dfhfhgf1067.jpg 

قبل عقدٍ من الزمن، صدر كتابي "عصا موسى وبحر ذكرياتي"، والذي تم توقيعه في معرض الدوحة الدولي للكتاب بدولة قطر الشقيقة.

فقد زين حفل التوقيع حضور وإشادة معالي وزير الثقافة والفنون والتراث الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري، وكوكبة ثقافية وأدبية من أرجاء وطننا العربي الحبيب.

كان المتفق في بداية جمع الإصدار والمراجعة أن يكون مسماه "ذاكرة الفنجان"، كما هو رابط صورة غلاف الكتاب المعدة خصيصاً لذلك؛ وكأن العم موسى القرين (رحمه الله)، يحدث أحد أحفاده بالذكريات، وأشعب الحكمة والتجارب التي مرت عليه، وعلى أسلافه.. حيث كان العم موسى بصحةٍ جيدةٍ، وهو يُرتل على مسامعنا عطفه وتحنانه ساعة تصوير الغلاف في مجلس منزله، والطقس مشبع بالحرارة وكذلك الرطوبة إلا أن ابتسامته أبهجت المكان والزمان!

ليكون هذا الإصدار قُبلة على جبين رثاء أربعينه، الذي تكلل ذكره بالدعاء، والسبع المثاني على أكف القنوت في الصلوات..

فشكراً لله عز وجل أولاً، وإلى كل من عانق الإصدار مكتبته بالاهتمام.. فماذا عسانا أن نقول في هذه الوقفات الانطباعية؛ من أدباء وطننا الغالي؟

1/ الشاعرة تهاني الصبيح:

"عادل القرين" يتتبع ظل ماضٍ وشمته العراقة في سطوره، ويبحث عن الإعجاز في فسائل أنجبتها "أمه" التي يباهي بها الأمم ثم أوصته بها خيراً.

لقد أبدع حين توكأ على "معنى" معتق برائحة "النخلة"، وأدهش حين هشَّ بعصاه على عثرات السنين.

وما زلت أؤمن أن له في هذه "العصا" مآرب أخرى!

2/ الشاعر جاسم عساكر:

وتعود "عصا موسى" من جديدٍ ولكن ــ هذه المرة ــ في يد فتىً أحسائي ماهر يجيد ــ تماماً ــ أين ومتى يلقيها، لتلقف ما صنع الإسمنت الحضاري بالقلوب المرهفة من تحجر وصلابة.

فهنا يحاول "عادل" أن يلملم ما تناثر من شتات القيم التي تناهبتها أعاصير "البروغماتية" المتعالية، ليعود بها إلى جهة الإنسان المستلب حبّاً كرامةً.

وأحسب أنه لم يجد أمام "فرعون" هذا السأم المتعجرف إلا اللجوء إلى "عصا" التعبير اللغوية آيةً في صناعة الحب ومعجزة إشقاق البحر أمامه من الذكريات، ومن ثم يقدم إلينا دعوة للعبور.

الشيخ: 3/ الروائي والقاص حسن

الكتاب الذي بين أيدينا يبحر بنا حقاً على موجات متتالية، ولكن في الزمن الماضي، متخذاً من القصة، والخاطرة، والمقالة أشكالاً للتعبير..

والكاتب يتصيد الكلمة المشرقة، سواءً كانت بمفردتها الفصحى أو العامية، ويركز على التجربة الإنسانية..

4/ القاص والروائي عبد الله النصر:

وقعٌ آخر بنكهة البن العربي، يُخْلص "القرين" في عزفه على شفاه أوتارنا، حيناً يندلع حنيناً وغراماً وألماً وبهجةً، وحيناً يُترعُ تأملاً وانطباعاً وحكمةً، شمولاً شامخاً كنخلةٍ مُشرئبةٍ، تمنحنا التحليق الحر، ويسقينا كعيون هجر فيضاً عذباً متعدد المشارب، ويشرع بفاكهة الخصوبة أبواباً ينفتح لنا فيها من كل بابٍ ألف باب..

ثم هو نقشٌ ينبلج من أصالة الماضي ومفرداته، يُسَرِّحُ إلينا روحاً شفافة، فإما نتسامى إليها، أو نتماهى فيها أو نلتف حولها أنشودة سكون..

"القرين" يتحفنا هنا بإبداع واعٍ استثنائيٍّ مدهشٍ خلاق، فرشفنا ورداً وضوءاً..

5/ المستشارة والأديبة معصومة العبد رب الرضا:

سرت بين أزقة الكتاب، ولفتني قدرة الكاتب على تتبع التأثير النفسي من أيام وسنين خالية، وهذا يعود إلى حاضرة ذهنية عالية وتوثيقه في إنتاج كشكولي..

هذا وللبيئة التي عاشها حضور بيّن في الكتاب من ضجيج المجد والتراث، والعادات، والتقاليد في مراسيم الحياة، والوجوه القيادية، والجمال، والعطاء..

ورصده متفاعلاً فكرياً وشعورياً بالتزامن مع الأحاسيس اللحظية حيناً والاعتماد على استدعاء الذاكرة حيناً آخر!

أُهنئ الكاتب بما يملك من حضور ذهني وذاكرة قادرة على استدعاءات الماضي.

6/ الشاعر أسامة العامر:

في زمنٍ ضاقت على خارطته كل المساحات، حيث لم يعد هناك المزيد من الوقت لمطالعة الكتب وقراءة الكلمات، يأتينا الأستاذ (عادل القرين) برؤيته الحالمة، ويعيد ترجمة الصورة المقلوبة، عن قلمٍ نحيل وحبر قليل، إلى انحناءة عصا وأمواج بحر من الذكريات..

7/ القاص والكاتب الصحفي طاهر الزارعي:

ذاكرة تتشكل هنا لترصد لنا يوميات طويلة تنحاز إلى الطفولة، والوجع، والحب، والفرح، حيث يجسد الكاتب: عادل القرين كل ذلك عبر أمكنة تمثل له وطناً، عبر شخوص تمثل له هاجساً إنسانياً..

فالذاكرة هنا صورة آسرة لحياة ماضية تتسم بالبساطة والبياض، تنمو بيننا رغم كل الصراعات المتراكمة في مشهدنا الحالي، والتي أفقدتنا أشياء كنا نتلون بها، ونعيش تحت ظلالها الوارفة عطاءً وحباً.

تأتينا هذه الحكايات بأسلوب أدبي وبلغة حالمة، في بيئة إبداعية هادفة، تستوعب كل العقليات والانتماءات، التي عاشت مع المؤلف أو غيبها الموت..

8/ الشاعر والناقد يحيى العبد اللطيف

ربما كلمة "عصا موسى" كانت لعبة لغوية من "عادل" حين انتزع جملة دينية، ليوظفها في سياق رومانسي..

ربما في الذكريات شيء مخبأ، يجعلنا نواجه الحياة بنوع من المراوغة "الكتابة ستكون حينها مجرد تغريدة لمن شاء أن يفهم"

"عادل القرين" هل أمسك عصا موسى؛ ليفاجئ القارئ بثعبان يلقف ذكريات الفريج الشمالي، لنظل نحن المتلقين في لحظة الدهشة؟

فالحاج/ موسى بن موسى القرين لمن لا يعرفه، ذاكرة مئوية، كانت إلى وقتٍ قريبٍ مستعدة للبوح عن الزمن الجميل، وكان "عادل" القلم الراصد لوليمة إبداعية كهذه.

sgbsfg1065.jpg

( ١٩٥٤م _ معاصر)

    هو شاعر عراقي ولد سنة 1954 في قرية التنومة، إحدى نواحي قضاء شط العرب في البصرة، وهو الابن الرابع بين عشرة أخوة من البنين والبنات، وعاش فيها مرحلة الطفولة قبل أن تنتقل أسرته وهو في مرحلة الصبا، لتقيم بمسكن عبر النهر في محلة الأصمعي.

حياته المبكرة:

  ولد أحمد في مدينة البصرة بمنطقة التنومة، وكان لها تأثير واضح عليه، فهي -كما يصفها- تنضح بساطة ورقّة وطيبة، مدينة مطرّزة بالأنهار والجداول والبساتين، وبيوت الطين والقصب، وأشجار النخيل، لقد انتقلت أسرته إلى محلة الأصمعي، وهي إحدى محلات البصرة وكانت تسمى في بداية إنشائها بـمحلة «الومبي» نسبة إلى اسم الشركة البريطانية التي بنت منازلها، ولعل من طريف القول هنا أن أحمد مطر غالبا ما كان يردد: «من الومبي للومب لي» في إشارة إلى اسم المكان الذي حل به من بريطانيا.

  ولقد أكمل أحمد دراسته الابتدائية في مدرسة العدنانية، ولشدة سطوة الفقر والحرمان عليه قرر تغيير نمط حياته لعل فيه راحة له وخلاصا من ذلك الحرمان، فسارع للانتقال إلى بغداد، وبالتحديد إلى منطقة الزعفرانية ليعيش في كنف أخيه الأكبر علي.

بداية مشوار الشعر:

   في سن الرابعة عشرة بدأ أحمد مطر يكتب الشعر، ولم تخرج قصائده الأولى عن نطاق الغزل والرومانسية، أما موهبته في الشعر، فبدأت تظهر في أول قصيدة كتبها حيث كان في الصف الثالث من الدراسة المتوسطة، وكانت تتألف من سبعة عشر بيتا، ومن الطبيعي ألا تخرج تلك القصيدة عن نطاق الغزل والهيام وهو أمر شائع ومألوف بين الناس لصبي أدرك منذ أدرك أن الشعر لا يعني سوى الوجد والهيام والدموع والأرق، وكان مطلع القصيدة:

مرقت كالسهم لا تلوي خطاها

ليت شعري ما الذي اليوم دهاها

  يقول بعض من قرأ القصيدة: «إذا نظرنا إلى القصيدة نجد سنًا أكبر من سنه، وهذا لا يتهيأ فنّا ورصيداً لصبي ما زال مخزونه اللغوي والفني في طور التشكيل». وقد عُرِضَتْ تلك القصيدة في حينها على أحد المختصين فلم يصدق أنها لطالب ما زال في المرحلة المتوسطة، ثم راح أحمد مطر يكتب القصائد في ذكرى مولد النبي محمد والإمام علي بن أبي طالب، ومما كتبه بهذا الخصوص وهو في المرحلة المتوسطة قصيدة مطلعها:

راحت تحاورني

وتسكب همسها

نغما رقيقا

يستفيق على الفم

وجاء فيها قوله:

ومشاعر تكبو

تخط سماحة

فتقول: (رائعة

فضربة لهذم)

.

  وأحمد مطر هنا يشير إلى قصيدة الجواهري (رسالة إلى أبي هُدى) وهي قصيدة نشرتها جريدة الثورة تحت عنوان رائعة الجواهري، ومطلعها (نبأت أنك توسع الأزياء عتا واعتسافا). وفيها يعاتب الجواهري وزير الداخلية في حينها صالح مهدي عمّاش على منعه الملابس النسائية القصيرة، وعلى إنشائه شرطة الآداب التي راحت تحاسب من يرتدين هذه الملابس.

  وبسبب قسوة الحياة والظروف القاهرة التي كان يعيشها مطر، تعثر في دراسته، ولأنه أحبط لجأ إلى الكتاب هربا من واقعه، فزوده برصيد لغوي انساب زادا لموهبته، وأضافت لزاده هذا تلك الأحداث السياسية التي كان يمر بها وطنه، وهو أمر جعله يلقي بنفسه في دائرة السياسة مرغما، بعد أن وجد أن الغزل والمواليد النبوية لا ترضي همته، فراح يتناول موضوعات تنطوي على تحريض واستنهاض لهمم الناس للخلاص من واقعهم المر، وفي هذا الصدد يقول الشاعر: «ألقيت بنفسي مبكرا في دائرة النار، عندما تكشفت لي خفايا الصراع بين السلطة والشعب، ولم تطاوعني نفسي على الصمت أولًا، وعلى ارتداء ثياب العرس في المآتم ثانيا، فجذبت عنان جوادي ناحية ميدان الغضب»، فذاع صيته بين الناس، وهو أمر جلب له ألما وسجنا، ويذكر إنه سجن في مدينة الكوت أثناء تأديته لخدمة العلم، وذلك بعد رفضه طلبا لمحافظها محمد محجوب بإلقاء قصيدة بمناسبة احتفالات ثورة تموز، فما كان من أحمد مطر إلا أن نظم قصيدة وهو في سجنه يخاطب فيها لائميه يقول مطلعها:

ويك عني لا تلمني فأنا

اللوم غريمي وغريمي بأسي

فترة السجن وفقدانه أخوته

  في هذه الفترة من حياته رزء بفقد شقيقه الأصغر (زكي) بحادث سيارة مفتعل، وسرعان ما تبعه شقيقه الآخر (خالد) الذي كان منظره وهو متدل من حبل المشنقة لا يفارق أمه الثكلي التي ابيضت عيناها من الحزن على أولادها، ولولا مشاركة الأب الذي كان هيكلا عظميا مسجى على فراش المرض لها وتقاسمه العذاب معها لما استطاعت احتمال فقد أولادها.

حياته في الكويت:

وفي الكويت عمل في جريدة القبس محرراً ثقافياً، وعمل أيضاً أستاذاً للصفوف الابتدائية في مدرسة خاصة، وكان آنذاك في منتصف العشرينات من عمره، حيث مضى يُدون قصائده التي أخذ نفسه بالشدّة من أجل ألاّ تتعدى موضوعاً واحداً، وإن جاءت القصيدة كلّها في بيت واحد. وراح يكتنز هذه القصائد وكأنه يدوّن يومياته في مفكرته الشخصيّة، لكنها سرعان ما أخذت طريقها إلى النشر، فكانت «القبس» الثغرة التي أخرج منها رأسه، وباركت انطلاقته الشعرية الانتحارية، وسجّلت لافتاته دون خوف، وساهمت في نشرها بين القرّاء.

أحمد مطر وناجي العلي:

وفي رحاب القبس عمل الشاعر مع الفنان ناجي العلي، ليجد كلّ منهما في الآخر توافقاً نفسياً واضحاً، فقد كان كلاهما يعرف -غيباً- أن الآخر يكره ما يكره ويحب ما يحب، وكثيراً ما كانا يتوافقان في التعبير عن قضية واحدة دون اتّفاق مسبق، إذ أن الروابط بينهما كانت تقوم على الصدق والعفوية والبراءة وحدّة الشعور بالمأساة ورؤية الأشياء بعين مجردة صافية، بعيدة عن مزالق الإيديولوجيا.

  وكانت لافتة أحمد مطر تفتتح الصفحة الأولى في الصحيفة، وكان ناجي العلي يختمها بلوحته الكاريكاتيرية في الصفحة الأخيرة.

موقف السلطات العربية:

ومرة أخرى تكررت مأساة الشاعر، حيث أن لهجته الصادقة، وكلماته الحادة، ولافتاته الصريحة، أثارت حفيظة مختلف السلطات العربية، تماماً مثلما أثارتها ريشة ناجي العلي، الأمر الذي أدى إلى صدور قرار بنفيهما معاً من الكويت، حيث ترافق الاثنان من منفى إلى منفى. وفي لندن فَقدَ أحمد مطر صاحبه ناجي العلي الذي اغتيل بمسدس كاتم للصوت، ليظل بعده نصف ميت، وعزاؤه أن ناجي ما زال معه نصف حي، لينتقم من قوى الشر بقلمه.

الانتقال إلى لندن وحياته فيها:

انتقل أحمد مطر إلى لندن عام 1986 بسبب عدم نزوله عن مبادئه ومواقفه ورفضه التقليل من الحدة في أشعاره التي كان ينشرها في «القبس»، وهو أمر لا تستسيغه الكويت، وكانت المنطقة تمر بحرب طاحنة، إلا أنه بقي يعمل في مكاتب القبس الدولية، ومن لندن سافر أحمد مطر إلى تونس ليجري فيها اتصالات مع كتابها وأدبائها، فرجع قافلاً إلى لندن ليلقي فيها عصا الترحال ويستقر فيها بعيدا عن وطنه، وسرعان ما تسوء علاقته مع القبس، ولا سيما بعد (أن فتحت القبس له قوس الخيبة مع قصيدة «أعد عيني» وقصيدة «الراحلة») فصارت «الراية» القطرية متنفسه علي العالم بعد أن نحرت الرقيب على أعتاب لافتاته كما يقول أحمد مطر إكراما للحرية، وعن هذا الموضوع يكتب أحمد مطر لافتة بعنوان (حيثيات الاستقالة) جاء فيها:

((أيتها الصحيفة

الصدق عندي ثورة.

وكذبتي

إذا كذبت مرة

ليست سوي قذيفه!

فلتأكلي ما شئت، لكني أنا

مهما استبد الجوع بي

أرفض أكل الجيفة.

أيتها الصحيفة

تمسحي بذلة

وانطرحي برهبة

وانبطحي بخيفه.

أما أنا..

فهذه رجلي بأم هذه الوظيفة!)

وعن حياته في بريطانيا كتب أحمد مطر ملخصا تلك الحياة: أنا في بريطانيا دولة مستقلة، نمشي على قدمين، نشتاق إلى أوجاع احتلالها ونهفو إلى المعركة من جديد، لست سعيدا لأني بعيد عن صدى آهات المعذبين لأني أحمل آهاتهم في دمي، فالوطن الذي أخرجني منه لم يستطع أن يخرج مني ولا أحب أن أخرجه ولن أخرجه.

أما اليوم فيعيش أحمد مطر في بريطانيا مريضاً يقتات علي الذكريات والشاي والتدخين، ويعيش بين أفراد عائلته. وعائلته تتكون من أربعة أفراد وهم: علي، دكتوراه مونتاج سينما ومسرح، حسن، ماجستير مونتاج سينما ومسرح، زكي، مازال طالبا في الثانوية، وفاطمة، تدرس الأدب المقارن في إحدى الجامعات البريطانية. وكلما أفاق من سطوة المرض وجد وطنه يلعب دور البطولة التراجيدية على شاشة التلفاز، ولا سيما بعد أن لعبت بريطانيا الدور ذاته الذي كانت قد لعبته، فتتحول الضحكة التي ينتظرها أهله منه إلى نوبة نشيج مكتوم، تعلو بعدها توسلات الأبناء إليه أن يضرب عرض الحائط كل ما من شأنه إثارة الانفعال والأسى لديه، فلا يجد أحمد مطر سلوة له إلا أن يعد المرض حسنة لأنه أبعده قسرا عن الاستماع إلى نشرات الأخبار وقراءة الصحف وعن كل ما له صلة بالموت في وطنه.

أحمد مطر وقصائد الغزل:

دواوين أحمد مطر بجمعها تخلو من قصيدة غزل واحدة!!، وعندما سُئل الشاعر عن إمكانية قوله قصيدة الحب وترك الدوران حول موضوع واحد هو الموضوع السياسي أجاب: ((إن الأرض تكرر دورانها حول الشمس كل يوم، لكنها لا تكرر نفسها حتى في لحظتين متتاليتين، والشعر العربي يكرر موضوع الحب منذ الجاهلية، والقضية برمتها هي عبارة عن رجل يعشق امرأة، وامرأة تحب رجلا، فهل تستطيع القول إن الموضوع قد اختلف عن هذا يوما ما؟ إن هذا الموضوع لم ينته بالتكرار، لأن هناك دائما زاوية جديدة للنظر ونبرة جديدة للبوح وثوبا جديدا للمعنى... إني أتساءل ألا يكون الحب حبا إلا إذا قام بين رجل وامرأة؟! أليس حبا حنينك إلى مسقط رأسك؟ .. أليس حبا أن تستميت لاسترداد الوطن من اللصوص؟...أليس حبا أن تحاول هدم السجن وبناء مدرسة؟... إن البكاء على الأهل والغضب على المقاول، هما أرفع أنواع الحب في مثل هذا الموقف)).

الشعر في زمن الفعل:

يقول أحمد مطر: إن الشعر ليس نظاما عربيا يسقط بموت الحاكم، كما أنه ليس بديلا عن الفعل، بل هو قرين له، إنه نوع من أنواع الفنون من مهماته التحريض والكشف والشهادة على الواقع والنظر إلى الأبعد، وهو بذلك يسبق الفعل ويواكبه ويضيء له الطريق ويحرسه من غوائل التضليل، وقديما قال نصر بن سيار: إن الحرب أولها كلام، والواقع إن الكلام محيط بالحرب من أولها إلى آخرها، توعية وتحريضا وتمجيدا، وهذا ما مثله ابن سيار نفسه.

ويتابع قائلاً: لا غني للفعل عن الكلام الصادق المؤثر، لأن غيابه يعني امتلاء الفراغ بالكلام النقيض، ونحن نعلم أن هذا النقيض موجود وفاعل حتي بوجود الصدق، فما بالك إذا خلا الجو تماما؟ وما من مقاومة علي وجه الأرض استغنت بالمقاتل عن الشاعر، كل مقاومة حية تدرك أن لا غني للدم عن الضمير، وتاريخ امتنا نفسه أكبر شاهد علي أهمية دور الشاعر في الحرب، بل إن المقاتل نفسه طالما شحذ سيفه ولسانه معا، فهو يخوض غمرات الوغي (وكر مرتجزاً أو طعنه راجزاً أو هوىً صريعاً وهو يرتجز)، وإذا كان أبو تمام قد قال:

بيض الصفائح لا سود الصحائف *** في متونهن جلاء الشك والريب

فهو قد جعل رأي الشاعر أولا إذ أكد ضمنا أن سود الصحائف هي الدليل المبصر لبيض الصحائف العمياء، وما قاله أبو تمام مواربا قاله أبو الطيب من دون مواربة:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهي المحل الثاني

فالشعر مهم لنا نحن العرب، ولولا ذلك لما حفيت أقدام المخابرات المركزية الأمريكية في سعيها من أجل تدميره بأيدي المغول الجدد، وعلي أية حال، فان أحمد مطر ما كان يتوقع أن يحصل التغيير بالشعر فقط، وفي هذا الصدد يقول في لافتة بعنوان (دور):

((أعلم أن القافية

لا تستطيع وحدها إسقاط عرش الطاغية.

لكنني أدبغ جلده بها

دبغ جلود الماشية!

حتي إذا ما حانت الساعة

وانقضت عليه القاضية

واستلمته من يدي أيدي الجموع الحافية

يكون جلدا جاهزا

تصنع منه الأحذية!))

سبب تجاهله لوسائل الإعلام:

   وهو يقول في ذلك: إنني لم أتجاهل وسائل الإعلام، بل تجاهلت وسائل الإعدام. تلك التي تكتب بالممحاة، وتقدم للناس فراغاً خالياً محشواً بكمية هائلة من الخواء، وللإعلاميين أقول: احذروا أن تعبثوا بالحقائق، واحذروا بلع أطراف الحروف، فالكلمة حساسة جداً، يمكن تحويلها بلمسة بسيطة غير مسؤولة، من أداة إحياء إلى أداة قتل. إن عبثاً هيناً بكلمة «إعلام» يحولها ببساطة إلى«إعدام».

ملك الشعراء:

يجد كثير من الثوريين في العالم العربي والناقمين على الأنظمة مبتغاهم في لافتات أحمد مطر حتى أن منهم من يلقبه بملك الشعراء ويقولون إن كان أحمد شوقي هو أمير الشعراء فأحمد مطر هو ملكهم.

ديوان شعره:

لأحمد مطر ديوان كبير مطبوع طبعه الشاعر في لندن على نفقته الخاصة ونشره في مكتبتي الساقي والأهرام تضم المجموعة الكاملة سبع دواوين بعنوان لافتات (لافتات 1 لافتات 2 لافتات 3 ...)، وتضم بعض الدواوين الشعرية الأخرى، مثل: (إني المشنوق أعلاه، ديوان الساعة)، فضلا عن بعض القصائد المتفرقة التي لم يجمعها عنوان محدد، مثل: (ما أصعب الكلام، العشاء الأخير، لصاحب الجلالة، إبليس الأول)، بالإضافة إلى قصائد أخرى نشرها وما زال ينشرها الشاعر على صفحات جريدة الراية القطرية.

من أشعاره:

حالات

بالتمادي . . . يصبِحُ اللّصُّ بأوربا مديراً للنوادي،

وبأمريكا، زعيماً للعصابات وأوكار الفسادِ،

وبأوطاني التي من شرعها قطع الأيادي،

.يصبح اللص . . . زعيماً للبلادِ،

إهانة

رأتِ الدّوَلُ الكُبْرى

تبديلَ الأدوارْ

فأقرَّتْ إعْفاءَ الوالي

واقْتَرحتْ تعْيينَ حِمارْ!

ولدى توْقيعِ الإقرار ْ

نهقَتْ كُلُّ حميرِ الدُّنيا باستنكارْ:

نحنُ حميرَ الدُّنيا، لا نرْفضُ أن نُتعَبْ

أو أن نُركَبْ، أو أن نُضرَبْ

أو حتى أن نُصلَبْ؛

لكن نرفضُ في إصرارْ

أنْ نَغْدو خدماً للاستعمارْ.

إنَّ حُمُورِيَّـتَنا تَأْبى

أنْ يَلْحَقَنا هذا العارْ!

عقوبات شرعية

بتَرَ الوالي لِساني

عندما غنَّيْتُ شِعْري

دونَ أن أطلُبَ ترْخيصاً بترْديدِ الأغاني

***

بتَرَ الوالي يَدي لمّا رآني

في كِتاباتِيَ أرْسَلْتُ أغانٍيَّ

إلى كُلِّ مكانِ

***

وضَعَ الوالي على رِجْلَيَّ قيداً

إذْ رآني

بينَ كُلِّ النّاسِ أمْشي

دُونَ كفِّي ولِساني

صامِتاً أشْكُو هواني

***

أمَرَ الوالي بإعْدامي

لأنِّي لم أُصفِّقْ

-عندما أمَرَ-

ولم أهتِفْ

ولم أبرَحْ مكانِي!

و من منشوراته

من طرف الداعي..

إلى حضرة حمّال القُرَح:

لك الحياة والفرح.

نحن بخير، وله الحمد، ولا يهمناشيء سوى فراقكم

نود أن نعلمكم أن أباكم قد طفح.

وأمكم توفيت من فرط شدة الرشح

وأختكم بألف خير.. إنماتبدو كأنها شبح.

تزوجت عبد العظيم جاركم

وزوجها في ليلة العرس انذبح.

ولم يزل شقيقكم في السجن.. لارتكابه أكثر من عشر جُنح.

وداركم عامرة.. أنقاضها

وكلبكم مات لطول ما نبح

وما عدا ذلك لا ينقصناسوى وجودكم هنا.

أخوكم الداعي لكم (قوس قزح)

ملحوظة: كل الذي سمعته عن مرضي بالضغط والسكرِ.. صح.

ملحوظة ثانية: دماغ عمك انفتح.

وابنة خالك اختفت.

لم ندر ماذا فعلت

لكن خالك انفضح!

ملحوظة أخيرة: لك الحياة والفرح!”

من دواوينه:

أحاديث الأبواب.

شعر الرقباء.

ولاة الأرض.

ورثة إبليس.

أعوام الخصام.

الجثة.

دمعة على جثمان الحرية.

السلطان الرجيم.

الثور والحظيرة (أنور السادات).

هون عليك (ياسر عرفات).

مقاوم بالثرثرة (بشار الأسد).

كلب الوالي.

ما قبل البداية.

ملحوظة.

مشاتمة.

كابوس.

انتفاضة مدفع.

لافتات1 - 1984م.

لافتات2 - 1987م.

لافتات3 - 1989م.

لافتات4 - 1993م.

إني مشنوق أعلاه - 1989م.

ديوان الساعة 1989م.

لافتات5 - 1994م.

لافتات6 - 1997م.

لافتات7 - 1999م.

لافتات متفرقة لم تنشر في ديوان بعد.

إشاعة وفاته:

لا تزال تخرج بين الفينة والأخرى أخبار حول وفاة أحمد مطر، ولكن حتى الآن لا تزال تلك الأخبار مجرد إشاعات، إذ يُنقل عن بعض المقربين من زوجته أنه متواجد في لندن حتى اليوم.

السخرية في شعر أحمد مطر 

ورثة إبليس:

ويفضح الشاعر الكبير الوجوه المزيفة التي تتخفى خلف القيم، وتفعل الفواحش في الكواليس، فيقول:

وجوهكم أقنعة بالغة المرونة

طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة

صفق إبليس لها مندهشا، وباعكم فنونه

وقال: إني راحل، ما عاد لي دور هنا، دوري أنا أنتم ستلعبونه

ودارت الأدوار فوق أوجه قاسية، تعدلها من تحتكم ليونة،

فكلما نام العدو بينكم رحتم تقرعونه،

لكنكم تجرون ألف قرعة لمن ينام دونه

وغاية الخشونة،

أن تندبوا: «قم يا صلاح الدين، قم»، حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة،

كم مرة في العام توقظونه،

كم مرة على جدار الجبن تجلدونه،

أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة،

دعوا صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه،

لأنه لو قام حقا بينكم فسوف تقتلونه.

شعر الرقباء:

ويقول الشاعر الثائر المعاصر أحمد مطر تحت عنوان شعر الرقباء ...

فكرت بأن أكتب شعراً

لا يهدر وقت الرقباء

لا يتعب قلب الخلفاء

لا تخشى من أن تنشره

كل وكالات الأنباء

ويكون بلا أدنى خوف

في حوزة كل القراء

هيأت لذلك أقلامي

ووضعت الأوراق أمامي

وحشدت جميع الآراء

ثم.. بكل رباطة جأش

أودعت الصفحة إمضائي

وتركت الصفحة بيضاء!

راجعت النص بإمعان

فبدت لي عدة أخطاء

قمت بحك بياض الصفحة..

واستغنيت عن الإمضاء!

 ولاة الأرض:

ويسخر شاعرنا من ولاة الأمر ومن عملائهم الذين أوجبوا لهم الطاعة بالرغم من أنهم جاؤوا إلى الحكم على ظهر الدبابة ..

هو من يبتدئ الخلق

وهم من يخلقون الخاتمات!

هو يعفو عن خطايانا

وهم لا يغفرون الحسنات!

هو يعطينا الحياة

دون إذلال

وهم، إن فاتنا القتل،

يمنون علينا بالوفاة!

شرط أن يكتب عزرائيل

إقراراً بقبض الروح

بالشكل الذي يشفي غليل السلطات!

****

هم يجيئون بتفويض إلهي

وإن نحن ذهبنا لنصلي

للذي فوضهم

فاضت علينا الطلقات

واستفاضت قوة الأمن

بتفتيش الرئات

عن دعاء خائن مختبئ في السكرات

وبرفع الـبصـمات

عن أمانينا

وطارت عشرات الطائرات

لاعتقال الصلوات!

****

ربنا قال

بأن الأرض ميراث ا لـتـقـاة

فاتقينا وعملنا الصالحات

والذين انغمسوا في الموبقات

سرقوا ميراثنا منا

ولم يبقوا لنا منه

سوى المعتقلات!

****

طفح الليل..

وماذا غير نور الفجر بعد الظلمات؟

حين يأتي فجرنا عما قريب

يا طغاة

يتمنى منكم خيركم

لو أنه كان حصاة

أو غبارا في الفلاة

أو بقايا بعـرة في أست شاة.

هيئوا كشف أمانيكم من الآن

فإن الفجر آت.

أظننتم، ساعة السطو على الميراث،

أن الحق مات؟!

لم يمت بل هو آت!!

الثور والحظيرة:

وعندما ترك أنور السادات جامعة الدول العربية وقرر منفردا الصلح مع إسرائيل ثم تبعه عرفات في أوسلو والملك حسبن في وادي عربة اجتمعت بقية الدول وقرر تجميد علف الثور وفي النهاية قرر الجميع اللحاق بالأشقاء والتطبيع مع اليهود ..

الثور فر من حظيرة البقر

الثور فر

فثارت العجول في الحظيرة

تبكي فرار قائد المسيرة

وشكلت على الأثر

محكمة ومؤتمر

فقائل قال: قضاء وقدر

وقائل: لقد كفر

وقائل: إلى سقـر

وبعضهم قال امنحوه فرصة أخيرة

لعله يعود للحظيرة

وفي ختام المؤتمر

تقاسموا مربطهُ، وجمدوا شعيره

وبعد عام وقعت حادثة مثيره

لم يرجع الثور، ولكن ذهبت وراءه الحظيرة

السلطان الرجيم:

وعندما ينقلب السلطان إلى شيطان رجيم، فعندها لا يكون جديرا بالاحترام ويستحق السخرية ..

شيطان شعري زارني فجن إذ رآني

أطبع في ذاكرتي ذاكرة النسيان

وأعلن الطلاق بين لهجتي ولهجتي،

وأنصح الكتمان بالكتمان،

قلت له: كفاك يا شيطاني،

فإن ما لقيته كفاني،

إياك أن تحفر لي مقبرتي بمعول الأوزان

فأطرق الشيطان ثم اندفعت في صدره حرارة الإيمان

وقبل أن يوحي لي قصيدتي،

خط على قريحتي:

أعوذ بالله من السلطان

ويقول أحمد مطر في قصيدته (هون عليك):

لا عليك

لم يضع شيء..

وأصلاً لم يكن شيء لديك

ما الذي ضاع؟

بساطٌ أحمر

أم مخفر

أم ميسر..؟

هون عليك..

عندنا منها كثير

وسنزجي كل ما فاض إليك.

****

دولةٌ..

أم رُتبة..

أم هيبة..؟

هون عليك

سوف تُعطى دولة

أرحب مما ضُيعت

فابعث إلينا بمقاسي قدميك

وستدعى مارشالاً

وتُغطى بالنياشين

من الدولة حتى أذنيك..

****

الذين استشهدوا

أم قيدوا

أم شُردوا؟

هون عليك

كلهم ليس يُساوي.. شعرة من شاربيك

بل لك العرفانُ ممن قيدوا.. حيث استراحوا..

ولك الحمدُ فمن قد شُردوا.. في الأرض ساحوا

ولك الشكر من القتلى.. على جنات خُلدٍ

دخلوها بـيديك

****

أي شيءٍ لم يضعِ

ما دام للتقبيل في الدنيا وجود

وعلى الأرض خدود

تتمنى نظرة من ناظريك

فإذا نحنُ فقدنا «القبلةَ الأولى»

فإن «القبلةَ الأولى» لديك

وإذا هم سلبونا الأرض والعرض

فيكفي

أنهم لم يقدروا.. أن يسلبونا شفتيك

بارك الله وأبقى للمعالي شفتيك

 يسقط الوطن:

مع الأسف عندما يرى الإنسان الحكيم أن كرامته داخل الوطن مهدورة وفي بلاد الغرب والغربة محفوظة يتوصل إلى نتيجة مرة هي يسقط الوطن ...

أبي الوطن

أمي الوطن

رائدنا حب الوطن

نموت كي يحيا الوطن

يا سيدي انفلقت حتى لم يعد

للفلق في رأسي وطن

ولم يعد لدى الوطن

من وطن يؤويه في هذا الوطن

أي وطن؟

الوطن المنفي..

أم الوطن؟!

أم الرهين الممتهن؟

أم سجننا المسجون خارج الزمن؟!

نموت كي يحيا الوطن

كيف يموت ميت؟

وكيف يحيا من أندفن؟!

نموت كي يحيا الوطن

كلا.. سلمت للوطن!

خذه.. وأعطني به

صوتاً أسميه الوطن

ثقباً بلا شمع أسميه الوطن

قطرة أحساس أسميها الوطن

كسرة تفكير بلا خوف أسميها الوطن

يا سيدي خذه بلا شيء

فقط

خلصني من هذا الوطن

****

أبي الوطن

أمي الوطن

أنت يتيم أبشع اليتم إذن

ابي الوطن

أمي الوطن

لا أمك احتوتك بالحضن

ولا أبوك حن!

ابي الوطن

أمي الوطن

أبوك ملعون

وملعون أبو هذا الوطن!

****

نموت كي يحيا الوطن

يحيا لمن؟

لابن زنى

يهتكه.. ثم يقاضيه الثمن؟!

لمن؟

لاثنين وعشرين وباء مزمناً

لمن؟

لاثنين وعشرين لقيطاً

يتهمون الله بالكفر وإشعال الفتن

ويختمون بيته بالشمع

حتى يرعوي عن غيه

ويطلب الغفران من عند الوثن؟!

تف على هذا الوطن!

وألف تف مرة أخرى!

على هذا الوطن

من بعدنا يبقى التراب والعفن

نحن الوطن!

من بعدنا تبقى الدواب والدمن

نحن الوطن!

إن لم يكن بنا كريماً آمناً

ولم يكن محترماً

ولم يكن حُراً

فلا عشنا.. ولا عاش الوطن!

عباس:

عباس وراء المتراس

يقظ منتبه حساس

منذ سنين الفتح يلمع سيفه

ويلمع شاربه أيضا، منتظرا محتضنا دبه

بلع السارق ضفة

قلب عباس القرطاس

ضرب الأخماس بأسداس

«بقيت ضفة»

لملم عباس ذخيرته والمتراس

ومضى يصقل سيفه

عبر اللص إليه، وحل ببيته

«أصبح ضيفه»

قدم عباس له القهوة، ومضى يصقل سيفه

صرخت زوجة عباس: «أبناؤك قتلى، عباس»

ضيفك راودني، عباس

قم أنقذني يا عباس

عباس اليقظ الحساس منتبه لم يسمع شيئا

«زوجته تغتاب الناس»

صرخت زوجته: عباس، الضيف سيسرق نعجتنا

قلب عباس القرطاس، ضرب الأخماس بأسداس

أرسل برقية تهديد

فلمن تصقل سيفك يا عباس؟؟

«لوقت الشدة»

إذاً اصقل سيفك يا عباس.

عباس شد المخصرة

ودس فيها خنجره

واستعد للجولة المنتظرة

اللص دق بابه

اللص هدّ بابه

وعابه وانتهره

يا ثور أين البقرة؟

عباس دس كفه في المخصرة

واستل منها خنجره

وصاح في شجاعة:

في الغرفة المجاورة

اللص خط حوله دائرة

وأنذره

إياك أن تُجاز هذي الدائرة

علا خوار البقرة

خفت خوار البقرة

خار خوار البقرة

ومضى اللص بعدما قضى لديها وطره

وصوت عباس يدوي خلفه

فلتسقط المؤامرة

فلتسقط المؤامرة

عباس:

والخنجر ما حاجته؟

ينفعنا عند الظروف القاهرة

وغارة اللص؟

قطعت دابره

ألم تشاهدوني وقد غافلته

واجتزتُ خط الدائرة!

 عربي أنا..!:

ويقول الشاعر مفتخرا بالعرب على طريقته الخاصة

عــــربـــي أنــــــا أرثــيــنــي

شقي لي قبراً.. واخفيني

مـلـت مــن جـبني أوردتـي

غـصـت بـالخوف شـراييني

ما عدت كما أمسى أسداً

بـــل فـــأر مـكـسـور الـعـين

أسـلـمت قـيـادي كـخـروفٍ

أفــزعــه نــصــل الـسـكـيـن

ورضـيـت بــأن أبـقى صـفراً

أو تـحـت الـصـفرِ بـعـشرين

ألـعـالـم مـــن حــولـي حــر

من أقصى بيرو إلى الصين

شــارون يـدنـس مـعـتقدي

ويـمرغ فـي الـوحل جبيني

وأمــيـركـا تــدعـمـه جــهــراً

وتــــمـــد الـــنـــار بــبــنـزيـن

وأرانــــــا مـــثـــلُ نــعــامـات

دفـنـت أعـينها فـي الـطّين

وشــهـيـد يــتـلـوهُ شــهـيـد

مـــن يـافـا لأطــراف جـنـين

وبـيـوتٌ تـهـدم فــي صـلـفٍ

والـصمت الـمطبقُ يكويني

يــا عــرب الـخـسة دلـونـي

لــزعــيـمٍ يــأخــذ بـيـمـيـني

فـيـحرر مـسـجدنا الأقـصى

ويـعـيـد الـفـرحة لـسـنيني

 لمن نشكو مآسينا؟

     ولا يجد الانسان المسلم أمام هذا الواقع سوى الفرار إلى الله، فهو ملجأ الضعيف وهادي الحيارى ..

لمن نشكوا مآسينا؟

ومن يُصغي لشكوانا ويُجدينا؟

أنشكو موتنا ذلاً لوالينا؟

وهل موت سيحيينا؟!

قطيع نحنُ.. والجزار راعينا

ومنفيون.. نمشي في أراضينا

ونحملُ نعشنا قسرًا.. بأيدينا

ونعربُ عن تعازينا.. لنا.. فينا!

فوالينا..

أدام الله والينا

رآنا أمة وسطًا

فما أبقى لنا دنيا.. ولا أبقى لنا دينا!

****

ولاةَ الأمر.. ما خنتم.. ولا هنتم

ولا أبديتم اللينا

جزاكم ربنا خيرًا

كفيتم أرضنا بلوى أعادينا

وحققتم أمانينا

وهذي القدس تشكركم

ففي تنديدكم حينا

وفي تهديدكم حينا

سحقتم أنف أمريكا

فلم تنقل سفارتها

ولو نقلت «معاذ الله» لو نقلت

لضيعنا فلسطينا!

ولاة الأمر

هذا النصر يكفيكم ويكفينا

..تهانينا

 بلاد العرب:

   وجميع البلاد العربية في الهوا سوا، فهم شركاء في حياة الذل والهوان سواء في هذا من بشار إلى أبي منشار، مرورا بالطاغية السيسي وصولاً حفتر ...

بعد ألفي سنة تنهض فوق الكتب

نبذه عن وطن مغترب

تاه في ارض الحضارات من المشرق حتى المغرب

باحثا عن دوحة الصدق ولكن عندما كاد يراها حية مدفونة وسط بحار اللهب

قرب جثمان النبي

مات مشنوقا عليها بحبال الكذب

وطن لم يبق من آثاره غير جدار خرب

لم تزل لاصقة فيه بقايا من نفايات الشعارات وروث الخطب

عاش حزب الـ..، يسقط الخا..، عائدو..، والموت للمغتصب

وعلى الهامش سطر

أثر ليس له اسم

إنما كان اسمه يوما بلاد العرب

 أقزام طوال..!:

   وكما أن الواقع العربي متناقض فقد جاءت أشعار مطر تضج بالتناقض ففي قصيدته أقزام طوال يقول:

أيها الناس قفا نضحك على هذا المآل

رأسنا ضاع فلم نحزن..

ولكنا غرقنا في الجدال

عند فقدان النعال!

لا تلوموا

نصف شبر عن صراط الصف مال

فعلى آثاره يلهث أقزام طوال

كلهم في ساعة الشدة.. آباءُ رغال!

لا تلوموه

فما كان فدائياً.. بإحراج الإذاعات

وما باع الخيال.. في دكاكين النضال

هو منذ البدء ألقى نجمة فوق الهلال

ومن الخير استقال

هو إبليس فلا تندهشوا

لو أن إبليس تمادى في الضلال

نحن بالدهشة أولى من سوانا

فدمانا

صبغت راية فرعون

وموسى فلق البحر بأشلاء العيال

ولدى فرعون قد حط الرحال

ثم ألقى الآية الكبرى

يداً بيضاء.. من ذُلِّ السؤالْ!

أفلح السحر

فها نحن بيافا نزرع «القات»

ومن صنعاء نجني البرتقال!

****

أيها الناس

لماذا نهدر الأنفاس في قيلٍ وقال؟

نحن في أوطاننا أسرى على أية حال

يستوي الكبش لدينا والغزال

فبلاد العرب قد كانت وحتى اليوم هذا لا تزال

تحت نير الاحتلال

من حدود المسجد الأقصى.. إلى «البيت الحلال»!

****

لا تنادوا رجلاً فالكل أشباه رجال

وحواةٌ أتقنوا الرقص على شتى الحبال.

ويمينيون.. أصحاب شمال

يتبارون بفن الاحتيال

كلهم سوف يقولون له: بعداً

ولكن.. بعد أن يبرد فينا الانفعال

سيقولون: تعال

وكفى الله «السلاطين» القتال!

إنني لا أعلم الغيب

ولكن.. صدقوني:

ذلك الطربوش.. من ذاك العقال!

مفقودات..!:

ولنستمع إلى الشاعر، وهو يقول:

زار الرئيسُ المؤتمن

بعض ولايات الوطن

وحين زار حينا

قال لنا:

هاتوا شكاواكم بصدقٍ في العلن

ولا تخافوا أحداً..

فقد مضى ذاك الزمن.

فقال صاحبي «حسن»:

يا سيدي

أين الرغيفُ واللبن؟

وأين تأمين السكن؟

وأين توفير المهن؟

وأين من

يُوفر الدواء للفقيرِ دونما ثمن؟

يا سـيدي

لم نر من ذلك شيئاً أبداً.

قال الرئيس في حزن:

أحرق ربي جسدي

أَكُـل هذا حاصل في بلدي؟!

شكراً على صدقك في تنبيهنا يا ولدي

سـوف ترى الخير غداً.

****

وبعد عامٍ زارنا

ومرةً ثانية قال لنا:

هاتوا شكاواكُـم بِصدق في العلن

ولا تخافوا أحداً

فقد مضى ذاك الزمن.

لم يشتك الناسُ!

فقمت معلناً:

أين الرغيف واللبن؟

وأين تأمين السكن؟

وأين توفير المهن؟

وأين من

يوفر الدواء للفقيرِ دونما ثمن؟

معذرة يا سيدي

.. وأيـن صاحبي «حسن»؟!

السكتة القلبية:

   وبين احمد مطر في قصيدته السكتة القلبية جرائم المخابرات العربية التي فاقت جرائم اليهود في فلسطين...من بشار حتى أبي منشار.، ولاتنس حفتر وقيس سعيد..

لي صاحب في الكلية الطبية

تأكد المخبر من ميوله الحزبية

وقام باعتقاله حين رآه مرة

يقرأ عن تكون الخلية

وبعد يوم واحد

افرج عن جثته بحالة أمنية

في رأسه رفسة بندقية

في صدره قبلة بندقية

في ظهره صورة بندقية

لكنني حين سألت عن أمره

حارس الرعية

اخبرني أن وفات صاحبي

قد حدثت بالسكتة القلبية.

  وكتب احمد مطر قصيدة تحت عنوان ( إنحناء السنبلة)، يقول فيها:

أنا مِـن تُرابٍ ومـاءْ

خُـذوا حِـذْرَكُمْ أيُّها السّابلةْ

خُطاكُـم على جُثّتي نازلـهْ

وصَمـتي سَخــاءْ

لأنَّ التُّرابَ صميمُ البقـاءْ

وأنَّ الخُطى زائلـةْ.

ولَكنْ إذا ما حَبَستُمْ بِصَـدري الهَـواءْ

سَـلوا الأرضَ عنْ مبدأ الزّلزلةْ !

**

سَلـوا عنْ جنونـي ضَميرَ الشّتاءْ

أنَا الغَيمَـةُ المُثقَلةْ إذا أجْهَشَتْ بالبُكاءْ

فإنَّ الصّواعقَ في دَمعِها مُرسَلَهْ!

**

أجلً إنّني أنحني

فاشهدوا ذ لّتي الباسِلَةْ

فلا تنحني الشَّمسُ

إلاّ لتبلُغَ قلبَ السماءْ

ولا تنحني السُنبلَةْ

إذا لمْ تَكُن مثقَلَهْ

ولكنّها سـاعَةَ ا لانحنـاءْ

تُواري بُذورَ البَقاءْ

فَتُخفي بِرحْـمِ الثّرى

ثورةً .. مُقْبِلَـهْ!

**

أجَلْ.. إنّني أنحني

تحتَ سَيفِ العَناءْ

ولكِنَّ صَمْتي هوَ الجَلْجَلـةْ

وَذُلُّ انحنائـي هوَ الكِبرياءْ

لأني أُبالِغُ في الانحنـاءْ

لِكَي أزرَعَ القُنبُلَـةْ!

   وكتب شاعر الشعب احمد مطر قصيدة ( عائدون)، يرد فيها على الذين نادوا بالعودة ولكنهم لم يعملوا لها شيئا سوى شرب الخمر وهز البطون والرقص ونشر الفساد والاستبداد..

هرم الناس وكانوا يرضعون،

عندما قال المغني عائدون،

يا فلسطين وما زال المغني يتغنى،

وملايين ا للـحـو ن،

في فضاء الجرح تفنى،

واليتامى من يتامى يولدون،

يا فلسطين وأرباب النضال المدمنون،

ساءهم ما يشهدون،

فمضوا يستنكرون،

ويخوضون ا لنضا لات على هز القنا ني

وعلى هز البطون، عائدون،

ولقد عاد الأسى للمرة الألف،

فلا عدنا ولاهم يحزنون!

    ويسخر الشاعر الثائر أحمد مطر من حكام العرب الذين كدسوا الأسلحة لقتل شعوبهم، فإذا جاء دور السلاح وحانت ساعة الصفر ضد العدو قالوا نتركه لليوم الأسود، وأي يوم أسود أشد عليكم من هذا .

عباس:

  ويأتي دور عباس ليدعو إلى السلمية في زمن الحرب ولا يجرؤ على مجرد الكلام بإنهاء أوسلو رمز الخيانة .

عباس وراء المتراس ،

يقظ منتبه حساس ،

منذ سنين الفتح يلمع سيفه ،

ويلمع شاربه أيضا، منتظرا محتضنا دبه ،

بلع السارق ضفة ،

قلب عباس القرطاس ،

ضرب الأخماس بأسداس ،

(بقيت ضفة)

لملم عباس ذخيرته والمتراس ،

ومضى يصقل سيفه ،

عبر اللص إليه، وحل ببيته ، (أصبح ضيفه)

قدم عباس له القهوة، ومضى يصقل سيفه ،

صرخت زوجة عباس: " أبناؤك قتلى، عباس ،

ضيفك راودني، عباس ،

قم أنقذني يا عباس" ،

عباس ــ اليقظ الحساس ــ منتبه لم يسمع شيئا ،

(زوجته تغتاب الناس)

صرخت زوجته : "عباس، الضيف سيسرق نعجتنا" ،

قلب عباس القرطاس ، ضرب الأخماس بأسداس ،

أرسل برقية تهديد ،

فلمن تصقل سيفك يا عباس" ؟"

( لوقت الشدة)

إذا ، اصقل سيفك يا عباس

   وكتب احمد مطر قصيدة تحت عنوان ( أنا إرهابي ..!) ساخراً من دعاة الديمقراطية التي تصف كل من يجاهد ضد الاحتلال بأنه ارهابي، وتبرئ من يستخدم ضد المدنيين الأسلحة الكيميائية المحرمة من فوسفور وسارين وخردل وغاز الأعصاب:

الغربُ يبكي خيفـةً

إذا صَنعتُ لُعبـةً

مِـن عُلبـةِ الثُقابِ .

وَهْـوَ الّذي يصنـعُ لي

مِـن جَسَـدي مِشنَقَـةً

حِبالُها أعصابـي !

والغَـربُ يرتاعُ إذا

إذعتُ ، يومـاً ، أَنّـهُ

مَـزّقَ لي جلبابـي .

وهـوَ الّذي يهيبُ بي

أنْ أستَحي مِنْ أدبـي وأنْ أُذيـعَ فرحـتي

ومُنتهى إعجابـي ..

إنْ مارسَ اغتصـابي !

والغربُ يلتـاعُ إذا

عَبـدتُ ربّـاً واحِـداً

في هـدأةِ المِحـرابِ .

وَهْـوَ الذي يعجِـنُ لي

مِـنْ شَعَـراتِ ذيلِـهِ

ومِـنْ تُرابِ نَعلِـهِ

ألفـاً مِـنَ الأربابِ

ينصُبُهـمْ فـوقَ ذُرا

مَزابِـلِ الألقابِ

لِكي أكـونَ عَبـدَهُـمْ

وَكَـيْ أؤدّي عِنـدَهُـمْ

شعائرَ الذُبابِ !

وَهْـوَ .. وَهُـمْ

سيَضرِبونني إذا

أعلنتُ عن إضـرابي .

وإنْ ذَكَـرتُ عِنـدَهُـمْ

رائِحـةَ الأزهـارِ والأعشـابِ

سيصلبونني علـى

لائحـةِ الإرهـابِ !

**

رائعـةٌ كُلُّ فعـالِ الغربِ والأذنابِ

أمّـا أنا، فإنّني

مادامَ للحُريّـةِ انتسابي

فكُلُّ ما أفعَلُـهُ

نـوعٌ مِـنَ الإرهـابِ !

**

هُـمْ خَرّبـوا لي عالَمـي

فليحصـدوا ما زَرَعـوا

إنْ أثمَـرَتْ فـوقَ فَمـي

وفي كُريّـاتِ دمـي

عَـولَمـةُ الخَـرابِ

هـا أنَـذا أقولُهـا .

أكتُبُهـا .. أرسُمُهـا ..

أَطبعُهـا على جبينِ الغـرْبِ

بالقُبقـابِ :

نَعَـمْ .. أنا إرهابـي !

زلزَلـةُ الأرضِ لهـا أسبابُها

إنْ تُدرِكوهـا تُدرِكـوا أسبابي .

لـنْ أحمِـلَ الأقـلامَ

بلْ مخالِبـي !

لَنْ أشحَـذَ الأفكـارَ

بـلْ أنيابـي !

وَلـنْ أعـودَ طيّباً

حـتّى أرى

شـريعـةَ الغابِ بِكُلِّ أهلِها

عائـدةً للغابِ .

**

نَعَـمْ .. أنا إرهابـي .

أنصَـحُ كُلّ مُخْبـرٍ

ينبـحُ، بعـدَ اليـومِ، في أعقابـي

أن يرتـدي دَبّـابـةً

لأنّني .. سـوفَ أدقُّ رأسَـهُ

إنْ دَقَّ ، يومـاً، بابـي !

أمس اتصلتُ بالأمل ....

   والشاعر العراقي أحمد مطر كان دائما شديداً ضد الطواغيت، ولاسيما العرب منهم، فهم قوم يعيشون الحياة بلا حياء ولا خجل ..

أمس اتصلتُ بالأمل:

قلتُ له: هل ممكن أن يخرجَ العطرُ لنا من الفسيخ ِوالبصل؟

قال: أجلْ

قلت: وهل يمكن أن تُشعَلَ نارٌ بالبلل؟

قال: بَلى

قلت: وهل من حَنظلٍ يمكنُ تقطيرُ العسلْ؟

قال: نعمْ

قلت: وهل يمكن وضع الأرضِ في جيبِ زحلْ؟

قال: نعمْ.. بلى.. أجلْ فكل شيء محتملْ

قلت: إذنْ حكامنا سيشعرونَ يوما بالخجلْ

قال: تعال ابصق على وجهي إذا هذا حَصَلْ

وأخيراً نرى أن الشاعر العراقي أحمد مطر قد أبدع وابتكر في الأساليب وجدد في الصور والتراكيب حتى أدهش الأذواق والأفهام .

ولقد كتب الدارسون عنه الكتب والأبحاث رغم الحظر والتضييق عليه .

وكان أحمد مطر صداحا يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم...

تحية وتقدير لك وللقلوب الصافية أيها الشاعر المناضل.

مصادر الدراسة:

١_ ديوان أحمد مطر الأعمال الشعرية الكاملة .

٢_ الموسوعة التاريخية الحرة.

٣_ موقع الجزيرة نت .

٤_ مواقع إلكترونية أخرى.

(رحلة ذهنية على رحلات بطبوطية في ديار الهند)

dsfsfd1065.jpg

عتبات الرحلة:

صدرت هذه الرحلات عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 2023 وتقع في 366 صفحة من القطع المتوسط. وهي حائزة على جائزة ابن بطوطة فرع الرحلة المعاصرة 2022- 2023 . وقد أشارت الرحالة إلى أنها قامت بهذه الرحلات في 2016- 2017

(كَريشنا) هو إله رئيسي في الهندوسية، يُعبد باعتباره الصورة الرمزية أو المجسّم للإله (فيشنو) وهو الإله الأعلى للآلهة عندهم، يجسّد الحماية والرحمة والحنان والمحبة. وقد استرعى الإله (كريشنا) ومعشوقته الفضلى (راداها) انتباه د. شعلان، وكوّنا معا مثالا خالدا للعشق المخلص، على الرغم من أن (كريشنا) كان له أكثر من ستة عشر ألف محظية، وحينما اختارت شعلان عنوانها (الطريق إلى كريشنا) فإنها تلمح منذ البداية إلى هدف مهم من أهداف رحلتها يضاف إلى الأهداف الأكاديمية والثقافية والاجتماعية والسياحية ألا وهو التعرف عن كثب على مكونات الحضارة الهندية ومعتقداتها وفلسفتها التي تركت أثرا في الحضارة العربية وغيرها من الحضارات، وكما قال د. محمد ثناء الله الندوي (رفيق الرحّالة في رحلاتها في الهند) في خاتمة الرحلة: "الفلسفة الهندية سجلت حضورها وتأثيرها البارزين على هياكل النتاج المعرفي الإنساني القديم والحديث، حتى الحضارة البابلية والأشورية والفرعونية ببعض أبعادها المعرفية والأسطورية تفاعلت مع الفلسفة الهندية".

في البدء اتجهتُ مع الرحّالة من العنوان إلى غلاف منجزها الرحلة، فاسترعى انتباهي أنه على غير المألوف من إبداعات الأديبة شعلان أن تأتي صفحتا الغلاف خاليتين من صورة شخصية لها، وهي الحريصة على تثبيت صورتها في العادة على أغلفة مؤلفاتها، وحين كانت تُسأل شعلان عن هذه المسألة في لقاءاتها الأكاديمية والثقافية والشخصية كانت تقول: مذ كنتُ طفلة كنت حين أقرأ قصة أو شعرا أُسرّح خيالاتي وأتساءل عن شكل الكاتب، روائيا كان أو شاعرا أو رحّالة أو غيره من فنون الإبداع، هذا لأنه مما يرتبط في ذهني بأن هؤلاء المبدعين لهم هيئة وصورة مختلفة عن البشر باعتبارهم بشرا فوق البشر؛ وحتى لا يقع قارئي في حيرة من هيئتي فيشوّهني خففت عنه العناء بتثبيت صورتي على أغلفة أعمالي الإبداعية.

وهنا يتساءل قارئ الرحلة: ولماذا خالفت الرحّالة شعلان منهجها في هذا المنجز الإبداعي وثبتت صورة عجائبية غرائبية على غلاف رحلتها؟!

يقول بعضهم (المكتوب مقروء من عنوانه) على اعتبار أن دلالة كلمة (المكتوب ) هي الرسائل التي كانت تُتبادل ذات زمان ورَقيّ؛ فمن عنوان الرسالة يَستشفّ القارئ محتواها؛ وهذه الرحلة تُقرأ من غلافها الذي حمل دلالات كثيرة على ما في هذه الرحلة من دهشة وغرائبية وعجائبية وقَتامة، وما تنتهي إليه من أسئلة عن إنسانية الإنسان حين تصير المعتقدات ضربا من ضروب ظلمه وتهميشه وتعذيبه، وعلى هذا فإن شعلان أرادت أن تفتح نافذة على مرحلة من مراحل حياتها ابتداء من الغلاف، زمن رحلة قامت بها إلى الهند وتركت بصمة لتجربة فريدة في مسيرتها، وبالتالي فهي بدلا من أن تثبّت صورتها الشخصية الظاهرية من الهيئة، تخطّت ذلك في لفتة بارعة إلى رسم صورتها الداخلية الذهنية عن تجربة عاينتها بنفسها في الهند وكشمير وكلكتا.

تنقسم صفحة الغلاف الأولى نصفين متساويين اليمنى منهما غلب عليها اللون البني الداكن الموشّح بما يشابه الغيوم الممطرة، وفي أحشاء الرحلة كلام عن طقس الهند وأجوائها الموسمية وما يرتبط بذلك من زراعات وأعياد واحتفالات ومهرجانات ترتبط بمواسم المطر. تتوسط هذا القسم صورة أيقونة، هي في الأصل منحوتة لما يُعبد من قِبَل بعض الناس في كشمير والهند وكلكتا. هذه الأيقونة التي تطالعك على غلاف الرحلة تختزل مؤشرات كثيرة دالة على الحضارة الهندية وما فيها من معتقدات وفنون، ودروب الحياة قديمها وحديثها. والقارئ لهذه الأيقونة يرى أن صورة مجسم امرأة تشغل الحيز الأكبر من الأيقونة والغلاف. ومنذ البداية يتقافز إلى ذهن القارئ لماذا احتلت المرأة هذه المكانة العالية في صورة المجسم ووقفت على خشبة المسرح (ساحة العرض للممثّلين) ؟ هل هي الصورة الذهنية لما ارتسم في عقل المؤلفة عقب زيارتها للهند؟ هل هو استفزاز من المبدعة لتعمل ذهن القارئ في تحريك تساؤلات الحيرة والدهشة مما يرى في الصورة فتحفّزه لخوض غمار قراءة الرحلة؟ هل تَشي بمكانة المرأة في الهند؟ هل لهذا المجسم وشائج قربى للفنون الهندية من شعر وموسيقى ورقص وغناء؟ هل هي رمز الحياة الهندية المسكونة بالعادات والتقاليد والمعتقدات؟ إن العجائبية والغرائبية أول ما يسترعي الانتباه في صورة هذه المرأة وما يحيط بها من قوى خارقة، بعضها جسدي وبعضها روحاني. هذه المرأة تمتلك عشرة أيد موزعة على جنبيها، وكل يد تحمل رمزا روحيا من رموز ما يُعبد في الهند وكشمير وكلكتا، إضافة إلى رموز الزراعة وأدواتها، وطوق من زهور غيندا البرتقالية المقدسة في كلكتا. ترتدي هذه المرأة حلة تراثية برتقالية زعفرانية، وهو اللون الذي يقدسه الهنود خاصة الهندوس والبوذيين منهم، وتتزين المرأة بزينة النساء الهنديات من الخلاخيل والحناء والأقراط والعقود، والدمغة الدائرية في منتصف الجبين بين العينين وهي العلامة الفارقة للمتزوجة عن العزباء في تلك الديار.

يقف خلف أيقونة المرأة مباشرة وعلى ذات المستوى من المدرج مجسم أسد يلامس رأسه إحدى الكفوف اليمنى للمرأة، ومعلوم أن الأسد وكثير من الحيوانات مما يعبد في الهند لكنّ اختيار الأسد هنا مما يستنهض بعض المعتقدات الهندية التي تؤمن بالتناسخ بين البشر والحيوان، فكل روح بحسب زعم أتباع هذا المعتقد تحل في حيوان يتناسب وأعماله الدنيوية. وبالنظر إلى ما خلف المرأة والأسد يطالعنا قوس أزرق يوحي لمتأمله أنه باب نُقشت عليه بعض رموز السلم الموسيقي، وبالطبع فإن الفنون الموسيقية والتمثيلية هي من أبرز خصائص الحضارة الهندية لا سيما في هذا العصر حتى نافست بوليوود الهندية مدينة هوليوود الأمريكية في هذا المضمار.

هذه المجسمات الثلاثة يحملها مدرج في إشارة رمزية ذكية إلى ما يسود المجتمع الهندي من طبقية مدمِّرة قاسية تهبط بالحياة إلى الدرك الأسفل من الإنسانية، تجلس على يمين الدرجات امرأتان تعزفان على آلتين موسيقيتين وإن أنت دققت النظر ترى أنهما آلتا (يازاه أو السيتار) وهما آلتان وتريتان تراثيتان تشابهان العود، فيما تجلس امرأة ثالثة في وضعية الرقص على يسار المدرج، وفي المشهد كذلك على الدرجة السفلى من المدرج مجسم فيل وهو إضافة أخرى موحية إلى معتقدات وعبادات في الهند، بينما تتناثر أشلاء أجساد على جنبات أرضية المدرج تصدم المشاهد وتُعدّه ذهنيا لما سيعيشه مع رحالتنا (بطبوطة) من مشاهد صادمة حين يغوص في الرحلة في بعض شوارع الهند ويرى معها الجثث من بقايا البشر متناثرة مبعثرة هنا وهناك من طبقة المنبوذين حيث اللا إنسانية في أبشع صورها، وفي أسفل الصورة خيالات رؤوس محجوبة بأردية سوداء، وهي موحية بأن هذه الرؤوس هي جماهير تتابع عرضا مسرحيا، مما يشحذ ذهن القارئ على التفكير والتساؤل هل هذا المشهد السوداوي للجماهير المغلّفة بأقنعة تحجب الرؤية عنها هي إلماحة تلخص ماضي الهند وحاضرها من حيث بروز الطبقية والفقر وسيطرة العادات والتقاليد والمعتقدات والخرافات متصدرة المشهد وتلعب أدوارها في حياتهم بينما يكون الجمهور شأنه شأن نعامة تخفي رأسها في الرمال لا ترى واقعها الأسود المرير. أزعم أنها إيماءة نبيهة من الرحالة إلى أن الناس هناك لا دور حقيقي لهم سوى المشاهدة لهذه القوى تلعب وهم يجلسون في موقع المتفرج السلبي،   وأن صوت القانون والأصوات المصلحة ضعيفة محجوبة بغطاء سميك لا يمكنها المشاركة في صنع حياة جديدة تسودها العدالة والمساواة. يؤكد هذا ما قالته الرحالة حين حديثها عما رأته من أيقونات ذهبية لآلهة، وأبقار مصيّغة بعقود من ذهب ومعابد بنيت من الذهب الخالص والحجارة الكريمة " أدركتُ أن الهند ليست دولة فقيرة، بل هي دولة في أمس الحاجة إلى ثورة بيضاء كاسحة نحو خرافاتها وجهلها العقديّ كي تستيقظ من سباتها الأزلي الذي يغمر أمة بأكملها، ولا يستثنى من ذلك إلا قلة قليلة ... تجرّ الهند بأكملها بصعوبة في ركب الحضارة والتقدم والازدهار"

أما القسم الثاني من الغلاف فتوشّح جميعه باللون الرمادي وهو لون ناتج عن تمازج اللونين الأبيض والأسود ، لون يومئ إلى رؤية الرحّالة ومشاعرها المتصارعة ما بين العشق والإعجاب والدهشة الإيجابية لبعض ما رأته في الهند وكشمير وكلكتا وهو الجانب الأبيض من اللّون الرمادي، والكره والاشمئزاز والدهشة السلبية لكثير من الممارسات والسلوكيات التي تصل حد العجائبية والغرائبية والوجوم والبكاء المرير على واقع ما زال ممتدا حتى القرن الحادي والعشرين وهو الجانب الأسود من اللون. وفيما أراه أن هذا اللون الحيادي المتوسط بين الأبيض والأسود جاء للإجابة عن سؤال كبير طرحته على ذاتي: هل وصفت الرحالة الهند في رحلتها المدوّنة وصف عارف بالهند، أم أنها خرجت منها غير عارفة بها؟ تختم (بطبوطة) رحلتها بقولها (لم يرَ شيئا من يعتقد أنه قد رأى الهند كاملة)، رحالتنا أخذت طرفا يسيرا من كل شيء في رحلتها جميلا كان أم قبيحا، فتجرّعتْ منها بِلّةَ عطشان لم يرتوِ بعدُ من مياهها.

وفي أعلى هذه المساحة من الغلاف وضعت رأس أيقونة لرجل بغطاء على رأسه، يوحي بأنه رمز لرجل رحالة وهي العلامة الفارقة لهذا المنجز الإبداعي لأدب الرحلة عن بقية منجزاتها الإبداعية، تلاه مباشرة ملحوظة تشير إلى أن هذا المؤلَّف حائز على جائزة ابن بطوطة في أدب الرحلات. أما في الثلث الأخير من المساحة الرمادية فقد كُتب عنوان الرحلة، واسم المؤلفة من أربعة مقاطع.

وبالانتقال إلى صفحة الظهر من الغلاف فقد أخذت ذات اللون الرمادي بكل ما فيه من دلالات التوسط والاعتدال بين أسود الحياة وأبيضها، يعلو وسط الغلاف شعار (السندباد الجديد) بخط مزخرف، تحته مباشرة عنوان الرحلة والاسم الرباعي للرحّالة. ثم خط فاصل تليه فقرتان: الأولى منهما بقلم الدكتورة شعلان توجز فيه رؤيتها في الرحلات، فتقول: "السفر في الجغرافيا هو في حقيقة الحال سفر في التاريخ والثقافة والإنسان والتجربة والخبرات، كما هو اكتشاف للذات؛ ففي كل مرة أسافر فيها أكتشف نفسي مرة تلو أخرى" ، أعقبه كلمة موجزة من دار النشر تضمت إشادة بأن هذا المنجز الصادر عن رحّالة أنثى، فيه جرأة المغامرة في عوالم كانت حكرا على الذكور. تلاه شعاران أحدهما شعار المؤسسة العربية للدراسات والنشر، والآخر شعار المركز العربي للأدب الجغرافي.

فإذا تجاوزنا عتبتي الغلاف إلى الصفحة الأولى من الرحلة فقد أعادت المؤلفة كتابة المعلومات التعريفية بالكتاب مع زيادة تركيب (ارتياد الآفاق) في زخرف هندسي، والزخارف الهندسية القائمة على خطوط متداخلة هي مما أوردته الرحالة في حديثها عن الحضارة الهندية وما فيها من وشوم على الأجساد وما لها من دلالات نفسية وفكرية على من يختطها.

تلاها استهلال لمحمد أحمد السويدي في ست صفحات تحدث فيها عن جائزة ابن بطوطة في أدب الرحلات، مع وقفة قصيرة عن أدب الرحلات في الشرق والغرب. ثم أفردَت الرحالة صفحة للعنوان (الطريق إلى كريشنا) وتحته رحلات في الهند وكشمير 2016- 2017 ، بعد ذلك وضعت مسردا للعناوين الرئيسة والفرعية للرحلة.

الخوض في غمار الرحلة البطبوطية:

أخذت الرحلة صورة السرد الروائي بضمير المتكلم، وأطلقت الرحالة على نفسها اسم بطبوطة وكَنَّتْ أمها بأم بطبوطة في مقاربة مرحة من اسم الرحالة والجائزة (ابن بطوطة). وقد أهدت الرحالة هذا المنجز الإبداعي إلى روح والدتها المرحومة نعيمة المشايخ التي كانت رفيقتها في رحلتها إلى الهند وكشمير وكلكتا، ثم قدمت في صفحة لاحقة شكرها وامتنانها لمجموعة أسهموا في تدوين هذه الرحلة.

تعددت جوانب المنجز الإبداعي عند د. شعلان، فمن الرواية إلى القصة القصيرة والمسرحية والتمثيلية، ومع تعدد رحلات د. شعلان في مشارق الأرض ومغاربها، وأقصى شمالها إلى أقصى جنوبها إلا أن هذه هي المرة الأولى التي أبحرت فيها مبدعتنا وخاضت غمار تجربة فن الكتابة عن رحلة قامت بها إلى الهند وكشمير وكلكتا، وقد أوضحت المؤلفة في مقدمة رحلتها وجهة نظرها في الكتابة عن رحلاتها فقالت: "لا أحب الكتابة عن رحلاتي، لكنني أفضل أن أعيشها، وأن أنغمس فيها حدّ التلاشي في تفاصيلها دون أن أنشغل بتسجيل وقائعها، أو توثيق أحداثها في كتب خاصة بذلك ... هذه الخبرات جميعها لم تغرني على امتداد سنين طويلة بتوثيق رحلاتي وأسفاري وخبراتي في وثيقة سردية مكتوبة، إلى أن نجح صديقي اللدود الأديب والناقد العراقي عباس داخل حسن في أن يقنعني بذلك..."؛ فكان هذا المنجز الجميل لمبدعتنا.

نظمت المؤلفة سردها في أربع رحلات حسب عناوينها كالآتي: الرحلة الأولى: أم بطبوطة تُصلي في جبال الهيمالايا (رحلة في كشمير وجبال الهيمالايا). الرحلة الثانية: أم بطبوطة تعاتب أبا بطبوطة (رحلة في آغرا). الرحلة الثالثة: أسعد وداود ابنا أم بطبوطة (رحلة في نيودلهي). الرحلة الرابعة: أم بطبوطة تفتح مدينة كلكتا. وقد تَفرَّع تحت هذه العناوين خمسة وثمانون عنوانا فرعيا منداحا في دوائر سردية بحسب مقتضيات الوصف ومعاينة التجربة.

لعل شعلان من النساء القلائل اللواتي كتبن في أدب الرحلات، وربما تكون تجربتها هي من التجارب القليلة المعاصرة في هذا المضمار، وفي بيان ذلك فإنني أتفق مع ذكرته شعلان في مقدمتها وهو أن أدب الرحلات فن ذكوري بالدرجة الأولى من حيث التأريخ له، وسبب ذلك برأيها "أن الرجل كان صاحب الحظوة والكأس المعلّى في خوض غمار تجارب السفر بحكم ذكورته المسيطرة التي فتحت الآفاق له، وتُركت المرأة محبوسة على رعاية البيوت والأطفال والحقول" .

إننا حين نريد الاطلاع على تاريخ أمة ما في ماضيها أو حاضرها السياسي أو العسكري فإن مرجعيتنا هي كتب التاريخ، بغض النظر عن مصداقية المؤرخ. وحين نريد الاطلاع على منجزها الحضاري والتعرف على علمائها وأدبائها ومبدعيها فإن الكتب العلمية وسير العلماء وتراجمهم وطبقاتهم مما يمكن أن تطاله اليد بسهولة، حتى كتب الاجتماع فإنها تخوض في الخصائص العامة للمجتمعات وما يرد في هذه الكتب هو وصف يغلب عليه الجمود والطابع الأكاديمي، إنني أزعم أن ما يميز كتب الرحلات عن كل ما سبق من أساليب الكتابة وفنونها أنها تصدر عن نبض الحياة الاجتماعية فتبث الحياة اليومية وتضخ دماءها حارّة ثم تثمر سردا حيويا شائقا ماتعا جاذبا للقارئ كأنما يعايش حيوات تلك الجماعات ويغوص معهم في تفاصيلها وفي أعماق أعماقها، فينزل أحياء الناس ومساكنهم ويتذوق طعامهم وشرابهم ويعيش أفراحهم ويتألم معهم في أتراحهم، يسمع صوت غنائهم وبكائهم ويتجوّل في أسواقهم ويتحاور مع باعتهم.

ومما سهّل على رحّالتنا التوغل داخل تلك المجتمعات ومعايشتها أن معظم من تواصلت معهم كانوا يتقنون العربية، وحين كانت تلتقي بفئات لا تعرف العربية ولا لغتها كان معها رفاق من دارسي اللغة العربية ودارساتها إضافة إلى أساتيذ فيها ترجموا لها ما يستعصي عليها.

تساؤل كبير راودني حين بدأت قراءة هذا المنجز الإبداعي، إنها المرة الأولى التي أقرأ فيها عن رحلات امرأة، فهل ثمت خصوصية حين يكون أدب الرحلات صادرا عن امرأة؟ وعلى رأي الرحالة نفسها "فهل للمرأة عينان مختلفتان عن الرجل في الرؤية والاكتشاف؟ " أتفق والكاتبة بأن المرأة "تملك عينين مختلفتين؛ لذلك تكتب بشكل يختلف عما قد يكتب الرجل به في الشأن ذاته؛ لأنها ترى بطريقتها الخاصة، وتحاكم العالم انطلاقا من حقيقة وجودها وتكوينها، وتكشف كل شيء بحكم دهشتها، مفارقة الواقع المتكشف لاعتيادي تفاصيل حياتها".

روح الأنثى تنغرس في كل تفاصيل الرحلة، فالكلام عما يتصل بالمرأة كثير ومتناثر بين صفحات الرحلة وهو حديث يكشف وضعية المرأة بحسب الطبقة التي تنتمي إليها، وبعكس ما نراه في الأفلام الهندية حين يظفر الحبيب بحبيبته، ويهدم أسوار الطبقية إن كانت من طبقة دونه، فإن هذا غير متحقق على أرض الواقع هناك سوى في الأحلام والأفلام، هذه الطبقية متجذرة حتى النخاع لم يسلم منها مسلم أو هندوسي أو بوذي. ومن الخصوصيات التي ميّزت رحالتنا أنها دخلت المجتمع النسائي وتماسّت مباشرة مع من فيه، وهو مما لا يُتاح للرحالة الذكور، فقد حضرت احتفال زفاف، وقدّمت وصفا لملابس العروس الزاهية المزركشة البعيدة عن اللون الأبيض الذي هو لون الحداد على الميت في الهند، واستمعت لغناء الزفاف ورقصَت مع الراقصات فيه، ومما أضحكني جدا حديث بطبوطة عن امرأة اشترطت أن يكون مهرها مرحاضا في البيت وذلك لعدم توفّر المراحيض في بعض البيوت لشدة فقرها.

كما دخلت رحّالتنا المطبخ الهندي واطلعت على توابله وبهاراته وعافت نفسها وأمها النوع الحار منها. وتذوقت أطباقا هندية، وأكلت نباتات لم ترها إلا في الهند. وعاينت المطاعم والمقاهي الهندية وتذوقت مأكولاتها ومشروباها، كل ذلك بفَرادةٍ تميز النكهة الهندية وتظهر الروح الأنثوية التي تجعلك فيه (بطبوطة) تغترف من صحنها وتشرب من كأسها وتتذوق معها الطعام الهندي في مشاهد حيّة.

كذلك وقفتُ مع (بطبوطة) وقفة متأنية عند الملابس في الهند حتى تهيأ لي أنني اكتريت وإياها الملابس الكشميرية المزركشة الزاهية والحليّ والزيوت العطرية، وقد أشارت رحّالتنا هنا إلى ارتباط الملابس في الهند وتمايزها بما يظهر العقيدة والطبقة عند من يرتديها، فأبانت أن لباس المرأة المسلمة الهندية يكشف خصوصيتها العقائدية. كذلك لفتت انتباهنا إلى تميز العلماء المسلين بملابس خاصة ترتبط بالتراث الهندي المبهج للعين. ومارستُ هوايتي مع صديقتي الرحالة في التجوّل في الأسواق الهندية لا سيما الأسواق التي يمكن دخولها بوصفها مختصة بملابس النساء.

وبالتساوق مع بعض أهداف رحلتها تدخلنا (بطبوطة) في مجالس العلم والعلماء في الجامعات والمراكز العلمية والبحثية وأقسام اللغة العربية، فنتعرف على قائمة من علماء العربية الذين التقتهم هناك وجالستهم وحدثتهم وأعجبت بفصاحتهم واعتزازهم بإتقانهم اللغة العربية، وسعيهم إلى تعلمها سعيا حثيثا مدهشا يمتد سنوات وسنوات، ويتنقلون بين جامعات عربية وأخرى هندية لأخذ علوم العربية وفنونها. ولا تقصُر رحّالتنا الأمر على ذِكر من تحدثت إليهم أو استمعت لأحاديثهم فهي تقدم قائمة بأسماء كثير من علماء العربية في الهند وكشمير وكلكتا ومراكز تعلم العربية وجامعاتها، وفي كل ذلك ترصد العلاقة بين التلميذ وشيخه الذي يأخذ عنه العربية وعلومها، وكيف يُجلُّ التلميذ أستاذه أيما إجلال وإكبار، ومن أجمل ما ذكرته شعلان أن بعض دارسي العربية هناك ابتكر منهجا في تعلم العربية يقوم على اختيار أديب عربي له باع طويل في العربية إتقانا وإبداعا؛ فيعمدون إلى حفظ مؤلفاته غيبا ويستظهرونها قلبا وقالبا ويهضمونها فكرا ثم يصدرون عنها في لغتهم وكلامهم وكتابتهم وبذلك يصيرون تلاميذ لهؤلاء الأساتذة دون الجلوس في حضرتهم أو الاستماع إليهم، فمنهم من أخذ عن المنفلوطي وآخر أخذ العقاد أو الرافعي دون أن يلتقيه وجها لوجه.

وهناك وقفات متعددة للرحّالة ومتناثرة بين جنبات الرحلة أشارت فيها إلى معتقدات الهنود ومللهم ونحلهم مع تجنبها الخوض في فلسفة هذه المعتقدات مع أصحابها حتى لا تتورط في حديث لا تستطيع أن تلملم أطرافه وتحدد أبعاده، فاكتفت بأن كانت تردد بين جنبات الرحلة أن لكل شيء في الهند إلها يُعبد مما يخطر على بالك أو لا يخطر، فهناك آلهة من البشر والشجر والحجر، ومن الحيوان المستأنس أو الحوشِيّ، ومن كواكب السماء ونجومها، إلى أعماق البحار ولآلئها، ومن آلهة للفضائل وأخرى للرذائل، والعجب العجب في كل هذا وذاك أنه يؤمن بهذه المعتقدات علماء وصلوا أعلى الدرجات العلمية في مجالات الطب والهندسة والفلك والرياضيات والفيزياء وغيرها من علوم الطبيعة، كل ذلك غلفته رحّالتنا بسخرية خفية، فاخترعت لنفسها إلها صنعته من بنات أفكارها لكنها لم تعبده وهو إله الكذب، لكنها فوجئت بمن سبقها إلى ذلك وعبد هذا الإله حقيقة على أرض الهند.

ومن ذلك انطلقت لتحدثنا عن الفرق، وخصّت طائفة الصوفية بحديث فيه بعض التفصيل، فعددت فرقهم وذكرت أعلامهم، وتداولت أحاديث ذات شجون وفنون مع بعض أتباع تلك الفرق، وذكرت امتداد تلك الفرق إلى بعض الدول العربية، وثبتّت شيئا مترجما إلى العربية من أناشيدهم التي استمعت إليها.

ومما يرتبط بالملل والنحل فقد طوّفت بنا الرحالة في أشهر مقامات الهند ومزاراتها وبعض معابدها ومساجدها، وذكرت تقديس الهنود حتى المسلمين منهم لبعض من يعتقدونهم أولياء صالحين، ومما آلمني وأنا أقرأ الرحلة وكذلك الشأن بالنسبة لرحالتنا (بطبوطة) أن هذه المعابد هندوسية كانت أم بوذية فيها من التماثيل الذهبية والخبيئات في المخازن من الذهب والفضة والجوهر ما يكفي لنقل الهند إلى مصاف الدول الغنية ولأطعمت أغنياء الهند وفقراءها والمشردين منهم والمنبوذين لسنوات وسنوات. ومن طريف ما ذكرته الرحالة (مما نُقل إليها من قول) أن أحد التلاميذ العرب توجّه إلى دراسة الطب في الهند، وقد فشل في تحقيق مسعاه فجنح إلى تأسيس فرقة صوفية، ولأنه عربي، والمسلمون هناك يقدسون العربية؛ ولظنهم الحسن بأهلها فقد وجد آذانا صاغية وقلوبا متهافتة على اتّباع طريقته؛ فحسنت أحواله وكثرت أمواله بتجارته الرابحة من تكوين أتباع يقدّرونه ويجمعون المال له بحجة الطريقة التي يتبعونه فيها، هذا الفعل من هذا الوليّ الدَّعيّ حفز روح الرحالة المرحة وبداهتها التي يلحظها كل من يعرف الدكتورة شعلان شخصيا في صنع الطرفة والفكرة فاخترعت اسم طريقة أطلقت عليها اسم (الطريقة البطبوطية) مندفعة إلى ذلك ومضطرة لترد على أسئلة كثير من أصحاب الطرق عن الطريقة الصوفية التي تنتمي إليها، وكأن الأمر فرض عين على كل مسلم أن يكون له طريقة، وراحت تحاور في طريقتها الوهمية بتمكّنِ وحماسِ مَن يتحدثون عن طرقهم، فتغلب حجتها حجة محاورها حينا لأنها القائد والتابع والمؤمن الوحيد بهذه الطريقة، وتتراجع أحيانا أخرى حائرة في الرد على سؤال، وهي تنظر في وجه والدتها - رحمها الله - غامزة ألا تكشف سرّها في هذه المسألة التي عاشتها أياما معدودات. وفي هذا السياق أستحضر طرافة رحالتنا وظرافتها الجميلة في عتب رفيقة دربها (أم بطبوطة) على زوجها في اتصال هاتفي لأنه لم يُعِدّ لها ضريحا على غرار ضريح تاج محل، هذه الروح المرحة تعطي نكهة طيبة للرحلة فيتعايش القارئ مع (بطبوطة ) في حلّها وترحالها وجمال روحها وعذب حوارها ولطافة مَشاهدها برغم قسوة المشهد أحيانا كثيرة.    

وقد ركبنا مع (بطبوطة وأمها) في أشكال متعددة وأنواع لا حصر لها من وسائل النقل، لكن أبشع طريقة عاينتْها رحالتنا في سوق (نيوماركت) الذي أسسه المستعمر البريطاني في الهند ليكرّس نظام الطبقية والتفرقة العنصرية، ورفضت وأمها ركوبها، هي وسيلة ركوب أثارت غيظي وحنقي وقهري على إنسان ما زال يعيش عبودية ما قبل الحضارة الإنسانية والتحضر البشري، وسيلة ركوب تسمى عربة الإنسان الحصان (ركشا يدويّ أو تانا) وهي عربة تتسع لشخص أو شخصين يجرها رجل بجسده العاري الناحل المعذب، إنسان ممتهن يتقاضى أجرة بالكاد تكفيه وأطفاله.

فإذا تركنا كل ذلك خلفنا ورافقنا الرحالة في رحلة إلى الطبيعة في الهند نتذوق سحرها من جبال وأنهار وحدائق غنّاء فلنا منها ما يريح النفس من عناء السفر ومشقة الجسد والنفس إلى ما يبهج النظر ويخلب الألباب، وقد استهلت رحالتنا رحلتها من قمة جبال الهيمالايا حيث رفعت أم بطبوطة -رحمها الله - الأذان وصلّت ركعتين وشكرت الله وحمدته على نعمة الإسلام الذي يقدر المرأة أُمّا وزوجة وبنتا وأختا.

هذا غيض من فيض جادت به قريحة رحالتنا في منجزها الرائع الحائز على جائزة ابن بطوطة عن أدب الرحلات، وقد تجاوزتُ رحلتي الذهنية على الرحلات البطبوطية في ديار الهند عن جميل ٍكثيرٍ في هذا المنجز المتميز ليكون ما قدمتُه في هذه الأوراق القليلة نوعا من البهارات الهندية الفاتحة لشهية القارئ ليعود إلى هذا السِّفر فيستمتع بتفاصيل كثيرة مبثوثة في ثناياه.

gbfsgsg1065.jpg

عن دار النخبة في القاهرة، صدرت مؤخرا للكاتب السوري الكردي المقيم في ألمانيا ماهر حسن رواية "ذات مكان... ذات أنثى"، وتقع الرواية في (111) صفحة من القطع المتوسط، موزعة على ستة فصول، يواصل فيها الكاتب شيئا من سيرة المكان الجديد مع الإنسان السوري المعذب الفارّ من جحيم الواقع المرير في سوريا. ويأتي هذا العمل السردي القصير بعد عمله السردي الأول؛ رواية "سماء سقطت من حضني" الصادرة عن دار النخبة أيضا العام الماضي (2023).

يواصل الروائي في هذه الرواية "ذات مكان... ذات أنثى" رسم المعالم السردية باستخدام حكاية الحبّ بين اثنين، وهذه المرة بين فراشين الكاتب والشاعر، وبين امرأة تدعى "بل شين"، كما يستخدم المراوحة بين ضمير هو وضمير أنا في السرد، ويختلط فيه دور السارد الواجب الوجود في الرواية، كما يرى رولان بارت، وبين أنا الكاتب والمؤلف، ليحيل القارئ مرة أخرى على رواية السيرة الذاتية، أو ربما تدخل ضمن رواية "التخييل الذاتي" من خلال كثير من الإشارات: المنفى في ألمانيا، والوضع المتأزم في سوريا، فالكاتب والشخصية الرئيسية "فراشين" كلاهما لهما التوصيف ذاته، سوريّ كردي اضطرته الأوضاع في وطنه إلى الهجرة "المؤقتة" إلى ألمانيا، وإلى مدينة "دوســلدورف" حيث كثير من الأكراد السوريين يقيمون في هذه المدينة، ومدينة "إيسن".

ومن ناحية أخرى تحيل الرواية إلى مرجعيات واقعية أخرى، مثل ذكر الكاتب والشاعر إبراهيم اليوسف، وقراءة "فراشين" رواية "سماء سقطت من حضني" للكاتب نفسه؛ المؤلف ماهر حسن. ويعزز من هذا الحضور الذاتي للكاتب النص الاستهلالي الذي استهلّ له الرواية: "ثم تسأل عن أحلامي قلت: خذي الحلم لو أردت، ربما أنا ليس لي فيها شيء غيرك". شيء من هذا المعنى يعود في الصفحة الأخيرة من الرواية أيضاً ليختمها بقوله: " ففي النهاية أكملا حياتهما معاً، وكتبا حكايتهما، من غير أن يفكروا لحظة واحدة في أنها حكاية حقيقية".

تبدأ الرواية في مشهد وداع "فراشين" لصديقه "آرام" في إحدى كنائس مدينة دوســلدورف، وفي هذا الفصل يلتقي صدفة بفتاة تلفته بجمالها، ويتصاعد السرد وينمو شيئا فشيئا ليكتشف أن هذه الفتاة التي تعلق بها من أول لقاء هي "بل شين" أخت آرام صديقه. ويكشف المتن الروائي أن آرام كان قد قتل على يد شخص اسمه "حلاق"، يعود السرد في الفصل السادس ليكمل حل اللغز على أرض مدينة دوســلدورف حيث بدأ السرد من هناك أيضا.

ما بين النقطتين زمن طويل يمتد لأكثر من أربع سنوات، يتوزع فيها السرد أيضا على أمكنة متعددة، في مدينتين ألمانيتين، وفي الفصل الرابع تدور الأحداث في إسبانيا حيث اختفى فراشين ليعيش في بلدة جبلية صغيرة تسمى "فرجييليانا". وربما استمرت الأحداث في هذه القرية في الفصل الخامس دون أن تعطي الرواية أية إشارات، وتعود الأحداث لتكتمل في المكان الأول في ألمانيا في مدينة دوســلدورف.

يسيطر الروائي على حبكته القصصية في هذه الرواية، من خلال هذا الحدث البسيط غير المعقد الذي يقع في أماكن محددة وقليلة، ويختار له الروائي عددا من الأشخاص؛ محدداً جدا يتناسب وطول الرواية التي لم تجنح إلى التعمق في التفاصيل على الرغم من بذرة "النفس البوليسي" الذي ألقاها السارد في تربة السرد، هذا جعل الرواية تقع بين الرواية والنوفيلا المتضمنة لبعض عناصر التشويق.

ثمة أفكار مبثوثة بين ثنايا المتن الروائي حول الحب وحول الكتب وحول المرأة، تمنح الرواية شيئا من الأهمية الفكرية، إلا أنها ما زالت غير ناضجة بالقدر الكافي، وخاصة ذلك الحوار حول الكتابة وحرية المرأة الوارد في الفصل الثاني بين ديلا وبين الكاتب "فراشين"، وخاصة في الصفحتين (28- 29). على الرغم من تضمين المتن الروائي بعض الجمل التي تصلح للاقتباسات العامة الناتجة في تقديري عن القراءة في الكتب أكثر مما هي ناتجة عن تجربة شخصية للكاتب، كما في قوله في الفصل الثاني لامرأة يلتقي بها للمرة الأولى تحمل نسخة من كتابه "ديوان شعره الأول" كما جاء في المتن الروائي: "الكتب تبــدو أكثر جمالا في أحضان النساء وبين أياديهن"، وأعاد المعنى ذاته في قوله في الفصل الرابع في وصف "بل شين" "المرأة لا تغدو أميرة إلا وهي تحضن الكتب".

"ذات مكان... ذات أنثى" رواية المعاناة الذاتية العاطفية المستندة إلى وجعين فردي وجماعي في المنفى. يمكن أن تكون الجملة الآتية هي تلخيص مفيد لهذا السرد: "في منفى عينيها، كيف لي أن أبني صرحاً للســنونو الذي يهرع ويفرّ مذعورا من ضجيج المكان". هذا القلق الذي يشعر به الكاتب في بلاد الغربة، إذ تحل المرأة مكان الوطن، ولكن لن تكون بديلا عنه، لكنها تهدهد الروح القلقة في "ضجيج المكان". وكما يقول الكاتب نفسه في نهاية روايته: "ذات مكان... ذات أنثى، قد يحيطان بتفاصيلها كل شيء، قد تكون لحظات عابــرة وصغيرة، إلا أننا نهدهد أنفســنا فيهــا زمنا أطول فأطول، سنة بعد سنة، وهما كل ما هو موجود".

dggffd1064.jpg

تناول الشاعر د.معتصم الحريري في قصائده الرائعة عدداً من الأغراض السياسية والوطنية والإسلامية والوجدانية.

فضح الطواغيت:

  وها هو يعمل بجد في فضح الطواغيت الذين قتلوا وسفكوا دم الأبرياء، فيقول:

كُلُّ الجيوش وإِنْ تعاظمَ شرُّها تَبقى لها عينٌ على الأوطـانِ

إلا (أبوشحّاطـةٍ) بكتِ العِـدى مِنْ فِعلِــهِ في شَعبهِ بِحنانِ

حتى الوحوشُ الكاسراتُ استنكرت تشبيههُ في البطشِ بالحيــوانِ 

جيشٌ يُسلِّمُ أرضهُ في ساعةٍ و يَفِـــرُّ مِـنْ أعدائــهِ بِثَــوانِ

لكـــن إذا أهـــداهُ وَرداً شعبـه أهـداهُ أطنــــاناً مِـن النِّيرانِ

بالتْ جيوشُ الأرضِ فوقَ فراشــهِ من حِضنِ (روسِيٍّ) إلى (إيرانــي)

مستمتعاً يأوي إلـى أحضانهمِ لينــام فـوق ذراعهم بِأمـانِ

إن باتَ (حامي الدار) يطلب حامياً فالعرضُ مسموحٌ بلا استئـذانِ.

العيد:

    منذ سنوات والشعب السوري محروم من فرحة العيد لذا فإن الشاعر الشاب معتصم الحريري دهش لهذا؛ فقال:

سلم على العيد قلبي ما له عيـدُ

مادام يحكمنا في الشام عربيــدُ

  فهو يبين أن العيد في الشام مكدر بسبب جرائم الظالمين.. ويفضح الروس والمجوس الذين عاثوا في البلاد فساداً، فيقول:

ما دام للروسِ راياتٌ بساحتنــــا 

وللمجوسِ بأرض العرب تمهيــدُ

مادام شعبي يذوق الموت لا أحدٌ

يبكي عَلَيْهِ وصوت الحق مفقودُ 

لا عيد حتى ينـال الثــأر غايتــهُ 

حتى تكفَّ عن الصدرِ التناهيـــد

بلغ دمشق:

  ويقول معتصم الحريري في قصيدة أخرى تحت عنوان بلغ دمشق:      

بلغ (دمشق) سلاما من محبيهـــــا

سلام عاشقها بالـــــروح يفديهـــــا

سلام من هاجه شوق لرؤيتهــــــــا

فعـــاد منخــذلا بالدمـــع يبكيهـــــا

سلم عليها و قــــل لي أي قافيــــة

أهدي إليها و فــــكري هائم فيهــــا

وكيف أنسى وفي عيني ترى شجنا

نسجت فيه مع الأيــام ماضيهـــــــا

  وجمال دمشق يدهش العقول، ويبهج النفوس وينعش الأرواح يقول الشاعر معتصم الحريري في وصفها:

آه (دمشق) بلاد طــاب مسكنهـــــــا

دين و دنيا و رب العرش حاميهـــــا

جاهدت قلبي بأن يسلى محبتهـــــا

علـــي بسلوانهــا أبتــاع ترفيهـــــــا

وما علمـــت بـــأن (الشام) أغنيــــة

من يستمعهـــا فلا ينســى معانيهـــا

قصدتك اليوم في (تشرين) محتسبا

آلام قومـــي عنــد الله يحصيـــــها

باعوك فيه وشادوا منــــه مفخـــرة

يا ويلهم سفهـــوا التاريخ تسفيهــــا

   ويعيب على الحزب القائد ما أوصل إليه حال البلد حيث نشر الفساد وحكم بالاستبداد.

يا أيهــا (البعث) يا شيطــان أمتنــــا

يا باعثــــا كل أحـــــزان الدنا فيهـــا

أمــا فتئــت لديـــن الله معترضـــا

و للخيـــانات و الأحقــاد تحميهـــا

مـــا أنــت إلا شعـــارات ملفقــــة

البغي أسسهــــا والجــور راعيهـــا

ولكن الشاعر يحذر رجال البعث بأن شباب الشام إذا هبوا فسوف يطيحون بالظلم والظالمين ..

إن (الشــآم) إذا اهتـــزت مناكبــــه

ألقـاك عنه ذليــل النفـــس حانيهـــا

تلك (المغول)؛ وقد دانت لها الدنيـا

وتحت أسـوارهـا شلــت أياديهـــــا

كذا (الفرنجة) كم قد حاولت عبثــا

فيهـــا فألحــق قاصيهـــا بدانيهـــــا

فقل لمن غــرزوا فيهــــا مخالبهــــم

ودولة (الرفض) شادوا في نواحيها

غدا سنأتي و(روح القدس) يسبقنا

نحــرر (الشام) بالإيمـــان نحييهــــا

  وكما زال المغول والتتار والمستعمر عن بلادنا فسوف يزول الطغاة، ويرمي بهم الشعب في مزابل التاريخ .

           

   وكتب د.معتصم الحريري مؤكدا أن الشعب السوري لن يقبل بغير سقوط بشار الأسد ومحاكمته، فيجب أن ينال الظالم جزاء ظلمه:

فقل لجميع أهل الأرض أنّــــا  

بغير سقوط (بشار ) كفرنــــــا

دم (السوري) لن يغدو نبيـذاً

ولا أشلاؤهُ ستبـــاعُ وزنــــــا

ولا أحلام ثورته ستـــــــذوي

ولو ملؤوا عليه الأرض حُزنـا

وهذي (الشام) ما ذلت لبــاغٍ

ولا رضيت مدى التاريخِ غبنا

هي الموت الزؤامُ لكل عــــادٍ

ولحنُ المجدِ فيها كم تغــنـّى

بها شعبٌ تُغازلـــــهُ المنايــــا

و يعشقها و يُولدُ حينَ يفنـى

مصالحكم سيدعسها وحَـلٌّ

بلا حريةٍ سيعودُ (تِبنـــَـــــا)

ومهما تحفرون له سيرقـــى

ويبلغ ما أراد و ما تمنـــّــــى

    لقد تفاجأ معتصم الحريري بثورة أهل حوران؛ وأعجب بشجاعتهم، فقال مصوراً البطولات الجماعية لهم:

من قلب (حوران) في السهل الخصيب أتت

بشائــــرُ الخيــــرِ و(الجبـّــــارُ) يختــــــارُ

تحرّك الشعـــبُ مثل السيلِ مُندفعـــــــــــاً

وفي ســواعـــــده عـــــزمٌ و إصــــــــــرارُ

بين الرّصـــاصِ و بين المــوتِ قد وُلـِــدتْ

حريــــةٌ وهـَــوى في الخــِـزيِ (بشـّـــــارُ)

وغــــــدٌ تَــحدّرَ مِن وغــــــدٍ بِنُطفتــــــــهِ 

وغـــــدٌ و في دمِـــــهِ رِجسٌ و أقـــــــذارُ

    وأثناء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التقط معتصم الحريري صورة أردوغان؛ وهو ساجد وصورة كمال قليجدار؛ وهو يطأ سجادة الصلاة بحذائه...ولا غرو أن يبدي د. معتصم الحريري إعجابه بالسيد الرئيس أردوغان حفظه الله، ويندد بالحزب الكمالي، فيقول:

سَجّـــــادةٌ لكنّهــــا فُرقــــــــانُ 

ولمن يَشُـــكُّ فإنّهــــا تِبيــــــانُ 

هَِي مِنْ جُنودِ اللهِ رَغمَ سُكُونِها 

و يبانُ فيها الكُفــرُ و الإِيمــــانُ 

شتّانَ مَنْ يَجثُو عَليهَا ساجِــداً 

ودموعهُ في صُوفِهـــا هتّــــانُ 

أوداعــــسٍ بحذائـــهِ مُتكَبّـــراً

مُتغَطرِســـاً وكأنّــهُ الشيطـــانُ 

يا أخوة الإســلامِ هــــذي آيـــةٌ 

ولِمنْ تَعامــى إنهـــا البُرهــــانُ

ومصيرُكُمْ أضحى على سَجادةٍ

فيها الجِنانُ ودونها النِّيــــــرانُ.

أتَشَكَرُ قَاتِلي:

    وهذه قصيدة كتبها الشاعر معتصم الحريري يخاطب فيها السيد إسماعيل هنية بعد زيارته لحسن نصر الله وشكره على دعم المقاومة حيث يقول فيها:

أَتشكرُ قاتلي وتبوسُ راسَــــــه

وتأتي كي تُعلِّمني السّياســــــة

وتنعتهُ (شهيد القدس) كلـــبٌ

عَقورٌ لم تفارقـــــهُ النّجاســـة

وتطلــبُ بعـــد ذلــك أن أُواري

لأجلكَ غيظَ قلبي وَاحتِباسَـــه

كأنَّ (القدسَ) قُدسكَ ليسَ قُدسِي

تُوزِّعُ باسمهــــا حُلــــلَ القَداسَـــة

  ويحذر المجاهدين من التفريق بين دم الشهداء في فلسطين وسورية، فهو دم زكي مقدس هنا وهناك ..

كأنّ دِماكَ من مســــكٍ مُصَفّـــــى

ونهرُ دِمايَ ماءٌ في نُحاسَـــــــــة

كأنّ مَشاعرِي أنا مــــن تُـــــرابٍ

وحِسُّكَ مثل ( ياقوتٍ) و(ماسة)

أَوحدكَ من تموتُ تعــالَ وانظـــرْ

شربنا الموتَ حتى جفّ كاسَــــــه

أوحدكَ من تُحاصرُ رَغمَ ضَعفِـــي

كِلابُ الأرضِ جاءتْ للحراســــــة

أوحدك من تُحارِبُ هل ترانــــــي

لعشر سنين ألهو في (وَناسَــــــة)

لقد حاربتُ رمــلَ الأرض حتــــى

وجِنَّ الكون آذانـــي وناسَـــــــه

فما داهنتُ في دينـــــي عــــدواً

ونَحرِي دونَ من يبغي مَساسَـــه

ألست أخاكَ كيف تبيــــــعُ أُمّــي

وتعرضها بأسواقِ النِّخاسَــــــــة

وتُغريكَ الدراهمُ عــن حِماهــــا

وتزعمُ أنّ ذاك مــــن الكِياسَــــة

فما معنى المبادئِ بعــــــد هـــذا

وكيف أُزيلُ عن قلبي الْتباسَــــه

وهل يبقى مِن البنيــانِ رَسْــــمٌ

إذا الأضرارُ قد بَلغتْ أساسَــــــه

وهل ترضى عدوكَ لي صديقــــاً

أَكُفُّ به صديقــــكَ وافتراسَـــه

والشعب السوري قاسى من ظلم إيران أكثر مما قاسى من اليهود عبر التاريخ...

وأنعتهُ( حبيب الشام) إِذْ مـــــا

رمى (إيرانَ) خِنجَرهُ وفاسَـــــه

فمثلكُ إنّني قد ضقتُ ذرعــــــاً

كلانا اليومَ قد عانى وقاســــى

فلا تغضبْ إذا تاجرتُ يومــــــاً

وكانتْ صفقتِي مَعَهُ (حَمَاســـا)

فمهــــلاً أيّها المخدوعُ مَهــــلاً

فقدْ خانتكَ أحداقُ الفَراسَـــــة

ولا تُفســـدْ جِهــاداً مِنْ عَبيـــــرٍ

تَفتّــحَ وَردُهُ (فُــلاًّ ) و(آســـــا )

فوا أسفـــاه وا أسفـــاه إنـِّــــي

أرى الأغصـانَ قد صارت يَباســا

ويعالج الشاعر د. معتصم الحريري أحوال العراق وجراحه، فيقول مؤكدا على حرمة الدم المسلم:

بالله مابال العراق. بالشر يحترق احتراق

ويكادُ من أحزانهِ. يقضي بكاءً واختناق

 قد ضاع مابين الطوائف. والمذاهب والنفاق

الكل يعرض سلعة ويصيح في سوق الشقاق

أو لم يكونو إخوة. مابالهم قطعوا الوثاق

وغدا العدو هو الصديق. يعد من أغلى الرفاق

ودماء أبناء العمومة. دون أسباب تراق

الموت أصبح لعبة. والشعب فيه على سباق

فليضحك المحتل هذا. ما أراد من الفراق

وليشرب البترول خمرا. من شرايين العراق

وأخيرا:

  ما زال الشاعر د. معتصم الحريري يكتب الشعر؛ ويتفجر عطاء وحيوية..

  أرجو الله أن ييسر أمره، فيطبع شعره الإسلامي والوطني لتعم الفائدة بين إخوانه وأحبابه.

مصادر الدراسة:

١_ صفحة معتصم الحريري على الفيسبوك.

٢_ مواقع إلكترونية أخرى.

المزيد من المقالات...