تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

وليسمح لي السيّد القارىء بقدر معقول من الإطالة في تناول ما يقوم به جوزف حرب هنا من تعرّض واقتحام مشرّف ومتكرّر هنا في هذا النصّ ، وفي النصوص المقبلة لهذا المعقل الذي حصّنوه كذباً باسم الله والذي يُسمّى : الدين . وأول ملاحظة كبرى على موقف جوزف هذا هو أنّه يشعرنا بالإثم الكبير والخطير الذي ارتكبناه كمثقفين ، بحقّ أنفسنا ، وبحق إبداعنا ، وبحق إنساننا العربي المغدور والمقهور ، حين تنازلنا عن مواقعنا شيئا فشياً لصالح هؤلاء الأوغاد المتستّرين بالدين . لا تصدقوا هؤلاء الأوغاد الذين يزعمون أننا نقوم بتعهير الحياة . وعذرا يجب أن نتحدث بلسان تعرضي واقتحامي مبين مثل الشاعر ، ولاحظ أنّ النقّاد العرب خذلوا الشعراء أيضأً . فهؤلاء الذئاب لم يكتفوا بمحاصرتنا في بيوتنا ، بل دخلوا حتى إلى غرف نومنا ، وطوّعونا على أن نسألهم حتى عن الكيفية التي نضاجع بها زوجاتنا ، وهم يلعبون بخواتم بناصرهم المشعرة بتشف ، ويفتون بصبر مسموم . سحبوا البساط من تحت أقدامنا نحن الذين نلقب أنفسنا بتنفج زائف بـ " الإنتلجنسيا " ! الإنتلجنسيا المهزومة التي تريد بائسة أن تجد لها موطىء قدم على هضبة التغيرات الجارفة !! إنتلجنسيا هشّة لا تستطيع سوى بناء يوتوبيات غير مسلحة . لقد حوّلوا جموع الجماهير العربية إلى قطعان . وهنا يبرز امتياز جوزف المضاف فهو شاعر مقاوم أصيل من أحل الحياة والجمال والحرّية ، ويدرك أن الشعر ينبع من روح الفرد المتفرّد لا من القطيع . ولهذا يصرّ على أن يقف على تلّة وجوده ملوّحاً برايته الحمراء . إنّه يلوّح بها وينشد أغنيته المقاومة لعلّ الجموع تسمعها ، ينشدها بلا خوف ولا وجل في الوقت الذي انزاحت فيه سلطة المثقف بكل أنواعه ؛ أغنيته التي سوف تخيف "الخان" حتى لو لم تسمعها الجموع . وهاكم ما أقصده بأغنية الشاعر التي تخيف "الخان" :

(عاش في إحدى البلاد شعراء كثيرون (...) وفي يوم من الأيام ، سمع الخان أغنية ، تتحدث عن قسوته واستبداده . فأمر الخان ، وهو غضبان ، بالبحث عن الشاعر الذي ألّف هذه الأغنية التي تحض على عصيانه ... لم يستطع أحد العثور على مؤلف الأغنية . وعندئذ أمر الخان جنوده بالقبض على جميع الشعراء ... فقبضوا على كل من ألّف أغنية ، وألقوا بهم  في سجون القصر (...) وفي صباح اليوم التالي جاء الخان ، ليرى الشعراء المساجين :

- حسنا على كلِّ واحدٍ منكم أن يغنّي أغنية واحدة.

فبدأ الشعراء يغنّون واحداً بعد واحد عن عظمة الخان وقوّته ومجده ، وكيف أن الأرض لم تشهد قطّ مثله : فأطلق الخان سراح من غنّاه من الشعراء ، وبقي شاعران رفضا الغناء . فأمر الخان بنقلهما إلى محرقة أُعدّت في الساحة العامة . واحدٌ منهما لم يستطع أن يتماسك . وجعل يغنّي ممجداً الخان وعظمته ، فأفرجوا عنه . وبقي شاعر واحد ، أبى في عناد أن يغنّي . فأمر الخان بربطه بالجذع و إشعال النار . وعندئذ أنشد الشاعر ، وهو مربوط  بالجذع ، أغنيته الشهيرة عن قسوة الخان واستبداده وجشعه ؛ تلك الأغنية التي كانت سببا في كلّ ما حدث .

وصرخ الخان :

- فكوا حباله . أخرجوه من النار . أنا لا أريد أن أفقد الشاعر الوحيد الحقيقي في بلدي )(88).

طبعاً لا يوجد في حياتنا العربيّة خان بهذه النبالة ، وبهذه الروح المرهفة التي تقدّر الشعر . لكن هناك خانات يخافون الشعر الحقيقي المقاوم الجسور رغم أنهم يتظاهرون بإهماله . والمهم هو اقتراف المعصية ، وحمل راية المبادرة الحمراء في اقتراف إثم تمزيق أستار المسكوت عنه من الحقائق في حياتنا التي ملأها الأوغاد نفاقاً . لو صرخنا مثل جوزف حرب منذ أول خطوة خطاها الأوغاد لفرض روح الإله المكفهر ألم يكن ممكناً أن يتجرأ شباب هذه الأمّة على شيء آخر ؟ :

(                     لستُ

                      من أوجدهُ الدينُ .

                      أنا الداعي إلى حريّة الفطرةِ

                                            والبدءِ ،

  وجعلِ العقلِ بحّاراً

        بعيدَ الغمسِ .

                      وليسعدْ بما زهّرَ فيهِ الجسدُ

  الرائعُ ، والروحُ التي أجملُ ما فيها جناحاها . وما

  يبقى ، طريقٌ ، وبلا عكّازهِ ، يمشي

                      كفيفْ . – ص 1251 ) .

 لقد ساهمنا معهم في قصّ أجنحتنا المبدعة التي لا سلاح لدينا غيرها . وكانت الخطوة الأولى هي هذا التغرّب الحداثوي وما بعد الحداثوي عن الناس . فباسم الحداثة لم نعد نكتب عن الأرض والإنسان المحطّم المُستغل ، وباسم الحداثة صار التغنّي بالأمومة وحضارتها سبّة ، وباسم الحداثة صارت القصيدة تتناول كلّ شيء وتختنق بالأشياء لمادية واختفى الإنسان منها ، بل حتى من اللوحة . أعظم نتيجة مدمّرة للحداثة الغربية التي استوردناها هي بناء "المعتزلات" و"الأبراج" العاجيّة الشعرية . فلا نحن ننزل للناس ، ولا هم قادرون على الصعود إلينا . فالحداثة جاءتنا مستوردة مثل أي سلعة غربية ولم تكن لدى مواطننا أدوات تلقّيها ولا الإستعداد لتلقّيها - لا نفسيّاً ولا معرفياً . إنها مثل البنطلون الذي تلبسه المرأة المحجبة تحت ثوبها الأسود الطويل . وشاعت بيننا أطروحة سخيفة هي : "أنا أكتب لذاتي ولست مسؤولاً عن عدم فهم الآخرين" . تحمّلوا أيها الأحبة هذه الإطالة التي فتح أبوابها الجحيمية المسكوت عنها جوزف حرب والمتمثلة بهزيمة المبدع العربي الذي جعلنا عصبة تتفاهم فيما بينها فقط بشفراتها الحداثوية . وهنا امتياز مضاف لجوزف حرب ، فهو يكتب للإنسان العربي المطحون ، ويصرّ على الدفاع عن قيم الجمال ، في زمن العفونة والرثاثة ، في "سوق الهرج" التي تشهدها الحياة العربية ، كما وصفها أحد المحلّلين النفسيين بدقة :

(هذه المحاولة الرامية إلى شد وثاق الجماهير إلى الأصلي خلقت حالة ذهول ونكران لدى البعض ، ولكنها خلقت حالة تنويمية استبدت بالكثير من أفراد الشعب والطبقات الوسطى . إنها كانت سبيلا إلى خلق حالة استعداد طفولي للذاكرة ، وحالة خلط تاريخي يحل فيها العتيق مع المثالي في الساحة العمومية بكثير من الهرج والمرج . فالمنفّرات والمظاهر الكريهة تكاثرت في كل مكان ، مرتسمة على الأجساد نفسها ، عبر اللباس وعبر أسلوب العيش والتعايش ، وكأن العفونة والرثاثة هما الضمان الوحيد للأصالة ... يمكن للإنسان أن يستلقي من الضحك جرّاء هذا "الريمايك" الواقعي ، إلا أن الضاحك سرعان ما يتبادر إلى ذهنه الطابع الخطير لهذا الشغف بالأصل ، لأنه يحمل في ثناياه مشاعر الضيم والإهانة والحقد ، وموجات عارمة من الضغائن المتنامية . إن الرغبة المفرطة إلى هذا الحد في اللحاق بالأصل لا يمكن أن تخلو من الرغبة في الإنتقام المريع من الأزمنة الحاضرة )(89).

ألم تكن حالة التدهور في الجمال والردّة اللامباركة إلى العفونة والرثاثة بل حتى الفذارة التي وصلت إلى حدّ دعوات التبرّك بالبول المقدّس تجري أمام أعيننا .. ما الذي فعلناه ؟ ألسنا كمبدعين مسؤولين عن إشاعة محبّة الخير والجمال والنظافة والحرّية في الحياة ؟ انحطاط دورنا بفعل الإستيراد السيّء للحداثة يلخّصه تعريف للحداثة الشعرية في الغرب ونقله نقادنا الأشاوس : (الحداثة الشعرية هي انشغال الشعر بنفسه) .. مبروك .. فقد انشغل الشعر بنفسه .. وانشغل الشاعر بشعره .. وبدأنا واحدنا يضحك على ذقن الآخر تمهيداً لتحلق الحياة ذقوننا جميعاً . صرنا عصبة كما قلت نكذب على بعضنا بعضاً الأمر الذي دفع شاعراً مثل "مظفر النواب" إلى أن يقول لي إنه يكتب الشعر منذ أكثر من خمسين عاماً ، ولكنه الآن لا يفهم ما ينشر من شعر في الصحف والمجلات . الشاعر يدّعي أنه يفهم الشاعر .. والناقد يفهم الشاعر .. والناقد يفهم الناقد .. والكل يجاملون . ويعلن الناقد الكبير الراحل د. عبد العزيز حمودة الذي كان أستاذاً للأدب الإنجليزي في أرقى الجامعات الأوربية ؛ يعلن أنه يشك في وجود درجة من الغباء لديه لأنه لا يفهم كتابات البنيويين العرب (قوله مدعم بالأمثلة في كتابيه المرايا المحدّبة والمرايا المقعرة) .  وهنا ميزة أخرى مهمة لجوزف حرب فهو يكتب شعراً "يُفهم" ولا يبالي بماذا سيقوله النقاد الحداثيون الأشاوس . لم ينشغل بشعره وبنفسه في برجه مثل باقي الشعراء والنقّاد الذين انشغلوا بتحديث شعرهم في الوقت الذي كانت مياه التخلف تغمر كل جوانب الحياة العربية من حولهم . كان الماء العفن يسيل تحت أقدامنا من دون ان نشعر فنحن منشغلون جداً .. وهذه هي النتيجة :

(وجدت الجماهير نفسها محرومة من الميراث مضاعفة : بسقوطها في بؤس الفضاءات العمرانية الموحشة ، وفي الفقر الذي يعتري تصوّرهم للمنزلة البشرية الجديدة التي فُرضت عليهم . وهكذا اندلعت على نطاق لا مثيل له مسارات عنيفة تتمثل في الإلغاء الذاتي . وما أقصده بمسارات الإلغاء الذاتي هو أشكال الخلع التي تحصل للناس عندما يُصبحون عاجزين عن فهم ظروف عالمهم بإحداثيات الحقيقة الخاصة بذاتيتهم . وعندما يصبحون مهددين في اهتمامهم بأنفسهم ، وفي المواظبة على وجودهم ، وفي متانة المشترك الذي يجمع بينهم . إذا كان البشر قادرين على تحمّل ظروف الفقر المادي القصوى ، فإنهم إذا سقطوا في هذا الخلع لأنفسهم أصابهم اليأس وأصبحوا هاذين ومتمرّدين ، وأدى بهم الأمر أحيانا إلى حالة من الفاقة التي تجعلهم يقبلون أي عملية ضخ للمعنى . خجل الإنسان من كونه ملغى ذاتيا يؤدي به إلى محاولة تفادي العالم في حاضره للبحث عن الأصل في ما وراءه ، للنظر فيما إذا كان باب الأصل باعتباره الفردوس الأول للحقيقة لم يوصد بعد . هذه البنية الفعلية تفترض ولاشك حركة تراجعية أمام الانقطاع الذي أحدثته الطفرة الحضارية . فجملة ريلكه : "ما كان لهم لم يعد ملكا لهم ، وما يقترب منهم ليس لهم بعد " تعني توقفا ورفعا لليد يذكّران بما سمّاه "هولدرلين" بـ "الوقف" ، أي تلك اللحظة الخاوية الدقيقة للنقلة المأساوية التي يغيب منها كل ربط وكل مراوحة)(90) .

إنها مرحلة " الإله المكفهر" ، دخلناها بكل خرابها ونحن نتفرّج . كنّا محلّقين ننظر كيف تقصقص السلطات الدينية والطغيان أجنحة المواطن وتختق روحه . ثم انتبهنا إلى أن مهبط نزولنا على الأرض قد أُلغي ، حيث لم تعد هناك حاجة لمهابط مادامت الناس قد اصبحت بلا أجنحة . وها نحن ندور وندور في سماوات خاوية من الكتابة إلى أن تخور قوانا وتنهك أجنحتنا ونسقط على رؤوسنا . وميزة جوزف حرب العاشرة هي أنه يكتب الشعر ويبدع وقدماه على الأرض . جناحاه مستنفران كجناحي صقر عنيد مستعدٌ لللإقلاع في أي لحظة .. لكنه ممسك بواجبه يحفّز الناس على أهمية أن تكون لأرواحهم أجنحة وظيفتها معروفة . والأهم فيها – خصوصاً في مرحلة العقول الأرضية الدبقة هذه - أن تحلّق بعقولهم – وبعفويّة وتلقائية عذبة  - في فضاءات الخلق والحرّية والتفتح :

(                      كلّ ما يغدوْ اكتشافاً ، هو مِنْ

        قبلُ ، تلاميحُ ، كأشباحٍ ، مع الليلِ

                        تطوفُ .

                        أجملُ الأرضُ ، وأبهى الناسُ ،

                        إذْ تخرجُ منْ أعماقهمْ أجنحةُ

        الروحِ ، كما يخرجُ من سنبلةِ القمحِ

                        الرغيفُ . – ص 1252) .                                                                                                        

يستذكر "رسول حمزاتوف" درسً بليغاً من "شامل" إمام داغستان الثائر :

(حدثني أبي قال :

سألتْ الشيخَ شاملاً العظيم يوما بطانتُه :        

- يا أمام قل لنا : لماذا منعتَ نظم الأشعار وتأليف الأغاني ؟

وأجاب شامل :

- أريد أن يبقى الشعراء الحقيقيون وحدهم هم الشعراء . لأن الشعراء الحقيقيين يستمرون في نظم الشعر مهما حدث . أما الكاذبون ، أما المنافقون الذين يدّعون أنهم شعراء ، فسيخافون مني ، ويسكتون لأنهم جبناء . وهكذا يكفّون عن خداع الشعب وعن خداع أنفسهم :

- يا إمام قل لنا لماذا القيت في النهر بقصائد (سعيد آراكان) ؟

- يستحيل أن تلقي في النهر قصائد حقيقية . إنها تعيش في قلوب الناس .

ولكن عندما تكون القصائد لا تساوي الورق الذي كُتبت عليه ، عندئذ يحدث لها ما يجب أن يحدث لها . وعوضا عن أن يكتب سعيد أراكان شعرا خفيفا يحمله النهر معه ، يجب أن يشرع في كتابة شيء مفيد ,"ثقيل" )(91).

وجوزف حرب من نمط الشعراء الشجعان الذين يستمرون في نظم الشعر لأنه بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت ؛ ينظمون شعراً ثقيلاً لا تسوقه المياه بخفّة الورقة ، ولا تحرقه نيران الطغاة كشجرة يابسة ، لأنّه محمّل بآلام البشر التعساء التي صارت كالجبال .وهذا الإنسان الذي خلقه الله ممتلئاً ورداً وسنابل وقدرة هائلة على الحلم ، يأتي من يزعمون تمثيله لتصنيم الله من جانب فهم دعاة للوثنية في حقيقة أمرهم ، وللمساهمة في إذلال الإنسان وسلب كرامته حين يصبحون ذراعاً للجلّاد ، ويصورون السلطان الجائر – كما يقول علي الوردي -  على صورة الله كما تصوّروا الأخير في أذهانهم الضحلة . فهم يتصورون الله كالملك جالسا على العرش وحوله الملائكة ، وهو يأمر بينهم وينهي . إنهم أخذوا هذه الصورة من حياتهم السياسية . فهم ينظرون إلى الله كما ينظرون إلى حاكمهم السياسي ، إذ يحاولون أن يتملقوا ويتزلفوا إليه أو يمدحوه ويبرطلوه . ولهذا السبب نجدهم يهتمون كل الاهتمام بالشعائر والطقوس بدلا من الاهتمام بصفاء القلب وسلامة العمل وخلوص النية) (92). ولو كان هناك عشرون شاعر مثل جوزف حرب صابرون لغلبوا ألفاً من أصحاب الوجوه المكفهرّة . ولو كان الشعراء يتّسمون بهذه الجسارة ، ويمتلكون مثل هذه الروح الإقتحامية ، ألم يكن بالإمكان فعل شيء يعرقل تسلّط القبح على الجمال في حياتنا ، ويمنع خنق أنفاس الحريّة ووضع أجنحة العقل في أصفاد الفتاوي :

(                   لا حرّيةَ للإنسانِ

                    بأيّ ديانهْ .

                    أقفلتِ الأديانُ على الأسئلةِ .

       اغتالتْ حرّيةَ أنّي أسألُ . لا تأويلَ ،  ولا

       جدلٌ . فهما كفرٌ ،

                    وخيانهْ .

                    لا إستبدادَ بهذا العالمِ كاستبداد

       الكهّانِ . ولا أقبيةٌ للتعذيبِ كأقبيةِ الدينِ . وما

       الكهّانُ سوى أجهزةِ استخباراتٍ ، لا عندّ اللهِ ،

       ولكن ، عندَ السلطانِ الجالسِ فيهمْ . همْ صنعوا

       اللهَ كما شاءوا . لمْ يتجاوزْ ظلمُ الظالمِ وحشيّةَ

       تعذيبِ الإنسانِ ، ومقتلهِ . أمّا الكهّانُ فتعذيبُ

       الإنسانِ لديهم

                      كونيّْ .

                      أبعدُ

                      من

                      وحشيّْ .

                      فوقَ خيالَ اللامعقولِ . وابقى

               من هذا

                      الأبديّْ . – ص 1254 و1255) .

وقد يمرُّ في ذهن القاريء خاطر مفاده أنّ الشاعر قد أفرط كثيرا في حملته الفاضحة ضد الكهّان ، وألصق بهم صفاتٍ وحشيّة لا تليق بقلوبهم الرقيقة . ولكنك لو راجعتَ التاريخ وقلّبتَ صفحاته الموثّقة ، لوجدتّ عجباً عجاباً عن وحشيّة رجال الدين يفوق كلّ ما صوّره الشاعر  . فالشاعر يتحدثُ عن وضع عمومي لم يدعّمه بالتفاصيل حتى الآن . ولكنّي قرأتُ طرق التعذيب التي كان يبتكرها كهّان محاكم التفتيش ، فاقشعر جلدي . إنّها طرقٌ لم يبتكرها الإنسان .. ولا حتى الشيطان . وإليكَ مقطعاً من تقرير كتبه الضابط الفرنسي الكولونيل  "لومونسكي" ، أحد ضباط الحملة الفرنسية على إسبانيا عام 1809 م :                                                                   (ولما انتهينا من ذلك توجهنا إلى غرفة آلات التعذيب فرأينا هناك ما تقشعر لهوله الأبدان :

فقد عثرنا على آلات لتكسير العظام وسحق الجسم ، وكان يبدأ بسحق عظام الأرجل ، ثم عظام الرأس والصدر واليدين ، كل ذلك على سبيل التدريج حتى تأتي الآلة على كل الجسد فيخرج من الجانب الآخر لها كتلة واحدة .

وعثرنا على صندوق بحجم رأس الإنسان تماما ، توضع فيه الرأس بعد أن تُربط أيدي وأرجل صاحبها بالسلاسل ، فلا يقوى على الحراك ، وتُقطر على رأسه من أعلى الصندوق نقط الماء البارد ، فتقع على رأسه بانتظام ، كل دقيقة نقطة .. وقد جُن الكثيرون بسبب ذلك اللون من العذاب قبل الإعتراف . ويبقى المعذّب على حاله هذه حتى يموت .

وعثرنا على آلة تعذيب ثالثة تسمى السيدة الجميلة وهي عبارة عن تابوت تنام فيه صورة امرأة جميلة مرسومة على هيئة الاستعداد لعناق من ينام معها وقد برزت من جوانبها عدة سكاكين حادة وكانوا يطرحون المعذب الشاب فوق هذه الصورة ويطبقون عليه باب التابوت بسكاكينه – بعنف – فتمزق السكاكين جسم الشاب وتقطعه إربا إربا .

كما عثرنا على عدة آلات لسلّ اللسان وتمزيق أثداء النساء وسحبها من الصدور بواسطة كلاليب حديدية حادة ، ومجالد من الحديد الشائك لجلد المعذبين وهم عرايا حتى يتناثر اللحم من العظم ) (93).

ولا يغرّنكَ هذا الهدوء الظاهر ، والكفّين الغافيتين كعصفورين على شجرة كما وصفهما جوزف في نصّ "القمح الجائع" (ص 133) ، والعينين المطأطئتين خشوعاً .. فهذه كلّها زائفة ، وهي ضمن إفرازات أواليّة "التكوين الضدّي" التي أشرنا إليها أكثر من مرّة من قبل حيث يكون الهدوء المفرط في الخارج تشكيلاً عكسيّاً للعدوان الذي يفور في الداخل ، وهو عدوان حين ينبثق – وبعد أن عطّله التديّن طويلاً - فإنه ينبثق بصورة انفجارية كاسحة تجعلك تنرعب ولا تصدّق كيف يقترف إنسان يزعم هذا القرب و الخشية من الله ويأمر بالإحسان كل هذه الفظاعات في التعذيب . اضفْ إلى ذلك أن ضمير هؤلاء يكون رخواً في الأفعال الإجرامية لأنه يحمل مبرّراته المثالية لفعله معه . ولو اطّلعت على طرق قتل الناس الأبرياء والتمثيل بهم في العراق بعد الإحتلال المجرم لملأتَ رعبا : قطع رأس الضحية ، وخياطة رأس كلب مكانه على جثة القتيل ، قطع رأس طفل صغير وزرعه في بطن أمّه .. واحد من الأوغاد اعترف بذبح (600) مواطن عراقي مدني بريء .. وغيرها .. وغيرها . والمشكلة أننا لم نجد نصّاً شعريّاً يفضح هذه الأفعال بوضوح وبمسمياتها حتى الآن . وقد تكون كتابة الشعر عن هذه الكوارث الوحشية خارج أطر الحداثة !! . صار الكهّان – للأسف – أخطر على الناس من الجلّاد ومن السلطان كما يعلن جوزف حرب بلا تردّد :

(                  لمْ يأتِ قانونٌ

                   لكي يُحرّرَ الإنسانْ .

                   ولمْ تقمْ بأيّ يومٍ دولةٌ في

    الأرضِ إلّا وهيَ من قمعٍ ، ومن دمٍ .

                   وما الكهّانْ

                   في الناسِ عبرَ الوقتِ إلّا شاربٌ قد

  أسكرتهُ

                   خمرة السلطانْ .

                   مَنْ قالَ للقانونِ :

                                      لا 

                   مَنْ قالَ للدولةِ :

                                      لا

                   مَنْ قالَ للكهّانِ :

                                      لا

                                      كانْ

                   خائنَ شعبٍ ، مجرماً في الحقِّ ،

              أو

                   شيطانْ – ص 1256 و1257) (نصّ "اللّا") .

إنّهم يعدّون من ينتقد السلاطين (أولي الأمر حسب تزوير النصوص) ويقول لهم : لا ، شيطاناً ملعوناً . 

# الأدباء بحاجة للعلم أكثر من علوم البيان :

وبمناسبة ذكر الوردي لانشغال الأدباء و " دكتورهم " بعلوم المعاني والبديع والبيان ، وعدم اهتمامهم بما يطرحه علم الاجتماع من نظريات وحقائق واكتشافات ، يثير الوردي معضلة جديدة . فقد يعتقد الكثيرون أن المطلوب من الأدباء – مثل الدكتور طه حسين والدكتور عبد الرزاق محي الدين مثلا – الانشغال بالبلاغة بحكم "اختصاصهم " لكي يطوّروا فعلهم الإبداعي ويجوّدوا في مضماره . لكن الوردي يريد من الأديب أن يسخّر وقته لقراءة العلم ومتابعة تغيّراته لما لها من تأثيرات في حقلهم اللغوي والشعري . فما هي هذه العلاقة الجديدة التي يقترحها الوردي ؟

أنا أراها في صلب مهاجمته للعقلية الشعرية ومرتبطة مركزيا بحملته لتقويض أسس العقلية الشعرية . إنه يرى تسلّح الأديب بذخيرة من أطروحات علم الاجتماع وعلم النفس ، أكثر ضرورة له من أسلحته التقليدية المعروفة عبر المراحل التاريخية والمتمثلة في فنون البلاغة !! يقول الوردي ردّا على الدكتور محيي الدين :

( يعتقد الدكتور محيي الدين أن علوم البيان والمعاني والبلاغة ضرورية لطلّاب الأدب . وأنا أعتقد بأن العلوم الإجتماعية والنفسية أجدى لهم من هاتيك العلوم العتيقة التي تقيّد العقول وتسدّ عليها منافذ الإبداع ) (293) .

ويقدم الوردي تفسيرا يسبق عصره حيث جاءت الاتجاهات النقدية الحديثة لتتحدث عن أن النص الواحد هو جامع للنصوص ، وعلى التناص ، وعلى المعرفية الثقافية الواسعة اللازمة للإبداع . يقول الوردي :

( إن الأديب يكتب للناس لا لنفسه ، ومن الضروري له أن يفهم طبيعة هؤلاء الناس الذين يكتب لهم . أما إذا بقى في برجه العاجي يدرس القواعد التي جاء بها الأسلاف قبل ألف سنة ، فلا يوجد له بين الناس سوقا ، وسيبقى يشتم الناس على نفورهم من " الأدب الرفيع " .. ) .       

لقد كان موقف الوردي صادما للعقلية السائدة التي تنظر إلى الشعر بنوع من القداسة ، ويتفاخر كبار مثقفيها – حتى من كان اختصاصه بعيدا عن الأدب والشعر - بأنه يحفظ الشعر ويحتفظ في بيته بمكتبة فيها دواوين فحول الشعراء . وحتى رؤساء الدول والوزراء والمسؤولين يعتبرون الشعر جزءا من مقومات ثقافتهم ، وكثيرا ما يدخلون أبيات شعر أو " هوسات " شعرية عامية لاستثارة الحماسة . لقد هزّ الوردي أركان " التابوات " الثقافية الشعرية القائمة حين راح يعدد ويحصي مساويء "البلاء الشعري" كما وصفه ويناقشها على صفحات الصحف :

( 1-كان الشعر في أيام الجاهلية حليفا للسيف في حروب القبائل الرعناء . وكانت القبيلة تحتفل بنبوغ الشاعر كما تحتفل بظهور الفارس صاحب الحسام البتّار .

2-وكان الشعر كذلك حليفا لعبادة الأوثان ... ولهذا كان النبي محمد في بدء دعوته يحارب الشعر كما يحارب الوثنية .

3-وفي العهد الأموي اتخذ السلاطين من الشعر وسيلة لتخدير عقول الناس وصرفهم عن فهم التعاليم الثورية الكبرى التي جاء بها الإسلام .

4-وفي العهد العباسي ساعد الشعر مساعدة كبيرة على إنشاء قواعد النحو هذه القواعد العويصة التي شلت العقول وجعلتها تدور في حلقة مفرغة.

5-وساعد الشعر فوق ذلك على تدعيم الحكومة السلطانية ، حيث كان السلطان ينهب أموال الأمة كما يشاء وينفقها على ما يشتهي ، ولكنه يأخذ قسطا مما نهب فيعطيه للشعراء . وهؤلاء لا يترددون عند ذاك عن جعل السلطان أمير المؤمنين وظلَّ الله في العالمين ) (294) .

# النهضة الحديثة لا تقوم على العقلية الشعرية :

_____________________________

والوردي يرى أن النهضة الحديثة لا يمكن أن تقوم على أساس الثقافة الشعرية ، وأننا لكي نلحق بركب هذا التطور المذهل الذي يتصاعد بوتائر عجيبة علينا أن نخفّف كثيرا من غلوائنا فيه – أي أنه لا يدعو إلى إلغائه لأن للشعر العربي جوانبه المضيئة ولا نستطيع إلغاءه بجرة قلم كما يقول هو نفسه - . إنه يرى أن مكانة الشعر في الدول المتقدمة قد تراجعت كثيرا ، وخير دليل على ذلك هو أن المجلات المشهورة والواسعة الانتشار مثل النيوزويك والتايم والإيكونومست والديرشبيغل وغيرها ، التي تبحث في مختلف شؤون الثقافة كالسياسة والعلوم والفنون لكنها لا تبحث في شؤون الشعر إلا نادرا . وهو يقر أن جانبا مهما من ذلك يعود إلى اختلاف الثقافتين : الغربية والشرقية ، لكن يبقى العامل الأساس هو أن المنطق العلمي هو غير المنطق الشعري :

( يمكن أن نعزو السبب في هبوط مكانة الشعر في الحضارة الحديثة إلى أن هذه الحضارة أقرب بطبيعتها إلى روح العلم منها إلى روح الشعر . فالشعر عاطفة وخيال وتحليق في عالم الذات . بينما الحضارة الحديثة تميل إلى التعمق في فهم الكون والإنسان ، وإلى التزام الموضوعية التي لا دخل للعواطف الذاتية فيها ) (295)  .   

# القصّة والرواية سوف تحل محل االشعر :

_________________________

وللوردي رأي مهم وسبّاق في الجنس الأدبي الذي سوف يحل محل الشعر مع تنامي سطوة العلم وحضوره في حياتنا . فهو يرى أن القصة هي التي سيكون لها القدح المعلى بين الأجناس الأدبية في ظل الحضارة الحديثة ، فهي من جانب تتغلغل في أعماق النفس البشرية وتدرس ، وفق طريقتها ، المجتمع البشري بعلاقاته الشائكة وصراعاته المتعددة ، كما أنها – وبخلاف الشعر الذي يعتمد على المجازات والاستعارات واللعب الرمزي بالصور والكلمات – يمكنها ، من جانب آخر ، أن تقدم صورا عن الحياة الاجتماعية بجوانبها السياسية والأخلاقية والتاريخية وحتى الاقتصادية ، ولذلك نجد دارسي الشخصية القومية لأي شعب يمكنهم أن يستخدموا القصة والرواية كوثيقة في أبحاثهم لأنها أكثر قدرة على تجسيد هذه الجوانب .  

# ولعنا المفرط بالشعر من اسباب نكسة حزيران :

_____________________________

والوردي لا يربط – ولا أعلم هل كان رياديا في ذلك أم أن هناك من سبقه في ذلك – بين هزيمة الخامس وبين النزعة الشعرية التي تسيطر على نظرتنا إلى الحياة خصوصا في السياسة حسب ، بل يعتبر الشعر سببا للنكسة . يقول الوردي :

( كان من نتائج النكسة التي حلت بنا في حزيران عام 1967 أن صار كل فريق منا يحاول أن يجد سببا للنكسة لكي يلقي اللوم عليه ويستريح ، وقد وصل الحال بالبعض منا إلى حد أنه اعتبر غناء أم كلثوم أحد أسباب تلك النكسة . ولكن أمرا واحدا غفلوا عنه في هذا الصدد هو ولعنا المفرط بالشعر ، ولست أدري لماذا غفلوا عنه مع العلم أنه أجدر بأن يكون سببا للنكسة من غناء أم كلثوم ) (296)  .

وقد يكون الوردي أول من استخدم مصطلح " التفكير الشعري " في تفسيره لنكسة الخامس من حزيران :

( إن هذا النمط من التفكير الحماسي – وهو الذي يصح أن نسميه بالتفكير الشعري – لم يقتصر أثره على الشعراء فقط بل شمل أيضا الكثير من المفكرين وحملة الأقلام والخطباء ، فهم جميعا يجرون على طريقة واحدة هي طريقة عمرو بن كلثوم : ( ماء البحر نملأه سفينا )  ) (297) .

# خطورة فهم الثورات العربية بعقلية شعرية :

___________________________

ويضرب الوردي مثلا على هذا النمط من التفكير في طريقة فهم أسباب الانتصار وأسباب الهزيمة للحدث الواحد . فهم غير قادرين على رؤية أسباب الهزيمة بنفس القدرة على تشخيص أسباب الهزيمة . إنهم مصابون بنوع من " العمى النفسي " الذي يجعلهم لا يرون جوانب من الحقائق دون غيرها رغم وضوح الجوانب الأخرى من ناحية ، ويؤولون الحقائق الأخرى بخلاف حقيقتها من ناحية أخرى . يضرب الوردي مثلا على ذلك بتجربة " حربية " كي تكون موازية للنكسة " الحربية " في حزيران ومن جنسها ، ألا وهي تجربة ثورة العشرين ، التي اعتبر أصحاب التفكير الشعري ، حسب الوردي ، أن النصر فيها قد تحقق بسبب وطنية العشائر واستماتتها في القتال ، ولكنهم اعتبروا الهزيمة ناجمة عن " مؤامرة " استهدفت الثورة . إن الوردي يعلن عن اعتزازه بالثورة لكنه يحذر من الاعتزاز بها على طريقة الشعراء . إنه يعتبر انتصار العشائر المسلحة بأسلحة بدائية على جيش معاد مسلح بالمدرعات والطائرات نوعا من الحدث الشاذ الذي حصل على طريقة الأهزوجة المعروفة " الطوب أحسن لو مقواري – كما يسمّيه الوردي " . ولكن لا يجوز جعل تفضيل المقوار – هذه الأداة البدائية – على المدفع المتطور قاعدة للعمل العسكري يعتمد عليها الثوار في كل ثورة يقومون بها أو حرب يخوضونها . وهذا ما يقوم به الشعراء الذين استمروا في كتابة القصائد التي يمجدون بها المقوار الذي يغلب المدفع دائما ، وأننا مادمنا قد انتصرنا " سابقا " فنحن سننتصر مستقبلا . والنتيجة المهمة التي يصل إليها الوردي هو أن انتصار مصر في صد العدوان الثلاثي عليها عام 1956 يشبه من بعض الوجوه انتصار العشائر العراقية في ثورة عام 1920 ، وأن السياسيين المعنيين لم يحاولوا دراسة الظروف التي اجتمعت وأدت إلى ذلك الانتصار ، ولم يدركوا أنها ليس من الممكن أن تجتمع مستقبلا :

( ولكننا اغتررنا بأنفسنا وتملكنا الحماس والفخار المغالي فيه ، وملأنا الجو بالأناشيد ) (298) .

clip_image002_c51cd.jpg

قد يعلو بنا الشاعر إلى عالم الفضاء المجهول، ويحوم  بأسئلته المبهمة والمستعصية عن الاجابة، وقد يسبح في محيطات عميقة مستخدما تركيبات اللغة الصّعبة ليحول بيننا وبين العوم في مياهه. كان من الأجدر أن يجول بالقاريء يدا بيد في بستان من الورود المتناسقة الألوان عَطِرة الرّائحة؛ حتى نستوعب وننتشي من جمال المكان والزمان على أرض كوكبنا.

الشّاعر "إحسان أبو غوش" في كتابه " دمعة تخدع ظلّها " الذي صدر مؤخّرا عن المؤسسة الفلسطينيّة للنّشر والتّوزيع، ويقع في (117) صفحة من الحجم المتوسط، إحتوى معظمه على الشعر العمودي وبعض النّصوص الأدبيّة الموزّعة ما بين فلسفة الكون والحياة، آلام الوطن، مرارة الهجرة، الظلم والظالم ويستذكر الشّاعر الرّاحل "سميح القاسم" في وِقفةٍ جميلة لإحياء ذكراه.

هناك من الكتب والرّوايات ما إن أمسكتَ بها، لن تتركها حتى تنتهي من قراءتها كاملة مهما طال بك الوقت. أمّا ديوان شاعرنا "أبو غوش" فقد احتاج منّي بعض الإستراحات، وذلك لثقل العبارات وإنهمار الكلمات الصّعبة المستخدمة، خاصة وأنّ الشّعر العموديّ مُتعب جسديّا.

رسم الكاتب ألوانا عديدة ومتنوّعة في سرد العناوين، والمبوّبة حسب مذاقه الشّخصيّ، ما بين الخيال والواقع، المجهول والمعلوم، الرّوح والجسد والوطن ومآسيه. ولم يستغن الكتاب عن دروب الغزل المُحافظ .

لكن دعونا سويّة نقف على الأسلوب الذي اتبعه الشّاعر هنا، وكذلك غيره من الكتّاب الذين يسبحون في معاجم الكلمات اللغويّة والنّحويّة، ويمطروننا بغزير من المفردات الشّائكة المرصوصة، والتي باعتقادي تزيد من الأمور صعوبة وتعقيدا، إنَّ الكلمات والمعاني التي تلمس الرّوح ويخفق لها القلب، هي ما يبحث عنها القرّاء في وقتنا العصيب هذا .

إلاّ أنّني استمتعتُ بالنّثريات في آخر كتابه، فقد استخدم الشّاعر أسلوب الفلسفة التي عهدناها عند فلاسفة الزّمان القديم وكتاباتهم، ولا شكّ أنّه متأثّر بهم . فسؤاله عن قيمة الحياة عندما تُقطع شعرة معاوية، ليسرد لنا عن الصّراع الذي يسكن كلّ نفس بشريّة، ما بين تحقيق حلم واقعه مرّ، وبين ما تعيشه من واقع كحلمٍ جميل.

الزّمكان الغريب والذي يستفحل في العالم الإفتراضيّ لكلّ واحدٍ منّا؛ (زمن) الأقوياء الذين يخطّون التّاريخ من منظورهم المنحاز، و(مكان) التناقضات التي نعيشها في حياتنا، والبحث المُضني عن الإعتدال بين الخير والشّرّ حتى ترتاح الرّوح.

لن ننكر أنَّ كلاً منا يرسم في عالمه الخفيّ دنيا كاملة متكاملة جميلة أفلاطونيّة، فيجد تلك الرّاحة والسّعادة التائه عنها بين الأوراق المتناثرة وسط الرّكام.

الشّاعر هنا يحثّك على تفجير الغضب الذي بداخلك للكشف عن ذلك السّرّ الدّفين واخراجك من ذلك الحلم المزعج. قمّة الجمال في هذه الفلسفة الحياتيّة ألاّ نقطع شعرة معاوية، وأن نبقي رابطا خفيّا بين البشريّة، فالدّنيا مفاجآت وكم من عدو أصبح صديقا.

وتناول الكاتب علاقة الإنسان بالكون الشّاسع العظيم الذي نعيشه في تساؤلات كثيفة غاية في الأهميّة. ويفنّد لنا أنَّ حلم اللانهاية يقضّ مضجع عقولنا، ولا أمل منه.

ويضيف أننا نعيش زمنا داخل زمن، زمن لا ينضب وآخر نخطّه بأيدينا ونعيش عمرنا الكامل فيه، وينتهي بأممٍ تحت التّراب . وفي حكمة رائعة، ينصحنا الكاتب على عدم البحث في مكنون الأشياء وألاّ نجردها من صفاتها، فنصل إلى درب محكم الإغلاق .

كُن إنسانا قبل أن ترتدي رداء ليس على مقاسك.. كُن أنتَ قبل قوميتك أو حزبيتك.. حاول أن تكون كفّة الخير هي الرّاجحة في عصرٍ رجحت فيه كفّة الشّرّ والسّواد.. إبحث جاهدا عن الهدف الأسمى من وجودك واعمل به ..

الدّمعة هنا خدعتْ حاملها وخدعتْ ظلّها، وتتساقط مُغلَّفة دون دراية صاحبها، فكانت النّهاية البرّاقة لما كتب "إحسان أبو غوش".

clip_image004_2c8e4.jpg  clip_image002_17241.jpg

            (   حاتم   جوعيه    )            (  الدكتور جميل الدويهي  )  

 لا  شكّ  في أنَّ  الأنا  قيدمة  قدم  الإنسان ، وقد جعلها الرومنطيقيون  الحالمون أحدَ الأعمدة التي قامَ عليها أدبهم الحزين في الغالب . ( والأنا عند الرومنطيقي هي محاولة  لفتح  الكون  كما يصفها  إرنست فيشر ( ضرورة الفن ) . ثم جاء الرمزيون  فلم  يرفضوها  مطلقا ، وخصوصا عند  بودلير، والذي رأى في  العالم صورة  لنفسهِ :  " أنا  الجرح والسكين /  أنا الصفحة والخد / أنا أعضاء الجسد  والمبضع / الضحية والجلاد ".. ( قصيدة المدمّر نفسه )  .

والأنا  ليست دائما مُعَبِّرة عن ego  الآخر كما  يرى البعض، إذ  يعتبرونها  صورة  عن  الغرور  أو التكبُّر ،  فإذا  أحصينا  ألفاضَ  الأنا  عند   شعراء  لوجدناها  كثيرة جدا، ولعلّ  أصحابها  من  أبعد الناس عن الكبرياء  الفارغ ، ويخطىء من  يعتقدون  أنّ  الأنا  محصورة  بالرومنطيقيِّين ، فهي  ليست بضاعة خاصّة  ولا حقا  يختصُّ بكاتب أو  شاعر دون آخر .  وفي الإنجيل  المقدس مثلا  نعثرُ على الأنا  بأعداد  هائلة ، وكذلك في  كلام الأنبياء ، قبل ولادة الرومنطيقيَّة .

  وفي قصائدِهِ يعتمدُ  الشاعرُ  حاتم  جوعيه  على مقدار غنيٍّ من الأنا ، فقد وقعتُ  في العديد من أشعارهِ عليها ، إذ  يكونُ  المُحِبَّ  والثائرَ، والمتمرّد ، والمنتقدَ، والمتفاخر بشعرهِ ، وهذه الظاهرة شائعة لديهِ، ولستُ  أقدّر أنَّ هذا التفاخر  يبرز في حياتهِ  الخاصَّة ، فأنا  لستُ أعرفهُ  شخصيًّا ، وفي الوقت نفسه أرفضُ  ما  يميلُ إليه  بعضُ النقاد من إعتبار أنَّ الشعرَ صورة مطابقة للشاعر ، فجزء من الشاعر يظهرُ من مرآة القصيدة  وجزء آخر لا  يظهر، وليسَ كل  كا يقولهُ  الشاعرُ ينطبق على نفسِهِ . وقد  رأيتُ شعراء  يشيدون بالخمرةِ  ولا  يشربونها، ويطفئون سجائرَهم  غضبا في  بيت شعري  وهم  لا  يدخنون ، حتى  انَّ بعضهم  يروي مغامراته مع النساء ، ولعلَّهُ  لم  يعثر على امرأةٍ واحدة  تعشقهُ . 

    وما  يلفتُ انتباهي غالبا  في شعر حاتم  جوعية  أنه كثيرا ما يتحدَّثُ عن  أناه، وفي المقابل يصوِّرُ  أنا غيره في تعارض  تام ، ليبرزَ التناقض العميق  بين فئتين  من الناس . وفي قصيدتهِ " كفاح ثائر"  تتجلّى الأنا وتتصاعدُ من  لغةٍ رقيقةٍ  موحية  إلى لغةٍ هادرةٍ  مزلزلة ، فالقصيدةُ  تبدأ بتصوير الشاعر لنفسهِ على أنَّ النساء  مفتوناتٍ  بهِ  :  

 ما  زلتُ  حلمَ  الغيدِ ، كلّ  جميلةٍ          تبقى  الصبايا  الغيدِ  طوعَ   بناني 

 كم  من  فتاةٍ   في غرامي  تُيِّمَتْ           دومًا    تراني    فارسَ   الفرسانِ 

   الأنا هنا  نرجسيَّة ، إذ يتباهى الشاعرُ بما لديهِ من  جميل القيم التي تجعلُ الفتيات  ينجذبنَ إليهِ  ويتهافتن على حبِّهِ .  النرجسيَّة  هذه قديمة  قدم العهود  في الشعر  ، وقد عرفناها في الشعر العربي  عند امرىء القيس ، وعمر بن أبي ربيعة ونزار قباني..بل إنَّ قول جوعية :"ما زلتُ حلمَ الغيدِ كل جميلة "  يتوازى عفو الخاطر مع  قول  امرىء القيس : "

" لقد كنتُ أسبي الغيدَ أمرد ناشئا "  ( قصيدة  تعلق قلبي طفلة عريَّة )  .  وهذا  التوازي  ليس  مقصودًا، بل يأتي  تواردًا  بين  الشعراء  الذين  لديهم الشعور ذاته  بما  يصفهُ علماء النفس ، منذ  فرويد : بالأنا  العليا  . غير أنَّ ما  يلفتُ أنَّ  جوعيه  يسمو  بالشعر من فضاء الماديّة  إلى  فضاءِ  الروحيَّة  والقيم الإنسانيَّة ، فمحور الفخر ليس المظهر الجسدي  والوسامة ، بل  كون الشاعر " فارس الفرسان "، وهذا  الوصف هو المحط  والمحور في البيتين السابقين ، مع ما ينطوي  عليه من سمات  أخلاقيّة  ومعنويَّة  وفضائل .

    إنَّهُ نوعٌ  من الفخر الذي يتسمُ بالطرافةِ وتخففُ من غلوائهِ طلاوةُ الشعر  ورونقُ  الصياغةِ ، ويسترعي  في المكان نفسه  من القصيدة  وجود  معجم  لألفاظ  رقيقة غير صاخبة :  قلبي، مترع ، الآمال ، الإيمان ، ورود  فوَّاحة ، أريج النسمات...الخ .  وهذا المعجم بالذات  يؤكد على أنَّ الشاعر لم  يأخذ   نفسا عميقا بعد  ولم  يتطرق  إلى مواضيع  تقلقهُ ، فالقصيدة  لحن  يتصاعدُ  بهدوءٍ من الرقة إلى قمَّةِ الغضب والتحدِّي .القصيدةُ شجرةٌ  تترفع في همس  مع الرياح  ثمَّ في صراع  مع  الرعود  .

   والتحدِّي ليسَ منفصلا عن نقد المجتمع  وأناس  يتعارضون  مع  الشاعر  قلبا  وقالبا ، فهو في  مقلب  وهم  في مقلب آخر . أناس لا  ينحصرون  في  زمن  أو  عصر ،  بل  هم  يتكررون  خارج  محدوديَّة    الوقت  الجغرافيا . أناس  ينظر إليهم الشاعر نظرة  الضيق  والنفور ويكيل لهم  الهجاء، لكنه ليس هجاء  مبتذلا  ولا  مثالب  تطلق عشوائيا، بل هو مرحلة   متقدمة  من  نقد  جارح  يُصوَّب  إلى الضمير ويشير إلى الفساد  المتفشي  في المجتمع :

  لم   أكترث  لكلام   معتوهٍ   وَوَغ       دٍ   حاسدٍ .. ما   جاءَ   من   هذيانِ

  لم  أكترث   لسموم   نقد    أرعن        ما   ينفثُ   الأوباشُ   من   غثيانِ  

  كلٌّ   مريض   بالدَّناءَةِ    والأذى        باعوا  الضميرَ    بأبخسِ   الأثمانِ

  خسئتْ   تجارتُهُمْ   وخابَ  مآلُهُمْ        كانت    مكاسبُهُم    بسوقِ    هوانِ 

    لقد جسَّدَ الشاعرُ اختلافه عن فئةٍ من الناس  تعتمدُ الحسد  والنميمة سبيلا  للصعودِ، لكنهُ لم  يكترث لهم ، فتجارتهم خاسرة وتجارتهُ رابحة، ومكاسبهم  تباع  في سوق الهوان ، أمَّا  أعمالهُ   فمُتوَّجة  بالشرفِ .  وهنا تنفصلُ الأنا  عن الآخر في ردَّةِ فعل قويَّة، كما تنفصلُ الخمرةُ عن الماء حتى ما  يلائمها  لطافة ،   وكما  يفصلُ  إبنُ الرومي  نفسهُ عن  قوم  طاروا  و" لحقوا  خفة  بقاب العقاب، ورسا الراجحون من جلة الناس رسوّ الجبال ذات الهضاب" .   ولكن جوعيه  يختلفُ عن ابن الرومي إختلافا عميقا ، فقد  كانَ ابن الرومي كما يقول  طه حسين ( محاضرة  18 آذار 1933 ) يضمر انتقاما  اجتماعيًّا ، بمعنى أنه  كان  يعيب  على الناس غناهم  ويحسدُ  أصحاب  النعمة  الذين يتمتعون  بالحياة  بينما هو محروم من  هذه  المتعة ، أما جوعية  فلا  يشعرُ بالدونيَّةِ ، بل  يتمرَّدُ  بروح  عالية  على  أناس  لا  يستحقون  المراكز،  بل  يأخذونها  بالزحف  والتملق ، بينما  هو محروم  منها لأن  نفسه  كبيرة  ولا  يفعل مثلهم .

      أما  وجهُ الشبه  بين  ابن الرومي وجوعيه ، فهو أنهما لا  يصمتان عن العيوب ،  ويتصدَّيان  للشذوذ الإجتماعي  والأخلاقي  الضارب بين الناس . وخير تعبيرعن هذا الموقف  ما  قاله  إبن الرومي  نفسه :

  ولستُ    بهجَّاءٍ    ولكن    شهادة          لدَيّ     أؤَدّيها  ،   ولستُ   بآفكِ 

       إنها شهادة الحقيقة التي  يرفضُ الشاعرُ أن  يغضّ الطرف عنها، وهو رسول القيم  والمبادىء الجليلة .  ومن هذا  المنطلق الإيماني بوظيفة الشعر  كراصد للحياة ،  يقوم  جوعيه  بعمليَّة  فرز عمودي  بين  فئتين  من  الناس ، واحدة  تمثل  المرائين  والأنذال  وواحدة  تمثل  طينته  الشعريَّة  الصافية  التي ترقى  عن المادة  والتذلل ،  فاسمعهُ  يقول : 

  هذا    زمانٌ     للنذالة      والخنا        والحُرُّ      فيهِ    يكتوي    ويُعاني 

  أمَّا  الخسيسُ  مُبَجَّلٌ   ولهُ  الوظا        ئفُ ، ويحهُ  في مجمع   الخصيانِ

  نالَ  الوظائفَ   كلُّ  أكوع    آبق         بوشايةٍ        ولخدمةِ     الشيطانِ

  هذا  زمانُ الفاسقين  ومن  مشى          في   الخزي    والآثامِ    والبُهتانِ

  نامت  نواطيرُ الكرومِ  وأصبَحَتْ        كلُّ      الثعالبِ    ربَّة َ     التيجانِ 

  لكعُ  بن  لكع   صارَ  فينا   سيِّدًا         والآمرَ    الناهي     بكلِّ      مكانِ 

   في هذه الأبيات  القليلة تعبيرعن عالم  نعيشُ  فيهِ، فكم من الناس  يعانون بأفكارهم  النيِّرة  وغيرهم  يغتبطون  بجهلهم  وينالون المغانم . والشعر هنا ليس لوحة  فنية تخلو من العاطفة  ومن التفاعل مع الغير. الشعرُ هو المرآة،  هو الصوت والصدى . هو الصورة التي  تبدعها ريشةُ  فنان  لترسمَ  واقعا مخيفا على طريقة " غُويا  "، بل وجودا سيطرت  فيه حفنة من الناس  على دفةِ المجتمع ، وتصدَّرت وبغت  وتجبَّرت ، فالخسيسُ له الوظائف  والكبير  يطردُ عن أبواب المجامع ،  وهذا  ليس بعجيب في عصر المادَّةِ  والتهافت على  المال ، وقد  نامت   نواطير الكروم   كما   نامت  نواطير  مصر عن   ثعالبها في عصر المتنبِّي، وأصبحَ  لكع بن  لكع الآمر الناهي، وكم من  لكع  أصبحَ سيِّدًا في قومِهِ ، إذ  إنَّ  المقادير  تصيّرُ العييّ  خطيبا ،  حتى  وصلَ الأمر  بالبعض  إلى التباهي  بتيجان  ومناصب  ما هم  بأهل  لها ، وتسيَّدوا  وما هم  بأكثر من عبيد  لرغباتهم  وجبّهم لأنفسِهم .

   وفي مقابل  الهجوم اللاذع  الذي  يشنهُ  جوعيه  على الساقطين المتعالين ، حيث  يزخر معجمهُ  بألفاظ  الهجاء  القاسية ، والأوصاف  النافرة ، نراهُ   ينتقلُ  بلغةٍ  رقيقة  طيبة  للحديث عن   أناه :  " أنا  منشدُ الأحرار ، ضمير كلّ ملوَّع ومتيّم، سدُّوا أمامي كلَّ دربٍ للعلا ، لكنني العنقاء من بين  الرمادِ  أعود،هيهات أأكل خز سلطان طغى،هيهات أصمت صمت أهل الكهف.." .

    إنَّ هذه المواقف هي تفصيل لحالة الشاعر الحرّ الشريف الذي يرى نفسَهُ  غريبا  كصالح  في  ثمود، لكنهُ  ينتفضُ على الشعور  بالأسى  والإضطهاد  ليطير كالعنقاءِ  باتجاه  الشمس ، فالفكرُ  لا  تتسعُ  لهُ  الهياكل  ، والنورُ  لا تطفئهُ عتمةُ القلوب، والقويّ  يتمرَّدُ على الزمان والأقدار :

  هذا   زمانٌ   فيهِ   حقي   ضائعٌ        لكن     رفضتُ     أوامرَ   السَّجَّانِ

    لا  فضّ  فوكَ  يا  جوعيه  وأنتَ  تعبِرُ عن  كلّ  شاعر  ضاعت  حقوقهُ  وَطُمِسَت   أنوارُ  كوكبِهِ ، وأرادَ  الآخرون  تهشيمَهُ  وتهميشهُ ، كلي   يبقوا متحجّرين في مواقعهم كالقبور المكلّسة، لكنهُ أبدا يتمرَّدُ ويصرخُ  من وراءِ السجون ، وينيرُ  من خلفِ  الحجب ،  في  ثورةٍ هي ثورةِ الذات  بل  ثورة   الأوطان ، وهكذا تخرجُ  الأنا  من من كينونتها  المحدودة  لتصير أنا العالم ، ويصير نداءُ الشاعر نداءً  لكلِّ  حُرٍّ على سطح الأرض  ليقوم من كبوتِهِ ، فيحمل  سلاحَهُ  ويحقق  ربيعا طالما  سعت البشريَّةُ إليهِ  وهي  تتلوَّى تحت  سياط  الألم  والرعد ..ولعلَّ الربيعَ العربي الذي  يشيرُ إليهِ الشاعر في نهايةِ القصيدة  هو الأمل  المنشود ، على الرغم  من  نجاح  الأنظمة  العربيَّة  في  تصويرهِ على أنه جحيم ، لكي تخيِّرَ الناسَ  بين الإرهاب والنظام : حيلة  ما بعدها  حيلة  نجحت الأنظمة  للاسف  في  تسويقها ، حتى أنَّ  بعضها  جاء  بالمُتطرِّفين  لكي  يقول  للناس : " إمَّا  بقائي  في السلطة  وإمَّا خطرهم " ،   وهكذا  ينتصرُ في  حرب  لم يكن  مقدَّرا  لهُ  الإنتصار  فيها  إلا بهذا المكر  والخداع .

  إنَّ الربيعَ العربي تعرَّضَ لخضَّاتٍ مزلزلة، لكنهُ انتصرَ في تونس ومصر ، فلماذا يحيّدُ  أنصارُ السلطة الأنظار عن الواقع  لكي  يبقى الناس  في وهم وخيال ؟ وهل غيرُ الشاعر مَن  يضيىءُ على  حقيقة  حاولَ أعداءُ الحريَّاتِ  وحقوق الإنسان التعتيم عليها ؟ وهل غيرُ حاتم جوعيه من رفعَ صوتهُ عاليا    غير عابىءٍ بانتقاداتِ  المنتقدين  والمُخوّنين في لغتهم الخشبيَّة التي اهترأت  لكثرةِ الإستعمال ؟ بل هل غير حاتم  جوعيه ، الشاعر الشاب الثائر، الأنيق ، الصادق، الفنان الرقيق، المشاغب ، الرومانطيقي الحالم ، الواقعي الرامز ، من  ينتقل  من  موضوع  ذاتيّ  خاصّ إلى الموضوع  العام  الذي  يتصلُ بالمجتمع  والحريَّة والعدالة ، من غير أن يشعر المُتلقي بهذا الإنتقال . 

   وهكذا  ترتقي سيماء الأنا  في قصيدة  حاتم جوعيه  باستمرار من صورة الشاعر المحبوب لدى النساء ، إلى إبراز التناقض في المجتمع  بين إنسانين ، واحد يشبهه  والآخر يشبهُ  نفسه  فقط ، فتتباعدُ  أناهُ  عن  أنا  الآخر  كما  يتباعدُ  المُوجبُ  والسالبُ  في حركة  الكون ،  وصولا  إلى  ربيع  العرب  والأوطان الذي  يفرزُالليلَ عن النهار، ويضعُ حدًّا قاطعا  بين الأمس  والغد  . وفي الإنتقال  من  موضوع  إلى  موضوع  تحت  صرخةِ الأنا، لا  يشعرُ المتلقي بأنَّ الشاعرَ حمَلهُ من  جوٍّ إلى آخر، فلا نفور، ولا  تنافر، ولا شرخ في المعنى والتعبير، بل  دفق وانسياب كانسياب الفراشة في  حقول الربيع .  وبين هذا وذاك  تتأرجحُ  لغةُ  الشاعر  تارة  مع  العطر والنور ورقةِ النسيم  وطورا مع العاصفة التي لا تبقي  ولا  تذر . 

و تَـقــــــول لي قُــــــــمْ للصــــــلاة فـــرُبَّــمـــــا *طـلــــــع الـصـبـــــاحُ و أنت في أحْــــــــداقي

و اذكُــــرْ حـبـيـبـــي أحـمــــدَ الـمُـخــتـــــارَ في * مــا يَــعْــتَـــريـــك إذا دخــلْـــــتَ نِــطَــــــــاقي

فـــأنــــا أُدَاوي بـالـصـــــــلاة عـلـيــــــه مــــــا *  ألْــقـــــاهُ إنْ دارتْ كُــــــؤوسُ الـســـــــــــــاقي  ـ

........................................    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحمد العمّاري[2] لطيفة عن المقاومة الشعبيّة وأخرى حول قصائد بعض الشعراء الأعلام، من أمثال أبي مدين شعيب الذي قال في قصيدته ( الخمرية ): 

تضيق بنا الدنيا إذا غبتم عنّا * * وتزهق بالأشواق أرواحنا منا بعادكم موت وقربكم حـــــــيا * * وإن غبتم عنا ولو نفساً متنا نموت إذا غبتم ونحيا بقربكم * * وإن جاءنا عنكم بشير اللقيا عشنا

Haut du formulaire

وقد قام الشاعر بتخميس مطلعها فقال:

سَلَوْتُـمْ و زدتُمْ فوق سَلْوَكُمُ مَـنّـا *  *  و بِـنْـتُـمْ و قلتُمْ إننا ـ قَطّ ما بِـنّـا ـ

رُويْـدَكمُ مهلا ألمْ تعلموا أنّـا    *   * تضيق بنا الدنيا إذا غبتُمُ عنا

و تزهق بالأشواق أرواحنا منا

كما قام بتخميس بيت يتيم كما يقول، طالما كان يردده عمر بن عبد العزيز ( خامس الخلفاء الرّاشدين ) وهو:

نفسي التي تملك الأشياءَ ذاهبةٌ  * *  فكيف آسَى على شيءٍ إذا ذهبا

فذيّله الشيخ المختار الكنتي

[2]  - التخميس في الشعر هو أن يُعجَب الشاعر ببيت من الشعر فيضيف إليه ثلاثة أشطر من عنده، فيصير خمسة أشطر.

[3] - من علماء موريطانيا المشهورين وأعلامها البارزين عاش في القرن الثامن عشر الميلادي توفي عام 1811 م.

المزيد من المقالات...