clip_image002_1dacd.jpg                   clip_image004_4cd44.jpg

د. سناء شعلان                                           د.ميسون حنا

clip_image006_e1af3.jpg

حدث ذات جدار، تسمية لمجموعة الدكتورة سناء القصصية، تُلخص ما يقض مضجع الكاتبة ويؤرقها حول ما يستبيحه الجدار من جرائم نكراء، فالجدار يفرق بين النورين في قصتها الأولى، والنوران، هما طفل وطفلة، أبناء عمومة يحمل كلاهما نفس الاسم تيمناً بجدهما الشهيد، واختيار الاسم نور، هو رمز بذاته، فلا يجدر بالشهيد إلاّ أن يكون نوراً يضيء الطريق بعده لتتكرر الشهادة إلى ما لا نهاية أو إلى نهاية حتمية لا بد لنا أن نصل إليها ذات يوم مشرق لا وجود للظلام فيه. والجدار يفتعل الأفاعيل ليصوغ الباطل بأسلوب لا يستسيغه إلاّ المنطق الصهيوني، وهو اللامنطق بلغتنا البسيطة، وحتى بلغتنا الخارجة على المألوف، والتي لا تتخطى حدود الإنتماء للعالم، أمّا ما يستبيحه الصهيوني لنفسه فهو الخارج البعيد الذي يخترق مدارات الجاذبية الأرضية، فتعجز عقولنا أن تستوعبه، وعندما يغزو عقلنا ويحتله متربعاً فيه كحقيقة دامغة، تكون النتيجة لذلك إما أن يتفجر هذا العقل أو أن يقوم بتحطيم ذاته بعملية استشهادية مثلاً، أو كما فعلت تلك الأم المريضة بالسرطان في محاولة منها لاقتحام الجدار متصدية لرصاصات غاشمة، استقبلتها بابتسامة أم تأبى أن تفارق رضيعها، وإن عادت إليه جثة هامدة، ولكنها حققت عودتها بأسلوبها البسيط المعقد، السهل الممتنع.

في قصتها الصديق السري تسعى الكاتبة لتقول لنا أن هناك مكاناً للحب في قلب صبي صهيوني، لولا ... ولولا هذه تحمل في طياتها كثيراً من الممنوعات والمحاذير والأحقاد والكراهية، والعنف، والغدر، و...، و....

ولولا تلقن وتدرس لتكون ناموساً يحتذى، ومن يخالفه يعدم، وهكذا اعدم الصبي الصهيوني مع تربه الفلسطيني، اعدم لأنه تطاول على لولا ... ولولا تمنع الهنجارية العاشقة أن تبوح، والهنجارية مجندة اسرائيلية لا تشعر بسيحق أعماقها بانتمائها لشعبها الصهيوني، لولا تقف سداً منيعاً أمام مشاعرها الدفاقه تجاه شاب فلسطيني اردي قتيلاً مع رفاقه العمال أبان عبورهم الجدار، اعدموا كونهم مخربين باللامنطق الصهيوني .. لولا ... وكأن الكاتبة تريد أن تقول أن هناك مساحة من السلام بين النقيضين، وإن كانت هذه المساحة صغيرة حد الاضمحلال، هل تريد الكاتبة أن تقول أن هذه المساحة ستتسع يوماً ما ...؟.

المفارقة والمقارنة بين حدي الجدار تتكرر، والتكرار هنا ضروري، بل إلزامي لنطلق دوي عذاباتنا، ونعبر عنها بالكلمات والعبارات المتنوعه المختلفة المتشابهة التي تصب في بوتقة فوهة الغضب الجنوني الذي يحفز طاقاتنا لإطلاق صرخة تسمع العالم حولنا، فيلتفت لأوجاعنا، ولمؤازرتنا...

والجدار يقع بين حدين يتصارعان، والجدار كما تقول الكاتبة كريه في باطنه المظلوم وظاهره الظالم، وتحلم الكاتبة أكثر وتحلق بأحلامها إذ تقول: "استيقظ الفلسطينيون والصهاينة ذات صباح فلم يجدوا الجدار، فقد رحل دون عودة"، وكأن الكاتبة تريد أن تقول أن الجدار الاسمنتي لن يصمد طويلاً، لا بد أنه سيزول، بل سيكون زواله قريب.

جميلة شخصيات المجموعة القصصية، تم اختيارها برشاقة وعناية وشفافية، وتبلغ الشفافية ذروتها عندما تقف على أثير طائر أبيض يحلق بعيداً عن شبح الجدار، وفي محاولة مني لإمساكه، اكتشفت أنه أثير روح الأم الثمانينية التي فصل الجدار بينها وبين أبنائها الأسرى مما جعل أمومتها تفيض حولها، فتزور معتقلاً يضم أسرى آخرين، تزورهم فرداً فرداً لتكون الشمعة الوحيدة في حياة كثير منهم، وتحمل رسائلهم الشفوية في وجدانها إلى أن يتيسر لها عبور الجدار قاصدة بيت الله الحرام، وفي لحظة أمومة متدفقة تحيد بمسارها إلى التطواف على بيوت ذوي الأسرى لتنقل الرسائل لهم شموعاً متقدة تستمد نورها وطاقتها من قلبها ...

الشمعة الوحيدة الحقيقية، وتنطفىء الشمعة على بوابة العبور بعد أن أدت رسائلها وأتمت تطوافها وأدت فريضة الحج بطريقتها، انطفأت لتحلق طائراً أبيض عصياً يرفرف بجناحيه ليبلغ العلا، وهناك يلامس شغافنا فننبض حباً وشوقاً، ورغبة عارمة لتحطيم الجدار.

وفي النهاية، اقرأ خرافية أبي عرب لاكتشف طاقات الدكتورة سناء المتخيلة والتي تعكس وعياً معاصراً لقضيتنا لتعبر عنها بأسلوبها المشوق، فتقول إن أبا عرب كان زين الشباب، وهو رمز من رموز الكفاح الفلسطيني، لم تدسه سياره في ليلة صقيعية، ولم يمت مجهولاً، بل تسلل عائداً إلى فلسطين واستشهد في عملية فدائية بطولية، وفي كل ليلة تخرج روحه وتحمل السلاح وتقاتل، وسيظل كذلك حتى يبعث يوم القيامة حاملاً سلاحه وروحه.

أبو عرب يتكرر كل مرة في خرافية جديدة بحيواته النضالية المديدة .. المتجددة، ونهاياته المشرفة. أبو عرب غدا جيشاً من الرجال والنساء والأطفال، وهو لا يموت، بل يبعث حياً من رماده كطائر الفينيق.

وبهذا تختم الدكتوره سناء مسك حكاياتها لتقول لنا أن لا نيأس وإن اتسعت مقابرنا، ولكننا نبعث من جديد لقتال سيدوم ويدوم ... إلى أن يتحقق النصر.

فضح مغالطات التناص بين الفكر العراقي القديم والفكر التوراتي (2)

التّناصُّ المُدمِّر

_________

# كتاب (الأصول الأسطورية في قصّة يوسف التوراتي) ، للباحث ناجح المعموري أنموذجاً :

------------------------------------------------------------------------------كتاب (الأصول الأسطورية في قصّة يوسف التوراتي) ، للناقد والباحث "ناجح المعموري" (1)، هو الكتاب الذي أعدّه أنموذجاً لما وصفتُه في عنوان هذا الفصل بـ "التناص المدمّر" ، وهو التناص الذي ساشرحه بالتبسيط الضروري في ما سيأتي من صفحات هذا الكتاب بطريقة تؤمّن فهم أغلبية القرّاء العامّين بدءاً من طلبة الإعدادية على سبيل المثال . وسأستخدم ما يحتويه هذا الكتاب من طروحات وأفكار وفرضّيات كنماذج تطبيقية لنقد المنهج القائم على فهم للتناص كفيل بتدمير كل كنوز الموروث الأسطوري في العراق ومصر خصوصاً وتسليمها للفكر التوراتي باعتباره امتداداً طبيعياً لذاك الموروث الأسطوري الذهبي ، وذلك من خلال لعبة تناص لا تُبقي ولا تَذَر شيئاً من خصوصيات الفكر الأسطوري في الشرق الأدنى القديم تحت غطاء هدف واسع ومشروع في الظاهر هو كشف المرجعيات الأسطورية للفكر التوراتي ، وهو الهدف الذي تحمّس له الكثيرون في البداية – وأنا منهم – ثم إذا به ينزلق بعد مدّة إلى مزالق توصل إلى نتائج شديدة الخطورة .

قدّم للكتاب الأستاذ الدكتور “متعب مناف” بمقالة عنوانها (عقدة يوسف التوراتي بين الإخصاب والإخصاء) قال فيها إن هناك ثلاثة من الباحثين تعرّضوا إلى قصّة يوسف كما وردت في العهد القديم وهم : فراس السوّاح (سوريا) ، والسيّد القمني (مصر) ، وناجح المعموري (العراق) .. وأنه – أي متعب مناف – يطمح أن يكون رابعهم . وأضاف :

(بتقديري أن ناجح المعموري الأقدر والأجدر بتصدّر المجموعة لأنه الأقرب إلى أن يعيش الأسطورة مشاركاً يتماهى مع رموزها يتنفس أوجاعهم ، ينام على فرش لذتهم ، يتلذذ بشوك مآسيهم ، يصدر عنه دامياً يزيد من خفق قلبه بعد أن تلبسّته الأسطورة لتنطلق حيّةً من رماد المعموري .

المعموري يجيد لعبة ولعنة التناص فهو بارع في إدخال نص على نصّ متنقلاً من كلكامش إلى يوسف التوراتي ليظهر ثانية في تموز البابلي وأوزوريس المصري حاطاً عند يسوع الناصري – ص 12 و13) (2) .

وبعد أن يستعرض متعب الأفكار الأسياسية لوجهة نظر ناجح ، يبدأ بطرح أسس فرضيّته ، فيبين أنها تبدأ من حيث ينتهي ناجح المعموري . ويواصل القول - وأنا أنقل كل الفقرات كما هي بأخطائها المطبعية واللغوية والإملائية الكثيرة لسبب في نفسي سوف أثبته في ملاحظة مستقلة - :

(لقد وضعتُ لبحثي هذا وأن أقرأ وبإمعان وتقدير ما كتبه ناجح المعموري أن فهم قصة يوسف التوراتي وقراءة ذلك تناصيا مع أسطورة الأخوين ، أن القصة يمكن أن تدرك كعقدة (comp  lex) (هكذا وردت !!) تحاول أن تتمدد بين حدّين هما (الإخصاب) و (الإخصاء) .

هاتان المعطيتان (المفهومان) إخصاب ، إخصاء يربط بينهما التضاد الى حد التناقض وأن تحقيق أحدهما ينفي أو يصادر وجود الآخر- ص 22 و23) (3) .

وكحالة تطبيقية لهذه الفرضية يفسّر الأستاذ متعب حكاية الأخوين الفرعونية وقصّة يوسف التوراتي بأنهما حالتان وقع فيهما الفرد بين حبّه للإخصاب وخوفه من الإخصاء ، وأن هذه الفرضية تصلح لتفسير عقدة يوسف التوراتي :

(الذي وقع بين إغواء زوجة سيّده فوطيفار الذي حاول أن يتبناه وبين خوفه إلى حدّ الفزع من أن يتعرض للإخصاء جراء فعله .

لقد حوصر يوسف التوراتي بخوفين ضاغطين أحدهما من أبيه الحي والثاني من سيده وزوج تلك المرأة التي حاولت إغوائه - ص 27) (4).

# وقفة : الكاتب العراقي لا يهتم بمراجعة كتبه قبل طبعها

-------------------------------------------------------

وارتباطا بملاحظتي عن الأخطاء الطباعية وبالتالي الإملائية الكثيرة ، واللغوية ، أقول إن هذه الأخطاء قد شوّهت جوانب كبيرة من شكل ومضمون المقالة . وقد دعوت في مناسبات سابقة الكتّاب العراقيين إلى أن يطلبوا من صاحب دار النشر أن يرسل إليهم البروفة الأخيرة (pdf) قبل النشر للتأكد من عدم وجود أخطاء فيها ، وتصحيحها أكثر من مرّة لضمان صدور كتاب بأقل الأخطاء . وكل يوم تصدر كتب عراقية مليئة بالأخطاء الطباعية للأسف لأن الكاتب العراقي يستعجل ويضع ثقته في الناشر الذي يسلك سلوك تاجر آخر ما يهمه هو الشأن الثقافي . كما يعكس ذلك عدم توفّر روح الجدّية والمتابعة لدى الكاتب العراقي وملله السريع كجزء من سمات الشخصية العراقية عموماً . هل يستطيع السيّد القاريء فهم هذا المقطع :

(فهو يقرب المطيع فيمنحه (الخصب) ويدمر المحتج فيعاقبه با (الخصاء) لان الاول (المطيع) الأحد أن يكون سر ابيه ثم هو يؤرث ، أما العامة فانه امتنع على ابيه وثلم هيبته عقابه أن يجرد وأفضال    أبيه ومنحها الاخصاء.

وتمكن أن نتحول بالمنه الأبوية والتي يمارسها في وسطه العائلي (اخصاباً واخصاءاً) الى الأب الحاكم السلطوي- ص 17) (5) .

ولاحظ في أخطاء النص الطباعية السابقة كم هي مهمة حركات التشكيل أيضا والتي يتحمل جانبا كبيرا منها الكاتب العراقي نفسه .

عودة : الباحث د. متعب مناف يقع في المصيدة

---------------------------------------------

المهم ، أنّه في هذا التقديم، يقدّم لنا د. متعب مناف معلومات كثيرة مهمة ، فهو من الأساتذة الذين يتوفّرون على ثقافة موسوعية وثراء معرفي مميّز يُلاحظ من خلال دراساته وكتبه . لكن أن يقول لنا أن البحر الأحمر هو بالإنكليزية (Red Sea) ، وأن البحر الأسود هو (Black Sea) ، فإن في هذا استخفافاً بعقولنا ، فبالله عليك يا أستاذ متعب ، لمن كُتبت هذه المقالة ؟ هل كُتبت لتلاميذ المتوسطة ؟ حتى هؤلاء يعرفون اسمي البحر الأحمر والأسود بالإنكليزي . أتذكر مقالة لأحد النقاد العراقيين "الحداثيين" نشرها في التسعينات ، وقال فيها : (وهذا المؤلف لديه الكثير من الكتب (books) !!) .

وقد تضمّنت مقدّمة متعب الكثير من الآراء والأفكار الخاطئة والغير دقيقة سأطرح جانبا منها ، الآن ، وجانبا آخر في مواقف مُقبلة مناسبة من هذه الدراسة . يصف متعب الأستاذ ناجح بأنه :

(أحد أفضل الاثاريين الثقاة - ص 21) (6) .

وتعريف كلمة الآثاري – Archeologist ، هو أنه الشخص الذي يدرس المناطق والأشياء البدائية ليفهم الماضي . وقد يتخصّص بمناطق جغرافية معينة أو مراحل تاريخية أو أدوات محدّدة كالعملات أو العظام أو الأواني وغيرها . أي أن عمله الرئيسي هو النبشيات (الحفريات) وما يتفرّع عنها . ولكن ناجح ليس آثاريا بهذا المعنى ، إنّه قاريء ومحلّل للاسطورة ؛ باحث في مجال الميثولوجيا .

وعلى (الصفحة 15) يستشهد متعب ببيت شعر ليوضح أفكاره عن استبداد الأب في التصرّف في أبنائه وبناته :

إن رمت تعذبني فأنت مخير

من ذا ينازع (سيّداً) في عبده

وهذه الصيغة للبيت الشعري غير دقيقة ومختلة الوزن ، والأصح - أولاً - هو أن صيغة البيت الشعري الأصلية هي :

إن شئتَ تقتلني فأنتَ محكّمٌ

من ذا يطالبُ سيّداً في عبده

وهو من قصيدة المتنبي التي مطلعها :

قمرٌ تكامل في نهاية حسنه

مثل القضيب على رشاقة قدّه

وهي قصيدة غزليّة معروفة شاعت خصوصا بعد أن شدا بها صوت القدّيسة فيروز الرائع .وثانياً ، لا أعتقد أن هذا البيت بما يستدعيه من انفعالات يشكل اقتباسا مناسبا لوصف علاقة بين طرفين تتراوح بين قطب الإخصاب وقطب الإخصاء ولها مدلولات نفسية وتاريخية وثقافية جدّية وضخمة .

# د. متعب يقع في خطأ ستراتيجي فادح

--------------------------------------

وقد وقع د. متعب في الخطأ الستراتيجي نفسه الذي وقع فيه ناجح حين اعتمد على قراءة حكاية الأخوين الفرعونية كما وردت في كتاب (أساطير من  الشرق) للكاتب المصري "سليمان مظهر" (7)، فتراه ينقل بعض المقاطع باللغة التعبيرية الأدبية والشعرية التي استخدمها سليمان مظهر ، وهي ليست لغة الحكاية ألأصلية ، فقد تلاعب بها سليمان كما يقول هو نفسه في المقدّمة :

(وقد أخذتُ على عاتقي في هذا الكتاب تقديم بعض اساطير الشرق ، بعد إخراجها من الطابع المتزمّت وتبسيطها وتقديمها في صورة حيّة ، سهلة التناول ، تطربُ لها نفوس القارئين- ص 11) (8) .

# ما أهمية هذه الملاحظة ؟

   وما هي مصادر الحكاية ؟

---------------------------

إن لها أهمية كبرى ، تكمن في أن متعب لم يكلّف نفسه العودة إلى الحكاية في مضانّها الأصلية ليس باللغة الهيروغليفية طبعاً ، ولكن باللغة الإنكليزية – مثلاً - التي تُرجم إليها الأصل (وهو متمكن من هذه اللغة) ، وكذلك ناجح المعموري ، واكتفى الإثنان بالإعتماد على إخراج أدبي للأسطورة يُراد منه تبسيطها وجعلها محبّبة إلى نفوس القارئين لكي تطرب لها نفوسهم كما قال سليمان مظهر ، ونسيا أن إعادة الصياغة شعرياً تدمّر الأسطورة والحكاية الخرافية لأن تغيير مفردة واحدة يكفي لقلب معنى الأسطورة والحكاية رأساً على عقب كما سنرى عبر عشرات الأمثلة المُقبلة . بل أن كل أخطاء متعب وناجح في التأويل ناجم عن عدم رجوعهما إلى النص الأصلي للأسطورة والحكاية ، واكتفائهما بنسخة كتبها كاتب معاصر في القرن العشرين – بعد أكثر من 30 قرناً !! – وبأسلوبه الشخصي ليطرب قلوب القرّاء كما يقول !!

مثلا ؛ يذكر متعب وناجح أن اسمي الأخوين هو : أنوبو وبايتي اعتمادا على سليمان مظهر ، وهذا موجود في إحدى نسخ الحكاية ، ولكن المتعارف عليه بين الباحثين هو أنهما : أنبو (أو أنوبو في مصادر أقل) ، وباتا (Anpu and Bata) كما ورد في النص الأصلي بترجمته الإنكليزية في المتحف البريطاني التي سأرفقها في الختام ، كما ذُكر اسم باتا بهذه الصيغة في كتاب (أساطير العالم القديم) الذي أشرف عليه وحرّره (صموئيل نوح كريمر) . واسم أنوبو هو الإسم الأصلي للإسم المقدّس الذي تحوّل على ايدي اليونان والرومان إلى "أنوبيس" . أمّا بالنسبة لـ "باتا" فهناك أسماء لإله قديم جدّاً يُصوّر برأسي ثور هي : بيْتي وبْتي وبوتي ، وقد عرف اليونان هذه السلطة الميثولوجية بأسماء : باتي وبوتي وبايتي – ص 158 هامش 3) (9).

وما أقصده من هذه الملاحظة هو أن الباحث - حين يكون "آثارياً ثقة" - عليه أن يعود لمراجعة الإسماء والألقاب – للآلهة والأشخاص - وأسماء الأماكن  في ترجمات نسخ أي حكاية يتصدّى لتحليلها وتأويلها .

وهذه الحكاية كان من السهل الرجوع إليها في مصادرها الأصلية ، لأنها – وهذه حالة استثنائية – بنسخة واحدة على البردي ، وليست بنسخ متعدّدة كما هو حال الكثير من الأساطير المصرية القديمة ، كما يقول سير "فلندرز بيتري" في كتابه :

حكايات مصريّة – مترجمة من أوراق البردي – السلسلة الثانية : الأسرة الثامنة عشرة إلى التاسعة عشر - Egyptian Tales, Translated from the Papyri: Second series, XVIIIth to XIXth dynasty

الذي اعتمدتُ عليه في دراسة الحكاية باللغة الإنكليزية . وقد طُبع هذا الكتاب أول مرة في عام 1895 وطُبع ثانية عام 1913 ، ثم طُبع أخيراً في عام 2013 حيث يُباع الآن في موقع أمازون للكتب ، ولكن نسخة أصلية منه موجودة في موقع Project Gutenberg ويمكن تحميلها مجاناً .

ولم أكتف بالإعتماد على كتاب السيّد بيتري ، بالرغم من أنّه الأكثر دقة وأهمية حيث يقول بيتري أن السيّد "كريفيث" الذي ترجم الحكاية قام بترجمتها كلمة مقابل كلمة ، وأنه – أي بيتري – لم يتدخل عند تحريرها إلّا بحدود بسيطة جداً ، ولكن اعتمدتُ على كتاب لا يقل شهرة ودقّة عنه ، وهو كتاب الباحث الشهير المختصّ بالمصريّات ، سير "غاستون ماسبيرو – Gaston Maspero " :

حكايات شعبيّة من مصر القديمة –      Popular Stories from Ancient Egypt 

الذي صدر في الولايات المتحدة وبريطانيا في وقت واحد عام 1915 . ثم أعيد إصداره في البلدين نفسيهما عام 2002 . وهناك – أيضاً – نسخ أصلية منه يمكن تحميلها وقراءتها مجاناً . وقد صدر هذا الكتاب باللغة العربية عام 2008 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ولكن تحت عنوان "حكايات شعبيّة فرعونية" ، وقامت بترجمته "فاطمة عبد الله محمود" ، وراجعه د. ماهر محمود طه . 

كما اعتمدتُ ، أيضاً ، على نسخة الحكاية المُترجمة في كتاب "دوناد مكنزي" :  Egyptian Myth and Legend by Donald Mackenzie (1907)-  Gresham puplication – London

وهي نسخة موجودة – أيضاً – في شبكة الإنترنت .

.... يتبع

clip_image002_89221.jpg

القدس: من رنا القنبر:  13-10-2016ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية مساء الخميس  في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس  كتاب "شامة بيضاء" للكاتبة إيمان زيّاد  ويقع الكتاب الصادر عن دار دجلة للنشر  والتوزيع في الاردن في 103 صفحة من الحجم المتوسّط. 

بدأ النقاش ابراهيم جوهر :

في شامتها البيضاء تفيض الكاتبة "إيمان زيّاد" بجرأة أنثوية متحدّية شبح الظلم والموت والفراق لترسم عالمها المشتهى كما تريد وتتمنى. لذا فإنها تحاور آخرها ليكمل معادلة الحياة، والآخر المعشوق ناجته بوله وعشق وأحلام، وهو أيضا استقرار وفرح وانسجام، وهو الطفولة البعيدة التي تبحث عنها في واقع قاس لا يرحم.

وهي تهدي نبضاتها هنا إلى الإنسانية قبل غيرها لأنها تدري أنّ هذا العذاب الذي يدمي قلب الإنسان إنما هو بسبب عدم التعرّف على الحب، فبالحب يزرع الإنسان بساتين الحياة فتزهر عشقا وجمالا واستقرارا بعيدا عن الأقنعة واللصوص والقتل والدماء.

تكررت ألفاظ بعينها في أكثر من نبضة للكاتبة أو خاطرة أدبية محمّلة برؤية ورؤيا وبوح، وهذا التّكرار نبع من تقارب الفترة الزمنية لكتابة هذه النبضات وليس – كما أرى – مقصودا لذاته.

من هنا تكررت لفظة "نهد" و"إصرار" و"أقنعة" وقد يلمس القارئ حزنا ولوما ورغبة بأن يكون الإنسان "حجرا" بلا مشاعر لما تجرّه تلك المشاعر من متاعب وشقاء على المستويين الفردي والوطني العام.

ورغم الوضوح في البوح والتعبير عن الرّغبات الإنسانية لدى "إيمان زيّاد" إلّا أن غموضا وترميزا اعترى هذا البوح وكأنها تقول: هذه الحياة لا توفّر لنا الراحة والبساطة والبراءة بل علينا التّعب لفكّ رموزها وأسرارها.

وفي الصفحة الأخيرة كتبت الكاتبة بدل الفهرس عبارة ذات دلالة وهي تشكّل مفتاحا للاقتراب من عالمها. كتبت: "ثمّة حزن بين الأرقام... وفرح". وقد أحسنت التوصيف، فالحزن هو الطاغي في مواجهة الفرح المنتظر.

وقال محمد يوسف قراعين:

اللون الأبيض يتحلل في قوس قزح, فينتج ألوان الطيف السبعة. فهل تريدنا إيمان أن نجد في صورها النثرية, كل ما في صدرها من معان مشرقة ومعتمة مرت بها؟ حيث تبدأ بسلام ولو أنه غث, ولكن سرعان ما رأت روحها تمشي على الشوك بسبب الفراق. تستمر في عرض الصور التي توضح ما تستطيع أن تقدمه من عطاء, في صور جميلة من الفن التشكيلي, التي تحتاج إلى تمعن وتبصر في الفلسفة, عند رؤية دبيب النمل مثلا في رقصة هادئة, كأنها أجراسٌ ثملة تحتك, كما نهدين في ليل عاصف. 

استمتعت بتركيب هذه الصور, ووضعها في قالب ارتاحت إليه الكاتبة, وتريد من القراء أن يشاركوها في تأملها, غير أنني لم أعد أميل في هذه السن, إلى اللوعة والتلوع, بل أستملح الصور الجميلة المباشرة, التي تريحني, حيث لا أجد يدا تخرج من رأس, أو رجلا تنطلق من كتف, مع عين تبحلق بك في الصدر, يرسمها الفنان بحرفية تدعو إلى التمعن والتفكر لاجتلاء المعنى في ذهن الرسام. قد تعجبني الصور المباشرة في...صورة الشمس على صورتها     حين تشرق شمس أو تذر   مثلا.

الصور 22-59 مباشرة وجميلة, فقلب الكاتبة يشتعل بثورة تحتاج إلى سلام وسكينة, ويحلق خيالها في الكائنات الفضائية عاليا, كنخلة محملة بالرطب, تنحني لأجله . ولكن الحزن الهائل يغلف المسافة بينهما كسكين حاد, فيغادر الحنين ويحل الفراق. هو يقص أثرها ليلحقها, ولكنها تمسح الأثر بخرقة مبلولة, وهذا منتهى الدلال. لوحات بين رغبة وتمنع وصد حتى تنتهي الحكاية.

النصوص لا تشكو من ظلم المجتمع, مثل أخرى قرأناها, بل هي لوعة الحب, فهذه حال المحبين, فتظلمها بَطر, ومن لا يحتمل لوعة الحب فليتجنبه, وهل تريدين يا سيدتي كما قال شوقي لجارة الوادي, أن يجمع الزمان ليكون يوم رضاك؟!

ثمة نصوص تثير الفضول وحب الاستطلاع:

101 أن يفزع الحمام الغافي, ويركض بملابس النوم إلى مرمى بندقية... أهذا حب؟ هذا ليزر!

105  تعريف جديد للاختناق, ليس بالغرق ولا كتم الأنفاس...إلخ, هو توقف الوقت تماما عند غيابك, فيقول الواحد:  ساعاتي أيام وليالي شهور, والأسبوع يزيد على سنة أو أكثر.  

107  هذه أضغاث أحلام.

109  ما ذا لو تحالفنا مع وجه القمر؟   لماذا لو؟   ما الذي يمنع؟

114  أستغرب أن يُعلِن الذكور نساءهم على حبل الغسيل. ولو! وين النخوة؟

123  ليتني أصير لفافة تبغ, تحرقني, فأسافر إلى صدرك دخانا, ثم أعلَق.          هذه أكثر من دعوة أبي فراس الحمداني حين يقول: إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر.

وقالت نزهة الرملاوي :

شامة مشاغبة تراقص ضلعي، تجذرت فيه

حتى خجل الليل من سمرتها!

شامتي العذبة؛ نهاري اللؤلؤي ...وبها أبدأ مطلعي

بهذه الكلمات بدأت الكاتبة ايمان زياد نصوصها النثرية، في كتاب حمل عنوان "شامة بيضاء "، يقع الكتاب الصادر عن دار دجلة للنشر والتوزيع في الأردن في 103 صفحة، من الحجم المتوسّط.

لقد شد العنوان انتباه القارئ؛ فأخذ يتجول بين الكلمات المنثورة، ويغذي روحه من سلاسة الكلمات، وفيض المشاعر التي غطت مساحات كبيرة من تلك النصوص، وإن تعمقنا في العنوان، نجد أن الكاتبة تعمدت تلوين شامتها باللون الأبيض، مع أنها أفصحت في نصها الأول، أن شامتها سوداء خجل الليل من سمرتها، فقد بينت للقارئ السبب في ذلك، معللة أن ألوان قوس قزح إذا اختلطت مع بعضها البعض، سوف تظهر بلون أبيض للعيان، وإذا استبدلنا الألوان بالعواطف، سنجد أن عواطف الكاتبة تفاوتت ما بين فرح وشوق وعذاب وألم وحنين، ونجدها امرأة ذات أجنحة، تصافح نحل الأرض وتمضي ليلتها، هي امرأة لا تريد إلا أن تكون امرأة كبقية النساء، جئن ليبعثن الحياة بكف الهواء، ويمطرن بالحب أنغام الرعاة. هن المزاريب يجمعن في افواههن ريق السماء...وبالرغم من تلك الصفات الرقيقة التي ألصقتها الكاتبة بالنساء، إلا أنها عادة لتذكر أنهن وطن مبتور اللسان ومبتور السيقان ومغتصب النهد ص56 و57.

صورت الكاتبة بنصوصها معاناة المرأة في مجتمعنا الشرقي، وطالبت أن لا تكون عبدة في سوق النخاسة، وأن النساء خسرن الرهان لأن الذكور يقلمون الكلام المشتهى

ويعلقون نساءهم ...على حبل الغسيل..ص89

فبالرغم من تعاظم لغة الأنا واستجداء العطف في نصوص الكاتبة؛ الا أنها أوغلت في بيادر أشواقها وحبها للجنس الآخر، وكانت جريئة جدا في سرد مفرداتها، فقد ندمت أنها لم تقبله وتقتل شوقها إليه، وقد أعلنت في نص لها، أنها تفقد بوصلتها وأسئلتها..ويأخذها المد كريشة عصفور سقطت دون مقاومة وبلا شعور، ص60.

في الصفحة63 قالت: اقترب حد الإلتصاق..

حتى تتفرق أنفاسك في حدقة عيني

اقترب حد التوحد حتى ننسى من نكون ص63

تميزت نصوص الكاتبة بالخيال الواسع، ورقة المعاني وعذوبتها، ويتمثل ذلك بهذا النص 

ماذا لو بقينا نغزل الغيم ( كنزة) للشتاء

ونرصف رغبتنا بالصور؟

ماذا لو أضعنا حكمة العاصفة

واتخذنا من شعائر الطير طعم المطر؟

ماذا لو تحالفنا مع وجه القمر؟ ص85

وقالت أيضا: جوعى الحب؛ يموتون مرارا

ويقتات على جثثهم الحنين..

وكتبت للأرض معبرة عن الألم الذي يعتصرنا إثر غياب المقاومة ساخرة:

من نهد الأرض نرضع أطفالنا

نقيم ولائم الحرية

في عروق الزعتر والميرمية

والبندقية الغافية في رحم اللوز

ظلت تناجي يدا غائبة 

كي تغفر صدأ الزناد. ص32

لقد تميزت نصوص الكاتبة بالجرأة والعمق والاختزال، وفاضت بالتشبيهات والصور البلاغية و ..واللافت للقارئ أنها لم تعنون النصوص، بل استبدلتها بالأرقام .

هناك بعض الكلمات جاءت مكررة ككلمات النهد، نهدين الشفاه، السرير، صدر عار، الرغبة، الرغبات، القبل، القبلات، المقدس، رحم امرأة، الصدر، الظهر، أزرار القميص، الحب، الصلاة.

الكاتبة قدمت لنا في كلماتها وجملها ما عبرت به عن ذاتها ونفسيتها..فرسمت لنا صورا لونتها بمشاعر واضحة المعالم تكاد أن تكون مفصلة، وخاصة في علاقتها مع الجنس الآخر، فوجدنا جرأة في خيالها وحقائق أحاسيسها، عبرت عنهما بوهج شديد، وقد أثرت بعض نصوصها بدعوات نضالية للتحرر، ونادت من يتحللون من انتمائهم للوطن ويسرقونه في الصفحة 34 إلى: 

ليس الوطن صوتا كفيروز

ليس رحبا كجنة هلامية،

الوطن يتحلل من إحرام الإنتماء 

يقص حبله السري ويمضي بعيدا...

فسيروا على بساط الغنائم بلا اقنعة.

وكتبت رشا السرميطي :

بدأت الكاتبة نثر كلماتها منذ الاهداء تهدهد سرير القارئ على الورق، تطلعه على هواجسها وتشاركه في أفكارها المختلفة، والمجنونة أيضًا، تلك التي تنبض بالحب والحلم والحياة، المفعمة بالصراخ والجدل والرغبة، في حالات اشتعالها، وانطفائها، ومابعد الرمَّاد حضرَّت لأحدهم هدية غير تقليدية اتخذت عنوان:" شامة بيضاء" ذاك العنوان الذي لم يكن فطريًا، فقد اعتاد الناس على اللون الأسود للشَّامة، مما يدعو القارئ ليفكر في سرِّ هذه

الشامة البيضاء؟

أتراها شاخت، فابيَّضت؟

أم أنَّها فقدت لونها من كثرة الخوف والألم وشدَّة الحزن، بالتالي فقدت أصالتها.

مقطوعات إيمان زياد النثرية منذ الأولى تحكي عن شامة مشاغبة اتخذتها مطلعًا لحكاية امتدت في (١٢٩) قطعة تفاوتت بين البهاء والألق والجمال في جرأة أنثويَّة ملحوظة، وبعضها الآخر لم يعجبني، لأسباب كثيرة أذكر منها ذاك الاتصال المرهق للقارئ، فقد تمنيت لو فصلت بين المقطوعات بعناوين ومضامين تقلل من الرتابة، وتفضي للقارئ بفسحة للتأمل والتفكير، أقل ارهاقًا وتكثيفًا ربما..

من المتعارف عليه أنَّ النثر أحد أقسام الفنون الابداعية وغالبًا ما يقارن بالشعر إلا أنهما مختلفان، رغم أنَّهما قريبان جدًا في اللغة والابداع والموسيقى، ثلاث ركائز يجب توفرها، ولكن الشعر كما نعلم يتقيَّد فيه المبدع بوزن وقافية، أمَّا النثر فلا قيود تفرض على المبدع، وإن كان بين الشعر والنثر مواطن خلاف فإنَّ بينهما مواضع اتفاق، فكلاهما تعبير عن المشاعر والأفكار الإنسانية، وهما وسيلة الانسان يوصل عن طريقهما أفكاره و مشاعره وأحاسيسه إلى الآخرين باستخدام اللغة الأدبية العالية التي تنساب الأفكار العذبة من جميع أجزائها لتروي ظمأ المتلقي وتقدّم له حلولا واقتراحات جديدة و أفكارًا غير مسبوقة، وتثير في نفسه مشاعر وتساؤلات عديدة.

أتقنت الكاتبة إيمان زياد كتابة خواطرها التي حددت لها الوجهة والاتجاه، فأسبرت متعمقه بالحب والعشق والاشتياق، متماهية حد اللانهاية تتحدث عن اللقاء والفراق والقبلة والعناق الجسد والروح السرير والمكان وكذلك الزمان ضمن مشاعر جياشة امتلأت معظم الخواطر بها.

بدت اللغة عالية على بعض الأوتار في بوحها، الصور البلاغية والتشبيهات متقنة عند كثير من الومضات الأدبية التي جاد بها قلم كاتبتنا، الموسيقى التي بحثت عنها خلال تصفحي كانت واحدة مما أرهقني كقارئة، أن أتنقل في مئة صفحة على ذات الوتيرة التي لم أتوقعها، رغم بلوغها لمعاني عميقة، لكنني أرى ضرورة التقسيم والتنويع إذ إنَّ المواضيع متقاربة وملتصقة بعض الشيء في غالبيتها.

من بعض الخواطر التي أعجبت بها، تقول:" مذ رحلت/ وأنا أجرب/ فضَّ علاقتي بالباب"، وتقول أيضًا:" يجيئ الحب سريعًا/ فتخطفنا المعجزات/ وحين يسيل الملح/ المبلل بالنَّدى/ نرى عورة الخطيئة/ ونوغل في الغياب"، " ومشينا إلى الفراق/ كل يجر المسافة نحوه/ يهضمنا العناد.. كلقمة مرَّة". " أسمعني عتابك/ هزَّني قليلاً/ حتى يتساقط خوفي/ كثلج قطني"، وغيرها الكثير مما أعجبتني به اللغة والعمق والنظرة السابرة للذات والنفس في الحب والمشاعر وكذا نبض الانسانيَّة.

ختامًا النثر إبداع عقلي على مريده أن يتراكم لديه كم هائل من المفردات التي لا تأتي إلا بالقراءة والاطلاع، على أن تصاغ تلك المفردات بثوب أسلوبي جميل يفتن كل من ينظر فيه، وفقت كاتبتنا بمضمون كتابها لكنَّ الاخراج الفني وتوزيع البوح أعتقد بحاجة لاعادة نظر.

وكتبت هدى خوجا:

  في حديقة من النّصوص النّثرية؛ تفوح عطرا تارة بالأقحوان  والنّرجس؛ وتارة بالزّنبق والزّعتر والمريمية واللّوز والجوري؛ وبفاكهة الجولان والألوان المختلفة؛ مع لحن الكلمة والحرف ،تنبعث ظلال وعبق الكلمات؛ والنصوص في شامة بيضاء، مع الكاتبة إيمان زيّاد

  كان الإهداء بملء ما يسعد الأمل بياض الغيم ومتشعبا، ومن ضمنه لأجل كل امرأة ظنت أن الكون سينصفها، وما زالت معلقة في عنق الموت.

  للألوان جمالها وسرّها الدّفين في النّصوص، ما بين أبيض وأسود وأحمر، وفرح وحزن وتشاؤم وأمل، كتمان وتصريح؛ شمس وغروب، جنازة وحبّ، وأحيانا تمرد على البياض؛ ليعم السّواد وظلمة الليل الدّامس، وخلع حذاء الصّبر والهروب حافية.

  كيف الصّمود؟

اصمد كضلع زيتونة حتّى يجفّ الدّم

شبّهت الظلم بمارد  فرّ من قارورة الموت ص 49

  أنصفت النّساء بوصفهنّ" أوراد  السّلام جئن يبعثن الحياة بكفّ الهواء"ص56 والاهتمام بأحاسيس المرأة والرّفق والرّقة بالتعامل معها 

أسئلة وإجابات. 

قل لي ماذا تبقّى لي منك ؟

غير دخان سجائرك 

كيف جئت وحدك؟ أسئلة تنتظر الإجابة

ما هو الوطن الّذي تبحث عنه الكاتبة؟

ص77 " الأطلس 

يمسك زنّار الدّولة ويشده كيف يشاء، سأفتش عن وطنٍ آخر   

لم يحلق شاربه بعد.

     وفي المطر والعراء والصّمت؛ سنفتح المظلة ياسمينا " يجلب دمشق إلى راحتي " ص79

  وفي النّهاية الموت والسّواد والتّشاؤم ،ثمّ إضاءات الحياة ما بين أبيض وأسود؛ ومد وجزر  تحلّق بنا الكاتبة، العيد الفرح أم الحزن وليل ونهار ومرآة تكسر العطر المأسور.

وقال نمر القدومي:

" عصفورٌ يهزُّ القفص وينتظر أن يموت الغول من أثر السّعال" .. إنها أنثى غَلَبَ عليها شكل إمرأة تحمل سوطا تجلد فيه أقدار الزمن، وتبقى تحسُّ بمذاق ذلك الصّوت الخافت آتيا إليها من أعماقها. إنه لا يتوقف أبدا، يخزّك بإستمرار الى مواصلة البحث وراء خيالات المجهول؛ ففي الرّوح ثقب أسود يبتلع الأشياء، تخشى أن يعود إلى دواخلها فيُدفن في قلبها. رصفت الكاتبة الفلسطينيّة "إيمان زيّاد" نصوصا شديدة الكثافة والإختزال في مجموعتها النثريّة الأولى "شامة بيضاء" الصّادرة عن دار دجلة في الأردن عام 2015 والتي تقع في 104 صفحات من الحجم المتوسط. تميّزت هذه النثريات بجدليّة ذاتيّة، وروح مستنفرة تعيشها الكاتبة بطريقة وأسلوب لا يعيشها إنسان عادي. لا شيء عندها يتوقف أو يتجمّد، ولا شيء يموت أو يتلاشى، فهي تؤنسن الجماد وتبعث فيه الحياة المستمرة، ويبقى خيالها يصارع هذا التحدي القائم على الحياة الإنسانيّة بصورتها الواقعيّة.

"إيمان" الباكية الضاحكة، الفَرِحة الحزينة والجريئة في طبيعتها، تبحث عن الإجابات بنفسها. هي إمرأة تعشق السّيطرة على الواقع، ولا تتقبّله إلاّ كما هي تشاء، فتبسط جناحيها لتكون طائر محبّة يبعث في البشريّة بذرة الخلود من أجل السعادة الأبديّة. تابعت الشهيد، فيما لو لم يستشهد، وأكملت له أحلامه، وتابعت السّجين، فيما لو لم يُسجن، وأكملت له باقي حياته في خيالاتها الورديّة. قالت "سأبسط كفي حديقة تتأهب بين شقوقها المراجيح... " تطول يد الكاتبة لتمسك وتمنع الألم والأذيّة ، وأيضا تمنع موت الأطفال في وطننا العربي، وبذلك تجاوزت الأزمنة والأمكنة بإحساسها الصّادق. أما العنوان فقد يثير تساؤلات ويستفز القارئ ليستمر في البحث عن مفتاح السّر الذي تحويه أبعاد "الشامة البيضاء" ، فتعطيه مساحة من التخيّل أو التّوهم، ومساحات من التأويل هو في حاجة لها لإدراك ما وراء الأشياء .إنها الشامة المشاغبة الغير عادية والغامضة حد الوضوح، فاللون الأبيض في الثقافة العربية له دلالات ورموز فرح وأمل وتسامح وحُب، في حين لم تخل غالبية النصوص من الدلالات المؤلمة من موت يتخفّى بين السطور تارة ويظهر تارات، أو أكفان تنتظر أصحابها في وطنٍ مُعذّب!!

إعتمدت الكاتبة "زيّاد" لغة سلسة بسيطة، وأحيانا نجد في كلمات النٌَص الواحد زُخرف الأبعاد المختلفة والخيال الخلاٌق، فهي تُصيب الحَدَث بعينٍ ثاقبة، وتُشرّح روح القارئ حتى نهاية الحكاية. لديها عمق في التصوير تعكس جمالية بلاغية تتمتّع بها وذلك من خلال نصوصها المائة وتسعة وعشرين؛ إنها نصوص حادّة ومُسننّة ولها تركيباتها الخاصّة التي تحوي جملاً قصيرة ذات قوة ومتانة، مما يستدعي من الزائر التوقّف والتفكّر. فقد تلوّنت هذه النصوص وفقاً للأوضاع العاصفة بالحجر والبشر، وتم قصدا تجريدها من العناوين حتى لا يتقيّد القارئ بضيق الخيال والفكر. كذلك تنوّعت بين قصيرة ومتوسطة وومضات بعد أن آتت أُكُلها تحت مظلّة الإطار الإنساني وقضايا الوطن والطفل والطبيعة والمرأة والروح الإنسانيّة، وما زالت "إيمان" تصرخ .. وطني يجرفه السّيل فتاتا.

وقالت هدى عثمان :

في سكون الليل 

يحتلني 

وجهك 

أقفز إليهِ 

شامة بيضاء

يراودها 

أمل باللجوء . (نص 58) .

هي انثى تحمل شامة بيضاء تبحث عن اللجوء والفرح,  إنها الكاتبة إيمان زياد في مجموعة نصوص نثرية تقع في 103 صفحات من الحجم المتوسط بلا عناوين لدار دجلة للنشر .

إلا أن الكاتبة تغمز لنا في نهاية الكتاب بعنوان وحيد فهرس لتخبرنا أن " ثمة حزن بين الأرقام...والفرح " . 

تجتمع أعضاء الجسم بكثرة ,وبصورة ملفتة مؤثرة عميقة,جريئة, جميلة وبصور مختلفة تحمل قوة عاطفة الانثى بلسان الأنا الفردي ما بين الألم والحنين ,غياب الحبيب ,الوطن والإنسان . 

عض قلبي 

لا أحتمل جوع عينيك . (نص 7)

وفي نص آخر

بأصابع قدمي 

أروم جدران البئر . (نص 12 )

نلاحظ تكرارا للمفردات في أغلب نصوصها النثرية مما يفقد من قيمة النص, فحبذا لو تداركت الكاتبة تكرارها للمفردات وتريثت في إختيارها للكلمات خصوصا وأنها تمتلك ثروة لغوية جميلة . 

الكلمات التي تتكرر هي ( قميص- نهد -سرير- قلبي صدر -غيم -وغيرها ). 

فكلمة "قميص" على سبيل المثال الا الحصر تتكرر بشكل ملحوظ في اكثر من نص .(النصوص التالية _ 38, 85 ,2 124, 129   ). 

وكلمة نهد في النصوص التالية ( 70, 68 ,62 ,37   ).

وقالت رائدة أبو صوي:

شامة سوداء عبارة مألوفة وصورة نراها باستمرار ...أما شامة بيضاء!

العنوان أثار فضولي .وشجعني على قراءة الكتاب .

توغلت بين السطور وفي الحروف .

بحثت عن السبب وراء هذا العنوان اللافت والمثير للقاريء .

غلاف جذاب، انجذبت نحو الكتاب كما تنجذب النحلة نحو زهرة برتقالية تتدلع تحت خيوط الشمس الذهبية في الصباح .

في زمن ازدادت به البقع السوداء على صفحات الحياة البيضاء .اشتاقت أرواحنا للون الأبيض .

نحن بأشد اللهفة للنقاء والصفاء والطهر الذي تحمله كلمة أبيض .

في مقدمة الكتاب وجدت راحة وهدوءا وأنا أتجول بين النصوص.

وجدت ذاتي .لم أكن وحيدة كما كنت أعتقد قديما التي تتألم للمشهد العام .

كلمات بسيطة ولكنها تقع ضمن [السهل الممتنع]

لا يستطيع الكتابة عنها الا كاتب أو كاتبة لديه الأدوات والثقة بأن هناك أمل قادم .

تغويني الفلسفة جدا .وفي هذا الكتاب فلسفة .

كلمات كالندى على زهر الياسمين سقطت على قلبي وعقلي فانتعش بها كل جزء من أجزاء جسدي .

{ وطني مليء بالكائنات الفضائية ...بعضها الآن يتسلق قفصي الصدري!

ص(25 )

تشبيه قوي للحالة التي نعيش فيها .

و "مذ رحلت وأنا أجرب فض علاقتي بمقبض الباب" ص (28)

نوافذ ضيقة انبعث من خلالها الضوء الأبيض ...بصيص أمل في النثريات .

كنت أتمنى لو أن الكاتبة جعلت المحطات أطول والأستراحة والتمتع في النثريات أكثر.

الكاتبة أوصلتنا الى منتصف البئر وقطعت الحبل فينا .

تركتنا في حالة من الأنبهار وسؤال حائر يقف أمامنا ويصرخ بصوت عال:

وماذا بعد ؟.

وقد شارك بالنقاش : عبدالله دعيس ، وطارق السيد، وماجد فتياني، وخضر ابو ماضي ، وسهير زلوم .

تصوير: أ.عمر عميرة

أنا أدعو إلى نظرة جديدة في الأدب، أن نقدّم الأدب الفاعل، لا الأدب المنفعل الذي ننتجه كردّة فعل.. لماذا لا نقدّم في أدبنا العربيّ القادم نماذج لشخصيّات ناجحة ومنسجمة مع أمّتها، تحبّ بلادها وتحرص على أن تفيد مجتمعاتها؟ الكتابة على الطريقة الغربية أثبتت أنها أدّت إلى تراجع الأمّة على مدى قرن كامل من الزمان وأكثر، والتغنّي بأمجاد الأدب العربي القديم باتَ لا ينفع، لأنّه كُتِبَ لعصور غير عصورنا، علينا أن نكتب ما يفيد حياتنا ويفيد الأجيال القادمة... وللأديب رسالة عظيمة في نهضة الأمّة جميعاً.

الأدب ليس ترفاً، الأدب رسالة عظيمة في تقديم ما هو نافع وقيّم للأمّة، والبحث عمّا يرضي النقّاد في كتاباتنا، هو بحث في متاهات مظلمة، علينا أن نبحثَ عمّا يقدّم الأدب السهل المستساغ للقارئ العربي لأنّه هو الوسيلة وهو الهدف في الوقتِ نفسه.

وليسَ صحيحاً أنّ المواطن العربي لا يريدُ أن يقرأ، هو يريد أن يقرأ، ولكن لا يجد ما يقرأه سوى النصوص الغامضة، أو ذات اللغة المتعالية عليه، أو التي تسعى إلى إرضاء فئة دونَ أخرى... أمّتنا جميعاً هي الهدف، ولا هدفَ سواها.

بقلم: محمد بن يوسف كرزون

أنا أدعو إلى نظرة جديدة في الأدب، أن نقدّم الأدب الفاعل، لا الأدب المنفعل الذي ننتجه كردّة فعل.. لماذا لا نقدّم في أدبنا العربيّ القادم نماذج لشخصيّات ناجحة ومنسجمة مع أمّتها، تحبّ بلادها وتحرص على أن تفيد مجتمعاتها؟ الكتابة على الطريقة الغربية أثبتت أنها أدّت إلى تراجع الأمّة على مدى قرن كامل من الزمان وأكثر، والتغنّي بأمجاد الأدب العربي القديم باتَ لا ينفع، لأنّه كُتِبَ لعصور غير عصورنا، علينا أن نكتب ما يفيد حياتنا ويفيد الأجيال القادمة... وللأديب رسالة عظيمة في نهضة الأمّة جميعاً.

الأدب ليس ترفاً، الأدب رسالة عظيمة في تقديم ما هو نافع وقيّم للأمّة، والبحث عمّا يرضي النقّاد في كتاباتنا، هو بحث في متاهات مظلمة، علينا أن نبحثَ عمّا يقدّم الأدب السهل المستساغ للقارئ العربي لأنّه هو الوسيلة وهو الهدف في الوقتِ نفسه.

وليسَ صحيحاً أنّ المواطن العربي لا يريدُ أن يقرأ، هو يريد أن يقرأ، ولكن لا يجد ما يقرأه سوى النصوص الغامضة، أو ذات اللغة المتعالية عليه، أو التي تسعى إلى إرضاء فئة دونَ أخرى... أمّتنا جميعاً هي الهدف، ولا هدفَ سواها.

clip_image002_a5ed6.jpg

أقام نادي حيفا الثقافي أمسية ثقافية للأديب ناجي ظاهر في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسية في حيفا تحت رعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا بتاريخ 13-10-2016، وسط حضور كبير من أدباء وشعراء وأصدقاء من منتديات أدبيّة، وذلك بتناول روايته محاق، وقد تولى ادارة الأمسية الأديب محمد علي سعيد، بعد أن رحب المحامي فؤاد نقارة مؤسس ورئيس نادي حيفا الثقافي بالحضور والمشاركين، وتحدث عن الرواية كل من: د. جهينة خطيب حول سيميائية العنوان والغلاف والمضمون، ود. ماري توتري تطرقت إلى قضيّة القانون لحماية المرأة، وصورة المرأة من خلال الرواية. في نهاية الأمسية شكر ناجي ظاهر المنظمين والمتحدثين والحضور، وتم التقاط الصور التذكارية أثناء توقيعه لروايته للأصدقاء والقرّاء!

مداخلة محمد علي سعيد: في الناصرة عام 1951 ولد ناجي ظاهر؛ الكاتب والقاص (للكبار وللصغار) والروائي والشاعر وكاتب المسرحية والناقد والصِحافي، وهو في الأصل من قرية سيرين المهجرة في منطقة غور الأردن، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي، ولكنه ترك المدرسة لظروف اقتصادية قاسية، ثم درس على نفسه فثقف نفسه بنفسه، حيث تفرغ للقراءة وللكتابة وللحركة الأدبيّة، وفي أثناء عمله التحق بالعديد من الدورات الصحفيّة والأدبيّة، يعمل صِحافيّا ومُحرّرًا أدبيّا في العديد من الصحافة المحليّة والمجلات الأدبيّة (مجلة الشرق ومواقف والشعاع)، ناشط في الحركة الأدبيّة والصحافة منذ أكثر من أربعين عاما، وهو أديب مثقف جدا في المجال الأدبي، ومن أبرز أعلام القصّة القصيرة والرواية، ينتمي الى المرحلة أو الرعيل وأميل الى الفطمة بلغة الفلاحين الثالثة: الأولى: المخضرمون، ثم بداية السبعينات ثم بداية الثمانينات. أصدر أربعين مؤلفا أدبيّا، منها: سبع روايات: الشمس فوق المدينة 1981. هل تريد أن تكتب. صَلد. حارة البومة. نزف الفراشة. غرام أو نهاية فنان. مَحاق. 2016. بميم مثلثة.

مُحاق؛ ما يُرى في القمر من نقص بعد اكتماله، والرواية تدور أحداثها في الناصرة، حول التحوّلات المفاجئة التي يمرّ بها مجتمعنا العربي الفلسطينيّ في هذه البلاد، وذلك من خلال تسليط الضوء على معاناة فنان أماته الواقع، وأعادَهُ الحُلم إلى الحياة، ليجد نفسه في مواجهة عنيفة جدّا مع واقعه، وتنتهي الرواية  بمصرع بطلها الفنان على يد زوجته، كما في روايته حارة البومة، وهذه من تيمات أديبنا ناجي. تطرح الرواية معاناة الفنان في فترة تحوّل مجتمعيّ غير واضحة المعالم، وتقدّم أنموذجًا سيّئًا لامرأة سيّئة تشبه زوجة سقراط في عنفها وفظاظتها، ولا تستسلم من المعاشرة الأولى، بل تطاردك الأسئلة الفلسفيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة. رواية محاق، أقرب الى الرواية القصيرة (النوفيلا)، منها الى الرواية الطويلة، مكتوبة بأسلوب روائيّ ناضج متدفق، يتوسّل التركيز والتكثيف لتحقيق ما يرمي إليه من متعة وفائدة، وبعيدة عن دهنيّات الكمّ الكتابيّ، وتستحقّ القراءة والمشاهدة حقا، لأنّها من حالات الاستثناء بين هذا الكمّ السرديّ الحكائيّ غير العميق فكريّا..  

*المكان: تدور أحداث جميع روايات ناجي ظاهر في الناصرة وحاراتها، ما عدا روايته الأولى الشمس فوق المدينة، فمكانها الناصرة والقدس، والمكان بصفاته العديدة ثابت، متحرّك، خاصّ، عامّ، مفتوح، مغلق، واقعيّ، خياليّ عند ناجي ظاهر، ليس إطارًا أو وعاء محايدًا للأحداث، إنّما هو شريك مؤثر فيها، يكاد يصل درجة الشخصيّة.

*التراكمية: أميل الى تقسيم ثنائيّ للأدباء: الشهابيّ والتراكميّ. الشهابيّ هو الذي بقي سجين نصّ أو كتاب نال به شهرة، وبقي مرتبطًا باسمه في الثقافة الأدبيّة الشعبيّة العامّة، وبقي يكرّر نفسه. بينما الأديب التراكميّ هو الذي لا يبقى سجين نصّه، بل يخطو الى الأمام مضمونًا وحدَثا وفكرًا وأسلوبًا وهيكلة، ويبقى دائم التجديد والتجريب بوعي شموليّ عميق وموهبة  نامية، وهكذا تتراكم خبرته وتسير نحو الأجمل والأجود، وناجي ظاهر هو كذلك أديب تراكميّ حقا.

*الحداثة: رواية "محاق" فيها كثير من مميّزات الحداثة:  كزوال الحدود بين الحقيقة والخيال. بين الواقع والحلم. بين الحي والميت. بين المعقول وغير المعقول بين الأزمنة وتداخلها، بين الأمكنة. المفاجأة بعدم التوقع لتكملة المعنى المنطقية بحسب سياق السرد وتدفقه. (كما القافية في الشعر العمودي التقليديّ).

د. جهينة خطيب          : باحثة وناقدة في موضوع اللغة العربيّة، حازت على اللقبين الأول والثاني من جامعة حيفا في اللغة العربيّة، وتابعت دراستها وحازت على اللقب الثالث عام 2010 في تطور الرواية العربية في فلسطين 48، وتعمل محاضرة في كلية سخنين في قسم اللغة العربية. صدرت رسالتها هذه في كتاب مستقلّ يحمل الاسم نفسه عام 2012، (تطرقت فيه إلى 38 روائيّا و 66 رواية)، وحاليّا تعمل على إصدار كتابين: قراءات في الأدب الفلسطينيّ المقارن، و حول أدب الأطفال في فلسطين، وتعمل أيضًا على مشروع أدبيّ مشترك حول أدبنا الفلسطينيّ مع جامعة هنديّة  إثر مشاركتها ومحاضراتها الأخيرة هناك، في الجامعة المليّة الإسلاميّة في دلهي وفي جامعة كيرالا في جنوب الهند، ومن خلال الإشراف على رسائل جامعيّة لطلاب من الهند، ولا غرابة في الأمر، فوالدتها الأخت الكريمة زميلتي المربّية عايدة خطيب شاعرة وكاتبة قصة للأطفال، وكذلك شقيقتها علا خطيب شاعرة أيضا. حقا، إن حبة التفاح لا تسقط بعيدا عن الشجرة.

د. ماري توتري: حصلت على لقب أوّل في الأدب الإنكليزيّ والفنون، وعملت كمدرّسة للغة الإنكليزيّة لمدّة 26 سنة في طمرة. حصلت على لقب أوّل (للمرة الثانية) ولقب ثانٍ في علم الاجتماع ولقب ثالث في العلوم السياسية من جامعة حيفا، وتعمل محاضرة في كلية أورانيم وجامعة حيفا.

مداخلة د. جهينة خطيب: "مساء ٌمعطرٌ بقمرٍ لا يغيبُ/ بولادةٍ متعسّرةٍ وسطَ آلامِ المخاض/ ونورٍ يهلّ من بعيد رُغم الظلامِ/ الموتُ في الحياةِ عاشَه بطلُنا في روايةِ المُحاق/ الموتُ نومٌ بلا بعثٍ ولا رُقاد/ من لا مكان/ لا وجهَ، لا تاريخ لي، من لا مكان/ تحت السماءِ، وفي عويل الريح أسمعها تناديني: "تعال"/ لا وجه، لا تاريخ.. أسمعها تناديني: "تعال"!/ عبرَ التلال/ مستنقعُ التاريخِ يعبره رجال/ عددُ الرمال/ والأرضُ مازالت، وما زال الرجال/ يلهو بهم عبثُ الظِلال/ مستنقعُ التاريخِ والأرضُ الحزينةُ والرجال/ عبرَ التلال/ ولعلَّ قد مرَّت عليَّ.. علىَّ آلافُ الليال/ وأنا- سُدىً- في الريح ِأسمعُها تناديني"تعال"/عبرَ التلال/ وأنا آلافُ السنين/ متثائبٌ ، ضجرٌ، حزين/ سأكون! لا جدوى، سأبقى دائمًا من لا مكان/ لا وجهَ، لا تاريخ لي، من لا مكان" جملٌ شعريةٌ قالها البياتي، تئِنُ هنا في روايتِنا المُحاق، دائريةٌ هذه الروايةُ تبدأ بموتٍ، ثم حياٍة ثم موتٍ جديدٍ

سيميائيةُ العُنوانِ والغلافِ: المُحاقُ عنوانٌ يدفعُ إلى الذهنِ عنوانيْ روايتين شهيرتين هما الأولى "القمرُ في المحاقِ" للروائي السوري حنا مينا، والثانية: "رأيتهما قمرين في المُحاق" للروائيّ المصريّ أحمد الشّيخ، وها نحن الآن أمامَ روايةِ المحاق لأديبنا الفلسطيني ناجي ظاهر، والمُحاقُ هو غيابُ القمرِ وراءَ الشمسِ وتواريه في الظِل، وسُمي بالمحاقِ لانمحاقِ نورِه واختفائِه، وحينئذ يحدثُ اقترانُ الشمسِ والقمرِ ومولدُ شهرٍ جديدٍ، فالمحاقُ هو آخرُ الشهرِ القمريِ، فما يلاحظُ هو نقصانٌ في القمرِ بعدَ اكتمالِهِ إلى أنْ يختفيَ، فيبدأَ شهرٌ هجريٌ جديدٌ باقترانِ الشمسِ والقمرِ، فغيابُ القمرِ يأتي بولادةِ شهرٍ جديدٍ، ورُغمَ الموتِ فهناك ولادةٌ منْ رحمِهِ  وهذا هو صوتُ الروايةِ.

سيميائيّة الغلافُ: *نرى في اللوحةِ عُصفورًا يحملُ سمكةً، يحيلُنا إلى قصةِ إياد مدّاح "سمكة وعصفور"،  وتحكي القصّةُ عن العصفورِ الجميلِ والسمكةِ المتألقةِ، ولأن السمكةَ تحبُّ تغريدَ العُصفورِ، كانت تنتظرُه كُلَّ صباحٍ على وجهِ الماءِ لتسمعَهُ وهو يغرّدُ، ومن هنا نشأت علاقةٌ حميميَّةٌ بينَ العُصفورِ والسمكةِ، ولكنَّ قسوةَ الحياةِ وضعتهم أمامَ سؤال: أين سيبنيان بيتَهُما؟ قد يعشقُ العُصفورُ سمكةً ولكن المصيبة أين سيعيشان، فهنا تكمنُ استحالةُ هذا الحبِ، وسنرى أنها إحالةٌ لأزمةِ الفنانِ في مجتمعهِ وإحساسُه بالغربة.               

*وتأتي صورةُ المرأة في الغلافِ بملامحَ ليست واضحةً وجانبية، وكأنها في هذه الحياة ِوخارجِها، وكأنها تديرُ وجهَها لهذه الحياةِ وتمسكُ في يدِها شعلةً لتنيرَ الطريقَ، ولكنَّها في الآن ذاتِهِ تجلسُ، والجلوسُ دلالةُ العجزِ، فاجتمعتِ التناقضاتُ في اللوحةِ وسَتُكْمِلُ مَعَنا هذه الثنائياتُ الضديةُ في روايتنا المصغّرةِ، فنرى ثنائيةَ السمكةِ والعُصفورِ، وثنائيةَ الأملِ والعجزِ.

ونبحرُ في الروايةِ النوفيلا: النوفيلا هي قصة طويلة، وهذا الجانرُ الأدبيُ يشيرُ إلى نوعٍ سرديٍ بينيٍ له ارتباطٌ بالقصةِ القصيرةِ ونسبٌ في الروايةِ، فكأنه خليطٌ أو مزيجٌ من النوعينِ، في صورةٍ من صورِ تداخلِ الأجناسِ وتمازج ِعناصرٍها، أي هي  الروايةُ القصيرةُ. وقد بنيت الروايةُ على الثنائياتِ الضديّةِ بدءًا بالغلافِ كما ذكرتُ سابقا، وانتهاءً بكلِ حدثٍ يحدثُ في الروايةِ إلى لحظة الذروةِ وإغلاقِ الدائرةِ بإتقان، فالسمكةُ لا يمكنُ أن تعيشَ معَ العصفوِر في مكانٍ واحدٍ، والاختفاءُ المتمثّلُ بضوءِ القمرِ يعقبهُ اقترانُ القمرِ والشمسِ وولادةُ شهرٍ هجريٍ جديدٍ.

سمكةٌ– عصفورٌ، اختفاءُ القمِر- ولادةُ شهرٍ جديدٍ، دائرةُ الموتِ والحياةِ- موتُ البطلِ– بعثُه من جديدٍ وموتُهُ مرةً أُخرى، ثنائياتٌ ضدّيّةُ تلعبُ على وترِ الإحساسِ، وتؤولُ إلى بِنيةِ العنونةِ لتنتشرَ في أرجاءِ الروايةِ، وتصيبُ دلالاتِ الأسماءِ، فها هو بطلُنا نسيم البرقوقُي، والنسيمُ هو الهواءُ العليلُ المنعِشُ إشارةً إلى الحريةِ والحياةِ، والبرقوقُ هو زهرةٌ جميلة تزهرُ في الربيعِ شهرِ تجددِ الحياةِ. عندَ قراءتِنا للروايةِ نكتشفُ التضادَ في اسمِ الشخصيةِ وفي حياتِها، فنسيم البرقوقي يعاني من موتٍ في الحياةِ، ويشعرُ باختناقٍ  وغربة. وقد جاءت دلالةُ الاسمِ المناقضةُ لتوَضِّحَ هولَ مأساةِ البطلِ، فكما قال جلال الدين الرومي: "لقد خلقَ اللهُ المعاناةَ حتى تظهرَ السعادة ُمن خلالِ نقيضِها، فالأشياءُ تظهُر خلالَ أضدادِها، وبما أنه لا يوجدُ نقيضٌ لله فإنه يظلُّ مخفيًا". وتكتملُ الثنائياتُ الضديّة ودلالةُ الأسماءِ في شخصيةِ الزوجةِ وديعة، فهي أبعدُ ما يكونُ عن الوداعةِ، متصلبةُ الرأيِ عملت على إحباطِ طموحاتِ الزوجِ، وجعلتْه ميِّتا في هذه الحياةِ وميتا روحًا وجسدا، فكانت دائما ما تردد لغةَ العصر "الفنُ لا يطعمُ خبزًا في بلادِنا"، "ما أصعبَ أن تتزوّجَ من امرأة لا تعرفُك حقَّ المعرفةِ ولا تقدّرُك، ما أصعبَ أن تجلسَ قُبالةَ لوحةٍ مشوّهِة"[2].

شعورهُ بأنه هذا الشابُ المهجرُ الذي طُرد منْ بلدِه ومن حياتِه، وفُرِضَ عليه مكانٌ ليس لهُ، فوجدَ في الرسمِ فرصةً لتحقيقِ ما لم يستطعْ تحقيقَهُ في الحياةِ، "ماذا تريدين منّي أنا المهجّر ابنُ المهجّر أن أفعلَ سوى ممارسةِ الفنِ، لكي أكون َوأحقّقَ وجودي في عالمٍ لا يريدُ أن يكونَ لي وجودٌ"[4]. لقد توصّلَ نسيم البرقوقي إلى هذه الثنائيّة الضدّيّةِ، فيجبُ أن يتجرّدَ من جسدِه ويطلقَ لروحهِ العنانَ ليعوَد حيًّا: "هو فقط من أدرك سَّر الإبداعِ أخيرا، إنّه الشّعورُ بالموتِ والفَناءِ أولا، والحبِ الغامرِ لهذا العالمِ ثانيًا"[6].

مواضيعُ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ تمّ مناقشتُها في روايةِ الُمحاق: *مناقشةُ ظاهرةِ العنفِ من منظورٍ آخرَ، من وجهةِ نظرِ الرجلِ: من الجميِل أن يتمَّ طرحُ الموضوعِ من الناحية الأخرى، فدائما يتم مناقشةُ ظاهرةِ العنفِ ضد المرأةِ كضلع ٍقاصرٍ، أما هنا فقد سبح كاتبنا ضدَ التيارِ، فظهَر الأذى الذي يتم الحاقُه بالرجلِ لنرى هنا نموذجًا  مناقضًا، فالرجلُ هنا هو الضحيةُ، والمرأةُ العربيةُ في مجتمعِنا بدأت تستغلُ قانونَ حمايتِها لتهددَ به الرجلَ فناقشَ الكاتبُ تأثرَنا بقوانينَ غربيةٍ لا تمُتُ لعاداتنا وتقاليدنا بصلةٍ، وجاءت بلا تمهيدٍ: "هذا صحيحٌ لو أنّ هذا القانونَ جاءَ على مراحلَ وبمبادرةٍ ذاتيةٍ، أمّا أن يأتيَ مرّةً واحدةً دِبْ دبتك العافية فإنّ هذا هو الخطأُ "[8]؟ ويطرح حلّا: أعتقدُ أنّ الثقافةَ هي سلاحُ من يريدُ أن يكونَ وأن يوجدَ في هذا العصرِ، نحن ينبغي أن نتقنَ لغةَ الآخرِ، بدلَ التمحوِر في عقليةٍ  جذورُها قبليّةٌ وتخضعُ في صميمِها لشيخِ القبيلةِ وزعيمِها"[10]، فالإبداعُ الحقيقيُ يُحيي صاحبَه حين نبحثُ عن معنى ونقدّمُ رسالةً. ويشيُر إلى ظاهرةٍ خطيرة ٍوهي حينَ يلجأ الإبداعُ للتسييسِ، فينتمي المبدعُ إلى حزبٍ معينٍ لينالَ شهرةً، عندها يصبحُ إبداعُهُ مقيَّدًا لأنه سيخاطبُ من خلالِهِ سياسةَ حزبِه: "مع هذا انسقتُ وراءَ رجالِ السياسةِ طمعًا في مكسبٍ عابرٍ بسيط،ٍ هو أقُل بمليونِ مرةٍ ممّا يمكنُ أن يمنحَكَ الفنُّ الحقيقيُّ من مكاسبَ، أنتَ لم تكنْ وحيدًا في هذا، فالفنانون في بلادِنا وفي عالمِنا الثالثِ عامةً، كانوا إلى سنواتٍ ليست بعيدةً يُنتجون ويبدعون لإرضاء آخرين من ثعالبِ السياسةِ وتجارِ الوطنيةِ وربما مدّعيها".[12].

السردُ: إنَّ الراويَ في المحاق عليم ٌبكلّ شيء، كلّيُّ المعرفة لا ينقطعُ حضورُه إلا بالحوارِ، ولا يتركُ مجالا للقارئ ليخمّنَ أو يتوقعَ، ولا يدعُه يملأُ فجواتٍ في النّصِ، فيعرضُ المشكلةَ ويقترح حلولًا لها، فجاء في كثير من الأحيان مُلقّنًا عارضًا بشكلٍ مباشرٍ فكرتَهُ دون أنْ يتركَ  دورًا للقارئِ، فضاع ألقُ الاكتشافِ وقوّضَّ أفقَ التّلقي، وباتتِ المعلوماتُ تقريريّةً دعائيّةً في كثيرٍ من الأحيانِ، وتضمّنت الروايةُ إقحاماتٍ شعاريّةً ورسائلَ مباشرةً حولَ معاناة ِالمبدعِ الفلسطينيِّ في ظلّ ظروفٍ سياسيّةٍ: "وهل من الممكنِ أن تُنتجَ هذه البلاُد المصابةُ بعقمٍ مزمنٍ في مجالاتِ الخلقِ والإبداعِ فنانًا حقيقيّا يرفعُ اسمَها عاليا؟"

[2]  ناجي ظاهر ، المحاق، ص 11 .

[4] ناجي ظاهر، المحاق، ص 35 .

[6] ناجي ظاهر، المحاق، ص 66 .

[8] ناجي ظاهر ، 92 .

[10] ناجي ظاهر ، ص 54 .

[12] ناجي ظاهر، 62 .

[13] ناجي زاهر، المحاق، ص 54 .

المزيد من المقالات...