مقدمة  :  الشاعرُ الشاب " رفعت عصام أبو عيد "  من سكان قريةِ  المغار الجليليَّة   وأصل عائلتهِ  من منطقة الحولة  سكنت  قرية المغار بعد عام 1948 . أنهى رفعت دراسته الثانويَّة في قريةِ المغار  ودرسَ بعد ذلك موضوعَ التمريض لمدةِ عامين في الاردن ثم  انتقلَ إلى موضوع  علم الإجتماع  وهو  يدرس هذا الموضوع  في  كلية صفد  سنة  ثالثة .

    رفعت أبو عيد  شاعرٌ وأديبٌ قديرٌ ومبدعٌ  نشرَ الكثيرَ من إنتاجهِ الأدبي والشعري في بعض المواقع الألكترونيَّة  وأصدرَ  قبل  فترة  قصيرة ديوانَ  شعر صغير الحجم  بعنوان " غزل " وهو  باكورة  إنتاجهِ الشعري، ولكن هذا الديوان لم  يحظَ  بالإهتمام  وتسليط الأضواء من قبل  وسائل الإعلام ، ولم يكتب عن  رفعت  حتى الآن وللأسف أيُّ ناقدٍ محليٍّ رغم مستواه الراقي كالعديدِ من الشعراءِ والكتابِ المُبدعين والمظلومين  محليًّا...وحتى في قريته  لم  يلقَ الإهتمامَ  والتقدير من قبل الجهاتِ الثقافيَّة ِ المسؤولة ..وكما أنَّ الشاعرَ قد  طاف بنفسه على جميع المكتبات  في قرية المغار( وهذه  حقيقة  قالها  لي  بمرارة ) وعرض على أصحابها  نسخا من  ديوانه  ليوزِّعُوهاَ  مجانا على الناس  كهدية دون مقابل ولكنهم رفضوا .

مدخل: ديوان "غزل"  للشَّاعر رفعت أبو عيد  يقعُ في 26 صفحة من الحجم الكبير  طبعَ  في مطبعةِ  الأنوار.. وتحلي الديوانَ صورةٌ  جميلة  ومعبِّرة على  وجه الغلاف  وعلى الوجه الآخر منه كلمة إهداء بقلم الشَّاعر..وهو يهدي الديوان إلى كلِّ من يعشقُ الأبجديَّة وإلى كلِّ من تسكنهُ الكلماتُ  في كلِّ مكان وفي كلِّ زمان ) .

  إنَّ قصائدَ الديوان من الناحيةِ الشكل والبناء الخارجي البعضُ منها قصائد  كلاسيكيّة  تقليديَّة والبعض على نمط  شعر التفعيلة ،وهنالك  قصائد  متحرِّرة من الوزن والقافية ( شعر حر ) أو  تكون مزيجا  بين  نمط  شعر التفعيلة  والشعر الحُر حيث  لا  يلتزمُ الشاعر بوزن  محدَّد  وإنَّما  ينتقل إلى عدّة  تفاعيل  في كلِّ  قصيدة،  وتتوجدُ في هذه القصائد الحديثة موسيقى داخليَّة  جميلة وأخَّاذة  تشنف الأذن  ويطربُ لإيقاعها القلبُ والروح  والوجدان .

   سأتناولُ  بعض القصائد من هذا  الديوان  من  خلال الإستعراض والتحليل  وسأبدأ   بالقصيدة الأولى صفحة 1 -  بعنوان " المشهد العشرين" وهي قصيدة غزليَّة وجدانيَّة  على وزن المتدارك أو الخبب ، ويقولُ فيها : 

( " قالت  إكذبْ  واكتبْ   ما  شئت

    وَلوِّنْ  شعري  انَّكَ  أنتَ الرَّسَّامْ 

    إنَّكَ ترسمُ تعرفُ  تكتبُ ألفَ امرأةٍ 

   ... يا   سيِّدتي  كيفَ   تلامُ   الأقلامْ 

    عيناكِ   حنينٌ   وحَنانْ   //  شوقٌ ورسولٌ  وغرامْ

    عيناكِ   شعرٌ   وعبيرٌ    //  فجرٌ  تحرسُهُ  رماحُ 

    هل في حسنِكِ  تهتُ أنا    // ورأيتُ بعينيكِ مَن  راحُوا  / ) ... إلخ .   

   القصيدةُ  تبدو بوضوح عاطفيَّة وجدانيَّة ذاتيّة يمزجُ فيها الشاعرُ بين الحبِّ العذري العفيف  والحُبِّ  الجسدي  المحظ ،  وَيُظهرُ في هذه القصيدةِ  عواطفهُ  الجيَّاشة  تجاهَ المحبوبة وشوقه ولهفته نحوها وتعطشَّه وأوَامَهُ الروحي والجسدي لها..لمفاتن جسدها الشهيّ والمثير ولوصالها ولقطف ثمارَهذا الجسد..وللنهل وللرشف من منهلها العذب. وفي هذه  القصيدة  يجري حوارٌ جميلٌ  بين الشاعر وفتاتهِ  التي رفضت بدورها  أن يأخذ وينتزعَ  منها  قبلة  وتصدُّهُ عن  مبتغاه  وأربهِ  لأنَّ هذا  حرام  في عرفهَا  وفي عرف المجتمع والعاداتِ والتقاليد الشرقيَّة  وعليه أن يتمسَّكَ بالمبادىء  وبالقيود التي   يفرضها  المجتمع   ويفرضها الدين  أيضا  وأن  يمنع  ويصون  نفسَهُ  ويردعها  عن الشهوات  والنزوات الجسديَّة.. وأن  يذكرَ ربَّهُ  دائما ويتمسَّكَ  بالقيم والأخلاق المثلى ويلتزمَ بالحج والصلاة  والصيام...ولكنَّ الشَّاعرَ يكفر بهذا الحبّ  المعذب والمجروح ويرفضُهُ حسب تصريحهِ لفتاتِه ويصفهُ  بالحبُّ الممحل والجاف الذي من دون  قرب  ووصال...وفي مفهومه وآيديلوجيَّته إنَّ  الحبَّ الذي  من دون وصال وتقارب والتحام  واتحاد جسدي كامل أولا  مع الجانب الروحي  يكون ناقصا  ولا  يعني شيئا ، ويقولُ الشَّاعرُ في نهايةِ  القصيدة :

( "  فكفرتُ بحبِّكِ وعذابي 

     دروبهُ   تيهٌ   وخصامْ 

     وجنوني  تبغٌ  وضرامٌ

     يحرقُ أنفاسي  ويشعلني  // ويقولُ الشيطان أمامْ  " ) ...

         أي انَّ الشيطانَ يغويهِ  ويطلبُ منهُ أن يستمرَّ ويتقدمُ إلى للأمام في طلبِ ونيل الشهوةِ  والمتعةِ الجسديَّة  والحسيَّة . 

   ويتابعُ الشاعرُ  فيقولُ

    ( " ماذا في الحُبِّ  أكونُ أنا ؟  //  قبرٌ   مهجورٌ ... وعظامْ

    وإنَّهُ  لتعبيرٌ وتشبيهٌ  جميل ..أي أنَّ الحبَّ بدون وصال وانسجام وتناغم  والتصاق واتحاد وتفاعل  روحي وجسدي  يكون كقبر مهجور وعظام  بالية لا  توجدُ  فيهِ حياة   ونبض  وحرارة  وتألق وتوهُّج وإشراق، لأنَّ الحبَّ الروحاني ( الأفلاطوني ) لوحدهِ  دون الجسد والشهوات وفي هذا العصر بالذات لم  يعد  يصلح وسيبقى ناقصا ( حسب تعبير  ورأي  الشاعر ) .

  ويقولُ أيضا :

    ( "  ضاقت في صدري أسمعُها // فتتمتمُ  في  صحوي  وتنامْ !!

     ظلَّ   فوق  الماءِ  كلامْ

     عيناكِ   حنينٌ   وحنانْ

     شوقٌ  ورسولٌ  وغرامْ  " )  .

   ..أي أنَّ الشّاعرَ سيبقى على العهدِ وسيظلُّ يحبُّ فتاتهُ  الضنينة والبخيلة  والمُجحفة في حقهِ ( جسديًّا ) رغم كلِّ الظروف وحتى لو صَدَّتهُ ولم  تنفذ طلبَهُ وتمنحهُ  جسدها كاملا أو بالأحرى لو قبلة صغيرة من خدها أو ثغرها .. فعيناها  توحيان  وتعكسان ما  بداخلِها من حنين  وحنان .. فعيونُها الشوقُ  ورسولُ غرام .

     إنَّ  كلَّ من يقرأ هذه القصيدة يتذكرُ مباشرةً  قصائد نزار قبَّاني الغزليَّة، وشاعرنا  بالطبع  قرأ الكثير  لنزار ولغيره من الشعراء العرب فهو واسع  الثقافةِ والإطلاع في جميع  المجالات : الشعريَّة  والأدبيَّة والثقافيَّة  والفنيَّة  والعلميَّة .. وغيرها .  فقد  قرأ الكثير من الدوايين الشعريَّة    لمعظم الشعراء العرب  قديما وحديثا .. ويبدو  أنَّهُ  في هذه  القصيدة  قد   تأثَرَ  بنزار قبَّاني  وبأسلوبهِ  وتوجُّهِهِ  ونهجهِ  - السهل  الممتنع  -  وبالسلاسةِ  والعذوبة  والإنسياب  الموسيقي وبالصراحةِ  والوضوح والشَّفافيَّةِ .. وقد استعملَ  هنا  بجر المتدارك  الذي كتبَ عليهِ نزار  الكثيرَ من القصائد  ، مثل : ( إني خَيَّرتُكِ فاختاري )، أو  زيديني عشقا  زيديني  . أو قارئة الفنجان وغيرها ..فهو وزن  جميل  وغنائي وإيقاعه  سريع  وعذب  وملائم  جدًّا  للشعر الغزلي  .  بَيْدَ أنَّ  معاني  هذه القصيدة  ليست  كلها  أصيلة  ومستحدثة  ، بل  هنالك  معاني  وصور مستعملة  سابقا ومتكرِّرة. والشَّاعرُ يتحدَّثُ عن حالةٍ خاصَّة وظرف وموقفٍ عاطفي  ووجدانيٍّ  كان فيهِ  ، ويشرحُ   ويسردُ ما  كانَ بينهُ وبين  حبيبتهِ ، وفي القصيدةِ  حوارٌ  واضحٌ وصريحٌ ( كما ذكرَ اعلاه ) بينهُ وبين فتاته وحوار بينهُ وبين نفسِهِ...والقصيدةُ  بشكل عام ناجحة وحديثة  ومتألقة بأسلوبها  ومعانيها وهي  منبريه بعض الشيىء  في بنائها  وأجوائِها ولم  يلتزمُ الشاعرُ بقافيةٍ واحدةٍ، بل نوَّعَ  وغيَّر في ترتيب القوافي  للخروج من الرَّتابةِ  والروتين التقليدي المملّ .   وهذه القصيدة  واقعيَّة  بكلِّ معنى الكلمة  وقد تكونُ لسانَ حال الآلاف  بل الملايين من الشباب الشرقيِّين  العشاق  والمُتيَّمِين  وحتى  المغامرين  والمُتصَيِّدِين  للفتيات الذين  لم  ينالوا مرادَهم  ومبتغاهم من معشوقاتهم  . 

     وسأنتقلُ إلى قصيدةٍ أخرى من الديوان  بعنوان (  " حنين السُّؤال !! "  -  صفحة  4   )  وهي على وزن المتقارب  الرومانسي الثوري كما يُسَمُّونهُ .. ويقولُ فيها  :

( " حنيني    إليكِ   خنين    السُّؤال           في    فم   طفلٍ   أضاع َ    الجوابْ

    إليكِ    حنيني   كعزفِ   البحار            على  صدر  موجٍ   يداعبُ  الرمال  

     يعانقُ    شمسَ    الصيفِ   كأنَّ            الشموسَ      إليهِ     تشدُّ   الرحالْ

     كنوم   الرحيق  إلى   ثغر  زهر           أريجهُ     ناغى     سفوحَ    الجبالْ 

    كعصفِ  جنوني   كطوق    فلٍّ              وكالنور   حينَ    يسابقُ     الخيال " ) 

       القصيدةُ  صغيرةٌ  في مساحتها  ولكنَّها  عريضةٌ  في  معانيها   ويشعرُ القارىءُ  الذكي ، من  خلالها ، بمقدرةِ  الشاعر  وطاقاتهِ  الشعريَّة  واللغويَّة  والفنيَّة   ويطربُ  لمعاني القصيدة وللإنسيابِ الموسيقي الرائع والمتناغم الذي جاءَ بشكل عفويٍّ وبديهيٍّ  على عكس الكثير من الشعراء الذين يحاولون أن يكتبوا شعرا موزونا فتأتي أشعارُهم  وأبياتهم ثقيلة ًعلى السمع  وتبلبلُ  الذوق ولا تتقبَّلهَا الأذن رغم كونها موزونة  حسب  بحور الخليل ...لأنَّه  لا  يوجدُ  فيها  موسيقى  داخليّة ولا  يوجدُ  فيها  تناغمٌ   وتلاؤم  ما  بين  المعنى واللفظ  وتفتقر للصور الشعريَّة الجميلة  والحديثة .

   وفي هذه القصيدة  بعض المعاني والصور الشعريَّة والإستعارات البلاغيّة  الحديثة المبتكرة  التي لم يستعملها شاعر من  قبل ، مثل : إنَّ  حنينه  إليها  ( لحبيبته)  كحنين السؤال في فم طفل أضاع الجواب ..أي أنّ حنينهُ دائمٌ  ومستمرٌّ وبإلحاح  كسؤال طفل  من فم  طفل  لجوج  مترع  بالحنين  وبالإلحاح  ولا يدري  ما هو الجواب ..وفي هذا البيت  الشعري نوع من  الفذلكة الكلاميَّة  واللفظيَّة .

وهنالك بيت آخر في هذه القصيدة مترعٌ  بالرومانسيّة  وبالخيال  المجنَّح فيقول :      ( "  كنوم  الرحيق  وفي  ثغر  زهر      أريجُهُ     ناغى     سفوحَ     الجبالْ  " )

 قنتذكرُ هنا مباشرةً شعراء لبنان والمهجر  وجبران خليل  جبران  الذين  أبدعوا  أيُّما  إبداع  في  وصف  جمال  ومفاتن  وسحر الطبيعة   .

   وإلى قصيدة  أخرى  من الديوان  بعنوان :  ( " رثاء  حمدة " - صفحة 5  )     حيث يرثي فيها جدتهُ " حمدة " ويسكبُ في  هذه القصيدة  دموعَهُ  وعبراتهُ  السَّخينة ، والقصيدة  تنضحُ  بالحزن  والألم  والمرارة  والحسرة الشَّديدة على وفاةِ هذه  الجدَّة    التي كانت عزيزة ً وغالية على شاعرنا  كثيرا ،ورحيلها وفقدانها خسارة  لا  تعوَض ، ويقولُ في القصيدة :  

( " وَدِّعْ    حمدَه ...

    ضاقت  عليَّ  الدنيا  كالقبرِ  ذا  عَلَقْ 

    ودِّعْ  حمدة َ ... في الغربِ والمشرق ِ  حَدِّثْ 

    ما   زالَ   بخاطِرِنا  الحديثُ   المُصدِّق  

    سقى  الرَّحمن  مرقدَهَا  ...

    مالي أرى  فنجانَ الضيفِ مأكولة ً اطرافهُ 

     وفنجانَ الكيفِ  شمالهُ  بيمينهِ  يصفقُ

    حَدِّثْ ..

    صدرُ القبر مذبوحٌ  وصدرُ اللهِ مفتوحٌ 

    وَأوجهٌ  ضجَّت  بالتفكير  حينا  وأعينٌ   بالدَّمعِ  تغرَقْ

    ما  ليَ أرى   في الأفئدِةِ  عويلا  تعمَّقْ

    ما  بالُ  الندى  أضحى  غير  برَّاق ٍ ، والحصيرة الزرقاء  في

    غير المكانِ  تُعلّقْ 

     حَدِّثْ

     تيكي الدَّالية ُ  أوراقَ  عنبٍ   مُمَزَّقْ  

     غابتِ  الأطيارُ  ما  عادَتْ   تزقزقْ 

     وريحٌ   تصفرُ  سوداءُ   وتنعَقْ

     حَدِّثْ

     ما بالُ الياسمين  صامتة  أوراقهُ   في الأرضِ  تحَدِّقْ

     والأدراجُ فارغةٌ  والقهوةُ  السمراءُ  مُعكَّرٌ  لونُهَا  والمسبحةُ لا  تُطقطقْ 

     حَدِّثْ ...

     أينَ قصصُ  "الحولةِ "  ليست  كعادتِهَا 

      في    كلِّ  ركن ٍ    في  البيتِ    تحَلِّقْ 

      أينَ حمدةُ  وعيناها ؟  أينَ الزّنّارُ الأخضر  المُوثَّقْ ؟  " )  ... إلخ ...

      يخاطبُ الشَّاعرُ نفسَهُ في هذه القصيدة  فيقولُ :   وَدِّعْ حمدة  ويالهُ من وداع  إنَّه الألم والمرارة  والموت ، فالدنيا  في هذا  الوداع ( موت الجدة ) ضاعت  بهِ  كالبيت الصغير . ويقولُ  لنفسِهِ  ولذاتِهِ  : وَدِّع  حمدة  وَخبِّر وحدِّث  جميعَ الناس  في الغرب  والمشرق. وكانَّ موتهَا هذا الذي هو فرض وحقّ على كلّ  إنسان لا يُصَدِّقهُ،  ويطلبُ الشاعرُ من  الرحمن  أن  يبعثُ  المطرَ  ويسقي  مرقدَها  وضريحَها... وهذا  المعنى والتشبيهُ  قديمٌ ومستهلك  ومستعمل  منذ  العصر الجاهلي  وما  زالَ  بعضُ  الشعراءُ   يستعملونهُ  إلى الآن  حيث  يطلبون  ويريدون  من  الغيث  أن  يروي  قبور  موتاهم والأعزاء  والأثيرين  عليهم ..  وأبو الطيِّب  المتنبي  كان  قد استعملَ هذا التشبيه في أكثر من قصيدة  كقولهِ في  رثاء أم سيف الدولة الحمداني :

( " سقى    مثواكِ  غادٍ    في  الغوادي       نضير  نوال   كفكِ    في   النوال ِ  " )  

 وفي رثاءِ جدَّتهِ يقولُ المتنبِّي أيضا  "

( وأصبحتُ   أستسقي   الغمام   لقبرها      وقد  كنتُ أستسقي الوغى والقنا الصمَّا  ) 

   والشَّاعر رفعت  أبو عيد  من  منطلق   أحاسيسهِ  ولواعج   قلبهِ  ووجدانهِ   ونفسهِ  المكلومة  لفقد الجدَّة  يرى أنَّ  بعد موتِها  كلَ  شيىءٍ  قد  تغيَّرَ وتبدّلَ : ففنجان القهوة  مثلا  مأكولة أطرافه ( يشيرُ هنا إلى كرم وجود وسماحة الجدّة التي كانت تقدّمُ القهوةَ السَّادة  للضيوف وللأقارب...  يوظفُ هنا التراثَ  ويستعملُ مصطلحا وتعبيرا  شعبيًّا  دارجا  ( فنجان الكيف   وفنجان الضيف ) . 

    ويتابعُ الشَّاعرُ كلامهُ فيقولُ : إنَّ  صدرَ القبر مذبوح  وإنَّهُ  لتشبيهٌ  جميلٌ وجديد .. وصدر اللهِ مفتوح .. يعني أنه واسعٌ جدًّا  ومفتوحٌ للرحمة ولقبولِها في الجنّة  .

       ويتابعُ الشّاعر في القصيدة  ويتساءِلُ : مالي أرى الأفئدة  عويلا  تعمق.. أي أنَّ الكثيرين حزنهم  كبير ومتفاقم،ولكنَّهُ مخفيٌّ ومكبوت في الأفئدة  ولا يخرج إلى العلن ... ويرى الشَّاعر، من منظارهِ  ورؤيته الحزينة  والمكلومة ، أنَّ الندى والطل لم  يعد  لهُ  بريق ...والحصيرة الزرقاء  لم تعد تعلق في مكانها الأصلي، والدالية تبكي أوراق عنب ممزَّق ..والأطيار بعد موت الجدّة غابت ولم  تعد  تزقزق ..والريحُ  لونها أسود  وتصفرُ وتنعقُ  كالغربان ، والياسمين أوراقهُ  صامتة  تحدِّقُ في الأرض ...والأدراجُ  التي كانت ممتلئة بالحضور أضحت  خاليةً لا أحدٌ  يجلسُ عليها، والقهوةُ معكّرٌ لونها  ، والمسبحة  التي كانت تحملها  الجدَّة دائما  لم  تعد  تطقطق ( كلمة عاميَّة وظفها هنا ومعناها  إخراج صوت القرقعة  أو الخشخشة  )  (وكلها تشبيهات وتوظيفات  للتعبير عن تبدُّل وتغير الأوضاع  والأمور جميعها بشكل جذري  بعد  موت  جدّتهِ )  . 

   ويسألُ الشَّاعرُ نفسَهُ أيضا  بحيرة وحزن : أينَ قصصُ الحولة ( أصل  جدته وأهله وعائلته من منطقة الحولة  ) ..القصص التي كانت ترويها الجدّة  وكانت تحلِّقُ في كلِّ ركن من البيت. وفي نهاية القصيدة  يظهرُعنصرُ الإيمان  لدى الشاعر بوضوح  وأنَّ الموت حسب رأيه هو حقٌّ على  كلِّ  إنسان  - حسب قول الجدّة  سابقا (  لطالما قالت  الموت حق حق )  .    ويطلبُ الشَّاعرُ  وقت جنازتِها   من حاملي  النعش  أن يرفعوا  تابوتها  برفق  وحنان   ويجب على الجميع  أن  يشيِّعوها  ويرفعوا  النعش  كالبيارق لأهميَّتها  ولمكانتِهَا   فهي  ليست  ككلِّ  الناس... ويصفُ  الشاعر  في  النهايةِ  مشهدَ   الجنازةِ والنعش المحمول فيقول :

( "  رحمة ٌ  ونور مثواها  إلى الخالق

      حَدِّثْ

      أيادٍ   ترفعُ   النعشَ  المُطوّق 

      وأخرى تمسحُ الدَّمعَ   فتسبِقْ

      حَدِّثْ

      وُضِعَ   النعشَ   تحت   داليةٍ  

      والأعينُ إليهِ  سقيمة  ٌ تُرقرق

      حمدة ... الكفنُ  الأبيضُ  لفّهَا   

      والقبلة ُ الأخيرة ُ باردة ٌ تمزّقْ

      حَدِّثْ

      وَ دِّعْ 

      بعدَ  العصرِ   جرحٌ   سيفتقْ

      والقبرُ مفتاحُهُ  ترابٌ  وَيُغلقْ

      عشرةُ  أحجارٍ  كلَّلت  قبرَها

      وترابٌ  مُعطّرٌ كذهبٍ  مُعَتَّقْ    " )  .

    

     يصفُ الشّاعرُ جنازتهَا  ووضعها  في الضريح والمشهد الحزين  الذي هو مصير ومآل كلِّ  البشر بشكل مفصَّل وموسع  ( الموت والقبر والدفن تحت التراب  من  بعد  الحياة  )  ... وهكذا قضت جدَّتهُ  ووضعت  تحت  التراب بعد  حياةٍ   حافلة  ومترعة بالعطاءِ، وكان لهذه الجدَّةِ  دورها ومكانتها الهامَّة في مجتمعها وبين عائلتها وأسرتها وأحفادِها..ولهذا رثاها الشَّاعرُ رفعت  وبكاها بمرارةٍ وبنزيفِ الألم والحزن واللوعة.     والجديرُ بالذكر أنَّ القلائل من  الشُعراءِ  العرب الذين رثوا جدَّاتهم  ومنهم أبو الطيب  المتنبِّي .

    وإلى قصيدةٍ  أخرى  بعنوان : ( " أيُّها الناس " -  صفحة 9 ) وهي في رثاء خالِهِ  الأستاذ  "موسى أبو عيد "  مُدَرِّس اللغة العربيَّة . وهذه القصيدة  تقع في عدّةِ  أوزان  ومعظم  مقاطعها  وأبياتها على وزن  المتدارك وعلى  قافية الدال  والهاء - على نمط قصيدة ( يا ليل الصبّ متى غدُهُ )  ويقولُ فيها : 

( "  قُل لي ألم  تقرأ في السَّماءِ حُزنا  

      ألم   تقرأ   في  الريح ..... وهنا 

     ألم   ترَ  كيف  راحَ  الغيمُ   يبكي     

     والأقمارُ   تنعي ..   لنا    موتانا 

     ألم  تر  كيف  اتخَذ  الدَّمعُ من  أحداقنا مسكنا 

      ألم  تر  كيف  الحروف  أحيت

      عطورَ   من  ماتوا .. وكيفَ  سقى  الرحمنُ  موتانا " ) . 

  يبدأ الشّاعرُ القصيدة َ  بالتساؤلِ والإستغراب  مع  علامات  الإستفهام .  يسألُ جميع الناس وعلى لسان حالِهِ يسألُ نفسَهُ وباستغراب : ألم  تقرأ في السماءِ حزنا وفي الريح وهنا ( إشارة هنا  لهول المصاب)  ويستعيرُ التشبيهات والصور من عناصر الطبيعة  ويوظفها  في هذه القصيدة  ولهذا الموقف الجلل والعصيب وهو موت خاله في ريعان الشباب..فالريح مع  قوتها وغطرستِها ستصاب بل أصيبت بالوهن والضعف  متأثرة ً  لموت  الفقيد  الغالي على للجميع .. ويسألُ  الشَّاعر:  لم   تر  كيف  راحَ  الغيمُ  يبكي  والأقمار  تنعي  موتانا  وأنَّ  الدّمعَ  اتّخذ  من أحداقنا  مسكنا  ( تعبير  بلاغي  جميل وبلفظ عذب) ..أنَّ الدّمعَ مستمرٌّ دائما في الهطول  ولا يفارق الخدودَ أبدًا فكأنّ الخدودَ أصبحت مسكنا  ودارا  لهُ . ويسألُ  أيضا : ألم  ترَ  كيفَ  الحروفَ أحيت عطورَ من  ماتوا وكيف سقى الرحمن موتانا..وهنا تشبيهات واستعارات بلاغيَّة  قديمة ومستحدثة  فيقصدُ الشَّاعرُ بالحروف كلمات الرثاء والنديب والقصائد الشعريَّة التي أحيت عطورَ  وأريجَ  من ماتوا...أي أحيت  ذكرَ الأبرار والأطهار  والأثرين والأفاضل الذين ماتوا   وذكرهم مثل العطر  لنقائهِ  وطيبتهِ ... كيف سقى الرحمنُ موتانا أي غمرَهم  برحمتِهِ وغفرانهِ  وسقى  قبورَهم  عبارة وتشبيهٌ  واستعارة  قديمة  ولكنَّ  الشَّاعرَ  وظفها هنا  بشكل  يختلف كليًّا  عن الشعراء السابقين وما  يرمزون  ويهدفونَ لهُ ، ويعني ويقصدُ   في  هذه  الجملة  أشياءً   وأبعادًا  أخرى  مجازيّة  وليس  المعنى  الحرفي   والمجرّد والمستهلك الذي هو إرواء الضريح بماء  والمطر . 

   وهنالك  بعضُ  المقاطع  والأبيات من القصيدة على  وزن المتدارك وفيها  يستعملُ ويدخلُ الشّاعرُ الكثير من المعاني العميقة والحكم  والمواعظ  والعبر. ويوظفُ الكثير من  المصطلحاتِ  والاشياء من الحياةِ  والطبيعةِ ، فيقول مثلا :

(  الليلُ     إذا    خلعَ     الفجر        ترى     الأيَّامَ     تطارِدُهُ     )

...أي لكلِّ شيىءٍ فعل ورد فعل..فحتى الليل  والظلام  والشر إذا خلعوا النهار( الخير)  فالأيام  ستطردُهُم ..أي أنَّ مجرى الأحداث وأشياء وأمور عديدة  ومستجدَّات  ستغيِّرُ الوضعَ  وتقلبُ  الأمور  والأشياء  رأسا  على  عقب  وستغيِّرُ  الوضع  وتطرد  الليل والظلمة فلا  ظلام  يبقى ولا شر يدوم  والخير والضياء هو الذي سينتصر في النهاية .... ويقولُ الشَّاعرُ :

( " والنورُ    إذا    عادَ      لنوم ٍ          في     موكبِ     نورٍ     مَرقدُهُ " ) .

    إنَّ النور مهما احتجبَ عن الأنظار  وتلاشى  فسيرجعُ  إلى موقعهِ ومكانهِ الطبعي  - للنور والضياء -  وقد يقصدُ خاله  التوفي هنا  أو كلَّ  شيىءٍ  إيجابيٍّ  ، فالنورُ حتى إذا  تلاشى أو أرادَ الإستراحة  والنوم  فيسكونُ مرقدُهُ  في موكب  من النور والضياءِ الشعشعاني الذي  يليق  بمكانتِهِ  وطهارتهِ  ومعدنِهِ النفيس.   ويتابعُ  الشَّاعرُ  فيقول :

( "  ما     العُمرُ    إلاَّ     بحر                  أمواجُ     السَّاعةِ    تجلدُهُ   " )

..أي انَّ الدنيا مثل بحر متلاطم الأمواج  لكثرة الأحداث  والتقلبات والقلاقل  والرزايا الجسام  التي تملؤُها . ويتحدَّثُ الشاعرُ عن خالهِ فيقولُ : إنَّ خالهُ  عادَ إلى ربِّهِ روحًا   وتركَ  الجسدَ على  هذه  الأرض  الفانية  ومكانه الآن  في الجنةِ  وعند  الإله القدوس  حسب قوله في هذا البيت .

( "  قد  عادَ   إلى  ربِّي   روحًا           ربِّي       والجنَّة ُ    موعدُهُ    " ) .   

   ويظهرُ الشَّاعرُ في القصيدةِ  شوقهُ وتلهفه  لرؤيتهِ  ولطلعتِهِ البهيَّة ..ولكن وللأسف   لن يستطيعَ  لأنَّ الأموات لن يرجعوا إلى الحياةِ الأرضيَّة مرَّة  ثانية حتى يوم الدينونة والعقاب والثواب ( يوم القيامة) . وإنَّ خاله قد  مرَّ كعطر إذ كانَ  مثلَ العطر والمسك  الفواح  صيتا  وفعلا  وقولا وعملا ، وعطرهُ ( أعمالهُ  وأفعاله  الخيرة  وصيته الذي مثل المسك)  يفوحُ  وينتشرُ في كلِّ مكان ..فأعمالهُ الإيجابيّة والخيِّرة في هذه الأرض التي تركهَا وودَّعها روحا وبقي جسده عليها لن تخمدَ  وتموتَ وينقطع ذكرها  فالأيام   والأزمانُ  والدهور  تمجدُهُ  وتخلّدُ  ذكراه  لأجل  هذه  الإعمال  والإنجازات  الرائعة ( علما وأدبا  وثقافة  وأخلاقا   وقيما  ومبادئ  مثلى ) .   ويقول في القصيدة أيضا :    (  وهنا الأقمار تعزِّينا )  أي أنَّ  كلَّ الناس  والأصدقاء الأخيار والمخلصين الذين هم الأقمار المضيئة خيرا وسلاما ومحبَّة وإخلاصا  ووفاء  تعزِّنا دائما ، ووجودها  معنا هو أكبر عزاء  لنا فيخفف عنَّا  هول المصيبة  والفراق الأليم ( وفاة  الخال).. والفجر المضيىء يعاهدُهُ .. أي أنَّ آخرته ومآله  للجنة والخلودِ  وللنور والفجر الأبدي  الذي يحتضن فقط المؤمنين والأبرار والأخيار والقديسين  . 

  ومما جاء في هذه القصيدة الجميلة والمؤثرة  ( مقاطع منها على بحر المتدارك ) :

(  الليلُ    إذا     خلعَ    الفجرَ                ترى       الايامَ       تطاردُهُ   

   والنورُ   إذا     عادَ    لنوم ٍ                في     موكبِ    دُرٍّ    مرقدُهُ 

   ما     الدنيا .... إلاّ      بحرٌ                أمواجُ       السَّاعةِ      تجلدُهُ 

   والعُمرُ    حصانٌ     خشبيٌّ                يلهُو   في   الدجَّاني   وَيُبعِدُهُ 

   مرّ      الدَّمع ...    وأسودُهُ                 كحّل     كالحالك       ساهدُهُ 

 فخالي !!

  قد  عادَ   إلى  ربِّي   روحًا                 ربِّي      والجنَّةُ       موعدُهُ 

 قد  مرّ   كعطر  .. كانَ   هنا                وهنا       الأيَّامُ         تمجِّدُهُ  

 وهنا       الأقمارُ      تعزِّينا                وهناك     الفجرُ        يُعاهِدُهُ  " )  .

  وإلى قصيدة أخرى من الديوان بعنوان بعنوان : ( " أنا الذي " - صفحة 10 - 11 )     وهذه القصيدة يدخلُ فيها الكثير من المعاني المبطنة والمستترة والإستعارات البلاغيَّة  الحديثة  وفيها  السهل  الممتنع  حيث   تبدو  القصيدةُ   بسيطة  وسهلة  ولكنها  عميقة  ويصعبُ على كلِّ   شاعر أن  يكتبَ  مثلها في مستواها  وجودتها  وروعتها .. فمثلا يقولُ  في القصيدة :

( " أنا الذي ضاجعَ حرمة َ الأشواق  في الكتب وارتمَى

     شهيدًا  بين  اليوم  والغد " )  ..   

.. إنَّهُ  تشبيهٌ  جديد  وجميل، وهذه الجملة الشعريَّة  حافلةٌ  بالمعاني  والأبعادِ الفلسفيَّة  وقد  تفسَّرُ  وتحلَّلُ على عدّةِ  وحوهٍ  وأشكال .

  ويقولُ أيضا : ( " قوافلُ  حزني  أبت   بألاّ   تصفعني  

                         وشظايا   قدر   المقسوم   من  عقدِ  " ) .   

  ويقول : 

               ( "   دسّ  لي   الحزنَ  في كأس ألاّ

                     تنصفينَ    العشق    من     بُعدِ

                      قولي   كيف  أحيا  عاشقا   لا   

                     يفرِّقُ    بينَ    الحلمَ    والوعدِ    " )  .

      في القصيدة  أبعادٌ  وطنيَّة  وإنسانيَّة  قد  يفهمها حتى القارىء العادي والبسيط ..  إنَّ الشَّاعر يتحدَّثُ عن المعاناةِ والألم ..معاناته الشخصيَّة ولواعجه الوجدانيَّة  وحزنه  وألمه ومعاناة شعبهِ  فيمزجُ  في القصيدةِ بين الحب والعشق الشخصي وحب الارض  والوطن  الذي يعني  لهُ  كلَّ  شيىء  كما  كان  يفعلُ  شعراءُ  المقاومة  في الستينيَّات والسبعينيَّات  من القرن الماضي  حيث كانوا يشبهون الأرض بالمرأة وبالفتاة الجميلة ( فتاة الأحلام )  . 

    وفي نهايةِ القصيدة   يصلُ  الشَّاعرُ الى القمَّةِ .. وهو  يعيدُ إلى أذهاننا وبكل  تأكيد   روائع الشاعر الفلسطيني الكبير " محمود درويش "، فمثلا  يقول : 

( " أنا الذي  نادمَ  صيحةَ ً 

     الأغلال في  يديه..  دعيني !

     قد   اطاحَ   جزركِ   مَدَدِي

     أيامُكِ   تلكَ   لستُ  أذكرها

     مفعمة    بالعطر     والشَهدِ

      *******

       كيفَ  أصحو  من  نشوةِ  الأحزان

       لا  صحوَ   بعدَ  الموتِ  في  اللحدِ  

       لا   صحوَ  انزعيني   مناجيا

       لا  صحو  بعدَ  رحيل  الروح   من  جسدِ

       أنا الذي  رُميتُ   في النهرِ  ورجعتُ إليكِ

        ناطقا    أنظمُ   الشِّعرَ   في    المهدِ

       والله  لو أحرقوا جسدي وأثقلوا عقلي 

       سأبقى   أحبُّكِ   يا  قمري 

       إنِّي   على   العهدِ     " )  .

      وأما  قصيدة ( " إشتقتُ  وأنتِ " - صفحة  14 )  فهي غزليَّة بحتة  مثل  قصائد  نزا قبَّاني الغزليَّة الحسيَّة  وَيُظهِرُ فيها حُبَّهُ وعاطفتهُ الشديدة والملتهبة تجاه محبوبتهِ . 

 وقصيدة ( " فضح البدر" - صفحة 21 ) إنّها  وصفيَّة ووجدانيَّة مترعة بالرومانسيَّة والشفافيَّة  وبالمعاني الفلسفيَّة  ويستعمل  فيها  عدة  أوزان  وتذكرنا  بشعراء  مدرسة مدرسة أبولو  وبأبي القاسم الشابي  وبشعراء المهجر كجبران خليل جبران  وإيليا أبو ماضي  ، ويقول فيها :

           ( " فضحَ  البدرُ  سكونَ  الدُّجى //

               ورمى  بالنجم  فوقَ السَّحابْ

ويقول : ( " لبس  الفجرُ  خمارَ  الصَّباحْ

               وشالَ   الزهرُ   نداهُ   وراحْ

               ينشرُ   طيبَهُ   في   الأرواحْ 

               ويغزلُ من  كلِّ عبير  وشاحْ 

              نامَ الخلقُ  وفي الأذهانْ //   نامَ الحلمُ  مع الأيامْ // ... إلخ " ) .

      وإلى قصيدة  بعنوان : ( " غزل "  - صفحة 22 -  )  واسم الديوان  على اسمها   يخاطبُ فتاتهُ  بشكل  مباشر ويؤكد أنه  لم  يعد  يكترث  ويهتم  لها  ولن  يرجع  إليها  كما كانت تتوقع ..يرمزُ لفتاتهِ  باسم عشتار ( إلهة الحب والجمال ) وأنَّ هواها فراشة  متعبة  .. أي  انَّ  هذه  الفتاة  غير ثابتة على  العهد  فهي تنتقل من  رأي  لرأي  ومن مكان لمكان  مثل  الفراشة من  زهرة  لزهرة  كما يبدو ونستشفهُ من  معاني القصيدة  .. ويحاورها  الشَّاعرُ  باستنكار ويقولُ لها : إنه  لا  يعرفُ  كيف الأحلام  تتجمَّد  ولا  يعرف  كيف تتبخَّر وانه لا يندم  أو يتأسَّف على فراقها  وهجرها  ، فلا تتصوَّر   في  يوم  ما  أنَّه  سيعضُّ على  أصابعِهِ  ويزحف على  بطنِهِ  في صحراءِ غرورها  أكثر .. وشبَّهَ الغرور هنا  بالصحراء   والزجاج  المتكسِّر  (  تشبيه  جديد  لم يستعمل  من قبل ) لأنَّ  هذا الغرور  مجذب  وقاحل ولا  يفيدها  ويجديها شيئا  ولن   ينتج  ويبعث ثمارا  وخصبا  وخيرا ..وأنَّ  بريدَها  عبثا  كانَ  ينتظر .  ويقولُ   لهذه الفتاة  :       ( كوني  ليلكة  ولوِّني   كلَّ  مراياكِ )  ولكن  عليها أن  تترك  شعرَهُ  وذاكرتهُ .    ونصُّ القصيدة  كاملا  كما  يلي   :                                                                               ( "   لا   تتصوَّري  يوما   بأنِّي  //  سأعضُّ  على أصابعي  أكثرْ

      أو أني سأزحفُ على بطني //   في  صحراءِ  غروركِ  أكثرْ

      عبثا   كانَ   بريدُكِ   ينتظر //   وخطوطكِ  في  كفيكِ   تُنحَرْ

      كوني  ليلكة   ولوّني  //    كلَّ   مراياكِ

      واتركي  شعري  وذاكرتي // 

      لم   يعُدْ   يفهمني   جنوني   //   هواكِ  فراشةٌ   متعبة 

      وغرورُكِ  زجاجٌ   متكسِّرْ

      إنِّي لا  أعرف  يا   "عشتارْ"  كيفَ الأحلامُ تتجمَّد ؟ !

      ولا  أعرفُ   كيفَ   تتبخّرْ   // " ) .

    وإلى القصيدة  قبل الأخيرة  من الديوان  بعنوان :( " دُمية مثقفة "- صفحة  23 )   حيث يوظفُ  فيها  الشاعر الكثيرَ من الرموز  والاسماء من  الميثيلوجيا ( الأساطير)     والتاريخ وغيرها  وقد  وفق  في هذه التوظيفات  حيث استعملها  في  الشكل الصحيح ووضعها في مكانها الطبيعي وقد كثفَ من هذه التوظيفات..والجديرُ بالذكر أنَّ القلائل  من  الشعراءِ  العرب  وحتى  في  يومنا  هذا (محليا وعربيًّا ) الذين  يوظفون التاريخ والأساطير في أشعارهم ليصلوا إلى الأهدافِ والأبعادِ التي يريدونها،ومنهم من أخفق ولم  يعرف  أن  يوظفها  كما  يجب ...وهذا أحدُ  أسباب عدم  تطوُر  وسموّ  وارتقاء  الشعر العربي الحديث  ووصوله  إلى  مصاف الشعر  العالمي على حدِّ   قول  بعض  النقاد  المحليِّين  ( محاضر  جامعي )  .  

 يوظف الشاعر في هذه القصيدة الأناجيل ، الخليل إبراهيم ،عام الفيل ، عروس النيل   ( قربان ) ، الملاك جبرائيل  ونيران الموقد  ومحاولة  حرق  النبي إبراهيم الخليل ...   وغيرها من التوظيفات .   والقصيدة على وزن المتدارك  ويلتزمُ  الشاعرُ فيها  بقافية واحدة   فقط ،  وهي  قويَّة ُ  النبرة   متينة   السبك   وسلسة   وجميلة   وعذبة   وفيها  الإنسياب الموسيقي  والتناغم  الجميل  بين اللفظ والمعنى، وهي  تتميَّزُ عن الكثير من القصائد المحليَّة   بعذوبتها  وبمستواها  الراقي  فهي قصيدة كاملة  من ناحية  المعنى  والمستوى  الفني  والنواحي  الفكريَّة والجماليّة والفنيَّة ..على عكس الكثير من الشعر  المحلي الذي أغلبه تشوبهُ الركاكةُ والوهنُ والضعفُ من ناحيةِ البناء واللفظ  والمعنى والشكل .. وحتى البعض من الشعر الموزون ( الكلاسيكي والتفعيلة) لشعراء عديدين  لا  نحسُّ  ونشعرُ  فيه  بالوزن  وبالموسيقى الشعريَّة  فتكون  قصائد  هؤلاء الشعراء الذين  أعنيهم  نظما  لا  أكثر لا  يوجد  فيها  حياة  ودفء  ونبض  وجمال  وإشراقة وإشعاعات ووميظ ...هذا عدا سطحيَّة وسذاجة وتفاهة  تلك  القصائد  حيث لا  توجدُ  فيها  معاني  عميقة  وصور  شعريَّة  أصيلة  وخلابة   ومشعَّة   واستعارات   بلاغيّة  وفنيَّة  مستحدثة.. إلخ .  وأمَّا  هذه القصيدة  التي نحن  في  صددها   فهي رائعة  بكلِّ  معنى  الكلمة  من  جميع  النواحي (  لغة  وأسلوبا  وجمالا  وعذوبة  وصورا  جديدة  ومعاني عميقة .. إلخ )  ولا  تقل  روعة وجمالا  وإبداعا  فنيًّا   عن  أفضل   وأجمل  وأعذب القصائد  التي  كتبها  الشاعر العربي الكبير  شاعر المرأة  الأول  في العصر الحديث  " نزار قبَّاني  .

 وأما  نصُّ  القصيدة  كاملا  : 

( "  عيناكِ   سماءٌ    بللها   بحرٌ

      والشعرُ    الذهبيُّ      يسيل

      عيناكِ  سماءٌ  في  مرآةٍ  أو

      حبرٌ   فاضَ  على   المنديلْ

      أقرأ     عينيكِ      سيِّدتي //    وكأنِّي  اقرأ  في  الإنجيلْ 

      عيناكِ     أوَّلُ      أسئلتي  //   والصَّمتُ  في  شفتيكِ  دليلْ

     أكتبُ   أمحو  أصنعُ  عشقا  //  أرسمُ اسمَكِ  عطرًا في إكليلْ

     أفكاري      تنفثُ     دخَّانا  //    تنقلبُ    في   أمعاءٍ    الليلْ

     أقرأ       عينيكِ      سيِّدتي  //  عيناكِ   في    حالةِ    تسبيلْ 

     فأغوصُ   وأعودُ    بجهلي  //   إلى   ما   قبل  عام    الفيلْ

     خوفي    يسرقُ     كلماتي   //   كعروسٍ      قدَّمها     للنيلْ

     عيناكِ        بحرٌ      تهتُ   //   أنا    فيهِ     أسألُ    جبريلْ ! 

     لا    طوقَ    نجاةٍ    ينفعني   //  بوصلتي مالت والليلُ  يميلْ 

     نيرانُ الموقدِ تشعلني حطبا  //    إني       أشكوكِ        لخليلْ  !

      شعركِ قنديلٌ ذهبيٌّ  تحملهُ  //    أنثى  ويذوبُ  فتيلا  بعدَ فتيلْ

     عيناكِ      سؤالٌ      يسألني !! //  وأجيبُ   فلا   أجدُ   التعليلْ

     وكانِّي   أسلُ   عن     عملي   //    أو عن  ما  يحدثُ  في التأويلْ  

     عشَّاقكِ  لا يُحصَونَ    فاعلمي   //  لن  أرضى  عن عينيكِ  بديلْ

      إنِّي   أضخُّ   نساءَ العالم  حُبًّا  //   إلاّ أنتِ  حُبُّكِ  يُلهمني التنزيلْ !! " ) .

وأما آخر قصيدة في الديوان بعنوان : ( " كريستينيا " -  صفحة 24 )  فيتحدَّثُ  فيها عن نفسِهِ وجنوحها  للخطأ وللأحكام الجائرة وإطاعة أهواء  ومقاصد الشيطان  ولكنَّ صوتَ  حبيبته  وبكاءَها  أرجعَهُ  إلى الصواب  فقرعَ   طبولَ  الندم  وعاد  إلى  ذاتهِ  بمنطلق ومفاهيم إيجابيَّة   فحبيبته هي فردوسه والأسمى  على  هذه الأرض .. وتظلُّ كلَّ شيىء  بالنسبةِ  لهُ  فخدَّاها  تفاحُ  الجنَّة  والشفاهُ  الملساء  كالفستق .. إلخ ... فهذه الحبيبة  أرشدته  للخير  وأبعدتهُ  عن  طريق  الشيطان  والظلام ، وفي هذه  القصيدة يستعمل بعض التوظيفات من الكتب المقدسة ،مثل: الشيطان ، تفاح الجنة، الفردوس .

وأخيرا : إنَّ  هذا الديوان " غزل " من أفضل وأجمل الدواوين الشعريَّة التي صدرت مؤخَرا ، ولكن لم  يأخذ  حقه من الشهرة  والإنتشار، وكما  أنَّ  الشاعرَ الشاب المبدع رفعت أبو عيد  لم  يحظ  بالإهتمام الكافي  وبتسليط  الأضواء من قبل وسائل الإعلام المحليَّة ِعلى مختلف أنواعها  ، وهنالك شعراء  محليون هم  دون المستوى  المطلوب  ويتفوّقُ عليهم  كثيرا  من  ناحية  الإبداع   قد  ركزت  عليهم  الأضواء  وأقيمت  لهم الأمسياتُ التكريميَّة العديدة  وكتبَ عن  إصداراتهم  ودواوينهم البائسة  التي هي دون المستوى  بعضُ  المقالات  المصطنعة  والعقيمة  من  ناحية  الموضوعيَّة   والنزاهة  والمستهلكة  والمليئة  تملقا ونفاقا،ولكن وللأسف هذا الشاعر القدير والمميز لم  يكتب عنه وعن  ديوانه  أيُّ أديب  وناقد  محليٍّ  غيري حتى الآن    .

  فأتمنى له من أعماق  القلب الإستمرار في مشواره الأدبي والشعري وأن لا  يصاب  بالإحباط  واليأس كالعديد من الشعراء والكتاب المبدعين المحليِّين فيتوقف عن الكتابةِ  بسبب الأوضاع والظروف المزرية محليًّا - على الصعيد الثقافي والأدبي  والإعلامي - والتي اختلط  فيها الحابل  بالنابل واصبح الشويعر والشعرور والممسوخ  والأرعن  والقزم  فكريًّا  وثقافيبًّا  شاعرا وأديبا والعميلُ  والمرتزق غدا وطنيا ومناضلا .. وأما الشاعر والأديب  المبدع والجهبذ  الفذ  والوطني الحر  والشريف  والنظيف  فلا  أحد يسمع عنه إطلاقا  بفضل وسائل  الإعلام الصفراء والمأجورة  وما أكثرها  في زمننا هذا  والتي تحاولُ  تزييفِ الحقائق وأن تجعل من الأبيض أسود وعلى العكس ..ولكن  وإن شاء الله  وبإصرار ومثابرة  وفي فترة زمنية قصيرة  سيكون الشاعر  رفعت أبو عيد  في طليعة  الشعراء  المحليين  وعلى امتداد  العالم  العربي  رغم  أنف  الجهات الإعلامية المشبوهة والصفراء التي تضعُ العراقيل والحواجز  أمام  كل إنسان شريف ونظيف  ومبدع  ومتمكن محليًّا سواء  في مجالات الشعر والأدب والفن  وغيرها من المجالات الأخرى .

 وأقول في النهاية :مبروك للشاعر الشاب المتميز فنيًّا رفعت أبوعيد على هذا إصدار  هذا  الديوان القيم  وعقبال إصدارات أخرى جديدة شعرا ونثرا ..  

clip_image002_43afb.jpg

رواية "البلاد العجيبة لليافعين"  للأديب المقدسي جميل السلحوت صدرت مؤخّرا عن مكتبة كل شيء في حيفا. تقع الرّواية التي صمّم غلافها وأخرجها شربل الياس في 84 صفحة من الحجم المتوسط.

الرواية وجهها الكاتب لليافعين، وهي من وحي خياله، مشوقة للقارئ لسبر أغوار أحداثها التي تدور ما بين الأرض والسّماء  ... بلغة سلسة سهلة ممتنعة وبتسلسل أخاذ للأحداث .

ربما حلم الكاتب بأن تعيش الكرة الأرضيّة في أمن وسلام، وبلا حروب أو فتن هو ما أوحى له بتخيّل هذه الحياة على كوكب آخر غير الأرض..تسكنه مخلوقات بشريّة .. مجتمع أنثويّ بكل معنى الكلمة، فالمرأة هي السّائدة وهي الحاكمة والمتصرفة في كلّ الأمور..ولهذا العالم قوانينه وأنظمته التي تصبّ جميعها في رفعة ورقي المجتمع وضبط سلوك أفراده.. كوكب وصل أفراده لأقصى درجات التّفوق علميّا، وسُخر كلّ هذا لما فيه منفعة البشريّة على ذلك الكوكب، ولم يستخدمه لتدميره كما نرى على الأرض..مجتمع يخلو من الفقر والجريمة..فلا حروب ولا مجازر..رخاء ما بعده رخاء، أمن وطمأنينة حريّة معتقد، فكر وتعبير ..عدا عن حرية المعتقد والدّين فلا طوائف ولا مذاهب تكون سببا في خلق  النّزاعات بين البشر.

بنظري هذا العالم هو الأمثل وهو المدينة الفاضلة التي نحلم بالعيش فيها..ولقد وجّهها الكاتب للنّاشئة وللفتيان، فهم أمل الغد والمستقبل الآتي بما يحملون من أفكار وقيم؛ ليزرع فيهم تلك القيم، وليحثّهم على طلب العلم الذي هو كما قالت زينب في نهاية الرّواية على لسان العالم أحمد زويل "بأن المشاكل الاقتصادية في مصر وغيرها من الدّول جميعها لا يحلّها إلا العلم"  

محمود طفل يتوجه للمدرسة سيرا على الاقدام، لأنّه لا يملك ثمن أجرة الباص، يرقب المحلات التّجاريّة وما بها من ملابس وحلوى ..يتمنّى في أعماقه لو يحصل على لباس جديد وطعام لذيذ،  لكنه لا يستطيع فحالتهم المادّيّة معدمة....ذات ليلة يستيقظ أحمد على صوت شيخ بلباس أبيض يدعوه للذّهاب معه في جولة داخل القدس، ينقاد الطفل بإرادته مسلّما أمره لذلك الشّيخ الذي تبدو الطّيبة على مُحيّاه..وما بين الصّخرة والكأس المخصّص للوضوء في باحة المسجد الأقصى تنتظره مركبة زجاجية على قطعة حريريّة، يركبانها وتحلق بهما عاليا. فالقدس هي بوابتنا إلى السّماء ...ويهبط على كوكب مأهول بالسّكان ...غمرت الدّهشة محمود، فكلّ ما في هذا الوكب جميل ونظيف، حتى الأكل والملبس متوفّر وفي متناول اليد يقدم للمحتاجين مجّنا..يأكل ويشرب ويعود لأسرته محمّلا  بالهدايا...ومن ضمنها عقدن مرصّعان بالجواهر والياقوت...نام الطفل في فراشه بعد تلك الرّحلة، واستيقظت أسرته لتجد مفاجأة عجيبة، مأكلا وملبسا دون عناء أو تعب، استفسر الوالد فأخبره محمود بأنّه من أحضرها لهم ..جنّ الوالد فما عهد ابنه لصّا...فمن  أين أتى بكلّ هذا؟ وهذان العقدان الجميلان حُفر عليهما اسم زوجته وابنته، فكيف؟ ولِمّ  هذين الاسمين بالذات؟ هل هي مصادفة أم ماذا؟

ذهب بالعقد إلى الصّائغ ليتحقّق من كنه العقدين، فأخبره بأنّه قطعة فريدة الصّنع باهظة الثّمن وعرض عليه مبلغا طائلا، فوافق عبد المعطي وعاد رجلا ثريّا، فالمبلغ الذي قبضه من الصّائغ كبير ..لكنّه عاد مرهقا فطلب من زوجه أن يكون في الغرفة لوحده؛ كي ينام قليلا ويرتاح من عناء التّفكير...وهناك وجد امرأة فائقة الجمال ورجلين آخرين ..عقدت لسانه المفاجأة لكنّها طمأنته بأنّها ما جاءت إلا لإسعاده، واسعاد أسرته وأنها من أرسلت لهم الهدايا وطلبت منه الزّواج بها، ومعها المأذون والشّهود ..اطمأن عبد المعطي ووافق، فما من أحد سيعلم بذلك فهي لا تُرى إلا لمن أرادت أن تكشف نفسها أمامه.

وهكذا تدور الأحداث ما بين أهل الأرض والسّماء، على ذلك الكوكب الذي تحكمه  النّساء بما لديهنّ من عاطفة وحكمة وجمال . كيف ستكون الحياة على هذا الكوكب؟ وأيّ حضارة بنيت عليه؟...بكلّ براعة تحبك الأحداث بتسلسل مثير ومشوّق للوصول إلى النّهاية.

في النّهاية أحيي الكاتب على هذا العمل الرّائع، وأبارك له إصداره الجديد ..وأتساءل إن كان هناك جزء آخر منها ففي نهايتها ما يدللّ على ذلك حين قالت زينب لأخيها: ما علينا إلا الجدّ  والاجتهاد في الدّراسة، لنتعلم في واحدة من جامعات البلاد العجيبة.

clip_image002_1f955.jpg

ضمن سلسلة "أغصان الزّيتون"  في مكتبة كل شيء في حيفا، صدرت رواية البلاد العجيبة الموجّهة لليافعين للأديب المقدسيّ جميل السلحوت، وتقع الرّواية التي صمّم غلافها ومنتجها شربل الياس في 64 صفحة..

الرّواية ممتعة .. مشوّقة .. هادفة .. جاءت بلغة سهلة بليغة ... تحوي مفردات وعبارات جميلة .. طغى عليها طابع الخيال العلميّ الواسع الذي يحمل في أفقه رسائل متعدّدة: تربويّة، علميّة، تعليميّة، اقتصاديّة، سياسيّة، تاريخيّة، فنّيّة، بيئيّة، أخلاقيّة،  معرفيّة ... مرّت جميعها بسلاسة من خلال أسلوب السّرد الانسيابيّ والحوار .

في بداية الرّواية في الصّفحات 5،6 أعطى الكاتب وصفا جميلا مشوّقا للقدس القديمة ممثّلة بمساجدها، كنائسها، أسوارها، أسواقها، زخرفتها... و ذلك من خلال تجوال(محمود وصديقه طارق ) بين زقاقها، وحواريها .

تركّز الخيال في الرّواية على المقارنة غير المباشرة بين الحياة الواقعيّة البائسة لسكّان كوكب الأرض، والحياة المثاليّة لسكّان كوكب البلاد العجيبة .. حيث في الأولى ساد طابع البؤس والشّقاء، الكراهية والكذب، الجهل و التّهميش خصوصا للنّساء والأطفال، الطّغيان والظّلم، الحروب، سلب الحقوق ... الخ . وكلّها أسباب لا تزال تؤدّي إلى الصّراعات والحروب المدمّرة الدّائمة ... وذلك على عكس الكوكب الآخر"البلاد العجيبة" المثاليّ حيث تسوده المحبّة والقيم من أخلاق وصدق وانتماء وغيرها .. واهتمامات علميّة، ثقافيّة، ودراسات وأبحاث .. كلّها تؤدّي إلى التّغيير والتّطور الذي يقود الفرد والشّعب إلى الارتقاء بالمستوى الفكريّ العقلانيّ. وهذا الكوكب كما جاء في الرّواية تحكمه النّساء، وأعتقد هنا أنّ الكاتب أراد أن يظهر قوّة وكفاءة النّساء وقدرتهنّ التي لا يستهان بها على القيادة وادارة شؤون البلاد بعقول متفتّحة وذكء، ومحبّة وعدل وتضحية في سبيل اسعاد الآخرين، على عكس التّربيّة الذّكوريّة السّائدة بين سكّان الأرض، والتي تميّز بين الرّجل والمرأة في التّربية والحقوق والمعاملة..الخ. و خصوصا في دول العالم الثّالث .. والتّاريخ غنيّ بالأمثلة التي تبيّن قدرة المرأة على القيادة على سبيل المثال في بلادنا العربيّة...زنّوبيا ملكة تدمر، بلقيس ملكة اليمن، ملكات الفراعنة كليوبترا وغيرها .

في صفحة 9 ركّز الرّواية على مقدّساتنا الدّينيّة والتّاريخيّة في القدس من خلال ذلك الشّيخ الطّيّب ذي الثّياب البيضاء، الذي جاء محمود وطار به في مركبة زجاجيّة من ساحة المسجد الأقصى بين قبّة الصّخرة والكأس إلى البلاد العجيبة .. حيث قال الشّيخ لمحمود: " هنا منبع الخيرات يا ولدي، فهذه بداية الدّنيا وأقرب بقاع الأرض إلى السّماء، فمن سيطر عليها فاز فوزا عظيما، لأنّها مباركة .

 جاء في الرّواية وصف جميل للحياة العصريّة في كوكب البلاد العجيبة حيث الأبنية الأنيقة، الأطفال من كلا الجنسين يلعبون، يمرحون، ويرتدون ملابس نظيفة جمية وأنيقة .. نساء جميلات، حدائق غنّاء، شوارع عريضة نظيفة، خير، سعادة، سلام، محبّة ورخاء .. وتظهر هنا معالم الحضارة جرّاء التّقدّم العلميّ... حيث بدت الفوارق بين الجهل، الفقر والتّخلف على الكرة الأرضيّة، وبين التفوّق العلميّ الذي هو سبب الخيرات من جهة أخرى في البلاد العجيبة، وجاء في الرّواية وصف جميل لبعض المشاهد في البلاد العجيبة، مثل وصف الحمّام العصريّ الذي يخرج منه حوض الأستحمام والمغسلة بكبسة زرّ كهربائيّة .. والذي شاهده عبد المعطي صفحة 44 و كذلك ابنته زينب صفحة 96 ، حيث تذكّرت استحمامها في "لجن" من الحديد الصّدىء الذي يصدر صريرا مزعجا ....... الخ.

 وممّا يلفت الانتباه في الرّواية هو عدم تقبّل عبد المعطي للتّغيير من خلال التّطوّر الذي رآه في البلاد العجيبة، ورغبته في الرجوع إلى بساطة العيش ببيته الفقير في الكرة الأرضيّة، وذلك كما جاء في الرّواية من خلال قصيدة ميسون بنت بحدل:

 لبيت تخفق الأرياح فيه *** أحبّ إليّ من قصر منيف ... الخ .

 وجاء غي الرّواية صورة نموذجيّة مشرقة للمساواة والتّعاون والمحبّة واظهار دور العاطفة بين الأزواج في صفحة 82 .

سلّط الكاتب الضّوء على ضرورة الاهتمام بالبيئة والمحافظة عليها من التلوّث في صفحة 85 .

ويظهر في الرّواية الاهتمام الكبير بالجانب الثقافيّ العلميّ والتّاريخي من خلال زيارة محمود وشقيقته زينب ووالدهم بمرافقة زوجته سعاد الثّانية للعديد من الأماكن العلميّة والثّقافيّة والعمرانيّة مثل: المكتبات، المتاحف، المحميّات الطّبيعيّة في صفحة 96 و 97، وقصر الثقافة وما يحويه من مسارح وقاعات للمحاضرات، والموسيقى والعزف والرّقص صفحة 88.

الرّواية غنيّة بالمعارف العلميّة والثّقافيّة مثل: الحديث عن حضارات بلاد العرب القديمة،  كحضارة الفراعنة، وحضارة ما بين النهرين، تاريخ القدس ...في صفحة 97 و 98 .

في صفحة 74 ورد من خلال الحوار حديث عن حقوق المرأة، حرّيّة الرأي، حرّيّة العبادة، واحترام حرّيّة المعتقد للآخر، وعن التّعدّديّة في الأديان، العرق، اللون، و تقبّل الآخر، وبالتّالي ضرورة التمسّك بالوحدة رغم الاختلاف، لما لذلك من انعكاسات ايجابيّة تعود بالنّفع على الجميع، وتحقّق الرّخاء والسّعادة والسّلام.

اظهار روح الانتماء وضرورة التمسّك بالأرض التّاريخيّة المقدّسة، وذلك من خلال اصرار عبد المعطي بعد حصوله على كنوز ثمينة من البلاد العجيبة على شراء أرض مطّلة على القدس القديمة، وتفكير أخيه عثمان بافتتاح شركة عقارات لشراء أراضي في القدس، ومحيطها للبناء عليه لتعزيز الوجود العربيّ في العاصمة الفلسطينيّة "فمن يعيش بالقدس القديمة أو يطلّ عليها سيعيش في سعادة غامرة دائمة، فالمدينة مهدّدة بناسها، مقدساتها وتاريخها وثقافتها وطابعها العمرانيّ" كما جاء في صفحة 109 .

في نهاية الرّواية عاد التّركيز مرّة أخرى على ضرورة الاهتمام والتّمسك بالعلم الذي هو الحلّ الأمثل للعديد من المشاكل على جميع الأصعدة السياسيّة، الأقصاديّة، الأجتماعيّة ... وغيرها، حيث بالعلم يتمكّن المرء من تحقيق كلّ ما يصبو إليه من طموحات وأهداف منشودة تعود عليه وعلى المجتمعات بالخير والرّخاء والمحبّة والسّلام وهكذا تتطوّر الشّعوب والدّول.

clip_image002_e7971.jpg

 ضمن سلسلة "أغصان الزّيتون"  في مكتبة كل شيء في حيفا، صدرت قبل أيّام قليلة رواية البلاد العجيبة الموجّهة لليافعين للأديب المقدسيّ جميل السلحوت، وتقع الرّواية التي صمّم غلافها ومنتجها شربل الياس في 64 صفحة.

بدأت قراءة الرّواية وانا أسأل في داخلي ما هي البلاد العجيبة؟ كانت البداية عند دخول عبد المعطي وابنه محمود أسواق القدس القديمة، حيث أنّ لكلّ سوق من هذه الأسواق طابعه الخاصّ، فحينما تدخل القدس تتدفّق أحاسيس من داخلك، وكأنّك تعيش في كلّ زقاق من أزقّتها حقبة تاريخيّة معيّنة، وتشعر بلذّة هذا الاحساس.

 هذه الرّواية تجذب القارئ ليدخل القارئ بين سطورها، وكأنّه يشاهد فيلما  سينمائيّا تسجيليّا، عبد المعطي وزوجته سعاد فقراء، وكلّ همّهما أن يتربّى أبناؤهما على العفّة والأمانة والصّدق والأخلاق الحميدة. وابنهما محمود هذا الطفل الذي كان راضيا بحياة الأهل الفقيرة، وهو مثابر على دراسته متمسّك بدينه وعفّة نفسه.

بدأت رحلته مع الشّيخ الطّيّب الذي حمله معه إلى بلاده العجيبة، وجعله في هذه البلاد يختار لنفسه ما يشاء، فأكل وشرب ولبس، ولكنّه كان يفكر بأمّه وأخته وأسرته، فحمل لهم معه الطّعام والملابس وعقدي جواهر، واحدا لأمّه والثّاني لشقيقته..

عبد المعطي برغم فقره لم يفكّر إلا بما حدث مع ابنه، وذهب إلى الصّائغ الأوّل يعرض عقدا ليعرف معدنه وقيمته، فلم تغره النّقود التي عرضت عليه،  واتّفق مع الصّائغ الثّاني بعد أن علم مصدر هذا العقد الذي تميز بجماله ووصفه وثمنه المرتفع.

 ويختلف الوضع الصّائغ الثّاني لاكتشاف عبد المعطي مصدر العقد المميّز، سافر الصائغ بالعقد إلى لندن. ورغم أنّ العقد لا يعود للفراعنة، إلا أنّ  دار المزاد اللندنيّة باعته على أنّه يعود للملكة الفرعونيّة نفرتيتي، وهنا تؤكّد الرّواية أن ليس كل ما يقال من الغرب صادقا،  وهناك وسوس الشذيطان للصّائغ بعد أن باع العقد؛ ليلتفّ على نصيب عبد المعطي، ولكنّه في النّهاية تذكّر أنّ القناعة كنز لا يفنى، والأمانة أفضل من الخيانة.

وعودة لعبد المعطي الرّجل الذي غرق بفكره وتساؤلاته، فكان الرّدّ سريعا حيث جاءه الشّيخ الطيب وابنته وشهود، وتزوّج سعاد الثانية ابنة البلاد العجيبة، وذهب معهم إلى تلك البلاد، فبهر بما فيها من جمال وعلم وتقدم وازدهار وأمن وسلام وثراء.

وسعاد الثّانية صاحبة الأخلاق الحميدة، أحبّت أسرة عبد المعطي الفقيرة، أحبّت صغيرها وكبيرها، حتى أنّها أحبّت ضرّتها الأولى، وقرّرت انتشالهم من حياة الفقر.

ذهب عبد المعطي وابنته وابنه في زيارة للبلاد العجيبة  بصحبة الشّيخ الطّيّب، وهنا كانت الجمالية في الوصف حيث المكتبات مفتوحة للجميع، بكلّ علومها وتاريخها، وكذلك المتاحف التي تحوي مالم تره عين من كنوز وحضارات.

والمحميّات الطبيعيّة التي يوجد بها من مخلوقات الله غير الموجودة في الكرة الأرضيّة، ولكن التّركيز كان على هذا الحيوان المفترس الذي ابتلع فيلا ضخما دفعة واحدة، لكنّه لا يضرّ البشر ولا يصطاد إلا ليأكل فقط.

وتعليقا على ما قاله عبد المعطي في جلسته مع سعاد الثّانية والأبيات الشّعرية التي قالها في سريرته، فاعتقد أنّها تغيّرت بعد جولته في البلاد العجيبة، وما رآه من عدل وأخلاق في هذه البلاد،  وهذا دلالة على حنينه لماضيه وعدم تقبّله للجديد.

وهنا لا بد من المرور على المتعصّبين وأصحاب الأفكار الهدّامة في البلاد العجيبة، حيث تُعزل كلّ مجموعة منهم في جزيرة من جزر البلاد العجيبة، ليعيشوا حياة كريمة، ولمحاصرة شرورهم واسعاد بقيّة البشر.

تمسّك عبد المعطي في الرّواية بمدينة القدس،  وتأكّد أنّ  هذا المدينة المباركة، ستعود حتما لأهلها. أمّا محمود فعاد وكلّه حيوية لإتمام دراسته، وعاد لصديقه طارق ليحثّه على إكمال الدّراسة فبالعلم تنهض الأمم.

واذكر هنا ما قاله الله سبحانه وتعالى لسيد الكون محمّد عليه أفضل الصّلاة والسّلام (وإنّك لعلى خلق عظيم). وأمّا البلاد العجيبة ومن يحكمها من النّساء والأطفال، فنحن اليوم بحاجة إلى الأمّ التي تربّي الأطفال، وتبني أسس الأخلاق، فالمسؤول الأوّل في التّربية هو  الأمّ التي" اذا أعددتها أعددت شعبا طيّب الأعراق."

 الرّواية التي لا ينقصها عنصر التّشويق، من أجمل ما قرأت منذ زمن طويل، وتشكّل اضافة نوعيّة للمكتبة الفلسطينيّة والعربيّة.

رُؤى ثقافيّة 184

كنّا قد أشرنا في مقال سابق إلى تلك المراسلات التي عَثر عليها (ويليم فليندرز بتري) في (تلّ العمارنة) بـ(مِصْر)، وكانت بين (الكنعانيِّين) في (فلسطين) و(أخناتون) في مِصْر، وشكوى الكنعانيِّين من غزو بعض الشعوب، وذكروا من بين الغزاة: (العابيرو= العبرانيِّين).  لكن أخناتون لم يُوْلِ شكواهم اهتمامًا.  فكيف نفهم هذه النصوص والآثار؟ 

يقع تلّ العمارنة في (دير مواس)، بمحافظة (المِنْيا)، شمال صعيد (مِصْر).  وكان موقعه عاصمةً للفرعون الشاعر (أمنحُتِب الرابع)، الذي غيَّر اسمه إلى (أخناتون، -1336/ 1334ق.م)، ويعني اسمه: "الأَهْنَأ بآتون"، وهو زوج المَلِكة (نفرتيتي).  وسمَّى أخناتون عاصمته: (أخت آتون)، وجعلها مركزًا يدعو منه لربِّه (آتون)، أو آتوم، الذي كان يمثِّل قُرصَ الشمس.  و(آتون) هو (أَتُّوْن)، بالعربيَّة، وهو: المَوْقِدُ، والجمع: أَتاتين.(1)  وتُشبِه تجربة أخناتون في هذا تجربة (إبراهيم الخليل)، حسب قِصَّته القرآنيَّة، الذي لمّا رأى الشمس بازغةً، قال: "هذا ربّي"، لولا أن أخناتون ظلّ على اعتقاده، ولم يصدّه عن ذلك أن رأى الشمس من الآفلين.(2)  

اتَّخذَ أخناتونُ آتونَ اسمًا لربِّه، وحَظَرَ الشِّركَ به على المِصْريّين، ومنعَ المعابد القديمة، وصادر أملاكها، وحطَّم التماثيل، وحرَّم الرُّقَى، وأحرق ما تبقَّى من ألوان السِّحر والشعوذة، ساعيًا إلى ديانة توحيديَّة. لكن مذهبه هذا قُوِّض من بعده، واضطَهد الانقلابيُّون- مِن أتباع الآلهة المتعدِّدة التقليديَّة- أتباعَه، وتحوَّل ابنُه من عبادة آتون إلى عبادة (آمون)، وتسمَّى بـ(توت غنخ آمون)(3)، ونعتوا أخناتون بـ"المجرم الأكبر".  ويُروى أن اليهوديَّة في مِصْر كانت على تداخلٍ حميمٍ مع الآتونيَّة، مؤثِّرة أو متأثِّرة، إلى درجة التطابق، كما يُرجِّح (فرويد).(4)  ونحن نجد مصداق ذلك في "التوراة"؛ فإذا كان أخناتون قد اتَّخذَ آتون ربًّا- وهو الشمس، كـ"أَتُّوْن/ أَتُوْن" بالعربيَّة، أي: النار الموقدة- فإن "التوراة" تحكي عن (يَهْوَه) شيئًا شبيهًا، كما في قولها: "وكَانَ جَبَلُ سِينَاءَ كُلُّهُ يُدَخِّنُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وصَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُونِ، وارْتَجَفَ كُلُّ الجَبَلِ جِدًّا."(5)

على أن افتراض أن كلمة "العابيرو"، في تلك المراسلات المعثور عليها في العمارنة تعني: "العبرانيِّين" مُشْكِل؛ لأنه إذا كانت الرسائل من عهد أخناتون، فالمفترض السائد أن العبرانيِّين لمّا يكونوا- على بعض الآراء، ووفق تصوّرات فرويد عن علاقة أخناتون بـ(النبي موسى)- قد خرجوا من مِصْر بَعد.  إلَّا إنْ قيل إنها كانت في (الشام) قبائل أخرى من العبرانيِّين وأنهم المقصودون. 

بيد أني سأطرح فرضيَّة أخرى هاهنا، تبدو قابلة للتوفيق بين هذه الأحداث والآثار.  فلعلّ الفرعون الذي خرج على عهده موسى هو الفرعون السابع من الأسرة الثامنة عشرة (أمنحُتِب الثاني، 1427- 1401ق.م)، وهو الجَدّ الثاني لأمنحُتِب الرابع/ أخناتون.  وكأن أباه (تحوت موسى الثالث، -1425ق.م) هو فرعون التسخير.  ويؤيِّد هذا ما ورد في مخطوطٍ بَرديٍّ هيروغليفيٍّ، يعود إلى عهد تحوت موسى الثالث، يشير إلى أقوام يسمّيهم المخطوط (الآبيروسApiru ، أو الهابيرو Hapiru، أو Habiru)، ليسوا بمِصْريّين، كانوا يعملون بالسُّخرة في مِصْر، في أعمال البناء، والفلاحة، وقطف الكروم.(6)  ويبدو أن هذا اللقب يشير إلى العبرانيِّين، الذين جاءت الإشارة إليهم باللقب نفسه في رسائل الكنعانيِّين المعثور عليها في تلّ العمارنة.  وقد وردت الإشارة إلى هذا التسخير في "سِفر الخروج"(7) هكذا: "فاسْتَعْبَدَ المِصْرِيُّونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعُنْفٍ، ومَرَّرُوا حَيَاتَهُمْ بِعُبُودِيَّةٍ قَاسِيَةٍ في الطِّينِ واللَّبِنِ وفي كُلِّ عَمَلٍ في الحَقْلِ. كُلّ عَمَلِهِم الذي عَمِلُوهُ بِوَاسِطَتِهِم عُنْفًا."  وربما كان من أسباب العثور على (الهابيرو) لقبًا لطبقة العمّال في عهود لاحقة للعهد الذي قدَّرنا أن العبرانيِّين خرجوا فيه من مِصْر، أي بعد عهد (أمنحُتِب الثاني)، هو أنه قد أصبح لقبًا مهنيًّا شعبيًّا لهذه الطبقة العاملة، وإنْ لم يكن أفرادها من العبرانيِّين بالضرورة.(8)   

وعليه، فإنه، بناءً على الوثائق التاريخيَّة المتمثِّلة في:

- ما سبقت الإشارة إليه ممّا نقله (ول ديورانت) عن (جارستانج)، عضو (بعثة مارستن Marston)، التابعة لـ(جامعة ليفربول)، وهو أنها كُشفت في مقابر (أريحا) المَلَكيَّة أدلَّة تُثبت أن موسى قد تربَّى في بلاط الملِكَة (حتشبسوت، -1458ق.م)، وأنه فرَّ من مِصْر حين تولى المُلْكَ (تحوت موسى الثالث، -1425ق.م)، عدوّ حتشبسوت. 

- ما أشير إليه حول ما وردَ في المخطوط البَردي الهيروغليفي، الذي يعود إلى عهد تحوت موسى الثالث، والذي يشير إلى أن (الآبيروس، أو الهابيرو) كانوا يعملون بالسُّخرة في مِصْر.

- رسائل الكنعانيِّين إلى (أخناتون، -1336/ 1334ق.م)، المعثور عليها في تلّ العمارنة، وشكواهم من غزو (الهابيرو: العبرانيِّين)، الدالَّة على أن هؤلاء باتوا يمثِّلون قوَّة غازية تُهدِّد ممالك الشام.

- ما جاء في كلمات الفرعون المِصْري (مرنبتاح، الذي حكمَ من 1213 إلى 1203ق.م)، التي سجَّلها على لوحته الشهيرة بـ"بلوحة بني إسرائيل"، [تناولناها في المقال السابق]، الدالَّة على أن بني إسرائيل قد أصبحوا في عهده عدوًّا خارجيًّا لمِصْر، لا عدوًّا داخليًّا، أو مجرَّد متمرِّدين على سُلطانه.  هذا مع الإشارة المهمَّة إلى "ضياعهم" في قوله: "يسرائر/ يسرائل/ إسرئيل ضائعة، وبذرتها عقيم"، الموحية بـ"تِيْه" بني إسرائيل المشهور، وكأن ذاك قد صار سُبَّتهم بين الشعوب، منذ ذلك التاريخ. 

بناءً على هذا كلِّه، يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، يمكن استنتاج الآتي:

أن موسى عاد من (مَدْيَن) إلى مِصْر بعد وفاة (تحوت موسى الثالث)، أي في عام 1425ق.م أو بُعيده، إثْرَ تَولِّي (أمنحُتِب الثاني).  وهذا الفرعون الجبّار هو مخضِع الثائرين وطالبي الحريَّة، وهو ذابح الملوك للآلهة بيده.  الذي قاد الحملات القاسية على (فلسطين) و(سوريّة)، والذي اقتاد 3600 مساجينَ من أولئك الهابيرو (العبرانيِّين) من أرض كنعان إلى مِصْر.  وقد لوحظ على مومياء هذا الفرعون ما لوحظ على مومياء أبيه وجدّه من القروح الجلديَّة، وربّما الجُذام.  وبدأت مطالبات موسى فرعونَ بالخروج من مِصْر، بعد عودته من مَدْيَن.  وفي عهد (أمنحُتِب الثاني) خرج العبرانيُّون من مِصْر، 1401ق.م.  وذكرت التوراة أن عُمْرَ موسى إذ ذاك كان ثمانين سنة.  وهذا متَّفق تقريبًا مع المدَّة من عهد (تحوت موسى الثاني، -1479ق.م)، الذي وُلد فيه موسى، إلى عهد (أمنحُتِب الثاني، -1401ق.م)، الذي خرج فيه.  ولا يتعارض هذا مع الإيمان بحادثة الغَرَق لفرعون وجنوده لدى من يؤمن بها؛ لأن فرعون- حسب القرآن- قد نجا ببدنه.  ولا يتعارض كذلك مع العثور على مومياء هذا الفرعون محنَّطة في مقابر الفراعنة؛ لأنه من المتصوَّر أن قومه قد حنَّطوه بعد نجاته ودفنوه في وادي الملوك، كغيره من ملوكهم.  ولكن هل نصَّ القرآن على غَرَق فرعون أصلًا؟  كلّا!  وإنما التفاسير التي تتَّخذ القصص التوراتي مرجعًا هي التي فرضت هذا الفهم على النصّ، ورسَّخت هذا الاستنتاج ترسيخًا، حتى صار كأنه من المسلَّمات البدهيَّة.  ثم تعال ابحث عن مومياء الفرعون الغريق، كما يُحاول بعض المعاصرين!  إن القرآن دقيق في تعبيره هاهنا، فهو لا ينصّ على غَرَق فرعون مطلقًا، وإنما على أنه "أدرك فرعون الغَرَق"، ثمَّ نجا.  وللتفصيل في هذا سيكون مقالنا الآتي، إنْ شاء الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر: ابن منظور، (أتن).

(2) وقد دفع هذا الشَّبَهُ بعضَ الدارسين إلى الزعم أن (أخناتون) هو (إبراهيم).

(3) أعلن (زاهي حواس)، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار في مِصْر، عام 2010، أن نتائج الحمض النووي ‏DNA‏ أثبتت أن (توت عنخ آمون) هو ابن (أخناتون)‏، ولم تكن أُمُّه الملكة (نفرتيتي)- كما كان الاعتقاد سائدًا- وهو حفيد (أمنحُتِب الثالث) والمَلِكة (تي). (انظر مثلًا: جريدة "الرياض"، ع15469، الأحد 23 من ذي القعدة 1431هـ = 31 أكتوبر 2010م):  http://www.alriyadh.com/572949

(4) انظر في هذا: فرويد، سيجموند، (1986)، موسى والتوحيد، ترجمة: جورج طرابيشي (بيروت: دار الطليعة)، 27- 00؛ ديورانت، وِل وايريْل، (1971)، قِصَّة الحضارة- الشرق الأدنى، ترجمة: محمَّد بدران (بيروت: دار الجيل)، ج2 م1: 168- 179؛ نعمة، حسن، (1994)، موسوعة ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة، ومعجم أهم المعبودات القديمة، (بيروت: دار الفكر اللبناني)، 133؛ السواح، فراس، (1996)، مغامرات العقل الأولى، (دمشق: دار علاء الدِّين)، 131- 000.

بل إن (فرويد، 84- 00، 123) يذهب إلى أبعد من هذا، وهو أن اليهوديَّة ديانة مِصْريَّة الجذور، عقيدةً وشريعة، وأن (موسى) لا يعدو تلميذًا لـ(أخناتون)، وأن المسيحيَّة إنما تُمثِّل عودةَ كهنةِ (آمون) وانتصارَهم على أخناتون!

(5) سِفر الخروج، 19: 18.  وظاهرة الجبال في التوراة لافتة، فلا بُدّ للربّ من جبلٍ مقدَّس: الطُّور، صهيون، جرزِّيم.. إلخ.

(6) انظر: بوكاي، موريس، (1990)، التوراة والإنجيل والقرآن والعِلْم، ترجمة: حسن خالد (بيروت: المكتب الإسلامي)، 265.

(7) 1: 13- 14. 

(8) وانظر: بوكاي، 266.

.................................................................

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «العابثون بالتاريخ!: (32- شهادة العاديّات المِصْريَّة- 2)»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الأربعاء 11 نوفمبر 2015، ص40].

المزيد من المقالات...