مُقدِّمَة ٌ: الكاتبة ُ والأديبة ُ الشَّاعرةُ " آمال كرَينِّي " من  سكان  قريةِ " كفر ياسيف " الجليليَّة ، تكتبُ  الشعرَ والخواطرَ والقصَّة َ وأدبَ  الأطفال على أنواعِهِ  منذ  أكثر من أربعين  سنة ، ولكنها  تميَّزت  بشكل ٍ خاص في كتابةِ الأدبِ الذي يتعلَّقُ بالطفل - سواء في مجال ِالشِّعرِ أو القصَّة للأطفال .    كتبت  سابقا  الكثيرَ  من القصائد الشِّعريَّة ... بيدَ  أنّها  لم تنشرْ طيلة َ حياتِها سوى   بضع  قصائد  في  الصحف المحليَّة ، وشعرُهَا  يتمتَّعُ  ويتحلَّى  بكلِّ  المقوِّماتِ  الجماليَّةِ  والعناصر الأساسيَة  الهامَّة  التي تحَدِّدُ هويَّة َ القصيدة َ المتطوِّرة والمتكاملة َ من  ناحية : جودة  السَّبك واللغة  الجميلة  والموسيقى الدَّاخليَّة والصور الشِّعريَّة المكثفة والمفردات اللغويَّة والتعابير البلاغيَّة  الجديدة المبتكرة وأهميَّة الموضوع والفكر والبُعد الفلسفي .. إلخ .  ولكنها  وللأسف  لم تهتم للشُّهرةِ والإنتشار  في هذا  المجال رغم  كون مستواها الشِّعري  من أرقى المستويات على الصَّعيد المحلِّي . 

مدخل :  الكاتبة ُ المُبدعة ُ  " آمال  َدلِّه -  كرَيَنِّي "  درست  أدبَ الأطفال دراسة ً أكاديميَّة ً( جامعيَّة )  وعلَّمت  هذا الموضوع  ودَرِّسَتهُ  في  دوراتٍ تأهيليَّةٍ للطالباتِ اللواتي سيعملنَ معلِّمات ومساعدات  في الرَّوضات وصفوف البساتين  .  وكما  أنَّ  " آمال "  علَّمت  الطلابَ -  الأطفال  الصغار -  في الرَّوضات  والصفوف الأولى  ودَرَسَت  نفسيَّة َ الأطفال عن  كثبٍ  دراسة ً ميدانيَّة وعمليَّة  وليسَ  فقط  دراسة ً نظريَّة .  ومن خلال عملها الطويل في  هذا المجال اكتسبت  خبرة ً ودراية ً واسعة ً في  كلِّ  ما  يتعلّق  بعالم الطفل  البريىء والجميل . وعرفت  بالضبط  جميعَ احتياجات الأطفال وكلّ  النقاط والمحطات الهَامَّة  في شخصيَّتِهم ونفسيَّتِهم وتفكيرهم ، وما هي  طموحاتهم وما  هم  بحاجةٍ  إليهِ   من  ناحيةِ   تثقيفيَّةٍ   وتعليميَّةٍ  وترفيهيَّةٍ  ...  فأخذت  كلَّ هذهِ  الأمور بعين  الإعتبار  .     وآمال  كرينَّي  من  طبيعتِهَا  وفطرتها  ( من  السَّليقة ) هي  كاتبة ٌ وشاعرة ٌ  تتحلَّى  بموهبةٍ  شاعريَةٍ  فذةٍ ومُمَيَّزةٍ  ...  والدراسة ُ العلميَّة ُ الأكاديميَّة ُ مع  التجاربِ  الحياتيَّةِ  والمهنيَّةِ  والعمل الميداني أكسبُوها خبرةً  واسعة ً، وعملت هذه الأشياء  على صقل ِ موهبتها  الكتابيَّة  ووسَّعَت  وبلورَت  مفاهيمها الموضوعيَّة والإبداعيَّة  فأبدَعت  أيُّما  إبداع  في هذا الجانب  (  أدب  الاطفال -  سواء الشعري  أو القصصي )  .    وتعتبرُ  من  الأوائل  في  هذا  المضمار، محليًّا ، وأدبُها  للأطفال  يُعلَّم  في  المدارس  والكليَّات  .    هي  تتناولُ  هذا  الموضوع وتكتبُ  لجيل الطفولةِ  المُبكِّرة حتى جيل المراهقة ... فلكلِّ  مرحلةٍ  زمنيَّةٍ  من  عمر الطفل  كتبت  أدبًا  وشعرًا  مميَّزًا  ملائما  لتلك المرحلةِ .. بَيْدَ  أنَّ  كتاباتها  تصلحُ  لجميع  الأجيال  نظرا لقيمتِهَا  التعليميَّةِ والتثقيفيَّةِ ومغازيها الهامَّة  وأسلوبها  الشَّيِّق  الجميل ( السهل الممتنع )  .  

 في مجال الشِّعر-  معظم شعرها الذي كتبتهُ للأطفال باللهجةِ العاميَّةِ المحكيَّةِ القريبة للفصحى، وشعرُها يتحلَّى بالموسيقى الجميلةِ الرَّنَّانةِ (شعر موزون)  وبالكلماتِ الجميلةِ العذبةِ السَّهلةِ التي تنسابُ  بهدوءٍ  وشفافيَّةٍ ، وهي  جميلة  الوقع على الأذن  ونفسيَّةِ الإنسان -  طفلا  كان أو  كبيرًا -  .   وتتناولُ  في شعرها جميعَ  المواضيع الإنسانيَّة والإجتماعيَّة  وحتى الوطنيَّة  والسِّياسيَّة ، فهي تعملُ على تعليم  وتثقيفِ الطفل، بالإضافةِ  إلى تسليتِهِ  وترفيههِ  .      وأمَّا  في  مجال القصَّةِ  فقد أبدعت  كثيرًا ، وكما  ذكرتُ سابقا  أسلوبُها هو السَّهل المُمتنع  فيبدو للوهلةِ الأولى سهلاً ... ولكن ليسَ كلُّ أديبٍ وكاتبٍ بإمكانهِ أن يكتبَ في هذا اللون والمستوى ويُجاريها  في هذا المجال .  فسِعَة ُ إطِّلاعِها  على أدبِ الأطفال (العربي والأجنبي والمترجم ) ودراستها وخبرتها أعطوها آفاقا وأبعادًا أكبر وأوسع للتوغُّل ِ في عالم الطفل المجهول وللإبداع  الكتابي فيما  يخصُّ الطفل . وقد  نشرت آمالُ  الكثيرَ الكثيرَ من قصصها  للأطفال  في صحيفةِ  "الإتحاد " الحيفاويَّة  .       

  نجدُ  في قصصِهَا جميعَ العناصر الهامَّة التي يكتملُ فيها أدبُ الطفل ، وهي :  

1 ) الجانب الترفيهي والمسلِّي  .

2 ) الجانب  التثقيفي  . 

3 ) الجانب التعليمي والإرشادي . 

4 ) الجانب  الإنساني  . 

5 ) جانب  الإيمان  .

6 )  جانب المبادىء والقيم  (  الجانب  السلوكي  ) 

8 ) الجانب  النفسي والجانب الحِسِّي  . 

9 ) عنصر  المفاجأة   . 

... وهذا مِمَّا  يجعلُ  لقصصِهَا طابعًا  ونكهة خاصَّة ً  وقيمة ً سامية ً وهدفا إنسانيًّا وتربويًّا من الدرجةِ الأولى . وتستحقُّ قصصُهَا أن  تدرَّسَ في  جميع  المدارس  لجميع  مراحل الطفولةِ  حتى  جيل النضوج (  بعد  المراهقة ) ، إضافة ً إلى أشعارها  وقصائدها  للأطفال  .        

      أصدرت الكاتبة ُ " آمال كريَنِّي " عدَّة َ  مجموعاتٍ  قصصيَّةٍ  وشعريَّةٍ  للأطفال .  وهي كما  يلي :      

1 ) كتابان  قامت  بترجمتهما   مع  طاقمي : - مركز المناهج  التعليميَّة  -  وزارة المعارف والثقافة   وجامعة حيفا  .    الكتاب  الأول عن  نهج  الحياة الديمقراطي ، في بساتين  الأطفال -  مرشد  للتربية  .     

 والكتاب الثاني -  " بساط  الرِّيح "  وهو  تجميع قصص  متنوِّعة لجيل  ما قبل  المدرسة  -

1) قصَّة " مروه  والضفيرة "- إصدار دار الطفل العربي - تأليف ورسومات :  آمال كريني .  

2 ) قصة " قطرة ماء "     .                                                                       3 ) قصة  " قطرة ماء " - جزء 2   .

4) " أناشيد  للأطفال ( مع شريط مغنى) - رسومات وتأليف آمال كريني .

5 )    قصة " عيد حب "   .

6) قصة " طائرة ورق " ( مع شريط مغنَّى ) - تاليف أمال كريني ، رسومات آمال كريني  .    

7 ) قصَّة " أوبريت طائرة ورق "  ( مع شريط مغنّى ) – تأليف آمال كريني ،  رسومات  إيرينا  كريني  .

8 ) قصة " بلبل بلابل " – تأليف آمال كريني ورسومات د. سليم  مخولي .    

9 )  قصة  " أنا  أكبر "  -  تأليف  آمال  كريني  ورسومات الكتاب " فداء زحالقه " .       

10) قصة "حديقة أم علي- تأليف آمال  كريني ورسومات" فداء زحالقه " . 

   وكما أنَّ آمال تكتبُ الشعرَ السياسي والأناشيدَ  للأطفال، ولها عدة  قصائد ملحَّنة ومغناة  ، ومنها مثلا :

1 – قصيدة " أنا ولد  صغير " -  ألحان الأستاذ  " عماد دلال "  .

2-  سأغنِّي لطفل صنع البطولة  ( ألحان  عماد  دلال  )  .

3 -  " يا  ضمير العالم  إصحَى " -  ( ألحان  وغناء  المطرب  الفلسطسني الكبير " مصطفى الكرد )  .    ولها  كتابان  في  مرحلة  الطباعة ، وهما :

1 ) كلمة وحركة الأنغام  .

2 )  كتاب  بعنوان  " طير وهدِّي  يا  فراش "  -  للجيل الصغير ...  وهذا  النوع  من الادب لم  يتطرَّق له الأدباءُ  في الداخل بعد ، إنها  قصَّة تراكميَّة خفيفة ، مسلَّية ، فيها موسيقى ، وفيها  حركة  تساعد على الحركة ويستطيعُ الطفلُ حفظهَا   . 

   وفي هذه المقالةِ  سأركِّزُ الأضواءَ على  كتابتِهَا  في مجال أدبِ الأطفال -  وسأختارُ بعض النماذج  والنصوص  من  إنتاجها - للأطفال -  مع  الدراسةِ والتحليل - وسأبدأ بكتابها : " أناشيد  الأطفال "- والكتاب يضمُّ عدَّة َ قصائد للأطفال كٌتِبت  باللهجةِ العاميَّةِ القريبةِ للفصحى  وَتُحَلِّي الغلافَ والصفحات الداخليَّة رسوماتٌ جميلة ٌ مٌعبِّرة ٌ بريشةِ الفنانةِ  نفسها  " آمال كرينِّي "  .

  تقولُ  آمال  في قصيدةٍ  بعنوان : " أنا ولد  صغير " :

( " أنا     ولد     صغير  //  بَسْ  قلبي  كبير  كبيرْ  //

    أنا راسي صغير صغير // بس عقلي كبير كبيرْ //

    أنا بعرف شو عَمْ بصيرْ   //  " ) . 

وتقول في القصيدة أيضًا :

( " يا  عالم  يَلاَّ  هَدِّي  // أولاد صغار  يا جدِّي  //  بوموتو  وهُنِّي قدِّي // 

   بدنا سلام يا ربِّي ... //  سلام عادل يا جدِّي  // ونفرح يا شعبي وبلدي //

 والعالم  كلُّه  حَدِّي  //  وين السَّلام  يا  ربِّي // سلام عادل يا جدِّي // " ) .

      وحسب  قول الشاعرة  " آمال "  لقد  أطلعَ على هذه  القصيدةِ  وقرأها  الشاعرُ الفلسطيني الكبير  المرحوم  " محمود درويش "   وكان  زميلا  لها  في  الدراسةِ الثانويةِ  في  قرية  كفر ياسيف ،  وقد أعجبَ  كثيرا  بالقصيدةِ .. لمعانيها  وأهدافِهَا السَّاميةِ  . وهذه القصيدةُ من ناحيةٍ عَامَّةٍ وتحليليَّةٍ  فهي جميلة الإيقاع  وسهلة ٌ للحفظِ  وسلسة ٌ، وتدخلُ للأذن ِ والقلب بسهولةٍ ( من ناحيةٍ ذوقيَّةٍ )  ويحفظها الطفلُ  بسهولةٍ  .  وأمَّا  أهدافها المعنويَّة  والفكريَّة  فهي تجَسِّدُ واقعَ الطفل الفلسطيني الذي يقبعُ هو وأهلهُ وشعبُهُ  تحتَ  الحصار  المؤلم  ويُعاني من أهوال الحرب والتضييق  والتنكيل.  فالطفلُ الفلسطسيني - حتى الصَّغير  جدًّا ( سنًّا)  وعيُهُ  يسبقُ عمرَهُ  وجيلهُ ، ويوجدُ عندهُ وَعيٌ  سياسي  كبير  قد  يتفوَّقُ على  الرجال  الكبار من الشُّعوب الأخرى ، وذلك  نتيجة ً  للظروفِ  الصَّعبةِ  والأهوال التي  يعانيها  ويُشاهدها  يوميًّا ((  من  الحرب  والدَّمار والقصفِ  والتضييقات ))...  وهذه  أقرب  وأسرع  طريقة  لتوعيةِ الشُّعوب .  فهذا الطفلُ عقلُه وتفكيرُهُ  أكبرُ من عمرهِ الزَّمني ( أعني كل طفل  فلسطيني ) -  حسب معنى القصيدة  أنَّ  عقلهُ أكبر من  جيلهِ ومن جسدِهِ   .    كما  أنَّ  قلبَ هذا الطفل  وكل  طفل  فلسطيني  مليىء  بالمَحَبَّةِ  والوداد  والبراءةِ ... وليسَ  بالحقدِ والكراهيةِ  رغم  الظروف القهر والقمع والتنكيل التي يمرُّ  بها مع  جميع أبناء شعبهِ  وأقرانهِ من الأطفال الفلسطينيِّين . وهو  يَعِي  وَيُدركُ  بالضَّبطِ  ما  يجري  حولهُ  .  وهذا الطفلُ  يُحاورُ  جدَّهُ  (  على لسان  الكاتبة  الشاعرة آمال )    ويذكرُ  لهُ  كيفَ  أنَّ  الكثيرين  من الأطفال في مثل جيلهِ  يموتون ويُقتلون دونما  ذنب ، وهو بدورهِ ( الطفل ) يتشَوَّقُ  ويتوقُ للسَّلام ... السَّلام العادل  والمتكاقىء وليسَ  السلام  الناقص   والسَّلام المبني على الخنوع  والذلِّ والتنازل .  وإذا تمَّ السَّلامُ  وأخذ الشَّعبُ الفلسطيني حقهُ سيفرحُ هذا الشَّعب والبلادُ  كلها...وسيحسُّ الطفلُ الفلسطيني كأنَّ  العالمَ  بأجمعهِ  يُشاركهُ  الفرحة َ وكلَّهُ  معهُ  .    ولكنَّ  الطفلَ  يتساءَلُ في  النهايةِ  ويرفعُ  يديه  للصَّلاةِ  متوسِّلا ً  ويقولُ : 

( " وين السَّلم  يا  ربِّي  //   سلام  عادل  يا  جدِّي  //   " ) . – إنتهى  . 

   هذه  القصيدة ُ تجسِّدُ  بالضَّبطِ   شعورَ  وإحساس كلِّ  طفل ٍ  فلسطيني في الضفة والقطاع  وفي الشتات تعرَّضَ أهلهُ  وبلدُهُ  لويلات الحرب والقصفِ  والقمع  والتنكيل  . فيتمنَّى  ، بدورهِ ، كما  يتمَنَّى  معظمُ  الشَّعب الفلسطيني  كبارًا  وصغارًا  حلَّ  القضيَّةِ  الفلسطينيَّةِ  ونيل  الحقوق  كاملة ً  وتحقفيق  السَّلام  العادل  فينعمُ الجميعُ  بالهدوءِ  والأمن  والسَّلام  .  

 والقصيدة مستواها عال لقيمتِهَا الفنيَّةِ والفكريَّةِ والموضوعيَّةِ ولهدفها السَّامي وتستحقُّ أن  توضعَ  وتدرجَ  مع  روائع الأدب العالمي  وأن تترجمَ  للُّغاتِ الأجنبيَّة وأن تلحَّنَ وتغنَّى... وليسَ غريبًا أن يُبدي شاعرنا الكبير" محمود درويش "  إعجابَهُ  بهذهِ القصيدة ، فهي  مُغنَّاة ٌ  وتنشدُ  لكلِّ طفل  قلسطيني .  

     ولننتقل  إلى  قصيدةٍ  أخرى  أخرى بعنوان :  " رايحين  عَ الرَّوضة " - فتقولُ  فيها  آمال  :  

        ( " يا  عَمِّي   يا   بُو  أمينْ            عَبِّ    السَّيَّارَهْ    بانزينْ 

            عَ  للرَّوضَهْ إحنا رايحِنْ             فيهَا     آمال     معلِّمتنا 

             فيها نرسم  ورده  ونهرْ             فيها نرسم  سمكه  وبحر 

             كعكة  عيد  نوكل  شهر             ونغنِّي          أغانينا ..

             روضتنا   فيها    ألعابْ             ونقرا القصَّه من الكتابْ

             والزُّوَّادِه    وَرَا   البابْ             خَبِّيناهَا           بشنطِتنا  " ) . 

     هذه القصيدة ُ كتبتها  باللَّهجةِ العاميَّةِ القريبة  بالفصحَى وهيَ على وزن " القرَّادي " الجميل ، والكثيرون من  شعراء الزَّجل  والعاميَّةِ  يكتبون عليهِ   وهو يصلحُ  لكلِّ المواضيع .  ويمتازُ  هذا الوزن بموسيقاهُ الرَّنَّانةِ  السِّريعةِ  الإيقاع والحماسيَّة ويصلحُ دائمًا للتلحين والغناء، كما أنَّ القصائد  التي على  هذا الوزن  سهلة ٌ  للحفظِ  لجمال  وسلاسةِ  إيقاعِهِ  وملائمٌ  جدًّا  للأطفال .  والقصيدة ُ تعكسُ جَوَّ وعالمَ الطفل وبالذاتِ في الرَّوضاتِ  والبساتين  وماذا  يتعلَّمُون هناكَ  وكيفَ  يرسمونَ  الوردَ  والنهرَ  والأسماك ،  وكيفَ  تكون أيضًا مواسم الأعياد ... وفي  أعياد  ميلاد  الأطفال  كيف  يصنعونَ  الكعك  ويغنون الأغاني الجميلة َ دائمًا ... حيث  تقومُ   كلُّ  معلِّمة  روضةٍ  بدورها  ووظيفتها في سردِ القصص  وقراءتِها  للأطغال ( والكتب مليئة بالصُّور).. وكيفَ  أيضًا  يضعُ  الأطفالُ  زواويدَهم  وشنطاتهم خلفَ  الباب...( إنَّهُ جوٌّ واقعيٌّ مئة بالمئة  لواقع الطفل وعالمِهِ في الروضات  والبساتين ) .   والقصيدة ُهذهِ أيضًا ترفيهيَّة  وَمُسَلِّية ٌ ورائعة ٌعندما  تغنَّى .  ولآمال كرينِّي قصيدة ٌ أخرى  بعنوان : " الزيتون " تتحدَّثُ فيها عن موسم  قطفِ الزيتون ...وتعطي الطفلَ فيها صورةً كاملة ً لشكل ِأشجار الزيتون وكيفَ يتمُّ  قطف  الثمار . فالقصيدةُ  تعليميَّة تثقيفيَّة( فيها تحثُّ الطفل للتمسُّك بالإنتماء وبالجذور والأصول وتعلِّمهُ حُبَّ الأرض والشَّجر والطبيعة والتمسُّك والتشبُّث بالأرض) .  والزيتونُ دائمًا  يبقى رمزًا  للبقاء والصمود  حيثُ  يُعمِّرُ طويلاً  ويظلُّ  رمزًا لهويَّتِنا القوميَّة  وشاهدًا على وجودنا وحضورنا .

     وتشرحُ الشَّاعرة ُ للطفل ِ طريقة َ قطفِ  ثمار للزيتون ( بالشّقشاقة ) ...  وكيف  يلتقطون الثمارَ عن الأرض  فمنها الأسود ومنها  الأخضر والأسمر ...  وكيفَ  يكبسون  الزيتونَ  ويحفظونهُ ، وكيف  يعصرونهُ  في المعاصر ويستخرجون منهُ الزيت  ) .     وتقولُ في القصيدةِ :

( "  ِمشوارْ          مِشوارْ    //      يلاَّ        نرُوح    مِشوارْ    //

     كروم  الزيتون  الحلوه  //       عم  تستنَّى ولادها  لِصعارْ    //  

    ومنحمِل      هالشقشاقهْ  //       ومنفرط     زيّ      الكبارْ   //

    ومنلقط   حبّ   الزيتونْ           إحنا    الحلوين    الشُّطَّارْ   // 

   حبِّهْ خضره // وحبِّه  سمرَا //      بيصيرُوا            قنطارْ    //

    رَصَّت   الماما   وكبسَتْ  //       كوم  الزيتون   ال  بالدَّارْ  // 

    دَرَسنا             وتهنِّينا   //        ومن  المعصرَه  اشترينا   // 

    أطيب    زيت     تعشِّينا  //        من    كرم    أبو   خطَّارْ   // " ) . 

  ولها  أيضًا قصيدة ٌ  في هذا  الديوان بعنوان : " بابا  وماما " تتحدَّثُ  فيها "آمال "على  لسان الطفل  وكيفَ أنَّ  أباهُ وأمَّهُ بجانبه ويشتريان لهُ الألعابَ  ووسائلَ  الترفيهِ  التي  يُحِبُّها  ويهتمَّان  به  كثيرًا  ولا  يدعانَ  شيئا  ينقصُهُ ...وإذا مرضَ يأتيان بالطبيب إليهِ ... ودائمًا يُدَلِّلانه  وَيُرَبُّيانِه أفضل وأسمى تربية... فهذه القصيدة ُ تعلِّمُ الطفل كيف يُحِبُّ والديهِ ويحترمُهما لأنَّهُ بحاجةٍ إليهما دائمًا ولكونهِما دائمًا  ساهران عليهِ  وحريصان على مصلحتِهِ  وعلى سلامتِهِ  وسعادتِهِ  وحياتِهِ  .  فتقولُ فيها  :

( " بابا   وماما   بحبُّوني           لها     الدنيا     جابوني   

    عملولي   ألعاب   كثير          ودايما  حدِّي  يلاعبوني 

    قبل    النوم     حكولي           قصص  كثيره   هنُّوني  

    لمَّا  ازعل   شي  مرَّه           يجي  لعندي   يراضوني 

    ولمَّا أمرض شي  مرَّهْ           للطبيب        يوَدُّوني  " )  . 

    دلَّلوني        وفسَّحوني         عَلَّمُوني       وربُّوني 

     يا   ربّ   أصير  كبير         تَ    أشيلهُم    بعيوني    "  )   .

 ولها  قصيدة ٌ أخرى بعنوان : " الولد الضَّعيف "   فتعلِّمُ الطفلَ  فيها  كيفَ يهتمُّ بنفسهِ وبنظافةِ جسمهِ كله وفمه وأسنانه... وتشرحُ لهُ  كيف أنَّ النظافة َ مُهمَّة ٌ جدًّا  للإنسان : صحيًّا  واجتماعيًّا  وشكليًّا  .   ولها  قصيدة ٌ بعنوان :   الرَّبيع "  في هذا الديوان وهي تصلحُ  لجيل الطفولةِ المتقدَّم وللكبار نوعا ما  لمستواها العالي ولأفكارها الرَّاقيةِ  وللتشبيهاتِ والصُّور  والتعابير البلاغيَّةِ  الفنيَّة الجميلة  ، فتقولُ  فيها :

( " هلا   بيك   يا  ربيعنا          يا     ملوِّن     روابينا

     يا    مزيّن    أراضينا          يا     مجدّد      أمانينا   " ) .  

  وسأكتفي بهذا القدر من إستعراض قصائد وأشعار  آمال  كريني  للأطفال   وسأنتقلُ  إلى  مجال القصَّةِ  وسأتطرَّقُ إلى كتابها  للأطفال -  قصَّة " بلبل  بلابل " - تأليف  آمال كرينِّي - ورسومات الكتاب المرحوم  د. سليم مخولي .       وهذه القصَّة ُ تعطي الطفلَ كلَّ ما  يحتاجهُ : نفسيًّا  وعقليًّا ، وتدخلُ في ذهنهِ الجَوَّ الأسري الوديعي الدَّافىء وجوَّ السَّلام  والمحبَّة والوداد، وجوّ البراءة .     وللقصَّةِ  دروس إنسانيَّة   تعليميَّة  ،  مثلا ً :  

1)هذه القصَّة تُنبِّهُ الطفلَ وتشيرُ أنَّ هنالكَ البعض  مِمَّن يُريدُ السُّوءَ  للغير .

2 ) القصَّة ُ تريدُ أن  تقولَ  لنا ( وللأطفال) : إنَّ  كلَّ  كائن ٍ في هذا الوجودِ  لهُ  الحقُّ  الطبيعي أن يعيشَ  بحريَّةٍ  وأمان ٍ وأن يكونَ  لهُ  بيتٌ  واولاد ... وعليهِ أيضًا واجباتٌ وخدماتٌ  ولهُ حقوق . وهذه القصَّة ُعبارة ٌعن  قصَّتان  في  قصَّةٍ واحدة - القصَّة ُ الأولى تتحَدَّثُ عن  بلبل وبلبلةٍ  يتزوَّجان ويبنيان  عشَّهما  على أغصان  شجرةٍ  عاليةٍ ، وتبيضُ  البلبلة ُ  بيضها ،  ويتساويان  ويتقاسمان(( البلبلُ  والبلبلة )) الرُّقادَ على البيض حتى يفقِّسَ البيضُ  فراخا  وتكبرُ الفراخُ وتتعلَّم الطيرانَ وتترك الأهل ( البلبل والبلبلة آباءهما ) ويبنون  لهم أعشاشا  مستقلَّة ، ويرجعُ  بلبلٌ  وبلبلة  كما  بدَآ  .    

والقصَّة ُ الثانية ُ تتحدَّثُ  عن  قطَّةٍ تحاولُ  بشتَّى الوسائل والطرق التخريبَ  على العصافير لتمنعهم من بناء الأعشاش ( البيت ) وتربية الفراخ ، وتحاول أكلهم .                

  ولننتقل إلى قصَّةٍ  أخرى من قصص الكاتبةِ  بعنوان : " قصَّة  عيد  ميلاد  حبيب "  .  هذه القصَّة ُ تتحدَّثُ عن  طفل ٍ يُريدُ أن يحتفلَ  بعيدِ  ميلادِه مثلَ باقي  الأطفال  ويُريدُ أن  يدعو  أصدقاءَهَ  ويشتري لهم  الكعكَ  والحلويات  وغيرها .   ولكن  حالتهُ  الماديَّة َ لا  تسمحُ  لهُ  بذلك ،  فيبكي الولدُ  كثيرًا ،  فتهديهِ   الجدَّة ُ هديَّة ً عاديَّة ً وتقولُ لهُ : إذا وشوشتهَا  بجملةٍ عجيبةٍ  غريبةٍ تصبحُ  الهديَّة ُ سحريَّة ً ،  وبعدَ   ذلك يبدأ الطفلُ بتجربةٍ ومرحلةٍ جديدةٍ من  حياتِهِ مفرحة جدًّا  ويحلمُ  بكلِّ ما أرادَ ، ويوقضُهُ والدُهُ   في النهايةِ  فيُدرك  أنَّهُ  كانَ  يحلمُ .... ويتساءَلُ : هل كنتُ أحلمُ ؟؟!  .  وتنتهي القصَّة ُ باحتفال  الأهل  وبكعكةٍ  خبزتهَا  الأمُّ  ويرضَى  الطفلُ  وأهلهُ  .   والقصَّة ُ إنسانيَّة ٌ واجتماعيَّة ٌ ... وفي بعض ِ أجزائِها  واقعيَّة ٌ بحتة ،  وفيها الجزءُ  والجانبُ الفانتازي الخيالي ...( هديَّة جدَّته السحريَّة ) . والقصَّة ُ ذاتُ  طابع ٍ ترفيهي  فتُفرحُ  وتسلِّي الطفلَ فيستمعُ  إليها بحُبٍّ  وشغفٍ واتنسجام  .        وسأكتفي  بهذا  القدر من  إستعراض  قصائد وقصص أدب الاطفال  للكاتبةِ  والشَّاعرة  " آمال كرَيَنِّي "  .

وأخيرًا :  نتمنَّى للكاتبةِ والشَّاعرةِ القديرة  المُبدعةِ  " أمال كرينِّي"  التوفيقَ والنجاحَ والمزيدَ من الإصدارات الأدبيَّة والشعريَّة في جميع المجالاتِ والمواضيع  . 

clip_image002_7ec8a.jpg

"الجَرْأة قد تمْنَحُنا الحياة وقدْ تُعَجّلُ بنَهايتنا. ماذا لو ترَكَ القاتلُ فُرْصةً أخرى للمذْبوحْ كيْ يقولَ كلمةَ حُبٍّ ويُغادرْ..؟!       هل كان سيقولُها لامْرأةٍ نبتَتْ في شرايينه فكانتْ بحَجْمِ وَطَنْ..؟ أم يقولُها لوطنٍ تاهتْ ملامِحُه في لَحْظةِ طَيْشٍ وتَهَوُّرْ..؟! أمْ سيقولُها لمَنْ يَسْتعدُّ لذَبْحه ليَحْقنَ دماءَ الذين سيلحقون به في زَمَنِ الفِتْنة..؟ لكنْ.. لا وَقْتَ لكَلِمَةِ حُبٍّ نقولُها لمَنْ عانقوا أرْواحَنا أو لِمَنْ ذَبحونا من الوريدِ إلى الوَريدْ. الفِتْنةُ اتّسعتْ أكْثَرْ لِتَلْتهمَ المُتألّقينَ بالجُملة. عندما تتفتّحُ شَهيّةُ الوطنِ على أبنائه يَتَخيّرُ الطَّيِّبينَ والمُتألّقين، والّذين تنبُضُ قلوبُهمْ بِحُبّه، وتَلْهَجُ ألْسنَتُهمْ بِذِكْرِه".

زَكيّة علاّلْ التي أهْدَتْنا من ثمراتِ إبْداعِها ثلاثَ مجموعاتٍ قصصيّة، ومجموعةَ رسائلٍ تتحدّى النّارَ والحصارْ، هي مزْجٌ فريدٌ ومُتميّزْ من فنّ القَصّ وأدب الرّسائلْ، تعود إليْنا ـ هذه المرّة ـ من رحلةِ إبْحارِها وغَوْصِها في أعْماقِ الإنسانِ والوطنِ والأُمّة، بلؤلؤةٍ جديدة لاتقلُّ جمالاً وتفرُّداً عمّا ينتظمُ بعُقْدها من جواهرَ ثمينة. (عائدٌ إلى قَبْري) هي روايتُها الأولى، وهي شهادةٌ على عصْرٍ ماتتْ فيه الضمائرُ وخرُبت الذّمَمُ وتحجّرت القلوبْ، فذوتْ أحلامُ البسطاءِ في وطنٍ آمنٍ يمنحهم لُقْمةَ الخُبْز ونعْمة العيْش الكريم، ويُظلّهم بمظلّة المُساواةِ والعَدْلِ الاجتماعيّ. وخابتْ طموحاتهم في مُسْتقبلٍ ينعمُ فيه الأبناءُ بالحُرّيّةِ والطُّمأنينةِ والسّلامْ. وتلاشتْ آمالُهمْ في حفظ الأمانة التي أورثَها لهم الأسْلافْ وحماية التّراثِ الحضاريّ الذي خلّفه الآباءُ والأجدادُ عبْرَ قرونٍ زاهرة، أضاءت الدُّنيا كُلّها بنورِ العلمِ وقيمِ الإنسانيّة ومبادئها السّامية النّبيلة.

تَرْوي لنا زكيّة علاّلْ في روايتها الجديدة حكايةَ شابٍّ من جيلِ ما بَعْدَ الاسْتقلال، ذلك الجيل الذي رزحَ تحتَ نيْرِ الظُّلْمِ والقَمْعِ والفسادْ، وذاقَ مرارةَ الغُرْبةِ في وطنه وبين أهْله وذويه، وخابَ أمَلُه في مَنْ تربّعوا على سُدّةِ المُلْكِ فزاغتْ أبصارُهم وعميَتْ بصائرُهمْ، وامتلأتْ جيوبُهم بالمالِ الحرام  حين اسْتأثروا بثرواتِ الوطن وخيراته، وتركوا الأغلبيّة السّاحقةَ من أبناءِ الشّعْبِ الشُّرفاءْ يُصارعون من أجلِ البقاءِ على قيْد الحياة. ذلك الجيلْ الذي انسحقَ بين مَطْرَقَةِ سُلْطةٍ غير رشيدة، وسِنْدانِ الإرْهابِ والعُنْفِ والجَهْلِ والتّطرُّفِ الذي أغْرقَ الوطنَ في بحورٍ من الدّمِ وأحْرقَ زَرْعَه وضرْعه، حين أحاله إلى ساحةِ حرْبٍ تأكُلُ الأخْضَرَ واليابسْ، ومَطْحنةٍ تلتهمُ الأعمارَ وتنشرُ الرُّعْبَ في ربوعِ الوَطَنْ.

يوسف ـ بطلُ روايتنا ـ شابٌّ من أبناء ذلك الجيلْ، تفتّحتْ عيْناه على فاجعةِ مقْتلِ أبيه على أيْدي حفْنةٍ من الخارجين من كهوفِ التاريخ؛ المُتعطّشين لدماءِ البشَرْ، المُتّشحينِ ـ زوراً وبُهْتاناً ـ بعباءةِ دينٍ جوْهرُه السّماحةُ والاسْتنارةُ ورُقيُّ العَقْل وسُموُّ الوجْدانْ. يتخرّجُ بطَلُنا في الجامعةِ ويعْملُ صَحفيّاً نابهاً ينْغمسُ في همومِ الوطنِ ويُدافعُ عن قضايا البُسطاءِ وحقوقهم المشْروعة في العيْشِ الكريمِ والتّحقُّقِ والإشْباعْ. وفي غَمْرةِ صعوده وبزوغِ نجْمِه في عملِه، يتوثّقُ ارْتباطُه بزميلةٍ خفقَ لها قلْبُه أثناء دراسته الجامعيّة، ونما الحُبُّ بينهما وترعْرعَ في قلْبيْهما، فتوّجاه بالاتفاقِ على الخطبة ثُمّ الزواج. لكنّ يوسُفْ يُكلّفُ بمهمّةِ السّفَرِ إلى العراقْ ليُغَطّي أخبارَ الغزْو الأمريكي الوشيكْ لهذا البلدِ العربيّ الذي يُصرُّ على أن يبقَى رأسُه مرْفوعاً في وجْه الهجْمةِ الأمريكيّة الشّرِسَة التي لا تسْتهدفُ أرْضَه وثرواته فحسْب، بلْ تسْعى ـ في المقامِ الأوّلْ ـ إلى تدميرِ تُراثه الحضاريّ والإنسانيّ ومَحْو هويّته القوْميّة. في العراقْ يلتقي يوسُف بزملاء وزميلاتٍ من الصّحفيين الذين جاءوا أيضاً لتغطية الأحداثْ:عمّارْ من فلسْطينْ، وإنْعامْ من مصْر، وإلْهامْ من تونسْ، ومنصورْ وناصرْ وآخرين غيرهمْ من الصّحفيين والمراسلين العربْ. كُلٌّ من هؤلاءِ جاءَ يحملَ حكايةَ وطنٍ مقْهورٍ بساسته، محْكومٍ بالخوْفِ والرُّعْب، موْبوءٍ بالفسادِ والعُنفِ والتّطرُّفْ. رحْلةٌ طويلةٌ يعودُ منها يوسفْ بساقٍ واحدة بعد أن فقدَ ساقه المُصابة في بغدادْ. يعودُ بطلُنا ليَنْكفئَ على قبْرِ أبيه الذي لا يَضُمُّ من رفاتِه غيرَ بقايا رأسٍ عادَ إليْهم ـ بعْد نَحْرِه ـ في كيسٍ من أكياسِ القمامة، بينما بقي الجَسَدُ بعيداً لا يعْلمُ غيرُ الله في أيِّ أرْضٍ أُلْقيَ أو دُفِنْ. يعودُ يوسُفْ بعد سقوطِ بغدادْ مُنْهكاً مُنْكسراً بوجعه وإحْباطاته ونكْبةِ جيلِه ومرارةِ الفقْد ليحْتمي بصَدْرِ أُمّه التي غابَ عنها سنينَ دراسته وعمله وصعود نجمه بالصّحافة، ورحْلةِ وجعهِ وانهزامِه وفقْدِه لجُزءٍ عزيزٍ من جسدِه، ليبْكي على صَدْرها، بُكاءَ طفلٍ تقطّعتْ به السُّبُلْ، وجيلٍ احترقتْ أعْمارُ شبابه وذَبُلَتْ أحْلامهم وانْطفأتْ شموعُ الأملِ في ليْلهم الطّويلْ.  

رواية زكيّة علاّلْ الجديدة (عائدٌ إلى قَبْري) ليستْ حكايةَ شابٍّ أو جيلٍ مَحْكومٍ بأقدارٍ جائرةٍ وأحْداثٍ دامية، ولا هي قصّةُ وطنٍ يأكُلُ أبناءه وينفيهمْ ويُبدّدُ أعْمارَهم وأحْلامهم وطموحاتهم هباءً، بل هي تأْريخٌ لأمّةٍ بأكْمَلِها تواجه هجْمةً شَرسَة من داخلِها وخارجها، هجْمةٍ لا تسْتهدفُ أمْنَها وحضارتَها وخيراتِها فحسْب، بلْ كينونتها ووجودها كُلّه. 

لا أجدُ ما هو أكثر مُلاءمةً لأخْتتمَ به كلمتي الموجزة هذه، إلاّ كلمات كاتبتنا المُبدعة زكيّة علاّلْ  منْ حوارٍ بين صَحفيٍّ جزائريٍّ وصَحفيَّةٍ مصرية، في ثنايا هذه الرّواية البديعة:

"ما يُؤلِمُ حَقّاً أنَّ كُلَّ عرَبيٍّ أصْبحَ مَعْطوباً في روحه وجسدِه.. ليسَ بِفِعْلِ حَرْبٍ خاضَها مع العدوّ، وإنّما هو مَعْطوبُ فِتْنةٍ أو فَسادٍ في بلدِه. فِتْنة تأخذُ منّا الّذين نُحبُّهم، وتُسْلِمُنا لِيُتْمٍ يسيرُ بنا إلى إحْباطٍ يَتغَلْغلُ في داخلنا لِيُصْبحَ وطناً لا نُغادرُه إلاّ إلى القَبْر".

شُكْراً لكِ زكيّة عَلاّلْ.. لامَسْتِ جُرْحَنا الحَيّ بحساسيةِ المُطبّبْ وِمبْضَعِ الجَرّاحْ، فنبَضَ بوجَعٍ لم نقْدِرْ على البوْحِ به طوالَ أعْمارِنا، ونزَفَ صَديداً كثيراً لطالَما سرى ألمُه في أجسادنا دون أن يخْرُجَ للملأ صراخاً يوقظُ من اسْتسْلموا لخدَرِ النّوْم وصَمّوا آذانهم عن سماعِ أصْواتِ الموجوعينْ.

شُكْراً لكِ زكيّة عَلاّلْ..

كُنتِ بالغةَ الكرَمِ فحكَيْتِ حكايتَنا.. وبلّغْتِ رسالتَنا.. وأسْمعْتِ صَوْتَنا.. صَوْتَ الفقراءِ والبُسطاءِ والمُهَمّشينْ.. المُؤمّلين في غدٍ تسْطعُ فيه شمسُ الحقِّ والحُرّيّة والعدالة.. الطّامحين إلى وطنٍ يسودُه الأمْنُ والسّلامُ والطُّمأنينة.

clip_image002_25f5a.jpg

أحاول قراءة سرّ الواقع والخيال، والنّوم الطّويل الخالي من الأحلام وأزيز الرّصاص، أبحث عن السّيادة في ترويض الأقوى وصولاً إلى نشوة الإنتصار. هو الذي تمكّن منّا وحشرنا تحت تسلّطه .. هو ساديّ يُمتّعه التمزيق، وكفّ الوسادة على فم النّشوة وخنقها. في دراما فلسطينيّة نابضة، خرج إلينا الرّوائي "سليم دبور" بروايته الجديدة "الهروب" التي صدرت بداية العام 2016 عن دار الجندي للنّشر والتوزيع في القدس، والتي تقع في 450 صفحة من الحجم المتوسط، هذه الرّواية تُعيد إلينا لحظات الألم والبؤس التي عاشها معظم أبناء الشّعب الفلسطينيّ إبّان سنين الإنتفاضة الثّانية.

لم أعد أستطيع الخروج من ذاتي لكثرة تحليلي لما يدور في هذه المنطقة من أحداث ودمار وخراب، يُصيب فقط الشّعوب الضّعيفة المُتآمر عليها. أمّا على هذه الأرض فقصص أهلها كثيرة وكبيرة ومؤلمة، فقد إختار الكاتب حكايته الإجتماعيّة السّياسيّة الدّراميّة الحافلة بالأحداث المفصّلة، والتي تدور على محاور عديدة، شخصيّات رئيسة وأخرى ثانويّة، بأسلوب السّرد الرّوائيّ والحوار المكثّف، حكاية أبناء المخيّمات والقرى الفلسطينيّة ومقارعتهم للّحياة أيّام المدرسة والجامعة بحثا عن الأعمال الشّحيحة، وبناء المستقبل كسائر شعوب العالم. لكن يبدو أنَّ العالم نسي أو تناسى أنَّ هناك شعبا واحدا ووحيدا لا زال يجثم تحت نير الأحتلال، كما يُشير الكاتب، وأنَّ هذا الإحتلال يعيث في الأرض والجسد والنّفس فسادا مريرا لا يقاس بالمكاييل.

دمج الرّاوي مجريات روايته بالتسلسل التاريخيّ لأحداث الإنتفاضة، كسرد موجز لأخبار الوطن آنذاك من إقتحامات وتدمير وإغلاقات، ومحاصرة شعبنا في مدن الضّفة الغربيّة والقرى والمخيّمات. دمجها مع بعض الحكايات المجتمعيّة وحياة الأفراد والعائلات وصنوف العذاب، التي طالت حياتهم وبيوتهم، وذلك بأسلوب عاطفيّ أثار لدينا مآسي ما عانيناه ورأيناه. الكاتب "سليم دبور" إبن الزّمان والمكان، إبن مخيّم الجلزون الصّامد، عاش جميع لحظات روايته بصدق وواقع حقيقيّ، أحيانا كان يتنقّل بنا بلغة سهلة مع توتير أعصاب عالٍ، وأحيانا أخرى عَبْرَ سيارة إسعاف تحمل شيئا ما، مريضا أو ميتاً\ أو خبزا، وربما يكون عريسا وعروسه في أوج زينتهما؟ وضع الكاتب لنفسه الأدوات المساعدة الكثيرة لضبط مجريات الرّواية، بعضها كانت غير مُقنعة، والبعض الآخر كانت تحت قاعدة "الضّرورات تبيح المحظورات". نظرا لطول الرّواية وتعدّد شخصيّاتها، كان تقاطع خطوط الأحداث كثيرة ونتائجها متناثرة ومترامية الأطراف. وعليه كان على الكاتب أن يتدخّل لوضع حدّ لنزيف التّشتت الذي قد يصيب القارئ للرّواية. أمّا إذا تكلّمنا عن عنصر التّشويق، فكان في البداية كبيرا ومثيرا، لكن مع الإقتراب من أحداث النّهاية، أصبحت توقعاتنا للنّتائج وإستباقنا للأحداث صائبة، وهذا بالتالي قد يكون خللا بسيطا في بناء الحبكة الرّوائية؛ تأكدنا أخيرا أنَّ "صابر" و "جرعوش" و "أيوب" لن ينقطعوا لا من أكل ولا من أموال، ولا حتى من الحمير كوسيلة نقل، وأمورهم ستبقى سالكة طول أحداث الرّواية. بتر قدم "أيوب" كانت متوقّعة من ذِكر نوع الرصاص، أمّا تدفّق الدولارات على "صابر" و "أيوب" بشكل غير منطقيّ، وتداخل الحرام بالحلال في مسألة دينيّة لم يخرج بها الكاتب بحل ناجح ومُرض. ومسألة سلب "نضال" للملايين من الدّولارات بسبب الوكالة التي يمتلكها، فكانت متوقّعة وواضحة جدا. بينما العودة لنقطة الصّفر والتّشرّد في نهاية الرّواية، فهذا المصير المحتوم ضمن الكبت السياسيّ والإجتماعيّ القائمين.

أحدثَ الكاتب "الدبور" فجوة إجتماعيّة سلبيّة تُثير الكراهيّة والحسد بين النّاس، حين أدخلَ مسألة الرأسماليّة داخل المخيّم بإعتباره شعب مثاليّ، وهذا أيضا يصبّ في عالم الخيال ويخمد لهيب العاطفة المتأجّج داخل قلوب القرّاء تجاه المخيّمات.

إحتوت الرّواية على نصوص بلاغيّة قويّة المعنى والمضمون، تأخذ القارئ للبحث عن مكنون المعاني التي يرمز إليها الكاتب، الست سنوات لم تكن عبثا، فهي سنوات المخاض في الإنتفاضة الأولى تُسفر عن حمل واهم وولادة كاذبة. الكثيرون مثل "صابر" تماما يودّون وبلهفة العودة إلى المصحّة وإنهاء المسرحيّة الهزليّة المُشبّعة برائحة دم الأبرياء. أفاض الكاتب من خلال الشخصيّات بما يجول في نفسه وخاطره، فصرخ بصوتٍ كاتم يُسمع به فقط الأموات، ويناجي فيهم وطنيتهم وتاريخهم وإيمانهم المساعدة في نَيل أدنى حقوق العيش بكرامة على تراب الوطن. تزيّنت الرّواية بالصور البلاغيّة الجميلة، ومعاني المفردات العميقة الهادفة، تلك الرّموز الفنيّة المؤلمة هي نتاج حصاد سنين المعاناة من الإحتلال الأول مدعوما بإحتلال ثانٍ؛ فلو كان الحمار يملك ذرّة عقل لأدرك أنَّ كلينا مُستهدف من قِبل الوحوش البشريّة، ولن نتحرّر أبدا إلاّ إذا أنصفنا بعضنا، وتوقّفت الكلاب عن النباح أثناء سير القافلة.

تساؤلات فلسفيّة كثيرة يطرحها الكاتب في الرّواية، وتبقى إجاباتها مُعلّقة تَبَعا للظّروف المُتغيّرة على أرض الواقع. فالسّياسة لعبة يُسيّرها مُهرّج محترف، يُجيد الرّقص على الحبال ويمزج العجل بالقدم بالصوت بالإنسان، ويصبح أمرا واقعيّا لا يفهمه أحد. أمّا الحديث المتواصل مع أموات غائبين حاضرين، إنما رمز عظيم ودروس في الإنسانيّة التي انفرد بها فقط شعبنا المناضل.

يراعكَ الجميل أيها الكاتب "الدبور" كان بمثابة ذلك التّنويم المغناطيسيّ العاطفيّ الذي ضرب الدّمعة من سباتها، ونفّض المشاعر من معاقلها، وسلب الرّوح إلى حيث تهيم الأحلام في سمائها .. (الهروب) يا أديبنا كان من المخيّم إلى المخيّم، من الحلم إلى الكابوس، من الضّياع إلى الفقدان ومن وجه الأرض إلى القبر؟

clip_image002_104d5.jpg

من نعم الله على العبد نسيانه لصفحات من الماضي القريب والبعيد من سجل حياته اليومية، فالإنسان في مسيرته اليومية كالحدثين الليل والنهار، هناك نور وظلام، هناك بقعة ضوء ومساحة عتمة، دورة من الحياة ينتظم في سلكها كل الناس بلا فرق في المقامات والشأنيات، فكما تشرق الشمس على الأخضر واليابس والجبال والبحار والحضري والبدوي، فإن الظلام يحل على الجمادات والنباتات والحيوانات وكل دابة تتنفس على وجه الأرض وهكذا هي الحال في دورة الحياة مع الإنسان الذي يتنقل بين الضحكة والدمعة، بين الفرح والترح، بين الغنى والفقر، يتذكر شيئاً وينسى اشياءً، يستذكر بعضا من التاريخ ويتناسى أبعاضا منها، يستغرق في الماضي الوردي مستحضراً ما يسر نفسه ليشغل فراغها ويسد عليها منافذ الريح السوداء القادمة من ثنايا حاضر مؤلم، ويشرد من ماضيه الرمادي أو الأسود مستحضراً كل أدوات التبرير ليشغل النفس اللوامة عن فتح ملفاته بما يعكر عليه صفو يومه وحياته.

قد يعتقد البعض أن كتابة السيرة الذاتية أمر سهل وهين، فما على الإنسان إلا أن يسرد تفاصيل حياته ويسطرها على الورق لتجد طريقها الى المطابع ومن ثم الى رفوف المكتبات ليدفع القارئ من حر ماله حتى يقرأ تجارب الآخر في حقول الحياة المختلفة، فلو كان الأمر كذلك لما مشى أكثرهم الى أصحاب قلم لكتابة سيرتهم أو عرضها على كاتب بارع او محرر خبير ليعيد صياغة السيرة الذاتية بما يتوافق مع اللغة الأدبية الاحترافية التي تكتب بها، لأن السيرة الذاتية هو فن بذاته وإن كانت الأدوات هي نفسها التي يستخدمها صاحب مقالة سياسية أو ثقافية، ولا يجيد هذا الفن الا نزر قليل، وإلا لأصبح كل صاحب قلم راوية وقصصي (سيناريست).

ومن الطبيعي أن يعمد صاحب السيرة الى شطب الكثير من الذكريات المؤلمة على نفسه أو التي تصيب شظياتها المؤلمة نفوس صحب آخرين، وقد يعمد البعض وخلافا للأمانة التاريخية الى اختلاق صور جميلة لنفسه أو يلبس آخرين أثواباً غير حقيقية، زاعماً لنفسه ما ليس له وسالبا عن غيره ما هو حقيق به، على طريقة معظم الأفلام والمسلسلات التاريخية التي ليس لها نصيب من الواقع الا عشرة او عشرين بالمائة والبقية من خيالات المؤلف والمخرج، حتى يظن المشاهد ما رأه حقيقة وليس هو بكذلك.

وفي المقابل، فإنه ليس من السهولة الكتابة عن شخص وتدوين سيرته الذاتية حياّ كان أو ميتاً، ولهذا اختلفت كتب المعاجم والسير التي اشتهرت بها المكتبات العربية، من كاتب لآخر، ولهذا اختلف تقييمنا للمعاجم ومؤلفيها، فربما لصقنا بمؤلف صفة الصدق لتقصيه الحقيقة، وآخر الكذب لتعمده ذلك، وثالث المبالغة لأنه يسبغ على المترجم له ما زاد عن الواقع تعظيما، ورابع التحامل ببخس الناس حقهم وحجب ما لهم أو الحاقه ما ليس من حقهم.

فالكتابة عن الآخرين وبيان سيرتهم الذاتية ربما دخلت في منطوق قوله تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا)، النساء: 58، فلا مبالغة ولا تحامل، ولا إفراط ولا تفريط، وهذا المعادلة السليمة لمستها في تعامل المحقق الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي مع الأشخاص الذين يترجمهم في مطاوي دائرة المعارف الحسينية التي يعكف على التأليف والتحقيق فيها منذ عام 1987م حتى بلغ المطبوع منها أكثر من مائة من مجموع نحو 900 مجلد.

ولما كانت المعاجم مختلفة المشارب، فإن كل قسم منها اعطى المؤلف حقه حسب المشرب الذي ورد إليه صاحب السيرة، وبين أيدينا الجزء الرابع من (معجم الشعراء الناظمين في الحسين) الصادر مطلع العام الجاري 2016م (1437هـ) في 582 صفحة من القطع الوزيري عن المركز الحسيني للدراسات بلندن، تناول فيها المحقق الكرباسي الجانب الأدبي والنظمي في سيرة الشاعر الحسيني دون الجوانب الأخرى، متتبعاً الجانب الأدبي من حياة الشاعر دون الولوج الى تفاصيل حياته اليومية.

ما وراء التقصي

ربما يعتقد أكثرنا أن كتب المعاجم والسير من المجالات التي يسهل التأليف فيها، وهو أمر يتوهم فيه هذا البعض، لأن الإقتراب منه يكشف العقبات والمصاعب، وهي حقيقة عجنت طينتها وعانيت منها ولازلت منذ أن صار التنقيب عن السير الذاتية جزءاً من عملي التحقيقي في دائرة المعارف الحسينية، وهذه الحقيقة يؤكدها المحقق الكرباسي في أكثر من موضع، حيث يفصح عنها في نهاية الجزء فيؤكد بحسرة: (في نهاية المطاف أود الإشارة الى أن تحصيل المعلومة من الشعراء كما هو الحال في غيرهم يجهدنا كثيراً بل كل العاملين معنا، أما الأموات فإن الكتب ضنينة جداً بالذين نريد بيان سيرتهم الأدبية، وبالكاد يمكن الحصول على المعلومة وفي بعض الأحيان بحاجة الى الرمل والاسطرلاب –كما يقال- حتى يمكن الوصول إلى النزر القليل إن لم يكن هناك تضارب في سيرتهم ممن ترجموه ولو باختصار). ولا يذهبن الظن بأحد بأنَّ الصعوبة لصيقة بالأموات، بل ربما الأحياء في بعض الأحياء اكثر صعوبة، حيث يؤكد الكرباسي: (وأما الأحياء منهم فإن الاتصال بهم هو الآخر متعب ويحتاج في بعض الأحيان الى الالتماس والتمني بل يصل الى حالة التسوّل بعد التوسّل، وكم اتصلنا هاتفيا أو أرسلنا مرسلين الى الأحياء منهم وبعد اللتيا والتي –كما يُقال- لم نحصل إلا على ما لا يقابل تلك المساعي حتى بات الضجر بادياً على محيا العاملين معي، ولولا أنهم يعتبرون أنفسهم خداماً للإمام أبي عبد الله الحسين- روحي وأرواح العالمين له الفدا- لما كانوا يستمرون في اتصالاتهم رغم كثرة وسائل التواصل في عصرنا الحاضر).

كان بإمكان المؤلف أن يكتفي، بخصوص الراحلين منهم، بما مذكور في المصادر والمراجع، وبالنسبة للأحياء ما تناثر من سيرهم الذاتية في المصادر والشبكة العنكبوتية (الانترنيت)، ولكن إذا انتهج هذا المنحى ما عادت الموسوعة الحسينية دائرة معارف بحق وحقيقة، وصار حالها كحال أي كتاب يعمد مؤلفها الى تسجيل حضوره في عالم التأليف.

ولطالما عبر الكرباسي، خلال سبر السيرة الذاتية للشعراء، عن أسفه الشديد لما حلّ بنتاجات الشعراء من ضياع وفقدان، كان للعامل السياسي دوره الكبير في حرمان الأمة من أدب شعرائها، وبخاصة الأدب الحسيني الناهض الذي تعرض أصحابه للمطاردة والإبادة من أجل قمع صوت الحق الذي تمثل في قوافي الشعراء، ولما كان صوت القافية أكثر وقعا من قرقعة السيوف، فإنَّ النهاية المأساوية هي حليف كل صاحب قافية متحررة من ربقة الجبت والطاغوت، ومن هنا وعلى سبيل المثال فإن المؤلف عندما يتابع سيرة الشاعر البحريني أحمد بن محمد بن منصور الدرازي الشاخوري البحراني المتوفى عام 1815م، يقول فيه: (وقد فُقد شعره الحسيني بل ربما كل شعره، وبذلك خسرت المكتبة الإسلامية من جراء الإضطهادات المتتالية التي وقعت على أتباع مدرسة أهل البيت(ع) الكثير من أعماله الأدبية وغيرها). ومن هؤلاء الشاعر اللبناني أحمد بن منير الرّفا المتوفى عام 1153م، فقد كان ولاؤه لأهل البيت وشعره فيهم وهجاؤه لناصبيهم العداء سببا من أسباب ضياع ديوانه الذي كان موجوداً حتى النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وحسب استقراء الشيخ الكرباسي: (من المحتمل أن فقدان ديوانه كان بسبب تشيعه ولاحتوائه على الكثير من الهجاء والقذع لناصبي أهل البيت(ع) العداء ولمبغضيهم والذي دفع بهم لإخفاء ديوانه وإتلافه)، وقد تعرض الشاعر الرّفا خلال مسيرته الأدبية للسجن في قلعة دمشق وبعد إطلاق سراحه بفتره عزموا على صلبه فهرب منهم.

ولقد كان لتبحر الشيخ الكرباسي في العلوم المختلفة وتمكنه منها، بمقام القارب الذي يسعف كل من خانته المعرفة، ولهذا فإن درج السيرة الأدبية للشعراء لا يخلو من ملفات تظهر تدخل المؤلف لتصحيح ما يراه خطأ، فمن ذلك قول أحد الشعراء في تأريخ ولادة الشاعر العراقي أحمد بن محمد الموسوي المؤمن المتوفى سنة 1990م، من بحر الرمل:

قلتُ للصحب هلمّوا أرّخوا: ... غيهبُ الأفق ميلاد أحمدْ

ولوقوف المؤلف على شعر التأريخ (الجمّل) فإنه يقرر: (ولا يخفى أن هذا لا يصح مع ما ذكره مترجمه لأن مجموع المفردات الأربع تقدر بـ (1367) ويختلف عما ذكره في تأريخه 1321هـ بفارق 46 رقماً، وبالقطع فإن الخطأ جاء في البيت لا في تاريخ الولادة حيث لا يناسب تاريخ الترجمة، ولو أبدل "غيهب" إلى "خارق" لصح التاريخ والمعنى).

ومن ذلك ينفي المحقق الكرباسي وجود إمرأة شاعرة باسم أدمى بنت علي بن أبي طالب الهاشمية حيث ورد اسمها لأول مرة في كتاب "أنوار الشهادة" للشيخ محمد حسين اليزدي المتوفى سنة 1297هـ (1880م) وهي ترثي أخاها الإمام الحسين(ع) حيث تقول من بحر الطويل، وهي تخاطب الزمان:

أسأت بقومٍ أسسوا كلَّ رحمة ... وأسررتَ قوماً أبدعوا كلَّ بدعةِ

وأبكيت عمداً عين آلِ محمدٍ ... وأضحكت جهلاً سِنَّ آل أميَّةِ

 فهذا البيتان من مقطوعة من خمسة أبيات، أوردها الكرباسي بوصفه شعراً حسينياً، وبعد رد النسبة لعدم وجود ابنة للإمام علي(ع) باسم أدمى، يتابع مصدر النسبة من منظار الأدب فيؤكد: (إن ضعف الأبيات يدلنا على عدم صحة النسبة، بل هي من نظم من ليس بعربي أنشأها على لسان حال إحدى قريبات الإمام الحسين(ع) والمناسبة المذكورة أنها أنشأتها على جسد الإمام الحسين (ع) غير صحيحة).

عالمية القضية

لم تكن كربلاء، بقعة أرض فقط، تطل من غربها وجنوبها على صحراء الجزيرة العربية ومن شرقها وشمالها على عمق العراق أرض السواد الخصب، وإنما تقدست بثاويها القادم من المدينة المنورة والذي سبق أن سكن الكوفة لخمس سنوات، ولأنه رفع راية تحرير الإنسان من نير السلطان، دار اسمه في البلدان، وأشار اليه كل بنان، فانطلقت الحناجر تصدح بنظم البيان بكل الألحان، فكان لكل قطر شعراؤه الذين قرظوا النهضة الحسينية وإمامها وسيدها رثاءً ومدحاً.

ولكثرتهم وتنوعهم وتوزعهم في البلدان فإن الجزء الرابع من معجم الناظمين لا يزال يراوح عند حرف الألف، فبدأ بأحمد وانتهى بأسعد، وقافلة الشعراء بلا عد، وهم بازدياد بلا حد.

وكان للجزيرة العربية السبق من حيث العدد يليها العراق ثم لبنان ومصر واليمن وإيران والمغرب

وسوريا والبحرين والأندلس وتركيا، فمن السعودية حظي المعجم بأحد عشر شاعراً وهم من حيث تاريخ الوفاة أو الولادة: أحمد حمزة الماجد (1402هـ)، أحمد عباس الرويعي (1415هـ)، أحمد محمد الأحسائي (1247هـ)، أحمد محمد السبعي (860هـ)، أحمد محمد الصفار (1270هـ)، أحمد محمد النمر (1380هـ)، أحمد معتوق العيثان (1387هـ)، أحمد منصور القطان (480هـ)، أحمد منصور خميس (1352هـ)، إدريس عبد الباقي آل قمبر (1399هـ)، وأديب عبد القادر أبو المكارم (1397هـ).

وحظي العراق بتسعة شعراء هم: إحسان كريم الحكيمي (1408هـ)، أحمد الحلي (ق 13هـ)، أحمد محمد الرمّل (1380هـ)، أحمد محمد العطار (1215هـ)، أحمد محمد المؤمن (1412هـ)، أحمد محمد رضا القزويني (ق 15هـ)، أركان حسين التميمي (1387هـ)، أسعد الغريري (1373هـ).

وحظي لبنان بسبعة شعراء هم: أحمد خليل حجازي (1391هـ)، أحمد محمد سعد (1436هـ)، أحمد محمود الدر العاملي (1397هـ)، أحمد منصور الكاخي (1361هـ)، أحمد منير الرفا (548هـ)، اسحاق شاكر العشي (1345هـ)، أسد الله محمد رؤوف مرتضى العاملي (ق 15هـ).

وحظيت كل من مصر واليمن بستة شعراء، والمصريون هم: أحمد حسن محرم (1364هـ)، أحمد محمد الفيومي (770هـ)، أحمد محمد الكناني (1353هـ)، أحمد محمد فهمي (1391هـ)، أحمد موسى عفيفي (1411هـ)، أسعد عبد الغني العدوي (639هـ). ومن اليمن: أحمد محمد السقاف (1431هـ)، أحمد محمد الشامي (1429هـ)، أحمد محمد أحسن العجري (1386هـ)، إدريس حسن القرشي (872هـ)، إسحاق مالك الأشتر (61هـ)، أحوص شداد الهمداني (ب67هـ).

وحظيت إيران بثلاثة شعراء هم: أحمد مطلب المشعشعي (1168هـ)، إسحاق مظهر الإصبهاني (678هـ)، أسعد علي الزوزني (492هـ). فيما حظيت البحرين بشاعرين هما: أحمد محمد العصفور (1230هـ)، وأحمد مهدي الخطي (1306هـ)، ومثلها سوريا وهما: إدوار نقولا مرقص (1368هـ)، وأسعد أحمد علي (1356هـ)، ومثلهما في المغرب وهما: أحمد محمد الدَّباغ (1355هـ)، وأحمد مسعود الحسني (1041هـ). فيما حظيت الأندلس بشاعر واحد هو: أحمد محمد القسطلي (421هـ)، ومثلها تركيا وهو: أحمد محمد الصنوبري (334هـ). وضم المعجم ثلاثة شعراء غير معروفين أو لم يتم التعرف عليهم وهم: أحمد محمد السقا (ق 15هـ)، أحمد محمد الهاشمي (61هـ)، وأدمى بنت علي الهاشمية (ق 1هـ).

أغراض حيوية

تابع الكرباسي في حياة الشعراء الأدبية، الأغراض الأخرى من قصائدهم دون الحسينية التي أخذت محلها في دواوين القرون، وهو ما يعطي للكتاب غنى وتنوعاً ورغبة في قراءته وتحسس قوافيه بأنامل القلب والتغني معها على أوتار الروح، ومن ذلك قول الشاعر المصري أحمد محمد الكناني الأبياري المتوفى عام 1934م، من الخفيف وهو يعارض العذال:

بهجةُ الروح للوصال دعاني ... يا خليليَّ في غرامي دعاني

يا خليليَّ لستُ للنصح أُصغي ... خلِّيا النصحَ واتركاني وشاني

كيف أصغي لعذلِ لاحٍ تخلَّى ... لا يُعاني في حبِّه ما أُعاني

وهي حقيقة لا غبار عليه، فالمحب غارق في بحر حبيبه لا يلوي على شيء إلا القرب والوصال وإن ساقه الزمن من حال الى أسوأ حال، ولا يهم نوع الحبيب ما دام الهيام هو الهيام، كأنه يكون غزالة في الحارة أو ظبية مرت بجانبه، أو زوجة اندك حبها في قلبه اندكاكا، ومحبوب المتصوف في أكثر الأحيان رب الأحباب ورب الأرباب.

وعن الشيب فحدث ولا حرج، فأصعب شيء على المرء بعد عوادي الزمان أن يرى الشيب يخط صدغه أو يحتل مساحة كبيرة من رأسه ومحاسن وجهه، فهذا الشاعر اليمني أحمد بن محمد السقاف المتوفى عام 2010م يبكي شباباً ذهب مع ريح الزمان، فينعى نفسه من الوافر:

بكيت على الشباب بدمع عيني ... فلم يُغن البكاءُ ولا النَّحيبُ

فيا أسفا أسفتُ على شبابٍ ... نعاهُ الشيبُ والرأسُ الخضيبُ

عريتُ من  الشباب وكان غُصناً ... كما يَعرى من الورق القضيبُ

وإذا كان البعض يشكو المشيب، فإن البعض الآخر يناجي الديار التي حلّ بها أو طاف عليها، يناشد القريب والبعيد، الجماد والإنسان، يدعوه أن يوصل سلامه الى الساكن بها، فهذا الشاعر العراق أحمد بن محمد العطار المتوفى عام 1800م يحدوه شوقه الى الديار المقدسة في الحجاز فيخاطب البرق من بحر الطويل:

أيا برقُ إن جزتَ المنازلَ فآبلغَنْ ... سلامَ مقيمٍ لا يزالُ على العهدِ

إذا مرَّ لي ذكرُ العُذيبِ وبانِهِ ... تذكرتُ  في أيام قُربكُم وِردي

سقى منزلاً بالسفح سفحُ مدامعي ... وحَيّا الحَيَا رَبعاً خصيباً على نجدِ

وبعض يخاطب الدهر يرجوه لم شمل الرفاق من بعد طول فراق، فهذا الشاعر المغربي أحمد بن مسعود الحسني المتوفى عام 1633م، يتحسّر على حبيبه الذي باعدته الديار وأبعدته الأيام، ينتظر الظرف الذي يجمعه ولو بسماع صوته، فينظم من الطويل:

ألا ليت شعري هل أُلاقيك مرّة ... وصوتُك قبل الموت ها أنا سامعُ

فيا دهرنا للشتّ هل أنت جامعُ ... ويا دهرنا بالوصل هل أنت راجعُ

وتجارب الحياة  كثيرة، في الإيجاب دافعة وفي السلب مانعة، والحياة الهانئة لمن يلزم سبيل الرشاد، ولما كانت الشرور تقف متوثبة على أبواب فم المرء تحت عضلة اللسان، فإن الشاعر القطيفي أحمد بن منصور آل خميس المولود عام 1933م، يدعونا الى أخذ الحيطة والحذر من زلات اللسان، فينظم من الكامل:

احفظْ لسانك ما حَيَيْتَ فرُبَّما... ماتَ الفتى من عثرةٍ بلسانِهِ

ولا تطلُقنَّ عَنانَهُ في فتنةٍ ... فالفتنة الضراءُ رأسُ سنانه

وانطق به في ذكر ربِّكَ حامداً ... كيما تفوزَ غداً بَغَرسِ جِنانِهِ

وأخيراً وليس آخراً فإن الشاعر المصري أحمد بن حسن محرّم الدمنهوري المتوفى عام 1945م، أراه كأنه ينشد بيننا اليوم وهو يرى ضعفنا وخوارنا والقوى العظمى تأخذ بتلابيب مقدراتنا توقع بيننا البغضاء والحروب على وقع القومية تارة وتارة على وقع الطائفية، تبيعنا السلاح لنتحارب وتبتاع نفطنا بأبخس الأثمان، فيدعو الشرق، من بحر البسيط:

هبّوا بني الشرق لا نومٌ ولا لعبُ ...حتى تُعدَّ القوى أو تُؤخَذَ الأُهُبُ

كونوا بها أمَّةً في الجهر واحدةً ... لا ينظرُ الغربُ يوماً كيف نحتربُ

ماذا تظنون إلا أن يُحاطَ بكُمْ ... فلا يكونُ لكم مَنجًى ولا هَرَبُ

وهذا هو واقع الحال اليوم، ويكاد الغرب أن يعيد استعباد المسلمين كما فعل في القرنين التاسع عشر والعشرين، لولا بقايا أمل وقوة عربية ناهضة هنا وقوة إسلامية فاعلة هناك تحول دون عودة الماضي الأليم.

ولا يخفى أن المؤلف وضع لنفسه لازمة في أجزاء دائرة المعارف الحسينية المطبوعة، وذلك في أن يلحق بكل إصدار جديد مقدمة أجنبية تتناول فحوى الكتاب، وفي هذه الجزء قدمت الإعلامية الاستونية الدكتورة جليزافيتا كاتلين كورنيليا (Jelizävetä Cätlyn Korneeliä)، الممثل الأعلى لمنظمة الصحفيين الدولية (IJO) في الأمم المتحدة رؤيتها عن النهضة الحسينية والأدب الحسيني والناظمين فيه، وبعد قراءة لواقعة الطف كتبت: (باعتقادي أن تقدم الاسلام وانتشاره لم يعتمد على استخدام السيف من قبل المؤمنين به، وإنما جاء نتجية للتضحية العليا للحسين .. للنهضة الحسينية صدى عالميا، لقد ضحى الحسين بكل شيء رافضا الاستسلام لسلطة مستبدة، لم يعبأ في حركته للقوة المادية والعدة والعدد التي عليها السلطة الحاكمة، فكان إيمانه أقوى من كل قوة مادية، ولذلك أصبحت تضحياته الجسيمة منارة لكل مجتمع وكل أمة بغض النظر عن المعتقد والدين).

وعبرت المستشارة الإعلامية السابقة لرئيس وزراء استونيا يوهان بارتس (Juhan Parts) في تقديمها لمعجم الناظمين عن قناعتها: (إن الكلمات لا يمكنها أن تغطي حقيقة شخصية الإمام الحسين، فهو تجسيد للمحبة، تجسيد للبسالة والتضحية والتفاني، كل إنسان ينبغي أن يتعلم الدرس من حياة الحسين ويهتدي بهداه، وهو مثال الحركة في الطريق السليم).

وحول الأدب الحسيني ودور الموسوعة الحسينية  أكد الدكتورة جليزافيتا كاتلين كورنيليا: (إن الشعراء في كل أنحاء العالم لم يتوقفوا عن النظم المدهش في النهضة الحسينية، استمر منذ قرون، وسيستمر الى أن تموت البشرية كلها، وإن الموسوعة الحسينية هي واحدة من الإصدارت المتميزة أبداً، تتابع شخصية الحسين من ألفها إلى يائها، وهي في واقعها مشروع كبير حبّر كلماتها وسطرها عالم متعدد المواهب والقدرات هو الشيخ محمد صادق الكرباسي الذي يُمثل واحداً من العقول المفكرة المبدعة في عالم التأليف).

في اعتقادي أنَّ باب السير والمعاجم من هذه الدائرة هو في واقعه مدرسة معرفية يقدمها المحقق الكرباسي للقارئ والباحث في كيفية كتابة السيرة الذاتية حسب الغرض الذي تقتضيه، كأن تكون سيرة الشخص المعني من جانبه الأدبي أو العلمي أو السياسي أو التربوي أو الرجالي، أو عموم السيرة الذاتية في الجوانب كلها.

الرأي الآخر للدراسات- لندن

clip_image002_36125.jpg

"إلى قلوب لا زالت تنبض بالحب وضمائر حية لا زالت تقاوم" بهذه الكلمات التي أهداها الكاتب الروائي والسينمائي سليم دبّور في روايته الهروب الصادرة عام 2016 عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس ، والتي تقع في 450 صفحة من الحجم المتوسط، ندرك أن هناك ما ينتظرنا بين دفتي الرواية.

ترى لم اختار الكاتب عنوان الهروب لروايته؟

هل كان هروبا من واقع سياسيّ غير عادل وغير متّزن يتمثّل بالمؤامرات والقتل والتّشريد والمعاهدات التي تحطّمت عليها آمال الشّعب؟

هل كان هروبا من واقع اجتماعيّ مؤلم يتمثّل بالبطالة والفقر والجريمة والاتّهامات والمحسوبيّات؟

هل كان هروبا من جيش الاحتلال الذي يطارده بعد مقاومته إلى الجبال؛ لتصبح أسود المقاومة أسرته الجديدة التي علّمها الصّبر وعلّمته الشّراسة والخشونة؟

هل كان هروبا من مصحّة عقليّة بعد أن اتهم بالجنون، ومكث في المصحّة ستّ سنوات... مع أنّه يدرك أنه أعقل العقلاء؟

لقد تميزت بداية الرّواية بالتّشويق، وبلغت ذروة تأزّمها حينما قرّر الرّاوي الهروب من المصحّة لأنّه يؤمن بعقلانيّته، ولقد بيّن الكاتب مواقف كثيرة أدّت بعقلاء في مصحّة للمجانين.

تميّز الخطاب بالمفردات السّياسيّة والاجتماعيّة، ولقد اختار الكاتب أباه ليوجّه خطابه أو استياءه أو تذمّره من الأمور السّياسيّة، أو الأحداث في كثير من المواقف في الرّواية.

تطرّقت الرّواية للحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة في فلسطين تحت نير الاحتلال، وفي ظلّ السّلطة الفلسطينيّة. فترة الانتفاضة الثّانية، ما بعد معاهدة السّلام حيث انتقد اتّفاقات السّلام بين السّلطة وإسرائيل وانتقد المرحلة، لما لها من نتائج سلبيّة جدّا على الشّعب الفلسطينيّ، فقد ازدادت المجازر والاعتقالات وهدم المنازل وبناء المستوطنات، ولم يتطرق لبناء جدار الفصل ولم يستوقفه حاجز تفتيش أثناء دخوله القدس، ( أظن أنّ الجنود لم تفتش شاحنة الحمير التي أقلّت الرّاوي حينما اختبأ بها) لقد أجاد الكاتب الوصف في روايته، فقد اتّسمت لغة الكاتب بالبساطة والعذوبة في انتقاء المفردات، وتركيب الجمل التي تشدّ القارئ، فيتذوّق الرّقي والثّقافة في مضامينها ومقاصدها بذكاء وحنكة أثناء تسلسل أحداث الرّواية، أضف إلى ذلك السّلاسة في سرد الأحداث، وتمكّنه من إدارة الحوار بطريقة ملفتة ومتعمّقة في معانيها.

يلفت الكاتب انتباه قرائه (بعد كذبه) إلى عدم تصديق كلّ ما يقال........لأنّ ذلك مكّن عدوّنا منّا.

استخدم الكاتب في حواره ( المونولوج ) السّرد الدّاخلي والتّشبيهات والكنايات والأمثال، والحوار الهادف والجادّ والايحاء أثناء خطابه الموجّه لأبيه وشخوص الرّواية ...وضع الكاتب قارئ الرّواية بصور اجتماعيّة وسياسيّة حقيقيّة، فقد رسم الحواجز والجدران والجنود والقتل والمصحّة والاشخاص بدقّة، وتطرّق الى تفاصيل دقيقة أثناء سرد الأحداث حينما تمكّن من الهرب ووصل القدس؛ فرأى الجنود في كلّ مكان، وتمنّى أن لا يطلبوا هويّته التي لا يحملها..ثم طرق بابا مقدسيّا لعلمه بكرم المقدسيّين بعد هروبه، فكانت الفاجعة حينما خرج منه يهوديّ أراد قتله، فانتقل إلى بيت آخر، فوجد فيه ما أراد من كرم ومأوى ص ١٩

لم يصف الكاتب تفاصيل الأماكن بدقة،

القدس: وهنا برزت عبقرية الكاتب لأنّ الهارب لا يلتفت إلى جماليّة الأماكن .وفي حالته هو يبحث عن الأمن لا عن الجمال ...الا أنّ الأحداث كانت تحتوي على الكثير من التّفاصيل التي أسهب في طرحها، وعالجها بشفافية وطبع صورها بوضوح .

زخرت الرّواية بالمشاهد المؤثّرة والمؤلمة، وأظنّ أنّ رؤية الكاتب الفنّيبّة (كمخرج سينمائي) جعل من نصوص الرّواية فلما مشاهدا أمام عيني القارئ، وإن دلّ ذلك فإنّما يدلّ على نظرة الكاتب الثّاقبة لما يدور في أحاسيس القارئ وشعوره تجاه الأحداث السّياسيّة والاجتماعيّة...وقد طرح الكاتب مضامين وأفكار روايته بشكل يثري الرّواية الفلسطينيّة، حيث أظهر الكثير من الحقائق المجتمعيّة والسّياسيّة بذات سلبيّة مؤثّرة على الأفراد والقضيّة الفلسطينيّة، مع ابراز الكاتب لبعض القيم والاخلاق السّائدة في مجتمعنا، إضافة إلى اعترافه بالسّرقة ومعرفته بتحريمها حتّى يخبئ وجهه أثناء هروبه ص٢٧

أبرز الكاتب النّمو والعمران في مدينة رام الله، وصورها بلا جنود للاحتلال، وقد رفرفت الاعلام الفلسطينيّة فوق البنايات والشّوارع بعد استلام السّلطة للحكم، بعد أن كانت تلك الصّور غير مألوفة، وفي الوقت ذاته وصف حال الشّارع في رام الله، وتطرّق إلى نقد السّلطة والخوف من التّسلط التي تمارسه السّلطة مع الأفراد.

أثار الكاتب معاناة الشّعب في الطّرق المتعرّجة الموحلة، والالتفاف حول المناطق، من هنا نجد أنّ الرّواية قيمة فنيا، وتمتاز باستخدام صور حقيقيّة تتكرّر مشاهدها أمام عينيّ الفرد الفلسطينيّ صباح مساء، إذا صحّ التّعبير، فلقد أرخت الرّواية لفترة ما بعد الانتفاضة واتفاقات أوسلو، وحاكت ما نتج عنها .

من الملاحظ أنّ رواية الهروب جاءت كجزء ثانٍ لرواية صابر؛ لذا لم يشأ الكاتب إعادة بعض الأحداث في الرّواية السّابقة، كتذكير للقارئ إذا ما احتاج الحدث لذلك، كصابر الذي أصبح ثريّا فجأة، فلو اننا قرأنا رواية صابر أوّلا لفهمنا مصدر الأموال والثّراء المفاجئ لصابر..فكان من الأفضل لو أن الكاتب أرجع القارئ إلى روايته الأولى بايجاز، وأثار من جديد موضوع شقيق صابر الثّريّ الذي كان يعيش في امريكا ثم توفي، ليتّضح ثراء صابر الذي كان يعاني من الفقر كأهل المخيم.

لقد أمطرنا الكاتب بغزارة العمق في الأسئلة التي أثارها، ممّا جعلها تفتح أمامنا إجابات واقعيّة كقوله: مواطن بلا وطن..وزير بلا وزارة، سجين بلا تهمة من أنا يا أبي؟

وحينما أثار عدة أسئلة ( أين انتم يا شعوب العالم ؟ لا صوت لكم ..أيّ قادة ؟ ذات الشيء يحرمونه على العراق ويبيحونه لاسرائيل ...أسئلة تدور حول السّياسة والقادة والمصالح العالميّة وسخط الزّعماء على الشّعوب، أراد الكاتب أن ينمّي في النّاس روح التّحرّك، وأن لا يغطوا في سبات عميق، وأن لا ينتصروا لأحلام مدسوسة، وأن يحطمو تلك المرآة التي تزوّر الحقائق وتلغي وجودهم.

نهاية الرّواية كانت مؤلمة كألم هذا الشّعب، حشد من الجنود يقتحم المنازل وينزلون غضبهم على أهالي المطلوبين، ويحطّمون ممتلكاتهم، يشرّدونهم إلى الجبال حيث يتعانقون مع الأسود ليتعلموا فنون القتال والمهارات العسكريّة. وهنا يبرز الرّاوي تحدّيات الشّعب ومواجهاته للأحكام الجائرة، أمّا جرعوش فقد قبض عليه وسجن وعُذّب؛ لأنّه يوزع المؤونة على فقراء المخيّم.

اعترافات جرعوش على التّهم الخياليّة كانت ليتخلّص من التّعذيب الوحشيّ،

الكاتب يتحدّى من جديد، ويعدنا أنّه سيخبرنا بأيّ جديد إذا أمطرت سماؤنا الجافّة بأيّ جديد. ولكن يعدنا أن يكون فرحا عوضا عن الأحزان، وعدلا عوضا عن الظّلم، وحرّيّة عوضا عن العبوديّة.

لقد غطّت صور المعاناة والألم التي تتجدّد في حياة الفسطينيّين معظم صفحات الرّواية، فلقد صوّر حال الهارب وحال المشرّد، وحال من تهدّم بيته، ولجأ الى الجبال، وحال المقاومين والسّجناء الذين لا ينحنون ولن يهزموا، بالرّغم من أمعائهم الخاوية وحلوقها التي تشتاق للماء النّقيّ الممنوع، وأجسادهم التي يحاصرها البرد وأحلامهم التي تتقطّع..وعن ذلك ردّ الكاتب باصرار أنّنا سنتعلّم ونعلّم الآخرين فنّ الممكن من المستحيل، ونعلّمهم كيف يُهزم الظلم أمام الحق.ص٤٥١

لا شكّ أنّ رواية الهروب تضيف إلى الرواية الفلسطينيّة بعدا تاريخيّا وسياسيّا متمثّلا في المجتمع الفلسطينيّ القابض على جمر التّرحال والاغتراب والمقاومة، لذا من الممكن اعتبار رواية الهروب كمصدر أدبيّ يعالج فترة مهمّة من أدب المقاومة الفلسطينيّ.

المزيد من المقالات...