clip_image002_4845b.jpg

أقام نادي حيفا الثقافي برعاية االمجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا أمسية أدبية، وذلك بتاريخ 26-1-2017 في قاعة كنيسة القديس يوحنا المعمدان الارثوذكسية في حيفا لإشهار ومناقشة رواية "الحاجة كريستينا" للكاتب د. عاطف أبو سيف، وبعد أن رحّب بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس نادي حيفا الثقافي، تولى عرافة الأمسية الكاتب سهيل عطالله، وتحدث عن الرواية كلّ من: د. منار مخّول، وسلمى جبران، وحسن عبادي، وخلود سرية، وفي نهاية الأمسية أجاب المحتفى به عاطف أبوسيف عن أسئلة طرحها الحضور، ثمّ شكر المنظمين والمتحدثين والحضور، وثمّ التقاط الصور التذكارية!

مداخلة الأديب سهيل عطالله: مدرسة في مخيم ومخيم في مدرسة، المدرسة غزة هاشم والمخيم جباليا، في مخيم جباليا تتحدث فلسطين عن نفسها، من جباليا المجبولة بحبّ الوطن يأتينا هذا المساء فارس من فرسان الكلمة، أهلًا بالكاتب الفلسطينيّ المبدع عاطف أبو سيف. لقد ايقظت الرواية فيّ أحاسيس وطنيّة، تزدان بلوحاتٍ او جداريّاتٍ تُوثق حياتنا الفلسطينيّة هنا وهناك، ففي هذه الرواية تختصر فلسطين نفسها، وعلى صفحاتها وسطورها وبين سطورها نجد غزة هاشم بأهلها الخيّرين الطيّبين، تُقاوم الغزاة مُصرّة على اعتناق الحياة، وفيها توثيق صادق لحياة الفلسطينيّين أينما كانوا وأينما حطّت بهم الرحال والأحوال.

الشخصيّة المركزيّة المحوريّة هي الحاجة كريستينا، وكريستانا هذه كانت فضّة الصغيرة اليافاويّة التي غادرت يافاها إلى لندن للعلاج، وهناك اعتمدت كريستينا اسمًا مستعارًا بديلًا، ففي أواخر خمسينات القرن الماضي تدفع الأقدار كرستينا للعودة، ليس إلى يافا بل إلى المخيم في غزة، حيث تعيش طوال حياتها حتى تأتي سيّارة الصليب الأحمر وتنقلها إلى حاضرة الإنجليز، وذلك إبان العدوان الإسرائيليّ على غزة عام 2009، ومن يقرأ الكتاب يجد كاتبه يربط ما بين حياة فضة وبين ما حلّ بفلسطين، بدءًا من إضراب عامّ 1936 وهو عام مولدها مرورًا بالنكبة وما بَعدها. في الكتاب سرد للمآسي التي تتعرّض لها النساء الفلسطينيّات اللواتي فقدن ويفقدن آباءَهنّ وأزواجهنّ وأطفالهنّ وأشقّاءهنّ، للبقاء وحيدات في وجه عواصف الحياة وشدائدها، ومثال هذا البقاء نجده مُصوّرًا في حياة فضّة التي فقدت أهلها كسائر الفلسطينيّين المُهجَّرين المطرودين المُطارَدين، ففي الرواية يعيش الفلسطينيّ بين عالميْن: عالم الموت والاستشهاد كحصيلة لويلات القتل والتهجير، وعالم أمل استرداد الوطن، وفي هذا الأمل تأكيد لنا ولغيرنا. إنّ الموت لا يُلغي فلسطين من ذاكرة أهلها، فهي باقية في غزة وأخواتها، باقية بمجالس رجالها ونسائها، الأمر الذي يتجسّد بموت المُسنّ الفلسطينيّ الذي اصطحب معه مذياعه الصغير ليسمع أخبار الأهل والوطن.

عاطف أبو سيف يُصوّرُ الوطن، فيستهلّ روايته بالحديث عن الشبح في بحر غزة، والشبح يتكرّر ظهوره واحتجابه كإشارةٍ حيّة لمسلسل الحرب، والمعارك القادمة لتي يحترفها ويشنّها الطغاة المُتجبّرون على أبناء فلسطين من وقت لآخر، وهذا المسلسل تتكرّر حلقاته في شخص الحاجة العائدة أوّلًا كصغيرة من لندن إلى المخيّم، وثمّ من المخيم وهي مُسنّة إلى لندن، ومنها إلى المخيّم في نهاية المطاف.

بين عودة الحاجة الجدّة من جهة، وعودة الحفيدة ابنة ياسر ابن الجدّة من جهة أخرى، نشهد مسلسلًا واضحًا يرسم أملًا لعودة الأجيال إلى الوطن الفلسطينيّ، وفي هاتيْن العودتيْن توثيقٌ للماضي الفلسطينيّ، من خلال تعزيزه في واقعنا الحاضر المُلفِت، والمُلاحَظ أنّ مبدعَنا عاطف أبو سيف يُقدّم لنا جداريّة، على صدرها تتصدّر شخصيّة المرأة، ففي المخيّم تقوم مجالس الرجال التي لا تكتمل إلّا بمجالس النساء، فالنساء هنّ صانعات الحياة وصائنات الذاكرة، ومن أرحامهنّ تخرج قوافل الشهداء، إنّهنّ الشجاعات صاحبات الرأي والمقارعات لجنود الاحتلال، فكرستينا وصفيّة ونبيلة وسلطانة وسهيلة وغيرهنّ من المنتفضات الصامدات، كنّ يجمعن الحجارة الصغيرة ويكوّمنها في الأزقّة، ليلتقطها شباب غزّة ومخيّمها ليقذفوا بها جنود الاحتلال، وكنّ يُوزّعن رؤوس البصل المهروس على الشباب لشمّه وحماية عيونهم من سموم قنابل الغاز، وعلى صدر هذه الجداريّة نشهد وحدة الفلسطينيّين بانصهار طوائفهم في مزيج قوميّ واحد، تندمج فيه مسيحيّة سلطانة مع إسلام صديقتها فضّة (كرستينا).

قارئ هذه الرواية يجد نفسه في محضر ملف يختصر تضاريس فلسطين، حيث يتجلبب الغزّيّون بحبّ الوطن، تحدّيّا للغزاة من يهود ومستوطنين ووصوليّين عرب، كانت فضة تسمع عن قبائحهم وتشكيلاتهم الفئويّة الحزبيّة الرخيصة، وذلك ليس دفاعًا عن فلسطين، بل حُبّا بالتسلط وعشق الأنا، كما وأشير إلى تغيير الأسماء في حياتنا عند العرب وتحديدًا الفلسطينيّين فالأمر مألوف، فإنّ جورج الإنجليزيّ صديق أهل فضّة اليافاويّة، والذي نقلها معه إلى عاصمة بلاده للعلاج وهي ابنة إحدى عشرة سنة، فقد رأى جورج وجوب تحويل جنسيّتها بإعلانه بأنّها ابنته من أمّ فلسطينيّة، فحوّل الاسم فضّة إلى كرستينا لتكون مقبولة في البيئة البريطانيّة الجديدة، هذا الأمر كثير الحدوث في (إسرائيل) تمامًا كما يحدث لبائع الفلافل العربيّ في تل أبيب، حيث يُغيّر اسمه من محمد إلى شلومو، وذاك العربيّ الذي صادق ورافق فتاة يهوديّة سرعان ما يُغيّر اسمه من جعفر إلى داني أو حايم، هكذا تتغيّر الأسماء عشيّة اندماجنا في بيئة غريبة، لكن تغيير الأسماء هذا لا يُغيّر ذاكرتنا الوطنيّة ولا دمنا العربيّ الفلسطينيّ المُتدفّق في عروقنا.

اسم فضّة تجوز فيه اللفظتان: فِضّة تلك المصنوعة من نفيس المعادن، والتي لم تعتمر سكوتًا ولو كان هذا من ذهب، وفَضّة في مَحكيّتنا فَضّة وفي فصحانا تعني الثابتة على صخور الوطن وعلى مبادئ لا تندثر.

مداخلة د. منار مخولي: الحاجّة كرستينا عاطف أبو سيف

قراءة الرواية من منطلق سوسيولوجيّ وليس نقدًا أدبيّ. يتطرّق النقد الأدبيّ إلى مسائل اللغة والتركيبة الفنّيّة وما إلى ذلك. تعاملي مع الرواية كنصّ تاريخيّ يحوي بداخله ترسّبات اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة. مواضيع للنقاش                   i.            المحو الفلسطينيّ المتبادل: مع العلم أنّ الفلسطينيّين في إسرائيل محو فلسطينيّي 1967 حتى عام 1987 بشكل كلّي تقريبًا، لكن منذ الانتفاضة الأولى هناك حضور قويّ لفلسطينيّي 1967 كشخصيّات رئيسيّة في أحداث الروايات – وأيضًا مكانيًّا – حيث توجد روايات تحكي احداث الانتفاضة الأولى في الضفة الغربيّة وقطاع غزة، وهذا غير مسبوق قبل عام 1987. محو "الفلسطيني الآخر": لا وجود لشخصيّات فلسطينيّة من الداخل في هذه الرواية. حتى لا توجد شخصيّات فلسطينيّة من الضفة الغربيّة! الواقع ضيّق جدّا ومحصور في قطاع غزة. ماذا يقول محو فلسطينيّو الضفة الغربية، وأيضا فلسطينيّو 1948 من رواية الحاجة كرستينا عن الهُويّة الفلسطينيّة في عام 2017؟                  ii.            الإحجام: إنها رواية عن القدر والمصير والحظ. الإحجام أيضا موضوعة (theme) في الأدب الفلسطيني في إسرائيل في سنوات ال-1970. أكبر مثال على ذلك رواية المتشائل التي كانت تنادي بالإحجام وتفضيل الجلوس على الخازوق من العمل المُقدم. لكن خطاب الإحجام تغيّر بعد الانتفاضة الأولى، أيضا في كتابة إميل حبيبي نفسه الذي حذّر من الإحجام في رواية اخطية.

الإحجام هو الموضوع الأساسي في رواية الحاجّة كرستينا – مغلّف في السياق الفلسطينيّ (من النكبة وحتى اليوم). بشكل عام، يمكن القول أنّ بهذه الرواية لم يفعل بطلها أيّ شيء! هناك إحجام (passive) واستسلام في تصرّف أغلبيّة شخصيّات الرواية. مثلا كرستينا، الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية، تأخذها الحياة وتقذفها في كلّ اتجاه، دون أية مقاومة من طرف البطلة:

تقريبا جميع الشخصيّات المقدمة (active or proactive) الذين قاومت إسرائيل تُقتل أو تموت أو تسجن: زوج كرستينا وابنها. الشخصية التي قاومت ذكورة المجتمع الفلسطيني والتي طرحت خطاب ونضال نسوي جديد – قُتل حبيبها بقصف إسرائيلي. في اللحظة التي قاومت فيها كرستينا قدرها – تموت غرقًا في نهاية الرواية.

يعكس لنا هذا التصوير مدى التعاسة والأسى اللذين يسيطران على كل شيء في غزة. لكن، ما هي الرسالة التي يحاول أن يبعثها الراوي من خلال هذا التصوير للشخصيّات؟

                iii.            النوستالجيا والثقافة المتجمدة: في الروايات الفلسطينيّة داخل إسرائيل أتى الحنين (النوستالجيا) مربوطا بالفوكلور – وشكّل مجموعة روايات الحنين- الفولكلوريّة. تجمع هذه الروايات مُرَكّبيْن متناقضيْن: الحنين (الذي يعكس الانقطاع)، والفولكلور (الذي يحيى بالاستمرارية)، ومعًا فهما يعكسان التحوّل في الخطاب الفلسطينيّ من الإحجام الى الإقبال. محاولة لقلب الإحجام الى إقبال جماعيّ. النوستالجيا في الأدب الفلسطينيّ في إسرائيل تأتي في سياق البحث عن الهُويّة في الماضي. لكن رواية الحجّة كرستينا تعطي الانطباع، إنّها فقط وقوف على الأطلال وأخذها على أنّها الوضع القائم. في رواية الحاجة كرستينا الثقافة الفلسطينيّة مُتجمّدة في نوستالجيا الوقوف على أطلال فلسطين ما قبل النكبة. لم تنتج فلسطين، حسبما تصوّر هذه الرواية، أيّ أدب أو ثقافة منذ النكبة والتي يمكن ذكرها. إنّ التصوير الملتزم لا يسطّح الرواية الثقافيّة فحسب، بل والتجربة الإنسانيّة إلى معيار واحد – وهو السياسيّ، الاحتلال.                iv.            الهُويّة المزدوجة:                                                 i.      الهُويّة المزدوجة: في الأدب الفلسطينيّ في إسرائيل تطرّقت إلى الازدواجيّة بين المُركّب الإسرائيليّ والمُركّب الفلسطينيّ والتناقضات الداخليّة بينهما، إذ تحوّلت فضّة الفلسطينية الى كرستينا البريطانيّة في غضون 11 عاما – ما يمكننا القول عن الفلسطينيّين المواطنين في إسرائيل؟                                               ii.      الهُويّة الدينيّة: هل فلسطينيّة فضّة- كرستينا تجمع بين مسيحيّتها وإسلامها، أم هي فلسطينيّة- مسلمة وبريطانيّة- مسيحيّة؟

مداخلة سلمى جبران: أُبارك لك ولنا بهذه الرّواية الإنسانيّة الرّائعة وكقارئة أنتقي في الرواية ما أُريد من مشاهد الجمال والتميُّز والإبداع! "يحُطُّ الشّبَح ظِلَّهُ على غزّة عدّة أسابيع ويأسُر عقول ومخيّلَة النّاس ويستثيرُ خوفَهُم، فيأتي العدوان والدّمار ليحتلَّ محل قصّة الشّبَح، فارضًا واقِعًا وتراكُمًا كبيرًا من الألم والرعب والحزن والدُّموع. كما اختفى الشّبَح تختفي الحاجّة كرستينا تحتَ غبارٍ كثيف نثرتْهُ عجلات الجيب الذي أقلَّها، مختصرًا المسافة والزّمن بينها وبينَ أهلِها في المخيَّم، وتاركًا ظلامًا كثيفًا حول اختفائها ومساحة كبيرة من الأخبار والتحليل والتفصيل والرّغَبات والمواقف". "كان النّاس يتلهَّوْن وينشغلون عن الألم بالحديث عنه، والاقتراب منه أكثر بملامسته. هكذا نفعل في مرّاتٍ كثيرة حين نشعُر بالعجْز وقلّة الحيلة، ندفع العجز إلى أقصى مداه. فعل ناجم عن اللّافعل" (ص 24).

ما أصدق وأبدع أن نبحث عن الألم وراء الحدَث والبريق في الألم والألم في البريق خوفًا من فقدانه! من البداية نرى عاطف أبو سيف يُحيكُ روايَتَهُ من أعماق نفوس النّاس حيثُ يرسو الشُّعور بها ويُحيِّدُ الشِّعار لكي يرى ونرى معهُ أبعَدَ منهُ. الحاجّة كرستينا اسم يدمجُ بينَ عالَمَيْن، عالَمٍ غريب وعالَمٍ قريب فيهِ نورٌ يشِعُّ ويخبو متنقِّلًا بين الزّمان والمكان، بينَ يافا ولندن وبين يافا وغزّة وبين الطّفولة البريئة والصِّبا الزّاخر بالحياة والحياة الممتلِئة بنعمة الحِكمة والحُبّ وصراع البقاء. ينتقل بنا عاطف من مكانٍ إلى مكان ومن زمانٍ إلى زمان بخِفَّةٍ تضاهي الأساطير والحكايات الشّعبيّة هي الحياة.

يناقشُ النّاس قصّة اختفاء الحجّة فتخرجُ المُسلَّمات والشِّعارات: الخيانة، الهرب، التّفكير الفردَوي بالنّجاة، التّداخُل بين الفرد والمجموع، فتكون الغَلَبَة للشُّعور وللحياة وللفرد فيقولون: "حياتها وهي حُرّة فيها" (ص28)، والحاجّة "تسير على حافّة الجدول وتموتُ منَ العطش" (ص33). وهي لا هنا ولا هناك تتأرجحُ بينَ أزمنة وأمكنة سنواتِها السّبعين وتكتسب كلَّ الألوان وكلَّ المشاعر بأناها الفرد وأناها المجموع لتكتشفَ فكرة "الطّريق الوحيد".

الصوَر التي وصَفَتْ المخيّم بكل دقائقِهِ ووصَفَتْ يافا الجميلة وتهجيرَها وتدميرَها والموت المحتوم فيها، تُغْني القارئ عن مليون شعار. بحثُ الحاجّة عن الانتماء وجذوة حبِّها التي لا تنطفئ وتفكيُرها الحُرّ ووعيُها يافا ومشاعرُها المتدفِّقة جعَلَتْها عونًا لذاتِها، فقدَّست الحياة من خلال والديْها اللذَيْن دهستهُما عجلاتُ الاجتياح والدَّمار التي عمِلَتْ ضدَّ الحياة، وبقي لها منهما الاسمَان ومدلولُهما! "قسوة لا يُمكن أن يعرفَها على حقيقتِها إلّا من عَرَفَ كيْفَ يُمكنُ لهُ أن ينتقِلَ من بيتٍ جميل في مدينة يجلسُ البحْرُ تحتَ أقدامِها، ويُداعِبُ أَخْمَصَيْها بِرِقَّة وتهمِسُ ريحُها لخَصَاصِ نوافِذِها، إلى خيمةٍ ستتحوَّلُ إلى بيتٍ متَهَتِّك"!(ص 63) ما أروع وأبدع رواية فلسطينيّة يسودُ فيها الشّعور ليدحرَ الشِّعار وتتعطَّرُ سطورُها بلُغةِ الشِّعر!! الشّخصيات تترجَّلُ منَ الرِّواية فتُصبِحُ الأسطورة حكاية والحكاية واقِعًا اسمُهُ حياة وعوني ومنصور وفضّة وجورج وكلّ نساء مجلس الحجّة.

فضّة في لندن اختصَرَت الزّمَن وجَنَتْ خِبرةً وحِكمةً تعادِلُ أضعافَ عُمْرِها، فنما في تراب هذه الخِبرة حنينٌ أسطوريّ حوَّلَ رائحةَ شجرة التّمرحِنّة إلى بخّور مقدَّس وملحُ بحرِ يافا أصبَحَ حُلْوًا!

موتيف الّلا خَيار يظهر جليًّا في كلّ مراحل وزوايا الرّواية ويتحوَّل إلى خَيارِ البَقاء فتصبحُ المسافة بينَ الواقع والحُلُم واهيةً وترجع الحجّة لتكون كما كانت واحدةً من المُخيّم، ولقاؤها مع يوسف حوَّلَ القضيّة بكاملِها إلى رواية يتألَّمُ فيها يوسف عندما يرى بيتَهُ المسلوب ويحتمي بمخابئهِ وتتألَّمُ هي معهُ. يوسف الأسطوريّ اليافاويّ الجميل الذي ربّما كانَ ذاتَ ال يوسف في "راكب الرّيح" ليحيى يخلِف، وخلق نَسَبًا بين الرّوائيَّيْن، أحبَّ فضّة وأحبَّتْهُ فتحوَّلَ لا خَيار التشَرُّد إلى خَيارِ الحياة وأصبحَ "قلب فضّة يهروِلُ في الشّارِعِ فَرِحًا" متتبِّعًا يوسف. وهكذا تنتفضُ معظمُ الشخصيّات في الرّواية وتصبح جزءًا من حياتنا!

التّداخُل الإيماني في الرّواية موتيف آخر نتجَ عن لاخَيار، فاتّجَهَ نحْوَ العُلا وارتقى، فارتقت بهِ النّاس بشخصيّة فضّة.

موتيف الاختفاء لم يكن كالحَجَرِ الذي يسقُط في القاع، إنّما كالدّوائرِ التي تتكوَّنُ بسببهِ على سطحِ الماء، فمنها من يتلاشى ويموت، ومنها من ينطلِقُ خارِجَ الدّائرة ويروي المدى ويعيشُهُ: اختفاء فضّة علَّمَها الحياة، واختفاء والديها أدّى إلى الزّوال، واختفاء ابنِها حوّلَهُ إلى أيْقونة، واختفاء يوسف حوَّلَهُ إلى أسطورة  حتّى بعدَ موتِهِ فانتصَبَ واقفًا فوقَ نَعْشِهِ!! وأيقونات فضّة تحوَّلَتْ إلى تعويذاتٍ وشواهِدَ أمل تنتظر رجعتَها، رجعة أهلِها، رجعة زوجِها، رجعة ابنِها ورجعة الرّوح!! (ص 140) وكل هذه التعويذات تردَّدَتْ على ألحان باخ في معزوفة "عذابات القِدّيس ماثيو"هأهلِها،أ

... وهذا ما حوَّلَها إلى حجر الرّحى في مجلس النِّساء وفي المخيّم.

تبدأُ الرّواية صورة مجرَّدة لخارطة البِلاد، ورُوَيْدًا رُوَيْدًا تمتلئ هذه الخارِطة بالنّاس والبيوت وكلّ أنواع النّباتات والأشجار والصّخور والشّمس والقمر والمَطَر والحياة... مجلس النِّساء كانَ عامرًا بالحوار والتفكير والتّعبير، ومع ذلك دارَ بينَ فضّة وصفيّة صديقتِها بالروح صمتٌ قويٌّ عميق، بدَّلَ الضّجيج الذي لم يحمِ ترابَ الوطن، ورفَعَ الألم إلى مصافّ الإنسانيّة وربّما إلى مصافّ الألوهيّة.. مع كلّ مصائب صفيَّة ونبيلة وفضّة وكلّ كوارث التّهجير والدّمار والموت، استعمَلْنَ الرّصاص لفكِّ الحَسَد، ولم تفكِّرْنَ بالقتال والانتقام!! لقاءات النّساء وحواراتُهُنّ تحوَّلتْ إلى لقاءاتٍ تُعيدُ نسْجَ حكاياتِ شعبٍ مشرَّد وتعي ما يدورُ حولَها، فتتعلّق سهيلة بالرّمز جمال عبد النّاصر. كانت فضّة تبعث الطُّمأنينة في الحارة وفي المخيَّم، وكانت مَصدرَ الحكمة والبديهة، وما أجمل صورة تخبئَتِها للفتى منار تحتَ كُرسيِّها وتغطيَتِهِ بتنّورتِها الطويلة الواسعة.

أمّا مجلس الرجال فكانَ بكاءً على الأطلال وعلى البُطولاتِ الضائعة! حسن الصيّاد، زوج صفيّة، كانَ أكثرَ الحضور صمتًا فهو أبى أن يزورَ يافا ويرى الخراب، وأرادَ أن يحتفِظَ بصورة يافا كما كانت.

كانَ غياب فضّة/ كرستينا جزءًا من الغياب الجَمْعي الذي تزخر بِهِ الحكاية،ذ وكانَ الانتظار أقسى من الغياب نفسِهِ. 

وهكذا يتدفَّقُ الحنين في كلِّ مسارب وطُرُقاتِ الرواية ويأبى أن يجِفّ. والحنين تدفَّقَ أيضًا في لندن: "الزمن لا يمُرّ نحنُ فقط نبتَعِدُ عنهُ" (ص 234). في عودتها إلى لَندَن شَعَرَتْ بحنينٍ يخنُقُ الروح، ولكنَّهُ يتحدّى اللا خَيار. رجوعُها إلى غزّة بعد موت جورج كانَ باللا خيار، ولكنَّها اختارَتْ البقاء في غزّة رغم موت كلّ عائلتِها، فحوّلت كل الحارة إلى عائلتِها، حتّى اعتبرَها أهلُ الحيّ "رجُلًا"! وحينَ كانت عودتُها إلى لَندَن لا خياريّة –إنقاذَها كمواطنة بريطانيّة- وجدَتْ نفسَها وحنينَها هناك، فكانت عودةً إلى الصِّبا في وطنٍ غريب. ولكنْ اشتعَلَ الحنين في داخِلِها، فكانت العودةُ الأخيرة غامضةً حتّى لمعَتْ حفيدتُها في حضن المخيَّم، لتعود إلى حضنِ شبابِها، وكانت "رحلة بينَ نقطتيْن، واحدة نعرِفُها والثّانية نجهلُها" (ص 247) أمّا المسير في هذه الرّحلة فهو لبُّ الحكاية بامتياز، فقد أعادَها الحنين إلى غزّة سابحةً في البحر بعدَ أن هاجموا سفينتَها- سفينة الحرّيّة.

"لا يوجد لدى النّاسِ خَيار آخر إلّا أن يواصلوا دربَهَم المُضني في البحث عن شُعاعِ النّور، في البحث عنِ استقرار يجمعُ بينَ الرّغبة في تغيير الواقع والخوف من أيِّ واقعٍ جديد"!(ص 249). قارِب حسن اختفى / مات وعاد بلَفْتَةٍ طيِّبة من كرستينا وعندما أدرَكَ ذلك كتَبَ اسمَها عليه. موقع "وين الحجّة" يظلّ سؤالًا، وربّما يتحوَّل اسمُهُ إلى "وين البَلَد"!!!

مداخلة حسن عبادي: إنّها رواية تُصوّر حكاية فضّة- الفتاة اليافاويّة التي تغادر إلى لندن للعلاج أبان النكبة التي تقع بغيابها لتعيش في لندن باسم كريستينا، لتضطر للعودة إلى مخيم للاجئين في غزة أواخر خمسينات القرن الماضي، لتعيش هناك طوال حياتها حتى يأتي جيب لاندروفر و"يخطفها"، لتنتقل إلى لندن خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2009. تدور أحداث الرواية في يافا الذاكرة المشتهاة ومخيّمات اللاجئين في قطاع غزة ولندن في محور البحث عن الهوية. للمرأة الفلسطينية حضور مميز بطوليّ يصوّر الفقدان الدائم الذي تعانيه، فقدان الأب والزوج والطفل والأخ، فقدانه كأسير أو مفقود أو شهيد، وفضة/ كريستينا تفقد أهلها وأسرتها بالكامل ساعة التهجير، ثم تفقد زوجها الشهيد فابنها ياسر "المفقود"، فتصاب العائلة الفلسطينية بتعويذة ولعنة الغياب المستمرّة، من غياب عائلة بطلتنا إلى غيابها عن يافا وعن المخيّم لاحقًا، ليصبح الغياب الفرديّ جزء من الغياب الجمعيّ فتصرخ " شو إلنا بغزة" (ص 201)، لأنّ عقلها يعيش في يافا أو لندن أو في انتظار ابنها "المفقود" ياسر.

يصوّر عاطف حياة  المخيم ومآسيه، ويُسلط الضوء على المعاناة اليوميّة للاجئين وظروفهم الحياتية الصعبة، خاصّة زمن الحرب والعدوان الاسرائيليّ، فيصف حالة الرازحين تحت القصف بعيدًا عن الشعارات، كلّ مع قصته الشخصية، ليُؤنسن الوجع والألم والمُصاب الفرديّ الشخصيّ، مما يذكرني بخالد جمعة وكتابه "في الحرب .. بعيدًا عن الحرب". ويصوّر عاطف صراع أبناء المخيّم اليومي في البحث عن الهوية ، فقلبها المعلق هناك دفعها للبحث عن حياتها هنا من أجل أن تكتشف كيف يمكن لها أن تجد الطريق إلى هناك (ص 247) حاذيًا حذو مريد البرغوثي في روايتيه "رأيت رام الله" و"ولدت هناك، ولدت هنا".

ينتقد عاطف النظرة النمطيّة والتأطيريّة المفروضة علينا، وعلى تصرّفاتنا اليوميّة التي تصبح تابوهات لا يمكن الخروج عن نصّها، ويتساءل بجرأة: "هل يمكن لهويتنا أن تفرض علينا نمطًا معينا من التصرف ؟ هل يجب أن تتّخذ هيئة وشكلًا محدّدين يتناسبان مع هُويّتنا (ص 229) لتثبيت وقوقعة "الهُنا" ؟  فتتحدّى بطلته كل أعراف القبيلة المتوارثة صارخةً "أنا من هنا". يتناول عاطف موضوع الحنين في كلّ المراحل، الحنين الذي يخنق الروح، فلا شيء يُشبع الحنين إذا استبدّ بنا ونحن في الغربة. ويروّح عن نفسه بقصّ قصّته وروايته، فكثيرًا ما نحتاج أن نروي لشخص غريب حكايتنا حتى نفهمها، وخلال السرد نكتشف الكثير من بواطن الغموض الذي كنا لا نفهمه قبل ذلك! يتحدّث كل من أبطاله لتفريغ الذاكرة من شحنة مُرعبة من الصور والأحداث والتداعيات وعلاج للتنفيس عن الكتمان والاحتقان، فأن تتذكر كل شيء مع التفاصيل الدقيقة شيء سيّئ للقلب، لكنه جيد للروح، ويتطرّق عاطف في روايته لصراع الهويّة وقضيّة المواطنة والوطنيّة صارخًا: "ماذا يعني كلّ شخص حين يقول كلمة وطن؟" (ص231)، يتطرّق لوكالة الغوث دورها وتداعياتها، يتطرّق للمعاناة والتغلّب عليها والبطولة، ويتطرّق إلى الاحتراب والاقتتال بين الأخوة في قطاع غزة قائلًا وبأعلى صوته: " نتقاتل من يحرس بوابة السجن لإسرائيل"! (ص 264).

أوافق عاطف بأنه كي تكونِ أديبًا عليك أن تكون مثقّفًا، وعاطف  نِعمَ المُثقّف، فأخذني معه بسلاسة ولباقة، ولكن بتكلّف وتصنّع مبتذل  لا يخدم النص، إلى عالمه - من معزوفة "الجمال النائم" لتشايكوفسكي ومعزوفة "عذابات القديس ماثيو" لباخ ورائعة مايكل أنجلو "الخلق". ليست الرواية بالتاريخيّة رغم أنّ كاتبها "درس" التاريخ الشفويّ لأهله ومن تهجّر قسرًا من يافا، و"درس" جغرافيّة فلسطين وقراها، وحارات لندن مدينة الضباب وتمرّس بهما، فكانا أرضيّة خصبة للرواية وأثْرَياها جدّا. كاتبنا يُجنّد وبكثرة أسلوب الاسترجاع والاستحضار flashback))، أي انقطاع التسلسل المكانيّ أو الزمنيّ للرواية لاستحضار مشاهد ماضية لتلقي الضوء على موقف ما، وكانت هذه التقنيّة مقصورة أصلًا على السينما، فوظفها الكتّاب لاحقًا في كلّ مجالات الأدب، ووظّف هذه التقنيّة في حينه الروائيّ نجيب محفوظ في روايته "اللص والكلاب". يُكثر عاطف من رسم السيناريوهات وتفصيلها على مدار الرواية، بدل أن يتركها للقارئ لينمّي عنصر التشويق عنده. كاتبنا يحب التكرار المُمِلّ أحيانا، ولكن ينهي روايته بعودة كريستينا بنت ياسر ابن الحاجة كريستينا إلى المخيم فجأة ودون سابق انذار. لماذا لم تُعِدها يا عاطف إلى يافا المشتهاة التي ما زالت تنتظر؟ّ!  

لا تزال الكاتبة المصرية سلوى بكر تنحاز في قصصها بشكل عام لحياة المهمش وواقعه المزري، حيث لا يزال يبحث له عن حياة كريمة وسط الفوضى الجارفة في مجتمع تنقصه يقظة الضمير.

لقد اعتبر النقاد سلوى بكر صوتا للمهمشين خصوصا المرأة، كونها أخذت على عاتقها رسالة للتعبير عن هذه الفئة البائسة وشبه المعدمة في المجتمع المصري لفضح المستور ومواجهة المتلقي بالوجه المؤلم للحقيقة، كما هو الحال في مجموعتها القصصية الموسومة "نونة الشعنونة"، والتي تنقل لنا صورا عن شخوص يعيشون على هامش الحياة.

نشير أولا أن هذه المجموعة كغيرها من قصص الكاتبة تدفعنا للسؤال الآتي: هل تأثرت سلوى بكر بكتاب أدب التهميش؟، ومما يزيد تساؤلنا مشروعية اقترابها نوعا ما من أدب المبدع خيري شلبي الذي لقبه النقاد بأمير المهمشين، كون أن أعماله الأدبية قد شكلت مادة ثرية لصناعة السينما، حيث تحولت روايته الموسومة "الشطار" لفيلم من بطولة نادية الجندي سنة 1993، أما في عام 1995 فقد قدم المخرج داوود عبد السيد فيلما لقصته القصيرة "سارق الفرح" من بطولة لوسي وحنان ترك. أما الدراما التلفزيونية فقدت اختارت من أدب خيري شلبي رواية "الوتد" التي قدمت من خلالها الراحلة هدى سلطان دور الأم في المسلسل، أما رواية "وكالة عطية" فقد قدمها الممثل حسين فهمي في مسلسل أيضا بمشاركة حنان مطاوع وأحمد عزمي.

ما يلاحظه القارئ في قصص "نونة الشعنونة" هو تلك اللمسة بين البناء المعرفي للكاتبة الذي تمزج فيه حالة الشخوص بالواقع، وهي ملكة مغروزة في نفس "صوت المهمشين" سلوى بكر فضلا عن إتقانها للغة التي تكتب بها كقصة "صنعة لطافة"، وهي قصة متميزة وكأنها كتبت لتمثل على خشبة المسرح أين تتجادل النقطة والخط حول موضوع الحرية. كلاهما ينتفض مدافعا عن نفسه وكينونته في الحياة التي لا تكتمل إلا بوجودهما سويا كرجل وامرأة: "تأملها مجددا باعجاب وافتتان، ثم هز رأسه وتبسم وكأنه يرى وردة تتفتح، وبدت له بالفعل جميلة، قوية، مؤثرة، على الرغم من صغرها وضعفها، لكن إلى أي مدى سيمتد تمردها هذا؟ وما الذي سيترتب عليه؟" (1).

وفي قصة أخرى تحت عنوان "التكهن" تصحبنا الكاتبة إلى اكتشاف مشاعر المرأة الواعية والمتخوفة في آن واحد من الوقوع في جلبة فتلفت الأنظار إليها وتجعل من ذلك موضوعا يدفع بالملل على الركاب، وكل ذلك لتضفي على المشهد بعدا سينمائيا لا يخلو من عنصر الإثارة والتشويق: "لا ادري لماذا ارتبكت وقد بدا لي وكأنه رجل ينام على فراشه في البيت، أظن أنني وقعت في مشكلة سخيفة اذ أخذت أتكهن بدوافع سلوكه هذا على النحو التالي: أولا: رجل نائم بالفعل ولا يدرك ما يفعله. ثانيا: شخص وقح يسعى لمعاكسة وضيعة من الدرجة العاشرة. ثالثا: انسان غبي، سيء التقدير، بليد، يتصرف بأنانية بالغة وعلى راحته دون اعتبار لوجود آخرين" (2). 

"بحر الأعالي" قصة بسيطة لبكر تذكرنا بأحد أهم الأفلام المصرية التي تناولت نماذج مختلفة للخادمات كدور الممثلة القديرة شادية في دور الأم الفقيرة والخادمة الشقيانة (عائشة) في فيلم "لا تسألني من أنا" (1984)، ومثلت دور ابنتها الفنانة يسرا (زينب). تظل الطفلة في هذه القصة تحلم بالعيش في الشقة رقم خمسة وعشرون لأجل مشاهدة النيل من شرفتها: "بصت دائرة ببصرها على جدران الغرفة/البيت فلما لم تشف غير جلابية أبيها البيضاء، المعلقة على المسمار، وحزمة الثوم المربوطة على مسافة منها، والمعلقة على مسمار آخر، ثم الرف العالي المحطوطة عليه دواء أبيها، ومفتاح الغرفة، شعرت كأنها على وشك الاختناق، فحتى الشباك الصغير في الحجرة، والمفتوح على المنور، لا يستبين من ورائه غير حيطة الطوب الأحمر، ومواسير المجاري الغليظة السوداء" (3). 

طرقت قصة "الخصبة والجدبة" بابا آخر من أبواب التخلف والجهل الذي لا يزال يتمسك بعادات وتقاليد أهل القرية وحتى المدن لم تسلم من زحفه في أيامنا، وهذا ما نزال نشاهده من خلال العديد من المسلسلات والأفلام المصرية، أين نجد البطلة تستسلم لغضب زوجها الذي يريد طفلا، فقررت أمها اصطحابها إلى زيارة الحجر المرصود وسط المقبرة، الذي كانت تقصده كل امرأة عقيم إلا وحملت: "كان صمت الجبانة المخيف والشواهد الكثيرة المتراصة المتقاربة كبيوت القرية الطينية قد أحكم الشعور بالوحشة في صدر الابنة وزاد من شعورها بالانقباض فخافت وودت أن تعدو راجعة غير أن أمها قد سبقتها ووقفت أمام الحجر حتى لامسته فصاحت الابنة فجأة من خلفها حتى شهقت الأم رعبا:

- نسينا العيش والملح" (4).

القصص الثلاث الأخيرة في هذه المجموعة بطلها الرجل الذي لا تستبعده بكر في قصصها إجمالا، أين تعكس صورا مختلفة له بين القهر والبؤس والحلم الذي يأبى مفارقته كما يلي: القصة الأولى تحمل عنوان "المشهد" وهي تعكس لنا نفسية البطل المنكسرة والمقهورة وهو يشارك في جنازة رجل لا يحمل له سوى شعور الكراهية كغيره من موظفي المؤسسة، وذلك لهيمنته وتحكمه في تلك الفئة الضعيفة للعمال: "أنت لم تأخذ منها شيئا الى الآخرة، لكنك حصلت والى الأبد على كل الكراهية، وكل المقت من الجميع، هذا ما حملته معك في النهاية حقا، حتى بعد أن تزول وتتبدد وتتحول الى حفنة من الرماد وتنتفي جثتك السمينة المترهلة، التي طالما طالعناها تحمل سحنتك الكريهة، وهي تطل علينا في المؤسسة كل يوم" (5).

القصة الثانية تحمل عنوان "مائدة الرحمن" وهي تتناول سماحة الإسلام في المعاملة مع المسيحي من خلال شخصية جرجس الذي دفعته حالته البائسة والعوز والحاجة للسفر إلى القاهرة لأول مرة بحثا عن العمل، وسؤاله عن عنوان صاحب جنة رضوان دفعه للجلوس إلى مائدة من موائد رمضان دون سابق إنذار بعدما غلبه الجوع والتعب: "...وبرك على الأرض الى جانب الجالسين، وما أن تعالى آذان المغرب من عدة مآذن، حتى هجم على المائدة مع الهاجمين، بعد أن شجعه مقترح الدعوة المسئول بقوله:

- مد يدك طوالي، بسم الله" (6).

في القصة الثالثة "قمر ينظر اليه" يحاول الولد طرد النوم بعيدا عن عينيه وهو يقترب من تلك الثلاث اللواتي يتغزلن بالقمر كل واحدة بطريقتها الخاصة، بينما هو بائع الفل –الولد بعينه- يتخيله نصف رغيف شهي يخرج لتوه طازجا من الفرن: "أخذ الولد يعيد ترتيب عقود الفل على ساعده اللين، وفكر: آه لو أبيع أثنين أو ثلاثة، آكل بعدها شيئا سريعا ثم أذهب الى أمي فأنام" (7).

لا تزال أعمال الكاتبة سلوى بكر بعيدة عن اهتمام أهل السينما والتلفزيون رغم أن قصة "نونة الشعنونة" عرفت نجاحا في التمثيلية التلفزيونية التي قدمتها الممثلة حنان ترك بجدارة في دور نونة (نعيمة)، وهي فتاة عرفها المشاهد من خلال سلوكها الغريب وتصرفاتها الغير طبيعية كونها فضولية تعشق المعرفة مما تسمعه من المعلمة من وراء شباك المطبخ: "وانسابت الدموع، ليلتها، من عينيها بحورا، وهي ساهرة حتى طلع الفجر، ورأت بعينيها لون السماء الأبيض، وحديد الشباك الأسود، لكنها عندما نادتها السيدة، لتنهض، وتذهب الى السوق لابتياع الخبز، كان النعاس قد غلبها، وراحت تحلم بالمدرسة والبنات، وابن الضابط، الذي كانت تصفعه –في حلمها- صفعات قوية" (8).

في الختام، يمكن القول أن الكاتبة سلوى بكر تحاول من خلال هذه القصص أرشفة يوميات شخوصها البائسة حتى تنفض عنها غبار النسيان، وهي تستحق أكثر من وقفة رغم بساطة أسلوبها الذي يعكس عمق مضامينها المكثفة، إضافة إلى ذلك جمالية صورها وكأنها مشاهد سينمائية تنقل لنا تجربة شخصيات هامشية من الواقع.   

الإحالات:

(1) سلوى بكر ، نونة الشعنونة ، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1999، ص 116.

(2) المصدر نفسه ص 130.

(3) المصدر نفسه ص-ص119-120.  

(4) المصدر نفسه ص 17.

(5) المصدر نفسه ص 135.

(6) المصدر نفسه ص 147.

(7) المصدر نفسه ص 143.

(8) المصدر نفسه ص 11.

 *كاتب وناقد جزائري

clip_image002_fa7a4.jpg

طلب مني زملي حسين Saddam Housseyn Medjahed، أن أقرأ مقطع من  كتاب "مدخل إلى معرفة الإسلام"، للشيخ عبد الرحمن بن الحفاف 1881-1957، ترجمة الأستاذ مولود طياب، منشورات المجلس الإسلامي الأعلى، الجزائر الطبعة الرابعة، 2010، من 227 صفحة. فلبى القارىء المتتبع دعوة زميله، فطلب منه الكتاب لأن المقطع وحده  لا يفي بالغرض.

ولفهم الكتاب لابد من الوقوف من الناحية الشكلية على الملاحظات التالية، وهي.. المجلس الإسلامي الأعلى هو الذي تكفل بنشر الكتاب، وأتعمد وضع هذه الملاحظة على رأس الملاحظات. والكتاب باللغة الفرنسية وترجم إلى اللغة العربية. وصدر سنة 1921، أي إبان إحتلال فرنسا للجزائر.

ومن خلال قراءة "الفصل الثاني: حياة محمد صلى الله عليه وسلم"، صفحات 87- 121، كانت هذه القراءة.. الشيخ عبد الرحمن بن الحفاف 1881-1957. ومحاولته شرح السيرة النبوية من خلال المقارنة مع الغرب أوقعته في مشاكل كثيرة لا تليق بالسيرة النبوية ، سنذكرها لا حقا. و واضح جدا أن الكتاب موجه للفرنسيين والغربيين في تلك الفترة أي سنة 1921، وهي سنة تأليف الكتاب. وأرهق نفسه في محاولته توضيح أن ما حدث لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو نفسه ما حدث لسيّدنا عيسى عليه السلام. وقد تعمّد وعبر هذه الصفحات ذكر إسم سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مجردا من النبوة، والرسالة، والسيادة، وكأنه يتحدث عن زميل له. وقد تكررت هذه الملاحظة بشكل كبير جدا وعلى لسانه وفي عدة مرات. وكان هذا سوء أدب من الشيخ الجزائري وقلة أدب مع سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. مع العلم ذكر إسم سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرونا بالنبوة والرسالة في بعض الحالات، لكن هذا لا ينفي سوء أدبه الذي ذكرناه.

يتحدث في صفحة 97 وما بعدها، عن بداية أذى قريش لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول.. "لكنه عندما أخذ في الطعن في عبادة الأصنام ". ومعلوم أن سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطعن في الأصنام، إنما ذكرها بما فيها، وهذا ليس طعن. بل كلام الشيخ طعن في سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.  ويصف المهاجرين الذين هاجروا إلى الحبشة ب "الكتيبة"، والكتيبة مصطلح عسكري، وسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرسل جنودا، إنما أرسل فقراء مساكين. وإستعمل مصطلح "الدين الجديد"، وهو يتحدث عن الإسلام، وهذا مصطلح إستعملته قريش وأعداء الإسلام من العرب والعجم، وما كان للشيخ أن يستعمل مثل هذا المصطلح. ويحاول أن يثبت عبثا أن الإسراء والمعراج يشبه ما حدث من قبل لسيّدنا عيسى عليه السلام فيما يتعلق بالغياب. وكان عليه أن يكتفي بما هو متعارف عليه في كتب السيرة من أن الإسراء بالروح والجسد، ولست أدري لماذا لم ينتهج هذا المنهج  وأقحم نفسه فيما ليس هو مطالب به.ويشبّه هجرة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفس ما تعرض له سيّدنا عيسى عليه السلام حين اختفى عن الأنظار.والهجرة النبوية ليست إختفاء عن الأنظار بل بروز وظهور، وإن كان الاختفاء عن أعين قريش لبعض اللحظات والأيام. وحين تعرض لوثيقة المدينة المنورة بين سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة واليهود من جهة أخرى، إعتمد كمرجع على لامارتين.

يقول في صفحة 107عن زوجات سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبلن الزواج به "قبلن التضحية والزواج بالنبي ". وهذا كلام خطير يصدر عن شيخ جزائري في حق سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن أحدا فرض عليهن الزواج، أو أجبرن على الزواج بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن به عاهة، أو نقص فـ "قبلن التضحية والزواج بالنبي. ويرى أن العبرة من تعدد الزوجات هو حفظ الوحي وإعادة نشره من خلال مداومة زوجات سيّدنا رسول الله  صلى الله عليه وسلم . ولا أعرف صحة هذا الرأي، لكن أعرف أن الله تكفل بحفظ الوحي وطلب من سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأيام الأولى للوحي أن لا يكرر من وراء سيّدنا جبريل عليه السلام قراءة القرآن ليحفظه، بل الله تعالى تكفله بحفظه وتثبيته في صدره. ولذلك ما ذكره الشيخ في هذا المقام لا قيمة له، ومردود عليه.

في عدة مرات وعلى مدار صفحات عديدة، الشيخ الجزائري لا يترضى على الصحابة، ولا على أزواج النبي، ولا يستعمل مصطلح أمهات المؤمنين، اللهم إلا في حالات نادرة جدا. ويعتمد الشيخ في كتابه هذا على صحيح البخاري المترجم إلى اللغة الفرنسية. ويصف الشاعر أبي العلاء المعري بقوله " الفيلسوف الأعمى".

وعند قراءة صفحة 163-164، يتساءل القارىء المتتبع بمرارة من أين جاء بذلك البهتان الكبير. وقد كان حاقدا مبغضا لسيّدنا معاوية بن أبي سفيان رحمة الله عليه ورضي الله عنه وأرضاه، ووصل به الحقد والبغض أن يكتب إسم سيّدنا معاوية بن أبي سفيان بين شولتين، هكذا " معاوية بن أبي سفيان"، ويقول كان معاوية هكذا بين شولتين " معاوية"، إذن هو لا يعترف به إسما ويكتبه بن شولتين، ما بالك بكتابة الوحي التي يقول عنه " كان "معاوية بن أبي سفيان" الخصم الوراثي للنبي صلى الله عليه وسلم.. وجرثومة الحقد لم تزل تعشش في قلبه "، ثم ذكر بأنه أراد إستبدال آية بآية، ثم ذكر بأن سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقصاه عن كتابة الوحي، وبأنه رجل مشكوك في إخلاصه ".. ومثل هذا الكلام لم يقله عتاة الحاقدين على سيّدنا معاوية بن أبي سفيان، فكيف يقوله شيخ جزائري ؟.. ولا نملك بعد هذه القراءة السريعة إلا أن نقول.. أخطأ الشيخ ، وما كان له أن يقع في هذا الحقد والكراهية على سيّدنا معاوية بن أبي سفيان غير المبررة. مع التأكيد نقل هذا الكلام تاييدا لا رفضا.

وفيما يخص "الفصل الرابع- تاريخ القرآن " و"الفصل الخامس: فريضة طلب العلم عند المسلمين"، صفحات 162-215، كانت القراءة التالية..  ينقل عن الكاتب سواس باشا، قوله: " وكان "معاوية بن أبي سفيان" الخصم الوراثي للنبي صلى الله عليه وسلم مكلّفا بهذه المهمة الخطيرة (كتابة الوحي) حينا من  الزمن ، كان "معاوية" صاحب ميزة، عالما عرفا باللغة، ولكن جرثومة الحقد لم تزل تعشّش في قلبه وأظهر ذلك في مناسبة ، وقد أملى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بعد اسم الله "غفور رحيم" وعوّض ذلك معاوية بلفظي "عادل حكيم"، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم في الحال فأقصاه عن كتابة الوحي، وقال: إن معاوية رجل ذكي عالم، ولكنه مشكوك في إخلاصه".. لم يعلّق الشيخ على المقطع، ولم يرفض ما  جاء في النص، وكل الصفحات التي تلت تدل على أن الشيخ الجزائري معجب بهذا الكلام المتعلق بسيّدنا معاوية بن أبي سفيان، وهذا الكلام تمّ طبعه بإشراف المجلس الإسلامي الأعلى ، وتحت إشراف الأستاذ بو عمران الشيخ رحمة الله عليه. وإستعمل الشيخ عدة مرات عبارة مصطلح الكتاب المقدس عوض القرآن الكريم.

يتحدث في صفحة 167 عن سيّدنا عثمان بن عفان، فيقول " ولكن لايجوز أن ننسى أنه من أقرباء أبي سفيان وأنه في عهده قد ارتقى أعداء أنصار محمد إلى السلطة العليا". أقول: هكذا يصف الشيخ الجزائري سيّدنا عثمان بن عفان بأنه وظف أعداء سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا كيف يستعمل لفظ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلممجردا منالنبوة والرسالة. وأثناء جمع القرآن الكريم يصف سيّدنا عثمان بن عفان بقوله: "فالخليفة الثالث لم يكن يستطيع أن يغيّر من نص الكتاب الذي قيّده زيد، خصوصا وأن جميع أصحاب النبي حاضرون ولا سيما أعضاء اللجنة المكلفة بجمع أجزاء المصحف". أقول: هذا إتهام صريح من الشيخ الجزائري لصدق وإخلاص سيّدنا عثمان بن عفان، وكأنه يقول لو كان سيّدنا عثمان بمفرده، لغيّر وبدل في المصحف !!.

أبدع الأستاذ في الفصل الثالث171- 214، حين أظهر تفوق العرب في مجال العلوم التجريبية، ويعتبرأحسن فصل في الكتاب لأنه يشيد بالحضارة الإسلامية معتمدا على نصوص غربية صادقة لم تتأثر بالحقد تجاه العرب. وكان على الكاتب أن ينشر الفصل في دراسة مستقلة، وكان على المجلس الإسلامي الأعلى أن ينشر الفصل الثالث في كتاب مستقل عوض إعادة نشر السقطات التي وقع فيها الشيخ، كاتهامه لسيّدنا معاوية بن أبي سفيان بتحريف القرآن، واتهام سيّدنا عثمان بن عفان بأنه وظف أعداء سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا موقفه تجاه القرآن الكريم، كما زعم الكاتب.

أقترح على المجلس الإسلامي الأعلى، باعتباره ناشر الكتاب في عهد الأستاذ أبو عمران الشيخ رحمة الله  عليه ، إعادة قراءة الكتاب والاكتفاء بالفصل الثالث الذي يتحدث عن تفوق العرب في المجال العلمي التجريبي الذي أبدع فيه الكاتب، والتغاضي عن الفصول الأخرى التي أساء فيها الكاتب كثيرا لسيّدنا رسول الله صلى اللهعليه وسلم ولسادتنا الصحابة رضوان الله عليهم جميعا، أو تكليف من يقوم بتحقيق الكتاب، ويقوم بالتصويب والتقويم على هامش الكتاب.

# من أين يأتي ناجح بهذه المعلومات التي لا أساس لها ؟ :

يقول ناجح عن باتا :

(عوضته الآلهة / وحصرا الاله حورس عن قضيبه المقدم قربانا للاله اوزوريس لان نص الحكاية يعلمنا بان الشاب "بايتي" قد نجح في اتصال ادخالي مع الزوجة التي خلقتها الآلهة وقدمتها له) (ص 76) (88) .

ولا أعلم من اين أتى ناجح بهذه المعطيات التي بنى عليها مثل هذه الاستنتاجات ؟!

فالآلهة التسعة - وحصراً الاله حورس - لم تعوّض باتا عن ذكورته المفقودة بذكورة جديدة ، وقد قال باتا – كما رأينا -  للفتاة بعظمة لسانه : "أنا مثلك امرأة" .. أي أنه مازال فاقد الأعضاء التناسلية .

ولا أعلم كيف عرف ناجح أيضاً أن باتا قد ضاجع الفتاة باتصال ادخالي . فلا توجد - لا في القصة كما صاغها سليمان مظهر ولا في النص الأصلي للأسطورة - أي كلمة أو إشارة إلى ذلك الإتصال الإدخالي المزعوم . وحين يثبت عدم وجود دليل علينا أن نتحوّل إلى تحليل شخصيّة الباحث ومحاولة الإمساك بالعوامل الخفية التي لم تدفعه إلى هذا "التخييل" حسب ، بل إلى الحماسة المفرطة في اعتبار الإخصاء طقسا اوزيريسيا بخلاف كل الأدلة الأسطورية والتاريخية ، وفي اندفاعته المستميتة لجعل كل الرموز الذكورية في الشرق – وفي مقدمّتها  التوراتية – نماذج يجمعها الإخصاء والإتصال الإدخالي وهجران الإلهة الأم ، وفي التعميم الشامل للدافع الجنسي على أغلب الأساطير  والحكايات ، وغير ذلك الكثير من القسر والإكراه التفسيري الذي قد يعكس مكبوتات لاشعورية فاعلة في اللاوعي الفردي للباحث ، وهي مكبوتات – حين تتحكّم وتتسيّد – تبدأ بإرباك النظرة الصافية التي يجب أن يتمتع بها الباحث ، وتوصل إلى طغيان العوامل الذاتية على العوامل الموضوعية مع إيماننا بأن حضور العوامل الذاتية أمر محتم في البحث العلمي خصوصا في المباحث الإنسانية ، وأن لا وجود للناقد الموضوعي الحديدي .

وفي موضع آخر يعود ناجح للتأكيد على نفس المسألة ؛ مسألة تعويض الآلهة لباتا عن ذكورته فيقول :

(هناك تعويض إلهي [في بعض الحالات] للذكورة المقطوعة ، ومكافأة الشاب الذي مارس فعل الاخصاء ، وقد تحقق تعويض في حكاية الاخوين لذكورة الشاب "بايتي" ومنحته الالهة زوجة جميلة جدا ، واعادت له ذكورته ، وطاقته الجنسية - ص 93) (89) .

والمشكلة أن حتى الشكل الأدبي للأسطورة الذي صاغه سليمان مظهر لم تكن فيه إشارة إلى تعويض الآلهة ذكورة باتا المقطوعة ، ولا إلى الإتصال الإدخالي المزعوم . ألا تعكس هذه الإضافات الشخصية جانباً من المكبوت الشخصي الذي يمكن أن يضيف إلى الأسطورة الأصلية ليخلق اسطورة جديدة ؟!

# حول تاريخية حكاية الأخوين وأهميّتها في فهمها :

------------------------------------------------- 

في القسم الرابع من الفصل الثاني الذي يحمل عنوان (حكاية الأخوين وأساطير الشرق القديم) يقول ناجح المعموري :

(إن تاريخية تدوين حكاية الأخوين بـ 1300 ق. م ، وانتشارها في العالم عام 1852 - ص 113) (90).

وهذا نقلا عن (فردريش فون ديرلاين) صاحب كتاب (الحكاية الخرافية) وليس (فريد رسن) كما ذكره ناجح في موضعين . وسأتوقف عند هذا الجانب التاريخي قليلاً لأهميته في تأويل الحكاية كما سنرى . وبدلا من أعود إلى (فريدريش فون دير لاين) ، وهو باحث ألماني في مجال الأدب الشعبي ، أعود إلى إلى الباحث البريطاني "فلندرز بيتري - W.M. Flinders Petrie" (1853 – 1942) المُختص بالمصريّات ، والذي قام بالإشراف على ترجمة وتحقيق برديّة هذه الحكاية ، ومحرّر كتاب "حكايات خرافية مصرية : مترجمة من البرديات – السلسلة الثانية الأسرة الحاكمة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة" - كما ذكرتُ سابقاً - والذي قال إنّ هذه الحكاية تعود إلى حكم الفرعون (سيتي الثاني) الحاكم الخامس من الاسرة التاسعة عشر ، والذي حكم مصر من عام 1200 ق.م إلى عام 1194 ق. م . والإحالة واضحة في البيانات المُثبّـة في نهاية المخطوطة والتي تشير - ولأول مرة - إلى لعنة تقع على من يتكلم ضد هذه البردية بدلا من عبارة المباركة التي كانت تنتهي بها الكتابات التي تسبق هذا العصر ، وهذه سمة كتابات عصر الرعامسة ، ومنهم "سيتي الثاني" . وهذا هو ختام الأسطورة وفيه لعنات الكاتب :

 Excellently finished in peace, for the ka of the scribe of the treasury Kagabu, of the treasury of Pharaoh, and for the scribe Hora, and the scribe Meremapt. Written by the scribe Anena, the owner of this roll. He who speaks against this roll, may Tahuti smite him. (91).

وقد امتازت مدّة حكم سيتي الثاني بكثرة المؤامرات والمكائد . وأهم تلك المؤامرات التي انشغل بها لمدة أربع سنوات من الست سنوات التي حكمها ، هو الصراع المرير ضد أخ غير شقيق له هو (أمون مس) الذي يُقال أنه اغتصب العرش منه لمدة من الزمن .

ومن الملاحظات التي تلفت الإنتباه ، والتي طرحها بيتري ، هي أن الحكاية غير متجانسة فنّيا أو سرديّاً . فالقسم الأول متماسك وجميل وفيه الشخصيات متناسقة وحوادثها واقعية ومعقولة ، أمّا القسم الثاني فهو مرتبك ومتناقض ومليء بالخرافات والمعجزات مما يدل على أن القسم الأول يعود إلى عهود أقدم من عصر المملكة الحديثة (الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة) في حين أضاف أحد الكتّاب المتطفّلين أحداث القسم الثاني . واعتبر بيتري – وهذا رأيه الشخصي – أنّ اللعنات التي صبّها الكاتب على من لا يبارك هذه الحكاية حين يقرؤها هي أصلاً موجّهة للكاتب بفعل إحساسه بتطفّله وسوء تلاعبه بها .

# هل هذا معقول يا ناجح :

حكاية باتا (1300 ق.م) قبل أسطورة تمّوز (3000 ق.م) ؟ :

-------------------------------------------------------

ومن جديد ، يفاجؤنا ناجح برأي متطرّف ومتحمّس يعتبر فيه هذه الحكاية هي أصل كل عقائد الخصب والإنبعاث في الكرة الأرضية !! فهل هذا معقول ؟ حكاية تعود – كما يقول هو نفسه – إلى سنة 1300 ق. م تكون أصلا لعقيدة الخصب العراقية مثلا التي تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد ؟! هل هذا استنتاج منطقي ؟! . يقول الأستاذ ناجح :

(واعتماداً على تاريخ المدونة نستطيع الإشارة إلى أن هذه الحكاية هي الأصل لكثير من الحكايات الخرافية المماثلة لها في بعض من عناصرها وهي أيضا الينبوع الذي تغذّت منه الأساطير الخاصة بعقائد الخصوبة والانبعاث وأضفت ملمحاً أو أكثر على عدد من الآلهة في الشرق وخصوصاً الآلهة الشباب الذين وردت إشارات لهم في متن الدراسة - ص 113 و114) (92).

هكذا بجرة قلم واحدة ، واستنتاج متحمّس سريع ، نشطب على تاريخ مثبّت وعظيم يفوق حكاية الأخوين آلاف المرّات .

يتحدّث العلّامة الراحل "طه باقر" عن الكيفية التي عُرفت بها الأسطورة العراقية (نرجال وإيريشكيجال) التي تدور حول وصف عالم ما بعد الموت بالقول :

(وتنحصر معرفتنا بهذه الاسطورة فيما جاء إلينا مدوّنا على كسرتين من لوحين طينيين عُثر عليهما في مصر ، في الموضع المسمّى "تل العمارنة" (عاصمة الفرعون اخناتون في مصر الوسطى) ، من العصر الذي يسمّى في تاريخ وادي النيل بعصر العمارنة (القرن الرابع عشر ق. م) ، وقد سبق أن ذكرنا أن بعض النصوص الأدبية الأخرى من حضارة وادي الرافدين عُثر عليها في مصر ، حيث يرجح كثيرا أن مدرسة خاصة أُنشِئت هناك لتُعلّم الكتبة المصريين مبادىء الكتابة المسمارية بلغتها البابلية ، يوم أصبح الخط المسماري واللغة البابلية لغة الدبلوماسية والمراسلات الدولية في أقطار الشرق الأدنى والأقاليم المجاورة - ص 234 ) (93).

والمشكلة الأخطر هي أن ناجح له في كل فصل رأي ، ويبدو أيضا أنه حين يكتب لا يراجع ما يكتبه لكي يقارن اللاحق بالسابق كما هي عادة الباحثين الثقاة ، كما أنه لا يمتلك فرضيات ثابتة يتمسك بها لكي لا يناقضها بين صفحة وأخرى . كما أنّه ينقل الإقتباسات من كل المصادر بشرط أن يكون فيها مصطلحات إخصاء وألوهة شابة وسلطة بطريركية وثور سماوي وبقرة مقدّسة وقضيب واتصال إدخالي وغيرها . وهذا يوقعه في التناقضات من ناحية ، وفي التكرار الغير مُمحّص من ناحية أخرى.

 clip_image002_b891b.jpg

clip_image004_81627.jpg

صدر عن مؤسسة الثقافة بالمجان كتاب جديد للأديب ناجي نعمان، هو الخامس والسَّبعون في مسيرته الكتابيَّة، والعاشرُ في سلسلة "حياةٌ أدبًا". يحملُ الكتابُ عنوانَ "بألَمٍ وذكاء قلب"، وتزيِّنُ غلافه لوحة بريشة الفنان التشكيلي حسن جوني. وهو يقعُ في 224 صفحة من الحجم الوسط، ويتضمَّن 312 عنوانًا في القصَّة القصيرة والبَحث القصير والخاطرة، فيما العناوين تتوزَّعُ على توطئَةٍ ومداخلَ وثماني كتابات هي الآتية: نخسرُها الإنسانيَّةَ، ذكاء القلب، إلى فرويد (على أمل أن يُفسِّرَ بعض ما سيأتي)، بَشَريَّات، فِكريَّات، خاصِّيَّات، خاطِفات، ثقافيَّات.

قدَّم للكتاب الدكتور إميل كبا، ومما قاله: "هذا الكتابُ في حُكْمٍ قَبْلِيٍّ إضاءاتٌ، لُمَعُ إدراكٍ ورؤًى أدبيَّةٍ بفئاتِه الثَّماني، وَعْظِيَّةً ومَشْهَدِيَّةً وحتَّى خواطرَ غِنائيَّةً في النُّدرة، تَتوالى كالفِكرِ المُهَروِل في زَحمةِ الأيَّام وضِيق المَراحل، ويُدَوَّنُ المُستَطاعُ منهُ في قُصاصة، نَظيرَ ما تَفْعَلُ إبَّان وُقوفِكَ في بستان، تَنْتَقي منهُ رياحينَ وأورادًا أو تَصْطَفي بعضًا من ثمارِه، عاجِزًا عن أنْ تَحْمِلَها كُلَّها إلى بيتك...

"ما قالَهُ الكاتبُ ناجي نَعمان في كتابه شِرعةُ نظافةٍ كُتِبَتْ بالدَّمع المُبْتَسِم حينًا، وعلى الأكثرِ بسَوادِ المُقَلِ المَسْمولَةِ بالقَبائح. وهي مُجتَمَعاتُنا وحضارتُنا المُتَنَقِّلةُ عبرَ شُخوصنا على دواليبِ العَصر الذَّاهبِ انْحدارًا، حتَّى ما نَجِدُ بارِقَةَ أمَلٍ لإنقاذٍ بِسِوى العودةِ إلى الذَّاتِ الإنسانيَّةِ بغيةَ تَقويم أوَدِها، واسْتِرجاعِ بَكارةِ الخَلْق ِ الشَّريفِ إليها.

"ولَعَلَّ ذكاءَ القَلبِ، الَّذي يُبَشِّرُ به ناجي نَعمان، والشَّائعَ في ثَنايا كتاباتِه كُلِّها، يَلْتَقي وهذا الهدفَ البعيدَ المُستحيلَ المنشود، وما الاستحالةُ إلاَّ مِن أنَّ الحياةَ الإنسانيَّةَ، بنَسَق ِ تأَرْجُحها بين خيرٍ وشرٍّ، مُعَلَّقَةُ الرَّغبةِ والاختِيار أبدًا بين جحيمٍ ونعيم، جَرَّاءَ وُقوفِ الإنسان في مَنزِلَةٍ بين مَنزِلَتَين: الغريزةِ والقَلب، الشَّيطانِ والمَلاك، النَّقصِ والكَمال، الخطيئةِ والتَّوبة. 

"لهذا السَّبب، كُلُّ إبراءٍ يَبْدَأُ مِن الإنسان الفَرد نفسِه، الخَلِيَّةِ الاجتِماعيَّةِ الأولى، كونَه أَهَمَّ مِن البشرِ جميعًا، فهو الَّذي صنعَهُ الله على مِثالِه وليس همْ في تَصَوُّرٍِ لأندريه جيد، أديبِ فرنسا، وبَعدُ، يُعْمَلُ على تَصييرِه خَلِيَّةً خُلقِيَّةً ناصِعَةً مُعافاةً تَنْتَقِلُ عَدواها منه إلى أقرانِه الأبعَدينَ قبلَ الأقربين. ويَقيني أنَّ ناجي نَعمان الكاتبَ، والشَّخصَ على مِثالِِه، في هذا الخَطِّ إنقاذًا للحضارة مِن بُؤسِها المُنْداحِ على سَعةِ المَظالمِ والشُّرور المُتفاقِمَةِ في هذا العصر.

"إنْ دُنْيانا تَفْتَقِرُ إلى عقليَّةٍ أكثرَ من احتياجِها حالاتِ قَوْنَنَةٍ، إلى إصلاحٍ فِكريٍّ يَفْضُلُ إلى بعيدٍ كُلَّ إصلاحٍ ماديٍّ، كَيما تَسْتَرِدَّ شيئًا مِن فردوسِها الضَّائع وتَدْخُلَ زمنَ السَّعادة الحقيقيَّة. والكُتَّابُ، في الفوضى العارمة وتَأَكُّلِ الأنظمة والشَّرائع بشَتَّى التَّجاوزات، بمُستَطاعِهم اسْتحداثُ هذه العقليَّة وهذا الإصلاح، فهمُ الملوكُ والأمراءُ الحقيقيُّون، ويَمْتَلِكون القدرةَ على تحريكِ الرَّأي العامِّ، جاعلين منه السَّيِّدَ الوحيدَ وصاحبَ السَّطوة لتَغيير الأقدار.

"وفي الانتِظار، وسطَ هذا الصِّراع الَّذي نَحياه، إنسانيَّةً وحضارةً، وفي رِبْقَة الشَّقاء البَشريِّ بمَعناهُ الوجوديِّ المُلْتَبِسِ، فلنُفَكِّرْ بالضَّوء لا بالأَمجاد، ولنُغَنِّهِ، فِعْلَ ناجي الكاتبِ والشَّخص، طريقةَ انْتِصار، وإذ نَفْعَلُ يَفْضُلُ غناؤُنا كلَّ غناءٍ لأنَّه السَّاطعُ برِضانا وصداهُ أبدًا هو النُّور.

"إذًا، يا كاتبًا بالأَلَم، لِنُغَنِّ ونُبَشِّرْ بالأَمَلِ لا الخَشْيَة، فنَحْصُدَ الفرحَ، مُرْدِي الانفعالاتِ والضَّغائن، مُرَدِّدين معك ما يَقولُه مُحَيَّا كتابِك الباسمِ السَّاخر مِن غيرِ شَتيمة: ألحزنُ ليس أبدًا نبيلاً، وليسَ أبدًا جميلاً، وليس أبدًا لِيُفيد".

المزيد من المقالات...