رُؤى ثقافيّة 215

يستند مؤلِّف كتاب "العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود" على (سِفر حزقيال) ليقول: إن وصف بيت المَقْدِس (أورشليم) لا ينطبق على بيت المَقْدِس في (فلسطين)، وإذن فهو- حسب زعمه- في (غامد)! فلنأخذ القارئ إلى نموذج من هذا النص "الفانتازي" ليسبر معنا مقدار صلاحيته مستندًا تُقام عليه حقائق الجغرافيا والتاريخ، سلبًا أو إيجابًا. يقول من (الإصحاحات الأربعين، والثالث والسابع والأربعين)، وبها استدلّ المؤلِّف:

 "فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سَبْيِنَا، فِي رَأْسِ السَّنَةِ، فِي الْعَاشِرِ مِنَ الشَّهْرِ، فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ عَشَرَةَ، بَعْدَ مَا ضُرِبَتِ الْمَدِينَةُ فِي نَفْسِ ذلِكَ الْيَوْمِ، كَانَتْ عَلَيَّ يَدُ الرَّبِّ وَأَتَى بِي إِلَى هُنَاكَ. فِي رُؤَى اللهِ أَتَى بِي إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ وَوَضَعَنِي عَلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدًّا، عَلَيْهِ كَبِنَاءِ مَدِينَةٍ مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ. وَلَمَّا أَتَى بِي إِلَى هُنَاكَ، إِذَا بِرَجُل مَنْظَرُهُ كَمَنْظَرِ النُّحَاسِ، وَبِيَدِهِ خَيْطُ كَتَّانٍ وَقَصَبَةُ الْقِيَاسِ، وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْبَابِ. فَقَالَ لِي الرَّجُلُ: "يَا ابْنَ آدَمَ، انْظُرْ بِعَيْنَيْكَ وَاسْمَعْ بِأُذُنَيْكَ وَاجْعَلْ قَلْبَكَ إِلَى كُلِّ مَا أُرِيكَهُ، لأَنَّهُ لأَجْلِ إِرَاءَتِكَ أُتِيَ بِكَ إِلَى هُنَا. أَخْبِرْ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ بِكُلِّ مَا تَرَى"...  ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى الْبَابِ، الْبَابِ الْمُتَّجِهِ نَحْوَ الشَّرْقِ. وَإِذَا بِمَجْدِ إِلهِ إِسْرَائِيلَ جَاءَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْقِ وَصَوْتُهُ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ، وَالأَرْضُ أَضَاءَتْ مِنْ مَجْدِهِ. وَالْمَنْظَرُ كَالْمَنْظَرِ الَّذِي رَأَيْتُهُ لَمَّا جِئْتُ لأُخْرِبَ الْمَدِينَةَ، وَالْمَنَاظِرُ كَالْمَنْظَرِ الَّذِي رَأَيْتُ عِنْدَ (نَهْرِ خَابُورَ)، فَخَرَرْتُ عَلَى وَجْهِي. فَجَاءَ مَجْدُ الرَّبِّ إِلَى الْبَيْتِ مِنْ طَرِيقِ الْبَابِ الْمُتَّجِهِ نَحْوَ الشَّرْقِ. فَحَمَلَنِي رُوحٌ وَأَتَى بِي إِلَى الدَّارِ الدَّاخِلِيَّةِ، وَإِذَا بِمَجْدِ الرَّبِّ قَدْ مَلأَ الْبَيْتَ، وَسَمِعْتُهُ يُكَلِّمُنِي مِنَ الْبَيْتِ، وَكَانَ رَجُلٌ وَاقِفًا عِنْدِي.  وَقَالَ لِي: "يَا ابْنَ آدَمَ، هذَا مَكَانُ كُرْسِيِّي وَمَكَانُ بَاطِنِ قَدَمَيَّ حَيْثُ أَسْكُنُ فِي وَسْطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يُنَجِّسُ بَعْدُ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ، اسْمِي الْقُدُّوسَ، لاَ هُمْ وَلاَ مُلُوكُهُمْ، لاَ بِزِنَاهُمْ وَلاَ بِجُثَثِ مُلُوكِهِمْ فِي مُرْتَفَعَاتِهِمْ. بِجَعْلِهِمْ عَتَبَتَهُمْ لَدَى عَتَبَتِي، وَقَوَائِمَهُمْ لَدَى قَوَائِمِي، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُمْ حَائِطٌ، فَنَجَّسُوا اسْمِي الْقُدُّوسَ بِرَجَاسَاتِهِمِ الَّتِي فَعَلُوهَا، فَأَفْنَيْتُهُمْ بِغَضَبِي. فَلْيُبْعِدُوا عَنِّي الآنَ زِنَاهُمْ وَجُثَثَ مُلُوكِهِمْ فَأَسْكُنَ فِي وَسْطِهِمْ إِلَى الأَبَدِ... ثُمَّ أَرْجَعَنِي إِلَى مَدْخَلِ الْبَيْتِ وَإِذَا بِمِيَاهٍ تَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ عَتَبَةِ الْبَيْتِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، لأَنَّ وَجْهَ الْبَيْتِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ. وَالْمِيَاهُ نَازِلَةٌ مِنْ تَحْتِ جَانِبِ الْبَيْتِ الأَيْمَنِ عَنْ جَنُوبِ الْمَذْبَحِ. ثُمَّ أَخْرَجَنِي مِنْ طَرِيقِ بَابِ الشِّمَالِ وَدَارَ بِي فِي الطَّرِيقِ مِنْ خَارِجٍ إِلَى الْبَابِ الْخَارِجِيِّ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي يَتَّجِهُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَإِذَا بِمِيَاهٍ جَارِيَةٍ مِنَ الْجَانِبِ الأَيْمَنِ. وَعِنْدَ خُرُوجِ الرَّجُلِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْخَيْطُ بِيَدِهِ، قَاسَ أَلْفَ ذِرَاعٍ وَعَبَّرَنِي فِي الْمِيَاهِ، وَالْمِيَاهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. ثُمَّ قَاسَ أَلْفًا وَعَبَّرَنِي فِي الْمِيَاهِ، وَالْمِيَاهُ إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ. ثُمَّ قَاسَ أَلْفًا وَعَبَّرَنِي، وَالْمِيَاهُ إِلَى الْحَقْوَيْنِ. ثُمَّ قَاسَ أَلْفًا، وَإِذَا بِنَهْرٍ لَمْ أَسْتَطِعْ عُبُورَهُ، لأَنَّ الْمِيَاهَ طَمَتْ، مِيَاهَ سِبَاحَةٍ، نَهْرٍ لاَ يُعْبَرُ.  وَقَالَ لِي: "أَرَأَيْتَ يَا ابْنَ آدَمَ؟". ثُمَّ ذَهَبَ بِي وَأَرْجَعَنِي إِلَى شَاطِئِ النَّهْرِ. وَعِنْدَ رُجُوعِي إِذَا عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ أَشْجَارٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ. وَقَالَ لِي: "هذِهِ الْمِيَاهُ خَارِجَةٌ إِلَى الدَّائِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ وَتَنْزِلُ إِلَى (الْعَرَبَةِ) وَتَذْهَبُ إِلَى (الْبَحْرِ). إِلَى الْبَحْرِ هِيَ خَارِجَةٌ فَتُشْفَى الْمِيَاهُ. وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ حَيْثُمَا يَأْتِي النَّهْرَانِ تَحْيَا. وَيَكُونُ السَّمَكُ كَثِيرًا جِدًّا لأَنَّ هذِهِ الْمِيَاهَ تَأْتِي إِلَى هُنَاكَ فَتُشْفَى، وَيَحْيَا كُلُّ مَا يَأْتِي النَّهْرُ إِلَيْهِ.  وَيَكُونُ الصَّيَّادُونَ وَاقِفِينَ عَلَيْهِ. مِنْ (عَيْنِ جَدْيٍ) إِلَى (عَيْنِ عِجْلاَيِمَ) يَكُونُ لِبَسْطِ الشِّبَاكِ، وَيَكُونُ سَمَكُهُمْ عَلَى أَنْوَاعِهِ كَسَمَكِ الْبَحْرِ الْعَظِيمِ كَثِيرًا جِدًّا. أَمَّا غَمِقَاتُهُ وَبِرَكُهُ فَلاَ تُشْفَى. تُجْعَلُ لِلْمِلْحِ. وَعَلَى النَّهْرِ يَنْبُتُ عَلَى شَاطِئِهِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ كُلُّ شَجَرٍ لِلأَكْلِ، لاَ يَذْبُلُ وَرَقُهُ وَلاَ يَنْقَطِعُ ثَمَرُهُ. كُلَّ شَهْرٍ يُبَكِّرُ لأَنَّ مِيَاهَهُ خَارِجَةٌ مِنَ (الْمَقْدِسِ)، وَيَكُونُ ثَمَرُهُ لِلأَكْلِ وَوَرَقُهُ لِلدَّوَاءِ.  "هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هذَا هُوَ التُّخْمُ الَّذِي بِهِ تَمْتَلِكُونَ الأَرْضَ بِحَسَبِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ"(1)...".

ويستمرّ على هذا المنوال الحكائي المتخيّل. فما الغريب، وقد استحضر (اللهَ) تعالَى في هذه الحكاية، أن يستحضر (أورشليم) على جبل شامخ، أو في السماء أو على الأرض، أو أن يصوِّر الأنهار تجري من تحتها؟! وللمياه دلالاتها الرمزيَّة لا الواقعيَّة في مثل هذا السياق، ألمح السِّفرُ إلى ذلك بوصف صوت إله إسرائيل، قائلًا: "وَصَوْتُهُ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ"- وكذا للأشجار الخرافيَّة الحافّة به دلالاتها الرمزيَّة. 

إنها- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- لوحةٌ حُلْميَّة عن جنَّةٍ موعودة، لدى أسيرٍ، وصورةٌ نفسيَّة عن فردوس مفقود، يعزِّي قومَه بالعودة إليه على هذا النحو الأدبي المجنَّح.  فأن يأتي باحث ليُدقِّق في تفاصيل هذه "اليوتوبيا" لينفي المكان المقصود فيها لأن الوصف لا ينطبق عليه- هذا على الرغم من إشارات المواضع: "نهر الخابور، وداي عَربة، البحر، عين جَدْيٍ، عين عِجْلايِم، المَقْدِس"- فمعنى ذلك أنه يتجاهل طبيعة النصّ النوعيَّة ووظيفته التعبيريَّة، ليُلبسه قميصَ وثيقةٍ عِلْميَّةٍ ليس لها بأهل، ثم يبني عليها استنتاجاته. وإن نصًّا كهذا ما ينبغي أن يُقرأ قراءة تاريخيَّة، بل قراءة أدبيَّة.  والمؤرِّخ إنْ قرأه تلك القراءة التاريخيَّة السطحيَّة، الواثقة بظاهر الكلمات، طالبناه بالإتيان بمكانٍ على وجه الكُرَة الأرضيَّة تنطبق عليه تلك الأوصاف الخياليَّة والوقائع المرسومة بحذافيرها، ولن يجد.  فما بُني على خيال إنما أرضه عالم الخيال، وما أُنشئ على رموزيَّات نفسيَّة وميثولوجيَّة إنما موقعه في فنّ التصوير الأُسطوري الحالم، لا في (شامٍ) ولا في (يَمَن).  وهذا نموذج من أوهام المؤرِّخين في قراءة النصوص ذات الطابع الأدبي، التي لا يفقهون طبيعتها، ولا يدركون وظيفتها، ولا يحسنون قراءتها النوعيَّة؛ فيتعاملون معها تعاملهم مع ما اعتادوا من وثائق إخباريَّة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  أسباط إسرائيل الاثنا عشر، كما هو معروف، هم: رأوبين، وشمعون، وجاد، ويهوذا، ويساكر، وزبولون، وإفرايم، ومنسا، وبنيامين، ودان، وآشر، ونفتالي.

......................................

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «أوهام المؤرِّخين في قراءة النصوص»، صحيفة "الرأي" الكويتية، الاثنين 11 يولية 2016، ص14].

التحذير من سرطان الطائفية في المجتمع العراقي والعربي قبل

ستّين عاماً

# الجرأة في فضح الصراع الطائفي في العراق :

---------------------------------------------

(( أني ركزت بحثي في المجتمع العراقي وحده . وأخشى أن يغضب مني إخواني أهل العراق ، ويخيل لي أن بعضهم سيسمعون بخبر هذه المحاضرة فيقولون عني إني تعمدت فضح العراق أمام البلاد الأخرى . وليس من العسير أن أتصور أحدهم يقول لي : ( لقد فضحتنا يا أخي ) . الواقع أني أعتز بالعراق وأتشرف بانتسابي إليه . ولكني أتبع في بحوثي المبدأ الصوفي القائل : (( اللهم افضحنا ولا تسترنا )) وغاية أملي أن يسير الباحثون الاجتماعيون في البلاد العربية الأخرى على هذا المبدأ فيعمدوا إلى فضح قومهم أمام الناس دون حياء ، ولا حياء في العلم . ولست أشك أننا لو درسنا أحوال البلاد العربية الأخرى لوجدنا فيها من الفضائح والأدواء الاجتماعية ما لا يقل عن تلك التي شهدناها في العراق على وجه من الوجوه ))

                                                ( علي الوردي )

                         ( الأخلاق – الضائع من الموارد الخلقية – 1958 )  

يبقى الدكتور علي الوردي رياديا ومتفردا في أنه لم يسلك سلوك النعامة في التعامل مع الطائفية في المجتمع العراقي . وحتى اليوم ، وبعد احتلال العراق والخراب الطائفي الشامل المصحوب بقطع الرؤوس وفقء العيون وتقطيع الأوصال ، مازال سلوك النعامة طاغيا ومتسيدا . كل المسؤولين السياسيين يظهرون في وسائل الإعلام ليعلنوا أن العراقيين إخوة وإن المجتمع العراقي صاف ومتجانس ولا وجود للطائفية فيه !!! . إذن من أين جاءت هذه الحرب الطائفية التناحرية المدمّرة التي عصفت بحال الشعب العراقي . لقد شكل السيد نوري السعيد أربع عشرة وزارة ، كلها كانت فيها وزارة الداخلية للشيعة والدفاع للسنة أو بالعكس في وزارات أخرى . كيف شكلت أول وزارة عراقية ؟ أليس على أساس طائفي ؟ . الكل كانوا طائفيين سلوكا ووطنيين لسانا ، إلا المُجاهد التنويري علي الوردي الذي لم يقع في أحابيل هذه الخدعة المكابرة . كان في مؤلفاته كلها يعلن أننا طائفيون ، وأن مجتمعنا قائم على أسس طائفية ، وأن سياستنا طائفية ، وأننا إذا لم نحاول معالجة هذا السرطان بصورة علمية مدروسة تقوم أولا على الاعتراف بها كظاهرة فإنها سوف تدمر حياة الشعب العراقي ، وهذا ما حصل عبر أكثر من ثمانين عاما من حياة هذا الشعب .

الوردي هو المفكر العراقي الوحيد الذي جعل جزءا من موجّهات منهجه وسماته في الوقت نفسه الطرق المثابر العزوم على موضوعة " الطائفية " المقيتة . لم يستمع لصوته التحذيري أحد ، واستمر الجميع في سلوك النعامة هذا ، الذي أوصلنا إلى هذا الحال الكارثي بعد الاحتلال خصوصا .

لم يترك الوردي مناسبة – حتى الكتاب الذي لا علاقة مباشرة له بموضوعة الطائفية - دون أن يصرخ ليحذّر من الطائفية . في كتابه " أسطورة الأدب الرفيع " وهو كتاب يختص بالأدب كما نعلم وكما يعلن عنوانه ، يتحدث الوردي وفي أكثر من موضع عن الطائفية والنزاع الطائفي ، فيتناول في فصل غريب ومقطوع الصلة – في "المقالة الحادية والثلاثون : الضجة والمجتمع" – الفرق بين المصلح والمشعوذ فيضرب مثلا بالصراع الطائفي ، حيث يقول :

( أن فقهاء كل طائفة في الإسلام قد اعتادوا أن ينسوا عيوب طائفتهم ويركزوا على عيوب الطوائف الأخرى . فكان كل فقيه يهتف بالأفكار المطلقة لكي يتخذ منها سلاحا للدفاع عن طائفته وللهجوم على الطائفة الأخرى ، وكانت النتيجة أن نشأ نزاع خبيث يشبه نزاع القبائل البدوية التي تتغازى فيما بينها وتتقاتل دون أن يكون وراء ذلك فكرة جديدة تفتح عيون الناس ) .

ومثلما يتصنّع سياسيو البلاد في عهودها كلها بأننا غير طائفيين وبأن المجتمع يرفل بالأخوة الدينية والوطنية ويندهشون من شخص مفكر يطرح موضوعة غير موجودة للنقاش مثل الطائفية فقد استشرف الوردي مثل هذا الموقف " النعامي " . يقول الوردي :

( قد يعترض معترض فيقول : ما بالك تهتم بالنزاع الطائفي في الوقت الذي ينشغل العالم فيه بالقضايا الاجتماعية الكبرى التي لا يعد النزاع الطائفي تجاهها شيئا مذكورا !! )

ويجيب على اعتراض هذا المُعترض بالقول :

( نعم يا سيدي المعترض ، إن النزاع الطائفي لا أهمية له في العالم المتمدن ، ولكنه في هذا البلد الذي نعيش فيه له كل الأهمية . فالمتمدنون الآن منهمكون في أقمارهم الصناعية وقذائفهم الموجّهة ، وهم على وشك أن يصعدوا بها إلى المريخ ، بينما نحن لا نزال نتحدّث في موضوع المفاضلة بين علي وأبي بكر وأيهما أولى بالخلافة من صاحبه ) (463) .

# الطائفية ليست بين العامّة فقط بل بين النخبة المثقفة ايضاً :

--------------------------------------------------------

والمعضلة التي لا تقل خطورة عن تشخيص داء الطائفية في المجتمع والإعلان الجسور عنه ، هو الإشارة التعرّضية إلى حقيقة أن هذا الداء غير موجود بين العامة البسطاء حسب ، بل هو مستشرٍ بين النخب الثقافية التي تُناط بها قيادة هذا المجتمع وتغيير عقليته وضرب الأنموذج الصالح له في التعامل الإنساني المتسامح :

( ولو كان الأمر مقتصرا على رجال الدين لما أسلفناه ، ولكنه أمسى موضع اهتمام زمرة لا يستهان بها من المثقفين والأدباء . وليس من النادر أن ترى شابا يحمل الشهادة العالية وهو يدور في المقاهي ويرقى المنابر ليحرّض العامة على أمور طائفية ما أنزل الله بها من سلطان . وهناك مؤلفون يشار إليهم بالبنان ، ويتظاهرون بعمق التفكير وسعة المعرفة ، حتى إذا كتبوا في التاريخ نحوا فيه منحى علماء الكلام في القرن الرابع الهجري ) (464) .

وفي لمحة عابرة يقول أنه مرّ مصادفة بسوق الكتب فرأى كتابين صادرين حديثا : الأول من منشورات المكتبة السلفية لصاحبها محب الدين الخطيب في القاهرة ، والثاني من منشورات مكتبة أهل البيت العامة في بغداد . فلننظر ما يحتويه جوهر كل كتاب . الأول يحاول أن يثبت الإمامة لأبي بكر وعمر وأنهما أفضل من علي بن أبي طالب ، بينما يحاول الثاني إثبات الإمامة لعلي وأنه أفضل من ذينك الشيخين . يقول الأول : إن اتفاق كلمة المسلمين لا تتم إلا إذا خضع الشيعة لإمامة أبي بكر وعمر وأقروا بأن أصحاب رسول الله هم حملة شريعته وأمناؤها الذين أدوها إلى الأمناء من بعدهم ، فالصحابة كلهم عدول وإن تفاوتوا في العلم والمنزلة .

أما الكتاب الثاني فيقول : هذه عقيدة الشيعة الإثنى عشرية في الإمامة ، ونعتقد بأن لا سعادة للبشر وخاصة المسلمين منهم إلا إذا اتفقوا على ذلك فهي تدعوهم بحججها القاطعة وبراهينها الساطعة لغاية إسعادهم وإعلاء كلمتهم والله حسبنا ونعم الوكيل .

هكذا كانت الكتب ( الثقافية ) التي تتحدث عن الطائفية بشكل علني وصارخ يتم تداولها في أسواق الكتب في العراق ، هذا ينتصر للشيخين وذاك ينتصر لعلي بن أبي طالب . ثم نأتي ونتحدث عن أننا ملتحمون تحت خيمة الوطن وما يجمعنا هو الرابطة الوطنية ، في حين أن الموقف الطائفي يفرقنا كل يوم ويشتغل كالنار تحت الرماد .

وقد يقول قائل أن من أساسيات الحرية الفكرية والأنظمة الديمقراطية أن يطرح كل إنسان الآراء التي يقتنع بها بصورة علنية لأن الحرية الفكرية والدينية مكفولة لكل مواطن . ورغم أن الرد على هذا الرأي يسير إذ هناك تابوات فكرية حتى في أشد البلدان تقدما وانفتاحا ، فكيف بمسألة طائفية تهدد بتمزيق وحدة الشعب !! ألا ينبغي حضر طرحها علنا ؟ . ولكن هذه الأمور تُطرح بسبب عامل أشد خطورة وسيصدم رؤوس النعامة في مجتمعنا ، وهو أن الدولة العراقية طائفية منذ تأسيسها .

# حرب طائفية على الجواهري تصل إلى عصبة الأمم :

----------------------------------------------------

وهل هناك دليل أقوى من واقعة الجواهري الشهيرة التي ذكرها في ذكرياته . لقد وصلت محنة الجواهري الطائفية إلى عصبة الأمم المتحدة ( هل تصدّقون ذلك ؟ إذن أي بنية طائفية مقيتة كانت عليها الدولة العراقية ؟ ) . يقول شاعر العرب الأكبر :

( في بداية ما يُسمى بالحكم الوطني في العراق ، أي عهد الانتداب حين كان المندوب السامي البريطاني هو المسؤول عن العراق أمام عصبة الأمم ، وهناك تقرير منه عن واقعة قرعت بها أبواب العصبة وأنا في الرابعة والعشرين من عمري ، يقول فيه بالحرف الواحد :

( وفي هذه السنة كان الخلاف بين الوزير الشيعي ، يقصد به عبد المهدي المنتفكي ، وبين المدير السني ، يقصد به ساطع الحصري ، بسبب تعيين شاب عراقي ( يقصدني به ) معلما في مدارس العراق ) وتضمن التقرير إشارة صريحة إلى الفتنة ، أسبابها ، مقدماتها ، وخلفياتها) (465) .

ويذكر الجواهري عرضا أن الوزير المنتفكي كانت له وقفة مشهودة مع ( أنيس النصولي ) وهو مدرس مُنتدب من لبنان وأصدر كتابا انتقص به من منزلة سيد الشهداء الإمام الحسين ( ع ) . ويبدو أن ( ذنب ) الجواهري الأساسي هو أنه حيّا الوزير بقصيدة مطلعها :

حيّ الوزير وحيّ العلم والأدبا – وحيّ من أنصف التاريخ والكتبا

ويعلق الجواهري على ذلك بالقول :

( وقد نشرتها بعض صحف بغداد . ولم يخطر ببالي ، قط ، أنها ستكون الوثيقة الأولى بيد ( ساطع ) ومدخلا قويا لمعركة جديدة ينتصر بها ، وأن أكون ، أنا بالذات ، في هذه المعركة المفتعلة ، كبش الفداء ، من هذه الضحايا الباردة للأكثرية المسحوقة) (466) .

ولو انتبهنا إلى ما ذكره الجواهري عن كتاب النصولي في الانتقاص من الإمام الحسين ، فسنجد دليلا مضافا يؤكد رأي الوردي عن أن الثقافة العراقية كانت تشهد إصدارات طائفية بلا رادع من الدولة وكأن من ضمن الحرية الشخصية أن تؤجج نيران الطائفية في نفوس المواطنين وهو الأمر الذي يضعف الرابطة الوطنية ويدمرها .

وفي محنة الجواهري ما هو أعجب ويتمثل في الاستمارة التي سُلّمت له ليقوم بالإجابة على أسئلتها لمنحه الجنسية العراقية . يقول الجواهري :

( كانت استمارة بتعداد المذاهب والأديان والجنسيات وفيها أكثر من عمود يحمل تساؤلا ( هل أنت عراقي ؟ ) مفهوم أنني عراقي ، ثم بالحرف الواحد : هل أنت مسلم ؟ . والمفاجأة الأخرى التي توقفت عندها بأكثر من غيرها : هل أنت شيعي ؟ هل أنت سني ؟. تسلمت الأوراق وفجأة وبكل بساطة كتبت مستهزئا وساخرا بأكثر من تساؤل وعلى سبيل المثال ، سؤال : ما هي شهادتك المدرسية ؟ كتبت شهادتي ( لا إله إلا الله ) . كما أجبت على سؤال عن شيعيتي ، أجل أنا مسلم ، وعن سنيّتي بمثلها . أجل أنا مسلم . وعن عراقيتي أجبت أنني هندي) (467) .

ولا يتردد الجواهري الشجاع والتعرّضي مثله مثل الوردي في القول إن السلطة استمرت تلعب لعبة الطائفية في العراق ، وتشد الأوتار ، في هذه اللعبة المفضوحة . وفي عهد ( عبد السلام عارف ) بدأت حملة استهدفت إفراغ العراق من أبنائه الشيعة قدر الإمكان . وأقول هذا لأجل الحقيقة وإدانة لهؤلاء الناس الذين لا يكفّون عن زرع هذه السموم في هذا البلد ) .

وقد قدم الجواهري تحذيرا واضحا من حتمية انفجار الصراع الطائفي المكبوت الذي يغلي في النفوس حيث قال :

(( إن الأحقاد التي أثرتها في مجتمع يضم وجوها وجدت لتكون حاقدة ، بل معبأة بالحقد وبالعنصرية والشوفينية البغيضة وبالنعرات الطائفية المنكرة ، أحقاد تغلي ولابد من أن تظل تغلي وتغلي في الصدور ، وإنها تنتظر يوم انبعاثها من مكامنها وتفلتها من عقالاتها)) (468) .

# طائفيّتنا اسوأ من طائفية مسلمي القرن الرابع الهجري :

------------------------------------------------------

ينتقل الوردي إلى تشخيص عجيب وموجع لنفاقنا الطائفي ، والذي لا يرقى حتى إلى سلوك أهل القرن الرابع الهجري الذين نعدهم متخلفين قياسا إلينا نحن أبناء القرن العشرين " المتحضّرين " . فقد كان أهل القرن الرابع الهجري يعلنون عن نزعاتهم الطائفية بلا تردّد ويتصاولون بها من غير تكتم . في حين أننا اعتدنا أن نضمر الطائفية في أعماقنا ثم نتظاهر أننا بريئون منها . وهذا ما حصل في كل عهود العراق – ملكية وجمهورية – ويحصل الآن بشكل سافر مخادع :

( وحين يستمع الغريب إلى خطبنا وأحاديثنا الرسمية يخيل إليه أننا من أبعد الناس عن النزعة الطائفية ، ولكنه لا يكاد يتغلغل في الأعماق حتى يجد تلك النزعة كامنة هناك تعمل بصمت وحذر . وقد اعتاد أبناء الطائفة الواحدة أن يتحدثوا فيما بينهم بغير الحديث الذي يتحدثون به حين يجتمعون مع غيرهم . ولا يكاد يدخل عليهم رجل يخشون منه حتى يتحوّل حديثهم فجأة إلى موضوع المثل العليا وما يجب على المرء أن يفعل في سبيل الله والوطن ) (469) . 

تنطلق رواية "هدوء القتلة" (2008) للكاتب المصري طارق إمام من أولى عتباتها النصية -العنوان- إلى انبثاق نصي عجائبي وغرائبي لا يخلو من الواقعية السحرية من أرضية لغوية واحدة، تحمل عموما دلالة الغموض وعدم المألوفية لدى المتلقي.

ما نعرفه أن هذا النوع من الأدب قد برز بشكل واسع في الرواية الغربية، ليمتد بعد ذلك إلى الأدب الاسباني وأدب أمريكا اللاتينية كما نجده عند الكولومبي غارسيا ماركيز، الأرجنتيني خوليو كورتاثار، المكسيكي كارلوس فوينتس والبيروفي فارغاس يوسا  في العديد من مؤلفاتهم الأدبية العالمية أين يتشابك فيها الواقع والفانتازيا إلى حد تشكيل عالم فريد من نوعه.

بطل "هدوء القتلة" يدعى سالم وهو مجرد موظف بسيط في الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يستهويه القتل وكتابة الشعر في آن واحد، كما أنه يعشق لذة التوحد مع ضحياه أثناء قتلهم بهدوء مفتعل كما نقرأ ذلك على لسان السارد: (بيدي اليمنى أصافح أعدائي، وأمنح التحية لكل من أكرههم، وأقتل من لا أعرفهم. يد تحمل آثار ملايين الأشخاص في راحتها: خليط روائح ولزوجة عرق وعطور ودماء.. بخلاف اليسرى، النقية: يدي التي لا تحمل سوى رائحتها ولا تصافح سوى الهواء الملاصق لمدارها.) ص 17.

لقد عرض طارق إمام بنية شخصياتية شغلت مسرح الرواية ببراعة، أين تتمركز حول بطل القصة سالم وضحاياه كحبيبته سلمى، هناء الصحفية، الاسكافي ليل، جابر عبد السلام، الجارة سوسن، إضافة إلى شخصيات أخرى قد شغلت أجزاء من المسحة الروائية الأساسية.

ما يمكن أن يلاحظه القارئ هو التوصيف الكمي لظاهر شخصية سالم، التي ستدفعه حتما إلى استنتاج سمة الواقعية والغموض لملامح هذه الشخصية، من حيث تكوينها الخارجي وردود أفعالها: (فبامتداد صدري وبطني وذراعي، والحال نفسه مع ظهري، كانت تحيا الأيقونات وسطور الشعر التي توالت في أزمنة عديدة، ليحتل كل منها مكانه الأبدي، كأنها ندوب، في خريطة نصفي الأعلى. أحببت دائما أن يكون جسدي مثل ورقة مكتوبة بحبر باهت. ذلك يجعلني راضيا بشكل ما، رغم أنني أضطر لارتداء قمصان مقفولة ذات أكمام على الدوام، وداكنة، كي لا تنجح عين فضولية في اختراقها لمشاهدة ما تخفيه.) ص 27.

الهدف الرئيسي للبطل هو كتابة ديوان شعري ليهدي بدوره كل قصيدة منه لقتلته، وهي فكرة عجائبية في الأساس كما نقرأ ذلك فيما يلي:

 (ستجد الشرطة أسماء القتلى في صفحة الإهداء وكذلك بامتداد القصائد كل قتيل يحيا في قصيدة، وسيصلون إلي بسهولة وهذا بالضبط ما أريده. ستكون مهمتي في هذا العالم قد انتهت بخروج الديوان للوجود. ستموت يدي اليسرى واليمنى التي قتلت.) ص 20. هنا في هذا المشهد يتداخل ما هو طبيعي بما هو غير طبيعي فجاءت الشخصية أشبه بخليط من التكوين الإنسي وغير الإنسي المفتعل لجريمة القتل.

أول ضحية تقع فريسة لمطواة سالم هي صاحب محل التصوير، والذي يدور بينهما حوار طويل في أول لقاء، ثم يعود سالم مرة أخرى لزيارته بعد أيام معدودة، لينتهي ذلك بموت المصور الفوتوغرافي: (ثوان معدودة قضيتها بعد أن ارتاحت جثته على الأرض. بعدها خرجت وأغلقت باب الغرفة بهدوء. عبرت الغرفة الخارجية إلى الشارع، وكان هدير الشاحنات لا يزال يطن في أذني.) ص 34.

يواصل سالم رحلة التربص بضحاياه لقتلهم، ومن بينهم تلك الصحفية هناء القاتلة هي الأخرى، وذلك نزولا عند رغبة ذلك الناسك الذي دون كل ذلك في مخطوطة قديمة، وكأنها كتاب مقدس يجب أن يرضخ البطل لكلام صاحبها: (يكاد الفضول يقتلها لأطلعها على المخطوط، لأحكي لها حكاية الناسك، أو لتقرأها هي لتعرف من ستكون ضحيتي القادمة. لا تصدق أن مخطوطا مهترئا يحدد حياتي، أن حفنة حكايات في مجلد مصفر قادرة على أن تجعلني أحمل مطواتي وأقتل شخصا وحيدا في كل مرة لأخلص قطعة جديدة من روحي.. لأكتب قصيدة جديدة في ديواني.) ص 105.

يستمر بطل "هدوء القتلة" في رحلته العجيبة لاصطياد فرائسه، بكل ما فيها من أحداث غريبة، كما حدث مع تلك البائعة الفقيرة في محل الورود حيث منعته من التدخين: (منحتني باقة الورد وهي تهش بيديها على أنفها، لا أعرف هل بسبب سحابة الدخان التي تحمل أنفاسي في سماء المكعب الزجاجي أم بسبب عطر هو جو النفاذ الذي يغرق جسدي مدعوما بمزيل عرق آكس على جسدي الموشوم وبجيل بالمر الثقيل على شعري الغزير الثقيل الناعم؟) ص 54.

يتواصل هذا المشهد الواقعي الذي بات يشاهده المتلقي في دولنا العربية كثيرا، أين يتشاجر سالم مع تلك البائعة بخصوص ورقة نقدية، وما نلاحظه أن طارق إمام يستعين في روايته إجمالا بتقنية الحوار بنوعيه الداخلي والخارجي كما جاء في هذا المثال: (كام؟

اتنين وتلاتين جنيه إن شاء الله.

مددت يدي بأربعين جنيها، ورقة بعشرين وورقتين ب "عشرة"

- ما فيش فكة؟

قالتها وهي ممسكة بورقة ب "عشرة" بعد أن وضعت الجنيهات الثلاثين في درج المكتب.

لا والله.

- خلاص يبقالي.

ومدت يدها بها لي.

تمنيت في هذه اللحظة أن أقول لها: طيب هاتي الجديدة وخدي القديمة.

الفتاة بخبث شديد – وربما أيضا دون أن تقصد وضعت الورقة الجديدة الملساء في درج المكتب، وأعادت إلى الأخرى، القديمة المهترئة، التي دسستها بين الورقتين كي لا ترفضها أو تنتبه لها.) ص 54-55.

يحيط الفضول دائما بسالم ليكتشف شخصية ضحاياه قبل قتلهم، كما هو شأن جابر الذي حاول أن يريحه من عذاباته كما جاء على لسان السارد: (دسست مطواتي أولا في ساقه الوهمية فصرخ وانتفض جسده. عندما وجهت طعنتي الثانية إلى ساقه اليمنى، المعذبة، وسالت الدماء غزيرة منها، أغلق عينيه متوحدا. فكرت أن أعطيه المطواة وأقول له هيا.. جرب يا جابر الآن.. كفكف دماءك ووجه طعنة ليدي اليسرى ثم أخرى لليمنى. أريد أن أعرف أيهما ستؤلمني أكثر.) ص 19.

لقد وظف إمام المنولوج كتقنية أساسية في سرد حيثيات قصة البطل وشخصيات "هدوء القتلة" بالانتقال من عالمهم الخارجي إلى عالمهم الداخلي، ويظهر ذلك في الاستشهاد التالي: (سأكون أنا القتيل تقتلني اليمنى وتكتب اليسرى بدمي. اتفاق ممتاز. بدلا من الشجار اليومي. لعلهما ستشعران ذات يوم أنني أب يفرق بين ابنتيه. وأن الحل كان أمامهما طيلة ثلاثين عاما وأدارتا وجهيهما عنه بنبل غير مبرر.) ص 74.

هناك سمة أخرى سيستغرب القارئ حتما وجودها في شخصية سالم القاتل، ألا وهي الخوف ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المقطع السردي التالي، أين يتخوف البطل من الضاحية التي يقطن بها كونه يتوه بولوجها: (طالما أخافتني هذه الضاحية رقعة شطرنج هائلة.. شوارعها مستقيمة ومتقاطعة، بلا أسماء. كل شارع تم اختصاره في رقم مكتوب بوضوح على لافتة زرقاء. تقطع الشوارع صفوف أشجار مهذبة متساوية القامات في منتصف كل شارع. آلاف التوائم من الكائنات الناحلة تؤكد التيه.) ص 41.

يعود بنا البطل لمشهد قتله لسلمى حبيبته زوجة ضابط المباحث، حتى أنه يشارك المتلقي بعضا من ملامح هذه الشخصية، وهذا ما يظهره حديث سالم عنها: (سلمى تموت من الرعب بينما تجلس في سريرها عارية، ليس لأنها تعرف أن طعنتي ستنفذ في قلبها بعد قليل. ولكن خوفا من دخول غريب: لص ممن يؤرقون هدوء الحي الراقي كل فترة ويكون ضحاياهم في أغلب الأحيان – سيدات في منتصف العمر. تخاف سلمى أن يقتلها عابر ضد إرادتها، دون أن تكون اختارته.) ص 67.

يباغث الموت سالم حتى في أحلامه، حيث شاهد جارته سوسن وهي تموت في غرفته، تلك المرأة التي دوما تتجاهله كلما لمحها في البلكونة، وهذا ما نقرأه من خلال المقطع السردي الآتي: (رغم ذلك لم يوقظني الألم، بل حلم غامض رأيت فيه سوسن، جارتي، المرأة الوحيدة الطاعنة، تلقي بنفسها من شرفتها.. ولكن الهواء.. وبدلا من أن يسقط بجسدها إلى الإسفلت حملها باتجاه شرفتي حيث حطمت النوافذ لتموت على سريري. استيقظت متبردا.. لأكتشف أن زجاج النوافذ مهشم غير أن هناء لم تكن على سريري.) ص 73.

جاء الحوار مطولا بين البطل وشخصية ليل التي تعتبر ضحية أخرى من ضحاياه، كما نقرأ في هذا المقطع: (ستسألني من جديد يا ليل لماذا تقتلني؟.. لا أعرف على وجه الدقة ولا أريد أن أعرف.. ولكنني على يقين أنك لا بد أن تقتل كي أخلص قطعة جديدة من روحي.. قطعة تمتلكها أنت، تحيا بين يديك هاتين. لأنك تعرف جانبا من السر. لأن الناسك قال إنك لا بد أن تذهب. سأخلص روحي وأخلصك.) ص 75.

كما يمكن إضافة مشهد آخر كتبه طارق إمام زيادة في وتيرة التعجيب، حيث جعل سالم يتساءل بينه وبين نفسه عن نهاية تلك المانكينات التي كان يشاهدها على الدوام قابعة خلف زجاج الباترينات: (الأهم أن أفكر في المصير المجهول الذي تواجهه تلك الكائنات البلاستيكية عند موتها.. حين يجيء موعد إزاحتها ليحتل مكانها جيل جديد، بابتسامات أكثر إتقانا وعيون حرص صانعوها على أن يمنحوها لمحة حياة تبدو حقيقية. إلى أي مقابر تتجه حينها؟..) ص 43.

في الختام، يمكن القول أن رواية "هدوء القتلة" عبارة عن مشروع أدبي كتبه المصري طارق إمام بجملة من المثيرات السينمائية التي توظف لصالح التكنيك العجائبي، تعرض ببراعة خلال العملية السردية كل ما له علاقة بمفارقة الواقع، كما تجعل القارئ يعيش أحداث الرواية وفق خلفية فلسفية وفانتازية لعالم يقوم على فكرة القتل.

المصدر

(1) طارق إمام: هدوء القتلة، دار ميريت، 2008.

*كاتب وناقد جزائري

clip_image002_efc88.jpg

صدرت رواية معيوف للكاتب عبدالله دعيس قبل أسابيع قليلة، عن دار الجندي للنّشر والتوزيع في القدس، تدور أحداث الرواية حول رضوان الشخصية المهزوزة، والضعيفة، التي تعاني من اضطرابات عقلية واضحة، تقاذفته الرياح كالريشة من مكان إلى آخر، ومن بلاد إلى أخرى، يحاول الهرب من ماضيه وعائلته ليجد نفسه في أمكنة وواقع أشدّ بؤسا مما كان عليه،

لم يكن رضوان الشيخ بطل الرواية إلا بطل وهمي ضعيف قاده ضعفه وتردّده إلى حياة رمادية يسودها الظلم، والخوف.

يبدأ رضوان رحلة الصراع مع الذات حين يلتقي بأحد أقربائه العائد من أمريكا بثروة طائلة، ويساعده بالالتحاق بالمدرسة الرشيدية في القدس، وهناك يتلقي بمعلمه صالح النوباني الذي عمل هناك بعد ترحيله من البلدة، صاحب المبدأ والمرشد له، ويعجب بشخصيته أكثر فأكثر فيصبح قدوته، أما عبدالله الذي أصبح يأخذه الى يافا ومقاهيها حيث الترف والبذخ وحياة التجار والمدن الساحلية، فقد كان جل همه جمع المال وتوسيع أعماله فقط، لكن رضوان يجد ملذات قلبه هناك في يافا، فيري الأمر ممتعا في البداية، وليكتشف أن "أبا حمار" البائع المتجول في القرية كان يرتاد المقهى وصديق عبدالله في التجارة، ولكن بثياب أخرى، ويتضح بعد ذلك بأنه يهودي يقوم يخداع الناس؛ ليشتري الأراضي البور لصالح الوكالة اليهودية، وبناء المستوطنات، ولا يحرك ساكنا حتى بعد أن وصل أبا حمار، أو يعقوب صمويل إلى عقر داره، فيخدع عمّه الذي اتّهم بالخيانة وبيع أرضه لليهود ليموت قهرا. نجح الكاتب في أن جعل كلتا الشخصيتين بداية صراع لا ينتهي داخل معيوف، بين قناعاته ورغباته وبين مبادئه وتردّده.

منذ طفولته كان ضعيفا هزيلا تائها، فيبدأ بنكران العادات والتقاليد السائدة في ذلك الوقت والتنكر لها، دون أن يجرؤ على البوح بذلك، ويجد نفسه قد تزوج خضرة ابنة عمه التي تكبره بعدة أعوام رغما عنه وعنها، بأوامر من عائلته، فيبقى صامتا معذبا إلى أن تنجب خضرة طفله الأوّل عزام، وحملها بطفله الآخر عدنان فيقرر الهرب .

يسرد الكاتب روايته بأحداث تاريخية متسلسلة على لسان "الراوي"، فيصف عاداتها وتقاليدها ودور المرأة القوي في تلك الحقبة، حيث ساهم في تعزيز صمود أهل القرى في عهد الاحتلال البريطاني، فكانت المرأة تقوم بالزراعة والقطف وبيع المحاصيل في الأسواق، ويبدع أيضا بوصف معالم المدينة بجبالها ووديانها وأعيادها الموسمية وشهامة أهلها وبساطتهم .

رغم عمق الفكرة وسلاسة السرد، لم يقنعني بالأحداث والأدوار، وبالشخصيات الثانوية في الرواية، فوصل بعض الأحيان إلى المبالغة الكبيرة في التلاعب بتلك الشخصيات في الرواية؛ ليعيدها جميعها بعد اختفائها، فبعض الأحداث لم تكن مقنعة إلى حدّ ما، كالتقاء رضوان بأخيه مصطفى الغائب منذ ثلاثين عاما في أميركا في أحد الشوارع، حينما كان يبيع الساعات المقلدة.

وبعض الأحداث أيضا غاب عنها المنطق مثال صفحة 134 .

فآخر مكان تواجد فيه رضوان قبل أن يغيب عن الوعي حسب ما ذكر، كان " العلية"، وكان مضرجا بدمائه التي لم يوضح لنا سببها، لنفاجأ في  صفحة 136 بأنه استيقظ وهو في المستشفى الفرنسي، وعلى ما يبدو أنه مكث به طويلا حتى توطدت علاقته مع الراهبات، اللواتي حاولن طرح الأسئلة عليه وكيف جاء هنا؟ أي لم يقم أحد من عائلته بزيارته، أو لم يوصله أحد من عائلته إلى المستشفى؟ ولنفترض جدلا أنه سقط في طريق البلدة، فهل يعقل بأن يتجاهل الكاتب المارة من أبناء القرية الذين يعرفونه هناك؟ والطوق الأمني الذي فرضته القوات الانجليزية على البلدة؟

وإذا ما تمعنّا جيدا في محاور الرواية، سنجد أن الكاتب أوجد أكثر من مطب أو عقبة في كل مرحلة من المراحل التي عاشها معيوف، مبالغ فيها إلى حد كبير، وغير مقنع البتة، ولاسيما أثناء هروبه من بيت حنينا، وتنقله بين الناس دون أن يعرفه أحد، أو يسأل عن عائلته وأصله،  أو حقيقة هروبه، وكأنها بلاد أخرى، فالقرى المحاذية للقدس لا أعتقد أن  أهلها غريبون إلى هذا الحد عن المدينة، والعكس صحيح، ويعود الكاتب ليناقض نفسه وبالدليل ..صفحة 300 . حين تعرف رضوان على شاب في أمريكا، تردّد بقول اسم قريته إلا بعد أن تفكير عميق متسائلا:" ما الفرق إن قلت له من القدس أو من بيت حنينا فهو من ترمسعيا" .. وهنا يعرف الكاتب بشكل أو بآخر أنه لو كان هذا الشاب من القدس لأخفى عليه الحقيقة! فإن عادات أهل القدس وقراها بالسؤال عن الغرباء، والتحقق منهم، فكيف بغريب يعيش بينهم قرابة العام؟ وكيف  يصبح رضوان بشكل مفاجئ مجنونا، ومن ثم متصوفا، ومن ثم أستاذا، وبعدها يعود لاستكمال دراسته في مصر، وبعدها مقاتلا ضد العدو؟

يبني رضوان أفكاره من خلال تعرفه على تلك الجماعة، وانتمائه إليها، وهنا يبدأ بأخذ واجهة حقيقية في حياته، وسرعان ما ينهار هذا كله أثناء لقائه أولغا فتاة الدير، التى كانت تعمل على متن الطائرة كمضيفة" ولا أدري لماذا تذكرت مارتا في رواية عزازيل للكاتب يوسف زيدان التي تعلق بها هيبا لشدة جمالها، وينتهي المطاف بهروبها من الدير، فلم تكن هي أيضا راهبة بل هاربة من تقاليد المجتمع" التقى رضوان بأولغا في دير اللطرون، وكانت الأخرى هاربة من عائلتها في ريف حماة، وهربت بعد أن شاع بالدير خبر حملها، وتقوم هي بدورها بغوايته وتجرده من مبادئه، فيعود ويستجمع قواه بعد عراك طويل مع ذاته المتأرجحة والخائفة، ليعود إلى الانتماء مجددا للجماعة، ويتعرف على حسين في جامعة  القاهرة، ويقاتلان جنبا إلى جنب الاحتلال الاسرائيلي في سيناء، ويسقط مرة أخرى أمام ضعفه وتردده، فلا يقوى على حماية حسين من الموت، ويعود مجددا حبيس تردّده واضطراباته .

يجد الكاتب في كل مرحلة من حياة معيوف نهاية تراجيدية بطلها الهرب أو السجن، وينتقل  بنا من محطة إلى أخرى، وكأن شيئا لم يكن، ويعود ليتلاعب بالشخصيات الثانوية بشكل لافت، ويعيدها إلى الرواية فيلتقي رضوان بأخيه مصطفى في أمريكا،، وهو يبيع الساعات المقلدة هناك، ومصطفى هجر القرية أكثر من ثلاثين عاما، ويتعرف عليه ويجد له عملا ببيع القماش في شركته الخاصة، فيبدو الأمر غير مقنع لدى القارئ  ..

تعرف رضوان على "محمود العفن" تلقائيا حين زار قريته بيت حنينا، وهو بالمقابل لم يعرفه، يهرب بلا أوراق ثبوتية وبطاقة تعريفية، ويتعلم ويصبح أستاذا، ويسافر للدراسة في مصر وأمريكا فأي منطق هذا؟

وأتساءل كيف يتجاهل الكاتب الاعاقة السمعية، التي أصيب بها رضوان في المدرسة الابتدائية، إثر ضرب الاستاذ له على أذنه؛ مما أفقده السمع في أذنه اليسرى .. وكأنها لم تذكر، فهل يعقل أنها لم تشكل عائقا ولو بسيطا في حياته؟ وكيف استطاع بعقليته المضطربة وعمله وتواجده في المساجد، وانتمائه السياسي، وذهابه للبيت، ويستحضر خياله وفتاته الافتراضية "لطيفة" إلى أن يغلبه النعاس بسرعة، بأن يكون متفوقا في دروسه إلى هذا الحد كما ذكر؟

يستطيع القارئ أن يضع احتمالين للنهاية بكل سهولة قبل قراءتها، إمّا أن يلتقي بخضرة وأولاده، وإمّا أن يعود لبؤسه وخيبته، ففي كل مرحلة نهاية لا تحتلف عمّا قبلها .

ربما نستنتج أن رضوان لم يكن يعاني من اضطرابات عقلية فحسب، بل من انفصام جعل منه شخصية ازدواجية بلا وجه حقيقي.

أطاحت بمبادئه أوّل امرأة جميلة التقى بها، فهو يتشكل حسب الزمان والمكان، وحتى في انتمائه وعقيدته كان مشككا، يأبى التفكير خوفا من الالحاد، يترك عائلته دون الشعور بالذنب، يتخلى عن أصدقائه في ساحة المعركة، ويفر هاربا أو يقف متفرجا، كما وقف أمام " يعقوب صمويل" الذي اشترى أرض عمّه؛ لتقام عليها مستوطنات، وهذا يعني أن خياناته أكثر من بطولاته إن وجدت، أوليس الصمت والهرب خيانة كبرى أيضا؟ وحتى النهاية لم تخلُ من الانفصام، فنجده ينادي بالمقاومة والأمل، ويلوم الناس على اتهامه بالخيانة، ويحلم بمدينة فاضلة يسودها الطهر والعدالة، ويبقى السؤال كيف استطاع الكاتب جمع تلك الشخصيات في شخصية واحدة بهذه البساطة، دون أن يراعي عقلية القارئ والمنطق؟

clip_image002_d156d.jpg

إذا ما كانت الرّواية تستدعيك وتلح على قراءتك النقديّة لها، فذاك يعني أنها جد مؤثّرة، معبّرة، مصوّرة وآسرة لمُتلقّيها القارئ. كما أنك حقًا استمتعت بواقعيّة وعمق أسرار مضمونها، وحُسن آليات شكلها ولغتها، فتتولّد لديك رغبة أكيدة للغوص في أغوار دلالاتها، وسبر طيّات رموزها الدّفينة، وتكون متعطّشا لاستكشاف هذا المنتوج الفكري والإنساني. لن ننسى مقولة الجاحظ بأنَّ الأفكار كلّها موجودة في الطّرقات، لكن الأديب المقدسيّ "عبد الله دعيس" كان متميّزا في سبكها بذوقه، ووضعها في قالب تهوي بها القلوب جمالا وبلاغة. فبعد روايته "لفْح الغربة"، إستمرّتْ الأفكار تعلو قلم أديبنا لتستقطبها أوراق رواية جديدة، تلثم حروفها، تتعانق وكلماتها، وتُعطّرها لنا روحه الغنيّة. فكانت "معْيوف" رواية صادرة عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، والتي تقع في 388 صفحة من الحجم المتوسّط، ويحمل غلافها لوحة الفنّانة التّشكيليّة "جيهان أبو ارميلة".

سأدخل مباشرة من العتبة العجيبة التي تفتح الباب على مصراعيه وتجعل المرور يسيرا إلى سرداب هذه القراءة. إنه العنوان "معْيوف" منارة في شط بحر القارئ، وطُعم متمكّن جاذب له، فيأسره للاهتمام كليّا. هكذا لقّبته أمه، ويعني أنْ يعافه النّاس ولا يقتربون منه خوفا عليه من الحسد. وقد وُظِّفَ لشخص "رضوان الشيخ" المصابة باضطراب الإرادة والتّحكم بين الذّات وبين العالم. شخصيّة تنتابها صراعات فِكريّة، دائمة التّعاسة، تعيش بين المثاليّة والعجز، وذلك من عمر المهد إلى اللّحد في حكايات متتالية، تتصدّع لها القلوب شفقة ورحمة. صفعته الحياة، وتنقّلت بجسده وما يحمل من هموم لا طائل لها، فجابت به بلدان وشعوب، تارة يهتدي إلى سبيله، وتارات أخرى تسرقه أفكاره المتضاربة العجيبة، أو تهوي به إلى أسفل سافلين ودربَ مَن مسّهم الجنون، ولحست عقولهم الخيانة العربيّة، وسذاجة وتخاذل الكثيرين من شعبه.

إنَّ زمان النّص يُعَدُّ كتوأم للمكان، وإن كنّا نُدرك بالعقل ونلمس آثاره، فقد حدثت هذه الوقائع في نهاية العهد العثماني الظالم وبداية الإنتداب البريطاني الأشدُّ ظُلمًا على فلسطين. أمّا السّارد هنا فيوظِّف تقنية استرجاع ما حدث في رواية اجتماعيّة سياسيّة، ظهر فيها الزّمان والمكان منسجمين، وقد خدما بقوّة الحكي والمعاني والدلالة. كانت نشأة "رضوان المعيوف" في قرية "بيت حنينا" الواقعة شمال غربي مدينة القدس في مجتمع يؤمن بالخرافات والخزعبلات وقادة الشّعوذة والدّجل، والتي بدورها أثّرت على مسار حياته. أُجبرَ على الزّواج المُبكّر فكان له ولدان، إلاّ أنه ترك القرية هاربا لوحده دون سابق إنذار، مخلّفا وراءه كل ما يملك. هنا سطّر الكاتب من خلال روايته تفاصيل آلام رجل مُشرّد، يدّعي الجنون، مهمّش، يئنُّ شجنا ورفضا من المجتمع، وعزلة تتبعها لعنة قاتلة. توغّلَ "المعْيوف" في الحياة، وخاض تجارب تعرّف فيها على أماكن ورجال ونساء، أحبَّ وعشقَ وسار في خطّين متوازيين، قدمٌ في الجنّة وأخرى في النّار. والكاتب يبرز لنا جليّا مدى احتدام الصّراع الدّاخلي لدى بطلنا، وتوالي أزمات النّفس المعذّبة، إذ يعاني أمرّ الأوضاع الإجتماعيّة والنّفسيّة.

عاش "رضوان" حياة متناقضة جدا، فأحيانا يكون ذلك الثائر المغوار الذي يحيا طريق الإيمان واليقين، وأحيانا أخرى ينهزم أمام المغريات والشّهوات. ويبقى عنده حساب النّفس من أصعب مشاق الحياة، فيدخل في اكتئاب مصيريّ يخرجه عن وعيه. التردد داخل شخصيّته تقوده إلى حيث لا يشاء، كما أنها تثير الغضب، وتوقد نيران الحيرة داخل القارئ. الكاتب "دعيس" لم يتوانَ في تبيان ذكاء رضوان، فهو مَن عرف عدوّه "يعقوب صموئيل النّجار" اليهودي الأصل الملقب بأبي حمار، الذي كان  بائعا متجوّلا في قريته، لكنه كان يشتري الأراضي هناك لتكون بعد ذلك مستوطنات صهيونيّة! كان يرى الحقيقة بعينيه ويعلمها، وبإمكانه أنْ يغيّر مجرى الأوضاع والأحداث. أمّا أصابعه المرتجفة، فقد منعته من الضّغط على الزناد في أكثر الأوقات حاجة، ولسانه الذي ينعقد عن الكلام في أحرج المواقف خطورة، وأفكار وهميّة تباغته وتتغلّب على ما يضمره قلبه من نوايا طيّبة. بيدَ أنَّ امتهان الصّمت عنده كمن يعترف بجرم لم يقترفه، وبالتالي أوْدى به إلى جحيم الدنيا والسّجن خلف القضبان سنين طويلة جدا.

لا يخفى علينا الجانب الجماليّ والفنيّ، فالرّواية خطاب أدبيّ وفكريّ. فبعد وفاة أمه، خلق لنفسه أسطورة يعيشها فقط في خياله وجوفه، ويستمتع فيها للحظات ولا يُطلع عليها أحد. "لطيفة" بطلته القريبة البعيدة الموجودة في عالمه الخاص، يحِنُّ إليها ويستحضرها كلما عانى الوحدة والحزن. وبقيت شخصية "رضوان" لسان حالها كما رسمها لنا الكاتب، يلدغها الإحباط، يفترسها الخذلان، ويشملها الظلم في كل الأرض. روحه متعبة وتلوكه ألسنة المجالس دون اكتراث بحقه وحتى الشّعور بشيخوخته. أمّا الحبكة في الرّواية فكانت تماما ككرة الثلج المُتدحرجة، تكبر مع مرور السنين، بحيث أبقى أديبنا تلك الغصّة في القلب حين ترك "رضوان" عائلته ولم يعُد إليهم من الموت، مع أنه كان قريبا منهم، وقد وَهَنَ العظم لديه واشتعل الرأس شيبا. الكاتب اختار وبأسلوب شيّق، السّرد الرّوائي مع بعض الحوار بين الشّخصيات دون حشو أو ملل في النصوص الكثيفة، ونجح كذلك في تأجيج العاطفة في خاتمة الرّواية، فقد أثقلت الحكايات كاهلنا، وحبست دمعتنا، وزادت من وتيرة خفقان قلوبنا.

أحسن الأديب المقدسيّ "عبدالله دعيس" ربط الجمل بالمعاني وتحاشى التّصنّع، كما كانت عيناه كاميرا متحرّكة في كل الإتجاهات، تلتقط وتترجم وتقارن المواقف، وتكتب ما يبدو على ملامح الأبطال، بل تخترق دواخلهم أيضا، وذلك ببساطة لا متناهية وإنسيابيّة متدفّقة وتسلسل متين. لو كان هناك مَن يحمل الشّعلة ويضيء لغيره طريق الصّواب والحق والعيش الكريم، وكان هناك مَن يقدّم المساعدة في انفتاح التّفكير والبحث عن الحقيقة، لكنّا أسياد هذا الوطن آمنين مطمئنين.

المزيد من المقالات...