clip_image001_9dc8e.jpg

صدرت في أواخر العام 2016 رواية "سبيريتزما" للكاتب المقدسيّ عزام توفيق أبو السعود، وغلاف الرّواية من تصميم نفوذ كريمة الكاتب، وتقع الرّواية التي قدّم لها الدّكتور محمود العطشان أستاذ الأدب العربيّ في جامعة بير زيت في 146 صفحة من الحجم المتوسّط.

قبل البدء: تشكّل هذه الرّواية الجزء الرّابع من مسلسل الكاتب الرّوائي"صبري"، "حمّام العين"، والستيفادور" هكذا أرادها الكاتب كما جاء على غلافها الأوّل، ولا أعرف لماذا لم يعتبرها الكاتب جزءا خامسا بإضافة رواية "سوق العطّارين" لها.

اسم الرّواية: توقّفت كثيرا أمام الاسم الذي اختاره الكاتب لروايته"سبيريتزما" أي تحضير الأرواح، ولماذا لم يقم بتعريبه، خصوصا وأنّ روايته باللغة العربيّة، وموجّهة للقارئ العربيّ؟ أم أنّه أراد إثارة فضول القارئ لمعرفة ماذا يعنيه هذا الاسم الأعجمي؟ وطبعا لا ينفي هذا التّساؤل حقّ الكاتب في كتابة ما يريد، وعلينا أن نحترم هذا الحق.

مضمون الرّواية: تسرد الرّواية بعضا من تاريخ القدس الشّفويّ بين نكبتي العام 1948 و 1967، ثمّ تعرّج على حرب حزيران 1967، وما نتج عنها من احتلال وضياع وتشتّت.

تحضير الأرواح: معروف أنّ الخرافة والأساطير موجودة عند الشّعوب كافّة، وإن كان للخيال الشّرقيّ دور الرّيادة في ذلك، وقد انتشرت ظاهرة تحضير الأرواح في القدس وبقيّة الأراضي الفلسطينيّة بشكل لافت، بعد نكبتي العام 1948 و 1967، ويبدو أنّ عدم استيعاب أسباب الهزيمة عند العامّة كان له دور في تغذية االغيبيّات الخرافيّة، ومنها "تحضير الأرواح"، مع أنّها محرّمة دينيّا. لذا فقد وجدنا "جيهان" تلجأ كثيرا إلى سلّة "سبيرتزما" لمعرفة أمور تجهلها، ولا أدري لماذا جاء في الرّواية أنّ جيهان تعلّمت تحضير الأرواح من "ديانا" البريطانيّة، لأنّ الخرافة متنتشرة ولا تزال في الشّرق أكثر من الغرب، ونجد من يغذّيها وينشرها، حتّى أنّ هناك مئات الفضائيّات المخصّصة للشّعوذة وتفسير الأحلام، وقراءة الطالع، وغيرها، وتبثّ باللغة العربيّة، وموجّهة للمشاهد العربيّ لتزيده جهلا على جهل.

وفي المرحلة التي كتب عنها الكاتب روايته كان مشعوذون في القدس، يحضّرون "أرواح الموتى"! وكان لهم دور بارز في تخريب بعض البيوت.

الشّتات الفلسطينيّ: جاء في الرّواية أنّ صبري قد هرب من يافا إلى بيروت زمن الانتداب البريطاني، وتجوّل في بعلبك وبلجيكا وقبض عليه، ونفي إلى جزيرة سيشيل، ليعود بعدها إلى القاهرة، ومن هناك يسافر للعمل في السّعوديّة، ويحصل على الجنسيّة السّعوديّة، ليعود إلى الأردن والقدس كمواطن سعوديّ، حصل على "فيزا" لدخول الأردن ومدينته القدس، ويشارك في المجلس الوطنيّ الأوّل، حيث تمّ تأسيس منظّمة التّحرير الفلسطينيّة برئاسة أحمد الشّقيري، وما دار حول ذلك من تكهّنات تفيد أن تأسيس المنظمّة جاء بايعاز من دول عربيّة لتصفية القضيّة الفلسطينيّة من خلال منظّمة فلسطينيّة، ليعتقل بعدها لمدّة يومين هو وبضعة أشخاص من أعيان القدس. ولتشتعل لاحقا حرب حزيران 1967 وما نتج عنها من وقوع ما تبقّى من فلسطين إضافة إلى صحراء سيناء المصريّة ومرتفعات الجولان السّورية تحت الاحتلال الاسرائيلي. يضاف إلى ذلك مزيد من تشتّت الأسر والعائلات الفلسطينيّة.

تساؤل: لا أعرف لماذا اختار الكاتب متطوّعين "يوسف ونبيل"؛ ليسرد قصّتهما مع حرب حزيران 1967، مع أنّ دورهما كان ثانويّا، ولم يُطلقا رصاصة واحدة في تلك الحرب، ولماذا لم يختر جنودا من الجيش العربيّ الأردنيّ بدلا منهما؟

حيرة الشّباب وضياعهم: لاحظنا في الرّواية حيرة الشّباب الفلسطينيّ بين أن يتمّوا عملهم أو أن يلتحقوا بالعمل الفدائي، حيث كانت منظّمة فتح قائمة قبل الحرب بعامين ونصف، وتحوّلت حركة القوميّين العرب إلى منظمة فدائيّة"الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين" وأصبح لحزب البعث جناح مسلّح "الصّاعقة" وتبع ذلك منظّمات أخرى، فنبيل ويوسف قرّرا الالتحاق بالمقاومة، وما لبث يوسف أن سافر إلى القاهرة لدراسة الهندسة، وأحمد بن صبري ذهب للدّراسة في جامعة كامبريج في بريطانيا، حيث درس أبوه.

اختلاف الثّقافات: ورد في الرّواية أنّ أحمد ارتبط بعلاقة حبّ مع فتاة بريطانيّة، واستغرب كيف عرّفته على والديها، وكيف حملت منه، بينما كان هو خائفا من والده إذا ما علم بعلاقته تلك، وأنّ ابنه قد فقد "عذريته" مع تلك الفتاة، وكذلك يوسف عندما أقام علاقة غراميّة مع الفتاة القاهريّة "يسريّة".

موقف مؤثّر: بعد هزيمة حزيران 1967، قامت جيهان وزوجها عليّ بجولة في القدس الغربيّة، وطافوا على البيوت التي يعرفون أصحابها، حتّى وصلوا بيتهما الذي تشرّداا منه في نكبة العام 1948، وكيف سمحت لهما المستوطنة التي تسكن البيت بالدّخول، وأعطت جيهان صورها العائليّة ورسائلها مع شقيقها صبري، وقد أبدع الكاتب في وصف هذا المشهد العاطفيّ المؤثّر.

البناء الرّوائيّ: يلاحظ أنّ الكاتب قد أكثر من السّرد الاخباري-خصوصا في بداية الرّواية- حيث كان السّرد أشبه ما يكون بتقارير اخباريّة.

يبقى أن نقول أنّ هذه الرّواية تضيف شيئا للرّواية الفلسطينيّة عن القدس.

مقدِّمة ٌ:الشَّاعرُ المخضرم المرحوم " داود سمعان  تركي" أشهرُ من  نار على علم ، عُرفَ  بنضالِهِ  السِّياسي  والوطني  والقومي،  قدَّمَ  الكثيرَ لأجل  شعبهِ  وقضى سنينا  طويلة  من  حياتهِ  في غياهبِ  السُّجون  لأجل  نصرةِ  الحقِّ  والقضيَّة  الفلسطينيَّة  .    هو إنسانٌ  وفنانٌ  وشاعرٌ   ناضلَ  بالكلمةِ  والعمل وليسَ  كالبعض  من الشُّعراءِ  وأصحابِ  الكلمات  المُستهلكة  الذين يكتبونَ فقط  لأجل  مصالح شخصيَّة ومادِّيَّة وليسَ من منطلق رسالةٍ  ومبدإ ، فأولئك يدَّعون الوطنيَّة َ زيفا  وهم  أمامَ  أيَّة َ  تضحيةٍ  أو تجربةٍ  واختبار  وطنيٍّ  وقوميٍّ  يُوَلُّونَ الأدبارَ  ويديرونَ  ظهورَهم  للخلفِ أو  يكونونَ  مع  التيَّار  الآخر المُعادي  والمُناقض  لقضايا  شعبهم  وأمَّتِهم ...  فداود  تركي ( أبوعايدة) يُذكِّرُني بالشَّاعر الفلسطيني الكبير الشَّهيد(عبد الرَّحيم  محمود) الذي ترجمَ  ما قالهُ وكتبهُ من ناحيةٍ عمليَّةٍ  فاستشهدَ في معركةِ الشَّجرةِ عام (1948)  وهو القائل :

( " سأحملُ  روحي على  راحتي      وألقي   بها  في  مَهَاوي  الرَّدَى " )     ويُذكِّرُني أيضًا بالشَّاعر العملاق إبي الطيِّب المتنبِّي صاحب البيت الشَّهير: 

( "الخيلُ  والليلُ  والبيداءُ  تعرفني    والسَّيفُ والرُّمحُ  والقرطاسُ والقلمُ ")

وكانَ هذا البيتُ  سببَ  مقتل المتنبِّي، حيث  لم  يتراجع  ويهرب عندما تعرَّضَ  لهُ   " فاتكُ  بن جهل الأسدي " مع  مجموعةٍ  كبيرةٍ  من  الفرسان  المُدَجَّجين بالسِّلاح ، فدفعَ  حياتهُ  ثمنا  لما  قالهُ .   وداود أيضا  لم  يتراجع   عن آرائِهِ  ومبادِئِهِ القوميَّة  والأمَميَّةِ التي نادى وتغنَّى بها  ودفع  سنينا  من  حياتهِ  وزهرةِ  شبابهِ  ثمنا  وفداءً  لهذه  المبادىء .

والجديرُ بالذكر انَّ الشَّاعرَ  " داود تركي " أصلهُ من قريةِ المغار- الجليل  وسكنَ  أهلُهُ  مدينة َ حيفا  زمن  الإنتداب  البريطاني  على  فلسطين، وأنهى دراستهُ  الثانويَّة  في حيفا ، وهو من  مؤَسِّسي  فرع  الحزب  الشُّيوعي  في " المغار" في أوائل الخمسينيَّات يومَ كان الحزبُ آنذاك هو التنظيم  والإطار السياسي  الوحيد الذي  يجمعُ  الأطر  والعناصرَ الوطنيَّة َ من عرب  الداخل  ولا  يوجدُ  تنظيمٌ  سياسيٌّ غيره  يُطالبُ  ويدافعُ عن  حقوق  الأقليَّة العربيَّة  في الداخل ( داخل دولة إسرائيل ): سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا  وإنسانيًّا .     

يملكُ  أبو عايدة  ثقافة ً واسعة   في  جميع  الميادين  الأدبيَّة  والفكريَّة  والسياسيَّة ، ويجيدُ أيضا عدَّة  لغاتٍ  أجنبيَّة  كالإنجليزيَّة  والفرنسيَّة  كتابة ً وقراءة ً وحديثا، وبالرُغم  من مكانتهِ  الشعريَّة الكبيرةِ  وثقافته الواسعة  بدأ  يُمارسُ  كتابة َ الشعر من  فترة  ليست  طويلة  (  بعد  أن سُجنَ  في  قضيَّة  أمنيَّة )  وكان  لديه  في البدايةِ مخزونٌ ثقافيٌّ  كبيرٌ وتجارب خصبة  وغنيَّة في  معترك الحياةِ ..وهذا إضافة ً إلى  تقلباتِ الدَّهر  والأيام عليهِ  فيما  بعد  ومكوثه  الطويل  داخل  السجن  ومعاناته  وبعدهِ عن  بيتهِ   وعائلتهِ ...فكلُّ  هذه  العناصر  والأشياء  فجَّرت  موهبتهُ  الشعريَّة  بشكل  كبير  فبدأ  يكتبُ  ويبثُّ لواعجَهُ وزفراتهُ وأحاسيسَهُ المتوقدة الجيَّاشة والصادقة...فكتبَ الكثيرَ من القصائد الوطنيَّة  والوجدانيَّة وغيرهَا في السِّجن، وقسمٌ من هذه القصائد طُبعَ  في  كتابٍ أصدرتهُ  جمعيَّة  " أنصار السجين "  تحت عنوان : ( ريح الجهاد ) *1  .  وأريدُ  الإشارة  َهنا  أنهُ  أثناءَ مكوثه الطويل  داخل السجن  ( 13 سنة) دفاعًا عن قضايا شعبه وأمَّتهِ ( بغضِّ النظرعن  وسيلة  النضال التي قامَ  بها أهملَ من  ناحيةٍ  إعلاميَّةٍ  مُورسَ  ضدَّهُ  تعتيمٌ  إعلاميٌّ  كبيرٌ ومقصود ولم  تكتب عنهُ  طيلة هذه  المدَّة  أيَّة ُ جريدةٍ  محليَّةٍ  عربيَّة، ولكن بعد خروجهِ من السجن ( في صفقةِ لتبادل الأسرى مع أحمد جبريل )  بدأت وسائلُ الإعلام  العربيَّة  وغيرها تكتبُ عنهُ بشكل مكثف وتكثرُ من  زيارتهِ   وإجراء اللقاءات  الصَّحفيَّة  معه  * 2 .   واستمرَّ "داود  تركي " في كتابةِ  الشعر بعد خروجهِ من السِّجن، فطوَّرَ أسلوبَهُ وأدواتهِ  الشعريَّة بشكل  كبير وملحوظٍ ، وخلال  سنين  قليلة  أصبحَ  هو الصَّوت  المقاوم  الأوَّلَ والمُمَيَّز  محليًّا ( شعريًّا  وأدبيًّا )  بعدَ  أن سكنت  وخمدت السَّاحة  الأدبيَّة  الملتزمة ُ وَهُجِّنَ  وَدُجِّنَ الكثيرُ من الأصوات، وبعضها كانَ  يدَّعي ويتبجَّحُ  بالوطنيَّة وبالمقاومة .  وشاعرنا " داود تركي " كان  يكتبُ دائمًا  دونما انقطاع  ولهُ  كمٌّ   كبيرٌ من الإنتاج  الشِّعري  قد  يتراوح  ويتسع ُ لعدَّة  مجلداتٍ  ضخمة، ولكنهُ  لم  يطبع  منهُ  حتى الآن أيُّ  ديوان خاصٍّ  بهِ .  وقد أصدرَ  مُؤَخَّرًا ( قبل وفاتِهِ بقليل) كتابا عن حياتِهِ ومسيرتهِ  في الكفاح والنضال فيهِ  بعض الأبييات من شعرهِ  بعنوان : ( ثائر من الشَّرق العربي ) .

مدخلٌ : في هذه الدراسةِ  سأتناولُ  بعضَ القصائد من  شعرهِ (وهي غير المطبوعة  في ديوان )  مع الإستعراض والتحليل .  وشاعرنا بدورهِ  يكتبُ  الشعرَ الكلاسيكي  التقليدي فهو مُتمَكّنٌ وَمُتبحِّرٌ  في معرفةِ الأوزان " بحور الخليل "، كما أنَّ لغته  العربيّة  قويَّة ٌ جدًّا وجزلة ٌ. وفي كتاباتهِ  قويُّ النبرةِ  ومعانيهِ عميقة وشاملة، ومعظمُ قصائِدِهِ  تدورُ في الجانب والإطار السياسي  والوطني  القومي   .  هوَ  يركِّزُ على  العقل  والأشياء  الحيسِّيَّة  والملموسة  والمنطقيَّة ، ولهذا  قلَّما  نجدُ عندهُ  النفسَ والطابعَ  الرُّومانسي  والحالم  في أشعارهِ  .   فداود  إنسانٌ عمليٌّ  وديناميكيٌّ  وواقعيٌّ  وليسَ  خياليًّ   فيُؤمنُ بالحقالئق والعيِّنات الملموسة، وشعرُهُ نابعٌ ومنبثقٌ من العقل والفكر وَمُجَرَّد من  لواعج  وطيش الشباب  ونزوات  المراهقة والمشاعر المضطربة  غير المستقرَّة . نجدُ  في شعرهِ الأملَ والتفاؤُلَ دائما  والتأكيد بانتضار الحقِّ على الباطل  والنور على  الظلام ، ولداود أسلوبٌ  وطابعٌ   مُمَيَّزٌ وروحٌ  متفرِّدة   متميِّزة  في الشعر، ولديه أيضا  النفسَ  الطويل  في كتابةِ القصيدة  الطويلة  العصماء  التي  لا  يستطيعُ  أيُّ   شاعر  أن  يكتبَ  نمثلها  مستوًى  وطولا  ولغة ً وبلاغة ً وفنذًا .  فهو  يمتلكُ   مقاليدَ  اللغة  والوزن  والملكة الشعريَّة  والموهدة  المتوقِّدة  المُتفجِّرة  .  وأنا  أعتبرُهُ   في  طليعةِ  شعراء المقاومة  من ناحيةِ  المستوى الشِّعري ، وشاعر المقاومة  الأوَّل  في البلاد ( محليًّا ) من  ناحيةِ  النضال  الصَّادق الوطني  والقومي  والسياسي  ومطابقة  القول بالعمل  والفعل... وذلك  لأنَّ  بعض الذين  يكتبون  الشِّعرَ  وأخذوا  الألقابَ اللامعة :  كشعراء  وطنيِّين  ومقاومين  فهؤلاء  لا  يستحقونَ  هذه  الألقاب الفخمة  من ناحيةِ المصداقيَّةِ  والنضال  الوطني والقومي والعمليَّة  والناحيةِ  الإبداعية  .    وداود  هو  شاعرٌ  مبدعٌ  ومتميِّزٌ  ورائد  وعملاق ٌ   وإنسانٌ مناضل - كما  ذكرتُ أعلاه - قدَّمَ حياتهُ وزهرة  شبابه فداءً لشعبهِ  وقضاياه المصيريَّة   ولأمَّته العربيّضةِ  وقضى  فترة ً طويلة  من حياتِهِ  في  غياهب السُّجدون واستطاعَ  أن  يلخِّصَ ويجسِّدَ الكفاحَ وللمقاومة وتجاربَ  ونضال  جميعَ الأحرار والمناضلين القوميِّين الوطنيِّين  والأمَميِّن العالميِّين في شعرهِ ، فشهرُهُ  دستورٌ للثورةِ  ونبراسٌ للثُّوَّارعلى الظلم  والإستعمار في كلِّ بقعةٍ  في العالم ...بيدَ  أنَّنا  نجدُ  البعضَ من  مُدَّعي المُقاومة  والنضال  يتبجَّحون  فقط  بالوطنيَّة وبنضالِهم العقيم  من على المنصَّاتِ  الخطابيَّةِ  وفي الحفلات ( محليًّا ) . ولنأخذ  أمثلة ونماذجَ  من شعر المناضل  داود  تركي  .. فيقولُ  من  قصيدتهِ المهدا  إلى المغنيَّة " فيروز "( كتبها  وهو  في السِّجن " وهي قمَّة ٌ في المشاعر الإنسانيَّة المضيئة ، فصوتُ  فيروز  يشجيه  وَيُرَوِّحُ  عن  نفسيِهِ  ويُسكنُ  ألمِهِ داخل السِّجن ..فهذه المطربة ُبصوتها الملائكيِّ  رسولة السلام  والمحبَّة  والسكينة  لجميع البشر ...غنَّت لفلسطين  ولشعب فلسطين  المُشَرَّد  أجملَ   وأروعَ  الألحان ، يقولُ  داود * 3  :

( " فيروزُ  غنِّي   صوتُكِ   الرَّنَّانُ       في   الكونِ  لحنٌ    تعشقُ  الآذانُ  

غنيتِ  اوطانا بها  انتفضَ الفتى       وبنفسِهِ         لغنائِهِ      الأوطانُ

غنَّيتِ   بيروتَ  النُّهَى   وَبَعلبكاً       وحضارةً     باهَى    بها     لبنانُ

غنَّيتِ    مكَّة َ   أهلهَا    وَتمثَّلتْ       بالبيتِ    فيكِ    ومجّدتْ    ألحانُ 

والشَّامُ في بردَى، لها عذبتْ بكِ      الأنغامُ ، قد  ولعتْ   بكِ   الأذهانُ

والقدسُ في ثوب الكآبةِ  حرَّكتْ       أبناءَها    في   صوتِكِ    الأشجانُ  

وَمَنحتِ   كلَّ  الناسِ  فنًّا  رائعًا        لم    يَبْقَ    فيهم   عاتبٌ    وجدانُ

إلاَّ     مُحِبٍّ     للحياةِ      مُقاتلٌ       غصبَ  الطغاةُ   حقوقهُ   وأدانوا")

وفي قصيدةِ  "نقاتل للحياة " المنشورة في صحيفة "الإتحاد  "   يعطي دروسًا  تثقيفيَّة ونضاليَّة  ووطنيَّة هامَّة للشَّعب الفلسطيني  وللأجيال الجديدة الناشئة والواعدة، وشعرُهُ إنسانيٌّ  حافلٌ  بالقيم والمُثل وَمُترَعٌ بروح النضال  والمقاومةِ  لأجل  نصرةِ  الحقِّ  وصَدّ الظلم  والعدوان... هو لا  يكتبُ  فقط  لأجل  شعبهِ   الفلسطيني ..بل  لجميع الشعوب المظلومة  والمضطهدة  التي تعاني  من الظلم  ونير الإستعمار، فيحثُّهَا  وَيُحفزُها  بأشعارهِ  الملتهبة على المقاومة المستمرَّة  والنضال  الدَّؤوب  ويبشّشرُها أن  الفجرَ  لا  بُدَّ سيظهرُ     وترفرفُ  بنودُهُ  والظلمُ  سيندحرُ ويتلاشى، فيقولُ  مثلا في إحدى قصائدِهِ : 

( " تَنكَّبْ    للمُنى  عزمًا     أشدَّا       وَسِرْ     لمنالِهِ      بأسًا     أحَدَّا 

وَجَرِّدْ   للنضالِ   نفوسَ  مَجْدٍ       وفكرًا     بارقا      أملاً     أجدَّا 

فحُسنُ  زمانِنا   وَمرامُ  عيش ٍ       تدَنَّى    مستوًى    وانحطَّ    جدَّا    

ويقولُ: نقاتلُ للحياةِ  وسَعدِ  عيش ٍ      يُعكِّرُ    صفوَنا     عادٍ      تبدَّى 

لنا هدفٌ، سَمَا  في الأرض سعيا     وَشَدَّ    بلوغَهُ     شعبٌ    تحدَّى ")  

إنَّ  شعرَهُ غنيٌّ  بالصُّور الشِّعريَّةِ والمعاني العميقة  والرَّائدة ، وحتى في نفس الشَّطرةِ  من البيت  قد  نجدُ   عدَّة َ مواضيع  وقضايا  هامَّة   يطرحُها 

ويعرضُها  بأسلوبٍ شاعريٍّ فنيٍّ رائع، وقصائدهُ  جميعها زاخرة ٌ  بالصُّور الشعريَّة الخلابة وبالتعابيرالبلاغيَّة والبيانيَّة الجميلة والمستحدثة وبالعبارات والمصطلحاتِ  الثوريّة  والعلميَّة  والسياسيَّةِ  الحديثةِ التي  تتلاءَمُ   وتتناغمُ  مع  روح  العصر الحديث  ومقتضيات  ومستجدَّات  التجديد  والحداثة  في  مسيرةِ الشِّعر  المعاصر ( عربيًّا  وعالميًّا )  .  وشاعرنا  استطاعَ  أيضا أن   يقولَ لالخطابَ  السياسيَّ  أو المقالة  السياسيَّة  ضمنَ القصيدة الكلاسيكيَّة ،  وليسَ   شاعر بإمكانِهِ   أن  يفعلَ  هذا  الشيىء   في  طابع  وقالبٍ  شعريٍّ  فنيٍّ  جميل ومموسق بعيدًا عن الرَّتابةِ  المملَّة  والتكرار، كما انَّهُ  في الكثير من  قصائِدِهِ للعموديَّةِ ( الكلاسيكيَّة ) لا نحسُّ  ونشعرُ  بالطابع  المنبري  أو  الخطابي ( هنالك  بعض النويقدين المحليِّين الذي  يجهلون الأوزان الشعريَّة  - علم العروض وقواعد اللغة صرفها ولنحوها ومعلوماتهم وثقافتهم  ضحلة   في  مجال   النقد  بجميع  مدارسهِ  وأساليبه ، وبعضُهُم   مأجورٌ   وَمُرتزق   فيُهاجمون الشِّعرَ  العمودي جميعَهُ  ومن  يكتبُهُ  وأنَّهُ شعرٌ منبريٌّ  وخطابي  ومتأخِّر ( حسب مفهوم ومستوى عقليَّتهم السَّقيمة ) وغابَ عن  أذهانِهم  أنذَ  معظم الشعراء العرب الكبار  في العصر الحديث والمعاصرين كتبوا الكثيرَ  من الشعر الكلاسيكي التقليدي وأبدعُوا فيهِ  وأنَّ الإبداعَ  والتجديدَ  لا  يُقاسُ  في  شكل  القصيدة   الخارجي  فقط ، بل  في  المعاني   والعبارات  الحديثة  والمفردات الجديدة والصور الشِّعريَّة  الغزيرة  والجميلة  وبالمعاني العميقة  وبالرُّؤيا  الفلسفيَّة  والإنسانيَّة  الشَّاملة ..إلخ .   وأنَّ  التجديدَ   والإبداعَ  في الشِّعر الكلاسيكي ( الموزون والمقفى - الأبيات ) أصعبُ بكثير من الإبداع  في الشِّعر الحُرِّ لأنَّ فيهِ إلتزامٌ بالوزن والقافيةِ  ويحتاجُ إلى  مهارةٍ  ومقدرةٍ  لغويَّةٍ  عظيمةٍ وإلى موهبةٍ  فذةٍ  وثقافةٍ واسعة وطاقة شاعريَّة عملاقة . وشاعرُنا داود تركي- كما ذكرتُ- لقد جدَّدَ  كثيرًا وأبدعَ في الشِّعرالعمودي.   والكثيرُ من  قصائدِهِ  الكلاسيكيَّة  بإمكانِنا  أن  نكتبَهَا   وندرجَهَا على شكل  جمل  متفرِّقة (  مثل شعر التفعيلة )  ولا نحسُّ بالطابع  الكلاسيكي  الرَّتيب  وتيقى قصائدُهُ التي تغيَّرَ نمط  ترتيب كلماتِها وجملها محافظة ًعلى جوهرها  وجمالها وروعتِها وعذوبتها  وموسيقاها السَّاحرة  وقيمتها الفنيَّة  الخالدة ...   على عكس الكثير من  الققصائد  الكلاسيكيَّة  العموديَّة  لغيرهِ  من  الشُّعراءِ للمحليِّين التي  تفتقرُ  إلى  جوهر الشِّعر  الحقيقي  وإلى  المُقوِّمات  الجماليَّة والفنيَّةِ والأدبيَّةِ والذوقيَّة رغمَ أنَّها خاضعة ً لقيود الوزن والقافية، ولو  كتبنا  وأدرجنا  قصائد بعضَ الشُّعراء المحليِّين غيره ( الكلاسيكيَّة  العموديَّة على شكل جمل متفرِّقة ( مثل  شعر لتفعيلة ) لوجداها مجرَّدَ هذيان  وكلام عاديٍّ   ومستهلم وبينها وبين الشعربون  شاسع.. وهنا  تكمنُ عبقريَّة ُ الشَّاعر داود  تركي   وتفرُّده  وتميُّزه  عن الكثيرين غير  من شعراء  القصيدة العموديَّة .  فداود  شاعرٌ مُجَدِّدٌ  ورائدٌ  ومُبدعٌ وعملاقٌ  في الشعر العمودي . إنّهُ يمتلكُ  القدرة َ  العظيمة  في  للغة   والوزن   وكيفيَّة   استعمال  المفردات  اللغويَّة  وتوظيف  الكلمات   والرُّموز  الجميلة  في  قصائدِهِ  للوصول  إلى  الفكرةِ  والموضوع    والمعاني  والأهدافِ  التي  يُريدُها .

فيقولُ  مثلاً  في  قصيدةِ    " لن  نستكين"  المنشورة  في  مجلّةِ  "عبير" المقدسيَّة *  3: 

( " لعدالةٍ      تصحُو      وَتنتصِبُ        فكرُ     الفتى    يصفو    وَينتسبُ     

والجُهدُ      بالآمالِ        مُنطبعٌ        لتقدُّمٍ     في      الكونِ      ينتسبُ 

لعروبةٍ       تسمُو       بوحدَتِها        ضَحَّى   الشَّبابُ    وأنفسٌ     تَثِبُ    

ويقولُ:( وقوافلُ  الشّثهداءِ  موكبُهَا         تشكو   عديَ     نفوسهِ      التُّربُ 

حُلمُ    الملايين   استوَى   رجلاً        بجمالهِ        لعروبتي        عجَبُ

لا     بُدَّ     من    نهج ٍ    تُشَرِّفهُ         في    قدوةٍ     بكفاحِهَا     العَرَبُ 

فأنا   لضادِ   العُربِ    مُجتهَدي        وَبشعبهَا     المعطاءِ       مُحتسَبُ 

لوجودِهَا    عمري     وَمَوهبتي         ذهبَ    الكفاحُ     بهِ     وَمُرتقبُ

ولعت    بها    نفسي     وَهذبني        معنًى    ومغنى    حُبُّهَا     العذبُ   

ويقولُ: خطبتْ  خيالي  منذُ   مولِدِهِ         بجمالِها       وتألَّقتْ         خُطبُ

وَمَعًا    على    لدُّنيا      تَوَسُّمُنا         خيرٌ     إلينا      هَبَّ       يَنجَذِبُ

وَمصاعبُ  لم    يَشْكُ    قسوتهَا         بدروبِنا     الإشراقُ       والسَّبَبُ 

وفي نهايةِ  القصيدةِ يقولُ :        

( "  نمضي  وزادُ  اليأس   فكرتنا           للنصر        نخلبُهُ        وَينخلبُ 

هذي   البلادُ     بلادُ    يعرُبنا          من  رامَ    فيها   العيشَ   يَعْتربُ 

فالعيشُ  في  هون ٍ   لنا  عدَمٌ           والموتُ  عن  حقٍّ   لنا    الغلبُ  

وفي إحدى قصائدِهِ  يقول :

( " رَفرفْ   لواءَكَ    خافقا  "أيَّار "      أمَمًا      بها     يتوَقَّدُ     الإصرَارُ

مَهْمَا الزَّمانُ  يطُلْ  فإنَّ  بنودَنا        سَتُظلِّلُ    الدُّنيا     بهَا     الأحرارُ 

ويقولُ: أنتَ السَّبيلُ إلى ريبعٍ  دائمٍ         ونفوسُنا        لبهائِكَ      الأزهارُ  

إنَّا  انطلقنا  مَوجَ   بحرٍ   زاخرٍ        أبشِرْ     وَبَشِّرْ      بالفدَا       أيَّارُ 

ولُننذرِ  الظُلاَّمَ   إنَّ   مصيرَهُمْ          حُللُ    الظلامِ     وَإنَّكَ     القهَّارُ 

ويقولُ في إحدى قصائدِهِ:

( " سمراءُ    يا   محبوبة َ   العُمر ِ        أمّ     العيونِ    السُّودِ     والحَوَر ِ

حُيِّيتِ   لطفا   يستوي   غزلي          ونديَّة       الأنسام ِ        والسَّمَر ِ  

قِمَمُ   الزّهورِ  صحَت   لرُؤيَتِنا         وتمايلتْ       في    شدَّةِ     الغيَر ِ  

ويقولُ :جَمعَت   عذوبتها    أمانينا          بأنامل     حَنَّتْ     إلى      الوَترِ

شابَ  الزَّمانُ  ولم  يشب  زَمَنٌ          بخيال       مُستمع ٍ       وَمُنأسِر ِ  

سمراءُ   يا   عُنوانَ    موطننا          لغدٍ     أنيق ِ    الوجهِ      والفكر ِ  

يا  مَن  مكارمها استوَت  بلدي          وبدَت  كشمس الظهر في السَّحَر ِ 

وعلى  هوى  نسماتها  انفتحَتْ         عينُ   الحبيبِ    وقلبُ    مُزدَهر ِ 

شُدِّي  عليكِ  الجُرحَ   وانطلقي          عزمًا   يُرَوِّضُ    قسوَة َ    القدَر ِ  

دُومي  على  ما   كانَ   مَنهَجُنا          عَرَبيَّة َ       الإشراق      والكبَر ِ 

وَتوَشَّحِي      حُبًّا       يُلازمُنا           حتى  الممات      وآخر    العُمر ِ

وسأختارُ أيضًا  بعضَ الأبيات من  قصيدةٍ  لهُ   بعنوان : (" سلامٌ  على " السِّلم ":*4

(سلامٌ  مِنَ  القلبِ  الوجيع ِ  يُدَمدِمُ     على "السِّلم ِ" والرَّأسُ الخنوعُ  يُهَمهِمُ 

مَنَ الشَّمسِ آتٍ، مِن ذرَى شهدائِنا      يدكُّ     فضاءَ     الخائنينَ      وَيَدهَمُ 

فلسطينُ  داري  والعُروبة ُ  أمَّتي       مِنَ  الشَّام ِ  حَيَّتهَا   شموسٌ   وأنجُمُ  

ويقولُ : 

(فيا أيُّهَا  الشَّعبُ  العظيمُ  تحَمُّلاً    لكَ المجدُ في دنيا الشُّعُوبِ مُعظَّمُ )..إلخ .

وأخيرًا  سأكتف  بهذا  القدر  من  إستعراض  قصائد  الشَّاعر المناضل  المرحوم داود  تركي .

المصادر :

*1  كتاب " ريح الجهاد "   -  إصدار  جمعية   أنصار السَّجين  . 

* 2  كتاب  " ثائر من  الشَّرق  العربي "  -   تأليف  داود  تركي  . 

* 3   كتاب  ريح  الجهاد  -  .  إصدار  جمعية أنصار  السَّجين  .

* 4   مجلة   " عبير"   المقدسيَّة

* 5    صحيفة   الإتحاد   الحيفاويَّة .

( في الذكرى السنويَّة على وفاة الشاعرةِ الفلسطينيَّة الكبيرة " فدوى طوقان" )

clip_image002_3e09f.jpg

نفسي      مُوَزَّعة ٌ    مُعَذ َّبَة ٌ            بحَنينِهَا     بغموض ِ    لهفتِهَا

شَوق ٌ إلى  المَجهُول ِ يدفعُهَا             مُتقحِّمًا     جدرانَ     عِزلتِهَا 

شوق ٌ  إلى ما  لستُ   أفهمُهُ             يدنو  بها  في  صمتِ وحدتِهَا

أهيَ  الطبيعة ُ صاحَ  هاتفها             أهيَ   الحياة ُ   تهيبُ   بابنتِهَا

ماذا  أحِسُّ ؟  شُعورَ   تائهةٍ             عن  نفسِهَا    تشقىَ   بحيرتِها  

عندما أتحدَّثُ عن هذه الشَّخصيَّةِ أشعُرُ  وكأنني أتحدَّثُ عن نفسي … هذهِ الشَّخصية ُ التي  تجسِّدُ واقعًا  َنحيَاهُ  بكلِّ  أبعادِهِ  ومفاهيمِهِ  ... الواقع  الذي أعاني منهُ  ويُدخلُ في نفسي  اليأسَ  والمللَ  والإنتظار  فأصبُو  مُتلهِّفا ً إلى غدٍ جديدٍ …غدٍ  مُشرق ٍ …غدٍ  أتحَرَّرُ  فيهِ من عبءِ الماضي …غدٍ  ُتفكُّ  قيودي  فأنطلقُ  لأغنِّي على دروبِ الحياةِ  من جديد . هذهَ  الشَّخصيَّة ُهي : " فدوى طوقان " -  شاعرة الحزن والمعاناة  وشاعرة الأرض  والوطن   . 

     شاعرة ُ فلسطين  فدوى طوقان  استطاعت  أن  تخترقَ الحواجزَ  لتطِلَّ  بعبقريَّتِهَا   وفنِّها  وشعرها  وإبداعِهَا  من  نافذتِهَا  الصَّغيرةِ  المجهولةِ  إلى المجهول … إلى العالم ِ البعيد والواسع    .    نشأت  في أسرةٍ  أرستقراطيَّةٍ  مُحافظةٍ  شأنها شأن جميع  الفتيات العربيَّات اللواتي أسْدِلَ  دونهنَّ  الحِجابُ  فيقبعنَ  في  البيت إلى أن  يأتي  إليهنَّ  الخُطَّاب  فيتزوَّجن … كانت  تشعرُ   بقيمتِها الكبيرةِ وطاقاتِها  الفذ َّة العظيمة التي باستطاعتها أن  ُتثبتَ  وجودَها  بينَ ذويها  الذي كانوا يتجاهلونها وينظرونَ  إليها  كانها ضلعٌ  قاصرٌ  ليسَ  لهُ  أيُّ  نفع ٍ  وقيمةٍ وهي  ترى أنَّ  بإمكانها القيام بأعمال إيجابيَّةٍ  كثيرةٍ  قد تفيدُ غيرها ولا  يستطيعُ الكثيرونَ أن يحققوها   .    لقد  وهبهَا  الخالقُ حِسًّا   مُرهفا  ومشاعرَ رقيقة ً وخيالا ً واسعًا  كانت تحلِّقُ   فيهِ  إلى  أبعدِ الأماكن والحدود  لتهربَ   من  واقعها  الكئيب  وظلمةِ   سجنها المستمرَّة  ... آمنت أنَّ لكلِّ  إنسان مهما  كانت نوعيَّتهُ الحقّ في التعبير عن رأيهِ  وبالعيش حُرًّا طليقا ً...  يرسمُ  حياتهُ   لوحدِهِ   ويقرِّرُ  ويصنعُ   مصيرَهُ  بيديهِ  ولا  يحقُّ  للآخرين حتى  لو  كانوا  أهلهُ  وإخوتهُ  بالتدَّخُّل ِ في  شؤونِهِ  ورسم  حياته  كيفما يبتغون  . 

والفتاة ُ عندها  لا  تختلفُ عن الرَّجل  فالإثنان  منَ البشر وليسَ  من العدالةِ  أن  ُتسْجَنَ  الفتاة ُ في البيت وتعاملَ  وتعاقبَ  بالسِّياط   لأتفهِ  الأسباب  فمن حقِّها أن تخوضَ الحياة  وتخرجَ وترى العالمَ  على حقيقتهِ  ولها أن  تشاركَ في  كلِّ  نشاط ٍ إيجابيٍّ  وتتركَ  بصماتها  في هذا  الوجود  .  

       لقد  كانَ  صراعُ  فدوى  شديدًا مع محيطها  ومجتمعها … فدوى  هي الإنسانة ُ التي  تحطَّمَت ذاتُها  بأيدي الآخرين ( حسب قولها ) فعرفت  كيفَ  تستردُّهَا …    كانت  تحيَا   في   سعير ِ الحزن ِ والوحدةِ  والشَّقاء ... ذاقت  ظلمَ ذوي القربى والأهل … كادت  التقاليدُ أن تقضي عليها ولكنَّ الشَّاعرة َ  الحالمة َ الطموحةَ استطاعت أن تشقَّ  طريقها وسط َ الأشواك ِ والصَّبَّار ... وسط َ المرارةِ  والمُعاناةِ  والعذاب …  استطاعَت أن  تجتازَ  كلَّ  العراقيل لتصلَ  إلى حيثُ  تريدُ  .  

    فدوى هي الإنسانة ُ التي لم تعِشْ لنفسِها  فقط ، لقد  وَهَبت  حياتهَا لأجل ِ  العطاءِ والفداء  فكانت  َمعينا ً لا ينضبُ  فغنَّت  للطبيعةِ السَّاحرةِ … للحياةِ …للسَّعادةِ ... للوطن …غنَّت للحُبِّ الإنساني بكلِّ  معانيهِ  وأبعادِهِ  السَّامية … الحُبّ  الذي  يحملُ في طيَّاتِهِ  دفءَ العاطفة وعذوبة  المنطق ، والوفاء اللامحدود ،  فكأنهَا  في  كتاباتها  تعطينا   نفحة ً  صوفيَّة ً  فتذهبُ  بنا  إلى  عالم ٍ آخر ٍ بعيدٍ  ... عالم ٍ  مُنزَّهٍ  عن  كلِّ  شرٍّ … عالم ٍ  كلُّهُ   حُبٌّ  ووفاءٌ  وسلام   .  تقولُ  مثلا ً  : 

          ( "  أحِبُّكَ   للفنِّ   يسمُو  هَوَاكَ  بقلب  نحوَ  الرِّحابِ  العُلا 

                فيُدني  إليهَا  معاني السَّماءِ وينأى بها عن  معاني الثَّرى

                سَمَوتَ بقلبي وفكري فرَاحَا يفيضان بالشِّعرِ سُمُوُّ الهوَى

               وَنضَّرتَ عيشي فأضحَى غضيرًا ترفُّ عليهِ زهورُ المُنى 

               ورفَّ  في القلبِ  حُلمٌ  سعيدٌ جميلُ الخيالاتِ  حلوُ  الرُّؤى   )

وتقولُ  :

                 (" أعطنا حُبًّا فبالحُبِّ كنوزُ الخير ِ فينا  تتفجَّرْ  

                      وأغانينا   سَتخضرُّ   على  الحُبِّ   وَتُزهِرْ 

                      وتنهَلُّ   عطاءً  ،   وثراءً  ،   وخُصوبّهْ

                      أعطنا حُبًّا نبني العالمَ المُنهارَ  فينا من جديدْ 

                      وَنُعيدْ   //     

                      فرحة َ  الخِصبِ   لدُنيانا  الجَدِيبَهْ  

                      أعطِنا  حُبًّا   نفتحُ   أفقَ  الصُّعُودْ    

                      ننطلقُ من كهفِنا من عزلةِ  جُدرَان ِ الحَديدْ  

                      أعطنا نورًا  نشقُّ  بهِ  الظلمات  المُدلهِمَّهْ 

                      وعلى وقع ِ سناهُ ندفعُ الخطوَ إلى ذروةِ  قمَّهْ

                      نجتني  بهِ   انتصاراتِ  الحياهْ    "  )   . 

 هيَ  تريدُ أن  نحيا  لنحِبَّ ونغني   لا  لكي نكرهَ  ونحقدَ … تريدُ أن  نرسمَ  الحياة َ  بقبل ٍدافئةٍ  ينبثقُ  منها الأملُ  والفجر …  فدوى هي الإنسانة ُ  التي   أعطت وأعطت  دونَ أن  تأخذ َ  .    لقد  وقفت  نفسَها ودافعت  بكلِّ  قواها  وطاقاتِها عن  قضايا إجتماعيَّة   إنسانيَّة عديدة ،  أمَّا  في الجوانب  الوطنيَّة  والقوميَّة  فهي القضيَّة ُ  والإلتزام  في جميع أبعادِها  ، كرَّسَت  قسمًا  كبيرًا  من  شعرها   لشعبها  الفلسطيني  الذي  ذاقَ   مرارة َ  التشريد   والبعاد … الشَّعب الذي  أبعِدُ  مُرغمًا عن  وطنهِ  وسَط َ  الدَّسائس  والخيانات  العربيَّة الرَّجعيَّة   والعروش  المُعفِّنة الآثمة التي لعبت  دورًا قذرًا  وأودَت  بهِ  إلى هذا المصير   .   فدوى حينما  تكتبُ عن  شعبِها عاطفتها  صادقة ٌ  كينبوع ٍ  عذبٍ يتدفَّقُ  دونما  انقطاع … هيَ كحمامةٍ  تبكي  وتسجعُ على  ذويها … عندما تتحدَّثُ عن الأطفال  والفتيات في مُخيَّمات اللاجئين تنقلُ  لنا صورة ً  كاملة ً ومُعبِّرة ً  لواقعِهم  الأليم  .       تقولُ  في  إحدى  قصائدها  :  

           ( "   أختاهُ  هذا  العيدُ  رَفَّ  سَناهُ  في  روح ِ الوُجُودِ  

                  وأشاعَ  في  قلبِ  الحياةِ  بشاشَة َ  الفجر ِ السَّعيدِ

                  وأراكِ  ما  بينَ  الخيام ِ  قبعتِ   تمثالا ً  َشقِيَّا 

                  مُتهَالِكا ً  يطوي   وراءَ   عمودِهِ   ألمًا   عتيَّا…  

                  يرنو  إلى اللاشيىءِ  مُنسَرِحًا مع ِ الأفق ِ البعيدِ

                  أختاهُ   مالكِ إذا  نظرتِ   إلى  جوع ِ  البائسينْ

                  ولمَحتِ أسرابَ  الصَّبايا  من  بناتِ  المنُترَفِينْ

                  العينُ  تخجلُ   في   مُحَيَّاها   ويلتمعُ   السُّرورْ   

                 أطرَقتِ  واجمَة ً  كأنَّكِ   صورة ُ  الألم ِ  الدَّفينْ   " ) 

  هيَ لم تتشرَّدْ  ولم  تتغرَّبْ  مثلهم  ولكنَّها ذاقت مرارة َ الغربةِ  في  وطنِها وبينَ ذويها … هي مثلهم  تحيَا حزينة ً مُلوَّعة ً ذاقت منَ  المآسي  ما  ذاقت  واكتوَت بنيران اليأس والخيبة ، في  قلبِها  جراحٌ  هيهات أن  تندملَ  فتقضُّ    عليها مضجعَها ... ولكنَّ فدوى  مع  كلِّ الضغوطاتِ الإجتماعيَّةِ  والأزمَاتِ  التي  مرَّت بها تبقى  ثابتة ً  في مواقفها  ترقضُ التقاليدَ البالية والسَّلبيَّة التي يتبنَّاها  ويتمسَّكُ بها المجتمعُ  وتتحدَّى كلَّ  العراقيل والسُّدود التي تقفُ  في وجهها   .     وفي  مواقفها  الوطنيَّة  والسِّياسيَّة   ثابتة  أيضًا  لا   تتزعزعُ  فترفضُ  الواقعَ العربيّ  المُزري  (  على جميع  الأصعدة )   وتستنكرُ  تلكَ   القيودَ   والسُّدود  والجهات الرَّجعيَّة التي  تقفُ  حاجزًا  أمامَ  مسيرةِ  شعبِها الباسلة ، فتصبُّ جامَ  غضبها  على  المُحتلِّينَ  بنبرةٍ  كلها  قسوةٍ   وتحدٍّ  .. كما  أنها  تذمُّ  الانظمة َ العربيَّة َ الَّرَّجعيَّة َ  والحُكَّامَ  العرب  الذين  يرتعونَ  في  قصورهم  ولا  ينظرونَ  إلى الوطنِ  المسلوب  .  

         إنَّ  فدوى  مهما عصفَ  بها  اليأسُ وألمَّت بها المصائبُ والمِحَنُ  لا  تستسلمُ وتبقى بذرة ُ الأمل ِ موجودة ً في داخلها  ُتنبئها  بغدٍ  جديدٍ  ومُشرق ٍ   -   تقولُ  :

( " أغنِّي  ولو  سَحَقتنِي  القيودُ       أغاريدَ    نفسي   وَأشواقِهَا

تبَارِكُ   َلحْنِيَ   أمِّي  الحياة ُ      فلحنِيَ  مِنْ  عُمْق ِ أعماقِهَا ).

والجديرُ بالذكر ان الكثيرين  أطلقوا عليها  لقبَ ( خنساء  فلسطين )  وذلك  لأشعارها  الذاتيَّة  الحزينة الكثيرة  ولقصائِدِها  الرِّثائيَّة   المُترعة  بالحزن ِ  والألم ِ واللوعةِ  التي نظمتها  في رثاءِ  إخوتِها ،  وخاصَّة ً  أخوها  الشَّاعر الكبير الرَّاحل (  شاعر  فلسطين   قبل النكبة )  إبراهيم   طوقان  ، وأخوها  الآخر  نمر   .   

وأخيرًا  :        بعد  حياةٍ حافلةٍ  بالكفاح ِ والعطاءِ  وبعد  صراع ٍ مرير  مع المرض تقضي شاعرتنا  الكبيرة  نحبَهَا عن عمر ٍ يُناهزُ السادسة  والثمانين (  86  )  وبموتِها  تفقدُ الحركة ُ  الشِّعريَّة ُ والأدبيَّة ُ الفلسطينيَّة ُ  والعربيَّة ُ بشكل ٍعام  ركنا ً هامًّا من أركانها حيثُ  كانَ لهذهِ الشَّاعرة ِ  الفذ َّة العُملاقة  دورٌ  كبيرٌ  فيه  مسيرةِ  وتألُّق الشِّعر العربي  في  العصر الحديث  .

clip_image001_251ff.jpg

صدرت رواية "مشاعر خارجة عن القانون" للروائية الفلسطينية رولا خالد غانم في أواخر العام 2016 عن مكتبة كل شيء الحيفاوية.

• بداية اسمحوا لي أن أوضح باختصار شديد المصطلح الذي اجترحته في قراءاتي النقدية، وهو " العزف على وتر الابداع". 

   كل منجز إبداعي من أدب أو فن، هو نتيجة عزف المبدع على وتر  يمتد من الواقع الحياتي الى أفق الخيال، من الواقع الحياتي اليومي والحرفي الذي يعيشه المبدع، تجربة مباشرة أو غير مباشرة الى أفق الخيال، الذي تسمح به موهبته وثقافته وخياله. 

"أقول أفق الخيال بقصد واع، لأنه لا ينتهي، كما هو الحال مع الابداع الصافي والمطلق، فهو كالأفق كلما اقتربنا منه ابتعد ولن يصله أحد. وهذا من عوامل تطور الابداع مضمونا وأسلوبا ومبنى وتعريفا، ومن دواعي بقائنا في حالة طموح للتطور وللتطوير." 

ومكان عزف المبدع هو الذي يقرر موقعه الفني في الابداع والمدرسة التي ينتمي إليها. ومن أجل التوضيح وللتدقيق، قمت بتقسيم المسافة بين طرفي الوتر، حرفية الواقع وافق الخيال الى ثلاثة أقسام / مساحات أساسية (بالإمكان زيادة عدد الاقسام، لمزيد من الدقة).                                                                                          1- مسافة الثلث الأول وهي الدلالة المباشرة، وتكون الأقرب الى حرفية الواقع الحياتي الذي يعيشه المبدع، ويكون فيها المنجز الابداعي (أدبا ورسما ونحتا) غالبا تصويرا فوتوغرافيا أو تقريرا اجتماعيا للواقع، ومن مميزات هذه الدلالة: التصريح والمباشرة والخطابية.  

 2- مسافة الثلث الثاني، وهي الدلالة المجاورة،  ويكون المنجز فيها متحررا من تصوير الواقع بحرفيته ومبتعدا عنه بنسب متفاوتة ومن مميزات هذه الدلالة: الضبابية والرمزية والتلميح والانزياح اللغوي.

3-  مسافة الثلث الثالث: وهي الدلالة المغايرة. ويكون المنجز فيها  متحررا كثيرا من الواقع التقريري المباشر، ومن مميزات هذه الدلالة: نسبة التلميح عالية لدرجة الضبابية التي تصل درجة الغموض، والحداثة ويكاد أن ينقطع عن الواقع، والتوقع لاستمرارية مضمون الوحدة الفكرية الواحدة أو الجملة أو الفقرة. 

• ويرتفع السؤال حادا ومستعجلا، أين تعزف الروائية رولا خالد غانم؟. 

بداهة، تكون إجابتي بعد قراءة الرواية التي أنا بصددها. أتناول الرواية، ويكون لقائي الأول مع عنوانها، وهو: "مشاعر خارج القانون".  والعنوان هو عتبة النص الأولى ومن أبرز مفاتيحه الأساسية، ويتألف عادة، من عنصرين وهما: العنوان الكلامي والعنوان الفني. 

- العنوان الكلامي للرواية:                                                               هو معطى من ثلاث كلمات: " مشاعر خارجة عن القانون"، ومجالين دلاليين، وهما: المشاعر والقانون، وبينهما علاقة ثنائية ضدية نستدلها من كلمة خارج.                                                 المشاعر تمثلها شخصيات ترمز الى الحرية والانفعال والانطلاق وتحقيق الذات، بينما القانون وتمثله شخصيات ترمز الى الثبات والطاعة والالتزام بالضوابط والسلطة. "أقول شخصيات باعتبار أن الشخصيات غير البشرية قد تشيأت أو تشخصنت." وعليه فنحن بين مجموعتين من الشخصيات: الأولى تبني وتعمل لتحقيق ذاتها، والثانية تهدم وتعرقل  لتفشل المجموعة الأولى التي تبني.               وهكذا ينمو القص السردي دراميا، بين البناء والهدم.

- العنوان الفني للرواية:                                                                        وهو اللوحة المرسومة، عجوز تنظر في الأرض وتسند رأسها بكفها، وفتاة منطلقة ومتحركة تشير بيدها نحو الشمس، وباليد الأخرى نحو العجوز. ونظرة متبصرة في اللوحة تخبرنا بالكثير، فالفتاة واللون الأحمر المتماوج والمتدرج والمضبوطة بمساحات الضوء والظل وانحناءات الخطوط، لوحة ترمز الى الجيل الجديد المنطلق بمشاعره الحمراء المتوهجة والجياشة نحو المستقبل، نحو الشمس نحو النور لتحقيق ذاته، والعجوز ترمز الى الجيل القديم المتشبث بعاداته وأفكاره السوداء (لون رسمة العجوز) ومواقفه، والذي يميل الى الثبات والخوف من الجديد ويحاول عرقلة الجيل الجديد بقوانينه العرفية، إنه صراع الأجيال. ولكن إطار اللوحة جاء أبيض يوحي بالتفاؤل والنقاء. وهكذا يكون التناغم والإثراء المتبادل بين العنوانين: الكلامي والفني. واسمحوا لي أن أعبر عن تقديري غيرِ المجامل أبدا للفنان الفلسطيني الرائع: د. جمال بدوان، الذي أبدع لوحة تدغدغ المشاعر وتحاور من يتأملها متبصرا، له مني تحية عميقة الصدى ودافئة الألوان. 

    بعد هذه القراءة الاستشرافية للعنوان غير المحايد، أتوقع أن أقرأ رواية فيها صراع بين طرفين، وهذا الصراع لا يعتمد كثيرا على درامية الحدث الفعل "ودليلي كلمة مشاعر ورسمة الفتاة" والطرف الثاني ليس بالضرورة أن يقتصر على القانون المُشرع والذي تعمل به المحاكم "ودليلي هو رسمة العجوز."

• قرأت الرواية، فوجدت فيها العديد من  النصوص الموازية أو المرافقة،  ومنها: العنوان، الاهداء، الاسطورة، الابيات الشعرية قبل كل قسم وقسم، التظهير. وقررت أن لا أتطرق الى هذه النصوص باستثناء العنوان، وذلك حتى لا أتأثر بأي عامل من خارج نص الرواية المتن، وكلنا يعرف بأن هذه النصوص غير بريئة لأنها غير محايدة، وهي تبغي التأثير على فهم القارئ للنص، من خلال التوجيه. 

• بعد قراءتي للرواية، وجدت أن العديد مما توقعته من تحليلي لسيميائية العنوان قد تحقق، ومن أبرزها: طرف القانون في معادلة العنوان، والذي يمثل عناصر الهدم: (لم نجد ذكرا للقانون المشرع إلا في طلاق أم مؤيد وأوامر الجنود في حواجز الاحتلال)، وشمل هذا الطرف: الأب أبو رفيق، والجدة، والعادات، والأفكار المقولبة، الاحتلال، مروان، التقاليد والعرف الاجتماعي، الامثال الشعبية، والصفات السلوكية السلبية كالأنانية عند مروان، وغيره.  

وطرف المشاعر الخارجة عن القانون، وشمل عناصر البناء وتحقيق الذات، المتمثلة في: أحلام، بهاء، أم مؤيد، أمجد، المشاعر وأحلام اليقظة. 

وأما الجوال أو الانترنت فكان محسوبا على الطرفين وذلك بحسب استعماله.

• بعد وقوفي على مضمون الرواية، وتحديدي لشخصيات طرفي معادلة العنوان من هدم وبناء.  وجدت أن الروائية رولا غانم عزفت إبداعها في مسافة الثلث الأول من وتر الابداع، في الوسط والطرف الأعلى من مسافة الدلالة المباشرة والمتماسة مع بداية مسافة الثلث الثاني من الدلالة المجاورة. 

تستمد الروائية رولا أحداث روايتها الأساسية (أي المادة الخام) من الواقع الحياتي الذي تعيشه مع أهلها وصديقاتها، وكذلك الواقع الذي يعيشه مجتمعها "شعبنا الفلسطيني الصابر والصامد لأنه شعب الجبارين." 

وهكذا هو الأديب يعيش في علاقة جدلية قلقة مع الواقع، وتندمج الأنا مع النحن، وتتمازج شخصيته الفردية مع الجمعية، ويحمل موقفا فكريا رافضا للواقع وغير مصالح معه، لأنه يحمل في داخله شهوة تبغي إصلاح مجتمعه ويدرك وظيفته في صياغة المستقبل، وذلك من خلال أدبه الذي يريده أن يثير في القارئ حركة شعورية وفكرية من شأنهما مساعدة القارئ في تحقيق ذاته وتجعله إيجابيا وفاعلا في دفع مجتمعه نحو الأجود والأفضل والأجمل.   

  ولأنني أميل الى النقد الذي يهتم بكيفية التعبير عن المضمون (عن ماذا نكتب)، أي كيف نكتب الماذا؟، وليس الى النقد الذي يهتم بالإجابة عن السؤال: من الذي يكتب؟ لأن الكاتب يموت مجازيا بعد نشر ابداعه بحسب رولان بارت، كما، وإنني لا أميل الى النقد الذي يهتم بمضمون الكتابة، ويجيب عن السؤال: ماذا يكتب؟، فالمضمون هو شأن الكاتب، ولكن بشرط أن يكون شريف المعنى،  وطنيا وتقدميا وانسانيا ومتفائلا. وهكذا كان ولما يزل أدبنا الفلسطيني عامة، وكما قال شاعرنا الفذ: محمود درويش: من حقنا أن نحلُم ونربي الأمل. وعليه، فإني أهتم بالإجابة عن السؤال: كيف يعبر عن الماذا؟ أي: كيف يكتب الكاتب المضمون؟ 

• فيما يلي بعض الأساليب والتقنيات التي وظفتها المؤلفة: رولا خالد غانم،  في بناء الرواية.

- الرسم بالكلمات:                                                                       أوردت الكثير من التفاصيل لدرجة أنك لو أغمضت عينيك لرأيت بخيالك لوحة فنية، وكأني بها ترسم بالكلمات. ومثال ذلك: ص7و9: تفاصيل وجه أحلام وهي واقفة أمام المرآة، وص11: ملابسها، وتفاصيل الطريق من بيتها حتى وصولها الجامعة، وص48: سوق السباط في جنين، وغيرها.                             وهكذا تطورت الرواية صعودا أو هبوطا من خلال لوحات متلاصقة أكثر منها متناسلة من بعضها البعض، بالإضافة إلى تقديمها التفصيلي للبعد المرئي في اللوحات، وظفت الحالات النفسية المرافقة للوحة والمتضافرة معها، وذلك من خلال وصفها للمشاعر والصفات والميول، مما خدم الامتاع والاقناع لدى الكاتبة وساعدها في تحقيق هدفها.  

- دائرة الأحداث المقفلة:                                                                 اعتمدت الكاتبة تقنية تشويق معروفة في البناء القصصي التقليدي، وهي دائرة الأحداث المقفلة، فالرواية بدأت بلقاء أدى الى حب بين أحلام وبهاء حارس الأمن، وأحبا بعضهما البعض، وتطورت الاحداث بين البناء والهدم ولكنها انتهت بتحقيق الهدف، وهو لقاء الزواج ( كما هو المفروض)، ولاحظوا معي إقفال الدائرة.                                                                         وكذلك نمو العلاقة بين أمجد وأم مؤيد، نظرة البداية وتطور أحداث وانتهاء بالافتراق وليس باللقاء، وهنا، يحضرني بيت أحمد شوقي من قصيدته: خدعوها بقولهم حسناء:

 نظرة فابتسامة فسلام === فكلام فموعد فلقاء. 

- نظام التفجية:                                                                              وظفت المؤلفة تقنية: نظام التفجية، بأسلوبيه: التأجيل المغلق والـتأجيل المفتوح. في بداية الرواية ص10 أخبرتنا عن علاقة حميمية مع قلادة تحمل حرف الميم المستلقي على صدرها، وطوال الرواية أجلت شرح العلاقة مباشرة إلا في النهاية، حيث أغلقت الفجوة التأجيلية بإخبارنا بأن حرف الميم هو الحرف الأول لصديقتها التي استشهدت، (هذه التقنية من شأنها أن تجعل القارئ يسترجع حكاية الرواية بحثا عن العلاقة) واسترجعت الرواية فوجدت علاقة تلميحية ذكية مع صديقتها الشهيدة من خلال الآخرين، (والشهيد - أيها الأحبة- هو أول القتلى وآخر من يموت).                                                                                  وبأسلوب التفجية بالتأجيل المفتوح، يحضرني اختيار القميص الأبيض والبطلون الخمري والفستان الاحمر، لماذا هذه الألوان؟ وبقيت الإجابة مفتوحة، وانتهت الرواية، ولم تخبرنا الكاتبة بالإجابة. لأنها تحب هذه  الألوان، بالنسبة لي هذا لا يكفي، فالتعبير الابداعي الراقي لا يكون هكذا، يجب أن تكون عناصر المنجز الابداعي من هيكلية المبنى وكيفية التعبير ولغته ومعطيات المضمون محكمة البناء ومحسوبة بدقة ، ولا يأتي أيّ معطى مصادفة، وهذا هو الفرق بين رواية الحياة الواقعية المليئة بالمصادفات واللامنطق، ورواية الحياة الفنية أي الكتاب، وتكون منطقية.  

- العلاقة بين التعبير والمعنى:                                                            لنقرأ معا هذه الجملة فقط في ص31: "جو الانفتاح هذا (المقصود جو الجامعة) يمنحهن الحرية والحب والحياة، بدت أحلام مع الأيام أكثر بهاء". لاحظوا العلاقة السببية والإثرائية بين دلالة بهاء هنا وبهاء اسم الحبيب. (قد قد يقول أحد: إن الكاتبة لم تقصد هذا؟، ولكنني شخصيا ممن ينادون بالتوفيق بين السلطات، وإن كنت أميل أكثر الى سلطة القارئ في السؤال الأبدي لمن السلطة في النص؟ للكاتب أم للنص أم للقارئ.  

- براعة النهاية.                                                                              لدى بعض كتاب السرد القصصي بأنواعه المتعددة، تسير الأمور صعودا أو هبوطا على ما يرام (كما يقولون)، ولكنني لا أعرف ماذا يحدث لبعضهم في الخاتمة والنهاية، وكأنهم يريدون التخلص من ثِقل الإبداع الذي عذبهم، فتأتي فجة وغير مثيرة وغير مستفزة (ويبدو لي أنهم نسَوْا بأن الكتابة عامة هي سيرورة وليست منجزا، فكم بالحري إذا كانت إبداعية)، وللأسف يصدق فيهم قول الشاعر: لقد أفسدتها في بوزع. 

ولكن النهاية في رواية: رولا غانم، أعجبتني جدا (وأنا لا أجامل وإن كنت أحيانا أجامل، من باب دفء العلاقة الاجتماعية). فقد اعتمدت نظام التفجية بالتأجيل المغلق وكشفت أسباب رفض والد أحلام قبولَ بهاء زوجا لأحلام لأنه لاجئ وابن مخيم، تماما كما رفض والده أن يزوجه من حبيبته أيام شبابه؛ لأنها لاجئة وابنة مخيم. ويا للمفارقة الجميلة والمثيرة والصادمة لقد كانت حبيبته في شبابه هي أم بهاء وهي اللاجئة وابنة المخيم وابنة البواب، لقد رفضها والده (جد أحلام) وابو أحلام أطاع والده في حينه ونكث بوعده مع أم بهاء، وتزوج غيرها تلبية لرغبة والده، وكأني بالكاتبة رولا غانم دكتورة في علم النفس العلاجي، فقد صدمت والد أحلام، وكشفت حقيقته أمام نفسه ليراها بنفسه أمام أم بهاء التي كانت بمثابة المرآة، فتيبّس في مكانه ورجع قلبه الى حيث خفق أول مرة (ومشى الملك عاريا).                                                                                – النهاية شبه المفتوحة:                                                                   أخبرتنا الرواية بأن والد أحلام بعد مرض ابنته وافق على أن يناسب اللاجئ وابن المخيم بهاء، ولهذا حضر بهاء وأمه ليطلبا يدها، وكانت المفاجأة، ولكن الكاتبة لم تخبرنا بجواب السؤال: هل وافق وبارك والد أحلام بالفعل، كما كان يجب أن يحدث قبل اللقاء القنبلة، أم أنه تراجع لأنه اكتشف بأن أم العريس هي حبيبته التي ما زالت تخطر على باله، وهي كذلك. وكان السطر الأخير في الرواية: "هناك عند مفترق الدرب لكل منا ذكرى تلاحقه كظله، ذكرى لا يمحوها العمر، ولا شقاء السنين".                  وهكذا انتهت الرواية وبقي السؤال يطارد القارئ: هل بارك أم لم يبارك؟، إنها نهاية مفتوحة أو شبه مفتوحة، والبطل هو نصف بطل، لأننا لم نعرف النتيجة.

حقا، لقد كانت نهاية غاية في البراعة.

- الأسلوب:                                                                            جاءت اللغة مألوفة المفردات وفصيحة فسيحة، ومطعمة بالمفردات أو التراكيب العامية المحكية، والجمل صحيحة النحو وواضحة، وبعضها تراوحت بين جملة النثر التي تمشي وتتمخطر وجملة الشعر التي ترقص فتدهش، فبعض الفقرات جمعت بين التعبير الشعري والنثري، ولقد اقترحت على هذا الأسلوب مصطلح: "الشعثرة= شعر+ نثر".                                                   وطول الجملة كان يراعي الحالة النفسية المرافقة، فتأتي قصيرة وسريعة عند التوتر وتتابع الأحداث وطويلة عند الوصف أو النص الساكن.                      ولقد عبّرت بنجاح ما، باختيار الأسلوب الملائم من سرد أو حوار، لمعطيات المضمون من حدث أو حالة أو وصف.  

 كما ووقف على الكثير من التراكيب اللغوية المبتكرة والصور المدهشة. 

• وأخيرا وليس آخرا.

 لم اتطرق كثيرا الى المضامين فهي في الاساس قصة حب ومن خلالها تطرقت الكاتبة (من خلال وعيها لرسالتها وفهمها لمعطيات الواقع والتزامها بقضايا شعبها ووطنها الاجتماعية والسياسية) الى العديد من المواضيع الأخرى كالاحتلال وحياة الجامعة والمجتمع بعاداته وتقاليده وطبقيته وصراع أجياله وغير ذلك،.

 لم أتطرق لأنني اهتممت بالإجابة عن السؤال كيف نكتب الماذا؟ 

 وفي الوقت نفسه لم أتطرق الى ما لي من مآخذ على الرواية، ولكني سأخبرها مباشرة وبكل صراحة. 

- أقول وبصراحة يعرفها فيّ كل من يعرفني: لقد قرأت رواية تستحق القراءة، وستجد لنفسها المكان والمكانة، وهذا ليس بالأمر السهل والمفهوم ضمنا وخاصة أننا نعيش حالة أدبية مفزعة من فقر الفكر وفكر الفقر أسميتها حالة الإسهال الأدبي، بسبب سهولة النشر والفوضى، وكأننا في حارة كل مِن إيدو إله.

من يقرأ عنوان المجموعة القصصية "الوعر الأزرق" للكاتب السوري إبراهيم صموئيل سيجده حتما يحتمل من الكثافة الدلالية ما يحوله إلى ميكرونص كاف بذاته كما يسميه أهل الاختصاص. بمعنى آخر بلاغة العنوان تنبثق عن اتصاله بالمضمون السردي لقصص المجموعة، كونه عتبة أولية تدعونا لولوج واحته الغناء لتفكيك مجاهيله الدلالية التي جمعت بين ثنائية الخوف والتحدي إجمالا في نصوص صموئيل،  فكلمة "الوعر" تشير إلى معنى صعوبة المكان المخيف أما "الأزرق" فيدل على لون البحر، ذلك المغمور بالمياه المالحة والذي يغري صاحبه لركوب أمواجه الماكرة.

لقد نجح القاص في كتابة اثني عشرة قصة لا تخلو من الترميز والمفارقة، حيث تعكس ملامح الشخوص المحبطة والخائفة في كثير من الأحيان لكنها لا تخلو من الجانب الإيجابي الذي يدفعها إلى التحدي بعفوية مطلقة، كما جاء في القصة الأولى الموسومة "العتمة" أين يجد البطل نفسه وسط صالة عرض أحد الأفلام، غير أن الجميع يستاء بعد انقطاع الكهرباء المفاجئ فيلجأ إلى الصيحات والتعليقات والسباب الصريح والتحذيرات وغيرها: (من الصعوبة تحديد المدة التي دامت فيها تلك العتمة، لدقيقة ربما أو بضع دقيقة... غير أن الصالة، في تلك الفاصلة من الحلكة، هبت عن آخرها. تفجر الحاضرون فيها مثل ألغام موقوتة، لكأنما الناس، إذ تحتويهم العتمة معا في مكان مغلق، يتحولون، في برهة، إلى كائنات أخرى غيرهم!)1.

القصة الثانية جاءت تحت عنوان "الصمت" أين يشعر البطل بالخوف وبمرارة الحياة أيضا، بعد خيانته لزوجته مع صديقتها لحظة غيابها، وما يقتله هو صمتها الرهيب ونظرتها المحيرة: (عزمت، وقد هدني الهرب، على أن أقفل مثل تلك الشاة. أقفل دون أن أعرف ما سيحدث، إذ لم يعد يهمني أبدا.)2.

استعان صموئيل في القصة الثالثة "وقالت خديجة لخديجة" بتكنيك المونولوج الداخلي ببراعة مطلقة، وهو ما استخدمه وطوره مذهب "تيار الوعي" ومن بينهم وليام فوكنر وجيمس جويس... لنجد بدورنا البطلة تتحدث مع نفسها ولنفسها ولا تجد لها منصتا لحكايتها الحزينة سوى المتلقي، ليستشعر هذا الأخير حضور الكاتب في القصة بعينها وبأنه خالق البطلة فيها، وهو الذي ينطقها ليحكي لنا ما وقع لها مع والد ابنها الحقير الذي تصفه لنا بالخنزير: (أتصدقين. وهو فوقي يفعلها، ما رأيت غير أبيك وهو يضرب جبينه متذكرا دواء أخيك المريض. رأيته يعاود الضرب مرة، ومرتين، وثلاثا، وألفا.. ضربا مبرحا، داميا، كمن يحاول قتل نفسه.)3.

القصة الموالية "ومضة" تكشف لنا بشكل آخر إثارة المشهد السينمائي الذي وظفه صموئيل كذلك حين جمعت الصدفة البطل بتلك الفتاة وسط سيل من السيارات المنطلقة بسرعة البرق، لكن كليهما قررا تحدي لحظة الموت مع سبق الإصرار: (والغريب في الأمر حقا هو أن نعزم معا، كأنما، هي الأخرى، قدرت تقديرا طائشا كما قدرت!)4.

يظهر القاص بامتياز معالم وسمات شخوصه النفسية والاجتماعية وهي باحثة لها عن ملجأ للحنان وسط ضوضاء الحياة، كما يبدو ذلك جليا في قصة "في حافلة صغيرة" أين يجمع القدر البطل وزوجته وطفله الصغير بتلاميذ الحافلة اللقطاء: (وما كادت زوجتي تناولني الصغير، وتتخلص من زحام التلاميذ بمداعبة رؤوسهم والابتسام لهم، ثم تهبط وأهبط خلفها شاكرا السائق.. حتى اندفعوا إلى النوافذ المقابلة لنا، فبدت وجوههم، لاضطراب تزاحمها وشدة التصاقها بالزجاج المغبش، كعصافير ملونة تواقة.)5. 

نفس الشعور يتولد لدى تلك الطفلة في قصة "المسافة" التي تتعلق بالبطل –صديق والدها- الذي تتكرر زيارته لبيتهم ليجعلها تتعلق به، بل يصبح جزءا من متعتها التي لا تكتمل إلا بركضها العاصف الضاج ببراءتها: (..وحين ركضت وطوقت عنقي، حلقت بها كما لم أحلق يوما، معاهدا نفسي وبهجتها ألا أكرر حيلتي أبدا.)6.

لقد استعان إبراهيم صموئيل في معظم قصصه بالضمير المتكلم العليم ليجمع بين شخصيته كقاص وشخصية أبطال قصص "الوعر الأزرق"، وذلك ليقف بدوره مع الأحداث لا خلفها مستوقفا القارئ ومحفزا له بشكل آخر على التأمل كطرف مشارك في سرده القصصي، الذي لا يخلو من دلالات الوجع والحزن والهم والتحدي في آن واحد.

 هوامش:

1.إبراهيم صموئيل، الوعر الأزرق، دار الجندي للنشر والتوزيع، دمشق، ط2، 2004، ص:6.

2. المصدر نفسه ص23.

3. المصدر نفسه ص31.

4. المصدر نفسه ص38.

5. المصدر نفسه ص71.

6. المصدر نفسه ص89.

*كاتب وناقد جزائري

المزيد من المقالات...