د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 246

-1-

واهمٌ من يُحسِن الظنَّ بمَن يرفع اليوم شعارات برَّاقة في التحضُّر والحُريَّة.  ذلك أن المجتمع الذي يقوم على قوانين معلنة، تنطلق من مبادئ الحق، والحُريَّة، والعدل، وقبول التنوُّع، والمساوة، وتكافؤ الفُرَص، هو المجتمع المؤهَّل للخروج عن المجتمع العشائري، الناهض على المغالبة.  في هذا المجتمع الأخير فإن مَن امتلك القوّة صار الحقّ معه، وباتت له الكلمة الفصل، ومن ثمَّ فلا قِيْمة لقِيْمة إنسانيَّة أو حضاريَّة تتعارض مع مصالحه.  في واقع مثل ذاك يُصبح التلميذ أستاذ أستاذه الذي ربّاه وعلّمه، والمرؤوس رئيس رئيسه، وصغير القوم كبيرهم، لا لتفوقه، ولكن لأنه ينتمي إلى هذه الفئة، أو إلى تلك العشيرة، أو هاتيك القبيلة. 

والمتأمّل في عالمنا المعاصر، يلمح أن الإنسان البدائي القَبَلي ما زال هو السلطان في الشرق والغرب.  غير أن المجتمعات التي ذاقت الأمرَّين من ذلك الواقع الهمجي، جعلت القوانين عِنانًا دون تغوّل الوحش داخل الإنسان.  أمّا في المجتمعات الأخرى، التي ما زالت تحكمها عقليّة "القبضايات"، فقبائل متناحرة، يومها كأمسها، سوى أنها في يومها تُلبس الباطل لبوس الحقّ، بعباءات من التشريعات والأنظمة والقوانين المصطنعة لمآرب تتغيّر بتغيّرها.  ومجتمعات كهذه سيظلّ يأكل قويّها الضعيف، وغالبها المغلوب؛ من حيث هي لا تعدو غابات حديثة، لا تأخذ من التحضّر سوى قشوره دون اللباب.  على أنها في سبيلها إلى الانقراض، أو في سبيلها لتبقى على مسرح العالم الهزلي، فُرجة للعالمين، وعبرة لمن يعتبر.  ولا أمل في نهوض مجتمعات كهذه، فضلًا عن منافستها في عمران الكون، ما لم تشهد تغييرات جذريَّة في بنياتها العقلية ورؤاها القيمية والحضاريَّة.  وهو ما يبقَى حُلم المخلصين، وأمل النابهين.

في مجتمعات ترسف في ماضيها، يقف عادةً أفراد القبيلة صفًّا واحدًا، كالبنيان المرصوص، منافحين عن ذمار القبيلة وتقاليدها، بلا وعيٍ تارةً، أو بلا حسٍّ نقديٍّ، وتارةً نفاقًا وانتفاعًا.  ويصبح مريد الإصلاح، وناقد الحال، خائنَين، يُنعتان بأقذع الأوصاف.  إذ مَن لا يمدح القبيلة، فليس منها، ومَن لا يدسّ رأسه في الرِّمال، مصفِّقًا للسَّراب، لاعنًا النور، منكرًا عيوب نفسه وأهله، فليحتمل الشتم والهتك، والتصفية المعنويَّة، وربما الجسديَّة.  ومعظم دَور الإعلام اليوم، وأربابه في العالم الثالث، ما برح على هذا المسرح، باثًّا خطابه "الديماغوجي" البائس.  لكن هذا الضرب من الإعلام إعلام منكفئ على أوراقه الصفراء، لم يفهم بعد أن العصر قد تغيّر، وأن الإعلام البديل قد خلع الأقنعة، وأن خطاب الأمس بات نكتة اليوم. 

-2-

وكثيرًا ما يتناهى إلى أسماعنا في هذا السياق الترنّم على أوتار "الخصوصيّات"، والاحتجاج عليها أحيانًا بالدِّين، أو إلباسها جبّة الدِّين.  على الرغم من أن الدِّين القيّم لا يؤمن بالخصوصيّات، بل هو دينٌ لله وحده، إلى الناس كافّة، كلّ الناس في معياره إخوة متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود: "يسعى بذمّتهم أدناهم". 

على أن الخصوصيّة الصحيحة- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- التي يمكن أن تكون بنائيّة، هي كتلك الخصوصيّة اليابانيّة، على سبيل الشاهد، المنفتحة والمتطوّرة.  من حيث إن الخصوصيَّة اليابانيَّة ما زالت تتمسّك بمروحتها، وعيدان أرزها، وأزيائها، ولغتها، دون أن تجعل ذلك معيقًا دون تواصلها الحضاري مع العالم.  فهي تلتزم بالجوهريّ من شخصيّتها، مع تطويعه للحياة والاستمرار، أو حتى تطويعه للموت، إن لزم الحال، وفق الظاهرة اليابانيَّة النازعة إلى الانتحار!

أذكر- مثلاً- في أكثر من سياق أنني شهِدتُ كيف أن الياباني يُصِرّ على استعمال لغته، مع أنه لا يجهل اللغة الإنجليزية.  وفي إحدى المناسبات كنت في جَمع مع شخصيّات يابانيّة وعربيّة، فكان العربيّ كعادته يسارع إلى المخاطبة بالإنجليزية فلا يجيبه الياباني بالإنجليزية، وإنما يردّ بلغته، ليقوم المترجم بنقل ما قال إلى العربيَّة، مع أنه قد يفوق إتقانًا الإنجليزية مخاطِبَه العربي.  وتلك عُقدة عربيّة، بامتياز، (أعني: اللغات الأجنبيَّة، ولاسيما الإنجليزية).  وذات يوم كنتُ ضمن وفد إلى (الاتّحاد الأوربي)، فأحضروا لنا من المترجمين والمترجمات ما قدّروا الاحتياج إليه.  غير أنهم دهشوا حين وجدوا "رَبْعَنا" لا يحبُّون أن يتحدّثوا باللغة العربيّة بل بالإنجليزيّة.  فكان الأمر لا يخلو من طرافة "شيزوفرينيَّة".  يحدث هذا، مع أننا لا نكفّ عن التغني بأن اللغة العربية لغتنا الرسمية، وبالرغم من التعميمات تترَى بذلك، وأنها وسعت كتاب الله لفظًا وغاية، إلى نهاية سيلنا العَرِم من الشعارات.  فأُمتنا كغيرها لا تخلو من استشعارٍ نظريٍّ بأن اللغة هي الإنسان، وهي تراث أُمَّةٍ وثقافتها وهويّتها، حين تضيع تضيع معها تلك الأُمّة والثقافة والهويّة، وحين تتضعضع تزلزل وجود الناطقين بها.(1)  إلّا أننا حين التطبيق نفشل، أو نتلجلج، أو نختلف.  ولهذه العقدة حكاية وتاريخ طويل في عصرنا الحديث. 

وهكذا يتبدَّى أننا كثيرًا ما نترك من الخصوصيّات أركانها البانية والمشكِّلة للهويّة الوطنيّة والقوميّة، فيما قد نصطف في المقابل للمنافحة عن القشور منها والتمسّك بالضار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  حول اللغة، وخطورة معناها في حياة الأُمم، يمكن أن تتابع حلقة نقاش مع (نعوم تشومسكي)، على موقع "اليوتيوب":

.....................................................................................................

[email protected]

https://twitter.com/Prof_A_Alfaify

http://www.facebook.com/p.alfaify

http://khayma.com/faify

________________________________

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان المقال: «في الثقافة واللغة!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الثلاثاء 21 فبراير 2017، ص36].

هذا البحث بلغ قمّة القراءات في موقع النور الكبير (53124) قارئاً ، ولعله أكثر بحوثي قراءة ، إذ نشرته في عشرات المواقع والمجلات والكتب ، اقرأ وتمتع ، بالشعر والنقد والفكر والأدب /// التجديد في الشعر العربي - المجدد الأول بشار بن برد - - العصر العباسي - كريم مرزة الأسدي - 

وقالت لن ترى أبدا تليدا *** بعينك آخر الدهر الجديدُ 

 ما بين الجديد والتجديد :  الجديد   :  مع إطلالة بدايات العصر العباسي يجدّ ُ الجدّ ُ مع التجديد ، لا الجديد ، لأن الجديد ظاهرة تسير مع مسار الزمن ، والعين أبداً لا ترى المستقبل السديد ، ولا الماضي  الغابر منه والتليد ، يذكر ابن منظور في لسانه قول الهذلي - يعني أبا ذؤيب - معقباً بعده " :  

 وقالت لن ترى أبدا تليدا *** بعينك آخر الدهر الجديدُ 

فإن ابن جني قال : إذا كان الدهر أبدا جديدا فلا آخر له ، ولكنه جاء على أنه لو كان له آخر لما رأيته فيه . والجديد : ما لا عهد لك به ، ولذلك وصف الموت بالجديد ..." (66) ، ونحن من حقنا أن  نعقب أيضاً : ربّما مع ابن جني بعض الحق عقبى رؤيته لمنطلق الشاعر الجاهلي المخضرم بالإسلام ، ولكن نستطيع أن نوجهه صوب القفزة الفكرية المبدعة ، ونقول : نعم - أيها المرحوم ابن جني - الدهر ابداً جديد ، وإن لم يتجلَ الأمر لك في عصرك التليد !!  فأين موقع آخر الدهر زمنياً ؟ - وإنْ أردت بمعنى آخر - متى تتم لحظة أخر الدهر ؟ هل في نهاية الزمن المطلق ، إذ لا زمن بعده ولا دهر ، فيأتي الجديد الذي لا نفقهه ، ولا ندرك ماهيته ؟! أم عند موت الإنسان ، وهو الجديد الذي لا لذة فيه  ؟  أم في اللحظة التي أنت فيها ، ولا تعلم ما بعدها شيئاً  ، وما يخبَأه القدر لك وللدنيا جمعاء ؟ فإذن في المعنى الأخير ، الدهر أبداً جديد ، وما بعد اللحظة المستجدة بمشيئة الله , لحظات خاطفة على طوال الدهر جديدة ، وإلى مثل هذا ذهب العبقري الخالد ابن الرومي ، مع إبدال كلمة  (جديد) بـ (حديث) ، فما (الحديث) إلا الحديث المباشر، أمّا ما قبله مباشرة ، فهو قديم ، اقرأ  قوله :

ولقد سئمتُ مآربي*** فكأن أطيبها خبيث ُ

إلا الحديث فإنه *** مثل اسمه أبداً حديث ُ

    والحديث آني جديد  ، وما أن يتفوّه المحدّث حتى تتلاقف آذان المستمعين الموجات الصوتية ، وينتهي الحديث الجديد ، ويبقى العقل يحلل منه ما يشاء ، ويركب منه ما يشاء ، إذ يخزن في خلايا الحفظ المخية إلى زمن يختلف من فرد إلى آخر لتذكره ، كلـّه أو بعضه ،  ولمّا كان الأمرهكذا ، فنحن أعجز من أن نسترد القديم ، ولو لحظة ، لذلك يقول أبو العلاء المعري : 

أمس الذي مرَّ على قربه *** يعجز أهل الأرض عن ردّه.

التجديد :  معنى يجدّد في قاموس المعاني (قاموس عربي عربي) : جدَّدَ يُجدِّد ، تجديدًا ، فهو مُجدِّد ، والمفعول مُجدَّد ( للمتعدِّي) ، جدَّد الأديبُ (آداب) جاء بالجديد،وأبدع وابتكر" جدّد الشعراءُ المعاصرون في شكل القصيدة ،- حركة التجديد في الشِّعر مستمرّة ".

 جدّدَ  جدّدَ الشَّيءَ : صيَّره جديدًا حديثًا " جدَّد هواءَ الغرفة - أثاث بيته ، - جدَّدت الحكومةُ قطاعَ السِّكَّك الحديديّة ، - جدَّد أسلوبه الروائيّ " . (67)

فـ (التجديد ) الإنساني ، هو حصيلة فعل مقصود لفاعل هدفه التغيير المنشود ، لأن الإنسان بطبعه مجبول للتطلع نحو الأفضل ، لذلك يذكر الزبيدي في (تاج عروسه) : " يقال : بلى بيت فلان فأجدَّ بيتا من شعر، وأصبحت ثيابهم خلقانا وخلقهم جددا ..." (68)  ، ويروي المبرد في (كامله) عن  يزيد المهلبي قوله : 

ليشكر بنو العباس نعمى تجددت *** فقد وعد الله المزيد على الشكر (69 ) 

إذن التجديد تمَّ على يد بني العباس على حد قول الشاعر ، ولكن من ورائه تقف إرادة الله غيباً  ، فبنيت بشكل مغاير متجدد مخالف لدولة بني أمية،وعادت مرّة ثانية إلى أهلها من بني هاشم، والحقيقة أن التجديد بادئاً هومصطلح فقهي إسلامي، قبل أن يطلق على الشعر ، وذلك لحاجتهم إليه لتجديد الوضوء ، وولاية العهد ، والفارق المهم أنّ التجديد في الشعر هو ابتكار وإبداع، وجاء صاحبه بجديد غير مسبوق ، ولا مطروق، بينما في حالة الوضوء وولاية العهد وغيرهما ، فالتجديد هو إعادة أو ترميم أو مبايعة لعمل سابق ، لا يتضمن معنى الابتكار والإبداع ،  ومن بعد سيطلُّ علينا مصطلح ( الحداثة ) في الشعر الذي نادت به مجموعة من الأدباء الفرنسيين من مختلف الأتجاهات في منتصف القرن التاسع عشر كشارل بودلير ومالا راميه واغوستاف فلوبير ، وبقى المصطلح لصيقاً بمرحلتهم ،  فقسم العصر إلى شطرين ، ما قبل الحداثة ، وما بعد الحداثة ، وإن زعم بعضهم قد بزغت شمس الحداثة في القرن السادس عشر الميلادي ، وسار على نهج الحداثويين من العرب يوسف الخال وأدونيس والدكتور عبد العزيز المقالح   ونترك الأمر لمّا يأتي الأمر.

وفي كلا الحالين التجديد أو الحداثة ، يجب أنْ يتمّا على أيدي مبدعين ، ويعرف هؤلاء المبدعون أنهم أتوا بجديد، ويعلنوا بشكل رسمي بإبداعهم وابتكارهم ، وإنْ لم يتعوّد القدماء على الإعلان الرسمي ، تاركين الأمر للنقاد كي يعلنوه ، وسيمر علينا ابن المعتز في بحثنا هذا ، ونرى أنه فقه الإبداع في (بديعه) ، وأشار إلى نفسه ، بأنه الرائد الأول في تصنيف كتابه الإبداعي !! 

وفي كل زمان ، وبأيّ مكان ، يحدث صراع بين من يحمد القديم ويقدسه ، وبين من يناصر الجديد المتجدد وتطلعه ، قال ابن شرف القيرواني ( ت 460 هـ / 1168 م) ، وكان جديداً :

قل لمن لا يرى المعاصر شيئاً *** ويرى للأوائل  التقديما

إنً داك القديم كان جديدا **** وســـيغدو هذا الجديد قديما

ويعلل ابن الشرف نفسه سبب التقديم قائلاً :

أغري الناس بامتداح القديم*** وبذم الجــــديد غير ذميم 

ليس إلا لأنهم حسدوا الحيّ***ورقـّوا على العظام الرميم (70).

والدنيا تدورغير حافلة بهذا أو ذاك ، فتترك الأمر لمن يحسم الصراع ، وتصفق لمن يحتلّ حلبة السباق ، وتدير وجهها لمن يحيطه الإخفاق !!

أهم مجددي العصر العباسي :

1 -المجدد العباسي الأول بشار بن برد (توّلد 96 هـ / 714 م - توفي  168 هـ / 785 م) :

 أ - نبذة من حياته:

 أول من بادر بالتجديد في العصر العباسي بشار بن برد ،إذ أخذ بعض أساليب ومضامين القصيدة المعهودة إلى منحى آخر فارضاً نفسه بقوة الشعر وتجديده الجميل ، إذ أذاب الصنع بالطبع ، والحداثة بالأصالة ، والبداوة بالحضارة ،والعلم بالشعر ، والمجون بالشموخ ، والخلاعة بالحكمة ، والبحور القصيرة الراقصة إلى جنب البحور الطويلة المهابة ، ولكن دون الخروج على عمود الشعر بمعانيه السامية ، ومطالعه البديعة ، وإن تغاضى أحياناً عن ألفاظه الرفيعة ، بحكم تداخل الحضارات ، والأجناس والأغراض الشعرية ، وفي كلّ ذلك كان مجدداً في أسلوبه العذب الرقيق  ، والمهاب الشامخ ، وفي معانيه السامية التي لم تُطرق من قبل توليده وخضرمته ، وفي ألفاظه التي قاربت أسماع العامة ، والشعب الجامع ، بعبارات سريعة المأخذ ، سهلة الحفظ ، وفي بديعه المصنوع المبتكر بفنونه ، وفي بحوره القصيرة الراقصة الخليعة ، وفي شعوبيته الجريئة الساخرة من الأعراب الذين استصغروا شأنه ، فهو مجدد في هجائه الساخر ، وغزله الخليع ، وفخره المنيع ،والشاعر العملاق كان مطبوعا، وصاحب صنعة شعرية ، وفناناً كبيراً في تخيّله وإيحاءاته وصوره الحسية الملموسة - وإن كان بصيراً ، ويأتيك بالتشبيهات الرائعة ، والصور المركبة ، مما يجعلك مبهوتا ، ونختم المقدمة بما رواه صاحب الأغاني عن الرياشي قوله :" سئل الأصمعي عن بشار ومروان أيهما أشعر؟ فقال: بشار؛ فسئل عن السبب في ذلك، فقال: لأن مروان سلك طريقاً كثر من يسلكه فلم يلحق من تقدمه، وشركه فيه من كان في عصره، وبشار سلك طريقاً لم يُسلك وأحسن فيه وتفرد به ، وهو أكثر تصرفاً وفنون شعر وأغزر وأوسع بديعا، ومروان لم يتجاوز مذاهب الأوائل ..." (71)

 بشاربن برد كان يكنى  أبا معاذ  ، ويلقب بالمرعث ، لأنه كان في أذنه وهو صغير رعاث شأن بعض غلمان زمانه وهي الحلى التي تعلق بالآذان ، ولد في البصرة بالتاريخ أعلاه من أب طيان ، أصله فارسي من طخارستان غربي نهر جيحون ، وكان برداً مع امرأته ملكاً لامرأة عقيلية ، قيل أنها أعتقته من الرق ، فنشأ بين شيوخ بني عقيل الفصحاء ، وقوّم لسانه  حتى أصبحت لغته عربية خالصة ، ومن شعره الذي يفتخرفيه بعروبته المكتسبة حقّاً ، وبأصله الفارسي وراثة ، قوله :

ألا أيها السائلي جــــاهدا ******** ليعرفني أنا أنف الكرم

نمتْ في الكرام بني عامر*** فروعي وأصلي قريش العجم

عاصر الدولتين الأموية والعباسية ، فهو مخضرم ، كان ضريراً ، شريراً، ماجنا ، خليعاً ، حاقداً على الناس بسبب عماه ، ولكن قلب الصورة ، فأخذ  يفاخر بالعمى لكي لا يرى الناس  ، وكان القوم يخافون لسانه فيشكونه إلى برد أبيه فيضربه ضرباً شديداً فكانت أمه تقول : " كم تضرب هذا الصبيّ الضرير ،أما ترحمه ؟‍‍ ‍."،فيقول : "ويلي والله إني لأرحمه ولكنه يتعرض للناس فيشكونهُ إليّ " فسمعه بشّار فطمع فيه فقال له :" يا أبتِ إن هذا الذي يشكونه مني إليك هو قول الشعر ، وإني إن ألممت عليه ، أغنيتك وسائر أهلي ، فإن شكوني إليك ، فقل لهم : أليس الله يقول ( ليس على الأعمى حرج ) فلما عاودوا شكواه ، قال لهم برد ما قاله بشار فانصرفوا وهم يقولون : " فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار" (72) ، هجا جريراً فأعرض عنه، و كان يقول : لو هاجاني لكنت أشعر الناس...!!

عاد للبصرة ، وكانت حاضرة عربية إسلامية ، حافلة بالفقه واللغة والشعر ، والقراءات ، والأحاديث ، والنحو ، والرواية ، والمنطق ، والكلام ، ...فأخذ كثيرا من علمائها وشعرائها ومتكلميها ، واتصل بواصل بن عطاء شيخ المعتزلة  وغيره ، و كان حاد الذكاء ، سريع الحفظ ، فنظم الشعر ، وهو في العاشرة (73) ،   وعندما مال إلى الزندقة والإلحاد ، اشتهر بذلك ، وتعرف على (عبدة) ، سيذكرها في شعره ، فنُفي من البصرة سنة (127 هـ  / 745م) تحت ضغط أهلها ، وفقهائها ، مثل واصل بن عطاء ، وصالح بن عبد القدوس ، وعمرو بن عبيد ، لتهتكه وزندقته ومجونه وعبثه ولسانه  ،حاول الأتصال بالخلفاء الأمويين ، وقصد سليمان بن هشام ، فرجع خائباً ، ، ورجع إلى والي العراق يزيد بن عمرو بن أبي هبيرة الفزاري ، ومقره الكوفة  ، فنال حظوة لديه ، وكرّمه ، لإعجاب الأمير بشعر الضرير ، وإجلاله لمدحه ،  وعندما قتل الأمير (132 هـ / 750م )  ، إثر قيام الدولة العباسية ، اختفى الشاعر ، ثم ظهر بالبصرة بعد وفاة واصل ، فشنّع  عليه مجدداًعمرو بن عبيد حتى نفاه من البصرة مرّة ثانية ، ولمّا توفي عمرو سنة 145 هـ ، رجع للبصرة ثالثة ، ورحب به أهلها، فمدح ولاتها ، وارتحل إلى بغداد ، ومدح الخليفة المنصور ، فلم ينعم بحظوته وهداياه ونعمه، للنزعة الأقتصادية التي كان يتمتع بها المنصور الدوانيقي لبناء الدولة ، ولكن لما قام الخليفة المهدي بالخلافة (سنة 158 هـ / 775م) ، قدم عليه بشار ، فمدحه ، ونال منه كرما وفيراً ، ومالاً جزيلاً ، ومشكلته اعتداده بنفسه ، وزهوه بشاعريته حتى الفجاجة ، فهجا وزراء الخليفة ، بل وصل إلى مقام الخلافة :

بني أمية هبوا طال نومكمُ ***** إن الخلـــيفة يعقوب بن داود 

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا***خليفة الله بين الزقِّ والعود

 وتمادى هذا البشار بالأمر، وكان كما يقول الأصمعي : ضخما عظيم الخلق والوجه مجدورا ، طويلا جاحظ المقلتين ، قد تغشاهما لحم أحمر ، فكان أقبح الناس عمى وأفظعه منظرا ، وكان إذا أراد أن ينشد يصفق بيديه ، وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله ، وكان أشد الناس تبرما بالناس ، ومع كل هذه الصفات  الأصمعية للضرير ، أخذ يفحش القول للنساء ، بلا أيِّ ذرة حياء ، وكان الخليفة المهدي شديد الغيرة على النساء ، فحقدعلى بشار ، فتجمّعت عليه الضغائن ، ولم يتوقف الشاعر عن غيّه ، وبعد شربة سكر ماجنة ، قام  مصدّحاً بالأذان  قبل حينه ، فتفجر المهدي غيظاً، وكان يشنّ حملة ساحقة على الزنادقة ، فلفّه معهم لفاً ، فأمر به أنْ يُضرب بالسوط في البصرة ، فضرب بسبعين سوطاً حتى الموت ، ودفن فيها ، ويروي صاحب الأغاني ، لم يشيع جثمانه سوى أمة أعجمية سوداء ، هل تصدق أنت خبر المرحوم الأصفهاني ، وقد أفرد امرأة : أمة غير حرّة ، وأنثى وليس بذكر ، وأعجمية وما هي بعربية ، وهذه الصفات كانت لها مغزى كبير في عصرها، ناهيك عن عصرنا في بلداننا العربية ؟ أما أنا فلا أصدق ، والخبر أما أن يكون قد دسّه المؤرخ  الأدبي بقصد الإهانة لبشار ،  أو تجاهل تمحيصه لعدم الأمانة ، أو تغافل المعيار!     

   ب - حسن المعاني وتهذيب الألفاظ :

 يذكر ابن رشيق القيرواني في (عمدته) ، سئل بشار : " بم فقت أهل عمرك وسبقت أبناء عصرك : في حسن معاني الشعر، وتهذيب ألفاظه ؟ قال : لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي  ، ويناجيني به طبعي ، ويبعثه فكري ،  ونظرت إلى مغارس الفطن ،  ومعادن الحقائق ، ولطائف التشبيهات ،  فسرت إليها بفكر جيد ،  وغريزة قوية ، فأحكمت سبرها ،  وانتقيت حرها ، وكشفت عن حقائقها ، واحترزت عن متكلفها ، ولا والله ما ملك قيادي الإعجاب بشيء مما آتي به  " (74) ، كما قرأتَ فالرجل قد عجن الطبع الفطري لموهبته ، وإرهاف حسّه ، وفسجلة تكوينه النفسي لكونه من المولدين ، فارسي الأصل... بالخلق الإبداعي الفكري التخيّلي اللغوي لصناعته ، وتطويع لغته وفكره سبراً وكشفاً دون تكلف وإعجاب ، ولابد أن نشير أنّ بشاراً قد تفاعل واستوعبَ النهضة اللغوية والاجتماعية في عصره ، وعكسها في شعره ، فاعتمد على عمق الفكرة ، وأسلوب البيان  وعنصر المفاجأة ، والإحساس الإنساني الشمولي لتجاوز عقدة نقص التوليد العرقي ، لهذا بشار وأصحابه " زادوا معاني ما مرت قط بخاطر جاهلي ولا مخضرم ولا إسلامي ، والمعاني أبداً تتردد وتتولد ، والكلام يفتح بعضه بعضاً ..." (75)

 وبكلمة أخرى تأثر فيها ببيئة (البصرة ) الكلامية و الفلسفية والاجتماعية واللغوية ، فمزج بين أصالته البدوية حيث نشأ في أحضان بني عقيل الأعراب الأقحاح  الفصحاء ،  وبين حاضرة البصرة بفنونها وزخارفها وبساتينها وتنوع أجناسها،فاستمد الناس منه فاكهة رفيعة القيمة:  من راقب الناس لم يظفر بحاجته*** وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

والرجل كان رائعاً في مطالع قصائده،ملهماً في وصفه رغم فقدان باصرته ،لا بصيرته ، دقيقاً في اختيار شوارد كلماته - مع بعض الشاذ من منظومه - متناسقاً في التوفيق بين ألفاظه البليغة ، وملائمتها للمعاني الشريفة ، وأنغامها الإيقاعية الشجية حتى قال  (الحاتمي) : إنّ أحسن ابتداء لشاعر محدث هو- يعني قول بشار - : 

أبى طلل بالجزعِ أنْ يَتكلما *** وماذا عليهِ لو أجابَ مُتيما

وبالقاعِ آثارٌ بقينَ وباللوى*** ملاعبُ لا يغرفنَ إلا تَوهُّما (76)

تأمله ، وقد صكَّ سمعك بذكرى النفر الماضين في مطلعه ....لخولة أطلال ...متيم قلبها ...وسقط اللوى... رائحة الماضي تطيب الأنوف ، وكذلك برع في وصفه التقليدي حتى أنـّه رفع بالواقع إلى مستوى الخيال المبالغ المتحدي زهواً وفخرا، ولا ألومه على سمو فخره ، كما فعل بعض النقاد القدماء ، ممن لا يفقه جبلة الشعراء ، فيعدّهم سوية العلماء ! :  

اذا ما غضبنا غضبةً مُضريةً***هتكنا حجابَ الشمسِ أو قطرتْ دما

إذا ما أعرنا سيداً من قبيلةٍ *****  ذرى منبرٍ صلّى علينا وسَــــلما

ولم يكتفِ باستهلاله المتميز، بل أراد أن يصول ويجول بتشبيهاته الجاهلية المركبة في صورها المعقدة  حتى وصل امرأ القيس وجاراه مقلداً ومنازعاً ، وفاقه متفلسفاً متكلماً  : 

وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى***وبالشوك والخطى حمرثعالبُهْ

غدونا له والشمس في خدر أمها*** *تطالعنا والطل لــــم يجر ذائبُهْ 

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا *** **وأسيافنا ليــــــــل تهاوى كواكبُهْ

لهذه الموازنة العبقرية الفائقة بين أصالة القديم بفخامته وحداثة العصر بحضارته ، وحروف قوافيه السهلة النطق من ميم ونون وباء وراء ، بإطلاقها ، ووصلها , وحركاتها ، القابلة للإنشاد والغناء ، جعلت معاصريه يفضلونه ، فالأصمعي يعتبره (خاتمة الشعراء) (77) ، والجاحظ يعدّه الأشعر قائلاً :" وليس مولد قروي يعد شعره في المحدث إلا وبشار أشعر منه ..." (78) ، والجاحظ الكبير  ، يعني ما يقول ، فبشار حافظ على البنية التشكيلية للقصيدة  القديمة مهابة وضخامة وبلاغة ، وأدخل عليها من المضامين الجديدة إبداعاً ، تميّز به جمالاً ، فبقى خالداً في الحافظة العربية  ، بل يزيد القيرواني في (عمدته ) مؤكداً على أنه أفضل من أبي نؤاس ، الحسن بن هاني ، قائلاً : "  أشهرهم وأشعرهم بشار بن برد ، وليس يفضل على الحسن مولد سواه..." (79) .

ج - أول مَن فتق البديع : 

ولم يكتفِ القيرواني - وغيره ومما نحلل - بهذه الريادة الفنية ، والأفضلية الشعرية أن يمنحها لبشار ، حتى عندما آتى على البديع ، وتدرج منوهاً بروّاده الأوائل كالصريع المسلم ، وأبي تمام الحبيب ، والبحتري الوليد ، وابن المعتز العبد الله   ، ولكن  جعل بشاراً مفتقاً لهذا العلم ، ونلخص لك استشهاداً : "... فأما حبيب فيذهب إلى حزونة اللفظ، وما يملأ الأسماع منه ، مع التصنيع المحكم طوعاً وكرهاً، يأتي للأشياء من بعد، ويطلبها بكلفة، ويأخذها بقوة . وأما البحتري فكان أملح صنعة، وأحسن مذهباً في الكلام، يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة. وما أعلم شاعراً أكمل ولا أعجب تصنيعاً من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي ألطف أصحابه شعراً، وأكثرهم بديعاً وافتتاناً، وأقربهم قوافي وأوزاناً، ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب، غير أنا لا نجد المبتدئ في طلب التصنيع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعاً منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم بن الوليد؛ لما فيهما من الفضيلة لمبتغيها، ولأنهما طرقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقاً سابلة، وأكثرا منها في أشعارهما تكثيراً سهلها عند الناس، وجسرهم عليها. على أن مسلماً أسهل شعراً من حبيب، وأقل تكلفاً، وهو أول من تكلف البديع من المولدين، وأخذ نفسه بالصنعة، وأكثر منها. ولم يكن في الأشعار المحدثة قبل مسلم صريع الغواني إلا النبذ اليسيرة، وهو زهير المولدين : كان يبطئ في صنعته ويجيدها وقالوا: أول من فتق البديع من المحدثين بشار بن برد، وابن هرمة، وهو ساقة العرب وآخر من يستشهد بشعره. ثم أتبعهما مقتدياً بهما كلثوم بن عمرو العتابي، ومنصور النمري، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس. واتبع هؤلاء حبيب الطائي، والوليد البحتري، وعبد الله بن المعتز؛ فانتهى علم البديع والصنعة إليه، وختم به. وشبه قوم أبا نواس بالنابغة لما اجتمع له من الجزالة مع الرشاقة، وحسن الديباجة، والمعرفة بمدح الملوك. وأما بشار فقد شبهوه بامرئ القيس؛ لتقدمه على المولدين وأخذهم عنه، ومن كلامهم: بشار أبو المحدثين..." (80) ، ومن جديده ايضا حسن التعلل فهو يتناسى العلة الظاهرة ويلتمس علة أخرى طريفة مثل :

عميت جنينا والذكاء من العم***فجئت عجيب الظن للعلم موئلا

وكذلك في قصيدةٍ أخرى له ، يراها ابن المعتزفي (طبقات شعرائه) مثالاً حسناً لإحكام رصفه وحسن وصفه أولها :

جفا جفوة فازور إذ مل صاحبه *** وأزرى به أن لا يزال يصاحبـه

خليلي لا تستكثرا لوعة الهوى***ولا لوعة المحزون شطت حبائبه (81)

سمات البديع في البيتين جلية ، ففي البيت الأول تربّع الجناس غيرالتام مرتين (جفا : جفوة ، صاحبه : يصاحبه )   ، والتكرار في البيت الثاني في (لوعة ...) ، ولم يكن بشار قاصداً البديع ، وإنما البديع  جاء على لسانه عفوياً ، وكانت :"العرب لا تنظر في أعطاف شعرها، بأن تجنس أو تطابق أو تقابل، فتترك لفظة للفظة، أو معنى لمعنى، كما يفعل المحدثون، ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته، وبسط المعنى وإبرازه ، وإتقان بنية الشعر، وإحكام عقد القوافي، وتلاحم الكلام بعضه ببعض (82) .

فذلكة الأقوال بشار فتق علم البديع ، ومسلم توسع فيه وأسس له اسما , وحبيب وضع منهجاً ، ووسِم به ، وابن المعتز صنف مؤلفا منه ،وأبدع فيه , أما دعبل وأبو نؤاس والبحتري , شرعوا به ، وتخلصوا منه منعاً للتكلف والصنعة  والإسفاف ، كما يزعمون ويقدرون . 

د - الأبحر القصيرة الراقصة ، والطويلة المطربة الغناء ، وشعر الغزلالحسي المفضوح  :   

وبشار حبّذ الأبحر القصيرة الراقصة ، وأكثر منها بمجون وعبث ، ويروي ابن المعتز حادثة حدثت في عهد جدّه الرابع - لأن المتوكل جدّه الأول -  ولا أميل لذكرها بالتمام ، لأنّ مقدمتها تخدش حياء هذا الزمان !! ولكن الشعر شعر من بعد ، يقول ابن المعتز الذي استخلف ليلة واحدة ، وقتل فيها ( 296 هـ / 908 م) ، قال المهدي لبشار : " أجز هذا البيت. 

" أبصرت عيني لحيني " فقال بشار على البديهة :

 "أبصرت عيني لحين" **منظراً وافق شيني

سترته إذ رأتني  *****  تحت بطن الراحتين

فبدت منهُ فضول *****   لــــم توار باليـدين

فانثنت حتى توارت ***** بيـن طيٍّ العكنتين

فقال المهدي: والله ما أنت إلاّ ساحر، ولولا أنك أعمى لضربت عنقك ..." (83) 

    بل حتى في أبحره الطويلة يتوخى الطرب والغناء ، , وننقل عن (طبقات ) المعتز نفسه  مما من غزله الطيب الحسن المليح قوله :   فـ " ، يعكس عن نفسية مليئه بالغرام والمجون  

يا منية القلب إنّي لا أسميك ِ***** أكني بأخرى أسميها وأعنيـكِ

يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر***  إلاّ شهادة أطراف المساويك

قد زرتنا زورة في الدّهر واحدة **فاثني ولا تجعليها بيضة الديكِ " (84) . 

 هل أنت معي تتأمل كيف يقتني الكلمات البسيطة العذبة الرقيقة  المحببة  من مسامع عامة الناس دون تبذّل لغوي ، بل بتطويع اللغة، و ببحر راقص قابل للغناء والطرب في عصره الطروب ، وبشعر حضري ناعم يهدهده على المكشوف ، لا حاجة للشكوى من الحرمان، ونقض العهد والهجران ، والتلميح والرمز ، وما جادت به عشتار من الأساطير وتموز ونيسان ، ولا أتركك دون لفت نظرك - وربما أنت الأدرى ، فالأمر شائع - أنّ بشاراً أول من جعل الأذن تعشق قبل العين أحيانا ً:

يا قوم اذني لبعض الحي عاشقة *** والأذن تعشق قبل العين أحيانا

قالوا بمن لا ترى تهذي؟فقلت لهم**الأذن كالعين توفي القلب ما كانا

وكأنّ الرجل يخشى منك أنْ تنسى أذنه ، وترى أعين الآخرين ، أوتحسب البصراء ببصيرتهم  دون إحساس... ، وإنَّ إحساسهم ليفوق إحساس البصراء بباصرتهم للتعويض عمّا نقصهم ! ، فابن برد لا يستحي مني ومنك حين يكرر المعنى صائحاً بنا :

فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى**فبالقلب لابالعين يبصره واللب

وما تبصرالعينان في موضع الهوى**ولا تسمع الأذنان إلا من القلب 

وهل تراه يكتفي بالمرتين ؟ كلاّ ...وألف كلا !! ، ولا تحسب - عزيزي القارئ الكريم - أن الرجل غافل عن التكرار ، وإنّما يصرّ على أننا لا ندرك ما يدور بخلده بعناد وإصرار، فيعود للمرة الثالثة ليرتل نشيده أمامنا ، ويعزف على الوتر قائلاً :   

قالت عقيل بن كعب إذ تعلقها*** قلبي فأضحى به من حبها أثــــرُ 

أنّى ولم ترها تصبو ؟فقلت لهم ** إن الفؤاد يرى ما لا يرى البصرُ

وخلاصة الأمر كان مجدداً في معاني غزله الماجن، المترف في تصاويره الحضرية الناعمة ، الجديد في ألفاظه الموسيقية الناغمة ،يجمع إلى الدقة في تصويره لجاجة الشهوة ، وتباريح الهوى ، وإلى الرخاء في المحاورات الغرامية ، و إلى الواقعية في الوصف ، خيالاً ناعماً ، وغزله شديد الخطر على العفاف (85 ) ، لأنه حسّي مكشوف متهتك يخدّش الحياء  حتى لغير الخجول باعتباره الأمر واقعي ومعقول !!:

لا تعذلوني فإنّي من تذكرها  *** نشوانُ هل يعذل الصاحونَ نشوانا

لم أدر ما وصفها يقظان قد علمت***وقد لهوتُ بها في النومِ أحيانا

باتت تناولني فاهاً فألثمـــــهُ ******  جنيّة زُوّجت في النوم إنســانا

هذا وهو بصير ،  ماذا سيقول لو كان بصيرا...؟!!عجيب أمر البشار ، قال نمت ، وسيقول لم أنم  ، وهو راهي من الرجال , وسيستعطف (عبدته) غير العبدة  بقوله : " لو توكـّأت عليه لأنهدمْ " !! ، معان لم يسبقه إليها أحد , ولم يتناولها عصر عمرو ولبد ! ، تمتع :  

لم يطل ليلى ولكن لم أنم *** ونفى عني الكرى طيف ألمْ 

 وإذا قلت لها جودي لنا  ***خرجت بالصمت عن لا ونعمْ 

 نفـّسي يا عبد عنّي واعلمي *** أنني يا عبد من لحم ودمْ 

 إن في بردي جسما ناحلاً ****  لـــو توكـّأت عليه لانهدمْ 

ختم الحب لها في عنقي  *** موضع الخاتم من أهل الذممْ

ومما يقول ومن روائع الغزل العربي :  

بلّغوها إذا أتيتم حماها *** * أنني متُّ في الغـــرام فداها

واصحبوها لتربتي فعظامي****تشتهي أنْ تدوسها قدماها

رحمة ربّ لستُ أسأل عدلاً**رب خذني إن أخطأت بخطاها

دع سليمى تكون حيث تراني** أو فدعني أكون حيث أراها  

تركتك مع الأعمى الباصرة ، النافذ البصيرة ، وغزله... دون أنْ أغزله بغزلي ، فشعره واضح صريح ، واقعي مليح ، تذهب إليه راكضاً ، لا يحتاج دافعاً أو محللا ، وسمه بأنفاسه المتجددة .

هـ - التجديد في أغراضه الشعرية الأخرى من هجاء وسخرية وشعوبية   :

وشاعرنا المجدد  البصير ، العريق العقيلي في نشأته البدويه ، والفارسي الأصل في نزعته الشعوبية،المخضرم بين الدولة الأموية العروبية ، والدولة العباسية المنفتحة للتقافات الأجنبية ، والذي ترعرع بين قياسها اللغوي والشعري والفقهي  ، ونبذ الشواذ من الشواهد النحوية لمدرسته البصرية  ، وتلقف الأفكار الزراداشتية والمانوية ، وقـُتِل بسببها اتهاماً بعد رميه بالزدقة لدوافع سياسية ،أو مزاجية ، جدّد وقلـّد , جدّد كما لخص الفاخوري في (تاريخ أدبه) في هجائه  ، فهو يكثر من وصف المهجو بأوجه العار الشائعة  ، ويتعرض لنسبه العربي  ، ويجعل مهجوّه ضحكة ، وذلك في عبارة قريبة المأخذ ، سهلة الحفظ ، وأسلوب رشيق ، بل وصل إلى حدّ القذف والسباب , وهذا ما لم يفعله الشعراء  السابقون له . ولكن كان مقلداً في مدحه ، متكسباً في رزقه ، يميل مع ممدوحيه حيث يميليون، ويجاريهم بما ينزعون ، وبقصائد طويلة متينة رزينة جزلة ، مطالعها كما طلع علينا الجاهيلون والأولون ، يبدؤها بالنسيب والأطلال والخيل والترحال !! ولكن حين يفخر بنفسه وقومه الفرس يقسو على العرب أو الأعراب بسخرية مريرة  ، وعلى أغلب الظن كان سلاحه الحاد كردّ فعل مضاد ، لمن يستهين به وبشاعريته ، ومقدرته اللغوية  ،أقرأ عن القوارير والدنانير والزنابير !! :

ارفق بعمرو إذا حركت نسبتهُ  ******** فإنـّه عربيّ ٌ من قوارير ِ

ما زال في كير حدادٍ يردّدهُ *********  حَتَّى بَدَا عَرَبِيًّا مُظْلِمَ النُّورِ

إِنْ جَازَ آباؤُه الأَنْذَالُ في مُضَرٍ*** جازت فلوس بخارى في الدنانير

واشدُدْ يَدَيْكَ بِحَمَّادٍ أبي عُمَر ********* فإِنَّــــهُ نَبَطِيٌّ مـــن زنابير

ويروي صاحب الأغاني :  " دخل أعرابي على مجزأة بن ثور السدوسي وبشار عنده وعليه بزة الشعراء فقال الأعرابي من الرجل فقالوا رجل شاعر فقال أمولى هو أم عربي قالوا بل مولى فقال الأعرابي وما للموالي وللشعر فغضب بشار وسكت هنيهة ثم قال أتأذن لي يا أبا ثور قال قل ما شئت يا أبا معاذ فأنشأ بشار يقول : 

  ِسأخبر فاخر الأعراب عني****** وعنه حين تأذن بالفخار ِ 

 أحين كسيت بعد العري خزاً *** ونادمت الكرام على العقار 

تفاخر يابن راعيةٍ وراع ٍ**** بني الأحرار حسبك من خسار 

 وكنت إذا ظمئت إلى قراح ٍ ***  شركت الكلب في ولغ الإطار 

تريغ بخطبة كسر الموالي ******  وينسيك المكارم صيد فار ِ (86)

لم يسبق أحدٌ بشاراً بمثل هذه الجرأة  ، والتطاول على العرب ، ولكن هذا الشعر أغراه بالتمادي ، بعد أن وجد باب الحرية مفتوحاً على مصراعيه ، والدولة منشغلة بالقضاء المبرم على الأمويين في عصر السفاح  ، ومن بعد ثورتي النفس الزكية في المدينة  وأخيه إبراهيم في البصرة (145 هـ - 762 م) ،  ولما قام المهدي بالخلافة ( 158 هـ )  ، وبالرغم من أن الشاعر مدحه ، لم ينفعه المديح  حتى وقع في مصيدة الزندقة ، فقتل  ضرباً بسياط البصرة مذموماً ، بالتاريخ أعلاه هل تطلب المزيد من أخبار بشار المجدد المجيد ؟ أمّا نحن فرأينا أن  نكتفي بالبيت العجيب أدناه ، وشكراً لكم للإطالة بكلِّ ما أوردناه !!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(66) (لسان العرب ) : ابن منظور  ج 3 سنة النشر: 2003م - دار صادر.

 (67)www.almaany.com/home.php?...موقع المعاني

(68) (تاج العروس) :  الحسيني الزبيدي  ج 2 /- 2004 - الكويت   

     (69) (الكامل في اللغة والأدب) : أبو العباس المبرد  - 1 /- الوراق - الموسوعة الشاملة .

(70)(مسلم بن الوليد ) : د. جميل سلطان - ص- ط2 - 1967م -  دار الأنوار - بيروت.

(71) (الأغاني ) : الأصفهاني - 1 /- الوراق - الموسوعة الشاملة .

(72)  موقع جامعة أم القرى : العصر العباسي الأول

(73) (تاريخ الأدب العربي ) : حنا فاخوري - ط 11 -- سنة 1983 م - بيروت 

(74)( العمدة في محاسن الشعر وآدابه ) : ابن رشيق القيرواني - موقع الوراق ( 1 / ) - الموسوعة الشاملة .

 (75) (العمدة في صناعة الشعر و نقــده ) : أبو  علي الحسن بن رشيق القيرواني - ا /  - المكتبة الشاملة .

 (76) (ﺍﻟﻤﻔﻀﻠﻴﺎﺕ ) : المفضل الضبي - تح ﺃﺤﻤﺩ ﻤﺤﻤﺩ ﺸﺎﻜﺭ ﻭﻋﺒﺩ ﺍﻟﺴـﻼﻡ ﻫـﺎﺭﻭﻥ - ط 4  - ص- ﺩﺍﺭالمعارف - مصر

(76) (تاريخ الأدب العربي ) : حنا فاخوري - ط 11 - ص-  - سنة 1983 م - بيروت .

(77) (الأغاني) :  أبو الفرج الأصفهاني - ج 3 ص- دار الفكر - بيروت الطبعة الثانية - تح :  سمير جابر . 

(78) ( العمدة في محاسن الشعر وآدابه ) : ابن رشيق القيرواني  :  1 /- الوراق - الموسوعة الشاملة .

(79) ( العمدة ...) : 1 /  - م . ن .

(80) 1 /: م . ن .

(81) ( طبقلت الشعراء ) : ابن المعتز - 1 /- الوراق - المكتبة الشاملة .

(82) (العمدة ) : القيرواني - 1 /  - م . س . 

(83) ( طبقات الشعراء) : عبد الله بن محمد ابن المعتز العباسي - عبد الستار أحمد فراج - 1 / - ط 3 -  دار المعارف - القاهرة .

(84) م . ن .

(85)  (تاريخ الأدب العربي ) : حنا فاخوري - ط  - سنة 1983   - ص- المكتبة البولسية - بيروت .

  (86) (الأغاني) : ج ص  - م . س .

# التسرّع في إصدار الأحكام :

كيف تكون فتاة شريرة مساوية للإلهة "إيزيس" الطيّبة ؟ :

وهذه السرعة في التشبيهات وإطلاق الأحكام تسم مشروع ناجح بأكمله .

لنقف عند نظرته إلى الفتاة ، زوجة باتا التي خلقها الإله (رع – حوراختي) لتسكن معه وتداري وحدته . سرعان ما جعلها ناجح مساوية لـ "إيزيس" الإلهة المصرية  . دعونا نتوقف عند أفعال إيزيس ، ثم أفعال هذه المرأة ، لنرى هل هما متشابهتين كما يقول ناجح ، أم أنه يُطلق الأحكام بحماسة وبلا قرائن ، وكأنه يلهج بأشياء حفظها عن ظهر قلب سواء توفّرت شروط انطباقها على الحالة الراهنة أم لم تنطبق !.

من هي إيزيس ؟

إيزيس هي واحدة من الآلهة التاسوعاء ، هي ربة القمر والأمومة لدى قدماء المصريين. وكان يرمز لها بامرأة على حاجب جبين قرص القمر، عبدها المصريون القدماء والبطالمة والرومان. صارت إيزيس شخصية بارزة في مجموعة الآلهة المصرية بسبب أسطورة أوزوريس. كانت شقيقة ذلك الإله وزوجته. واستعادت جثته بعد أن قتله "ست". وبمساعدة نفتيس وتحوت أعادت إليه الحياة بعد رحيله إلى حياة جديدة محدودة في العالم الآخر, ربّت ابنها حورس الذي أنجبته من زوجها الراحل أوزوريس في أجمة مستنقعات خيميس بالدلتا. وقد كان خيال عامة الشعب مُغرما بتأمل صورة الأم التي أخفت نفسها في مستنقعات الدلتا ، والتي قامت فيها بتربية حورس طفلها حتى إذا ما شب واشتد ساعده ، صار قادرا على الانتقام من قاتل أبيه "ست". كانت إيزيس أشهر الربّات المصريات جميعا ، وكانت مثال الزوجة الوفية حتى بعد وفاة زوجها، والأم المخلصة لولدها. امتدت عبادة إيزيس في عهد البطالمة واليونان إلى ما بعد حدود مصر، وكان لها معابدها وكهنتها وأعيادها وأسرارها الدينية في كافة أنحاء العالم الروماني حيث صارت تمثل ربة الكون : "أنا أم الطبيعة كلها، وسيدة جميع العناصر، ومنشأ الزمن وأصله، والربّة العليا، أحكم ذرى السماء ونسمات البحر الخيرة وسكون الجحيم المقفر..." (105).

فما الذي فعلته هذه المرأة ، زوجة باتا التي خلقها الإله (رع – حوراختي) ؟

لقد خلقتها الآلهة وفيها "جوهر من كل إله" كما قلنا . ولكنها بعد ذلك بدأت بخرق كلّ ما قاله لها باتا الطيّب ، فقد خرجت من المنزل وكاد البحر يخطفها بالرغم من تحذيرات باتا . ثم سقطت في مصيدة الإغواء عندما أرسل الفرعون امرأة مع فرسانه ومعها زينة أخّاذة ، لتهجر باتا الذي أحبّها حبّاً عظيما ، ووفّر لها كلّ شيء . رحلت طوعيّاً إلى الفرعون لتصبح زوجته . وقد أحبها الفرعون حبّاً جمّاً كما تقول الأسطورة ، ورفعها إلى مكانة عالية جدا . وطلب منها أن تحدّثه عن زوجها ، فقالت له أن الأكاسيا يجب أن تُقطع ، وأن عليه أن يُرسل من يسحقها ! . وهي تعرف أن هذا التصرّف معناه موت باتا زوجها السابق الذي أحسن إليها . أرسل الفرعون جنودا مسلّحين إلى الوادي فقطعوا زهورها التي كان عليها قلب باتا فسقط ميتاً في الحال .

أليست هذه المرأة هي الأنموذج الصارخ لإلهة الشرّ والموت والخيانة ؟!

لقد خانت زوجها الشاب وغدرت به ثم دلّت الطاغية على طريقة قتله .. وطاوعت السلطة الأبوية البطرياركية في قتل ممثل الألوهة الشابة كما اعتبره ناجح .. فبربّكم هل هناك أي صلّة – ولو واحدة – بين هذه المرأة والإلهة إيزيس الأم إلهة النور والخير والحب والوفاء ؟!

ومع ذلك ، دعونا نُكمل القصّة :

كان باتا - عندما هرب من أخيه أنبو بلا رجعة - قد قال له أنّه إذا فسدت الجعة في كأسك وتعفّنت عندما تريد شربها ، فتلك علامة على أنني أُحتضر ، ويجب عليك أن تأتي إلى وادي الأرز لتنقذني ، ولتفتش عن قلبي وتنعشه كي أحيا من جديد . وقد فسدت البيرة في كأس الأخ الأكبر أنبو في اليوم التالي لموت باتا ، فأخذ سلاحه وذهب إلى الوادي ، وهناك وجد أخاه الأصغر ميتاً ، فأجهش بالبكاء (لاحظ أن الأخ الأكبر يحبّ أخاه الأصغر ولا علاقة له بالإله الشرير "ست" ، كما طابق بينهما ناجح بصورة خاطئة سابقاً ) . ثم أمضى ثلاث سنوات يبحث عن قلب أخيه ليجد بذرة في السنة الرابعة هي قلب أخيه . وضعها في كوب ماء بارد ، فارتعشت كل أطراف بايتي ، وحين شرب ماء الكوب عاد إلى الحياة ، واحتضن أخاه . قال باتا لأخيه بأنه قد خطّط ليأخذ بثأره من زوجته الخائنة . ولذلك فإنه سوف يصبح غداً "ثوراً مقدّساً" يحمل أهم علامات القداسة ، وعلى أخيه الأكبر أنبو أن يقوده إلى قصر الملك حيث تسكن زوجته الخائنة بعد أن تزوّجت بملء إرادتها من الفرعون . وهناك سوف يكون هذا الثور معجزة عظيمة ، وسيقيمون له الإحتفالات في قصر الفرعون وفي كل البلاد ، وعلى الأخ أن يعود إلى القرية بعد ذلك . قام الأخوان بتنفيذ الخطّة ، واقتاد أنبو الثور المقدّس (أي باتا بعد تحوّله) إلى قصر الفرعون الذي فرح بهذه الهدية فرحاً كبيراً ، وأحبّه كثيراً جداً ، ومنح الأخ الأكبر الذهب والفضة ، وأعاده إلى القرية .

عاش الثور المقدّس مكرّماً مهاباً في قصر الفرعون ، ويتحرك بحريّة واحترام . وذات يوم دخل قسم الحريم ، ووقف أمام الأميرة/ زوجته السابقة ، وأخبرها بأنه زوجها السابق باتا ، وأنّه لم يمت ، فذعرت وخرجت هاربة . بعدها جلست مع الملك على مائدته ، وكان الملك مسروراً ، وطلبت منه "كبد" الثور كي تأكله . ومعروف أن الشعوب القديمة تعتقد أن الكبد هو مستقر الروح . 

الآن دعونا نتوقّف ، قليلا ، لنتأمل ما يقوله ناجح عن جلسة الأميرة مع الفرعون :

(يبدو بان الجعة باعتبارها نتاجا زراعيا متطورا ، هي الوسيط في نظام السرد الاسطوري ، وهذا ما سجلته الاسطورة عن طريقة الاعلان عن موت الشاب/بايتي واعادته للحياة ، لكن القدرة الكامنة في الجعة وما تثيره من نشوة وتخيلات مثلت في هذا النص ، الاصول الاولى لمجال الام الكبرى في التاريخ ، لانها هي التي اخترعت النبات المخدر وعرفته وكذلك ساهمت بانتاج الخمور لانه من وظائفها الحضارية/الدينية الاولى والمصاحبة لعقائدها الخاصة بالانبعاث والتجدد - ص 169) (106) .

لم يصدّق الأستاذ ناجح وجود بيرة / جعة على المائدة ليربطها بالإلهة الأم ومبتكراتها عبر التاريخ . لكن ستأتيه المفاجأة قريبا بعد أن نستمع إليه ، وهو يصف تأثير الجعة التي جعلت الفرعون يسكر ، ويستجيب لطلب الأميرة الخبيثة . يقول ناجح :

(لذا استعانت بها زوجة فرعون من اجل سلطتها الانثوية ، ووظائفها الدينية لان الفرعون استجاب لها في كل المرات ، بعد ان لعب المسكر براسه ووافق على الذي تريد - ص 169 و170) (107).

وأسأل ناجح الآن : ما هي الوظائف الدينية التي قامت بها الأميرة الخائنة ؟؟

ولنقدم له – الآن - المفاجأة التي ستطيح باستنتاجاته ، وتثبت - للأسف - أن شروحاته هذه ليس لها مجال هنا . فهذا ما تقوله الأسطورة الأصلية عن جلسة الأميرة مع الفرعون :

And his majesty was sitting, making a good day with her: she was at the table of his majesty, and the king was exceeding pleased with her. And she said to his majesty, "Swear to me by God, saying, 'What thou shalt say, I will obey it for thy sake.'" He hearkened unto all that she said, even this. "Let me eat of the liver of the ox, because he is fit for nought!" thus spake she to him. And the king was exceeding sad at her words, the heart of Pharaoh grieved him greatly. And after the land was lightened, and the next day appeared, they proclaimed a great feast with offerings to the ox.(108).

فهل يجد القارىء الكريم أي ذكر للجعة في جلسة الفرعون مع الأميرة ؟ هل يتضمن هذا النص ، وهو الأصلي ، أي كلمة تشير إلى سكر الفرعون وأنه استجاب – تحت تأثير الخمرة – لطلب الزوجة الخائنة بأن يهبها كبد الثور المقدس لتأكله ؟

من ناحية ثانية ، وعلى العكس مما تورّط فيه ناجح - بسبب اعتماده على نسخة أدبية من الأسطورة – نجد أن  النص الأصلي يشير بوضوح إلى أن الزوجة الخائنة طلبت من الفرعون أن يقسم لها بالإله بأن ينفّذ كلّ ما تقوله ، فأقسم لها . وأصبح قلبه حزينا بدرجة عظيمة بسبب استجابته لطلب الأميرة بذبح الثور ، ولكنها ورّطته بالقسم بالإله "رع" بأن يستجيب لكلّ ما تقوله . المهم أنه أقسم بكامل وعيه وليس تحت تأثير الخمرة . 

قراءة في قصيدة:  للشاعر التّونسي يوسف الهمامي مادونا عسكر

أولاً- النّص:

أبتسمُ الآن

أكْـتُمُك داخلي

ولا أسرّ لشهوتي بك

خشية انسكاب رحيق

أو انفلات وهج

أو إذاعة نفس شارد..

...

أُنِيّمُك بجانبي الأيمن

أُوسّدك حرير روحي

أضمّك بحفيف الشّهوة البكر

أُغطّيك بطرواة الماء ...

...

أنت كثير فيّ...

مَرِّرْنِي إلى قارَّتك الوسطى

حتى أتشهّد..

...

كأنّك من أسماء حزني الحسنى ...

كأنّك من لاجئي روح المرايا...

من أنت؟؟

حتى لا أدعي أنّك أنا

...

من أنت أيّها الطَيِّبُ النَّكرَة ؟..

أراك تنزل إلى السّماء

تصعد إلى الارض متماهيا معي..

...

ما اسمك ؟

صمتُ الحجر جرى

في صراط النّهر مع التّسابيح

حتّى خشع له المجرى،،

فادخل الصّلاة إذن ..

ادخل الميثاق ..

احتشدْ في الضّوضاء السّاكنة

حتّى حضور الغيب،،

ثانياً- القراءة:

"كلماتنا لا تنطقنا عن هوى، إنّما عن نبوءات ووحي. كلماتنا تحمل مفاتيح أبواب الغيب، حيثما قالتنا تدقّنا أبواب اليقين.  لا عالم يفتح مصراعيك خارجنا. نحن امتداد أبديّ بلا حدود، نحن سعة الملكوت." (يوسف الهمامي).

الكلمة النّاطقة سرّ الشّاعر يوسف الهمامي، وهي الّتي تطوّعه وتسكب في عمقه وجدانها وفحواها، فتتجلّى القصيدة محراباً يدخله الشّاعر متأمّلاً، غارقاً في قدسيّته حتّى ينكشف للقارئ سرّ أسرار القصيدة.

- الآنيّة اللّحظيّة/ توحّد وامتلاء.

تمثّل الآنيّة في افتتاحيّة القصيدة لحظة الوحي الشّعريّ  المنسكب في ذات الشّاعر الّذي بدوره ينفتح على نوره ليتلو أوّل الوحي (أبتسم الآن). كما أنّ هذه الآنيّة لا تعبّر عن الزّمان القائم بين السّابق واللّاحق، وإنّما هي اللّحظة المتفلّتة من الزّمان والمكان والخارجة عنهما. لذا فنحن أمام  نصّ يرتقي عن المحسوسات ويدخل القارئ في دائرة النّور الشّعريّ. وكلّما ارتفع تمكّن من الغوص في أعماق القصيدة ليرتشف الجمال ويراه حتّى وإن كان لا ينظره. في هذه اللّحظة الحاضرة بكلّ جمالها ونقائها وسكينتها، يعبّ الشّاعر دفء الحبّ/ الشّخص ويمتلئ منه حدّ الالتحام (أكْـتُمُك داخلي). يكتم الشّاعر شخص الحبّ في داخله لا ليسجنه وإنّما ليمتلئ منه وينغمس به، فيمسي الحبّ هو النّاطق على لسان الشّاعر.

(أكْـتُمُك داخلي

ولا أسرّ لشهوتي بك

خشية انسكاب رحيق

أو انفلات وهج

أو إذاعة نفس شارد..)

الكتمان المرافق للصّمت (ولا أسرّ شهوتي)، ينبئ بارتحال في حنايا الذّات الخفيّة برفقة الحبّ/ الشّخص. وإن دلّت عبارة (لا أسرّ) على أمر فهي تشير إلى الصّمت التّأمّلي الأبلغ من الكلام. فالكلمات في هذه اللّحظة تقلّل من الانسجام العشقيّ الدّاخليّ ولا ترتقي إلى مستوى قدسيّته. (خشية انسكاب رحيق/ أو انفلات وهج/أو إذاعة نفس شارد..). كأنّي بالشّاعر استحال هيكلاً للحبّ، يكتمه في عمق أعماقه، وينعزل كي ينصهر به ويؤلّف وإيّاه وحدة كاملة متكاملة.

- الامتلاء حبّ فاعل:

ذكرنا أنّ الشّاعر لا يكتم الحبّ في داخله كنوع من الاستئثار أو الأنانيّة. نستدلّ على ذلك من خلال انتقاله إلى الحبّ الفاعل:

(أُنِيّمُك بجانبي الأيمن

أُوسّدك حرير روحي

أضمّك بحفيف الشّهوة البكر

أُغطّيك بطرواة الماء ...)

تشير الأفعال (أنيّمك/ أوسّدك/ أضمّك/ أغطّيك) إلى حركة الحبّ التّفاعليّ بين الشّاعر والمحبوب، ويتدرّج الفعل برفق ورقّة لترتسم الحالة العشقيّة المؤثّرة في نفس الشّاعر والمنتقلة به إلى الاهتمام بالمحبوب اهتماماً خاصّاً (أنيّمك بجانبي الأيمن). لليمين دلالة البركة والسّلام، ما يمنح هذا الاهتمام طابعاً قدسيّاً روحيّاً يفرط من خلاله الشّاعر بالاعتناء بالمحبوب (أوسّدك حرير روحي/ أضمّك بحفيف الشّهوة البكر/ أغطّيك بطراوة الماء). وهنا يتداخل المحسوس مع الرّوحي (حرير/ حفيف/ طراوة) لتتأكّد حقيقة اللّقاء العشقي المنافية للخيال والوهم. فالشّاعر أمام حقيقة روحيّة ملموسة لا لبس فيها. إلّأ إنّه في لحظته الآنيّة يشهد لحظة الخلق العشقي (الشّهوة البكر) الّتي تدلّ على اللّقاء الأوّل، حالة الحبّ الأولى.  ما تشرحه السّطور التّالية الّتي نشهد فيها انبلاج صوت المحبوب:

(أنت كثير فيّ...

مَرِّرْنِي إلى قارَّتك الوسطى

حتى أتشهّد..)

هذا اللّقاء الرّوحي القدّسيّ المنغمس في الوحدة/ union  يهيّئ للامتزاج  بالنّور الإلهيّ (حتّى أتشّهد).  

التشّهد كفعل إعلان الانتماء لله والاعتراف اليقينيّ به، أو تسبيحه ونمجيده يعكس صورة هذا اللّقاء العشقيّ المنبثق من السّماء والعائد إليه. فتتشكّل دائرة العشق اللّامتناهي الّتي تتجذّر فيها الوحدة وتظلّ محلّقة سابحة فيها إلى ما لا نهاية.

- دهشة السّؤال في حضرة الحقيقة:

في لحظة خاطفة يرتقي الشّاعر سلّم الوعي المتأمّل أمام حقيقة تجلّت بكلّ أنوارها وأسرارها. يتلمّس خيوط المعنى، منقاداً بالدّهشة والألم والخشوع.

(كأنك من أسماء حزني الحسنى...

كأنك من لاجئي روح المرايا...)

يتكرّر حرف النّصب (كأنّ) ليعزّز معنى المعرفة أو تلمّسها، ويترجم حالة الشّاعر التّأمّليّة الذّهنيّة والرّوحيّة. يحاول أن يغوص في المعرفة حتّى يبلغ تمامها ويدور في هذا التّأمّل القدسي (أسماء حزني الحسنى)، فيرتقي بحزنه إلى عالم الكمال ليمنح الحزن طابعاً إلهيّاً. ما يشير إلى الوعي الضّمني أنّ ما هو مقبل عليه مؤلم حتّى الفرح على الرّغم من مهابة الحقيقة وجلالتها.

(من أنت؟) سؤال الدّهشة لا الاستفهام. وهو بمثابة نتيجة للتّأمّل، كما قدّيس في حضرة النّور الإلهي، يعاين، يندهش، يصمت، يتأمّل ثمّ يسأل (من أنت؟)، كتعبير عن انتشاء من نعيم النّور. سؤال الدّهشة يلقى جوابه في عمق الشّاعر الماثل أمام الحقيقة (حتى لا أدعي انك أنا...). ليس من نفيٍ لحقيقة الأنا- أنت في هذه العبارة بل امتلاك الشّاعر لفضيلة التّواضع وخشوعه أمام نعمة الاتّحاد بين الأنا- أنت. وكأنّي به يستزيد معرفة بالسّؤال ويبتغي الولوج في هذا السّر الاتّحاديّ.

(من أنت أيها الطَيِّبُ النَّكرَة؟..

أراك تنزل إلى السماء

تصعد إلى الأرض متماهيا معي..)

الشّاعر غارق في رؤيا، يدلّنا عليها تضارب المعاني والدّلالات (الطّيب النّكرة/ النّزول إلى السّماء/ الصّعود إلى الأرض). ويتبيّن للقارئ خروج الشّاعر عن الزّمنيّة والمكانيّة، ليدخل في سرّ الرّؤيا منفصلاً عن العالم تمام الانفصال. فالطّيب معروف عند الشّاعر وحده، والسّماء والأرض متماهيتان حدّ ظهور سماء جديدة متحوّلة يعاينها الشّاعر وينصهر بالدّهشة أكثر. (ما اسمك؟)

للاسم أهميّة كبيرة في تأمّل الشّاعر، فالاسم مرادف للشّخص، ويعبّر عنه ويكشف كيانه. تدرّج سؤال الدّهشة (من أنت/ ما اسمك) حتّى بلغ شاعرنا صفاء البصيرة وتمام النّقاء استعداداً للعيش في ظلّ الحقيقة مع استمراريّة اكتشافها.

(صمتُ الحجر جرى

في صراط النّهر مع التّسابيح

حتى خشع له المجرى،،

فادخل الصّلاة إذن

ادخل الميثاق ..

احتشدْ في الضوضاء السّاكنة

حتّى حضور الغيب،،)

حقيقة حرّكت ركوداً ما في ذات الشّاعر، وخرج عن الكلام ليلج الصّمت والصّلاة في حضور الأنا- أنت، الوعد (الميثاق) الأزليّ الأبديّ. وما علامة التّرقيم (،،) إلّا انفتاح على هذا الغيب المنتظر وإعلان عن ظمأ وشوق إلى القصيدة الّتي لم ولن تنتهي. 

clip_image002_f4798.jpg

 

clip_image004_2a714.jpg

أقام نادي حيفا الثقافي أمسية احتفائية بالكاتب سامي عيساوي، برعاية المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ حيفا، وذلك بتاريخ 23-2-2017 في قاعة كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، ووسط حضور من أدباء ومهتمّين بالشأن الثقافيّ، وقد تعذّر حضور سامي عيساوي للأمسية بسبب منعه من عبور الحواجز إلى حيفا. تولت عرافة الأمسية عدلة شدّاد خشيبون، وتحدّث عن منجز المحتفى به كلّ من: د. منير توما تناول رواية اللّوز المُرّ ما بين الإيحاءات والإشارات الدالة على محور الرواية، وآمال أبو فارس تناولت كتاب "زوجي لعبة تفاعليّة" وموضوع الكتابة باللّهجة العاميّة ونظرة الكاتب للمجتمع العربيّ من ناحية دينيّة وسياسيّة، وسلمى جبران تناولت كتاب "عيّوش"، وتخللت المداخلات وصلة زجليّة مع الزجّال حسام برانسي، وفي نهاية اللقاء كانت قراءة لرسالة سامي عيساوي، والتي شكر من خلالها الحضور والقائمين على إحياء هذه الأمسية!

مداخلة عدلة شداد خشيبون: يطيب لي أن القاكم تتوافدون دون كلل أو ملل ومن كلّ حيّ وبلد إلى هذه القاعة الجميلة الدّافئة شتاء والمنعشة صيفًا، ويثلج صدري أن أراكم تملآؤون المكان بعبير الثّقافة والآدب. أحبّتي على رزنامتي لمع التّاريخ، وأشرقت شمس جديدة ليكون لنا لقاء بتنا ننتظره أسبوعيًّا، وبتنا نرفض تسجيل المواعيد في ذات السّاعة وذات اليوم، فالشّكر  لذاك الجندي المعلوم الاستاذ فؤاد نقّارة وزوجته فراشة النّادي سوزي، فلكما باقة شكر لا تذبل أبدًا ما دام القلب ينبض في هذا الجسد، وللجندي المجهول فضل الله مجدلاني الذي يرتب لنا هذه القاعة ويجمّلها بنقاء استقباله. شكرًا من أعمق الأعماق لكم أحبّتي، فلقاؤنا يتجدّد اللّيلة بكم وبنوركم الآسر.   

تعذّر عليه الوصول ليكون بيننا جسدًا، لكنّ حضوره الرّوحي والصّوتي موجود في رسالته، ورسالتنا ستعرف الطّريق إليه بين تنمية بشريّة وإنجازات أدبيّة، وسنطير شوقًا لنتذوق طعمات ثلاث لكتب زيّنت مكتباتنا بجميل حبرها. اللّيلة سيغدو اللّوز المرّ حلوًا، وعيّوش ستلبس لباسًا زاهيًا، أمّا “زوجي لعبة تفاعليّة” سيحلّق عاليًا بين مفردات اللّغة، فكاتبنا سامي عيساوي من مواليد مدينة نابلس 1968،تعلّم في مدارسها، متزوج ولديه اربعة ابناء، حاصل على درجة البكالويوس في الفنون التّطبيقية من جامعة نيودلهي، وعلى درجة الماجستير في الفنون البصرية من جامعة اليرموك، يعمل كمحاضر متفرغ في كلية الفنون الجميلة – جامعة النّجاح الوطنية، وشغل منصب رئيس قسم الفنون التّطبيقية 2014-2016، صدر له خمسة أعمال هي: اللوز المر (رواية)، و 2008عيوش (رواية) 2013، وزوجي لعبة تفاعليّة (مجموعة قصصية) 2016، ولحياة أكثر إبداعًا (تنمية بشريّة) 2014، وتخرج بكفاءة (تنمية بشريّة 2016).

د. منير توما: أديب وناقد يكتب الشّعر باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، له العديد من المقالات والدّراسات الأدبيّة التي تُنشر في الصّحف والمجلات، وقد حصل على عدّة جوائز في كتابة الشعر في اللغة الإنجليزيّة من الجمعيّة الدّولية للشعراء في الولايات المتحدة الأمريكيّة، كما حصل على جائزة الإبداع الشعريّ من وزارة الثقافة عام 2010. لا يصل كتابٌ إلى  يديه إلّا ويُعانقُ مفرداته ويطويها تحتَ معان أرادها الشّاعر ولم يصرّح بها، وهذا يؤكّد أنّ دور الشّاعر أو الكاتب ينتهى عندما يسلّم ديوانه للقارئ، فكيف إن كان قارؤنا د.منير توما وروايتنا اللّوز المرّ، ما بين الإيحاءات والاشارات الدالة على محور الرواية، فيا تُرى، هل يبقى طعم اللّوز مُرًّا بعد أن ينثر عليه. د.منير توما سكّر نقده، مُبلسِمًا بمفرداته المعهودة جرح المرارة؟

سلمى جبران: من البقيعة الحبيبة إلى حيفا وقصّة عشق للكلمة في رواية عيّوش، متزوّجة ولها ثلاثة أولاد، أنهت دراستها الابتدائيَّة في البقيعة والثانوية في قرية ترشيحا، والجامعيّة في جامعة حيفا على اللقب الأول (B.A ) في الأدب الإنجليزيّ، وعلى اللقب الثاني ( M.A ) في الاستشارة التربويَّة، وأكملت دراستها في التخصّص في العلاج الأسريّ والزوجيّ،  أثمرت أربعة دواوين شعريّة أسمتها لاجئة في وطن الحداد، ومؤخرًا صدر لها خارج مدار الذّات.

حسام برانسي: يكتب الشعر من عمر عشر سنوات، وبدأ بالظهور على المنابر وفي محافل الأدب فقط قبل ثلاث سنوات، شارك في عدّة مهرجانات وحفلات زجليّة في عدّة دول أوروبيّة، واستطاع تحقيق نجاحات كبيرة في دول أوروبيّة للجاليات العربيّة.

آمال أبو فارس: من مواليد دالية الكرمل، متزوجة في عسفيا، تعمل مدرّسة للّغة العربية، حصلت على اللقب الأوّل من كليّة دار المعلّمين العرب في حيفا، كما أنّها أنهت اللّقب الثّاني في موضوع "تعليم اللّغات اختصاص لغة عربيّة" في كلية "أورانيم"، ودوّنت تاريخ شخصيّات هامّة من القرية. وفي السّنين الأخيرة بدأت تكتب الشّعر. أصدرت مؤخرا كتابين للأطفال: قصة الحلزونة سناء، وكتاب شوكولاته، وكتابا بعنوان "عسفيا قصة وتاريخ". أقامت صفحة تواصل على الفيس بوك تحت عنوان: "المنتدى الثّقافي القطري" يكتب فيه شعراء من كلّ الأقطار العربيّة، وتُحرّر صفحة الثّقافة الأسبوعيّة التّابعة لجريدة الحديث، وتحدّثنا عن كتاب زوجي لعبة تفاعليّة حيث ستتناول موضوع الكتابة باللّهجة العاميّة ونظرة الكاتب للمجتمع العربيّ من ناحية دينيّة وسياسيّة.

مداخلة د. منير توما: "اللوز المرّ " كمفتاح من مفاتيح النصّ عنوان رواية سامي عيساوي: يُمثِّل العنوان في رواية سامي عيساوي " اللوز المرّ " عنصرًا هامًّا من عناصر تشكيل الدلالة في القصّة الروائيّة، حيث تتنوّعُ العناوين وفقًا لوظيفتها في القصّة، فعنوان الرواية يُحيلنا إلى مضمون القصّة، فهذا العنوان له طبيعة رمزيّة إيحائيّة استعاريّة، بحيث تُشكِّل رمزيّة "اللوز المُرّ" مَدخلًا أساسيًّا شاملًا، لإيضاح المعاني والمفاهيم وراء أحداث الرواية وشخصيّاتها وأسلوبها.

إنَّ الكاتب يستخدم "اللوز المرّ" في عنوان الرواية كرمز لمعاناة بطل القصّة الذي تمَّ له اجتياز هذه المعاناة بتطهير النفس من خلال عودتهِ للمخيّم، رغم ما مرَّ به من مراحل حياتيّة مُوجعة، ليعيش ذكريات تجربته العاطفية المؤلمة والمخيّبة للآمال في المخيّم، مع محبوبته زوجته الأولى التي تركت له ومعه ابنتها التي تشبهها والتي لم تكن من صلبه، وإنّما كانت ثمرة علاقة غير شرعيّة مع آخر غيره، قبل عقد قرانهِ بها ونسبتها اليهِ موافقًا أو مُرغمًا على ذلك، لغرامهِ وولعه بهذه الزوجة المحبوبة التي كان قد وقع في غرامها أثناء دراستهما الجامعيّة معًا. وحول اجتيازه لهذه المعاناة بعد فراقهما وهجران كلّ منهما للآخر، والعودة أخيرًا إلى المخيّم، مُستذكِرًا ما عبر عليه في تلك الأيّام، باعتبار ذلك تطهيرًا للنفس من مرارة ما مرَّ به ِ من انعدام وفقدان السعادة الزوجيّة.

 (loss of conjugal happiness) مع هذه الزوجة المتيّم بها بكلَّ جوارحه، والذي يوحيهِ ويرمز إليه العنوان "اللوز المرّ"، وهو يُعبَّر عن هذه المعاني والأفكار قائلًا في نهاية الرواية: "لن أعيد إنتاج التاريخ بنفس الخيبة القديمة، لأضفي عليها أسماء جديدة. سأمضي للمخيّم ولن أغادره بعد كُرهي له، كي أتوحّد مع وجعي وأصبّ على الأيام القادمة نارًا تحرقها. سأعيد تأثيث البيت والمخيّم الذي عاش فيه جدي من جديدي. أضيء شوارعه المعتمة. أجدّد أبوابه المهترئة، وأعيد تصفيح الجدران الداخليّة للقلوب التي أدماها طول انتظار، أُزوّج من لم يتزوَّج من أبنائهِ وبناتهِ. أملأ حجرات ساكنة بصور جديدة عن العودة والمقاومة والبقاء، وأعيد تصنيف الأولويّات القديمة لنسائهِ، فالنصرُ والهزيمة يأتيان من أرحامهنّ وحليب صدورهنّ، وهذه التي تُشبهك، ولها اسمك ولون عينيك وعدد شعرك وطول قامتك، وعجرفتك المسموح بها لامرأة تملك ما تملكين، هذه التي تقتلني في صباحاتها البرّيّة البريئة، وأرى غدها مرسومًا في صفحة وجهك، هي وجعي الأزليّ الباقي منك، أردّدُ على مسامعها قولَ شاعر تركيّا الكبير "ناظم حكمت": "أجملُ الأيّام تلك التي لم نعشها بعد.."، لأستنهض فيها المعاني الباقية كلها، أمّا أنا فأجمل أولادي لم أنجبهم منكِ أنتِ" (ص300). وهنا نرى أنَّ الراوي بطلَ القصّة يعتمل في صدرهِ الأمل بأيّام جميلة قادمة يُرَمِّم فيها الماضي، حيث أنَّ هذا المعنى يُذكِّرنا باللوز المُرّ رمزًا للأمل، لكنّه اللوز المُرّ أي الأمل المصحوب بالألم والذكرى المُتجهّمة.

ومن المهمّ أن نشير في هذا السياق أنَّ اللوز يرمز أيضًا إلى اليقظة (wakefulness)، وهي اليقظة المشوبة بأرق الأيّام الخوالي، وبالضيقات التي ما زالت تُراوده جاعلًا منها حافزًا محفوفًا بالذكريات، ليُشكّل اللوز المُرّ رمزًا للإيحاء والانبعاث لأملٍ متجدِّد، قد يأتي بالفرج المبتغى نحو الأحسن على الصعيدين الشخصيّ والعامّ،  لا سيّما وأنّ اللّوز المُرّ يُستخرج منه في المجال الطّبّيّ بعض الأدوية الشّافية من جهة، ونوع من المادة القاتلة السيانيد من الجهة الأخرى، فاجتمعت هنا في رمزيّة اللوز المُرّ الناحيتان الإيجابيّة والسلبيّة، بكون رجوعه للمخيّم يُعدّ وفقا للنصّ الروائيّ المقتبس السابق شفاء له، ممّا مرّ به من بؤس وضيق وإحباط، ليُعايش بهذه العودة أملًا بولادة جديدة (rebirth) يتمّ من خلالها التخلّص والشفاء من مرارة تجربته السابقة، لتُشكّل مرارة اللوز رمزًا لمرارة الدواء الشّافي، وممّا يسترعي الانتباه أنّ الكاتب قد أحسن وأجاد بإتيانه بعنوان "اللوز المُرّ"، جاعلًا من اللوز رمزًا لعدّة تيمات أيّ موضوعات مركزيّة في الرواية.

ومن حيث أنَّ اللوز عمومًا يعتبر رمزًا يُمثِّل الحلاوة والسحر الفاتن والأناقة (sweetness, charm , delicacy) فإنَّ نصّ الرواية (ص115) يقرن رمزيّة اللوز الممثّلة للجمال الأنثويّ بمرارة الموت والثبات والتحمُّل في حالات الأسى، وفي ذلك وردت السطور التالية: "القهوة المُعَدّة للمساء لها لون الكرز ورائحة التفاح المحترق، ولها عذاب عينيكِ المتّقد بالشهوة والنشوة والرغبة في الحكم والصيد والقتل، أمّا قهوة اليوم فلها طعم العزاء والجُبن المحترق على موائد الغربة، لها لون الشيب وقسوتهِ، وقد تسلّل إلى حلكة شعرها الغادر".

ومن الأوصاف التي يُطلقها الكاتب على لسان بطل القصّة الراوي، مُتحدّثًا عن الزوجة الأولى المحبوبة الأثيرة على نفسهِ وروحه قوله بأنّها "كانت تتقن فنّ العزف على كلّ الأوتار، وتتقن فن الرقص على الجراح وبين حبّات المطر، وتعزف كلّ اللغات، وتتقن رسم الكلمات وتعلم أوقات السعادة كلّها، وتُهمل أوقات الصلاة بلا تقريع أو عذاب ضمير، كانت تعلم متى تُعزَف الألحان الجنائزيّة، وتلك التي يتلوها الفرح ومتى يبدأ المطر وفي أيّ اتّجاه تهبّ الريح، ومن أين تُطلّ الشمس، عند قدميها يتفتّح الزهر، ولطلتها يبدأ هدر الرعد ونزول المطر". (ص117)، ففي هذه السطور أنَّ الكاتب باستعاراته الجميلة يريد أن يوحي ويؤكد أنَّ هذه المحبوبة هي كاللوز بحلاوتهِ ومرارته، باعتباره رمزًا للمنتج الخِصب الذاتيّ (self – productive) وكذلك رمزًا للإثمار (fruitfulness) من حيث التقلّب العاطفيّ الرومانسيّ بإيجابيّاته وسلبيّاته بكافّة أشكالهِ وصورهِ.

يتحدّث الراوي بطل القصّة عن صباح اليوم التالي لزواجهِ من هذه المحبوبة، مُستذكرًا الموقف المتّسم بوجوم الإيحاءات التي يطرحها (ص139): "في صباح اليوم التالي للفرح الأخرس بيننا، لم نتبادل تحيّة الصباح كعادة الأزواج في صباحاتهم الأولى، ولا حتى القُبَل. كان لها تاريخ قديم قرأته في سواد عينيها وظلمة قلبها، عندما تعرّت فجأة أمام نفسها، وتعرّى معها تاريخها. قرأت تفاصيل الزوايا كلها بعد أن غسلت وجهها، وأزالت اقنعتها وكحل عينيها. قرأت التاريخ كله، وقرأت أهمّ فصوله السوداء عندما لم أجد عذريّتها. كان لها تاريخ قديم ممتلئ عن آخرهِ بأنصاف الرجال".

إنَّ الكاتب قد أصاب الهدف جيّدًا في أخبار الراوي بطل القصّة لنا، عن أنّه قد وجد عروسه فاقدة لعذريّتها في ليلة الزواج، مُتّخذًا بكلّ مهارة وبراعة ترميزًا موفّقًا في كون اللوز يرمز إلى العذريّة والبكارة (virginity)، فمرارة هذا اللوز هي رمز لإحباطهِ وخيبة أمله في طهارة ونقاء زوجته محبوبته، التي يدلّ تصرفها وسلوكها قبل الزواج وعدم الاحتفاظ بعذريّتها على طيشها واستهتارها (giddiness) وغبائها، حيث أنَّ كلّ هذه المعاني هي ما يرمز اليها اللوز، وبالتحديد اللوز المرّ الذي يشير رمزيّا إلى اللاتفكير العقلاني (thoughtlessness)، والمذكور آنفًا هو أحد المؤشرات على ذلك. ومن اللافت في الرواية أنَّ الكاتب قد أوغل إيغالاً كبيرًا، وأسرفَ في الإتيان باستعارات وكنايات جنسيّة وظّفها في أوصافه اللغويّة، كإكثارهِ من ذِكر كلمة الحيض والعادة الشهريّة، وكلمات آخرى تتعلق بالحياة الجنسيّة للمرأة، وهذا يستحضر لدينا كون اللوز رمزًا لفرج المرأة (vulva)، بكلّ إيحاءات وتداعيات ما سبق وأشرنا اليه بشأن الزوجة المحبوبة المثيرة للراوي بطل القصّة، والتي عكّرت صفو حياته كما يصفها (ص138): "في الواقع كنتِ أنتِ الحاجز الماثل أمامي. كنتِ أنتِ مانع الحمل الأبديّ الذي أصابني بالعقم".

ومن الطريف أنَّ ذِكر العقم هنا مرتبط عند الرجل بالسائل المنويّ (semen)، الذي هو أحد الأشياء التي كان يرمز اليها اللوز في قديم الزمان، فالعقم المذكور في هذا السياق قد يكون بسبب خلل معيّن في السائل المنويّ للرجل الذي من الممكن أن يكون اللوز المرّ رمزًا له، وممّا يجدر ذكره في هذا المقام أنّ اللوز يرمز الى النبوءة (prophecy)، وهذا الرمز قد تمثّل في باب من أبواب الرواية الذي يحمل اسم "جدّتي سيرة ذاتيّة"، حيث ورد في نهاية هذا الباب إشارات كنائيّة عن حالةٍ مستقبليّة، قد تحمل تفاؤلاً معيّنًا للخروج من مرارة اللوز بوصفهِ رمزًا للمعاناة والضيق والتشرّد، الى غدٍ مشرقٍ عزيز يُبشّر بجعل الحلم حقيقة، وبتحقيق الآمال المنشودة في حياةٍ كريمة هانئة بالاستقلال والسيادة والكرامة. وقد جاء في هذا الباب أنّ (جدّته) قد "بقيت وحدها تدير المملكة بحنكة الرجال، حتى يعود الرشد الى ملوكها وحكّامها ووزرائها وقادة ألويتها، ويصحو من غفوتهم الأزليّة . وقتها ستتنازل جدّتي صاحبة العينيْن المعدنيّتين عن الإمارة لأصحاب السيادة، فهي أكثر الناس زهدًا في الإمارة، وأكثرهم إخلاصًا وحُبًّا للوطن، أمّا جدّتي التي تعيش معنا، فلها منّا النزر اليسير من الصفات، تجاهد للبقاء، وتمتصّ البقايا القليلة الباقية من أيّامها في الدنيا، كي تزرع بيتًا للزعتر، أو تقطف حبّة ليمون من حاكورة البيت القديمة". (ص179).

وأخيرًا، فإنّه يمكن القول أنّ رواية الأخ سامي عيساوي "اللوز المُرّ" هي عبارة عن فسيفساء إنسانيّة، تشكّلت من نسيج توليفة المرأة والرجل، وإطاره المخيّم بكلّ مكوّناته وأجوائه وخلفيّاته، ومحورُهُ الحبّ الضائع الموجع بحُزنهِ وزيفه وشقائه وإحباطاته، والذي يحفِّز وينبئ بإيحاءاته بحُلمٍ مفعم بالإشراقات المتوخّاة، كي يكون الوطن المنشود كاللوز الحلو الخالي من مرارة عالم المخيّم على سبيل التوصيف الرمزيّ، بحيث يكون لوز الوطن حلوًا خاليًا من مرارة عالم المخيّم، بحيث يبدو غريبًا أن نقترح ما جال في مخيّلتنا، من أن يكون عنوان هذه الرّواية "امرأة بطعم اللوز المُرّ"

(woman of bitter almond taste a)، دون أن يكون هناك أيّ تحفّظ وملاحظة على الاختيار الموفق الهادف للمؤلف في وضع عنوان الرواية، ولكنّ مشروع اقتراحنا آنفًا كان من منطلق أنّ المرأة  في هذه الرواية كانت المعادل الموضوعيّ (objective correlative) الذي استندت اليه الأحداث، حيث تمَّ من خلال المرأة قراءة واستكناه الإيحاءات والإشارات، والتضمينات  (connotations) وراء الكلمات والسطور التي رسمت لوحات ذهنيّة، تشمل مشاهد إنسانيّة أصليّة مأخوذة من الحياة بواقعها المتباين بألوانهِ وناسه، كلّ ذلك بلغة سرديّة قصصيّة شعريّة كما لو كانت قصيدة نثريّة. هكذا كان المخيم عالمًا صغيرًا (microcosm) لعالمٍ كبيرٍ (macrocosm)، هو الحياة بتنوّعاتها الإنسانيّة والعاطفيّة والتأمّليّة التي تضمّ المخيّم كجزء منها يعكس قضيّة الإنسان، الذي تعايش فيها الحنين والعشق وتحدّي الصّعاب  والمشاق، وما الى ذلك من معان ٍ كونية شاملة لمشاعر الحزن والفرح والعذاب .

نهنئ الأخ سامي عيساوي ونشدّ على يديه تقديرًا له على هذا الإبداع الروائيّ المتميّز، الذي يستحقّ كلّ ثناء وإطراء مع ملاحظاتنا الأخويّة البنّاءة، ولو أنّ المؤلف قد أولى اهتمامًا أكثر للمراجعة والتدقيق اللغويّ للرواية إملائيّا ونَحويّا، نظرًا لوقوع الكثير من الأخطاء اللغويّة والإملائيّة، التي كان بالإمكان تداركها لو تمّت المراجعة بالدِّقة المرجوّة، آملين أن يتمّ تصحيحها في طبعات قادمة، نظرًا للأهمّيّة في اكتمال تغطية الجوانب التحريريّة للرواية (editing aspects).

مداخلة سلمى جبران: رواية عيّوش – سامي عيساوي: "عيّوش" رواية يتعثّرُ فيها الموت بين الحبّ والحياة، وترفع فلسفةَ الطفولة إلى مرتبةٍ إنسانيّة لا يمكن أن يصلَها الظّالم، بل يقف القاتلُ أمامَها عاجزًا فاقِدًا لإنسانيّتِهِ، مُحوِّلًا الحياةَ إلى موت، وعبثيّةَ الموت إلى حياة وإلى صرخة إنسانيّة تنضحُ بالمعاناةِ المُطْلقة من الموت، فتتقدّسُ الحياة رغمَ الموت. قرأت الفصلَ الأوّل لأنَّ الرّوائي سمَحَ بتجاوُز قراءته، وبعدَ أن أنهيْتُ الرّواية فهمتُ ملاحظتَهُ، وأحسَسْتُ أنّ هذا الفصلَ دخيلٌ على الرّواية ويحِدُّ من دراميَّتِها، وهذا ما شعرْتُ به حينَ قرأتُ الوقفات! تذكِّرُني هذه الرّواية برواية "اسمي آدم" للروائيّ الياس خوري، الذي نجح في إقناع القارئ أنّها مجرّد نشْر لدفاتر آدم دنّون، وكأنّها ليست من تأليفِهِ! اقتباس: " يحدُّ غزّة من الشّرق الحرب، ومن الغرب بحرٌ ظالم، ومن الشمال الجنون، ومن الجنوب هرم خوفو الأكبر، والسؤال: ماذا يحدُّ المُعتدي من الأعلى؟" الجواب: غزّة، لأن الحياة قيمةٌ عليا، وقصّة طائر الفينيق، التي ورَدَتْ مرَّتَيْن، توحي بهذه الإجابة.

عيّوش طفلة أُنجِبَتْ بالمعاناة وعاشتْ في المعاناة فصَهَرَتْها وجَعَلَتْ أبسطَ كلماتِها أكثرَها عُمقًا وفلسفةً: قالت: "كنتُ أتأرجَحُ بينَ ما أُريد وما يُريدُ منْ همْ حَوْلي" (ص32). "الكبار يقتلونَ جرأةَ السؤال عندَ الصِّغار" (ص36). "كانت أوّلُ لحظة صَحْو تشكِّلُ صدمةَ الحياة بعْدَ تَوَقُّعِ الموت"! (ص40). أمّا "طيورُ الحديد" وما تبِعَها من صُوَرٍ لوصْفِ الحرب، فكانت سُخْرِيَةً مريرة تفوقُ أيَّ شعار أو منشور أو خطاب، حيثُ أبرَزَت التناقُضَ الصّارخ الإيروني بيْنَ مَنْ يعيشُ الحرب وبينَ مَنْ يَحكي عنْها في الخارج: شَجْب-استنكار-تغطية- سبْق صَحَفي وشِعارات أخرى!!! لذلك، فإنَّ إقحامَ الأب في المذكّرات وتحليلاته السياسيّة حَدَّتْ من دراميَّةِ المشاعر التي تصاعدت مع أحلام عيّوش ومجازاتِ خيالِها الفتيّ. 

قصّة "سباق الضّفادع" تنطبِقُ على كلّ مَرافِقِ الحياة وبضِمْنِها "الغزّاوي/الأب" الذي يدوِّنُ ويراسِل ويفضَح ما يجري ممارسًا مسؤوليَّتَهُ الوطنيّة، و"الإسكندرانيّة/الأمّ" التي تريدُ الحياة وتريدُ الابتعاد عنِ المَوْت لكنَّها لاقتِ المّوْتْ قبلَ "الغزّاوي". القصص الرمزيّة التي وَرَدَتْ: "الجزَرة والبيضة"، "عُثمان الأمين"، "الذئب والنَّمِر"، انتهَتْ بأسئلة تبدو طفوليّة بريئة ولكنَّها عميقة وتعبِّر ببساطة عن قوّة وقداسة حياة الإنسان. لا أدري إن كانت الأخطاء المطبعيّة والنَّحَويَّة مقصودة لتوحي بعُمْرِ عيّوش! وأخيرًا، أُنهي بقصّة الثعلب والأسد والحِمار ص (79-80) لأنَّها أخطرُها ويطيبُ لي أُن أُجيبَ عن السؤال الذي تلاها: الحمار لا يزالُ خيالًا واقفًا لأنَّ كلّ أعضائهِ أُكِلَتْ ولم يمُتْ بل نُصِّبَ ملكَ الغابة! بورِكْتَ الكاتب سامي عيساوي، وبورِكَ هذا الكِتاب فهوَ يُعطي مساحة كبيرة للتفكير وليسَ فقط يوثّق!

مداخلة أبو فارس: عنوان رواية "زوجي لعبةٌ تفاعلية" للأديبِ الفلسطينيِّ السيد سامي عيساوي، أُخِذ من عنوانِ القصّةِ الأولى فيه، وأتطرقُ في هذه المداخلةِ لموضوعَين: الأوّلُ الكتابةُ باللهجةِ المحكيّةِ، والثاني، إلقاءُ الضوءِ على نظرةِ الكاتبِ للمجتمعِ الفلسطينيِّ من ناحيةٍ دينيةٍ وسياسيّة. استوقفني هذا الكتابُ منذُ الصفحةِ الأولى، حين فاحت منه رائحةُ حروفِ اللهجةِ المحكيّةِ، وما تسمّى عندنا أيضًا بالعاميّة. لنْ اقولَ عنها كلمةَ عامّيّةٍ، لأنَّ كلمةَ عامّيّةٍ مشتقةٌ من العوامِ وهم عامّةُ الشعبِ، وفي ذلك حصرٌ للغةِ في طبقةٍ أقلّ قدرًا من غيرِها وهذا لا يجوزُ! وقد نبّهنا من ذلك البروفيسور سليمان جبران في مقالةٍ له بعنوان على "هامشِ التجديدِ والتقييدِ في اللغةِ العربيّة". فأطلقَ عليها اسمَ "اللهجةَ المحكيةَ" بدلّا من العاميّةِ، حفاظًا على أهمّيّتِها في حياتنا اليوميّة. هذه اللغةُ ليست مجردَ كلامٍ عابرٍ، بل هي اللغةُ التي نترعرعُ ونشبُّ ونشيخُ عليها. نتحدثُ بها في البيتِ والشارعِ خائضين بها كلَّ مجالاتِ الحياةِ، وبها نعبّرُ عن غضبِنا ويأسِنا، عن سعادتِنا وفرحِنا واستيائِنا! هي اللغةُ التي تحاكي المشاعرَ والأحاسيسَ، وحين نكتبُ بها تكونُ متعةُ القراءة أجملَ، فهناكَ الكثيرون الذين كتبوا باللهجةِ المحكيّةِ أمثال الكاتبِ والناقد اللبنانيِّ مارون عبود وغيرُه كثيرون. لكنَّ البعضَ نبذَ هذه اللغةَ مُعتبرًا إيّاها لغوًا ليس له أهمّيّةٌ أو قيمةٌ، كالدكتورِ طه حسين فقد قال عنها "لا أؤمن قط ولن استطيعَ أن أؤمنَ بأن للغةِ العاميةِ من الخصائصِ والمميّزاتِ ما يجعلها خليقةً بأن تسمّى لغةً، وإنّما رأيتُها وسأراها دائمًا لهجةً من اللهجاتِ، قد أدركها الفسادُ في كثيرٍ من أوضاعِها وأشكالِها". ومما لا شكّ فيه أنّ اللهجةَ المحكيّةَ لا تحكمُها قوانينُ وقواعدُ ثابتةٌ من ناحيةِ الإعرابِ والإنشاء، نظرًا لتعدّدِ اللهجاتِ فيها، فالأمرُ يتعلّقُ ويتأثّرُ بالمنطقةِ الجغرافيّةِ المقصودة. كما يستطيعُ الكاتبُ إدخالَ كلماتٍ اعجميةٍ دونَ أن يثورَ عليه مجمعُ اللغةِ العربيّةِ، طالبًا منه إيجادَ بديلٍ لها، وقد وجدت في نصوص الكتابِ كلماتٍ: سمارت، كومنتاته، على الوول، وغيرها. في كتاب اللوز المُرّ أرى أنَّ الأمرَ مغايرٌ تمامًا، فإنّ اللهجةَ الفلسطينيّةَ المَحكيّةَ زادت الكتابَ رونقًا وتشويقًا، وكان لها من الحسنِ ما يجعلُ القارئَ يدخلُ عالمًا من السحرِ الذي تُغلّفُه الحقيقةُ التي تعيشها النفسُ في بيئتِها الطبيعيّة، ولا ضيرَ لو تركنا اللغةَ الفصيحة بعضَ الوقتِ؛ لأنّها ستبقى محفوظةً في القران الكريم، ولن يخبوَ نجمُها ابدًا مهما ابتعدنا عنها لأنّها لغةُ الله، وستبقى ذلك الإعجازَ الذي جاءَ به الرسولُ صلى الله عليه وسلّم.

الكتابُ عبارةٌ عن قصصٍ قصيرةٍ ومداخلاتٍ، يعرضُ فيها الكاتبُ مآسيَ الشعبِ الفلسطينيِّ من الناحيةِ الاجتماعيّةِ والدينيّةِ والسياسيّةِ والفكريّةِ، وقد جاءت على لسانِ الذكورِ تارةً والإناثِ تارةً أخرى باللهجةِ المحكيّةِ الفلسطينيّةِ وبأسلوبٍ شيّقٍ سلسٍ، فجاءت قويّةً بصياغتِها، وذيّلها بأمثالٍ شعبيّةٍ وعباراتٍ يوميّةٍ ننطقها عندما نكونُ على سجيّتِنا بعفويّةٍ تامّة، كما طغى أسلوبُ الساتيرا، وقد تعمّدَ إدخال هذا النوعِ من الأدبِ، بغيةَ إظهارِ المأساةِ التي يعيشها الشعبُ الفلسطينيُّ بنواقصِهِ وأخطائِه، لتحصلَ المفارقةُ التي تتجسّد في المَثلِ القائل: "شرُّ البليّةِ ما يُضحك".

نحن نقف أمام كاتب مختلفٍ عن الذين ألفناهم في صدقهِ وسجيّتهِ وتلقائيّتهِ، فرجلاهُ مثبّتتان على الأرض، لم يكتب ليُرضي المجتمعَ أو ليقولوا إنّهُ وطنيٌّ! لم يتغنّ بالعروبةِ ولم يستعملْ أسلوبَ التهييجِ الذي يتّبعُه البعضُ من أجلِ كسبِ الثقةِ والشهرةِ؛ وإنّما همُّه تصوير الواقعِ الذي يعيشُه أبناءُ شعبِه، فنقلَ بقلمِهِ إحباطاتِهم، عُقدَهم، صراعاتِهم النفسيةِ والتناقضاتِ التي يعيشونها من خلالِ هذه القصصِ، وقد أوردَها على لسانِ الشخوصِ بلسانِ المتكلمِ في أغلبِ الأحيان، وهنا تكمنُ جماليّتها، فترى الشخوصَ تُعبّرُ عن ألمِها ومعاناتِها بلسانِها هي، لتتماهى معها كقارئٍ ولتدخلَك الى عالمِها النفسيِّ والاجتماعيِّ، وقد ترى نفسَك كأنك أنتَ البطلُ في هذه القصةِ أو تلك، فتناول مواضيعَ مختلفةً منها: قسوة الأبِ وتسلّطهِ على أسرتهِ، والإيمان المطلق بالنّصيب، والقضاء والقدر، وتأثير الفيس بوك على الشّباب، وانعدام الحوارِ والنقاشِ البنّاءِ، واعتبار الفتاةِ عورةٌ، والعيش في المهجرِ وتأثيرُه على عقليّةِ المسلمين، ومواضيع سياسيةٌ باتت مزعجةً، والإيمان المطلق بما يقالُ، وتأثير الشّائعات وانعدام الاستفسارِ عن الحقائقِ وغيرها. باختصارٍ، نقرأُ ممّا وراءِ السّطورِ أنّ الكاتبَ يُطالبُ بالعدالةِ الاجتماعيّةِ بينَ أفرادِ الأسْرةِ الواحدةِ، وبينَ افرادِ المجتمعِ الواسعِ، ويُطالبُ بتطبيقِ الديمقراطيّةِ وحرّيّةِ الفردِ، حتى لو أنّه لم يصرحْ بذلكَ علنًا،. فها هو يَصفُ شخصيّةَ الأبِ السلطويّ الصارمِ المستبدِّ في قصّةِ "علاء الأزعر" عندما طُردَ من المدرسةِ، وكان عليه أن يُحضرَ وليَّ أمرِهِ معه فقال: "بصراحة، إنّي أجيب أوباما رئيس أمريكا أو حتى أبومازن رئيس فلسطين على المدرسة أسهل بكثير، من أنّي أجيب ولي امري اللي هو الوالد الله يديمه، فأنا علشان يرضى المدير وأبوي ما يعمل مصيبة في الدار أو يضربني أو يطلق أمي، اختصرت وبطلت أروح على المدرسة". والنتيجة: "لو عرف أبوي إنّي بطلت أروح على المدرسة احتمالين: إمّا انه ينجلط ويموت، أو بيصيبه فالج ويقعد في الدار، أو تطلع عصبيته عليّ، وكالعادة بتيجي في امّي، بروح مطلقها أو بكسر لي إيد أو بقلع لي عين".

يتطرقُ لموضوعِ الهجرةِ الى بلدانَ أجنبيّةٍ، ويرى أنّ المهجّرينَ تنفتح أمامَهم فرصُ العملِ، وينعمون بالحياةِ الكريمةِ والمالِ والجاهِ، بينما يركضُ الفلسطينيّون وراءَ رغيفِ الخبزِ، والدليل في قصّةُ "خالي عمر" الذي أصبحَ رجلَ أعمالٍ مُهمّ جدّا في أمريكا، يعتاشُ افرادُ أسرتِه في فلسطين على حسابِه من المالِ الذي يُرسلُه لهم، والسببُ في رأي الكاتب أنّه في أمريكا لا يسألونكَ عن دينِك أو جنسِك أو هُويّتِك! بينما هنا ينامون جياعًا بتقوقعهِم وضيقِ آفاقهِم وجهلهِم، لأنّهم يعتبرون أنفسَهم الأفضلَ وبقيّةَ شعوبِ اللهِ كُفّارًا. في موضوعِ الدينِ يُكثرُ من السؤالِ والتساؤلِ، والإنسانُ العاقل ذو فطنة وذكاء لا يمكنُه إلّا أن يسألَ ويتساءل،َ لأنّهُ يُفكّر حتى لو لم يحصلْ على إجاباتٍ شافية. ألم يَقلْ شمسُ التبريزي في قواعدِ العشقِ الأربعين: "رجلٌ لديهِ الكثيرُ من الآراءِ لكن ليسَ لديهِ أسئلةٌ، ثمّةَ خطأ في ذلك. إنّ المرءَ الذي يعتقدُ أنَّ لديهِ جميعَ الأجوبةِ هو أكثرُ الناسِ جهلًا"! ها هو كاتبنا يسأل أبناءَ شعبِه أسئلةً جدّيّة ملؤُها السخرية بمواضيعَ دينيّةٍ وسياسيّةٍ، ولا ينتظرُ لها جوابًا، إنّما يهدف الى لفتِ النظرِ والتفكيرِ في الأمورِ بصورةٍ جدّيّةٍ عقلانيةٍّ، بعيدةٍ كلَّ البعدِ عن سياسةِ أتباعِ القطيعِ في الفكرِ والرأيِ، فيسألُ بأسلوبِه السّاخرِ: "شو بتفكروا حالكم؟ كأنّه الله بس إلكم لحالكم، وكأنّه باقي أهل الأرض خلقهم رب ثانٍ".

يطرحُ الكاتبُ موضوعَ الإيمانِ والكفرِ والتعصّبِ الدينيّ الأعمى بدعوةٍ مُبطّنةٍ منه، داعيًا الى التسامحِ وتقبّلِ الآخرِ فيقول: "بطلعلك بعض المسلمين العرب بفكرة إنها أوروبا كافرة، وبدو ينشر الدين هناك وكأنه الأخ فاكر حاله موسى بن نصير، وبدو يكمّل فتوحات المسلمين أيّام الدولة العبّاسيّة أو المماليك". "شو مفكرين حالكم؟ بجدّ مصدقين إنه الله بحبكم أكثر من كلّ أهل الأرض؟ بجدّ.. طيّب احكولي ليش." ويتساءل بمرارةٍ ويأسٍ عن سبب الحالة التي آلت اليها العروبة في عصرِ الظلمةِ، في ربيعِها العربيّ الذي تحوّلَ الى خريفٍ، بل إلى شتاءٍ باردٍ قارسٍ جفّت منه مشاعرُ الإنسانيّة: طيّب اللي في سوريا اليوم عشو مختلفين؟ طيب المواطن الأوروبّي شو ذنبه يموت في شوارع باريس؟ بس الوحيد هشام ابن عمّه اللي بيعرف الجواب: ذنبهم إنهم السبب في اللي إحنا فيه. طيّب خليهم هم السبب؛ بس الحلّ مش العنف الأعمى بالطريقة هاي، والحل مش بالقتل والتفجيرات بالأسواق والمطارات والمسارح. أمّا ابن خاله لمّا ناقش أبوه في الموضوع قلو بالحرف الواحد: سدّ نيعك لأنك واحد جاهل ومش شايف أبعد من خشمك". وفي هذه الجملةِ التي قيلت على لسانِ خاله اثباتٌ لحالةِ الجهلِ التي يعيشُها البعضُ، وعدمِ تقبلِ الرأيِ الآخرَ المختلفِ حتى لو كان مدعومًا بالتفكيرِ ومبنيّا على المنطق والعقل.

وفي نصّ "ارفع رأسك أنت مسلم"، يشيرُ إلى موضوعِ اعتبارِ أرضِ العروبةِ أقدسَ أرضٍ، في حين يتمتّع المسلمون بكلِّ اختراعاتِ العالمِ الغربيّ من سيّاراتٍ وطائراتٍ وملابسَ وأحذيةٍ وطعامٍ. فقال على لسانِ الشيخ أبوالرائد الذي يخطب في الناس يوم الجمعة: إنّ أرضَ المسلمين ارضٌ مباركةٌ، أمّا أرضُ السويد وأستراليا وغيرِها أرضٌ نجسة! ورأيهُ في ذلكَ واضحٌ تمامًا: " أبورائد وأمثاله من الجمعة للجمعة يعملوا جلسات تنويم مغناطيسيّ، علشان نبقى عايشين بالجهل والوهم"! لكنَّ كاتبنا يُجيبهُ بسخريةٍ قائلا: "اترك عمارة الأرض للكفّار العايشين في أمريكا وروسيا وكوريا وأستراليا، ربنا خلقنا عشان نعبده، وهم خلقهم عشان يعملولنا سيّارات وجبنة صفرة، ناكل شوكولاته نوتيلا من تحت إيد الكفّار علشان نشرب بيبسي وريدبول، وفي الآخرة احنا الرابحين، لأنّا رح نلاقي ربّنا بالأركان الخمسة وهم بالآيفون والجلاكسي والسوني، رح يلاقوه في سيّارة بي ام دبل يو ومرسيدس وبيتسا هات وغير ذلك". هذا الوصف الرهيب للفكر العربيّ المريض لم يجرؤ على خوض غماره إلّا القلائل، فهو شائكٌ مقيتٌ مريرٌ، لأنّه مِن أمرِّ الأشياءِ مناقشةَ جاهلٍ لم يخرجْ من قوقعتِه الفكريّة، هناك كثير من الشواهد جاء بها كاتبنا، ليُثبت كم أنّ هذا المجتمعَ مخطئٌ في قناعاتِه وأفكارِه اتّجاه نفسِه واتّجاهَ العالم. باختصار، في شرعِ هذه الأمّةِ محظورٌ عليكَ أن تفكّرَ بغيرِ ما يراهُ القطيعُ، أو أن تسيرَ عكسَ التيّار.

مداخلة سامي عيساوي: مساء الخير لحيفا وللجميع. هل تُصدّقون أنَّ رجلًا مثلي في أواخر الأربعين، لم تطأ قدماه حيفا رغم أنّها لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن بيته، وفقط عرفتها وعرفت حاراتها وأزقّتها من تحفة غسان كنفاني "عائد إلى حيفا". مساء الخير للثقافة والأدب، الأدب الذي نطلّ من خلاله على روح الحياة، على أسرار الإنسان المخبوءة، على فرحه وحزنه، على انتصاراته وخيباته، وليس أخرًا على حيرته الوجوديّة. منذ عاميْن تقريبًا، اتصل بي رجل فاضل مستفسرًا عن رواية عيوش التي كانت قد صدرت لتوّها، وطلب الحصول على عدد من النسخ لقراءتها من قبل أعضاء النادي كما قال لي: هذا الرجل كان الصديق المحامي فؤاد نقارة، والنادي كان نادي حيفا الثقافيّ، فيما بعد انضممت إلى القائمة البريديّة للأعضاء النادي، وصار يصلني كافة نشاطات النادي من أمسيات ومقالات ومناقشات، ومنذ ذاك الوقت وأنا أتطلع لحضور امسية من امسياته، أو المشاركة في حفل توقيع أو مناقشة كتاب، حتى جاءت دعوة النادي لي لإقامة هذه الأمسية بمشاركة هذه النخبة الكريمة من المثقفين والأدباء والشعراء، لكن لم أتمكن من الحضور بسبب رفض تصريح الدخول كي أكون حاضرًا بجسدي بينكم، لكنّني اليوم وكلّ خميس مضى كنت حاضرًا بجوارحي ومحبّتي للثفافة والأدب ولكم.

أن تولد وتعيش في بيئة لا تحفل بالثقافة، وبالكتاب يعني أن تولد في العدم، أن تدفع ثمن اختلافك من روحك وصلابة مواقفك ووجودك على هذه الأرض. لقد عرفت الكتاب منذ الطفولة، ربّما لأنّني فشلت في الحصول على الصداقة المثاليّة، وخضت وقتها تجارب  انتهت بالفشل والخيبة، فجربت صداقة الكتاب، ومنذ ذلك الحين لم تخني صداقة الكتب، ولم أصب معها بالخيبة أو الندم. هذه الصداقة امتدّت واتّسعت فأصبحت لتكون شغفا لا فكاك منه. لم يكن لديّ في البداية أيّ حلم بالكتابة، وكنت أظنّ حتى وقت متأخر، (حتى بلغت أواخر الثلاثين) أنّ الكتابة خُلقت لأناس لديهم ميزات خاصّة، وهي الأفكار التي امتلأ رأسي بها ممّا قرأت عن حياة الكُتّاب والشعراء، لأدرك بعدها أنّ القراءة وإن كانت ترفًا، هي ليست كذلك في نظري، فإنّ الكتابة ليست ترفًا أو هواية نُسَرّي عن أنفسنا بها وقت فراغنا. أدركت أنّ الكتابة مسؤوليّة وجوديّة، إنسانيّة، أخلاقيّة ووطنية، فاذا امتلكت ناصيتها وأحسست بمسؤوليّتك تلك فلا مناص ولا هروب، بالرغم ممّا تُسبّبه به من مخاضات وتقلبات وألم وخسارات على بعض الأصعدة، إلّا أنّها تصبح مصدر الفرح الوحيد الباقي لك في هذه الحياة. حينها يصبح الكاتب ضمير أمّته والناطق غير الرسميّ باسمها. الكتابة الأدبيّة تحتاج إلى الثقافة هذا صحيح، لكن قبل ذلك تحتاج  إلى الحساسيّة المرهفة اتّجاه مسائل الحياة والإنسان، بنفس القدر تحتاج إلى موقف فلسفيّ اجتماعيّ سياسيّ يقف من خلفه الكاتب، ليشاهد هذا العالم ولا يكفّ عن محاولاته لصيانة عطبه الناجم عن الظلم السياسيّ والاجتماعيّ. على إيقاع "عائد إلى حيفا" ومثيلاتها أحببت الأدب والفلسفة والفنّ، فلا يمرّ شهر لا أقرأ فيه عائد إلى حيفا، وذلك كلّما احتجت إلى جرعة إضافيّة من المرارة والحزن والندم والحبّ والصمود". 

عام 2002 وأثناء الاجتياح الإسرائيليّ للضفّة الغربيّة، وكردّ فعل للغضب والقهر والإحساس بالظلم بدأت بكتابة أوّل عمل لي بعنوان" لمّ الشمل"، العمل الذي لم أنتهِ منه حتى الساعة، لأنّني ببساطة ما زلت أعالجه فكريًّا وفنّيًّا، ولأنّني أعتني بالشكل الفنّيّ وأومن بجدليّة العلاقة بين المضمون والشكل الفنّيّ، فكلامها يُملي على الآخر تفاصيله. وعام 2008 كتبت رواية "اللوز المُرّ" والتي تحكي قصّة الخروج المُهين وتفاصيل العيش في مخيّمات اللجوء (ص178-181). أمّا جدّتي فلها ابتسامة ممزوجة برائحة الحنّاء وخلاصة زهر اللَّوز، ولها من المعادن صلابتها ولمعانها، ومن الورد خجله  وغيابه، ولي عندها مشاعر تركتها في حجرها  وهي تمسّد شعري، وتبكي على يتمي المُبكّر دون أن يُبلّلني دمعها. جدّتي كانت شجرة زيتون قديمة زرعها الإمبراطور الرومانيّ "تراجان" في زيارته الأخيرة للمخيّم، فلها جذور ضاربة في عنادها، لا تأمن التراب ولا  غياب المطر. جدّتي لم تكن هي نفسها، وهذه أسطورة أخرى من أساطير العائلة المتعدّدة، فقد استبدُلت بامرأة أخرى لها لون عينيها المعدنيّتيْن، ولها لون بشرتها وطول قامتها وسِعة صدرها، وعلى جبينها الواسع  كانت ترتسم خطوط الطول والعرض وجغرافيّة فلسطين. جدّتي تلك بقيت في البيت ورفضت الرحيل. كان حنينها أكبر منها ومن عزمها. جَهد الجميع وقتها في إقناعها بالرحيل عن الخطر، والبقاء بعيدًا عن زخّات الرصاص وحبّات المطر، ومن وقتها وهي تخاف المطر وتعشق صوت الرصاص.

بعناد غامض أصرّت على البقاء. قالوا لها من خلف جفونهم العارية من الصدق: بالكثير، سنعود  بعد يومين أو ثلاثة. قالت في عناد النساء الأزليّ الجميل: سأحرس البيت حتى تعودوا. لم تُفلح محاولاتهم في إقناعها بالخروج. رفضت، صرخت،  أصَّروا عليها. تمسَّكت بشواهد القبور، بالشاعوب  بالمنجل، بحمار الدَار، بالمعلف، ربطت نفسها بشجرة اللوز الهرمة، حضنت خوفها ورجاءها، لكن أنصاف الرجال قطعوا الشجرة، قتلوا حمار الدار، ونثروا الرمل في المعلف، أمسكوا بها من يدها وفقط، استطاعوا أن يقتلعوها من شعرها. في طريقها أخذت عفش البيت وحلق الباب ومكنسة الدار. أخذت الشاعوب  والمنجل وطاحونة البيت الرخاميّة. عند الباب الخارجيّ للبيت، انتصبت فجأة في وجه أنصاف الرجال، وبقوّة عشرة رجال أفلتت يديها منهم، حفرت حفرة وغرزت جسدها في ساحة البيت، أطلقت شيئًا من الدخان، وتمتمت بدعاء لم يفهمه أحد. أشاحت بوجهها عنهم جميعًا، وأطلقت بصرها في عُمق السماء. فجأة، خرج منها امرأة أخرى لها منها طول قامتها ولون عينيها. تركها الجميع هناك دون أن يفهوا السِّر ولا طهر القدر. وبقيت جدّتي تلك هناك لا نعرف عنها شيئًا، لا نعرف طعم عجينها ولا رائحة فمها، بقيت مغروسة هناك في قاع البيت القديم تحرس زيتون المواسم، وتقطف الليمون وتطعم الزعتر، ترعى الماشية وتربّي الأرانب وكلب الدّار. تسامر النجوم وتقاوم الغزاة. تُطعم الدوابّ الهائمة عقب الخروج المُهين، وتطبّب جراح الحمام  وتؤوي العقارب والأفاعي التي هزّها الحنين. من ماء عينيها تشرب الغربان بعد أن جفّت الينابيع والغدران، وفي المساء يصطفّ على باب منزلها العامر بالفرح عشرات الضالين والجائعين والمرضى، من شتى الأجناس والمذاهب والأديان. هذا رجل قلعت عينه رصاصة. وتلك أضاعت مفتاح الدار وجاءت تقضي ليلتها إلى الغد. يقفان تمامًا في نفس الصفّ الذي تقف فيه نعجة شارفت على الولادة، وليدها يُمزّق أحشاءَها ولا مُعين، ومن فوقهم ترفرف أسراب من الحمام القديم، توقف عن إصدار أصوات الحنين القديمة، واستبدلها بأناشيد الصمود والمقاومة والبقاء.

استطاعت جدّتي القديمة تلك بعينيها المعدنيّتيْن، أن تُشكّل جيشًا جرّارًا من الحيوانات الأليفة، وأن تُدجّن أنواعًا جديدة من الأفاعي والحيوانات المفترسة، كي يساعدوها في إدارة شؤون المملكة البائدة من بشر وشجر وحجر وحيوانات عجماء، سوى من شوقها إلى الدار والجبل ولون الوقت الباقي. بقيت وحدها تُدير المملكة بحنكة الرجال، حتّى يعود الرُّشد الي ملوكها وحكّامها ووزارئها وقادة ألويتها، ويصحوا من غفوتهم الأزليّة. وقتها ستتنازل جدّتي صاحبة العينين المعدنيّتين عن الإمارة لأصحاب السيادة، فهي أكثر الناس زهدًا في الإمارة وأكثرهم إخلاصًا وحُبّا للوطن. تلك كانت رواية اللوز المُرّ.

 وفي ظهيرة 27 كانون أول/ ديسمبر 2008، تعلقت أفئدتنا وأبصارُنا في الشاشات لمشاهدة فصل جديد من فصول عنتريّة المُحتلّ ضدّ الشعب الفلسطينيّ، نترقّب ونتألم. أذكر حينها أنّ سؤالًا انتصب في رأسي كمارد جبّار: لماذا يحدث كلّ هذا؟ وأين العالم ممّا يحدث؟ وبقيت طوال أيّام العدوان لا أفعل شيئًا سوى التحديق في وسع الشاشات، لكن هاجسًا غريبًا دفعني ومنذ اللحظة الأولى لتسجيل التفاصيل. أعددتُ ملفّا خاصّا مِن قصاصات الجرائد والتدوينات والمقالات التحليليّة والتقارير المُصوّرة. بقي كيف أقول ذلك في رواية، لقناعتي أنّ الرواية وحدها القادرة على قول الحقيقيّة، وأنّ الفضاء الروائيّ يتّسع لسطر المشاعر وبثّ الأفكار، للتأريخ للتجربة الإنسانيّة برمّتها، وللفرح والألم وجرأة الدم وقسوة الحياة وظلم الإنسان للإنسان. لكن الأمر لم يكن سهلا، فبعدَ أن عرفت ما ستقول وهذا يُعدّ أمرًا سهلًا في أغلب الأوقات، عليك معرفة كيف ستقول ذلك. احتاج الأمرُ أربع سنوات أخرى من الجهد، كي تخرج الرواية بالشكل الذي ترَوْن.  أقتبسُ لماركيز: " قُراؤنا في غير حاجة الى أن نَظَّل نروي لهم مأساة الاضطهاد والظلم؛ فهم يعرفون تفاصيلها غيبًا. ما ينتظرونه من الرواية هو أن تكشف لهم جديدًا".

وانبثقت فكرة عيّوش الفتاة ذات الستة عشر ربيعًا التي عاشت تفاصيل الحرب، تسردها بوعيها وعلى طريقتها، فجاءت الرواية في ثلاثة فصول، الفصل الأوّل على لسان والد عيوش: "فتحي عبد المعطي رزق عوينات" وأيّ تشابه في الأسماء هو محض صدفة عابرة. الغزّاوي العائد من غربته مع زوجته الإسكندرانيّة الذي أصبح بلا تلد ولا ولد. فعندما يكون المرء بلا ذاكرة كـ"عيوش" أو مَن هم في مثل سنّها، تفاجئهم الحرب وتثيرهم، فيستلهمون من نارها ودمها شعرًا يَخترق رتابة أوقاتهم، تشقيهم وتُنضجهم قبل أوانهم، وأحيانًا تسلب سنوات كثيرة باقية من حياتهم. "عيّوش" التي أكملت ربيعها السادس عشر، ولم تتمكّن من الاحتفال بميلادها لأوّل مرّة بسبب الحرب؛ لم يُكتب في ميزانها الرَّبّانيّ حتى سيّئة واحدة، هي عنوان هذا الكتاب، وهي سطره الأوّل وكلمته الأخيرة.هي رواية الأسئلة المسكوت عنها: "في الحرب؛ عند اشتداد المعارك، عند التحام لحم الجنود بلحم الأرض، عندما تولد النار من  بطن الحديد والبارود، ويمتزج لحم البشر بأديم الأرض، تنشب أسئلة وجوديّة بلا عدد، تبقى معلقة في السماء ولا مجيب. أسئلة لا تتّسع لها رؤوس البشر عن الله،  عن الحبّ والوطن، عن الغربة والشهادة، عن كرويّة الأرض والألوان، عن الليل والنهار، وعن الجنّة والنار. وأسئلة أخرى صغيرة عن الوجبة القادمة، وعن الرعب الذي يُخلفه اختفاء النهار، عن النوم والصبر، عن "فتح" وعن "حماس"، وعن الثلاثمئة وخمسة وستين فصيلًا المنتشرة على جسد الوطن، وليس آخرًا، عن شعب الله المختار، ولماذ يختار الله شعبًا عن باقي خلقه من بني الأصفر والمجوس والهندوس والزنوج، أو حتى هنود أمريكا. "عيوش" مثلي تمامًا أو أنا مثلها والملايين ممّن يُشاركوننا إنسانيّتنا، نمتلئ عن آخرنا بالأسئلة؛ أسئلة صعبة، صغيرة، ساذجة، زئبقيّة، مُتجددة، تراوح مكانها ولا مُجيب.

الفصل الثاني هو جسد الرواية الحيّ، فقد كتبته عيوش في مذكّراتها: كتبت عيوش في دفتها/ يحدّ غزَّة من الشرق الحرب/ ومن الغرب يحدّها بحر ظالم/ من الشَّمال الجُنون/ ومن الجنوب هرم خوفو الأكبر. السؤال: ماذا يحدّ المعتدي من الأعلى؟ لتواصل عيوش كتابة يوميّات الحرب كما تراها، وهي عادة اكتسبتها من الست وداد مُدرّسة العربيّ، كي تمأ فراغ وقتها، تتبعها في كلّ مرّة بسؤال، على اعتبار "ما دمت أسأل فأنا موجود": لتتلاحق أسئلة عيوش من قبيل/ ماذا يحدّ المعتدي من الأعلى/ هل يبكي الرجال/ هل تنام النجوم/ متى سينتهي هذا اليوم/ أين يمكن أن أجد صديقا حقيقيّا/ كم تبعد أوسلو عن فلسطين/ هل البندقيّة ضارّة أم نافعة/ كم عدد فصائل العمل الوطنيّ الفلسطينيّ/ لماذا تموت الأمّهات/ عرّف الوحدة الوطنيّة/ وأين يسكن الأمل في بلادنا؟

امّا الفصل الثالث والأخير فقد كتبه الراوي في عشر وقفات: الوقفة السابعة: إعلان عن مسابقة دوليّة تكريمًا لروح عيّوش التي عاشت خوف الحياة وأمنت خوف ما بعد الموت. من يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة كاملة، فليُرسل الإجابات على شكل ملف إلكترونيّ بصيغة "PDF" الى البريد الإلكترونيّ للأمّة  "بلاد العرب أوطاني". الوقفة الثامنة: توزّع الجوائز العشر كالتالي/ الجائزة الأولى: "جنّة عرضها السماوات والأرض أُعِدّت للمُتّقين"./ الجائزة الثانية: "المجد لله في الأعالي وفي الناس المسّرة  وعلى الأرض السلام"./ الجائزة الثالثة: الحرّيّة غير منقوصة./ الجائزة الرابعة: الموت وقوفًا كالأشجار./ الجائزة الخامسة: حياة تسرّ الصديق أو ممات يكيد العدا./ الجائزة السادسة: المشاركة في حفل تنصيب الرئيس الأمريكيّ القادم./ الجائزة السابعة: رحلة الى سطح الزهرة لمشاهدة ظلم البشر./ الجائزة الثامنة: رحلة حول العالم للتأكّد من أنّ شعب فلسطين هو آخر شعوب الأرض التي ما تزال ترزح تحت الإحتلال./ الجائزة التاسعة بعد المليار السابع لعدد سكان الأرض: "معلومة هامّة "الفلسطينيون بشر يشبهونكم، لهم أربعة أعضاء، (يدان وقدمان) فم واحد وأذنان اثنتان. وفي شرايينهم دم كدمكم لونه أحمر، في قلوبهم محبّة لكم جميعًا، لكنّ وجعهم يمنعهم أحيانًا من الكلام./ الجائزة الأخيرة: لأخر مخلوق يجلس الآن على كرسيّ هَزَّاز فوق المريخ أو على سطح الزهرة، يُلوِّح لنا بالحضارة: "شكرًا لكم".

تجربتي الأخيرة كانت مع مجموعة قصصيّة بعنوان "زوجي لعبة تفاعليّة" عام 2016، فالكون يتكوّن من قصص لا من ذرات كما تقول موريل روكسير، هي قصص تعيش بيننا باللغة المحكيّة: "هذه ليست لغتي/ إنَّها لغة أبطال هذه القصص التي تورّطتُ في كتابتها رغمًا عنّي/ حاولت أن أجبرهم على لغتي ومفرداتي المنتقاه بعناية، فاختنقوا واختفوا وآثروا الصمت. إنَّها كلماتهم هم، لغتهم اليومية، إنَّها معاناتهم وخساراتهم، بوْح وجعهم وفشلهم ونجاحاتهم، أحزانهم وأفراحهم الصغيرة. يتكوّن الكتاب من 50 قصّة باللغة المحكيّة.

أعاني كغيري حبسة الكاتب، أحسّ برأسي فارغة من أيّ شيء، فألجأ إلى البحث والكتابة لجيل الشباب الذي أعرف تفاصيل معاناته واحتياجاته، بحُكم قربي منهم على مقاعد الدرس في الجامعة، ومُعايشتي لمشاكلهم ومواطن الإخفاق لديهم. عام 2014 أصدرت كتاب بعنوان "لحياة أكثر إبداعًا"، يتناول معيقات الإبداع وإرشاداتٍ لتجاوز تلك المعيقات، وعام 2016 كتاب بعنوان "تخرج بكفاءة" يعالج موضوعات غير أكاديميّة تواجه الطالب في سني حياته الجامعيّة، لتمكّنه من تجاوز عقبات تأهيله الفكريّ والسلوكيّ والمهارات اللازمة  له، كي يخوض سوق العمل وينافس العالم كلّ حسب اختصاصه. لديّ ثلاثة أعمال روائيّة قادمة آمل أن تصدر حتى نهاية هذه السنة. أخيرًا، لا يسعني إلّا أن أتقدّم بجزيل الشكر والامتنان للمجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، ولنادي حيفا الثقافيّ على هذه الدعوة الكريمة والعمل الجادّ المسؤول، واخصّ بالشكر مَن أعتزّ بصداقته الأستاذ المحامي فؤاد نقارة وعائلته الكريمة، والشكر موصول إلى الدكتور د. منير توما، والشّاعرة سلمى جبران، الشّاعرة آمال أبو فارس على مداخلاتهم، وللكاتبة عدلة شداد خشيبون على عرافتها للأمسية، وللحضور الكريم فردًا فردًا على صبركم ومحبّتكم للفن والأدب والثقافة.

الصور بعدسة المحامي فؤاد نقارة مؤسّس ورئيس نادي حيفا الثقافيّ

المزيد من المقالات...