ذاك كان عنواناً لندوة استضافها صالون عبد الناصر هلال الثقافي مساء الجمعة 13 مايو 2016م  بمقره بحدائق الأهرام بالجيزة.

أدار الصالون د. عزوز علي إسماعيل، وشارك فيه بالكلمات والمداخلات الكاتبة صفاء عبد المنعم، والأستاذ يسري حسان، ود. حافظ المغربي، والأستاذ طاهر البنداري، والشاعر عبد الستار سليم.

وكانت فقرات الطرب من نصيب الموسيقار علي إسماعيل والفنانة عزة بلبع والمطربة داليا عبد الوهاب والموسيقار ناجي نجيب.

وفي ترحيبه بالضيوف وتقديمه لموضوع ندوة الصالون قال د. عبد الناصر هلال: تتنوع اتجاهات شعر العامية المصريه من خلال تجارب الاستقرار الجمالي الذي تجسده عبر نصف قرن مضى تجارب فؤاد حداد وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم والأبنودي، وسيد حجاب الذي حاول خلخلة اليقين الجمالي مروراً بتجربة السبعينيات التى انطلق خلالها ماجد يوسف، ثم الثمانينيات من القرن الماضي وقد تبلورت فيها تجارب مجدي الجابري، ومحمود الحلواني، ومسعود شومان، ويسري حسان، ومصطفى الجارحي، وغيرهم.

ومن أجل ذلك، رأى الصالون أن يقدم ملامح الحركة الشعرية العامية عند هؤلاء الشعراء، وتحديداً تجربة الاستقرار واليقين عند أحمد فؤاد نجم، وتجربة الظن والتساؤل عند مجدي الجابري ومن حسن الطالع أن تتوافق دورة الصالون مع ذكرى وفاتهما رحمها الله.

وقالت الكاتبة الأستاذة صفاء عبد المنعم زوجة الشاعر الراحل مجدي الجابري: لو أن هناك عملاً عظيماً عملته في حياتي فهو الزواج من مجدي الجابري.

وأقول عظيماً مدركة قيمة وقامة مجدي الجابري من ناحية، ولأن زواجنا أنتج جوهرتين غاليتين هما هميس ومي من ناحية أخرى.

وعندما قرأت رواية (خفة الكائن) وكان بطلها قد عاش عشر سنوات مع زوجته جاءني شعور خفي أنني سأعيش مع زوجي مجدي الجابري عشر سنوات، وبالفعل تحقق ذلك.

وعقب الوفاة كتبت (عشر سنوات من الحب لا تكفي)، وكان الجابري مشهوراً بذقنه وشنطته، وكنت أدخل معه في سباق القراءة وأنا دودة قراءة مثله، وأيضاً أدخل معه في سباق الإنتاج الأدبي، فإذا أصدر ديواناً أصدر قصة، وكان شرطي عليه حين طلب الزواج مني أن أظل أقرأ وأكتب وأنشر.

في عام 1990 أصدر أول ديوان له بعنوان (أغسطس)، وأنا أصدرت مجموعة قصص عنوانها (تلك القاهرة تغريني بسيقانها العارية) وساعدنا على إصدارهما الصديق عبد العزيز جمال الدين، وقد أقمنا ندوات كثيرة لمناقشة هذين العملين.

تزوجنا في أكتوبر عام 1988 وتوفي مجدي الجابري يوم 23 مايو 1999م وما تزال فكرة الخلود تؤرقني رغم مرور سبعة عشر عاماً على وفاته!

أيكون الخلود بالكلمة الصادقة، أم بالموقف المشرف، أم بإنتاج الذرية؟

كان الجابري يعمل بالهيئة العامة لقصور الثقافة ولقد طرقت أبواباً كثيرة كي أطبع له أعماله الكاملة لكن الرد الذي سمعته هو: الجابري مات.. شاغلة نفسك ليه؟

وأشكر صديقي الجميلي صاحب دار (وعد) الذي أصدر للجابري أعماله الكاملة.

وألقت الكاتبة صفاء عبد المنعم قصيدة أغسطس لمجدي الجابري وفيها يقول:

ع الصخره اللى هناك ف أغسطس

وشى المحفور

دمى الفوار

أطرافى بتسقط

والملح

ملامح بتغادر كفى / يمام

وتحل الريح من أسرى

تفر الغنوه / الكرباج

من شباك متوارب ع الشط المغروز ف اكتافى

أتوارب

جسمى مقفول على سرب يمام بيسبح للنور المطفى

ولع عود كبريت

حاسب

نفسك عرانى

ورمانى تحت الشلال

يا ستار

الشارع هايص

وكأن القلب نهار

أمال

لما ضمتنى

عشش على أول موجه يمام

النار

تحت مخدتى

ف لسانى

شبك دراعاتك بحر هناك

ع الصخره هدومى

بتهيج اتنين عشاق

بيقربو من بعض

بيتلامسو لأول مره

فرت زغروطه من شباك مقفول

حاسب

الموج غطاك

دمى

أطرافى بتسقط

وبيوت ع الشط هناك بتاكلها

الريح

النار

اكتافى سلخها الليل البحر تقيل

جميل

إنك حطيتى كل الأسرار فى خزاين

مفتاحها

النار

الملح

البنت بتلعن ف عطورى

وبتدخل شق ف بيت مهجور

البيت

الشارع

الناحيه التانيه

بص

طابور من رمل بيعلن

اسمع

ع الصخره اللى هناك ف أغسطس

النور المطفى بيجدل ف ضفايرك

لأ بيشق هدومى ويدخل بينى وبينك

كدابه

احنا اتنين مش واحد

لأ واحد

والدم دليل البحر الهايج

ملح بيشهق ع الصخره هناك

ويمام بيروح على قبة بطنى يسبح

اسبح

القلب / سلاح الكف المتاكل م الملح

الملح

صحيح

البنت بتخرج حبلى من الشق

والصخره / وشى المحفور / أطرافى

النور المطفى

يمام

بيكن ما بين الشطين

ويموت

وغنّى الموسيقار الفنان عليّ إسماعيل مقطوعة صلاح جاهين (عطشان يا صبايا دلوني على السبيل) ونصها:

عطشان يا صبايا ... دلوني على السبيل

في قلبي ولعة قايدة ... من كتر السكسبييل

شكل الصبايا يهبل ... فى لبس المناطيل

رحت لحكيم يداوي ... نار القلب العليل

فتح الكتاب و قال لي ... عندك عقدة خليل

و خليل ده كان عجلاتى ... في درب المهابيل

اللي قال الكلام ده ... أستاذ عالم جليل

إسمه فرويد ولازم ... نعمل لك تحاليل

يا بهية وخبريني ... ع اللي قتل القتيل

قتلوه السود عيونك ... ولا الهم التقيل

و أحكم يا قاضى المحاكم ... بالعدل و الدليل

قال: اللي جيبه فاضي ... ممنوع يعشق جميل

كما غنّى مقطوعة (صباح الخير على الورد اللي فتّح في جناين مصر) لأحمد فؤاد نجم، ونصها:

صباح الخير علي الورد اللى فتح فى جناين مصر

صباح العندليب يشــــدي بألحان السبوع يا مصر

صــبـاح الداية واللفة ورش الملح فى الزفة

صباح يطلع بأعلامنا من القلعة لباب النصر

وغنّت الفنانة عزة بلبع أغنية (بقرة حاحا) لأحمد فؤاد نجم، ونصها:

ناح النواح و النواحة

على بقرة حاحا النطاحة

و البقرة حلوب .. تحلب قنطار

لكن مسلوب .. من أهل الدار

و الدار بصحاب .. و حداشر باب

غير السراديب .. و بحور الديب

و غيلان الدار .. واقفين بنهار

و ف يوم معلوم ... عملوها الروم

زقوا الترباس ... هِربوا الحراس

دخلوا الخواجات .. شفطوا اللبنات

و البقرة تنادي .. و تقول يا ولادي

و ولاد الشوم ... رايحين ف النوم

البقرة انقهرت .. م القهر انصهرت

وقعت بالبير .. سألوا النواطير :

طب وقعت ليه ..؟

وقعت م الخوف

و الخوف يجي ليه .. ؟

من عدم الشوف

و قعت م الجوع و م الراحة

البقرة السمرا النطاحة

ناحت مواويل النواحة

على حاحة و على بقرة حاحا

وألقى الفنان عليّ إسماعيل أغنية (شباك النبي على باب الله) ونصها:

شباك النبي على باب الله

ومافيش اجنبي على باب الله

يا صبية الصبي على باب الله

هاودي وقربي وشربات اشربي

ونلم الشامي على المغربي

شباك النبي على باب الله

على باب الجنة يا طعم التوت

انا ممكن احب لحد م أموت

وأزرعلك جوا البحر بيوت

وأخلي سنين الصعب تفوت

انا اشيل الشقا وانتي تطبطبي

واتعبلك وانتي بلاش تتعبي

شباك النبي على باب الله

clip_image002_ab04a.jpg

ما أجمل أن يقطر القلم مدادًا بطعم الحُب ونكهة العاطفة، صريره كالموسيقى، عذب الأنغام يُخاطب الرّوح بعمق مشاعر الأبوّة والأمومة. زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون، سُنّة الحياة على الأرض، مزجها الكاتب المقدسيّ "جميل السلحوت" بعطرٍ قد يخرج من الوريد مرة واحدة. "لنّوش" إخترقت سنين العمر الطويلة، وتربّعت على فؤاد جدّها الهيمان، تنهل منه العلم والمعرفة والأسئلة الكثيرة. غَزَلَ لها الجدّ "السلحوت"رواية باسمها، تليق بسنوات عمرها الأولى، وأحسنتْ دار الجندي نشرها هذا العام في 45 صفحة من الحجم الطفوليّ. إنها صورة الحفيدة "لينا" يتزيّن بها غلاف هذه الرّواية.

صَدَحتْ صرخات "لنّوش" لأول مرّة على هذه الدنيا "في بلاد العم سام"، حين أتحفنا الكاتب بنبأ ولادتها، وما خطّه لنا من أدب الرّحلات حينها. أمّا في هذه الرّواية، فقد تناول الأديب أدبا أكثر حساسيّة وصعوبة، فوضع أمام القارئ الكثير من التّوجيهات والحِكم والإرشادات، تلك المبنيّة على أُسس العلم الحديث في التّربية والتّعامل مع الطفل. فمن خلال لغة الحوار تارة، وأسلوب السّرد تارة أخرى، كانت "لينا" المدلّعة باسم "لنُوش" هي الشّخصيّة الرّئيسة في مجريات أحداث رواية اليافعين. إستطاع الأديب الجدّ أن يصف للقارئ سلوكيّات وتصرّفات حفيدته، العفويّة، في الصف الدّراسيّ الأول وقد بلغت السّادسة من عمرها، وكذلك يبيّن لنا بعض العادات الطّيبة والحميدة التي اكتسبتها هذه الطفلة من بيتها. كما يُوضّح لنا الكاتب، وبطريقة مباشرة، إيمانه واقتناعه بأنَّ الجنين داخل الرّحم يستطيع أن يسمع محيطه، ويحسّ بمشاعر أمّه، وأنّه يتذكّر ويتأثّر بالكلام من حوله؛ كسماع الموسيقى والآيات القرآنيّة، وهذا ما أثبتته التجارب الحديثة .

"لنّوش" عرفتْ الكتابة والقراءة والرّسم في مرحلة مبكّرة جدا، ليست لأنها نابغة، بل يُحدّثنا جدّها بأنَّ الأهل استخدموا مع ابنتهم طرق التّعليم والتّثقيف والتربية المتطوّرة. ومن الخطأ بمكان وزمان، أن يترك الأهل أطفالهم بفراغ قاتل لفترة من الزّمن في سنوات عمرهم الأولى معتمدين على المدارس، فيكون قد تأخّر الوقت على مَن يبتغي من طفله الشيء الكثير. هذه الرّواية القصيرة، كما صنّفها كاتبنا  "السلحوت"، تحمل أفكارا جميلة وراقية في العلوم الإنسانيّة وأصول التربية. لكن السّؤال المُثير للشّفقة، فيما إذا كان الوالدان لا يحملان سلاح العلم؟ فيكون الأثر واضحا ومحزن.!

امتازت هذه الرّواية بلغة بسيطة ومعانٍ لا تشوبها الحيرة، وأيضا بأسلوب سلس وسهل يستقر في خيال القرّاء من اليافعين. وفي حال تمّ مناقشتها بينهم، قد تجد النّتائج جدّا مُرضية، خاصّة وأنَّ الطّفل لديه غريزة التّقليد والغيرة الإيجابيّة، وتبدأ بينهم سباق القمّة والشّهرة والتّحدي. أديبنا ما زال ذلك المعلّم الذي ينقل إلى الصّغار، حسّه الوطنيّ والمعرفيّ وحلم كل فلسطينيّ بالتحرّر والاستقلال، فطرّز لنا صفحاته بالنشيد الوطنيّ المؤثّر وحامل الرّسالة الخالدة والعظيمة:

بحقِّ القسم تحت ظلِّ العَلم لأرضي وشعبي ونار الألم،

سأحيا فدائي وأمضي فدائي وأقضي فدائي  إلى أن تعود،

بلادي بلادي بلادي يا شعبي يا شعب الخلود.

وهناك سمة أسلوبية أخرى ترتبط بالروح الساخرة التي يتميّز بها الوردي أولا ، وبـ " تمرير " الحفزات التحرّشية المسمومة " ثانيا . وهذه السمة اكتسبها الوردي من تأثراته بالإسلوب " الخلدوني " . قال الوردي :

( لعلني لا أغالي إذا قلت أن آراء ابن خلدون كانت أشد انحرافا عن شرعة الأخلاق والأديان من آراء زميله الايطالي [ يقصد مكيافيلي ] ولكن الناس لم ينتبهوا إليها . فقد امتاز ابن خلدون بإسلوبه الدبلوماسي الذي يغطّي الآراء المنحرفة بغطاء برّاق . فهو يكثر من ذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية يدعم بها براهينه ، ويكثر كذلك من ذكر العبارات الدينية ينهي بها أقواله من قبيل " الله أعلم " و " هو الهادي للصواب " و " عليه التوفيق " وما أشبه ، وظنّ الناس أنه كغيره من الفقهاء والمؤرخين سائر على سنة الله ورسوله ، ولو أنهم أدركوا مقاصده الحقيقية بوضوح لربما شنّوا عليه حملة شعواء لم يعهد مكيافيلي لها مثيلا" (407) .

لقد انتقلت هذه العدوى التحرّشية الأسلوبية من ابن خلدون إلى الوردي ، فقدّم لنا طريقة باهرة في الكتابة لم يعرفها الكتاب العراقيون والعرب من قبل في ثباتها وديمومتها وفي إصراره عليها عمرا فكريا كاملا يعكس " قصديتها " العالية ، وتصميم الوردي المسبق على ترسيخها في الخطاب الثقافي العراقي . في كل صفحة من صفحات مؤلفات الوردي ، يجب أن تكون هناك جملة ، عبارة ، أو فقرة تنتهي باستغفار ديني أو استشهاد بنص قرآني أو بحديث شريف ، أو حوقلة مدروسة ، أو تعوّذ مخاتل ، وإليك هذه النماذج :

# ( اتفق لي في عام 1951أن أخرجت كتابا صغيرا بعنوان : " شخصية الفرد العراقي " قلت فيه أن الشعب العراقي ذو شخصية مزدوجة . ومن طريف ما أذكره في هذا الصدد أني لقيت بعد قيام الثورة بيوم واحد شابا متحمسا كان في الماضي من أصحابي المقرّبين ، ولكني وجدته في ذلك اليوم عابسا لا يحب أن يكلمني . وقد تحقق لي أنه صار يكرهني بعد قيام الثورة مباشرة . لاحظت ذلك فيه حين أخذ يوبّخني ويسأل : " كيف يجوز أن يكون هذا الشعب العظيم مزدوج الشخصية يا ترى ؟ " . فلم أجد له جوابا إلّا أن أعتذر إليه قائلا : " إني قد أذنبت في حق هذا الشعب العظيم ، وأستغفر الله وأتوب إليه" (408) .

# ( أنظر على سبيل المثال إلى النبي العبقري ( محمد بن عبد الله ) . لقد كان هذا العبقري نادرا حكيما واقعيا بعيد النظر حين يضع الخطط أو يدير المعارك أو يسوس الناس . فإذا توجه نحو ربّه نسي نفسه وانغمر في إيمان عجيب تحسبه جنونا وما هو بجنون . يُروى عنه انه كان قبيل معركة بدر الكبرى يستشير أصحابه وأهل الخبرة منهم فيعبّيء جنده ويعد سلاحه كأي قائد بارع من قوّاد هذه الدنيا . حتى إذا دنت ساعة النضال رفع يديه نحو السماء فذهل عن نفسه  وأخذ يدعو ربّه دعاءا ملتهبا يكاد يفجر الصخر الأصم . فهو في مرحلة الاستعداد غيره في مرحلة الهجوم ، وهو بذلك قد جمع بين جنبيه النقيضين . أما أتباع محمد فهم ، كما قال المعري :

أما عقلاء لا دين لهم أو متدينون لا عقل لهم ..

ولا حول ولا قوّة إلّا بالله ...) (409) .

# ( حدث منذ سنوات أن تنافس إثنان من أبناء الشيوخ على حبّ راقصة ، فأخذ كل منهما يقدم لها هدايا ثمينة بغية التفوق بها على غريمه ، وكانت الراقصة شيطانة تعرف كيف تؤكل الكتف والرقبة معا . فجعلت كلا منهما يغار من الآخر ويحاول مغالبته في السخاء والمجد السمين . وكانت العاقبة أن أفلس الولدان واستغنت الراقصة . ولا يحسبن القاريء أن إفلاس الولدين كان نهائيا . إنهما يملكان من أقنان الأرض ما يستطيعان به خلق ثروة جديدة . فإذا كان في البلد راقصات تسلب المال ، ففيه كذلك فلاحون يخلقون المال من جديد ، والله فوق أرزق الرازقين" (410) .

# ( إنه يخشى على السلطان أن تسقط حشمته وتخرق هيبته . وما دام الأمر قد صار منوطا بحفظ الهيبة والحشمة ، فإن احترام السلطان قد أصبح واجبا على كل مؤمن ومؤمنة بغض النظر عمّا يقوم به من مظالم وفضائح . ولا بأس إذ ذاك أن ينحني المؤمنون لأميرهم تبجيلا ويرتّلون في مديحه القصائد الطوال . فكل ذلك يؤدي إلى زيادة هيبة السلطان عزّ نصره . إن وعاظ السلاطين كادوا يجمعون على أن النهي عن المنكر واجب عند القدرة عليه . أما إذا أدى إلى الضرر بالمال أو البدن أو السمعة وغيرها فهو محظور منهيّ عنه . يقولون هذا في  عين الوقت الذي يقولون فيه بوجوب الجهاد في سبيل الله . فهم لا يبالون أن يتضرّر المسلم في ماله وبدنه ما دام يحارب بجانب السلطان ضد أعداء الدين وأعدائه . هذا ولكن الضرر الذي يجنيه المسلم من محاربة السلطان الظالم يعتبر في نظرهم تهلكة ينهى الله عنها ، ومعنى هذا أن الدين أصبح عندهم بمثابة طاعة السلطان في سلمه وحربه ، ولا يهمهم بعد ذلك أن يكون السلطان ظالما أو عادلا . فهذا في نظرهم أمر بسيط لا أهمية له .. والله يحب المحسنين" (411) .

ومن الضروري القول إن ماقام به الوردي ليس ابتكارا بل إعادة إكتشاف يخدم استراتيجيته التي تبغي تقويض هيبة السلطة النصية المرجعية الجاثمة على صدر الجسد الثقافي في العراق ، إذ أن الأصل يعود إلى سمة أسلوبية إسلامية شاعت في المدونات الكتابية للكثير من الفقهاء وعلماء الكلام والفلاسفة المسلمين . خذ مثلا ما يقوله ابن حزم الأندلسي :

(( ... فينبغي على هذا أن لا نحكم لشيئين أصلا بحكم واحد لأجل اختلافهما في صفة ما . وكل هذا خطأ وحيرة ، ومؤد إلى التناقض والضلال . ونعوذ بالله من كل ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله )) .

وخذ واحدا من أقوال الغزالي الكثيرة في هذا المجال :

(( هيهات هيهات ، قد اندرس علم الدين بتلبيس العلماء السوء ، فالله تعالى المستعان وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان )) .

وهناك الكثير من الشواهد ، ولكن الفارق في استخدام الوردي لهذه " اللازمات " الأسلوبية يتمثل في أنه يوظّفها للتهكم أو السخرية أو للتحرّش بالنص المرجعي الأصلي . 

clip_image002_8b502.jpg

رواية معيوف هي الرّواية الثّانية بعد "لفح الغربة" لابن قرية بيت حنينا الأديب عبد الله دعيس، ويتّضح من هذه الرّواية أنّ هاجس الغربة الذي اشتهر به أبناء بيت حنينا، وكانوا السّباقين إليه لا يزال يشكّل كابوسا يؤرّق أديبنا. لكنّه في رواية "معيوف" يعود إلى جذور مواطني هذه القرية الرّابضة بين مدينتي القدس ورام الله. مستذكرا شيئا من بعض العادات والتّقاليد من خلال شخحصيّة معيوف بطل الرّواية الرّئيسيّ.

اسم الرّواية: معيوف هو الشخصيّة الرئيسة في الرّواية، واسمه الحقيقيّ رضوان، لكنّ اللقب "معيوف" طغى على الاسم الحقيقيّ.

زمن الرّواية: تمتد الرّواية على طول القرن العشرين، وإن ابتدأت أحداثها بشكل جدّي منذ بداية الانتداب البريطاني على فلسطين بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى.

عادات وتقاليد: من يتابع أحداث الرّواية سيجدها تعجّ بمسمّيات وعادات وتقاليد سادت في مرحلة ما من مسيرة شعبنا الفلسطينيّ، وواضح أنّ الكاتب مطّلع بشكل واسع على تاريخ قريته، وما فيها من عادات وتقاليد. وتبدأ هذه العادات من اسم بطل الرّواية الذي حملت الرّواية اسمه وهو معيوف، ومعيوف الشّخص الذي يعافه النّاس، أيّ يرفضونه ولا يتقبّلونه، وقد لقّبوه بهذا لدرء العين الحاسدة عنه، بعد أن مات أشقّاؤه الأكبر منه سنّا نتيجة للفقر وسوء الرّعاية الصّحّيّة. وطغى اللقب معيوف على الاسم الحقيقيّ رضوان. ومن هذه العادات أنّ المولود الذي يخاف ذووه عليه من العين الحاسدة فإنّهم لا يحمّمونه في السّنوات السبعة الأولى من ولادته، كي تكون رائحته نتنة، تجعل الآخرين يتقزّزون منه، وبالتّالي لا ينتبهون له ولا تصيبه العيون الحاسدة. ومعروف أنّ العين الحاسدة تصيب الأبناء الذّكور دون الاناث حسب المعتقد الشّعبيّ في المجتمعات الذّكوريّة.

 ومن الأمور التّراثيّة التي وردت في الرّواية ما جاء حول تصنيع "القطّين" – التّين المجفّف- و"الزّبيب"- العنب المجفّف- وهذا يعني أنّ أراضي بيت حنينا كانت تعجّ بكروم التّين والعنب. و"العلّيّة" وهي البيت المرتفع وكانت تستعمل كمضافة لأبناء القرى، وغالبا ما كان يملكها المختار.

 وورد وصف لموسم النّبي موسى، ويأتي مصاحبا لعيد الفصح عند النّصارى، وقد ابتدع في العصر الأيّوبي بعد تحرير القدس من الفرنجة في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، وأعاد احياؤه الحاج أمين الحسيني بقوّة زمن الانتداب البريطاني على فلسطين. كما ورد ذكر للكتاتيب التي كان يتعلّم فيها الصّبيان "أصول القراءة والحساب".

وورد ذكر لأسماء بعض الأماكن في بيت حنينا مثل ساحة"ورا الجامع" وجبل دعاس وغيرها.

وممّا جاء أيضا هو التأريخ لبعض الأحداث مثل : تأسيس مدرسة بيت حنينا عام 1928، وافتتاح مقر لجماعة الاخوان المسلمين في القدس عام 1944. وتأسيس شركة باصات لبيت حنينا القدس. وعودة أحد المغتربين في أمريكا من أبناء بيت حنينا عام 1932 بعد غياب عشرين عاما، وكان قد اغتنى بشراء العقارات في نيويورك أثناء الأزمة الاقتصادية في أمريكا عام 1928، وباعها بعد انتهاء الأزمة، فاغتنى وعاد إلى بلاده ليفتح باب الهجرة الواسع لأبناء قريته.

أبو حمار: وهو شخصيّة تراثيّة، كانت معروفة في القرى الفلسطينيّة حتى النّصف الأوّل من ستّينات القرن العشرين، حيث كان يأتي بائع متجوّل بضاعته على ظهر حمار، يبيع "الحامض حلو والحلاوة" للأطفال، وأبر الخياطة وخيطان التّطريز، والمناديل وبعض الأقمشة للنّساء، غير أنّ أبا حمار "بيت حنينا" كان شخصا مختلفا ظهر زمن الانتداب، ولم تكن هذه مهنته الحقيقيّة، وإنّما كانت وسيلة لتحقيق مآربه، فهو يهوديّ من أصول فلسطينيّة، يتمسكن في القرى ومنها بيت حنينا، ويكسب ودّ أهلها، ويشتري أراضي لا تصلح للزّراعة منهم بأسعار زهيدة، وواضح أنّه كان يشتريها لصالح المنظّمات الصهيونيّة الاستيطانيّة. وقد ظهر مع مجموعة من السّيّاح في أسواق القدس بعد قيام دولة اسرائيل، ولمّا تعرّف عليه معيوف، ترك كاميراته في يد معيوف وأخبر الشّرطة بأنّه سرقها، وكانت النتيجة الحكم على معيوف بالسّجن لمدّة عامين.

 معيوف: هو بطل الرّواية الرّئيس، شخصيّة استثنائيّة مضطربة منذ طفولته الأولى، فوالدته منعت تحميمه بالماء في سبع سنوات عمره الأولى، حظي بحبّ والديه كون اخوانه الأكبر منه سنّا كانوا يموتون، شخصيّته انطوائيّة، يعرف الصّحيح ولا يستطيع البوح به، زوّجوه من ابنة عمّه اليتيمة "خضرة" التي كانت تكبره عمرا، لم يقبل بالّزّواج لكنّه لم يستطع الاعتراض، أنجب منها طفلين، وهرب منها وهي حامل في الطفل الثاني، أكمل تعليمه الثّانويّ في المدرسة الرّشيديّة، كان تائها، فهو متديّن بالفطرة، تأثّر بمعلّمه صالح، الذي كان من جماعة الاخوان المسلمين، ارتاد أماكن اللهو مع بعض أصدقائه ولم يستسغها، التزم الصّلاة في المسجد الأقصى، وحضر حلقات الذّكر، عمل في دير اللطرون، وتعرّف على أولغا الفتاة الحلبيّة التي جاؤوا بها إلى الدّير؛ لحمايتها من ذويها بعد أن حملت سفاحا، اتهموه بها ولم يدافع عن نفسه، عمل مدرّسا في مدرسة صورباهر، واعتقل هناك بتهمة الانضمام إلى الاخوان المسلمين، سافر إلى مصر لتكميل دراسته الجامعيّة، وهناك التقى بجماعة الاخوان المسلمين، واستمع لخطابات حسن البنّا مؤسّس الجماعة، واشترك معهم في حرب فلسطين عام 1948، وعاد إلى القدس، وشارك من قرية صورباهر مع معلمه صالح وغيره من جماعة الاخوان في الهجوم على التّجمعات اليهوديّة خارج أسوار القدس، كما شارك في الدّفاع عن القدس القديمة ومقدّساتها. وبعدها عمل مدرّسا في دار المعلّمين في بيت حنينا، ولم يتعرّف عليه أبناء بلدته لطول غيابه عن القرية، ولانتشار اشاعة عنه بأنّه قتل قبل ذلك بسنوات، وهناك رأى ابنيه من "خضرة" ولم يتعرّف عليهما. وفي تلك الفترة تزوّج من المقدسيّة سميرة التي رفض والداها تزويجه منها قبل ذلك لأنّه قرويّ! وسجن لمدّة سنتين بعد أن تعرّف على أبي حمار الذي دخل القدس القديمة مع فوج من السّيّاح، وخرج من السجن ليجد سميرة قد ماتت، سافر إلى أمريكا والتقى هناك بأخيه الأصغر مصطفى، والذي وفّر له عملا معه لا غير، وهناك سجن وأبعد إلى الأردنّ.

 شخصيّة معيوف كما جاءت في الرّواية شخصيّة حائرة متقلّبة، لم تعرف طريقها بشكل واضح إلا في الفترة التي كانت فيها تحت راية جماعة الاخوان المسلمين، لكنّها كانت شخصية خاسرة باستمرار، مثلها مثل غيرها من الفلسطينيّين الذين تكالبت عليهم أمور أكبر من قدراتهم.

البناء الرّوائي: الدّور الرّئيس في السّرد الرّوائي جاء على لسان "معيوف" الذي كان يسرد بلغة الأنا، ممّا يوحي بأنّ الرّواية تقترب من سرد الذّكريات، فقد جاءت مجموعة حكايات وقصص وأحداث متشابكة ومتداخلة، لخدمة الهدف الرّئيس.

لعل من أبرز الأحوال التي يلحظها الناقد في تتبعه للمصطلح النقدي ثمانية أحوال :

1- مصطلحات تتغير دلالاتها عبر العصور :من ذلك مثلا مصطلح (قوطي) إذ كان يعني في القرن السابع عشر القديم والغريب والقبيح لكنه تطور بعد ذلك وتحوّل إلى معنى نقيض تماما وهو الحزن والحنين ليصبح بعد ذلك مظهراً من مظاهر الأدب الرومانسي .

2- مصطلحات ذات معانٍ مختلفة في العصر نفسه:وهي تختلف من ناقد إلى آخر منها: (العقل ،المحاكاة،الطبيعة)،وغيرها من المصطلحات

3-مصطلحات ذات معانٍ متعددة تختلف باختلاف البلدان والأقاليم نذكر منها: الانزياح ،التناص، السيمولوجيا في أوروبا ،السيموطيقا في أمريكا ،السيمياء في التراث العربي

4-مصطلحات تعني أشياء مختلفة عند الكاتب نفسه نذكر منها على سبيل المثال :مصطلح الخير والفضيلة ،مصطلح الخلق الابتكار الإبداع

5-مصطلحات يختلف مدلولها من منهج نقدي إلي منهج آخر :نذكر منها مصطلح النص إذ هو لدى السيسيولوجيين شكل لسانيّ للتفاعل الإجتماعي وهو لدى البنيويين نسيج لغوي متعدد الدلالات يتحاور مع غيره من النصوص السابقة

6-مصطلحات يتراجع عنها نقاد لأسباب خاصة ويبدلونها بمصطلحات جديدة نذكر منها :مصطلح التناص حيث بدله كثيرون بمصطلح المناقلة أو التحويل وذلك عندما لاحظو أن مفهومه قد ضاق فحاولو توسيعه .

7-مصطلحات تدور في فلك مفهوم واحد وتكون محطة مثار خلاف واجتهادات متعددة منها على سبيل المثال :مصطلح وجهة النظر ،إذ لاحظ جينت أن هذا المصطلح هيمن على أعمل من سبقه من الباحثين فبدل به مصطلح آخر هو (التبئير) والمبئرمن يبئر الحكي وهو الراوي وحدد التبئير بأنه حصر المجال أي اختيار الإخبار السردي وهكذا دواليك.

8- المصطلحات الأجنبية التي تتعدد مقابلاتها عند الترجمة إلى اللغة العربية نذكر منها مصطلح(poetics) فقد ترجم بالشعرية والإنشائية والأدبية والشاعرية والشاعري والشعرانية والشعري وعلم الأدب وأصول التأليف والفن الإبداعي وفن النظم وفن الشعر ونظرية الشعر والقول الشعري والبويطيقا..... ممايدل وبوضوح إلى الحاجة الماسة إلى إيجاد معاجم للمصطلحات النقدية من خلال جهود فردية ومجمعية علنا نصل إلى معاجم نقدية تنتشلنا من هذه الفوضى الإصطلاحية التي نعاني منها . وهو ماسأفرد له في حلقات عدّة أتناول فيها أهم المصطلحات وأكثرها شيوعا ...

المزيد من المقالات...