وقد يُخْطِئُ الرأي امرؤٌ وهو حازمٌ  **  كما اختلّ في نَظْم القريض عَبِيد

  معلقة عبيد من مُخَلَّع البسيط، ومطلعها:  

أقفر من أهله ملحوب  **  فالقُطَبِيّات فالذَّنوبُ  

وقد صرَّع الشاعر مطلعها، وأقام قافيتها على الباء المضمومة.  ومجزوء البسيط ووزنه :"مستفعلن، فاعلن، مفعولن" وأكثر القصيدة جاء على وزن مُخَلَّع هذا البحر، وهو يكون باستعمال (مفعولن) على وزن (فعولن)، وهو مستملح في مجزوء البسيط، غير أن جملة من أبيات القصيدة جاءت فيها (مفعولن) على وزن (مستفعلن) وهو غير جائز في مجزوء البسيط، فيها كثير من الأبيات مختَلّة الوزن، وإلى هذا أشار المعري بقوله:  

وقد يُخْطِئُ الرأي امرؤٌ وهو حازمٌ  **  كما اختلّ في نَظْم القريض عَبِيد  

والغالب أن ذلك من سوء الرواية. وعلى الرغم من جَزْء البسيط وتخلُّعه في معلقة عَبِيد، وكثَرةِ الخطأ الإيقاعي، فإن أبياتها رقيقة، كقوله:  

من يسألِ الناس يحرموه  **  وسائل الله لا يَخيْبُ

clip_image002_1a44f.jpg

clip_image004_76c62.jpg

مقدمة : تقعُ هذه القصَّة ( جدي يعشق أرضه) للكاتب والشاعر والمؤرخ الأستاذ (سهيل عيساوي) في 24 صفحة من الحجم المتوسط الكبير، وضع رسومات الكتاب الداخلية وصور الغلاق الفنانة التشكيليَّة ( فيتا تنئيل ) ،

تدقيق لغوي صالح زيادنة .. وطبع الكتاب على نفقة المؤلف .

مدخل: تتحدَّثُ القصَّةُ عن الجد الذي يعشُ أرضهُ وعلى لسان الحفيد الذي الذي يروي القصة عن جده بأسلوب سرديٍّ شيِّق ، ويقول :

 إنَّ جدَّهُ يكونُ مغمورا بالسعادةِ والفرح وهو يفترشُ أرضَهُ الخضراء ويتنفس هواءَها النقيّ وَيُمشّطها بنظراتهِ الثاقبةِ ويتحسَّسُ ترابَها البني بأصابعة الخشنة ويستنشقُ عطرَها الفردوسي، يهيمُ بها بجنون (مقدمةجميلة

تحوي جملا وعبارات أدبية منمَّقة رائعة ومترعة بالبلاغة . )

 ويتابعُ الحفيدُ حديثه عن الجد فيقول : في ساعات العصر بينما كانت الشَّمس رابعة النهار اقتربت سيارةٌ سوداء من حقل جدِّهِ واطلَّ من وراءِ زجاجها رجل أسمر، لم يشاهد الحفيدُ عيونه من خلف نظارته السوداء، وطلب منه من( الحفيد ) استدعاء جدّه لأمر وموضوع هام . وتقدّمَ جدُّه من السيَّارة بخطواته الثقيلة، ويكون حوارٌ بين الجد وسائق السيَّارة الرجل الذي يضعُ النضارة السوداء علي عينيه . ويدعو الجدُّ السائقَ الغريب في البداية لاحتساء فنجان من القهوة المُرَّة ( السادة ) فيعتذرُ الرجلُ الغريبُ ويشكرهُ وأنه لا يشرب القهوة اطلاقا .. ويسألهُ الغريب إذا كان يريدُ أن يبيعَ أرضَهُ فيجيبهُ الجدُّ بالنفي : لا لا .. لن أبعَها . ويحاول الرجلُ الغريبُ إغراءَهُ بدفع مبلغ إضافي من المال فوق ثمنها الحقيقي .. ولكنَّ الجدُّ يرفضُ هذا العرضَ بصرامةٍ وبحدَّة ويقول لهُ : ( هذه الأرض توارثناها من أجدادِنا جيلا بعد جيل منذ مئات السنين، أنا لا أفرِّطُ بهذه الدُّرَّة الثمينة . فقفلَ الرجلُ الغريب راجعا بخفيِّ حنين ( على حدّ تعبر الكاتب..أي بالخيبة والفشل) . وينظرُ الحفيدُ إلى جدِّهِ كما جاء في القصَّة التي تُروى على لسانه : فرأى جبينه يتصبَّبُ عرقا والغضبَ يتطايرُ من عينيهِ، وسمعهُ يقولُ بصوت خافت : يظنُّ هذا الرجلُ المَعتوه أنَّ بامكانهِ إغرائي بأموالهِ المشبوهة . و( وكلمة مشبوه أو مشبوهة تستعملُ كثيرا اليوم لكلِّ شيىء غير نظيف ولكلِّ شخص مشكوك في أمره وفي نقائه الوطني والقومي وللذين عليهم علامات السؤال على مواقفهم وأعمالهم وتوجدُ شكوك كبيرة على أنهم خونة وعملاء ضد شعبهم وأهلهم وأوطانهم ) .

 ويتابعُ الكاتبُ سردَ القصَّة على لسان الحفيد فيقول : عندما كان الظلامُ يلفُّ القرية بعباءتهِ السوداء (تعبير وتشبيه بلاغي جميل ) قرعَ الجرسُ فبدَّدَ سكون الليل ، فخرجتُ أرحِّبُ بالضيوف، وإذا بالرَّجل الغريب نفسه برفقةِ جارنا "عدنان " فرحَّبَ بهما جدِّي بفتور وترحيب مصطنع ورمق جارنا بنظرة حادَّة فانتبه الجارُ وابتلعَ ريقهُ وطاطأ رأسَهُ . وابتدأ الرجلُ الغريب بالحديث وقال للجدّ : جئتُ مع جارِكَ العزيز فآملُ أن لا تردّني خائبا . فيجيبهُ الجدُ : لقد أبلغتك سابقا إنَّ أرضي ليست معروضة للبيع ولا أفرِّط بها أبدا .. فيقول جارهُ عدنان : الرجل جاد في موضوع الشراء وهو كريم وسخيٌّ في الدفع . فيجيبهُ الجد : أعتاشُ وسوف يعتاشُ الأبناء والأحفاد من بركةِ الأرض .

ويقولُ الرجلُ الغريب للجد : بعها وزر البيتَ الحرام لتؤدّي فريضة الحج وتعتمر كل عام . فيقول له الجد : أنا أحبُّ ان أحجَّ إلى أرضي كلَّ صباح وأعتكف بها كلَّ يوم .

فيقولُ له جارنا عدنان: بعد عمر طويل وعندما توارى التراب،سوف يبيعُها الأبناءُ والاحفادُ وينفقون ثمنهاعلى الأولاد والنساء والسيَّارات ببذخ وترف. وعندما سمع الجدُّ هذا الكلام المثير خرج من هدوئهِ واتزانهِ وقال بنبرة غضب وتحدٍّ : أنا ربَّيتُ أبنائي على حبِّ التراب والأرض وعدم خِذلانِها مهما جارَ وتقلَّبَ الدَّهرُ . وأشارَ الجدُّ للحفيد بتقديم الخيار والصَّبر للضيفين ، وقال لهما: تفضَّلا هذا من خير الأرض، خيار بلدي وصبر شهيّ . فقال الغريب مندهشا : أهذا من أرضِكَ !!؟

قال جارنا عدنان : هي أرضٌ خصبة ومعطاءة .

فأردفَ جدِّي قائلا : أنا لا أبيع أرضي لاهل بلدي ولا لسماسرة واستشاط الرجل الغريب غضبا وقال : أرضكَ تنتقل من أيد عريَّةٍ إلى أرض عربيَّةٍ ،عمليَّة لا تشوبها شائبة. فأشعل الجدُّ التلفاز بعد هذا الكلام غير مبال بحديث الرجلين العقيم ( الغريب ووجارهم عدنان ) مبحرا ومتنقلا بين المحطاتِ يبحثُ عن محطّة نافعة تسرُّ البال ..وشعر الرجلان (الغريب والجار) بالملل والضَّجر وعدم الإهتمام والإكتراث بهما وبحديثهما وبوجودهما وشعرا بالإهانةِ والفشل فانصرفا .

 ويتابعُ الكاتبُ القصّة على لسان الحفيد : شعر جدِّي بضيقا في صدرهِ وصعوبة في التنفس، وصداع في الرأس فقدّمتُ له كأسا من الماء ونقلهُ والدي إلى المستشفى للإطمنئنان على صحَّتهِ وقرَّرَالأطبَّاء إبقائهِ للمراقبة الطبيَّة حتى الصباح . وفي الصباح يسافرُ الحفيدُ ( الذي تروى القصة على لسانة ) بالسيارة ويطوي المسافات ويختزلُ اللحظات لأجل لقاء جدّهِ العليل، وهذه هي المرّة الأولى التي يدخلُ فيها المستشفى في حياته العريضة ( حسب تعبير الكاتب) والمقصود بالعريضة الهانئة والمثمرة التي كلها أعمال وعطاء وإنجازات .. ولا بدَّ أنهُ الآن غيرمرتاح فالشوقُ والحنينُ والعشق يذبحهُ للأرض والقرية الوادعة، وهو لا يحبُّ الأدوية المصنَّعة، وهجر الأرض للحظة بالنسبةِ له غربة وضياع وفناء .

 وعندما يصلُ الحفيدُ للمستشفى ويدخل غرفة جدِّهِ يجدهُ جالسا على حافّة السرير مبتسما ويقول له :( أنا لا أبيع أرضي، هي عرضي .. أنا لا أبيع أرضي هي وطني . خذني إلى أرضي حالا أغسلَ عيوني بخضرتِها ، لتستحمَّ روحي بعطرها الزّكي ، لتختلطَ انفاسي بأنفاسِها ، لأروي نبتةً تتضرّعُ لله بعرقي المُتصبِّب عشقا، لأنثرَ ترابها في عيون الشامتين ) .

...وتنتهي القصةُ هنا بهذه الكلمات الحماسيَّة العظيمة التي أطلقها الجدُّ بنبرةِ التحدِّي والعنفوان،وتذكرنا هذه الكلمات بمسرحيات الممثل السوري العربي الكبير دريد لحام وبنهاياتها التي تُقفلُ بكلمات وطنيَّة حماسيَّة عظيمة وبعبارات ومواغظ حكميَّة تلخص فحوى ومضمون القصة والمسرحية بأكملها ، ويكون فيها الهدفُ الرسالة التي يريدها كاتب السيناريو - القصة - والتي قام الممثلون بأدائها .. وهنا في في هذه القصة أيضا وبكلماتِ الجدّ العظيمةِ يلخصُ الأستاذ سهيل عيساوي كل ما يريده في هذه القصة، وفيها مضمون وفحوى الرسالة .

تحليل القصَّة :هذه القصَّةُ كُتبت كما يبدو لجميع أجيال الطفولة وللكبار أيضا . والقصَّةُ أسلوبها جميلٌ جدا وسلس ولغتها فصحى سهلة ومفهومة ، ونجد في نفس الوقت ، في القصة ،الكثيرَ من الكلماِت الشاعرية والصور البلاغيةِ الجميلة والكثير من الجمل المترعة والمشعة بالحكمة والفلسفة والمواعظ والشعارات الحماسيّة الرنانة التي تذكي الهممَ والأريحيَّة وتعزّز وتعمِّقُ الشعور الوطني والقومي والإنساني في نفوس الناس الشرفاء والأنقياء وكل عربي وفلسطيني عنده ضمير حي ومبادىء وقيم ومثل ومشاعر وطنيّة إنسانيَّة جياشة .

 هذه القصَّةُ ترفيهيَّة ولتسلية وإسعاد الطفل من الدرجة الاولى بلا شك ، ولكنها تفتقرُ للطابع وللعنصر الفانتازي الخيالي على عكس الكثير من القصص الأخرى التي كتبها الأستاذ سهيل عيساوي .. فالقصَّةُ واقعيَّة مئة بالمئة بجميع أحداثها ومشاهدها وأبعادها وتموجاتها ...وتتحدَّثُ عن حبِّ الأرض وقيمتها وأهميّتها للإنسان وقداستها . فهي الوطنُ وهي الأم وهي الكيان والهوية وهي العرض .. والإنسان الذي بدون أرض هو بدون وطن وبدون انتماء وبدون جذور ويكونُ كالريشةِ في مهبِّ الريح يتطايرُ من مكان لمكان ولا يوجدُ له استقرارٌ وموطىءُ قدم ومكان يسندُ رأسه عليه . وتتحدثُ القصةُ كما ينسجُها الكاتبُ ويسردُها على لسان الحفيد عن دور السماسرةِ والعملاء القذر والخطير في خداع وإغراء الناس والأصحاب وحتى الأقرباء ومحاولةِ وإقناعهم لكي يبيعوا أراضيهم ... وأحيانا هؤلاء السماسرة يحاولون إقناع الناس أن الأرض إذا بيعت ستكون بأيدي عربية وليست لأجنبي وغريب .. مع انَّ الإنسان الذي يبيعُ أرضَهُ يخسر كثيرا ويفقد أهمَّ شيىء لديه ويندم في المستقبل حينما لا ينفعه الندم.. فالارض إذا بيعت لا ترجع ولا تعوّض كالذي يفقدُ ولداعزيزا من أولادِه ومن المستحيل أن يعود ويرجع للحياة بعد الموت .. وأنا أعرف أشخاصا باعوا اراضيهم قبل أكثرمن 15 سنة بسعر زهيد ولم تكن للأرض قيمة كبيرة كما هو اليوم .. والآن هم نادمون جدا على ما قاموا به وكأنما ارتكبوا جريمة نكراء لا تغتفر .

 وهذه القصةُ أظنُّ أنها الأولى التي كتبها الأستاذ سهيل عيساوي للأطفال محليا تتحدثُ عن الأرض والوطن والأنتماء القومي وعشق الأرض والتشبُّث بتراب الوطن . وخاصة أنها موجهة بشكل تلقائي للأطفال وللجيل الناشىء الذي لا يفهمُ ويدركُ كُنهَ وحقيقة وقيمة الوطن والأرض والإنتماء. وأظنُّ،بدوري، أن هذه القصَّة ( جَدِّي يعشقُ أرضَه ) لا يصادقُ ويسمح لها أن توضعَ وتدرجَ مستقبلا في المناهج الدراسيَّة لطلاب المدارس والمعاهد في الداخل لأنها تدعو للفكر وللوعي وللإنتماء الوطني والقومي ولتعزيز القيم والمبادىء والمثل وليس للترفيهِ والتسلية فقط كما ينتهج ويفعلُ معظم كتابُ قصص الأطفال . والجديرُ بالذكر أنَّ العديدَ من الذين يكتبون أدبا وقصص الأطفال على الصعيد المحلي لا يعرفون إطلاقا أسُسَ وأصولَ بناء القصة للأطفال...ويظنون أنّ الجانب الترفيهي فقط هو الذي يجب أن يكون موجودا ومتوفرا في قصص الاطفال ( التسلية )... وهؤلاء الكتابُ على ما يبدو أنهم مُستكتبون وَمُرتزقون وَمُهَجَّنون وَمُوَجَّهُون وَمُسَيَّرُون وللأسف من قبل جهات سلبيَّة ومشبوهة ونهجها معاكس ومناقض بل معادي لقضايا ومصالح وثقافة وحضارة شعبنا الفلسطيني محليا وخارجا والعربي قاطبة،وهؤلاء هم الآن سوقهم وموديلهم متألق وناجح في الداخل في أوكار الإعلام المحلي الأصفرعلى أنواعه وماركاته وفي برامج بعض محطات التلفزة التي تريد لعرب الداخل فقط ثقافة هجينة وأدبا هابطا ساقطا سخيفا وتافه وفارغا من كل مضمون وهدف بناء ( إنساني، إجتماعي ، سياسي ، فكري ،وطني ، قومي وسلوكي وتثقيفي وأدبي وفني .. ألخ )... ...على عكس الوضع والأمر والمُنطلق والتوجُّه في هذه القصَّة الإبداعيَّة الرائدة للأستاذ سهيل عيساوي (جَدِّي يعشقُ أرضَهُ) لأنها لا تتمشّى وتتناغم مع تلك السياسة الغاشمة والنهج الجائر غير المنطقي وغير الإنساني.. ولأنها أول قصة في الداخل على ما أعتقد تُكتبُ للأطفال تتناولُ قضيَّة الأرض والوطن والإنسان الفلسطيني والإنتماء الوطني بشكل مباشر وبطابع إنساني شفاف وبريىء وبعفويَّة ومن دون مزاودة أو تطرف ويبقى الجانب الإنساني هو المهين والمشعُّ فيها وليس الطابع العنصري..ولا أجزم أيضا إذا قلت إن هذه القصَّة أيضا لها طابع أمميٌّ شامل وتخاطب ضمير كل إنسان وفي كل مكان وزمان ...تخاطبُ كلَّ إنسان طبيعي ومتكامل أخلاقيا وسلوكيًّا وآيديلوجيًّا وشريف ونظيف في أي مكان وفي أي وطن ومهما كانت قوميته وجنسيَّته، وليس الإنسان والمواطن الفلسطيني فقط ، وتعلمهُ وتحثُّهُ أن يكون مُحِبًّا لشعبه ووطنه ومتمسكنا بأرضه وبيته ومسقط رأسه ولا يفرط بجذوره وانتمائه وهويته وكيانه وبقائه .

 ولهذا نحن نرى اليوم وبضوح أنَّ العديدَ من الكتاب والشعراء الكبار الوطنيين والقوميين المبدعين المحليين يحاولُ الإعلام السلطوي أوالمستقل شكليا والفئوي والمسيَّر والموجه من جهات مشبوهة ومعادية لقضايا شعبنا والإعلام الحزبي الأصفر المشبوه أيضا تهميشهم والتعتيم عليهم، بل حتى وأدهم في الحياة إذا كان هذا بالإمكان . لأن كتاباتهم تخدم الأنسانية والقيم والمبادىء والمثل والأخلاق كشيىء أساسي وهام وفي سلم الأوليات وتخدم أيضا وبشكل واسع الأمور والقضايا الوطنيَّة والقومية الفلسطينيّة والعربيَّة والأمميَّة والإنسانيَّة جمعاء. الأمر الذي يتناقضُ كليا مع أهداف ومآرب هذه الجهات والأوكار والبؤر والمستنقغات الإعلامية المنتنة . وهذا الإعلام الأصفر والسلبي الذي أعنيه يُرَوِّجُ دائما ويشهر فقط الأعمالَ الكتابية التي دون المستوى المطلوب والتي لا تخدم أية قضية مذكورة أعلاة ،وخاصة إذا كان الكتاب الذين دون المستوى لهذه المواد المنشورة التي دون المستوى من الفئة المأجورة والمستكتبة والمهجَّنة التي باعت نفسَها وضميرَها للشيطان ( والكلام مفهوم )

 ولنرجع لقصَّة ( جدي لن يبع أرضه ) فهذه القصَّة يوجد فيها عدة جوانب وعناصر هامَّة، وهي :

1 – الجانب الفني والادبي

2 – الجانب الأدبي .

3 – الجانب للترفيهي

4 – عنصر التشويق

5– الجانب الإنساني .

6–الجانب الوطني والقومي .

7 – الحكم والمواعظ الجانب التثقيفي والتعليمي

8- عنصر الحوار ( الديالوج )بين أبطال القصة )

9- الطابع السردي

10- حكمة وفلسفة الحياة وحب الحياة والكفاح من أجل البقاء .

وأخيرا: إنَّ هذه القصَّة ( جَدِّي يعشقُ أرضَهُ ) تُعتبرُ بكلِّ المقاييس والمفاهيم النقديَّة والذوقية قصَّة إبداعية ناجحة ومميَّزة عن جميع القصص المحلية التي كُتبت للأطفال، ولكن ينقصُها الطابعُ والجوُّ الفانتازي الخيالي ..وفيها القليلُ من المفاجاءات التي قد تضيفُ لكلِّ قصَّةٍ مهما كان نوعُها ولمن كُتبت ولأي جيل البُعدَ الفني والجماليَّة .. وأسلوب ولغة هذه القصَّة (التي نحن في صددها) الأدبية الجميلة والسلسة والمُنمَّقة وكلماتها الشاعرية الساحرة والتعابير والصور البلاغية المشرقة والملونة تضيف لها - للقصة - جمالا أخّاذا ساحرا ورونقا وبهاء وفنا ناصعا مضيئا. والكاتبُ بدوره هو فنان في اختيار وانتقاء الكلمات الجميلة والمعبرة وفي نسج وحبك المشاهد الدرامية في قصصهِ وفي كيفيةِ الإنقال من السرد إلى الحوار وبالعكس وعلى لسان أحدِ أبطال القصة ..كما هو الأمر والحال هنا .. حيث تُروى القصَّة على لسان الحفيد الذي يتحدَّثُ عن جدِّهِ بطل القصةَّ .. وفي معظم الفصول والمشاهد يظنُّ القارىءُ أن هذا الحفيد يتيم أو أنَّ أباهُ مسافر وغير موجود ودائما يبقى مع جده ...ولكن في المشاهد الأخيرة من القصة وعندما الجدُّ يصابُ بوعكةٍ صحيّة يُدخِلُ المؤلفُ وكاتبُ القصةِ وبشكل مفاجىء شخصية َ الإبن والد الحفيد الذي لم يكن له أي ذكر في البداية من قبل الحفيد الذي يتحدث ويروي القصة عن جده .. ولكن دور الإب يكون صغيرا ومحدودا وليس كشخصية محوريَّة أساسية .. ونستطيعُ أن نقول: إنه يوجد في القصة عنصر المفاجأة وبشكل طفيف..والقصة مسليَّة وممتعة بلا شك ويوجدُ فيها عنصرُ التشويق .. وتنتهي نهاية إيجابيَّة وسعيدة عكس ما كان يتوقعهُ القارىءُ حيث أنَّ الجدَّ لا يبيعُ أرضه رغم الإغراءات الماديَّة وتبقى الأرض له ولإبنه وحفيدهِ .. ويريدُ الكاتبُ أن يقولَ في نهايةِ القصة: يجبُ على كلِّ إنسان فلسطين أن يقتدي بهذا الجد المكافح والشهم والشّجاع ولا يُفرّط بأرضهِ مهما كانت المحفزات والإغراءات، فالأرضُ هي الوطن والإنتماء والهوية .. والذي لا أرض لهُ لا وطن له .

 وأخيرا وليس آخرا : نهنىءُ الشاعرَ والمؤرخ والكاتب والأديب القدير والمبدع الأستاذ سهيل عيساوي على هذا الإصدار القيم ونتمنى لهُ العمرَ المديدَ والمزيدَ من العطاء والمزيد من الإصدارات الشعريَّة الأدبية في الوقت القريب .

clip_image002_6773b.jpg

clip_image004_6b237.jpg

الشاعرة ابتسام حوسني، المعروفة أيضا بـ "رياح الأطلس"، هي "اسم على مسمّى". فهي امرأة يتدفّق من وجهها جمال المرأة العربية المغربية وسحر عينيها وإشراقة بسمتها. وهي شاعرة، في حديثها قدرة عجيبة على رسم البسمة على وجهك سواء كان ذلك داخل القصيدة أو خارجها. وهي فعلا، مثل رياح الأطلس، فإذا هبّت عليك، قد تنعشك وقد تعصف بك، فإمّا أن تلتحم بعاصفتها وثورتها، وإمّا أن تُصبح ضحيّة من ضحاياها. وأنا شخصيا التحمت بعاصفتها وثورتها، ليس لأنّني أخاف أن أصير ضحية من ضحاياها، وإنّما لأنّني أومن بما تُجسّده في شخصيتها وفي شعرها، فهي تُجسّد فيهما الغضب والثورة والتمرّد والتوق إلى عالم أفضل. وهي رومانسية أيضا، تحمل في طيّات نفسها وقصائدها، فيضا من الأمل والتفاؤل اللذين لا ينفصلان عن الطبيعة الجميلة في المغرب والعالم العربي عامة.

الشاعرة ابتسام حوسني، أو رياح الأطلس، كما أعرفها، هي ثورة من الغضب تمشي على الأرض. فهي بنشاطاتها وقصائدها، جيش يُقاتل في ميدان عربي انخرست فيه الأسلحة التقليدية، إلّا تلك الموجّهة إلى صدور الإخوة في هذا الميدان العربي الذي لم نعد نملك فيه إلّا ثقافتنا، نُقاتل بها لنحافظ على هويتنا وانتمائنا وإعادة لحمتنا. ولذلك أرى فيها أيضا، شعلة لا تخبو. فقصيدها يشعّ على أبناء شعبها وأبناء إمّتنا العربية من المحيط إلى الخليج، يُنير نفوسنا وعقولنا. وهي تُعجبك بطريقة كلامها الجذّاب المقنع، وتستفزّك بكلماتها حين تقرأها، وبطريقة إلقائها حين تراها وتسمعها، فتجعلك لا ترى إلّا الثورة والتمرّد على الظلم والظالمين، على الاستغلال والمستغلِّين، وعلى الخنوع والخانعين، بل وتستفزّك لتتمرّد على نفسك، إذا كنت صامتا، ولكن ما زالت فيك بقايا جذوة ترفض الذلّ والهوان ولا ترضاهما نهجا لحياتك.

في أحد اللقاءات معها قالت: "كتبت الشعر في المرحلة الإعدادية حينما أثارتني قضية فلسطين، وقصائد محمود درويش ونزار قبّاني. وحينما قرأت الأدب الغربي فوجدت كارل ماركس، ووجدت لينين ووجدت الناس الذين يُدافعون عن البسطاء وعن الشارع، عن الشعب وعن الغضب. فوجدت نفسي أكتب، أرفع قلمي دفاعا عن الأبرياء وعن الفقراء، لأنّني منهم وأومن بهم، أومن بأحلامهم وتطلّعاتهم، فكتبت لهم. وجدت نفسي مسؤولة عن ضمير شعب عشت فيه سنوات صباي مع أبي الذي دفع الكثير من حياته لكي يمنحني لحظة وجودي".

الشاعر الذي يكون ذلك هو منبعه ونقطة انطلاقه وبوصلته التي يهتدي بها، فلا عجب أن يكون التمرّد والثورة هما النار التي تعتمل في نفسه وحركاته وكلماته. هذه هي ابتسام حوسني، رياح الأطلس. هي ابنة الشعب المظلوم والمقهور، وابنة الفقراء الكادحين المسحوقين، وابنة كل المحرومين من نسائم الحرية. إنّها ضميرهم الحيّ، الحرّ، الناطق باسمهم والمدافع عنهم، هي ضميرهم الذي لا يتخلّى عن مسؤوليّاته مهما كان الثمن. وهذا ما أجده في إبداعها الشعري عامة.

وأهمّ ما يشغل تفكيري، كفلسطيني يقرأ ابتسام حوسني، هو أنّ فلسطين بقضيتها ومعاناة شعبها من ظلم واحتلال، تشغل مساحة شاسعة في شعرها. فأنت تجد روح فلسطين حيّة نابضة في معظم قصائدها، تصريحا أحيانا، ورمزا وتلميحا أحيانا أخرى. وعليه، فإنّه مصدر فخر واعتزاز لي أن تمنحني الشاعرة شرف كتابة مقدّمة لديوانها، "كش ملك" الذي صدر مؤخرا في القاهرة. وأراها بذلك، قد دفعت فلسطين خطوة أخرى في معارج الحرية، وذلك أيضا بإهدائها هذا الديوان لأسرى الحرية الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال، خاصة وأنّ شاعرتنا المغربية، هي عضو في نادي الأسير الفلسطيني، وكثيرة هي القصائد والنشاطات التي سجّلت فيها موقفها المشرّف من الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

في حديث لي معها، وفي قراءاتي السابقة لشعرها، وجدت الفكر النيّر الذي اختار حرية الإنسان وكرامته طريقا ونهجا. فهي تُدين كل العقليّات التي تُؤلّه الحاكم والسلطة، بأشكالهما السياسية والاجتماعية والدينية المسيطرة اليوم في عالمنا العربي. وهي تُدين الحصار الرهيب الذي تضربه قوى الظلام حول من اتخذ الحرية والكرامة طريقا له.

ووجدت لديها أيضا، المواقف الإنسانية الثابتة والصارمة التي لا تعرف التأتأة أو المهادنة، تُشاكس السلطة، تُناهضها وترفض إملاءاتها وتحتقر المذدنبين لها. وتُعادي كذلك الجهل والتّخلّف وخفافيش الظلام.

ومن أبرز ما وجدته في شخصيتها وشعرها، تلك المرأة الحرّة المناضلة في سبيل حريتها وحرية مجتمعها وشعبها والإنسان عامة. وكذلك المرأة الثائرة على سلطة المجتمع الذكوري الذي يراها عورة يجب حجبها عن نور الشمس والحياة خلف أسوار التخلّف، ويريدها سلعة تُباع وتُشترى للمتعة وتحقيق الشهوات والذات الذكورية الفارغة التي سحقها الجهل وأفقدها التخلّف معنى الرجولة الحقيقية.

ابتسام حوسني تكتب الشعر بروح حداثية مشاكسة. وأول ما تظهر تلك المشاكسة في عناوين قصائدها التي، من جهة قد تأتي بها من خارج العربية، مثل: "كانامارا"، "إنبوكس مي"، "تيتيز"، "ستانيك" وغيرها. ولكل عنوان إحالاته ودلالاته. ومن جهة أخرى، قد تأخذك أحيانا إلى فضاءات غير تلك التي تتوقّعها في النصّ. وهي إذ تُشاكس، لا تتقيّد تماما بروح الحداثة التي تريدك أن تهدم كل الثوابت. فهي تكتب قصيدة النثر ولكنّها تُحافظ فيها أحيانا، على إيقاع موسيقي وقافية يحملانك إلى الأيام الخوالي التي تحضن تراثنا الشعري وغيره. وهي كثيرة التناصّ مع القرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية، ومع الموروث الإنساني كلّه، مثل الأساطير والأديان والتاريخ والتراث الشعبي، وغير ذلك الكثير. ومن هنا فإنّها تحافظ على نصّ متميّز بعنوانه وشكله ومضمونه. فالنصّ لا يُغريها إن لم يكن مشاكسا يحمل استفزازا كبيرا لتفعيل عقل القارئ، ويساعده على النهوض مما هو فيه من أوضاع يحكمها القهر والجهل والتخلّف. وأستطيع القول هنا، إنّها كسرت مقولة إنّ الشعر يخاطب العواطف فقط، فشعرها يُخاطب العقل كما يٌخاطب العواطف وأكثر.

يقول الناقد الجزائري، بودة العيد، حول انتقائها لعناوين قصائدها: "إن الملامح السيميائية للعتبات الأولى للنصّ تشي بمجموعة من المعاني المثيرة لعواطف القارئين، وهو أمر نراه قد استرعى مهارة انتقائية من قبل الشاعرة التي استغلت الموقع الأيقوني للعنوان لتستفزّ به فضول الذات القارئة التي لا تشكّ المؤلفة في القابلية الكبيرة لهذه الذات في تعاطيها مع هذا النوع من المواد النفسية وذلك ما جعلها تفلح في منح النصّ مساحة قرائية أوسع رغم الاختلاف الواضح بين المتن النصّي والكلمات المفتاحية له". وقد اتخذ بودة العيد من قصيدتها، "شفاه قد يحملها كفّ!!"، نموذجا، حيث يعدنا العنوان برحلة رومانسية مع شفاه نتوقّع ملامستها بأكفّنا وتقبيلها ولثم شهدها. ولكنّنا نُفاجأ بكفّ الحاكم تحمل الشفاه على ترتيل اسمه والهتاف له. وهنا، عندما نلج النصّ نجد الشاعرة تفضح الجماهير التي تنصاع لشريعة الحاكم، تُقدّسه و"تزكيه بعيد ميلاده / وتهتف: / بدوام ملكه / حاكما مطلقا". وتفضح أيضا الحاكم المطلق الذي يستعبد الجماهير ولا يوحدها إلّا بتقديسها وانصياعها لشريعته، فيُسخّرها "خدّاما وجماهير / بالإجماع تلتفّ / تقبّل راحة يديه / ... / تذوب في غرامه / لا تعترض عليه / فكل ما قرّره / بشأنها متّفق عليه / يلمّ شمل الأمّة / ويوحّد الصف!!".

في ديوانها، "كش ملك"، نجدها تنزع إلى التجديد في هذا المجال المشاكس، في اختار بعض عناوين قصائدها من لغات أو ثقافات أو حضارات أخرى غير العربية، مثل العناوين التي ذكرتها سابقا. ولجميعها إحالات ودلالات سآتي على ذكر بعضها لاحقا.

ومن اللافت أنّ شعر ابتسام حوسني، في ديوانها الذي أقدم له وفي غيره، تعمّد بروح فلسطين والحنين إليها، لدرجة أنّك عندما تقرأ بعض قصائدها، تظنّ أنّك تقرأ شاعرة فلسطينية، ففلسطين حاضرة في شخصيتها وشعرها، وتلعب دورا مؤثّرا. تقول: "أنا لا أنساك فلسطين! / فلك بعنقي دين … / وبغير هواك لا طين / ولغير رؤياك لا عين / تنبت بوجه يدين ... لسواك / لا إنسيّ ولا جنّ / نمووووت نموووت فيك / ولك أبدا نَحِنّ!!". وحنين الشاعرة إلى فلسطين نابع من إحساسها بعمق جرحها. ففي قصيدة لها بعنوان "فلسطينية واسمي وطن"، تقول: "فلسطينية واسمي وطن / ندبة في جبين / هاروت وماروت / وهما يرسمان / بزجاج البيت المقدّس / مستوطناتٍ من قطن". وفي قصيدة أخرى من قصائدها، تطلق الشاعرة صرخة مدويّة ترسل بها "من رياح الأطلس الى طفل مقعد في لحده، هو حنظلة الذي سيظل دائما في العاشرة من عمره، حين تقول: "يا ويحنا ... من وحيه / حينما يستدير الى الخلف / يرانا بظهره / ويشيح عنا بوجهه / ورقابنا مدينة له / بمقتله".

ولا تنسى الشاعرة غزّة وعذابها الذي لا ينتهي. ففي قصيدتها "على أستار غزة"، تقول: "ونهتف / كل الوقت / بعالية المقام / غزة !! / نحيا لها / نموت بها".

وإذا كنت قد وجدت نفسي في الصادر من إبداع ابتسام حوسني، كفلسطيني له قضيته التي تتماهى معها الشاعرة في كثير من إبداعها، وتغرف من بحور أحزانها، ففي ديوانها، "كش ملك"، الذي منحتني شرف التقديم له، وجدت نفسي، بالإضافة إلى ما تقدّم، إنسانا ثوريّا يتماهى مع الشاعرة صاحبة الفكر التقدّمي النيّر، ويؤمن بما تؤمن به، في وقوفها مع الشعب وفي صفّ الناس الكادحين، المسحوقين والمقهورين. فهي تنطق باسمي عندما تنطق باسمهم، تدافع عنهم، تنتصر لهم وتستفزّهم للنضال والمقاومة وعدم الخنوع للظلم والاستغلال.

في قصيدة أخرى بعنوان، "على الدرب الأحمر"، وما أدراك ما الدرب الأحمر؟! تذكّرنا ابتسام حوسني بالشاعر الفلسطيني سميح القاسم، وبرائعته "سأقاوم" أو "خطاب في سوق البطالة"، حين يقول: "ربما تصلب أيامي على رؤيا مذلّه / يا عدو الشمس ... لكن ... لن أساوم / وإلى آخر نبض في عروقي ... سأقاوم". أمّا شاعرتنا فتقول: "يا رفيقي: / الآن قاوم! / أخرج أصابع كفّك / من قفّازات البرد القارس، / دون أن تعدّها / واحدا واحدا / فعددها خمسة / لا تساوم / ... / كان لبني كنعان / ممرا مستحيلا / فأصبح من جهلنا / جسور ملاحم / يا رفيقي: / الآن قاوم!".

ديوانها، "كش ملك"، من عنوانه يبرز غضب رياح الأطلس وتمرّدها ونهجها الثوري الذي لا يتأتئ في مقاومته للسلطة. وقصائد الديوان بعناوينها ونصوصها، وما فيها من محاولات للتجديد التي تصل حدّ المشاكسة في الشكل والمضمون واللغة. فالمشاكسة اللغوية تعكس بدورها مشاكسة السلطة في الأقطار العربية، ومقاومة أنماطها الثابتة وممارساتها التعسفية. كما أنّ شاعرتنا تمزج بين الأسطورة والتاريخ والخطاب القرآني، والاستعارة من اللغات الأخرى، تعكس بذلك غضبها وروحها المتمرّدة، وثورتها على كل مظاهر الظلم والتخلّف وتقديس الحاكم. كما أنّها تنتصر للمرأة العربية كذلك، وتدعوها للتمرّد وتقرير مصيرها بنفسها، من خلال مواجهة المجتمع الذكوري المتخلّف.

كثيرة هي النماذج التي تثبت قدرة الشاعرة في هذا الديوان على التجديد الحداثي في النصوص وعناوينها، دون خوف من تقييدات الحداثة التي تلزمنا بالثورة على المقدّس بكل أشكاله. فالشاعرة تعرف متى تثور ومتى تتصالح مع الموروث، فهي لا شكّ تعرف أنّ الحداثة نفسها ليست بقرة مقدّسة، وترى بهذا التصالح نهجا لا يتناقض مع ما تقتضيه متطلبات الحداثة.

في قصيدتها، "كانامارا"، العنوان وحده ثورة بحدّ ذاتها. فيكفي أن نعرف أنّ "كانامارا" في اليابان هو عيد يُحتفَل فيه بالعضو الذكري، حيث ينصّبه الناس إلها ويعبدونه يوما في السنة، يكفي أن نعرف ذلك حتى نحسّ أن الشاعرة تتحدث عن شذوذ ما، وإذا بحثنا عن ذلك الشذوذ عندنا، سنجد الشاعرة ترمز بهذا العنوان إلى الشذوذ في الفكر والعبث الذي نعيشه، وهو ما ينعكس بشكل جليّ في النصّ. فالعباد كما جاء في النصّ: "يقطعون العهد على أنفسهم / سرعان ما ينقضونه / يتيهون في الأسواق / يمشون بيننا / يردّدون نشيد الأمير / وعن ظهر قلب يحفظونه!". أليس شذوذا أو من عبث الحياة أن ينقض الناس عهودهم، ويخونوا أنفسهم لكي يردّدوا كالببغاوات ما يلقّنهم الأمير؟ أليس عبثا وشذوذا، ومفارقة مأساوية، خضوع المظلوم لظالمه؟!

أمّا في قصيدتها، "للتي تخرج قدميها دوما من الغطاء أثناء النوم!"، يكاد القارئ لا يرى العلاقة بين العنوان والنصّ، ولكنّ هذا البتر، أو القطيعة بين العنوان والنصّ، ليس عفويا، وإنّما هو ثوريّ مدروس. فإذا فهم القارئ النصّ وما فيه من فضح لما يحدث في مؤتمرات القمامة العربية، التي تأتمر بأمر العدو وتصون مصالحه أكثر من مصالح شعوبها. وسوف يتساءل: من هي تلك التي تخرج قدميها دوما من الغطاء أثناء النوم؟ وسوف يبحث عنها، وقد يجدها في الشاعرة التي ترفض تلك الفضائح، وتريد أن تخرج من تحت ذلك الغطاء المذلّ، أو يجد فيها تُمثل الصوت الشاذّ في تلك الاجتماعات، الصوت الذي يخرج عن الإجماع المذلّ تحت تلك المظلّة المذلّة. وهذا يُعبّر بوضوح عن سعي الشاعرة لتعرية المجتمعِين المؤتمرِين، باحثة عن ذلك الصوت الشاذّ الذي نتمنّى أن يكون موجودا في تلك الاجتماعات.

وقد لا يكون بعيدا عمّا ذكرناه سابقا، ما جاء في قصيدتها "إنبوكس مي" (Inbox me). أولا، من حيث تجديدها اللغوي المشاكس في العنوان، وثانيا، من حيث كونها مثالا حيّا لما تتمخّض عنه تلك الاجتماعات العربية أو المفاوضات السرية مع الغرب، من قرارات مخزية، قد تظهر شيئا وتخفي ضدّه، تظهر ما تدّعي أنّه ينفع الأمّة، وتعمل بالخفاء على ما ينفع الغرب، أعداء الأمّة. فـ "إنبوكس ... مي" (Inbox me)، تعني خاطبني سرّا، وهي إحالة للمفاوضات السرّية من أجل بيع قضايانا الكبرى. ويظهر هذا جليّا في النص: "تدمر الرابضة / خارج قلاعها / تطلب اللجوء لأراض محتلة / تحاصر زنوبيا الحسناء / من كل وجهة محتملة / تمنع عنها الماء / بقبو القصر / تردم التراب فوق معابره / كي لا يصلها المدد بحينه / فتسقط بيد العدو / لقمة سهلة". أليست زنوبيا الحسناء هي سوريا وما يحدث لها اليوم من حصار وتدمير باسم الديمقراطية الغربية المجرمة، ناهبة خيرات الشعوب التي تدمّر العالم العربي بأيدٍ عربية من أجل إسرائيل؟

وفي الختام لا بدّ من نظرة سريعة على قصيدة "حانة ومانة"، التي يحمل ديوانها الأخير عنوانها. وفيها تستمرّ الشاعرة المغربية، ابتسام حوسني، بأسلوبها المغاير والمشاكس، سواء كان ذلك في لغتها واختيار مفرداتها أو في مضامينها واختيار موضوعاتها. وبهذا الأسلوب، كما ذكرت، ترمي الشاعرة إلى رفع الظلم والقهر وفضح السلطتين: الاجتماعية والسياسية، في العالم العربي.

العنوان، "حانة ومانة"، سواء كان للديوان أو للقصيدة، يُعيدنا إلى قصة قديمة ومعروفة، هي قصة الرجل الذي تقدّمت السنّ بزوجته "حانة"، فتزوّج من "مانة"، امرأة شابة، فنتفت المرأتان شعر لحيته، الأولى نتفت الشعر الأسود بحجّة أنّه لا يليق بسنّه ووقاره، والثانية نتفت الشعر الأبيض بحجّة أنّه لا يليق بشبابه ورجولته. ولمّا سأله صديقه: "أين لحيتك يا رجل؟"، أجابه: "بين حانة ومانة، ضاعت لحانا!"، فذهبت مثلا.

وإذا قصرنا الحديث على قصيدة "حانة ومانة"، نجد أنّ الشاعرة استلهمت التراث عبر الحكاية المذكورة، والتاريخ عبر تاريخ ملوك المناذرة، واستعانت بهما لتسقطهما على الواقع الراهن الذي يعيشه الإنسان العربي في المغرب أو في غيره من بلدان العرب. فالشاعرة تنظر إلى الشعوب العربية على أنّها شعوب مهانة، ضائعة بين "حانة ومانة"، بين ملوكها الذين ينتِفون كرامتها، وبين أسيادهم، تُجّار السياسة في الغرب، الذين ينتِفون ثروات الشعوب وخيراتها، ويشترون بأثمانها ذمم ملوك العرب وضمائرهم في صفقة واحدة.

وملك الحيرة - سواء كان النعمان بن المنذر أو غيره من ملوك المناذرة الذين أطلقوا على أنفسهم لقب، "ملوك العرب"، لأنّهم عُرفوا بقوة مملكتهم التي واجهت كسرى رغم جبروته، وبعزّتهم وعلو نفوسهم واحترامهم لشرفهم وشرف نسائهم - ما هو إلّا قناع تسقطه الشاعرة بشكل مفارق مثير للسخرية، على وجوه ملوك العرب في عصرنا الراهن، وزعمائنا الذين يُتاجرون بشرف نسائهم وأوطانهم وشعوبهم المقهورة، في سبيل استبقاء عروشهم. هؤلاء الملوك، يُوزّعون النساء، كناية عن كرامة شعوبهم وثرواتها، يُوزّعونهنّ كلحم الضأن على أسيادهم في الغرب، الذين يحمون عروشهم التي ترخص لها دماء المقهورين، وحريتهم وكرامتهم.

جاء في القصيدة: "ملك الحيرة / يسوق نسوة مدينته / عهدا وأمانة"، وتقصد الشاعرة، عهدا وأمانة لأسياده لا لشعبه، ولا لشرفه وشرف شعبه. وهنا تكمن المفارقة الساخرة، التي تجعلنا نرفض أنّ هذا الملك هو ملك الحيرة الحقيقي، وإنّما هو ملك غريب عن الحيرة وأهلها، كما هو غريب عن العروبة وشرفها. ومن المنطلق نفسه يشقّ المناذرة الجدد عصا الطاعة، ولكن على شعوبهم وليس على أعدائهم، "في كل واد ذي زرع"، أي في العالم العربي كله. ويوهمنا الملك أنّه "يرشّ قطرات الندى"، ولكنّه في الحقيقة يزرع أوتادا بيننا، ويشرب مع أسياده أنخاب قهرنا وتفسيخنا. ويُؤكّد ذلك أنّنا نخشى تلك القطرات، فهي: "تتراوح في مشيها / حملا وئيدا / من حديد فيه بأس شديد / منه رقابنا تخشى / أن تخضع لشفتيه / خناجر مدانة". أي أنّها تُثير الشكّ في سلامة نواياها. وما يُؤكّد ذلك، أنّ هذه الفقرة تتناصّ مع أبيات الملكة العربية، الزبّاء (زنوبيا)، حين أوجست شرّا من ثقل سير الإبل فقالت:

ما للجمال سيرها وئيدا        أجندلا يحملن أم حديدا؟!

أي أنّ الزبّاء كشفت المؤامرة فعمدت إلى خاتمها المسموم ولثمت ما فيه من سمّ لتموت قبل أن ينال منها عمرو بن عدي اللخمي وهو أول ملوك الحيرة من بني لخم. وكأنّي بالشاعرة تشير بفعلة الملكة إلى الشعوب وتستفزّها أن تأبى أن تكون "خناجر مدانة"، بأيدي حكّامها الخونة، وأن لا تستسلم لهم. فالموت أشرف من هذا الاستسلام لملوك يُشبهون ملك الحيرة بصورته السلبية، "ملك الحيرة / يسلّم نسوة مدينته / كاسية عريانة / يجر الغطاء على لحيته / يبقيها مُصانة"، أي ملك الحيرة الذي يبيع شرفه ليصون لحيته وعرشه.

وبتمثيلها وجمعها بين ملك الحيرة والزبّاء، تضرب الشاعرة عصفورا آخر، فهي تفضح ملوك العرب كيف يقفون عاجزين أمام أعدائهم، بينما لا يتورّعون من التآمر على بعضهم البعض، كما تآمر ملك الحيرة، عمرو بن عُدي اللخمي العربي، على الملكة العربية، الزباء (زنوبيا)، ملكة تدمر.

يطول الكلام في ثورية أشعار ابتسام حوسني، رياح الأطلس، وصرخاتها التي تُطلقها في وجه المجتمع وسلطاته: الاجتماعية والسياسية والدينية. فهي أوسع من أن يتسع لها مقال كهذا، وهي تستحقّ دراسات متأنيّة أعمق وأشمل، خاصة وأنّها لا تساوم في فضحها ورفضها للحالة العربية الراهنة المخزية.

وأخيرا، يطيب لي أن أعبّر عن مدى متعتي بقراءة شعر ابتسام حوسني عامة، وبشكل خاص ديوانيها: "كش ملك" و"حانة ومانة" الصادرين مؤخرا في القاهرة، واللذين يُشكّلان علامة فارقة في تميّز إبداعها الشعريّ عامة.

كما أنّني أراها فرصة سانحة لأعبّر عن مدي اعتزازي بأنّ تقديمي لديوانها، "كش ملك"، هو أول ثمرة لاختزال المسافات بين حيفا في الداخل الفلسطيني، وقلعة السراغنة في المغرب، وأول ثمرة للتوأمة بين اتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين، وبين الاتحاد المغربي للمبدعين. إنّها بداية متواضعة، ولكنّها مباركة تطمح إلى دوام التعاون بيننا في كافة المجالات.

clip_image002_befcc.jpg

clip_image004_12bca.jpg 

القدس:19-1-2017 من رنا القنبر- ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس رواية تراحيل الأرمن للأديبة الفلسطينيّة ميسون أسدي، وبحضورها وتقع الرواية الصّادرة هذا العام 2017عن دار الرصيف للنشر والتوزيع في رام الله في 140 صفحة من الحجم المتوسط.

بدأ الحديث جميل السلحوت حيث قال:

تواصل الأديبة الفلسطينيّة ميسون أسدي مشروعها الأدبيّ بخطى واثقة، فهذا العمل الأدبيّ هو الرّواية الثّانية التي تكتبها أديبتنا، وميسون أسدي التي تستفيد من تجربتها الحياتيّة والعمليّة في التقاط مضامين قصصها ورواياتها، فتقدّم لنا أدبا واقعيّا لافتة الانتباه إلى ما يدور في مجتمعنا العربيّ، خصوصا من بقوا في ديارهم من أبناء الشّعب الفلسطينيّ في نكبة العام 1948، وتحوّلوا إلى أقلّيّة في وطنهم بفعل آلة الحرب والدّمار الصهيونيّة الامبرياليّة، وما تعرّضوا ويتعرّضون له من اضطهاد قوميّ وطبقيّ ودينيّ في ظلّ ما يحلو للبعض تسميته بواحة الدّيموقراطيّة في الشّرق الأوسط.

وأديبتنا في روايتها الجديدة "تراحيل الأرمن" خرجت بنا إلى موضوع إنسانيّ يتعلّق بالشّعب الأرمنيّ، وما تعرّض له من مذابح وتشريد في العام 1915 أثناء الحرب الكونيّة الأولى على أيدي العثمانيّين الأتراك، حيث قُتل منهم ما بين مليون ومليون ونصف شخص، مع أنّهم كانوا من رعايا الامبراطوريّة العثمانيّة التي كان الأجدر بها حمايتهم بدل ذبحهم وتشتيتهم. وأديبتنا هنا اصطادت عصفورين بحجر واحد، فقد كتبت عن قضيّة انسانيّة، وكان لها السّبق أيضا بأن تكون أوّل أديب عربيّ يكتب رواية عن مأساة الأرمن. وإن سبقتها كاتبة أرمنيّة بتقديم كتاب باللغة العربيّة عن نفس الموضوع، بعنوان "قافلة الموت" للكاتبة الأرمنيّة ربيكا ملكيان، والصادرة في نيسان 2015عن دار "الآن ناشرون" في عمّان متزامنة مع الذّكرى المئويّة للمجازر. "وتعاين ملكيان في كتابها أسئلة الهويّة والإنسان والوطن وقضايا الوجود والموت وحياة شعبٍ، مستنطقة المعمّرات الأرمنيّات والمتاحف وشهود العيان، في بحثها عن إجابات أغمضت عليها عيون أهلها وأقاربها وأسرتها وأحفادهم، وتحديدا النّساء الّلواتي طرد أجدادهنّ من أرمينيا الغربيّة مطلع القرن العشرين."

وما يهمّنا هنا أنّ الأديبة ميسون الأسدي قد أتتنا بجديد في مضمون الرّواية العربيّة، وهذا يسجّل لصالحها، ويعطيها تميّزا جديدا يضاف إلى تميّزها في الكتابة عن القضايا الاجتماعيّة، خصوصا ما يتعلّق بقضايا المرأة. وبغضّ النّظر عن منطلقات وأسباب الأديبة في عملها الأدبيّ هذا، إلّا أنّه لا يمكن إغفال مقارنة نكبة الشّعب الأرمنيّ على أيدي العثمانيّين بنكبة الشّعب الفلسطينيّ على أيدي الحركة الصّهيونيّة المدعومة من الامبرياليّة العالميّة، سواء قصدت أديبتنا ذلك أم لن تقصده. فالفهم الإنسانيّ واحد، وحرمة الدّم الانسانيّ واحدة أيضا بغضّ النّظر عن الجنس أو الدّين أو العرق.

ورواية أديبتنا هذه لا ينقصها عنصر التّشويق، ولغتها فصيحة بليغة انسيابيّة طغى عليها السّرد الحكائيّ والتّقرير الصّحفيّ، وقلّ فيه الحوار الذي يعطي حرّيّة الحركة لشخوص الرّواية.

يبقى أن نقول أنّ هذه الرّواية تشكّل إضافة للمكتبة الفلسطينيّة بشكل خاصّ، وللمكتبة العربيّة بشكل عامّ.

وكتبت رشا السرميطي :

تراحيل كتبت بحبر آهات تتلوى حتَّى ولدت الفراشة

تراحيل الأرمن – رواية ميسون أسدي الصادرة عن دار الرّصيف للنشر والاعلام/ رام الله، في (139) صفحة من القطع الصغير. رواية تتحدث عن الأرمن بين الماضي والحاضر، قصة شعب تعذب، تشرد، وقاوم، لم يزل هناك في حيفا ربما يحمل أعباء الماضي وتراحيله، أرمنيون جدد يتحدثون بالعبرية بدلا من الأرمنية، فهم لا يشبهون الأرمن في أرمينيا وموسكو وأمريكا وفرنسا.

تصنف الرواية ضمن باب الرواية التاريخية، إذ كتبت بها ميسون أسدي أحداثا، تاريخيّة مرّت على الشعب الأرمنيّ، في تراحيل لم تحمل فصولها سوى الوجع والألم مع اختلاف في الزمان والأمكنة، لكنّ الجور على هذه الأقليّة يتكرّر باختلاف فاعله، ليغدو التشتت من نصيب عائلاتهم، ويكبر المصاب بعدما تتوالى السنون، في أوراقها تطرقت لهذه العائلة الأرمنية الكبيرة والمتشعبة بعاداتها وتقاليدها وكذا طقوس احتفالاتها وشعائرها.

أثقلت الكاتبة على القارئ بالأسماء المتفرعة وتفصيل معانيها، إذ كنت أرى لو تركتها دون إيضاح لكان ذلك أيسر على القارئ وأكثر تشويقا لفهم المعنى ضمنيا، وربما أرادت الكاتبة ربط دلالات الأسماء بأصحابها رغم أنها ابتدأت بنفي ذلك عنها صفحة (10) لتقول:" نادرا ما يشبه الشخص الاسم الذي أعطاه إياه ذووه". لم توفق الكاتبة من وجهة نظري في تفصيل الشخصيات صفحة (8) إذ لم يكن ذلك ضروريا، بالنسبة لي كقارئة لا أعرف شيئا عن الأرمن وأسمائهم، كنت أفضل لو بدت الأسماء لي مبهمة أجنبية.

الهجرة والشتات لون النص- تراحيل الأرمن- حكاية قلم وفيّ لما سمعته كاتبته من أرواح صادقة، بنيت عليها أعمدة الرواية جميعها، وقد اعتمدت الروائية أسلوب الحوار بالسؤال والجواب مع سردية قصيية بسيطة عما أرادت اخبارنا عنه من أحداث الرواية، التي كانت تدعو بها للمسامحة والانسانية والتعارف من أجل تقليل العدائية؛ لاكتشاف الآخر في الانسان المختلف عنا، وقد غنيت نصوصها بعادات أرمنية مثل الهريسة المصنوعة من اللحم والقمح، قنابل الأرمن وهي الكبة، مباركة العنب وهو طقس ديني له شعائره بالكنيسة في شهر آب، مباركة الزرع في كانون، ومباركة السنابل في أيار. حيفا كانت سيدة المكان في الوصف والسرد، حي وادي النسناس، كنائسها، الأديرة، ساحة الحناطير، جبلها وبحرها، مستشفى رمبام، سوق تلبيوت، قرية الأرمن "الشيخ بريك" قرب عتليت، ميناء حيفا، شارع عباس، الهدار وغيرها.

أعتقد أنّ هدف كتابة الرواية هو الاخبار عن الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915 على يد العثمانيين، وما تعرض له الأرمن من أمواج عصفت بتاريخ هذا الشعب، تاريخ يعيد نفسه ببطولات مختلفة لكنّها متكررة، تلا ذلك ما حلّ بهم في حرب 1948 على يد الكيان الصهيوني الاسرائيلي، ليغدو ما تبقى من هؤلاء مهجرين ومتشتتين في المخيمات والاطراف الأخرى من البلاد.

من الأحداث التي أحبت مشاركتنا بها الكاتبة، قرع جرس الكنيسة الأرمنية بغير المناسبات الدينية والزواج والموت، عندما حضر الفنان " وليام سارويان" المولود في كاليفورنيا إلى حيفا، طرد طلاب الأرمن من مدرسة راهبات الناصرة، حكاية البسطار، نحاس الصحراء وهي رحلة البطل إلى ايلات وعمله في مناجم النحاس، وقصص أخرى قدمها الرحالة " البرق" جايزاك بطريقة سلسلة وبسيطة يبغي منها الإخبار، والتدليل لكون هذه الشعوب إنسانية محبة، لا تستحق تلك الإبادة والتنكيل الذي تعرضت له من قبل أي جهة معتدية.

هل اكتملت أدوات وعناصر الرواية الفنية في تراحيل الأرمن؟

استطاعت الكاتبة سرد الأحداث وتنقلت بالقارئ من مرحلة إلى أخرى، لكن الوصف بدا مقتضبا، أعتقد بأننا أمام مجموعة قصصية وليست رواية، لقد فقدت الكاتبة خيط الأحداث والحوار الداخلي والذاتي للمؤلف، لم تبرز عقدة لتأخذ القارئ للتفكير والتحليل أي لم تكن مربكة له، وبدأت تتواتر القصص على لسان جايزاك دون ترابط يلملم شمل هذه الأحداث الغزيرة، التي لم توظف في سياق روائي من حيث الوصف والاسهاب وكذا التشويق، لقد كانت بمثابة سرد مثل ومضات عن حياة الأرمن، وما يجري معهم في بقاع الأرض فرحا وترحا، كما أنها كانت مباشرة دون غموض أو خيال،أي بلغة تقريرية دون الاستنجاد بصور بلاغية وصفية للمكان والأشخاص، لم أعرف شخصيا كقارئة عن أبطال الرواية أكثر من أسمائهم، حتى جايزاك الذي تربع على منصة السرد كان يسرد الأحداث منحيا رأيه وفكره كانسان، لم تثر في داخلي قصصه الأسئلة، فمررت عنها لغرض المعرفة فقط. أما الفكرة الرئيسية للرواية فهي واضحة: الانسان لا يفرقه عن الانسان دين أو لغة، وإنما علينا أن نسمو في تقبل الآخر والتعياش معه، وهذه رسالة لشعوب العالم وليس للأرمن فقط.

أعجبت بالخاطرة (بلا بطاقة) صفحة (120) للشاعر الأرمني " بايروير سيفاك" التي قرأتها عبلة – مصدرة الأسئلة – على جايزاك، تقول:" أنا عميل للفرح/ وبائع للسرور الواسع/ إنني أملك حانوتا على مصراعيه/ للضحكة الرنانة/ وأملك أيضا/ دكانا مغلقا نصف إغلاقة لبيع الابتسامة/ أما راحة كفي/ وأصابعي العشرة/ فهي ناقلة للسعادة/ فمي غرفة مطالعة للحب/ وقدماي سيارة تقلني إلى المواعيد/ وأما يداي/ فهما واسطة ذكية للاحتضان/ صدري لوحة لوسام/ لوحة لوسام اسمه القلب/ والذي يحملونه في الوجه الداخلي للوحة/ بعد كل هذا/ فما هي الحاجة؟/ لكي أكتب عن نفسي/ كل هذا شعرا/ أنا../ أنا بطاقة موجهة إلى العالم/ لا تثنوني/ ولا تلصقوني بالصمغ..".

تطرقت الكاتبة للعنصرية التي يمارسها اليهود والعرب ضد الأرمن، وقد دللت على ذلك بتطبيق قاعدة " كل أربعين يهودي بأرمني واحد"، وهذا مطبق في مجال العمل والتعليم وتقلد الوظائف، التجارة والمناقصات، تقول:" نحن في بلاد الحرب الدائمة، والأرمن في إسرائيل عندهم مشكلة كبيرة مع هذا الوضع"، " العرب أيضا لا يحبون الأرمن، لأنهم يشعرون بأنهم أحسن منهم، فلا يعطي العرب الأرمن أي شغل".

أخيرا وبعد انتشار دخان الوجع الذي حملته صفحات – تراحيل الأرمن – طارت الفراشة حتى وصلت لزهرة عربية فقرأتها، ونقلت رحيقها لكثير من العرب المسلمين حولها، لنسمو بانسانيتنا ونغدو شعوبا متحضرة، لا يفرقها الدين والحزب والتوجه واختلاف الأفكار فما ذلك إلا ثراء.

وقال محمد عمر يوسف القراعين:

يوهم العنوان أن الأرمن بعد المذبحة الكبرى عام 1915، وتهجيرهم من أراضيهم في أرمينيا أيام الحرب العالمية الأولى، خوفا من مساعدتهم الروس أعداء الدولة العثمانية، ظلوا في ترحيل مستمر قسري ونكبة متواصلة، في حين أن من نجوا من تلك المحنة بعد فقدان مليون ونصف من البشر، استقروا في سوريا و لبنان وفلسطين، وانطلقوا منها إلى أوربا وأمريكا، ومنهم من عاد إلى وطنه في أرمينيا بعد الحرب، والتي أصبحت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي، حيث كان ميكويان الأرمني من قادة السلطة هناك.

وفي توطئة الرواية، تنقل الكاتبة عن الكاتب الأرمني وليام سارويان أن في قلب المأساة ثمة دائما الملهاة، وفي قلب كل ما هو شر هناك دائما خير كثير. وهكذا كان، حيث حولت الكاتبة الرواية من تراجيدي إلى شبه ملهاة، بدأتها باحتفال لمباركة العنب في كنيسة الأرمن في حيفا، يدعو إليه جايزاك بطل الرواية صديقتهم عبلة وزوجها ماجد المصور، وذلك في منتصف آب، لأن العنب لا ينضج إلا في هذا الموعد، وهو يصادف عيد السيدة العذراء، كما لديهم مباركة للزرع في 15 كانون أول، ومباركة السنابل في 15 مايو، هذه نقلوها عن تراثهم الزراعي في أرمينيا.

الأقليات دائما عرضة للاضطهاد وتصفية الحساب، باختلاق أعذار أثناء الحروب، كما حدث مع الأرمن والشركس والشيشان، وأثناء أزمات اقتصادية، كما حدث في أوربا في الثلاثينات من القرن الماضي، حيث أراد هتلر حل المشكلة على حساب اليهود، الذين حلت أوربا وأمريكا مشكلتهم على حساب الفلسطينيين، مما أدى إلى نكبة لم تُحل بعد بل تتفاقم.

روايتنا المسلية والملهاة شخوصها كثيرون، بأسماء ربما حقيقية من معارف الراوية عبلة وزوجها ماجد، ولكنها غير مألوفة لدينا، حيث عرفنا جارو المصور وأرتين الصايغ وسركيس مصفف الشعر، وشوهمليان تاجر الأحذية وأغازريان في الملتقى الفكري، وقلبيان طبيبة الأطفال.

والأرمن الذين هاجروا إلى فلسطين، سكنوا في عتليت في مزرعة الشيخ بريك قبل 1948، أما في حيفا فقد ابتدأ وصول الأرمن عام 1927، حيث افتتحوا النادي وأقاموا الكنيسة الحالية.

جد بطل الرواية سيمون سكن في وادي النسناس، وكان تزوج من ميرانوش تحت جنح الظلام، وهو يكبرها بعشرين عاما، زوجه إياها أبوها لأن الأتراك يستعبدون الفتيات العذارى، وقد هرب من رصاص الأتراك، واختبأ في كهف سبعة أيام حتى أنقذه صيادون أتراك. وصل بيروت ومنها إلى القدس، حيث كان يبيع الكبة والصفيحة في باب الخليل، ثم انتقل إلى حيفا وعمل في ساحة الحناطير في بيع الكبة والفاصوليا الناشفة

كان الأرمن مهرة في القدس، فالصاغة في سوغ الدباغة كلهم أرمن زمن الانتداب، ويشتهرون بعمل البسطرمة والصفيحة الأرمنية والتصوير. والخواجه نِجِر كان معروفا لأصحاب الحلال الذين كانوا يوردون الحليب له ليتصرف فيه. وكانوا منغلقين في ديرهم، ولا يختلطون كثيرا مع العرب، ولهم مدرستهم الخاصة، حيث لم ألحظ أحد طلابهم في الرشيدية مثلا، في حين كان لي زميل سرياني مرقص نعموج في الصف، وكان يدرسنا الأستاذ جبرا إبراهيم السرياني.

ربما كان الوضع يختلف في حيفا، حيث سكنوا بين العرب في وادي النسناس، وأنا أعرف أستاذة في الجامعة دكتورة في علم الكريمونولوجي، متزوجة من طبيب أرمني هاجوب، وماهي لبطجيان متزوج من فتاة عربية، مع أنهم لا يحبون تزويج بناتهم لشباب غير أرمن، كما حدث مع أخت البطل جايزاك التي تعرفت على شاب مثقف هندي، رفض أهلها تزويجها له، لأنه داكن اللون لولا تدخل أخيها.

كان للأرمن ناديان من النوادي العشرة في القدس، هما نادي الهومنتمن والهويتشمن، ولكن لم يلعب منهما أحد في نوادي العرب، بينما لعب جبرا السرياني مع نادي الدجاني، وجبرا الزرقا مع شباب العرب في حيفا.

عودة للرواية،جايزاك كان يوصف بالبرق، لأنه لا يثبت في مكان. لم يتح له الالتحاق بالجيش ليتعلم مهنة، ولا بالسفن لأنه أرمني، فسافر إلى أيلات ليعمل في استخراج النحاس من تيمناع، حيث وفر بعض المال، ثم غادر إلى النرويج، فعمل في مطبخ أحد المطاعم، ثم أصبح شريكا فمالكا للمطعم. وكان كغيره من الميسورين يتبرعون لمشاريع الأرمن في أرمينيا، وله علاقات مع الجميع، وقد تزوج ثلاث مرات، من ليسا الدنمركية وأونيي النرويجية ومالاريكا الأرمنية، وأقام مع كل وحدة ثلاث سنوات ضمن إطار الزواج انتهى بالفراق، لذلك أطلق عليه" لعنات الثلاث سنوات".

تحدثنا الرواية عن عائلات قاست في بداية حياتها، مثل عائلة هايج صديق جايزك أيام الشقونة، الذين عاشوا سبعة في غرفة، لم يكن غريبا علينا، ثم رحلت العائلة إلى كندا عام61، حيث حصل هايج على عمل كمدير في شركة كبيرة للأدوية، وهم يعيش في سويسرا.

يقدر الأرمن الروائي والكاتب المسرحي الأمريكي وليام سارويان، الأرمني الأصل، إذ عندما حضر إلى حيفا، دقت أجراس الكنيسة، مع أنها لا تدق إلا للمناسبات الدينية والزواج والوفاة، وتعرفنا الرواية أن اللغة الأرمنية أصبحت تكتب بثلاثة وثلاثين حرفا منذ عام 406 م

كثير من أسماء الأرمن مأخوذة من المهن مثل دمرجيان تعني حداد، ففي فترة الأتراك كانت أسماء المهن حداد ونجار ونحاس وفران وغيرها تعطي للمسيحيين العرب والأجانب، وليس للمسلمين الذين يخدمون في الجيش، ولم يعملوا في المهن الحرة.

والبدو من العرب يانفون من العمل في المهن، وخاصة الخباز والحلاق والجزار، حتى أن الحجاج في خطبته الشهيرة في الكوفة يقول عن نفسه: ليس براعي إبل ولا غنم، ولا بجزار على ظهر وضم.

وأخيرا استطاعت الكاتبة بجمع قصص، حول هذه المجموعة من الناس المجتمعين لحفل تبريك العنب، وتشكيل رواية بدأتها تراجيديا وحولتها ملهاة، معتمدة على سرد شيق، ومغامرات مسلية وحوارات لطيفة.

وقال عبدالله دعيس:

تاريخ الشعوب مليء بالمآسي والمجازر، نقرأ عنها في صفحات قليلة من كتب التاريخ، أعدادا وإحصائيات، ولكن كثيرا ما ننسى البعد الإنساني للأشخاص الذين عانوا خلال هذه الأحداث. فالقرن العشرين شهد استغوالا على الشعوب المستضعفة، فقتل عشرات الملايين خلال الحربين العالميتين، وشرّدت شعوب باكملها في الشرق مع التوسع الاستعماري لروسيا ثم الاتحاد السوفيتي على حساب الكثير من الشعوب التي تمّ إبادتها أو تهجيرها، أو الاستعمار الغربيّ الذي استعبد الشعوب في أقطاب الدنيا وسرق خيراتها وساق أبناءها ليعملوا عبيدا في مزارعه ومصانعه. وكان الأرمن من هذه الشعوب التي وقعت بين سندان الشرق ومطرقة الغرب، فانقلب عليهم الأتراك الذين جاوروهم وعاشوا في كنفهم قرون عدة؛ فقتل منه أعداد كبيرة وشُرّد الكثيرون في أصقاع الأرض.

هذه الأحداث التاريخية تحمل في طياتها حكايات ناس كثيرين عاشوها وذاقوا ويلاتها. يحمل حكاياتهم أولئك الذين يعيشون في الشتات من بعدهم، يسترجعون حكايات عذابات أجدادهم ويعانون غربة بعد غربة. فالأرمن تشتّتوا في أرجاء الارض يحملون قصصهم وحكاياتهم، ولكنهم أيضا يصنعون مستقبلا لهم في غربتهم، وهم في نفس الوقت يحافظون على لغتهم وتراثهم وطقوسهم مستعصين على الذوبان في الشعوب التي احتضنتهم، فكانوا وما زالوا يثرون هذه المجتمعات بثقافتهم ويتعايشون معها. ومع أن كثير من التجمعات الأرمنية تعيش في فلسطين وفي القدس خاصة، ونتعامل معهم بشكل يومي، ونتعجب من قدرتهم على الحديث بلغتهم حتى بعد مائة عام من الشتات، لكننا قد لا نعرف الكثير عن ثقافتهم وحياتهم اليومية.

أرادت الكاتبة ميسون أسدي في كتابها (تراحيل الأرمن) إعطاء صورة عن حياة الأرمن اليومية في اصقاع الأرض التي شتتوا إليها، وخاصة في فلسطين، فساقت قصة عائلة من الأرمن الذين لجأوا إلى حيفا، ثمّ أصبح بعضهم لاجئين مرّة أخرى بعد احتلال فلسطين وتشريد أهلها ومنهم الأقلية الأرمنية. حكت الكاتبة عن الحياة اليومية لأولئك وعلاقاتهم الاجتماعية وذكرياتهم التي تناقلوها عن أجدادهم عن مذبحة الأرمن التي حدثت قبل مائة عام. موضوع مشوق ومفيد، غنيّ بالمعلومات والحكايات.

والرواية تعطي صورة حيّة عن حياة الأقلية الأرمنية في حيفا، خاصة طقوسهم الدينيّة وعاداتهم وتقاليدهم وآدابهم وارتباطهم بوطنهم الأم وارتباطهم بفلسطين أيضا. وكذلك عن حياة المغتربين منهم في أوروبا وأمريكا وتأثير النكبة الأرمنية، وكذلك تؤثرهم بالمجتمعات العربية التي احتضنتهم ونجاحهم الباهر في أعمالهم أينما حلّوا.

لكن، هل استطاعت الكاتبة أن تعطي هذا الموضوع حقّه؟ عندما تعرضت الكاتبة إلى مذبحة الأرمن لجأت إلى سرد سريع موجز لبعض الأحداث التاريخية وبلغة تقريريّة مباشرة تخلو من التشويق والتأثير على القارئ. ثمّ بدأت تسرد الحكايات عن بعض الشخصيات الأرمنية التي اختارتها، بشكل متداخل غير واضح الزمن، ومشتت للقارئ، ودون أن تستطيع أن تبني شخصيّات روائيّة حيّة يتفاعل معها القارئ ويحسّ بها، وكررت الكثير من الحكايات والمعلومات في أرجاء الكتاب دون حبكة واضحة للرواية. وكانت لغة الكاتبة بسيطة عفويّة أقرب ما تكون من الكتابات الموجهة للأطفال، ولجأت إلى التكرار غير المبرّر، فقد وضحت معاني بعض الكلمات (كالبرق) مثلا مرات ومرات. لذلك فإنّ مضمون هذه الرواية برأيي لا يضاهي عنوانها ولا يعطي هذا الموضوع حقّه.

مع أهمية الموضوع، وافتقار المكتبة العربية إلى الكتابات فيه، تبرز أهمية هذه الرواية، التي كنّا نتمنى على الكاتبة أن تبذل جهدا أكبر في إخراجها، لتكون بمستوى هذا الحدث وهذه الأمّة (الأرمن) الذين نكنّ لهم كلّ الاحترام والتقدير.

وفي نهاية الأمسية تسلّمت الأديبة أسدي درع الندوة تقديرها لدورها في رفد الثّقافة العربيّة بابداعات لافتى.

شارك في النقاش كل من: عبد الكريم الشويكي، طارق السيد، رائدة ابو صوي، ماجد لماني، سعيد عياش، مهند الصباح، رنا القنبر.

عن دار الوسط اليوم وشوقيات للإعلام والنشر

clip_image001_f0749.jpg

قلم! جَسَّ الطّبيبُ خافقي وقالَ لي: هلْ هُنا الأَلَمْ؟/ قُلتُ له : نعمْ/ فَشَقَّ بالمِشرطِ جَيْبَ مِعطفي وأخرجَ القلمْ!!

بهذه العبارات من قصيدة الشاعر أحمد مطر استهلت الكاتبة والإعلاميّة الكبيرة شوقيّة عروق منصور إصدارها الجديد "قلم ... رصاص"، الذي تستعرضُ به الوجع الإنسانيّ والوطنيّ في مقالاتها الجريئة، والذي صدر عن دار الوسط اليوم للإعلام والنشر في رام الله، وشوقيّات للنشر في طيرة المثلث الفلسطينيّ المحتلّ.

تضمّن الكتاب 136 صفحة من الحجم المتوسّط، وما بين مقال "كلب السفير سفير" وبين مقال "كبريت أبو الشوارب" تعدّدت العناوين الجريئة في كتابات شوقيّة عروق، والمتمرّدة على واقعٍ تشوبه مُنغّصات السياسات العبثيّة، وتتوالى العناوين: لك يوم يا ظالم، وما أتعس الوطن حين نصبح أشجارًا للقطع، وطبّاخ الرئيس، طبّاخ النملة، من مؤخّرة الدجاجة يُخرجون قنابل مسيلة للدموع، ونتكلم من داخل برميل قمامة، ومقالات أخرى تحمل ذات الروحيّة المتهكّمة الساخرة، والرافضة لكافّة أشكال الفساد والتسلق والظلم.

الجزء الأوّل من سلسلة إصدارات "قلم ... رصاص" التي تعمل الإعلاميّة شوقيّة عروق منصور على إصدارها، يؤطّرهُ غلاف مكوّنٌ من جزءين؛ لوحة للفنان الشهيد ناجي العلي، بريشته التي وقفت ضدّ كافّة أشكال التخاذل والخنوع، وبتوظيف مضامين مقالاتها الجميلة الجريئة، بسيميائيّة رمزيّة موحِية وإخراج فنّيّ أكثر من رائع، للغة الحوار التي شدّدت عليها الكاتبة في نقدها اللاذع وعناوينها الصاخبة التي تستصرخ بها الضمير الإنسانيّ، وقد صمّم المخرج الفنّيّ بشار جمال صورة الغلاف، وأخرجه بدلالاته الصارخة.

لغة كتاب "قلم ... رصاص" رشيقة وواضحة وسلِسة، وطرح المواضيع مُشوّق للقارئ، يُبكيكَ ويُضحكك بلغته البسيطة المتهكّمة، وقد استندت في كثير منها على الأمثال الشعبيّة ومقولات تراثيّة، والكاتبة شوقيّة عروق جعلت مقالاتها المُواكبة للحياة اليوميّة وأحداثها حقلَ بحثٍ، يستحقّ القراءة والدراسة والمتابعة، والتوقّف للحظات، وكأن الكاتبة شوقيّة تصوّر الحاضرَ بعينِها، وتستشرفُ المستقبلَ برؤية مغايرة، فلا تُجمّلُ ولا تكابر ولا تتغاضى عن أيّة شاردة أو واردة، بل تلتقطها وهي طائرة، وتُجيّرها لقلمها السيّال.

أجزل التهاني والمباركات نوجّهها للكاتبة شوقية عروق منصور بهذا المنجز، ونبارك لأنفسنا معشر الكتاب والأدباء والمثقفين والقرّاء هذا الزخم في النقد المباشر، لكلّ ما يُهدّد مشروعنا الوطنيّ والثقافيّ والإنسانيّ في فلسطين، وفي كافة العواصم العربيّة بانتظار القادم  لكاتبة عربيّة، قادرة على زلزلة أوسع الفضائيّات العربيّة انتشارًا بقلم الرصاص الذي حقنه حنظلة بمورفين الوطن.  

الكاتبة شوقية عروق تضع النقاط فوق الحروف في "80 مليون إحساس" فتقول: "أعذب الشعر أكذبه، فالمبالغة أو الكذب المتواطئ مع المشاعر الجيّاشة لا بدّ أن يَمرَّ داخل قنوات الكلمات، ويصنع من حصى الخيال سدودًا من جماليّات الحروف، وتبقى القصائد الشعريّة مجالًا للمتعة عبر التاريخ، حتّى لو كان الحبّ والبطولة والكبرياء والعنفوان وغيرها من مفردات وأعمدة الشعر العربيّ منقوعة في ماء الذهب المزيّف".

 وتتابع: "الغناء العربيّ جزءٌ لا يتجزّأ من عالم المبالغة الشعريّة المندلقة على سطح اللغة العربيّة، والتي تيتّمت على أيدي المُندَسّين على كتابة الأغاني، في الوصف المُترهّل العاجز وتهَدُّل المشاعر المزيّفة المَقيتة، وإدخال المستمِع العربيّ إلى دوّامات من الرخص التعبيريّ الذي يمسح بلاط الحُبّ دائمًا بخِرَقٍ من آهاتٍ مُتوجّعة مريضة، لا ترقى إلى لمس حقيقة الأحاسيس العميقة، ونادرًا هي الأغاني الحديثة التي رفعت مستوى عُمق الحُبّ، فالكذب الأبيض بحسب ما يُقال، الذي وقعَ فيه كُتّاب كلمات الأغاني العربيّة، حوّلوا  المبالغة اللفظيّة إلى عالم من الكرتون ينهارُ بسرعة، وإلى مشروعٍ للكذب والتضليل الإعلاميّ، وإسقاط المواطن العربيّ في شبكاتٍ من الخداع الإحساسيّ، ومع تكاثر الفضائيّات العربيّة المُتخصّصة في الغناء، والتي تتناسل بشكل مثير، ولا نعرف مِن أين يأتون بالأموال، كأنّ هناك استراتيجيّة لتحويل شبابنا من درجات مناضلين وفدائيّين إلى درجات طبّالين وزمّارين".

ولا تسلم السياسة من طلقات مسدسها القلم فتقول: "إنّ الغناء السياسيّ في أيّ عصر هو وليد الواقع والنظام، هو ابن الحرمان والفقر والجوع والثورة والظلم وغياب العدالة، وهو ابن الشوارع والحارات والأزقّة، وابن الزنازين والسجون وساحات الإعدام، وهو الضوء الذي يكشف الفساد، ويرمي بجثث الزعماء إلى ما وراء النكات والمحاسبة والاستخفاف، قبل أن يحاسبهم التاريخ وأوراق المؤرّخين العمياء. الأغنية السياسيّة العربيّة التي تتربّع الآن على حنجرة شعبان عبد الرحيم (شعبولا)، وغيره من مطربي المواسم العابرين في كلام عابر ولحن عابر، عذرًا من فيروز ومرسيل خليفة، وماجدة الرّومي، وجوليا بطرس، لأنّ هؤلاء الّذين يُناطحون الأغنيات الوطنيّة بسذاجة، يُشوّهون المسيرة الغنائيّة السياسيّة، والأخطر من ذلك، هؤلاء الذين أصبحت الأغنية الوطنيّة عندهم التمجيد للحاكم والنظام، يستغلّها الحاكم في قمع شعبه أو تبرير سياسته، يَنشرها ويَبثها عبر فضائيّاته التي وظيفتها تقديس الحاكم، ولو بقوّة الأغاني والأهازيج والزغاريد".

وتسخر شوقيّة عروق من الذين: "دخلوا ميدان الأغنية الوطنيّة (هيفاء وهبي)، ليَصدق المَثل الشعبيّ القائل: (ما ضلّ غيرك يا ممعوط الذنب). هيفاء تُغنّي لمصر ردًّا على الجزائر التي (حاولت إهانة كرامة مصر حسب قوْل المصريّين)، وأيضًا على الذين يتطاولون على هذه الدولة العظيمة! هيفاء وهبي تصول وتجول في أغنيتها المرافقة لصور (من القاهرة اللي فوق) فيلات وشوارع عريضة نظيفة، وأناس في غاية الشياكة والفرح، حتّى بائع الخبز يضحك فرحًا بالهدوء والاستقرار، (بدون طوابير الخبز التي يذهب ضحيّتها يوميّا قتلى)؟ هيفاء تؤكّد في أغنيتها (80 مليون إحساس)، أي عدد سكان مصر، جميعهم يعيشون في رضا وسعادة، دون بطالة وعشوائيّات وفساد وهجرة الشباب وفقر.. الخ.. لم تخرج صورة واحدة تشير إلى الواقع المصريّ، حتّى ازدحام الشوارع اختفى، وحلّ محلّه هيفاء وهي تركض وتسير بخطوات مُثيرة في الشوارع شبه الخالية، و(80 مليون إحساس مصريّ) يبصمون مع هيفاء عبر تعاريج جسدها وتطاير شعرها ونظراتها الأنثويّة، أنّ جميعهم يغرقون في العسل (المْباركي)، وأنّ دولتهم هي الدولة الوحيدة التي تتمتّع بالرخاء في المنطقة والعالم! هيفاء وهبي تتجاسر وتدخل المنطقة المُحرّمة، ألا وهي (الأغنية الوطنيّة)، وتريد أن تقنعنا أنّ مصر أكبر من الجميع، فتقول: (انت حلوة  في كلّ حاجة/ مش محتاجة لرأي حدّ)! 80 مليون إحساس هو عنوان المرحلة التي تمرّ بها الأغنية السياسيّة، رحم الله (عبد الحليم حافظ) الذي غنّى زمن الزخم السياسيّ والفوران الثوريّ، مُوجّهًا أغنيته للزعيم جمال عبد الناصر، (طلب تلاقي 30 مليون فدائيّ)، هذا هو الفرق بين المدّ القوميّ الثوريّ الذي كان، وبين المدّ الإحباطيّ الذي نعيشه الآن".

ونختتم بما قالته الكاتبة شوقية عروق في مقالها الاخير"الحذاء الذي لم يتمزق وعنق الصبيّ المذبوح": لقد رقصنا وخرجنا إلى الشوارع فرحين مُهلّلين لفشل الانقلاب التركيّ، وخروج أردوغان منتصرًا على معارضيه، وسجّلنا الكلمات المؤيّدة له بحروف من ذهب، ولكن منظر الصبيّ المذبوح لم يدفعنا للتحرّك، ولم نخرج إلى الشوارع عندما يُقتل المئات في انفجارات وأحزمة ناسفة وتفجير المساجد والأسواق والبيوت والمدارس، لم نخرج إلى التظاهر استنكارًا للحرب المسعورة على اليمن ومقتل أطفالها، كأنّ اليمن خارج الكرة الأرضيّة، وكذلك العراق الجريح، وليبيا المُستباحة، أمّا سوريا فقد كان النظام السوريّ هو شيطانهم، وتجاهلوا الشياطين الذين تزيّنوا بشعارات وأعلام وغطسوا في الدم والدمار حتى الرُّكَب! 

المزيد من المقالات...