تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً

سفرة المحبرة:

العودة المباركة إلى أحضان الموت

---------------------------------

(                  إن تكنْ خالقَ هذي الأرضِ

        يا ربُّ ، كما

                   قالَ الملاكْ ،

                   أين يداكْ ؟

                   كلّ

                   يومٍ ،

                   تدخلُ الأرضُ التي يدعونها مريمَ

        في مجزرةٍ . لا شيءَ

                   إلّا المجزرهْ !

                   لا

                   ولا سيرةَ إلّا

                   ما روتهُ المقبرهْ . ) 

قسم "سفرة المحبرة" هو القسم الختامي من ملحمة محبرة الخليقة ، يستهله الشاعر بالعودة إلى أرض الحقائق ، لكن عبر التصوير الشعري لحالة الخيبة العارمة التي تجتاح كل كيانه ، وهو يقف الآن على أرض المحطة الأخيرة ليراجع هذا السِفر الطويل الهائل والشاسع والمنهك الذي يسمونه تاريخ الخليقة .

انطلق بنا الشاعر من لحظة الخلق البدئية حيث الغمر وروح الله التي ترف على وجه الماء ، وسرنا مع الإنسان الشاعر في رحلته المريرة عبر دهور وعصور وقرون ؛ رحلة مرعبة مليئة بالمرارات ، والخسران ، والجراح ، والإنكسارات ، والصراعات المتأججة المخيفة ؛ صراعات تدور أصلاً في أعماق الإنسان المظلمة ، لتُسقَط على أرض الواقع السوداء فتزيدها عتمة وقتامة وخراباً ، حتى صرنا مقتنعين مع الشاعر بأنّ الإنسان هو داء هذه الأرض ، والكارثة أننا لا نستطيع إكمال العلاقة المزدوجة المتناقضة المتبادلة التقليدية ونقول : (ودواؤها) . إنه داء هذه الأرض الذي يفتك بروحها ، ويقطّع جسدها ، ويصلبها كلّ لحظة ، وها هو الشاعر الذي عاش قصّة خليقته في صراع مع الله وممثله الذي لا يرحم : الموت ، مشرعاً دروع أوالياته النفسية الدفاعية من شتى الأشكال ليذود عن ذاته المنجرحة سهام المثكل المسمومة التي لا تُخطيء ، يجد الآن – وفي ختام هذه القصّة ، وبعد أن جفّت المِحبرة ورُفعت الأقلام كما يُقال – في الموت ملاذاً .. صار الموتُ البغيض حلّاً :

(                 ليتَ ليْ راحةَ ميتٍ ،

                  في سريري

                  آهِ يا أرضُ !

                  أهذا من دماءٍ ؟ أمْ هيَ الأمواجُ

          ما يملأُ

                  أجرانَ البحورِ ؟

                  وجبالٌ ما أرى ؟ أمْ ذي عظامٌ أصبحتْ

          فيكِ جبالاً ، بعدما يا أرضُ ضاقتْ بعظامِ الناسِ

                  ليلاتُ

                  القبورِ ؟

                  آهِ يا دَيرَ الجنازاتِ ، وأجراسَ المنافيَ ،

          لوْ تعقلتِ ، لما شئتِ أيا أرضُ بيومٍ

                  أن تدوريْ . – ص 1691 ) .

الآن ، وعلى عتبة الختام بعد هذه الرحلة الملحمية اللاهثة والمنهكة والمزحومة بالأسئلة الكبرى ، تقف أقدام الشاعر على أرض صخرية صلبة من الخيبة التي تحكمها نتائج لا تساؤلات ؛ نتائج أقسى صلابة ، وأمضى فعلاً في الروح بالرغم من أنها تصدم أبسط بديهيات عقولنا وفي مقدّمتها : أينّ – ها قد عدنا إلى التساؤلات من جديد ! - تذهب جهود هذا المسكين الذي يسمّونه "الخير" ؟ ولماذا يطارده الشرُّ ويهزمه دائماً ؟ وأين راحت دعوات وتضحيات هذا الطابور الذي بلا بداية وبلا نهاية من الأنبياء والرسل والمصلحين والفلاسفة والشعراء والثوّار والمفكرين ما دمنا ننتقل من وضع بشريٍ سيّء إلى وضع أسوأ منه ؟ ولماذا برغم كل تلك التضحيات يختنق العالم بالشرور والمعاصي يوماً بعد آخر حتى صرنا لا نتساءل فقط "لماذا وُجدَ العالم ؟" ، بل نتساءل أيضاً "لماذا يكون العالم حافلاً بكل تلك الشرور؟" ؛ شرور يمسك بعضها بيد البعض الآخر لتضرب حصاراً منيعاً حول وجودنا ؛ شرور هي من الكثرة بحيث أنها لا يمكن أن تصدر إلا من الموجود الأوحد الذي يتحكم بوجوده وهو الإنسان ، وإلا إذا كان هذا الموجود "حيوان شرير" أو "حيوان خبيث" بالبنية والتعريف ؟ هذا الإستعداد الجبلّي هو الذي يجعله يقلب كل جهود الخير إلى شرّ ، وكلّما جاء أنبياء الله بالبشرى جعلها مراثي : 

(    أنبياءُ اللهِ ، روحُ الفيلسوفِ ، المصلحونَ ، الصاعدونَ

  إلى البياضِ ، الدمعُ ، ناياتُ المجاعاتِ ، الجراحُ ،

  الحكماءُ ، الدمُ ، قدّيسُ الحمامِ ، الشاعرُ العصفورُ ، نُساكُ

  المساكينِ ، أناشيدُ الرعاةِ ، الثورةُ ، الغفرانُ ، طاغورُ

  الخزامى ، ساكنو حرّيةِ الأسئلةِ الكبرى ، ملوكُ الشكِّ ،

  أسيادُ العذاباتِ لأجلِ الذاتِ أن تحيا بلا قيدٍ ونيرٍ ،

                                                  كلّهمْ ،

                                              يُعطونَ ورداً كلَّ

  يومٍ ، إنّما للملحٍ ، يأتونَ بشمسٍ ، إنما سوداءَ ، يُهدونَ

  قميصاً من حريرِ الغيمِ ، لكن للبراريْ ، يرفعونَ الصبحَ ،

  لكنْ فوقَ رمحٍ ، يفتحونَ البابَ لكنْ للصحارى .

                                                  كلهمْ ،

                                        يأتونَ بالبشرى ،

  فتزدادُ المراثيْ . - ص 1692) .

 لقد تسلّم الشاعر نصّ "الخلق" وقرأه واستمتع به وملك عليه لبّه وحواسه في كلّ شيء من مكوّناته إلّا الإنسان . كلّ شيء بسيط جميل أخّاذ وساحر حتى لو كان مركّباً من شجر وماء ونجوم وشمس وقمر وجداول وقمح وورد .. كلّ شيء يعكس هويّته إلّا الإنسان لغز الألغاز .. المحيّر .. خطوة واحدة ليصبح إلهاً .. وأقلّ منها ليصير وحشاً .. ما أعجبه . ولهذا لم يتركز جهد الشاعر النقدي في مراجعته لنصّ الكون الشعري إلّا على مكوّن الإنسان . فقد تصالح في النهاية وبروح شعرية حتى مع القوّة الخالقة الكبرى التي أججت حيّرته الحارقة واشعلت حرائق تساؤلاته الصاخبة والمعقّدة عن كنهها وسرّ تناقضات إرادتها وهي ترسم له مصيره . لتكن ما تكن . خالقاً ما .. قوّة ما .. أنتَ .. أو آخر .. أو سرّاً .. أو أيّ شيء . لقد تسلّم "النصّ" ؛ نصّ الخلق وقصة الخليقة ، وراجعه فاستطاب وانسحر وتماهى ، وخشع وسلّم لهذا الكون المُعجز برغم تساؤلاته ، ولهذه القصّة برغم حيرته بين البدء والمنتهى : من أين ؟ وإلى أين ؟ .. والأهم : لماذا ؟ . كلّ مكونات النص اثارت في نفسه إعجاباً ممزوجاً بالحيرة والتساؤلات . لكن مكوّناً واحداً أثار فيه الرعب والفزع مع التساؤلات ألا وهو : الإنسان .. حيّره ولم يعد يعرف كيف يتعامل معه ولا كيف يفهمه :

(                خالقٌ ما ،

                 قوّةٌ ما ،

                             ولأقلْ أنتَ ، أقلْ آخرُ ،

  سرٌّ ما ، أتاني نصّهُ الكونيُّ كيْ أقرأهُ مخطوطةً عنْ

  قصّةِ الخلقِ . قرأتُ

                 النصَّ ، فاستوقفنيْ الإنسانُ في أسرارهِ

  أكثرَ ما استوقفنيْ سرٌّ

                 سواهْ .

                 لا المداراتُ ، ولا الأنجمُ ، والافلاكُ ،

          لا الوحشُ ، ولا النبتُ ، ولا طيرُ البراري ،

                 والمياهُ .

                 إنّما الإنسانُ ما استوقفنيْ . طافتْ

          بيَ الرؤيا . ونقدي ليسَ إلّا ما أنا الآنَ

                 أراهُ .

                 كلُّ ما في النصِّ سهلٌ سرّهُ عنديْ

          سوى الإنسانِ .

                            منذ البدءِ ،

                                        عرشٌ ،

                                        ودمٌ ،

                                        جوعٌ ،

                                        وخوفٌ . – ص 1698 – 1700) .

ولا يقنع الشاعر بالتفسيرات التي صارت نمطية وجاهزة في تفسير خراب روح الإنسان ، من كبت غريزةٍ ، وتعطيل إشباعٍ ، وقمع حواسٍ .. وغيرها . إنّ سرّ فساد روح الإنسان يكمن في قتل حريّة الإنسان نفسه في كل شيء . وهذه هي مفارقة الكون الكبرى ، أن يُخلق كلّ شيءٍ فيه حرّاً - من ذرة التراب التافهة الصمّاء حتى الدودة العمياء - ويحيا حرّاً كما خُلق ، عدا الإنسان الأولى بالحريّة من كلّ شيء في الكون ، فهو تُصادر حريّته .. وتُقتل .. ويُقمع ، في حين أنه هو الأقدر على فهمها وتحمّل مسؤوليتها .

لقد تمرّد الناقد الأكبر على الله – جبراً وتكليفاً ، أو اختياراً – ورفض السجود وآثر حريّته مقابل لعنة حلّت عليه إلى يوم الدين ، ثمّ اقتدى به الناقد الأصغر الذي صار من بعد ذلك ناقداً أكبر أيضاً ، وهو الإنسان الشاعر ، الذي ارتكب الخطيئة الأولى ، في الفردوس وتحت أنظار الله . لقد انتزع الإنسان حرّيته مقابل أشرس فدية وأعظم تضحية : الفردوس ، واختار أن يشقى مع حريّته على الأرض مقابل أن يحيى مرفّهاً مع عبوديته في الفردوس . لقد انتزع حريّته بكل جسارة ، بل بصلافة ايضاً :

(أورست : إنّك ملك الآلهة يا جوبيتر ، ملك الأحجار والنجوم ، ملك أمواج البحر ، ولكنك لستَ ملكاً على الآدميين .

جوبيتر : ولكن إذا لم أكن أنا ملكاً عليكَ ، فمن الذي خلقك إذن ؟

-أنت خلقتني ، ولكن ما كان ينبغي أن تخلقني حرّا .

-إنّما وهبتك الحرية لتخدمني .

-هذا جائز ، ولكن هذه الحرية قد انقلبت عليك ، ولم يعد في وسعي ولا في وسعك أن تفعل شيئا .

-أخيراً ، هذا هو العذر !

-أنا لا أعتذر .. فلستُ السيد ولا العبد .. وإنما أنا عين حريّتي ) (118 سارتر الذباب) .

بهذه الروح الجسور والصلافة انتزع الإنسان حريّته ، ليأتي من ينتزعها منه ويصادرها ويقمعه . ومن هو هذا الذي جاء وانتزع حريّة الإنسان وكبّله بالقيود ؟ من الذي قتل حريّة الإنسان في الوردة والقمح وصلب حتى العصافير ؟ وباختصار – وحسب قاموس جوزف حرب الشعري والحياتي الرمزي – من الذي علّق الأبيض في مشنقة الأسود ؟ .. إنه الإنسان .. نعم الإنسان :

(                                              ليسَ ذا

  كبتَ الغريزهْ .

                  ليسَ ذا كبتَ الحواسِ الخمسِ . بل هذا

  صراعٌ قُتلتْ حريّةُ الفردِ به في كلّ شيءٍ

                                      رائعٍ .

                                             لا رائعٌ

  إلّا سلامُ القمحِ والوردةِ .

                   منذُ البدءِ والوردةُ ملحٌ ،

                                       ودمٌ .

                              والقمحُ ملحٌ ،

                                      ودمٌ .

              كلُّ خلاصٍ خارجَ الوردةِ ،

                                  والقمحِ ،

                                    عقيمُ .

              أيُّ خمرٍ سوف تأتيْ عندما تأتيْ

بلا عنقودها في آخرِ الصيفِ

                                     الكرومُ ؟ !

              كلُّ من نادى بحكمِ القمحِ والوردةِ

  لمْ يبقَ لهُ منْ فمهِ إلّا شفافٌ منْ رمادٍ .

  كلُّ منْ جاءَ برأيٍ أبيضٍ عُلّقَ بالأسودِ .

  لم يسلمْ من الصلبانِ عصفورٌ ، ولمْ يُمسكْ

  بمجذافٍ

             حكيمُ . – ص 1700 و 1701) .

ومن مجزرة إلى مجزرة ، صار قطار التاريخ يمضي مسرعاً بكل قوّته على سكّة عمياء لا قوّة تستطيع تغيير وجهتها أو التلاعب بمسارها أو إيقافها . وصار الإنسان مهموماً بخرابه هو نفسه ، حتى أصبح التعريف الملائم له هو أنه "حيوان مهموم" .. الهم هو ما يميّز الإنسان عن كل مكوّنات الكون .. الوحيد الذي ينام مهموماً ، ويصحو على الهم من جديد كل يوم .. بل كل لحظة . والمشكلة أنه مهموم بالهمّ الذي يصنعه بيديه حتى صار حين ينظر إلى ما حصل أو إلى ما كسبت يداه ، يشعر فوراً ، وبمرارة ، أنه هيهات لمثله الأعلى أن يُصبح هو وواقعه سيان ، أو هيهات لذاته العليا أن تتطابق تماما مع ذاته الواقعية . ويعمل "الهمّ" عمله في وجود الإنسان فيصطبغ الوعي البشري كلّه بصبغة "الهمّ" ، ويصبح الموجود البشري هو ذلك الموجود الزمني الذي يحمل دائماً عبء وجوده ، وينوء دائماً بحمل الماضي والحاضر والمستقبل . ولعل هذا هو ما أراد "هيدجر" أن يصوّره لنا بلغة طريفة حينما روى لنا الأسطورة اللاتينية التالية.

استبدل قلم الوطنيّة بقلمٍ آخر لكسب الرزق ولقمة المعيشة، قالوا .. قوت أولاده أَوْلى، وقالوا ..الثّورة بالكاد تُطعم رجالاتها، وتبني المجد والعزّ لمن عادوا من الشّتات إلى أراضيها، وقالوا أيضًا .. الثّورة أضاعت البوصلة وهدمتْ كلّ ما بناه العمالقة باليد والعمل والكلمة؟ إنَّ حِسَّ الشّاعر لا يُضاهيه إحساس أفراد الشّعب عامّة، بعضهم ترك الطّاولة المستديرة وامتطى عجلات الزّمن الذي لا يرحم حُبّا ولا جوعا، والذي لا يُفرّق بين قيادي هشّ وروح ثوريّة طريدة؟ الشّاعر الفلسطينيّ "خليل توما" لم يأتنا بجديد، بل جدّد ما أتى به منذ وقتٍ طويل، وجمع أعماله الرّائعة في كتاب "الأعمال الشّعريّة" الصّادر عن شركة نور للطّباعة والتّصميم في بيت جالا عام 2015، والذي يقع في 400 صفحة من الحجم المتوسّط. احتوى الكتاب على أربع مجموعات شعريّة؛ النّداء، تعالوا جميعا، نجمة فوق بيت لحم وأغنيات الليالي الأخيرة، وكذلك احتوى على أضواء نقديّة لكتّاب وأدباء ممن عاشروا كتابات الشّاعر "توما".

لا يغيب عن الذّهن أنَّ شعر المقاومة راج على يد مجموعة من الشّعراء الفلسطينيين بعد هزيمة عام 1967، وكان من أشهر الأسماء في تلك المرحلة: توفيق زياد وقصيدته "هنا باقون"، محمود درويش وقصيدته "سجّل أنا عربي" و سميح القاسم وقصيدته "خطاب في سوق البطالة / يا عدو الشّمس". وقد استطاعوا جميعًا أن يكسبوا إعتراف العرب بنضالاتهم وابداعهم بعد سنوات طويلة من الجفوة والتّنكّر، إلاّ أنَّ المُحتل آنذاك حارب الأقلام والفِكر المقاوم، وعمد بكل أساليبه من سجن وتعذيب وطرد وتهجير من أجل السّيطرة على الأرض. ولعلَّ النّكسة وما نتج عنها من أدب التّشاؤم والرّثاء، وضع شعر المقاومة الفلسطينيّة  في كفّة الميزان التي رجّحتْ فوزه بقلوب النّاس ومكّنه من تصدّر المشهد الشّعريّ العربيّ.

الشّاعر "توما" صاغ تجربته الشّعريّة من واقع قضايا شعبه وهمومه وأحلامه، وكان نتاجَ فكرٍ يقوم بدور الرّفض والتّمرد على الإحتلال، وتوجيه الجماهير نحو المحافظة على وجودها الحضاريّ. كان واعيًا لطبيعة كلّ مرحلة ومتطلباتها، والأهداف التي يسعى الفعل الثّوري لتحقيقها كي يكتمل الأنسجام بين دور الكلمة والبندقيّة، وشاعرنا هو مثال للقول والفعل، فقد كتب وناضل وسُجن مقابل ذلك. إنَّ الشَعراء أعمق رؤية للحاضر وأقوى إستشرافًا للمستقبل، "توما" أعطى بعض ما لديه، واعتصر قلبه، وتوقف نبض قلمه منذ اتفاقيّات "أوسلو"، قد تكون الأسباب سريّة أو غامضة، وقد تكون موجعة لو حدّثنا بها، فهل خاب الظّن عنده بعد كثرة الملاحم، وبعد أن جعلوا من أجساد الشّهداء جسرًا عبروه لتحقيق سياسات جديدة بعيدة عن أهداف الثّورة؟ لقد غاب في أحرج الأوقات وأصعبها، سياسيًّا وتاريخيا، وفي الوقت الذي أصبحت فيه الكلمات الوطنيّة النقيّة محظورة، والنّطق بها جريمة مقصودة، تندرج تحت بوابة الخيانة وتهديد أمن الدّولة؟

قد تنطفئ إحدى النّجوم في السّماء، وتغيب كغياب الأبطال عن ساحة العطاء، حفاظًا لماء الوجه والكرامة، وعزّة النّفس قبل أن تصبح مُتصدّعة، وعندما لا يجد تلك الحاضنة الوطنيّة لكبار الكوادر وأصحاب الأفكار القوميّة والجهاديّة. في الحقيقة هناك الكثيرون ممّن حادوا عن نمط المقاومة في كتاباتهم، ولجأوا إلى الحداثة؛ لمواكبة التّطور من النّهج التّقليديّ أو الخطابيّ المباشر إلى أسلوب الكتابة الحديث تمشّيًا مع العصر، ورغبة في بقاء أسمائهم على صفحات الجرائد والمجلات. أمّا نحن فلن نضيف شيئًاعلى ما تحدّث به أصحاب اللغة والبلاغة ممن فنّدوا جميع دواوين الشاعر "توما"، لكنّنا نحيّي ونبارك عودته، وإحياء الماضي برونقه وجماله وصلابته التي لا تُنسى عبر الأيام، فمن يعبث بالتّاريخ سيزول وينتهي، أما الأصالة فهي باقية بقاء السّماء ونجمة بيت لحم السّاطعة.

clip_image002_1f4a5.jpg

مثل نسمة من " ريح تمر" ( [2]) والجنينة اسم على مسمى قرية خضراء مطلة على النيل في غرب السودان وعاصمة لدار مساليت (  [4]) التي تقع على الساحل الغربي من ليبيا ينتمي الى قبيلة الفواتير ومن هنا تأتي تسميته  بالشيخ مفتاح رجب الشيخي الفيتوري شيخ سجادة صوفية وخليفة من خلفاء الطريقة الشاذلية( [6] ) الأسمرية ( [8] ) . وهي ابنة ل  ( علي سعيد بن يعقوب الشريف ) جد الشاعر , الذي  "كان تاجر رقيق وعاج وذهب وحرير. وكانت له

صلات بسلاطين أفريقية والسودان ,( [10]) التي تربط ما بين السودان وليبيا ."

أما جدَّته لأمه وتدعى (زهرة)  فأصلها من قبيلة فرسان وهي أميرة سوداء جميلة ابنة شيخ  احدى أهم القبائل ما بين الجنوب السوداني وغربه, 

 وتحديدا من منطقة بحر الغزال في قبيلة (القرعان) , تم اختطافها عنوة في سن  9  سنوات من خلف الكثبان الرملية(  [12] )   وهي عزيزة والدة الشاعر(  [14] ) هذه الجدة الجارية المخطوفة, المهداة الى تاجر رقيق هي التي ستوقظ مارد التناقضات من قمقمه, وستُشعل لاحقاً بقصصها ومأساتها جذوة معانى ضِرام العبودية , في كيان الحفيد الطفل ,لتسطع في مآقيه  وقلبه الصغير أقباس مرآة الآلام الافريقية بأقدارها الجريحة وكلومها النازفة  ,فيكبر ويجد نفسه كما يصف بكلماته " واقفا على صراط  ما بين الحرية والعبودية.. هذه الجدة مستعبَدة .. هذا الجد تاجر رقيق.. وأنا طفل صغير لا يعرف معنى العبودية ولا معنى الحرية ..اعتقد أن هذه السيدة هي التي بذرت هذه البذرة التي لا أقول انها سوداء ,  وإنما البذرة النارية في روحي.. البذرة التي أشعلتني"([16]  )." ثم هاجرت هذه الأسرة الجديدة الى مصر وبالتحديد الى الإسكندرية منشأ الفيتوري( [18] ) وقد التحق بهذه المدرسة في سن كبيرة نسبياً أي بعد أن تجاوز الحادية عشرة من عمره(  [20]) فيخلد الفيتوري الى المنزل لكن مع سقوط نظام القذافي تسحب منه السلطات الليبية جواز السفرالليبي  فيستمر في الاقامة بالمغرب مع زوجته المغربية (رجات ارماز)  في ضاحية سيدي العابد في الرباط ( [22]).

وفي تاريخ 24.4.15 يفارق الحياة في مستشفى الشيخ زايد بالرباط ويدفن في مقابر الشهداء في الرباط

وشعر الفيتوري  رباعي الابعاد ( الزنوجة ) (الثورة ) (العروبة) (الصوفية ) لا يضم تحت اجفانه القارة السوداء فحسب بل  كل الوطن العربي بأزماته وأفراحه وتطلعاته ؟  أو كما يصفه  الكاتب اللبناني عبده وازن  " شاعر التخوم ,لا ينتمي الى وطن نهائي, فهو يقيم على تخوم الخارطة العربية والافريقية وعلى تخوم العروبة والزنوجة أيضا "(  [24] )

مستخدما كل ما يخص المجال الافريقي وطوطميته الطبول , والغاب , والنار , والسفينة :

"كافريقيا في ظلام العصور

عجوز ملفعة بالبخور

وحفرة نار عظيمة

ومنقار بومة

وقرن بهيمة

وتعويذة من صلاة قديمة"([26] ).

" ولدت فوق عتبات الصمت والغضب

أنا تمرد التعب

أنا تجسد الذهول "(  [28]  ) شخصية متوترة استفزازية غاضبة حانقة  متمردة  ثائرة على كل شيء , اللون,  الشكل,  التمييز العنصري , الحب ,الاسترقاق , الاستعمار ,الهوية المذوّبة , الشعر , المكان, الزمان . ثورة عارمة متأججة بنار ما تتغذى عليه من ومما يختلج وجدانه من تناقضات , الاسترقاق والسيادة , الأسود والأبيض , العبودية والحرية , الوطن والمنفى. شاعر مطبوع بموهبة متوهجة متدفقة الوجدان والوجد , الهدوء والعنف , وحمى السؤال والتخبط.

لا يقتصد الشاعر في احضار كل الرموز الثورية والشخصيات : لومومبا ونكروما قائد ثورة العبيد  والسلطان تاج الدين ومانديلا وعمر المختار والكردي  وجميلة بوحيرد وستانلي فيل  , وهاييتي, والكونغو  :

  

" لا تطرقي رأسك يا جميلة

 لا تخفضي جبهتك النبيلة

خُوّف جنود الإمبراطورية

قفي بوجه العذاب

شامخة بالعذاب

لا تدعي نقتهم تقتلك

لا تدعي رحمتهم تغسلك

إنك قبر الإمبراطورية (  [30]  ) ولد في السودان ونشأ في القاهرة وعاش في ليبيا وعمل في بيروت واستقر في  المغرب وورِي الثرى فيه .

لقد تنبه وعيه على الحياة بكل مناقضاتها,  بكل الآمها , كيف لا وهو الذي خبر العديد من المجتمعات واحتك بكل العرب , مطلعا على أزمات الامة العربية  , يشارك بالأحداث المتفجرة في المنطقة , مواجها اياها  بإدراك إنسان معاصر متعاملا مع احداثها بفكر متحضر كاشفا عن مسار وعي سياسي جديد للفيتوري ,ينم عن تعايشه  وتفاعله مع الاحداث اليومية على المسرح السياسي العربي في المنطقة , يتصادم مع الأنظمة العربية  تارة , ويثور تارة اخرة ويهادن مرة ثالثة , مجتهدا في التعبير عن خلجات الامة من خلال مشاعره الفردية واحاسيسه  ,فتارة تراه يهاجم عبد الناصر في مصر  وتارة يرثيه , ويمجد بن بللا في الجزائر, ويمدح الشابي التونسي وينشد للعراق , ويرثي عبد الخالق محجوب ورفاقه  ,ويهجو الصادق المهدي في السودان, ويكتب عن حرب بيروت, وأطفال الحجارة في فلسطين , والقذافي في ليبيا , فالجماهير عنده " مصدر الفن والفكر والحياة والتاريخ , وهي تيارات نهر الإنسانية العظيم  الذي لا يتوقف " ( [32] )

ويضيف:

" في غبار الحرب الكونية  ( 1939-1945) تلاشى وهج كل ايديولوجيات النظم العربية القديمة , وفي نكبة 1948 دقت نواقيس افلاس النظم العربية القائمة. وفي هزيمة 1967 تكرس عجز الجيل العربي الحاكم عن قبول التحدي ومكانية المواجهة . وفي السبعينات أمكن للخيانة وحدها , ولروح الهزيمة أ، تسود الساحة , وأن تشق لها طريقا متعرجة عبر طريق النضال المسدود . ومع تتابع حلقات سلسلة النماذج  أو المواقف المفرغة , تستفحل ظواهر عقمنا الفكري والسياسي , ويزداد الواقع العربي ضعفا وفسادا , بانتظار قدوم الثورة الاجتماعية , والشاعر العربي العظيم. "(  [34] )

ويتغنى الفيتوري بكل المدن التي عاش فيها او مر منها حتى القدس وفلسطين التي لم تطأها  قدمه :

" ليبقى كل بطل مكانه

ولتصعق الخيانة

ولتخرس الرجعية الجبانة

فالشع سوف يغسل الإهانة"( [36] )

البعد الصوفي في شعر الفيتوري

بعد نكسة 1967 كتب الشاعر الفيتوري مجموعه (معزوفة لدرويش متجول)أراد من خلالها ان يصور رحلة هذا الدرويش في الطريق الصوفي  حين ينتابه القلق والشك  , مما يجعله يفكر في وحدته وضياعه تماما مثل المريد الذي يتعلق بشيخه رغبة منه في المعرفة  يقول الدكتور ابو الوفا الغنيمي التفتازاني التصوف فلسفة حياة تهدف الى الترقي بالنفس الإنسانية أخلاقيا وتتحقق بواسطة رياضات عملية معينه تؤدي الى الشعور في بعض الأحيان بالفناء في الحقيقة الاسمى , والعرفان بها ذوقا وعقلا وثمرته السعادة الروحية ويصعب لتعبير عن حقيقته بألفاظ عادية  لأنها وجدانية الطابع وذاتيته ( [38])

ولو وضعنا تعريفا للتصوف باعتباره سلوكا , في مقابل تعريفه باعتبار فلسفة  او نظرة في الحياة لتبين لنا ان التصوف في جانبه السلوكي هو اقرب الى التصوف الديني , واما تعريفه باعتباره نظرة او فلسفة حياة فهو فكر وفلسفة كما نراه عند الفيتوري , فعندما تخلص الشاعر من عقدة اللون ومن نبشه في الذات الافريقية المعذبة واشتعال احاسيس الحقد والنقمة والغضب دخل الى عوالم الوجدان الصوفي , وراح ينظر في داخله , ليفجر ما بداخله من قوى روحية مؤسسة على  تراث ثر  مثل مجموعة (معزوفة لدرويش متجول) أو (ابتسمي حتى تمر الخيل) وراح يصعد بالإنسان نحو الإلهي, راح يرفع الناسوت الى اللاهوت محاولا ترقية درجة  العبد من مكانته الى درجة تليق بمقام الانسان في حضرة الله عز وجل , وهو ليس بغريب على من نشأ في بيت تتلى به الأذكار وتقام فيه الحضرات وهو ابن شيخ السجادة الشاذلية العروسية الاسمرية:

"في حضرة من أهوى

عبثت بي الاشواق

حدقت بلا وجه

ورقصت بلا ساق

وزحمت براياتي وطبولي الآفاق

عشقي يفني عشقي

وفنائي استغراق

مملوكك لكني سلطان العشاق "([40]) والفيتوري يرغب في خوض التجربة ويبحث عن طريق الضياء والنور:

"قنديل زيتي مبهوت في اقصى بيت في بيروت

أتألق حينا ثم أرنّق ثم أموت"(

[2]   محمد الفيتوري ملامح من سيرة مجهولة احمد سعيد محمدية دار العودة  الطبعة الأولى 2008  ص 31 هذا ما تشهد به زوجته السودانية آسيا عبد الماجد وبحسب ما أخبرها به حموها الشيخ رجب مفتاح الفيتوري ( فيما يزعم الفيتوري وآخرون ان عام الولادة 1936

[4]   تكتب زليتن وفي بعض الأحيان زليطن وتعني ظل التين لأن المدينة تشتهر بأشجار التين وتقع في منظقة عبور القوافل وتشكل مكانا للراحة واللقاء بين القوافل وكانت في عهد ما تتبع قضاء مصراتة حيث ينطق الساكنة هناك حرف الظاء بالزاي المفخمة  كما يعرف باللغة الأمازيغية  هذا ما ورد في موقع ويكيبيديا ar.m.wikipedia.org  تحت كلمة زليتن.

[6]     هي طريقة صوفية متفرعة عن الشااذلية وتنسب الى مؤسسها أبي العباس أحمد بن عروس الذي ولد في تونس ومات فيها عام 868 هجري ويرجح بعض الباحثين بقاء العروسية قوية أمام مد الطرق الصوفية الأخرى في ايبيا , خاصة في غرب البلاد الى ارتباط الطريقة بقبيلة الفواتير وهي قبيلة كثيرة العدد ينظر اليها على انها "معدن الولاية والبركة" حسبما ورد في "تنقيح روضة الأزهار ومنية السادات الابرار " للمؤلف  محمد مخلوف 1941-1863

[8]     من حديث شفاهي باح به الشاعر الفيتوري للأستاذ منيف موسى  وإذن له بنشره المرايا الدائرية دار الفكر اللبناني طبعة أولى 1985 ص 53 والجهمة : " معجم قبائل العرب القديمة والحديثة " عمور رضا الجزء الأول الطبعة الثانية دار العلم للملايين بيروت 1968 ص 214 .

[10]     طريق تاريحية تصل مصر بالسودان تشتهر بتجارة الابل تبدأ من دارفور  السودان وتنتهي عند امبابة في محافظة الجيزة المصرية وكان للطريق دور ديني في حركة الطرق الصوفية من  دول غرب افريقية مرورا بالسودان وانتهاء بمصر  وقد ذكرها المؤرخون في معظم ما كتبوه عن مصر بمن فيهم ابن بطوطة . تعود تسميتها بالأربعين الى قوافل الجمال التي كانت رحلتها تستغرق  أربعين يوما للوصول الى  محطتها الأخيرة في مصر لبيعها .

[12]         محمد الفيتوري شاعر الحس والوطنية والحب منيف موسى دار الفكر اللبناني طبعة اولى 1985 ص 53

[14]             محمد الفيتوري شاعر الحس والوطنية والحب منيف موسى دار الفكر اللبناني طبعة اولى 1985 ص 53

[16]           محمد الفيتو ري شاعر الحس والوطنية والحب منيف موسى دار الفكر اللبناني طبعة اولى 1985 ص 53

[18]       أذكريني يا أفريقيا محمد الفيتوري دار القلم القاهرة1966 ص 6 . كذلك "تجربتي في الشعر" مجلة الآداب 1966 العدد الثالث آذار ص 6

[20]     الشطي عبد الفتاح شعر محمد الفيتوري المحتوى الفن دار قباء للطباعة والنشر 2001 ص 43

[22]   المصدر ذاته ص 43

[24]         الفيتوري محمد الديوان  : دار العودة بيروت طبعة أولى 1972  من قصيدة أنا زنجي ص 80

[26]     محمدية احمد سعيد " محمد الفيتوري ملامح من سيرة مجهولة دار العودة 2008 طبعة اولى بيروت ص 91

[28]     محمد علي شمس الدين في مقالة بعنوان " محمد الفيتوري شاعر الفيتوري الطوطم الافريقي" جرسدة الحياة 26.4.2015

[30]   محمود امين العالم: مقدمة ديوان محمد الفيتوري اعاني افريقيا دار العودة بيروت طبعط أولى 1972 ص 41

[32]   محمد الفيتوري : اقوال شاهد اثبات  من قصيدة (قلبي على وطني) منشورات الفيتوري الثقافية الخرطوم طبعة رابعة 1988

[34]   محمد الفتوري الديوان من مجموعة البطل والثورة والمشنقة  قصيدة القادم عند الفجر في رثاء عد الناصر دار العودة بيروت 1972 طبعة أولى ص 641

[36]     محمد الفيتوري الديوان من مجموعة معزوفة لدرويش متجول ومن قصيدة (مقاطع فلسطنية) دار العودة بيروت 1972 طبعة أولى ص 514

[38]   عبد الوهاب البياتي البحث عن ينابيع الشعر والرؤيا دار الطليعة للطباعة والنشر 1990 ص 19-20

[40]   محمد بن عبد الجبار النفري المواقف والمخاطبات , تحقيق اثر آريري تقديم دكتور عبد القادر محمود الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985 ص 130

[41]     محمد الفيتوري الديوان: من مجموعة  وقصيدة معزوفة لدرويش متجول دار العودة بيروت 1972 طبعة اوى ص 454

clip_image002_4605c.jpg

سابع فهارس الدُّكْتُورِ الْمَطْبَعِيِّ الْمُفَهْرِسِ وآخرها، فهرس المصطلحات والكلمات المشروحة (المشروحات)، ذو الست والخمسين والخمسمئة الشيء، الذي اختلط فيه عملُ المؤلف بعمل المحقق، وكان ينبغي أن يختص لعمل المؤلف وحده، أو أن ينقسم لعمليهما على فهرسين مختلفين، أو أن يشتمل على ما يميز بعضهما من بعض؛ فلكل منهما مصطلحاته ومشروحاته التي لا يستقيم دونها عمله، ولا يكتمل.

ولا يماري عاقل في أهمية هذا الفهرس الشديدة أحيانا، ولاسيما إذا كان فهرس الموضوعات كليًّا إجماليًّا، لا جزئيًّا تفصيليًّا كفهرسي الذي اشتمل على ثمانية وثمانين ومئة عنوان، أغلبها مصطلحات، وإن لم تمتنع على من شاء زيادة التجزيء والتفصيل.

إن فهرس المصطلحات فهرس العلماء المتخصصين المتمكنين الذين يستطيعون وحدهم تمييز المصطلحات والتنويه بها والتنبيه عليها. وإن فهرس المشروحات فهرس القراء المتحققين بما يقرؤون الذين لا تندّ عنهم من المشروحات نادَّةٌ، ولا تشرُد شاردة، ولاسيما إذا تفرّدتْ في موضعها. وهل يطمح محقق المخطوط بعمله إلى أكثر من أن يُعَدَّ في العلماء والقراء جميعا معا، بحيث تَحفظ عليه قراءتُه خدمةَ القارئ غير المتخصص، كما يَحفظ عليه علمُه خدمةَ القارئ المتخصص!

ولقد خلط الفهرسين بعضَهما ببعض في فهرسٍ واحدٍ، الدُّكْتُورُ الْمَطْبَعِيُّ الْمُفَهْرِسُ؛ فأفضى إلى مجموع كبير، لم يكن يضرُّه اقتسامه ولا اجتزاؤه -وهو الذي لم يَتحرَّج في فهرس الأحاديث النبوية الشريفة من اقتصاره على حديث واحد!- ولكنه تَهرَّبَ مما بَغَتَه، فَآدَه، وفَدَحَه، ولم يملك له حيلةً، ولم يهتدِ سبيلا، إلا سبيلَ التَّدليس!

نعم؛ فإخفاءُ المصطلحات في المشروحات مثلُ إخفاء المشروحات في المصطلحات، تدليسٌ مثل تدليس إخفاء أسماء الأعلام في الأسماء المبهمة!

ولقد لفتتني عن تمثيل تدليس الدُّكْتُورِ الْمَطْبَعِيِّ الْمُفَهْرِسِ ذَيْنِ التدليسين (خلط عمل المؤلف بعمل المحقق، وخلط المصطلحات بالمشروحات)- خيانتُه من ائتمنه، بتضمين فهرسه هذا، عشرات الكلمات التي لا هي مصطلحاتٌ ولا مشروحاتٌ!

-        تُرى أَمِنَ المصطلحات أم المشروحات "آتَيْنَاهُ"، في نقل المؤلف عن العمري: "وَعَلَى الْفَصِيحِ فَالْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ كَلِمَةِ "آخَرَ"، مُبْدَلَةٌ أَلِفًا مَحْضَةً مِثْلَ "آتَيْنَاهُ" وَأَخَوَاتِهَا"، التي استفتح بها فهرسَه الدُّكْتُورُ الْمَطْبَعِيُّ الْمُفَهْرِسُ!

وليست غير مشبه به!

-        أَثُمَّ من المصطلحات أم المشروحات "أَوْ لَا"، في بيت منظومة المؤلف: " أَوْ لَا فَلِلطَّرَفَيْنِ اسْتُجْمِعَا وَلِصَدْرٍ أَوَّلٌ وَلِثَانٍ عَجْزًا اخْتَزِلِ"،

الذي قال بعقبه: "قَوْلُهُ "أَوْ لَا"، أَيْ لَا يَنْجُو مِنَ الزِّحَافِ"!

وليست غير تعبير مَنْظوميّ موجَز!

-        أَثُمَّتَ من المصطلحات أم المشروحات "الْبَالِي"، و"مَشِيبُ"، و"سُرْحُوبُ"، في نقل المؤلف عن العمري: "وَهِيَ كَحَرَكَةِ بَاءِ "الْبَالِي" وَهِيَ الْفَتْحَةُ، وَحَرَكَةِ شِينِ "مَشِيبُ" وَهِيَ الْكَسْرَةُ، وَحَرَكَةِ حَاءِ "سُرْحُوبُ" وَهِيَ الضَّمَّةُ فِي الْأَبْيَاتِ السَّالِفِ إِنْشَادُهَا فِي مَبْحَثِ الرِّدْفِ"، أراد أبيات امرئ القيس فعلقمة الفحل فامرئ القيس، الآتية:

"أَلَا عِمْ صَبَاحًا أَيُّها الطَّلَلُ الْبَالِي وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ فِي الْعُصُرِ الْخَالِي"،

"طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ بُعَيْدَ الشَّبَابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ"،

"قَدْ أَشْهَدُ الْغَارَةَ الشَّعْوَاءَ تَحْمِلُنِي جَرْدَاءُ مَعْرُوقَةُ اللَّحْيَيْنِ سُرْحُوبُ"،

التي مَثَّلَ بكلمات قوافيها تلك، حركاتِ الحذو الممكنةَ، وتَجوَّزَ في تمثيل فتحتها بفتحة باء "الْبَالِي" من آخر صدر بيتها، وحقها أن تُمثل بفتحة خاء "الْخَالِي"، من آخر عَجُزه؛ ولكن لمَّا كان البيت مصرَّعًا (متشابهَ أواخرِ الشطرين وزنًا وقافية)، وكان العروضيّون ربما اكتفوا بنصف البيت إذا أغنى عن سائره، أناب عن عَجُزه صَدْره، وعن "الْخَالِي" "الْبَالِي"!

وليست غير أمثلة!

-        أَثُمَّتَ من المصطلحات أم المشروحات "صِلْ بِجَزْئِهِمُ"، في بيت منظومة المؤلف:

"وَذَاتُ جَزْءٍ وَصُحٍّ صِلْ بِجَزْئِهِمُ تَرْفِيلَ خَبْنٍ مُذَالًا صِحَّةً تَصِلِ"!

الذي شرحه بقوله: ""صِلْ بِجَزْئِهِمُ"، أَيْ صِلْ هَذِهِ الْعَرُوضَ بِمَجْزُوءِ أَحَدِ هَذِهِ الْأَضْرُبِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي سَتُذْكَرُ -إِنْ شَاءَ اللهُ!- وَهِيَ الْمَخْبُونُ الْمُرفَّل، ثُمَّ الْمُذَالُ، ثُمَّ الصَّحِيحُ"!

وليست غير تعبير مَنْظوميّ موجَز!

ألأن المؤلف أعاد ذكر بعض تعبيرات منظومته الموجزة عند شرحها، فميزتُ نصوصها من شروحها بعلامات التنصيص المعروفة (" ")، يضمِّنها فهرسَه الدُّكْتُورُ الْمَطْبَعِيُّ الْمُفَهْرِسُ!

لقد كان الكتاب كله -وليس غير شرح تعبيرات منظومة موجزة- جديرا إذن بفهرسه هذا القَمَّاش القَشَّاش!

clip_image001_e9ed9.jpg

سامحني؛ لقد عزمت على سَلسَلة طائفة من المقالات، أنقد بها على هذا الدكتورِ المطبعيِّ المفهرِسِ ما صنعه، لأجمعها وأرسلها إلى سعادة وكيل وزارة التراث والثقافة، أطلب جمع نسخ الكتاب وإتلافها!

(٦)

===========================

تلك كانت سبعة الفهارس الفاسدة التي لم أُسْتفتَ فيها ولم أُدعَ إليها ولم تُعرضْ عليَّ، حتى صادفتها في الكتاب مطبوعة منشورة موزعة، إلى ثلاثة الفهارس الكافية التي صنعتها -وهي مفهرس الموضوعات أربعة- فلم يكن أشبهَ بها من "السَّنَة (الجَدْب)" في مَثَل العرب: "إذا جاءتِ السَّنَةُ جاء معها الغاوي والهاوي"!

نعم؛ فقد مسّتْ فهارسي فهارسُ الدكتورِ المطبعيِّ المفهرِسِ بذَفَرٍ من فسادها حتى أَعطنتْها:

- فإذا مراتبُ عناوين فهرس الموضوعات على موضعين فقط من أسطرها، لا ثالث لهما، تلتبس فيهما الفروعُ بالأصول، وفروعُ الفروع بالفروع- من بعد أن جريتُ في تفريع بعضها من بعض، على أربعة مواضع: أولها للمقدمة وقسمَيِ العروض والقافية والخاتمة وإجمال الفهارس، والثاني لأبواب القسمين، والثالث لفصول البابين، والرابع لمباحث فصول البابين.

- وإذا تكرارات موارد الأبيات التي حشدتُها في فهرس أبيات الشرح، فكان منها الثنائيّ كبيت امرئ القيس:

أَجَارَتَنَا إِنَّ الْخُطُوبَ تَنُوبُ وَإِنِّي مُقِيمٌ مَا أَقَامَ عَسِيبُ،

والثلاثي كبيته هو نفسه:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ،

والرباعي كمثال العروضيين:

أُولَئِكَ خَيْرُ قَوْمٍ إِذَا ذُكِرَ الْخِيَارُ،

فيسرتُ للقارئ العثور على البيت -مهما كانت مواضع وروده- قد انحذفت إلا واحدا غير محدد الموضع من الموارد، وكأنما نَفَسَ علينا جدولَنا الخصيبَ المُحكمَ، ولم يستطع أن يحذفه؛ فأفسد طَرفًا من خِصْبه وإحكامه، وأراح نفسه الأمّارة من عناء التفتيش!

- وإذا أحد عناوين مسرد كتب التحقيق التي جريتُ على تثقيلها وجرى الدكتورُ المطبعيُّ المفهرِسُ على تَحميرها مع تَثقيلها، غيرُ مُحمَّر ولا مُثقَّل، وإذا به خطأٌ صُراحٌ أخطأتُه أنا إذْ أسقطتُ كلمة "ابن" فصار -وهو شرح أبيات سيبويه- للسيرافي، وهو لابنه، كما ذكرتُ في موضعه من حواشي ص305. وإذْ قد انتبه الدكتورُ المطبعيُّ المفهرِسُ إلى خطئي هذا، وجب عليه أن يُصوّبه، فينقله مما بعد زهير في مسرده الأَلْفَبيّ، إلى ما بعد ابن سلام، ويُحَمِّره.

أبلس أ.ع.إ ولم يدر ما يفعل؛ فبادَرَنا أ.سالم البوسعيدي تلميذي العمانيُّ الدكتوريُّ النجيب: لا علاج لذلك إلا أن يُنزع عن الكتاب ما أُلصِق به مما ليس من عمل محققه!

فتلبّث أ.ع.إ يُجرِّب نزعه!

فقلت له: سامحني؛ لقد عزمت على سَلسَلة طائفة من المقالات، أنقد بها على هذا الدكتورِ المطبعيِّ المفهرِسِ ما صنعه، لأجمعها وأرسلها إلى سعادة وكيل وزارة التراث والثقافة، أطلب جمع نسخ الكتاب وإتلافها!

وذكرتُ اقتدائي بعمل محمود محمد شاكر -رحمه الله، وطيب ثراه!- أستاذنا أستاذ الدنيا، الذي لم يكن يأبه بجمع نسخ أيٍّ من كتبه وإحراقها، إذا أصابه ما يكره، مهما كان ما أنفقه في نشره!

المزيد من المقالات...