في الكتابات الأدبيّة التي تتطرّق لقضاياهم المُعاصرة.

نجحت كاتبتنا في التعبير عن مشاعر الفتيان والفتيات اليافعين، ونقل أفكارهم، بأسلوب راقٍ، فيه مفارقات أدبيَّة، بأسلوب هزلي ساخر أحيانا، ولغة سهلة سلسة جدّا.

اختارت الكاتبة نزهة أسماء الابطال، نسبة لأحفادها وحفيداتها، كما كان الإهداء لهم جميعا، وليس غريبا بأنَّ الكاتبة استوحت أحداث روايتها من مواكبتها لمراحل تطوُّر أحفادها اليافعين، حيث واكبت التطوُّرات التكنولوجيَّة المستخدَمة، والمعاصِرة مثل: التواصل الاجتماعي عبر استخدام الأنترنت والفيس بوك، والواتس أب. وما إلى ذلك.

من الممكن اعتبار الرواية، مرشدا لأهالي الأبناء والبنات اليافعين، والمعلّمين، في كيفيّة تعاملهم بطريقة حسّاسة، غير جارحة ولا محرجة؛ لأنَّ الأبناء والبنات في هذه السن، يعانون من حساسيّة مفرطة في مشاعرهم، ويتوجّب على الجميع معاملتهم بالحسنى، وتفهُّم أفكارهم ومشاعرهم، كما تتوجّه النظريّات التربويّة والنفسيّة؛ لا شك بأن الكاتبة تطرّقت لوصف معظم المظاهر النفسيّة والجسديّة للفتيات والفتيان اليافعين.

اختيار العنوان كان موفَّقا وجذّابا، "طير بأربعة أجنحة"، ممّا يوحي بالسعادة وبالتفاؤل، وإطلاق طاقة مكمونة بحاجة فقط للانطلاق، كما رمزت له الكاتبة صفحة 107، عندما ذكرت "كم أنا سعيد! لقد أصبحت طيرا بأربعة أجنحة أرفرف عاليا. أشعر أنَّني بطل رجع منتصرا من معركة حاسمة". 

احتوت رواية "طير بأربعة أجنحة" على مضامين تربويّة متعدّدة:

نبذ العنف والتوجّه نحو المعاملة الحسنة، والتسامح، والتعامل بالصدق، وقول الحقيقة والمواجهة، كذلك إكساب روح الانتماء للوطن، وحب الأماكن المحيطة، وخاصّة الأماكن الأثريّة في القدس، ويافا، والتنويه الى تجنّب أصدقاء السَّوء، وحسن اختيار الأصدقاء، وتصوير ما يجري في المجتمع من تقليد أعمى للغرب في السلوك واللباس، واستخدام اللغة الاجنبيّة أكثر من اللغة الأمّ، وكذلك تشجيع التعبير عن الغضب، بالحديث عنه، وبالبكاء، والكتابة، بالإضافة إلى تشجيع تنمية مواهب الأبناء أو الطُّلاب في هذه المرحلة العمريّة، والأخذ بيدهم نحو الإبداع والتميّز، وعدم إهدار الوقت، نشر روح التعاون بين الأبناء، أو الطلاب.

تهتم الرواية نحو توجيه الأهالي وتوعيتهم  بطرق التربية السليمة، وخلق أجواء تربويّة، واجتماعيّة سليمة، والانتباه لهم بهذه المرحلة العمريّة الحرجة، بتفهمهم والاستماع لهم واحتوائهم دائما، ومعرفة احتياجاتهم النفسيّة، وعدم إلقاء اللوم دائما عليهم، والمقارنة فيما بينهم، أمام الآخرين.

                     " رائعة الثبات "

1 - لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا=قبائلهم، واستجمعوا كل مجمع

2 - وكلهم مبدي العداوة جاهد=علي لأني في وثاقي بمضيع

3 - وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم=وقربت من جذع طويل ممنع  

4 - إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي=وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

5 - فذا العرش صبرني على ما يراد بي=فقد قبضوا لحمي وقد ياس مطمعي 

6 - وذلك في ذات الإله وإن يشأ=يبارك على أوصال شلو ممزع

7 - وقد خيروني الكفر والموت دونه=وقد هملت عيناي من غير مجزع

8 - وما بي حذار الموت إني لميت=ولكن حذاري حجم نار ملفع

9 - ولست أبالي حين أُقْتلُ مسلماً=على أي جنب كان في الله مصرعي

10 - ولست بمبد للعدو تخشعا=ولا جزعا، إنا إلى الله مرجعي(32)

1 - المقدمة (قصة هذه القصيدة):

يقول علماء السيرة إن رهطاً من قبيلتي عضل والقارة، قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعد غزوة أحد، فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث الرسول ستة نفر من الصحابة، وأَمّرَ عليهم مرثد الغنوي، حتى إذا كانوا على ماء الرجيع، بناحية الحجاز وهو ماء لقبيلة هذيل، استصرخوا عليهم هذيلاً فأحاطت بهم، فدافعوا عن أنفسهم، حتى استشهد منهم أربعة، وأسر اثنان، هما: خبيب بن عدي صاحب هذه الأبيات، وزيد بن الدثنة - رضي الله عنهما - فأخذتهما هذيل وباعتهم لقريش، بأسيرين من هذيل كانا بمكة.

وكان حجير التميمي قد اشترى خبيب رضي الله عنه، ليقتله بالحارث بن عامر، الذي قتله خبيب في غزوة بدر.

وهكذا أُخرج خبيب إلى التنعيم، واجتمع جمع غفير من الرجال والنساء والأطفال، ليشهدوا مصرع وصلب خبيب رضي الله عنه، وفي هذه اللحظات طلب منهم خبيب أن يصلي ركعتين، فسمحوا له، فصلى ركعتين فأحسنهما وأتمهما، وقال لهم: أما والله، لولا أن تظنوا أني أطلت جزعاً من الموت، لأستكثرت من الصلاة، فكان خبيب أول من سن هذه الركعتين عند القتل للمسلمين، وقد أصبحت هذه الصلاة سنة، بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لها وعندها دفعوه إلى خشبة الصلب على جذع نخلة وأوثقوه، فقال : اللهم إنا قد بلغنا رسالة إلى رسولك فبلغ الغداة ما يفعل بنا، ثم قال: اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحدا، حتى أن دعوة خبيب أدخلت الرعب إلى قلوبهم، قال معاوية رضي الله عنه: (حضرت مقتل خبيب مع أبي سفيان، ولقد رأيته يلقيني على الأرض فرقاً من دعوة خبيب، وكان الاعتقاد عندهم: أن الرجل إذا دُعي عليه فاضجع لجنبه زالت عنه)(33).

2- تحليل القصيدة:

وبعدها أنشد خبيب هذه القصيدة اليتيمة، قصيدة الثبات، في لحظة من لحظات الشدة، التي تتقلب فيها القلوب والأبصار، ولكن الله يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت، لأنه رحيم بهم، وقد اطلع على قلوبهم فرآها وقد عمرها التوحيد، وسكنتها الثقة بوعده، وملأها الشوق إلى جنته، إنها لحظات الرحمة التي يفيض بها الله سبحانه وتعالى على عباده بالتوفيق، ويحميهم من الخذلان، لم يختلف أهل الكفر في يوم من الأيام على عداوتهم للإسلام وللمسلمين، ولم يكن غريباً أنْ تلتقي مصلحة قريش وهذيل وعضل على مقتل خبيب الشهيد. " لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا " وكل واحد منهم يبدي العداوة والشماتة والحقد على الإسلام، الممثل في شخصية خبيب، وفي لحظة من لحظات الشعور بالكثرة والمنعة، إنّه انتفاخ أهل الباطل، على فرد أعزل من أهل الحق، لاستعراض عضلات قوتهم الجوفاء، ولم يكن خبيب ممن يعز بقلة أو كثرة، بل كان صاحب عقيدة واضحة المعالم راسخة الفهم، لأنه كان يرى أهل الباطل من خلال منظاره العقيدي الصلب، كانوا صغاراً في عينه كالدنيا، ولا أدل على ذلك من تجمعهم في حشد هائل على رجل مشدود الوثاق، إنها مهزلة أهل الباطل الذين جحدوا بآيات الله المثبوتة أمام أعينهم في الكون المنظور، وأنكروا آيات الله في الكتاب المسطور، وأنكروا حق الله في العبادة والطاعة، وتطاولوا على عباد الله يمنعونهم الولاء لله والرسول، وحتى إذا اشتد الأمر واقترب التنفيذ، يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء، أن يثبته على الحق، وأن يكرمه بالشهادة ويُلهمه الصبر، على ألَم تلك اللحظات (إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي) وبنداء المحتسب الذي تفوح منه رائحة الصدق يوم تختبر العقائد في قلوب أصحابها (فذا العرش صبرني..) إنه وقت الشدة، الذي تؤدى فيه الامتحانات الصعبة وتطلب الجنة ثمنها الباهظ من شرايين الشهداء (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) العنكبوت: 2. ويحاول أهل الكفر المساومة وطلب التنازل، ولكن العروضات الرخيصة لا تغريه (وقد خيروني الكفر والموت دونه)، إنها بطولة مدهشة، تظهر فيها رباطة الجأش، وتتفاعل فيها المشاعر والمقاصد مع العقيدة أيما تفاعل، لقد استقر هذا الدين في قلب خبيب وفي قلوب ذلك الجيل من الصحابة؛ فقوموا الدنيا من خلال منهاجه، فبدت هزيلة صغيرة، ولهذا أثمر هذا الدين في حياة الصحابة، لأنهم أخذوه بقوة المعتقد الذي لا يخامره الشك، وصدق الواثق المطمئن إلى صحته، وهذا هو الفارق بين جيل احب الدنيا وأصابه الوهن في أيامنا، وبين الجيل الذي رأى الدنيا من خلال القرآن فتطابقت مشاعره وأفعاله مع تصور القرآن للحياة، فجاء شعره وتعبيره امتدادا للأفعال، وليس ترفا يهيم في كل واد من وديان الخيال والأقوال (وما بي حذار الموت إني لميت) لم تدمع عيناه الدموع خوفاً من الموت، ولا فراراً من الشهادة، لقد هملت عيناه الدموع خوفاً من نار جهنم، وليس طمعاً في نجاة يخون بها الله ورسوله، بالكفر الذي عرضوه عليه مقابل ذلك (ولكن حذار حجم نار ملفع).

 والصبر هنا مرتبط بالغاية السامية التي يتجه بها المؤمن في جميع أفعاله، وهي التقرب والطاعة والعبادة إلى الله سبحانه وتعالى (وذلك في ذات الإله وإن يشأ  يبارك على أوصال شلو ممزع)، نعم المؤمن ينسى متاعبه وتهون جميع الآلام والمصاعب، عندما يتذكر وعد الله، ولا يضيره، أن يتمزق هذا الجسد ما دام أنه يبارك ويكرم من الله، و همه الأول والأخير أن يخرج من الدنيا وقد عفاه الله من الكفر وحماه من الوقوع في الشر، أما كيف يموت؟! وعلى أي حال، وبأي وسيلة، فهذا الأمر لا يعنيه ولا يهتم به، ولا يكترث له ما دام أنه عائد إلى الله سبحانه وتعالى، هذا هو الصحابي الجليل والشاعر الإسلامي، والصابر المحتسب، والنموذج الفذ، الذي يعلم الأجيال كيف يموت المسلم كالأشجار الواقفة دون أن ينحني إلا في السجود للواحد الأحد، الذي له الأمر من قبل ومن بعد. (ولست أبالي حين اقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي).

3- قيمة هذه القصيدة:

1- تعتبر هذه القصيدة من النماذج المتميزة للشعر الإسلامي، من حيث أنها انفردت بنقل تجربة غير متكررة، وطرحت موقفاً بطولياً يعكس صدق الترابط بين الفعل والتعبير عنه، مما جعلها تعلق بقلوب المسلمين على مر العصور.

2- ومما يعطي هذه القصيدة قيمة خاصة، إنها نموذج على شعر التضحية والثبات، الذي تحتاجه امتنا في تربية أجيالها، عندما يضعف عنصر التضحية وينتشر الوهن والضعف في صفوفها.

3- وتعتبر هذه القصيدة شاهد صدق على شعراء هذه الدعوة، الذين نقلوا الشعر من التكسب والارتزاق والبيع الرخيص، إلى شعر الصدق والمعاناة والتعبير عن الموقف في فترة مبكرة، وقبل أن تطرح الأمم الحديثة في قرننا الشعر والأدب الملتزم الذي يحمل هموم الإنسان.

4- البناء الفني والمذهبية الأدبية:

يستطيع الناقد المنصف أن يلمح في هذه القصيدة ملامح البناء الفني للقصيدة الإسلامية الشمولية والشخصية الأدبية المستقلة من خلال ما يلي:

1- مضامين القصيدة تطرح الإسلام فكراً وسلوكاً وتعبيراً، ولهذا نجد ان القصيدة خرجت من ثوب الصدق والمعاناة، ولم تخرج من ثوب الترف الفني والحشد العابث له، والعقيدة الإسلامية هي الملهمة للشاعر في كل حركة من حركات مشاعره.

2- يمتاز الأداء هنا بسهولة الطرح وبساطة التعبير، والابتعاد عن الغموض، والاهتمام بفنية نقل الفكر والمشاعر وليس فنية التهويم و الترف؛ لأن المقبل على الشهادة يهمه نقل الموقف، ولا تُهِمُّهُ حذلقة الفنيات، وقد نجح الشاعر في نقل ما يريد، والدليل على ذلك الخلود الأدبي الذي فرضته هذه القصيدة لنفسها عبر العصور.

معنى القصة:بين سرد المحكي وسرد المصمت

clip_image001_5748b.jpg

clip_image003_465aa.jpg

clip_image005_61177.jpg

يتشكّل المعنى الرمزي والسيميائي للقصة القصيرة من طبيعة وحساسية ورؤية وفضاء وأنموذج السرد الذي تتكشّف عبره دلالية القصة عموماً، وإذا كان (سرد المحكي) هو الأسلوب الكتابي المهيمن على فضاء الكتابة القصصية عادة، فإن (سرد المصمت) يأخذ جانباً تشكيلياً وتعبيرياً خاصاً ومختلفاً في صوغ المعنى السردي للقصة، وقد يؤدي إلى مناخ سردي مغاير تكون فيه اللغة العلامية/الإشارية هي المعبّر الأوفى عن إشكالية القصّ بطبقاته وجيوبه وظلاله، على النحو الذي يتمظهر فيه المعنى القصصي أخيراً بين الحدود الفاصلة (الغامضة) التي تتحرّك بين علو صوت سرد المحكي وخفوت صوت سرد المصمت .

     المجموعة القصصية الموسومة بـ ((الهروب إلى آخر الدنيا))(*) لسناء شعلان تشتغل في فضائها العنواني العام المستعار من إحدى قصصها على عتبة عنوانية مفتوحة، تأخذ من معنى ((الهروب)) سبباً لترك المكان الأصلي وهجره، ومن ثم قطع مسافة الدنيا للوصول إلى آخرها، وكأن هذا الآخر هو الملاذ الذي يخلّص الهارب من أزمته، ويجيب على أسئلة محنته الملتبسة والمعقّدة واللائبة والمقلقة .

    فثمة توافق دلالي ـ سيميائي بين ((الهروب/آخر الدنيا)) تجلّى في أن الهرب ما هو إلا مغادرة مكانٍ معادٍ، كما تجلّى في أن آخر الدنيا هو المكان الوحيد الأقصى والأكثر بعداً وغموضاً والتباساً، الذي بوسع الهارب اللجوء المتاح إليه، والتلذّذ فيه بخلاصه الشخصي أو وهم هذا الخلاص .

    وثمة عتبة تقديمية أو إشارية أو تعريفية تقول: ((ماذا يمكن أن يجد الهارب من نفسه إلى آخر الدنيا سوى نفسه المعذّبة التائقة للانعتاق؟؟!))، تقارب عتبة العنوان وتحيل قضية الهرب على فضاء صوفي إنساني عميق المعنى .

    إذ إن السؤال الذي تحمله هذه العتبة التقديمية ((ماذا يمكن ....؟)) يحفّز في منطقة القراءة شهوة التأويل، وهي تدلف إلى فضاء الاستفهام لترى وترصد وتدرك وتفهم حركية السؤال في هذا المجال المتخيّل ((أن يجد الهارب من نفسه إلى آخر الدنيا))، المنطلق نحو فكرة البحث عن الذات والوجود والمعنى .

    وما يلبث أن يأتيه الجواب الاستثنائي الصوفي ((سوى نفسه المعذّبة التائقة للانعتاق؟؟!))، على النحو الذي تتبدّى فيه ((النفس)) وقد تحلّت بالعذاب والتوق للانعتاق، بحثاً عن شرط الحرية الذي يمثل الأزمة الحقيقية للإنسان في أيّ زمان ومكان، ولا يجد له حلاّ حتى وإن قصد ((آخر الدنيا))، لأن الحرية ليست في المكان ولا في الزمان بل هي في الإرادة الحرّة التي تعيش في ضمير الإنسان ووجدانه وضميره ورؤيته ورؤياه، بحيث لا يمكن أن يكمن الحلّ في الهرب بل في المواجهة والتمرّد والثورة . 

     إن هذا الهمّ الغربوي يكاد يهيمن على مجمل قصص المجموعة وسننتخب لقراءتنا هذه قصة ((أنامل ذهبية))، إذ تتجسّد فيها وعلى نحو أصيل طبيعة حداثة الصنعة النصيّة، على وفق الرؤية النقدية التي يشتغل عليها العقل البحثي في الكتاب .

   عتبة العنوان المنكّرة ((أنامل ذهبية)) تحيل فوراً على دلالة أنثوية عامة لا تخفي في طبقة ممكنة من طبقاتها هاجساً إيروتيكياً، فالأنامل الأنثوية محطّ نظر واهتمام ذكوري دائم، وهي علامة سيميائية تشتغل في هذا الفضاء بوصفها عنواناً للجسد وممرّاً خارجياً إليه، وحين تسند ((أنامل)) إلى الصفة النوعية اللونية ((ذهبية)) فإن فعالية هذه العلامة داخل هذا الجوّ والمناخ والرؤية تتضاعف في إثارتها وتشتدّ وتتعمّق وتتأصل .

   بنية الاستهلال القصصي تتكشّف فوراً عن قوّة وضوح سردي عالية تضع حدود القصة في المتناول، وتشتغل على نحو حكائي تلخيصي وكأنها قصة قصيرة جداً تسعى إلى قول كلّ شيء في هذا الحيّز الكتابي المكثّف :

     جمعهما شيء واحد، وهو الغربة، ثمّ ولد بينهما شعور حميم اسمه الألفة، كلاهما كان غريباً في أرض غريبة، هو جاء من قلب صحراء الفقر، ليبحث عن عمل يكسبه الزرق بكرامة، لم يملك شهادة أو خبرة مميزة، ولكنّه كان يملك قلباً من حديد، وإرادة صقلها الحرمان، هي جاءت من أقصى أرض الجليد والحرمان لتبحث عن عمل ينقذها من الفقر والفاقة، كانت مهاراتها محصورة، ومواهبها محدودة مثل جمالها الفاتح اللوّن، المطعّم بنمش زهريّ صغير.

   تؤسس بنية الاستهلال هنا الأرضية السردية المركزية التي ستتحرك منها وعبرها حيوات القصّة، وتعمل على صوغ أنموذج الرجل وأنموذج المرأة على وفق الرؤية التي ستشتغل عليها حبكة القصة، عبر مجموعة من الملامح المحدودة (الداخلية والخارجية) التي يمكن أن ترسم علامة فعّالة لكلّ منهما .

    تنتقل القصة بلسان الراوي كلي العلم بعد أن فرغت من تشييد بنية استهلالها إلى بثّ أول لحظة تنوير سردية في متن القصة، تشرع فيها الحكاية بترتيب منزلها السردي من خلال تحقيق بنية التواصل الابتدائي بين الشخصيتين، والانفتاح بعد ذلك على الفضاء السردي العام في القصة:

 التقيا في مؤسسة صناعية كبيرة في إحدى الأقاليم النائية، حيث لا أحباب ولا ألفة أو حتى كلمات يفقهها، أو لغة يتواصلان بها معاً .

  إذ يتمظهر المكان والزمن والحال السردية عبر تأسيس بنية غياب مكانية ((الأقاليم النائية))، وبنية انقطاع مضاعفة ومكرّسة وكثيفة وشاملة ((لا أحباب/لا ألفة/لا كلمات/ لا لغة/ لا تواصل))، تسهم في الارتفاع بمستوى التوتّر إلى أقصاه، والتحريض على تبنّي أكثر من أفق توقّع قرائي في هذا السبيل .

    تتسلّط الكاميرا السردية للراوي على بؤرة الحدث ومحرقه لتصوّر حال الرجل وهو يلوذ بالآلة التي لا تحتاج محاورتها لغة لا يعرفها، بعد أن يئس من العثور على من يحدثه بلغة لا يعرف غيرها ولا يعرفها أحد، داخل غربة كثيفة وعميقة وموحشة تمتحن صبره وتضعه على المحك :

     في البداية كان يقضي ساعة الغداء وحيداً في ركن بعيد من مطعم المصنع، يحادث نفسه بلغته التي لا يعرف غيرها ليحادث بها أيّ إنسان هناك، ثم يهرع إلى الآلة التي يعمل عليها طويلاً دون حاجة إلى كلام بلغة لا يعرفها، ثمّ ظهرت هي، كانت بمثابة انكساره ووحدته، بينها وبين الآخرين لغة تجهلها هي الأخرى، وبينه وبينها لغتها التي يجهلها .

    رحّبت به بابتسامة عريضة ومتلهّفة عندما جلس إلى طاولتها، وبدأ الحديث وطال، واستطال، وتشعّب، لم يكن حديث الكلمات التي لا يفكّان طلاسمها حاشا قليل منها، ولكنّهما تفاهما بأناملهما الذهبيّة، خلقا لغة إشارات بأناملهما المتلهفة على الألفة .

   غير أنّ ظهور المرأة في هذا الفضاء البالغ القسوة أحدث لحظة تنوير سردي لافتة في قلب الحدث، أسهمت في تحويل الغربة المظلمة إلى ألفة مشرقة عن طريق الحضور الأنثوي أولاً، والتفاهم ثانياً، إذ كان هو بحاجة ماسّة إليهما معاً من أجل تجاوز محنته وتشكيل قدرة ذاتية على دفع حياته نحو الاستمرارية .

   شخصيتا القصة الرئيستان (الرجل والمرأة) وهما يتقاسمان الحضور والتمظهر والهيمنة على موقع الحدث السردي بفعالياته النسقية، يعملان على خلق لغة مشتركة (معوِّضة) أداتها الأصابع الذهبية التي تشتغل بكفاءة عالية في هذا المدى القصصي، وتنتج معرفة متبادلة عالية التأثير والقوّة والتماسك نحو مزيد من التواصل الإنساني والوجداني بينهما :

   عرف الكثير عنها من حركة أناملها الذهبية البيضاء كالشمع، الممشوقة كسبائك الذهب، وعرفت الكثير عنه من حركات أنامله التمريّة اللون، التي لا تخفي حياة صعبة وشاقّة عرفها طويلاً .

   أناملها الذهبية وحركتها السحريّة خلقت آلاف المواضيع، وقصّت آلاف الحكايا، الشيء الوحيد الذي عرفاه بالكلمات كان اسميهما، كلّ قاله بلغته وبلكنته وبصوته .

   الأداة الفاعلة لإنجاز التواصل الحيّ بين القطبين (الأصابع الذهبية) وهي تحيل على عتبة العنوان وتستمدّ منها قوّة الحضور والفعل والتأثير، خلقت حالة من التفاهم والتوافق والألفة والتماثل والمعرفة والتقارب بينهما، وأصبحت لغة (مخترعَة) قابلة للمشاركة والإنتاج والفعل داخل سردية مصمتة حاشدة بالقيمة والمعنى والدلالة والرمز وانفتاح الأفق السردي .

    تنفتح القصة بعد ذلك على فضائها الحكائي المنتظر في دائرة أفق التوقّع، لتحكي مساقات تطوّر الحدث ونقله من حدود الصورة المقننة إلى حدود الفعل والتأثير والإنجاز، على النحو الذي يتحوّل فيه اللقاء المصمت لغوياً إلى لقاء عالٍ في حضوره الصوتي حسيّاً وفعلياً ومظهرياً، إذ يقوم بتكثيف الحال الحكائية وتلخيصها واختزالها في رقعة كتابية مركّزة ومتجوهرة، تخضع لإضاءة شديدة وعالية التركيز من طرف الراوي :

      التقيا كثيراً، زارا معاً الأماكن الرتيبة في المقاطعة النائية تحدّثا عن حياتهما وآمالهما، ناقشا معاً الأفلام التي حضراها، زارا المحميات الطبيعية الخلاّبة في المقاطعة، خيّما معاً، وسبحا معاً، حدّثته عن أرض الثلج وطنها، فحدّثها عن أرض الشمس وطنه، أرته صور أفراد عائلتها، فأراها صور أفراد عائلته، بنيا أملاً مشتركاً في هذه الأرض الجديدة، وتزوّجا .

      وبنيا مستقبلهما، وأنجبا طفلين رائعين، وتحسّنت الأوضاع، وتقدّم السن بهما، وبقيت أناملهما الذهبية متخاصرة متعانقة وعاشقة، ووقع الخلاف، كانت الكلمات أقسى مما قد يحتملان، أتقنا لغة مشتركة جديدة، ليست لغته الأم، وليست لغتها الأم، بل لغة المكان الذي استوطنا فيه، جرد أنوثتها وصمودها الطويل، وجرحت حبّه ومشقته الطويلة، وكاد ينهار المكان، هدّدت بالعودة إلى وطنها، وهدّد باختطاف الطفلين، والعودة إلى وطنه .

   حيث تبدأ الحكاية وتتطور وتبلغ ذروتها وتحيط بممكناتها السردية كافة، وتنتقل من منطقة البداية والوسط والذروة فجأة إلى منطقة النهاية الحكائية، التي تعلن انتهاء حفل الحدث ووصول الأشياء إلى نهاياتها والعودة إلى الغربة المفردة لكلّ منهما من جديد، بعد أن تفقد الأنامل الذهبية سطوتها وقدرتها على الجمع، لتصبح معطّلة وصامتة وغائبة وعديمة الجدوى.

     تتحرّك (النظرات) لتكون بديلاً تشكيلياً وتعبيرياً وسيميائياً عن الأنامل الذهبية المعطّلة في السبيل نحو إيجاد لغة أخرى، يكون بوسعها احتواء النهاية المأساوية والعودة بالحكاية إلى فضائها المشترك، وإلغاء حركة الخارج المفارِقة والهادمة لصالح حركة الداخل الضامّة والمنتجة :

     وكان القضاء بينهما، كان غاضباً منها، وهي كذلك، لكنّ شبح الفراق أشدّ ما كان يؤلمه، منعه محاميه من أن يكلّمها، ومنعها محاميها من أن تكلّمه، لكنّ نظراتهما لم تطع أيّ أوامر، وتعانقت في لحظة صمت .

    فسلسلة الوحدات السردية السالبة الحاشدة والمتعاقبة العاملة في بداية المشهد القصصي بكينونة سردية بؤرية ((القضاء بينهما/شبح الفراق/يؤلمه/منعه/منعها))، تصطدم مباشرة بقوى سردية مناهضة ومتجاوزة وملغية ((نظراتهما لم تطع أي أوامر/تعانقت/في لحظة/ صمت))، على النحو الذي يكون فيه الصمت المكتظّ بالحكي هو عنوان المشهد وأداته الحركية السردية، التي تقوم بتحويل الحراك القصصي إلى أفق جديد .

    هنا تتمكّن الأنامل الذهبية مرة أخرى من استعادة ضوئها ومقدرتها وحيويتها وجوّها، لتعيد إنتاج الحكاية إنتاجاً جديداً استناداً إلى قوانينها وأعرافها وقواها الكامنة، وتقود حركة السرد نحو عتبة إقفال (مفارِقة) تتجاوز نسق الحكاية الإجرائي ضمن حركة المكان المحدد ((القضاء))، لتنفتح على لغة الأنامل مرة أخرى وقد تعالت لتصل إلى ((أبلغ لغة)) :

كانت شاحبة كالثلج، كان مشتعلاً غضباً كالشمس، اقترب منها، وجلس إليها، عجز عن أن يصنع أيّ كلمة، فامتدّت أنامله في الفضاء، تحدّثت بأبلغ لغة، وتكلّمت أناملها، ومن جديد صنعت الأنامل بلغة الإشارة أجمل صلح، وخرجا من المحكمة بأنامل متعانقة، وأجساد متلاصقة، ولم يسمعا كلمة القضاء ...

إذ تُعاد الدورة السردية للحكاية إلى عتبة العنوان التي تظلّ فيها الأنامل الذهبية سيّدة للموقف القصصي، ولعلّ الوحدة السردية الاختتامية ((خرجا من المحكمة ....)) تشير إلى مغادرة المكان الضيّق والانطلاق نحو المكان الواسع، حيث تستطيع اللغة أن تتحرّر والصوت أن ينطلق خارج سلطة الحضور .

(*) الهروب إلى آخر الدنيا، سناء شعلان، نادي الجسرة الثقافي والاجتماعي، الدوحة، 2006 : 53 ـ 55 .

clip_image002.jpg

صدر عن أكاديمية الإبداع المنبثقة من مؤسسة إحياء التراث وتنمية الإبداع، الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الفلسطيني الكبير محمود مفلح. وذلك في مجلدين كبيرين.

وقدم الشاعر الفلسطيني أعماله بكلمات تعبر عن روح فنية عالية وواقعية تعايش واقع قضيته التي آمن بها وعبر عنها. قال محمود مفلح بهذه المناسبة: "هذه أعمالي الشعرية... الحصاد الفني على مدى أربعين عاماً أو تزيد قد يجد القارئ فيها ما يروقه وما يطربه وقد لا يجد"، وصور أعماله بالنهر الكبير الذي يجرف في طريقه القش والحصى والتراب، وهو يعمق مجراه ويركض إلى مصبه.

وعبّر مفلح في هذه المناسبة التي طال انتظاره لها عن شكره العميق إلى الأستاذ الدكتور كمال أحمد غنيم رئيس (مؤسسة إحياء التراث وتنمية الإبداع)، الذي كان له الفضل في أن ترى هذه الأعمال النور بعد سجن طويل، وشكر الدكتور خضر أبو جحجوح، الذي شدّ من أزره وشجعه،

وأكد مفلح أن حجم الفرح في هذه القصائد قليل، وأن مساحة الأسى والحزن والعذاب فيه أوسع. فالشاعر صوت أمته، ومن غير المعقول أن تطلب من شاعر فلسطيني رضع من ثدي النكبة وعانى شوك الطريق وشقاء الخيام، ومصادرة الهوية، وهوان الحدود أن تطلب منه أن يرقص في الزفة وأن يكون قارعاً للطبل في الأعراس.

وبيّن مفلح أنه بقي يتنفس هواء القضية قدر ما يستطيع، موجهاً بوصلته الأدبية، شعراً وقصة،  إليها، دون تكلف. وأنه قرأ الكثير من كتب النقد قديمة وحديثة، ومن الإبداعات الشعرية القديمة والمعاصرة ليحقق المعادلة الصعبة والهاجس الكبير: صوت الواقع وصوت الفن، عمق التفكير وجمال التصوير.

وأكد بين يدي صدور هذه الأعمال الشعرية الكاملة نخبة من الأدباء والنقاد عن رأيهم في شعر محمود مفلح. قال د. حسن الأمراني الشاعر المغربي المعروف: "قطع محمود مفلح في درب الشعر عمراً طويلاً تمرس خلاله بالكلمة الشعرية المتوهجة التي لا تنتزع  منك الإعجاب فحسب". وقال الأديب والمؤرخ العراقي المشهور د. عماد الدين خليل: "مهما يكن من أمر فإن محمود مفلح يمنح قارئه القناعة بقدراته الشعرية بمضامينها وتقنياتها على السواء، حيث يعرف كيف يُطوّع الأداء للتعبير عما يريد أن يخاطب به الآخر".

وقال أ.د. كمال أحمد غنيم من فلسطين: "تمثل محمود مفلح بصدق فني واقع الأمة المكفهر، وفجرها المشرق في الزمن الجديد، واستطاع أن يمزج ذلك بفنية عالية، منحت النص قدرة على التماهي بشكل كبير مع الواقع، ومنحت المتلقي قدرة أوسع على التفاعل والمشاركة". وقال د.خليل أبو ذياب من لبنان: "لعلنا لا نجانف الحقيقة إذا ما زعمنا أن الشاعر محمود مفلح من أبرز الشعراء المعاصرين الذين ينتمون إلى المنهج الحق، بل لعلنا لا نبعد إذا ما زعمنا تميزه عن كثير من الشعراء بما حقق لشعره من إبداع وجمال على المستويين، الفكري  والفني". وقال د. محمد عادل الهاشمي من سوريا: "لقد واكب نظرة محمود مفلح إلى الفن الشعري موهبة أدبية وشاعرية خصبة تتدفق بصدقها  وعذوبتها ورنينها العفوي في النفس، فتنساب قوافيه رخية عذب كالماء السلسبيل".

المزيد من المقالات...