برلين /‏11‏/10‏/2015/ يذكر أئمة الحديث النبوي وتاريخ الفتوحات الاسلامية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اذا فتحتم مصر فاستوصوا بالاقباط خيرا فان لهم صهرا ورحما ، وفي روايات أخرى اذا افتتحتم مصر فاستوا بأهلها خيرا , وفي صحيح مسلم عن أبي ذر العفاري رضي الله عنه مرفوعا ، انكم ستفتحون ارضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا باهلها خيرا فان لهم ذمة ورحما . أما الرحم ، وهو القرابة ، فان السيدة هاجر أم اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليهم الصلاة والسام كانت من اهل مصر وهبها لسيدنا ابراهيم ملك مصر في زمانه ، أما الذمة فان المؤرخون المسلمون أعلنوا ان  مصر افتتحت صلحا والمعارك التي نشبت جيوش الصحابة والروم كانت قليلة بعكس معارك فتوحات بلاد الشام والعراق ولذلك فان اهل مصر لهم ذمة قوية .

ويحظى الاقباط أو نصارى مصر يعاطفة شديدة من المسيحيين في اوروبا فالكنيسة القبطية لها تأثيرها الديني الكبير على نصارى اثيوبيا والسودان وبعض البلاد الافريقية وهي  عاضد كبير  لكنيسة الارتودكس  في بلاد الشام وروسيا ، ولذلك نرى انه عندا أعلنت كنيسة الارتدوس الروسية موافقتها  على تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتنين في سوريا الى جاب بشار اسد  ومباركتها  له رحبت كنيسة الاقباط بذلك واعتبرته انتصار على الارهاب .

 ولاقباط مصر بالمانيا ستة كنائس اكبرها بمنطفة بارفور مع دير كبير موضوع تحت حراسة شديدة وذلك منذ الاعتداء الذي طال كنيسة القديسين في الاسكندرية صبيحة يوم الاولى من كانون ثان / يناير من عام 2011 التي تبعتها بعد ذلك انتفاضة المصريين ضد حكم حسني مبارك . ومنذ حادثة الاسكندية ازداد التضامن مع اقباط مصر بشكل لم يسبق له مثيل وخاصة في المانيا ، فالحزب المسيحي الديموقراطي ولا سيما زعيم كتلته النيابية بالبرلمان الالماني فولكر كاودر اصبحت زيارته الى  القاهرة اعتيادية وكان رئيس البرلمان الالماني نوربرت لاميرت اول مستقبلي زعيم الاقباط بالمانيا داميان واسمه قبل ان يصبح انبا رفعت ميخائيل فهمي  الذي ناشد مع اسقفين اخرين احدهما سوري والاخر لبناني  انقاذ اقباط مصر من الهلاك على يد المسلمين.

وما ان تهدأ النبرات ضد المسلمين في مصر على انهم متوحشون وقتلة الاقباط وغيرهم الا ويأتي من يثيرها . فقد وضع خبير المصريات فولجانغ بوخس مؤخرا كتاابا عن الاقباط يحمل عنوانا مثيرا / الاقباط – كنيسة الشهداء /  يروي ماساة الاقباط على مر العصور منذ العهد الروماني الذين استعبدوا اقباط مصر . الا ان ماساتهم ازدادت بالفتوحات الاسلامية ، صحيح حقوقهم كانت مصانة ولا سيما كنائسهم اذ لم تهدم وهي عامرة الا ان حقوقهم الاجتماعية وحقوقهم بالدولة مهضومة فجميع الدول الاسلامية التي تعاقبت على حك مصر مثل عهد الصحابة والامويين والعباسيين والايونبيين والمماليك ثم العثمانيين كانوا ياملون الاقباط معاملة العبيد فقراهم الالة بهم مهملة يتعرض سكانها للسحق والقتل والاغتيال .

وأكد بوخس اثناء عرضه لكتابه هذا اليوم الاحد 11 تشرين اول/اتوبر بقاعة صغيرة بالبرلمان الالماني ان الاقباط هم اهل مصر الاصليين يجب عليهم حكم بلادهم من جديد مشيرا أن الاقباط هم كانوا اول من ايد الانقلاب العسكري الذي قاده وزير الدفاع عبد فتاح سيسي الذي يراس حاليا مصر لأن سيسي يريد للاقباط الحرية وللشعب المصري ايضا مؤكدا انه لو استمر الرئيس المصري محمد مرسي رئيسا لمصر لاصبح اقباط مصر نسيا منسيا فالمسلمون بمصر يكرهون الاقباط ولا يريدونهم البقاء ببلدهم فنسبة الاقباط كانت تصل بمصر ايان الاحتلال الانجليزي الى 25 بالمائة تراجعت نسبتهم تدريجيا لتصبح ما بين 10 و 15 بالمائة وكل ذلك بسبب اضطهاد المسلمين لاقباط مصر .

وما أورده بوخس من أغاليط وافتراءات غير صحيحة فقد حافظ المسلمون منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم وحتى أيامنا هذه على وصية الرسول عليه الصلاة والسلام بهم ولا أحد ينسى قصة ذلك القبطي الذي اشتكى لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله لطم محمد بن عمرو بن العاص له لان حصان القبطي سبق حصان ابن عمرو فما كان من أبي الحفص الا ان امر القبطي بضرب ابن عمرو وامره بضرب عمرو على صلعته وقال تلك المقولة المشهورة التي بقيت خالدة الى ايامنا هذه مخاطبا ذلك الصحابي الجليل عمرو بن العاص  / متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا / وقد أثبت التاريخ الانساني ومن كتابة علماء ومؤرخي الاقباط بان ااقباط صر لم يعرفوا العدالة الا  من قبل المسلمين فكيف أتى هذا الكاتب بادعاءاته هذه ؟

لما قتل الانجليز مؤسس الاخوان المسلمن حسن البنا ومنعت السلطات البريطانية التي كانت تهيمن على مصر ان تقام للبنا جنازة تحدى القبطي والسياسي البارع مكرم عبيد باشا الذي حارب الاحتلال النجليزي وساهم على تحرير مصر منه ، وشارك في جنازة البنا . ان تاريخ مصر الحديث يؤكد تماما لحمة الشعب المصري . لقد حافظ المسلمون المصريون على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقباط  والتاريخ بشهد على ذلك فهل حافظ الاقباط على وفاء المسلمين ؟ الجواب لا والدليل على ذلك فتنهم لاتي ينشرونها ضد الاسلام والمسلمين  والمذابح التي يرتكبونها بين الحين والآخر لمجرد ان فتاة قبطية احبت مسلما واعتنقت الاسلام من أجله  اضافة لاسباب تافهة .

clip_image001_3127f.jpg

clip_image002_da708.jpg

أقام نادي حيفا الثقافي والمجلس المِلّي الأرثوذكسي الوطني- حيفا، ومؤسسة الأفق للثقافة والفنون حيفا،  أمسية ثقافيّة للشاعر نزيه خسون وإشهار ديوانه "ناي الروح"، وذلك بتاريخ 1-10-2015، في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسية/ شارع الفرس 3 حيفا، وسط حضور كبير من أدباء وشعراء وأصدقاء وأقارب، وقد تولى عرافة الأمسية فردوس حبيب الله، وتحدث كل من الأدباء: د. راوية بربارة، د. بطرس دلة، عفيف شليوط، تركي عامر، والزجّاليْن نجيب سجيم ووائل أيوب، وفي نهاية الأمسية شكر حسون الحضور وتم التقاط الصور التذكارية.  

كلمة عريفة الحفل فردوس حبيب الله: مساؤكم خير وشعر. مساؤكم لغة معطرة برذاذ الحنين إلى الذات. من صميم المسؤولية الوطنيّة والحرص الأدبيّ للحفاظ على لغتنا وعلى سماتها، أشكر السيّد فؤاد نقارة وزوجته السيدة سوزي نقارة، على مساهمتهما في رسم اللوحة الأدبيّة بأبهى ألوانها وأرقى مضامينها، خاصّة في زمن بخل علينا حتى في لقمة العيش، فليست تقام وتنظم مثل هذه الأمسيات بمستواها المعهود، إلّا بإصرار وعزيمة وانتماء كالذي يملكان. وقد قيل: إنْ سُمّي الشاعر شاعرًا، لأنّه يشعر بما لا يشعر به غيره. فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ أو ابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر، كان اسم الشاعر عليه مجازا وليس حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن. ومَن منا لم يقرأ في شعر نزيه حسون ولادة وابتداعًا، زيادة عند اللزوم وتنقيص في غير اللزوم؟ مَن منا لم يقرأ فيه صورًا شعريّة لم يقرأها من قبل؟ فقد قال في إحدى قصائده: لملمي طفولتك المنثورة/ بين أناملي/ وأخبريني/ كيف صار النيل نهرًا من نبيذ / كيف أغرقنا/ بوحي/ وحنين/ وحبقْ

يقول حسان ابن ثابت "متحدثا عن نزيه حسون": والشعر لبُّ لسان المرء يعرضهُ/ على المجالس أن كيسا وإن حمقا/ وإن أشعر بيت أنت قائلهُ/ بيت يقال إذا أنشدته صدقا

أعزائي : إذا أردتم أن تتعرفوا على شاعر، فاحذروا أن تقرؤوا عنه بل فاقرؤوه. فلقائي بالشاعر نزيه حسون كان قصيدة، أثارت مكامن الفكر المتأجج داخلي، وانسابت كخيوط شمس دافئة في أمواج الروح. قرأتها مرات ومرات، وكل مرة كنت أقرأها كنت أكتشف جوانبا جديدة في شخص الشاعر. تقول القصيدة: وردتُ البحرَ علّ البحر يـَحضُنني/ وعلَّ الموج جُرْحَ القلبَ يُنسيني/ فصار البحر للأعماق يسرقني/ وهب الموج صوب الشطِّ يُلقيني/ كما الاحزان عند الصبح تؤلمني/ وعند العصر تحرقني وتكويني/ الى شهناز بات الشوق يسكُنَني/ انا المسكون بالهمِّ الفلسطيني/ ايا شهناز لم يبق/ سوى عينيك لي وطنا/ فضميني إلى عينيكِ ضميني/ ولا تدعي لهيب العشق يلفحني/ ولا تدعي دماء الوجد/ تنزف من شراييني/ وعودي الآن صوب القلب عاشقةً/ فإن لم تأتي يا قدري/ ستحملني رياح الشوق في شغفٍ/ وفي شيراز قرب ثراك تُلقيني

لقد أصبح شعر نزيه حسون مسطرة يقاس بدقتها سواء الشعر، حلاوته، صدقه وبلاغته. وإلا فكيف لقلمه أن يبحر في جميع بحور الشعر بحرفية وبجمالية وفن وإبداع؟ له عدة مؤلفات، ميلادها في رحم المأساة. فغاص وغاص وبدأ في البحث عن النصر في جسد يلد النصر. وألحقها بعزفه على أوتار سمفونية الحزن المسافر وأنشد مزاميرا من سورة العشق ليكتب قصيدة اخذت ملامح محبوبته. بحث عن وطنه في وطنه وهمَّ بالتحليق في عشق على سفر، ثم تلا على مسامعنا ما تيسر من عشق على سفر واشتعل بلحظة عشق ليلد الفكرُ لآلئا براقة تنير شعلةَ الوجود فينا ليأتي بنا هنا نترنم على ألحان عزفه على ناي الروح.

ناي الروح شعرا هو عريس هذا الاحتفال. ديوان شعر آخر للشاعر نزيه حسون من إصدار مؤسسة الأفق للثقافة والفنون لصاحبها الكاتب والمسرحي عفيف شليوط. فهنيئا لك أبا العلاء بهذا الاحتفال وهنيئا لنا بهذا الإصدار. ولك أقول: الصدق صديقي ودليلي/ قول مهجورْ/ في زمنٍ أصبح سيده / كلب مسعورْ/ في زمن خان الحبُّ ملامحَ قصته الحبلى/ نورا وزهورْ/ في زمن صار الشعرُ كلاما مصفوفا وكسورْ/ قد جئتَ لتنقذ مركبتي / من غضب الموج ومن غرقٍ/ من بحر الجهل وأرضٍ بور/ لم أقصد يوما معجمك العربي وكان قصورْ/ بل زِدتَ وزدتَ فكان النصحُ/ حروفَ عبورْ/ يا قلما حرا غرسَ الشعر بذوراً / تترجمُ في رحم التاريخ سطورْ/ لا يخلو شعرك من وجعٍ/ للأرض وللوطن المقهورْ/ هل يفنى شعرك من كتبٍ/ من أدبٍ يتجلى في النورْ/ فالشعرُ وأنتَ وسحركما/ حسونٌ يُطرِبُهُ شحرورْ

جاء في كلمة راوية بربارة: تحية خريفيّة تعبق برائحة التراب الأيلوليّ المغادر، وفوح التشارين القادمة المعبّأة بالحفيف الخفيف، كما تهاجر الطيور لتعودَ ثانيةً، ها أنا ثانيةً أعود لأتحدّث عن شعر نزيه حسّون، لكنّها ستكون مختلفة لأسباب عدّة، فإذا ما بدأت بنفسي أقول: تجربتي تغيّرت، تطوّرت، صقلَت مفاهيم جديدة وأصبحت أكثر جرأة على اجتراح النقد.

وأقول: أصبحتِ القراءة اليوم مقارنة، أقارنها مع ما كان لنزيه سابقًا، وهذه المقارنة تضع الكلمة تحتَ مِجهر النقد المقارِن في محاولةٍ لترجيح إحدى كفّتي الميزان. وأقول: تجربة نزيه حسّون اختلفت، وسآتي على ما اختلف فيها في كلمتي هذه عن "ناي الروح". الناي في موروثنا الحضاريّ عزفٌ حزين وبوح الشّجَن، والحزن موتيف متكرّر في الديوان، بل هو الموتيف المركزيّ في كلّ قصائد العشق، كأنّي بالشاعر يردّد مع سابقِه: إنّ الهوان هو الهوى نقص اسمه/ فإذا هويت فقد لقيتَ هوانا

والناي ناي الروح، روح الشّاعر نزيه تعزف لحنَ الشّجن حين قال ص. 27: "في عصرٍ أمسى فيه القتل مباح/ وصهيل الدم يطاردني/ ينزف قلبي في كلّ اللحظات/ بدون جراح"

يدمج نزيه أحزانه المختلفة؛ من الهمّ الجماعيّ إلى الشّخصيّ، من الدوائر الكبيرة اجتماعيًّا ووطنيًّا إلى دوائر الأنا التي يكتنفها العشق وتبلّلها الدموع ص. 7: "ما لي يترجمني المساء قصيدة/ والروح تغرق بالأسى/ إنْ جاء يشعل مهجتي/ شجن الغروب/ هذي شغاف القلب أم بحرٌ أنا؟/ والموج يمضي من دمي/ والموجة دون إرادتي/ نحوي يؤوب"

هذه زمكنيّة ظاهرة في البيتين السابقيْن وفي أغلب القصائد، المساء بغروبه يُغرق الشاعر بالحنين، والشاطئ يبعث النوستالجيا لتحرّك أنينَ المشاعرِ الراكدة، والشاطئ هو حيفا التي يتماهى معها، فيُصبح الشاعرُ بحرَها ويُسقِط كالرومانسيين ما في نفسيّته على معالمها وموجوداتها لتصبح حيفا حزينة خريفيّة مثله تمامًا: "هل غادر الشّعراء من وجع القصيدة/ صوبَ وجهي/ ليرون حيفا في عيوني/ ترتدي شجن الخريف".

حيفا هي الطلل الذي يبكيه نزيه، ويقف عنده ويستوقف، متّكئًا على عنترة بن شدّاد في مطلع معلّقته الطلليّ: "هل غادر الشّعراء من متردّم   أم هل عرفتَ الدار بعد توهُمِ؟" وهو يتّفق مع عنترة في أمريْن؛ أوّلهما المعاني التي كتبها السابقون ولم يتركوا للشاعر ما يصوغ من بدايات الطلل، وثانيهما عشق عنتر لعبلة، وعشق نزيه لحيفا..لذلك يراها الشعراء من عينيه إذا ما صوّبوا نظرهم صوبَ وجهه..وهو يسمّي حيفا ربّةَ الإلهام: "سمّيتُ حيفا ربّة الإلهام/ إلهام الهوى/ ونبيّةَ الوحي التي أوحتْ لهذي الروح/ أن تنثال عند البحر مزمورًا/ يذوّب مهجتي حدّ النزيف"

وتتداخل الأسماء كما تتداخل الأماكن، كما تنثال الذكريات...لتصبح ربّة الإلهام إلهامَ المعشوقة، المرأة الحبيبة: "إلهام يا إلهام/ هذي الروح فتّتها الجوى/ وأحالها نهرًا من الشوق/ المعتّق والعنيف"

والنهر مصبّه البحر، ونهر الشوق المعتّق كالنبيذ، العنيف من شِدّةِ عصْفِهِ، يصبّ في بحر الهوى، وفي بحر حيفا، وفي ذات الشاعر. ومرّةً ثانيةً يتّكئ نزيه على التناصّ مع ميسون بنت بحدل زوجة معاوية بن سفيان ووالدة يزيد التي حنّت لأهلها في البادية فقالت أبياتها المعروفة: لبيتٌ تخفق الأرياح فيه/ أحبّ إليّ من قصرٍ منيفِ/ ولبسُ عباءةٍ وتقرّ عيني/ أحبّ إليّ من لبس الشّفوفِ

أمّا نزيه فيقول: ولَصخرةٌ بيضاءُ يا إلهامُ/ عند الشّطّ في حيفا التي/ كانت تهدهد روحَنا/ لأحبّ عند القلب..عند الروحِ/ من قصرٍ منيف"

ولو بقينا في الاتّكاءات التناصيّة وعرّضنا على قصيدة "مدح الرسول" نجد "كعب بن زهير" حاضرًا: "أُنبئتُ أنّ رسولَ اللهِ أوعدني/ والعفو عند رسول الله مأمول". ونزيه قال: " هذي القصائد بالخشوع توشّحتْ  فلعلّي أحرز عفوَكَ المأمولا".

وكعب شبّه الرسول بالنور، نور الهداية والسيف المسلول: " إنّ الرسول لنورٌ يستضاء به/ مهنّدٌ من سيوف الله مسلول". ونزيه قال: "أنتَ الدليل لمن أرادَ هدايةً/ والسيف أنتَ لمن أراد بديلا".

وهنا ما أخشاه عليك يا نزيه، فعندما نتّكئ على التناصّ في الأدب، نحن نعترف ضمنًا بقصور حاضرنا عن إيصال مبتغاه، فنلجأ للماضي سندًا وعكّازًا وتراثًا وتواصلًا نفاخر فيه. لكن، إذا اقتربنا من فحول الشعراء ككعب بن زهير بن أبي سلمى علينا أن نحاذرَ، فهذا التناصّ نوعٌ من المعارضات الشعريّة، خاصّةً وأنّها لامية، كلامية كعب، وللقصيدتيْن نفس الموضوع (مدح الرسول)، فإذا ما تجرّأتَ واقتربتَ عليكَ أن تتفوّقَ على سابقكَ، وأنتَ في لاميتكَ تكلّفتَ الصنعة لا الطبع، لأنّك نظمتَ نظمًا..ولم تترك المعاني تنساب على سجيّتها...لأنّك خطّطتَ أن يكونَ عدد الأبيات بعدد سني الرسول التي عاشها، لأنّك التجأتَ إلى: "أيّها المبعوث فينا/ جئتَ شرّفتَ المدينة"...

كنتُ أريدها قصيدة "طبع" لا تُعملُ فيها مِشرَط الآخرين فتجرحها، ولا تُعمِلُ فيها التشطير فتأخذ شطرًا من رثاء الزهراء لوالدها ومطلعه: "قل للمغيّب تحت أطباق الثرى"

وتضيف إليه شطرًا من عندك، فالتشطير مشروطٌ بأن لا يكونَ في تركيبه كلفةٌ ولا حشوٌ، بل أن يزيدَ الأصلَ جلاءً ومعنًى لطيفًا. فكيفَ يا نزيه دمجتَ الاعتذار للرسول، برثائه وبمدحِهِ؟  لماذا اتّكأتَ على التناصّ لتعارضَ فحول الشّعراء؟ لماذا ذهبتَ بنا إلى عصر الصنعة الشعريّة، والتشطير والتخميس، ونحن نحلّق صوبَ ما بعد الحداثة في أدبنا وشعرنا، ونبحث عن المعاني المنسابة الرقراقة المغرّدة دون كلفة؟!

تبقى الكلمة ملكك ما لم تنشرها، فإذا ما نشرتَها أصبَحَتْ مِلكَ الناس والقرّاء، وأصبَحَتْ شهادةً في حقّكَ، والشّاعر المرهف نزيه، عمر بن أبي ربيعة الفلسطينيّ، كان عليه أن يتروّى، لأنّ القصائد نقيض النبيذ، ألم تكن عجيبة السيّد المسيح تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا؟ وماذا قال له رئيس الكهنة: "كلّ امرئ يقدّم الخمرة الجيّدة أوّلًا، فإذا سكر الناسُ، قدَّمَ ما كان دونها في الجودةِ، أمّا أنتَ فحفظتَ الخمرةَ الجيّدة إلى الآن". أمّا القصائد فعلى العكس تمامًا، عليكَ أن تعتّقها وتقدّمَ الأجودَ والأفضلَ مرّةً بعد مرّة، لأنّ القارئ النشوانَ لن يسامحك إذا أغفلتَ هذه الحقيقة.

لو قارنّا نزيه الآنيّ بنزيه في دواوينه السابقة لوجدناه يعيش على الحنين والأنين والنوستالجيا والتأمّل والدراسة والصنعة، ونحن عهدناه سنونوًا محلّقًا منسابًا يبني أعشاش قصائده في حنايا القلوب. جئتُ لأستفزّكَ لأنّك قادرٌ، ولأنّني أؤمن بموهبتك الفذّة وبشاعريّتك وشعريّتك، أقول لك: فلتأسرنا الصورة الشعريّة المبتكَرة لتحلّقَ حسّونًا مغرّدًا تعزف لنا على ناي الروح جميلَ قصيدَك. نريد من الشّعر أعذبَه، ونريد من الشّعر أكذبه، ونريد من حسّوننا أن يبقى محلّقًا في سماء الشّعر الفلسطينيّ، مغرّدًا خارج السرب العاديّ، له بصمته الخاصّة وإرثه الغزليّ الذي نتغنّى به، اتركْ أحزانَكَ وأنشدنا غزليّاتكَ تعزفها على ناي الروح لتطربَ قلوبُنا. دمتَ مرهفًا، حسّاسًا، شاعرًا حسّونًا.

الأديب فتحي فوراني/ إنذار بلهجة رضوانيّة: قبل شهر تقريبًا، اتصل بي صديقي ورفيق دربي الشاعر نزيه حسون وقال: لن تتهرّبَ مني. أريدك أن تشارك في الأمسية الثقافية. حاولت أن أتهرب وأتذرع بالمعاذير الصادقة بسبب انشغالاتي الكثيرة، غير أن  جميع محاولاتي باءت بالفشل الذريع. فرفعت الراية البيضاء وقلت في سري: إنه البد الذي ليس منه بد وأمري لله. وبعد أن أسلمت أمري لله، جاء دور الإنذار الكلاسيكي الذي وضعتْ أُسسَهُ الشاعرة آمال عواد رضوان، (رضوان الله عليها!)، محذرًا وبلهجة صارمة: لا أريد لكلمتك أن تتجاوز الخط الأحمر؛ ثماني دقائق فقط لا غير. فوعدته خيرًا وغرشت، وقلت له سوف أبحبحها قليلا، وسوف أتجاوز الخط الأحمر، وأكرم عليك بدقائق معدودة، فأنا كريم وأنت جدير بالكرم.

أبى نزيه أن يكون نزيهًا! إذ طلبت من نزيه أن يزودني بمعلومات أساسية عن سيرته الذاتية، لا تتجاوز الصفحة. فبعث لي بكمّ من المقالات عن إبداعاته وما كتب عنها. لقد أمطرت السماء وابلًا من العطاء الحاتمي، وانهمرت على شرفتي عشرات المقالات النقدية، وبدلا من الصفحة التي طلبتها، غمرني بطوفان بلغت قوته حوالي مائة صفحة فقط لا غير، وقال لي: هذا غيض من فيض! ومرة أخرى أبى نزيه أن يكون نزيهًا، فقد راح يهتّ عليّ بسيف العزّ، وينذرني أن لا تتجاوز كلمتي الدقائق الثماني، وهي مهمة لعمري شبه مستحيلة، لكني سأحاول، ولن أكلف نفسي إلا وسعها!

الإحاطة في أخبار غرناطة من الأمور المستحيلة. والإحاطة في إبداعات صديقنا نزيه تحتاج إلى دراسة عميقة متأنية وشاملة لا يتسع لها الفضاء الزمني المعطى. فكيف لي أن أحشر البحر الكبير في قارورة صغيرة؟ لن  آكل خبز الآخرين، فأترك للأصدقاء على المنصة مهمة إدخال النص الشعريّ إلى غرفة التشريح، وإمال المبضع النقدي للتحليل والغوص في أعماق البحار الحسونية. لم يبق لي والحال هذه، إلا أن ألجأ إلى أسلوب البرقيات، فتعالوا معي نركب البحر ونطلق البرقيات السريعة سهلة الهضم، تعالوا معي نركب البحر، ونطلق البرقيات، وهي مقتطفات من شهادات لكتاب ونقاد أحترمهم وأجلهم.

*برقية أولى لجميل السلحوت: الشاعر ساخط على أنظمة الطغيان والخنوع التي فرطت بالأوطان وبالشعوب، ومارست الفساد والخيانة وقتل الشعوب، وتذيلت للأعداء. الشاعر مشتعل بعشقة لوطنه فلسطين، ولشعبه الفلسطينيّ، ولوطنه العربي الكبير ولأمّته العربية، وهو يعشق المرأة أيضًا، وكأنّي به يقول من لا يعشق المرأة لا يعشق الوطن.

*برقية ثانية لإبراهيم جوهر: مضمون قصائد نزيه يتمحور حول العشق؛ العشق للأرض التي تتوحد مع المعشوقة الأنثى الإنسانية فلا تكاد تنفصل  عنها.

*برقية ثالثة لبطرس دلة: يخاطب الناقد شاعرنا: أيها الشاعر المفاجئ كتابة والقاء! أنت قنديل حب تضيء لنا ليالي الشتاء، باقٍ في أحلامنا المتجددة وفي نكهة قهوتنا الصباحية، وفي همسة عاشقين وعناق حبيبين. *برقية رابعة لمحمد صفوري: إنّ ديوان "ما تيسّر من عشق ووطن" يعدّ رائعة من روائع الشّعر العربيّ الحديث، لا على المستوى المحلّي فقط، إنّما على مستوى العالم العربيّ قاطبة.

*برقية خامسة: رسالة جاءتني من صاحبة الوجه الملثم واسمها سمر. أشهد يا سمر أنك شاعرة من الطراز الأول. ويقتلني الشوق للتعرف عليك. فهل تتكرمين علينا بإماطة اللثام عن الوجه البهي لشعرك الجميل؟  *برقية سادسة لمحمد علي سعيد: كل ما في ديوانك يدل على انتقائية ذكية، تعكس ذائقة أدبية وجمالية وخبرة في حسن اختيار المفردات والتراكيب اللغوية.

وبعد، هذه البرقيات السريعة لا تغني أبدًا عن دراسات متأنية، تعطي هذه الإبداعات ما تستحقه من مرتبة في المشهد الشعري. فالفضاء الزمني البخيل، لا يتسع للطوفان الإبداعي الذي غمرنا به صديقنا ورفيق دربنا الشاعر نزيه حسون. وكلمة أخيرة لا بد منها. هل سمعتم عن الفتى المعروفي الذي دوّخ الإمبراطورية العظمى، وضحك على ذقون القتلة ولما يبلغ الاثنين والعشرين عامًا؟ لقد أرادوه أن يحمل البندقية ويصوبها إلى صدور أبناء شعبه، فلجأ إلى الطرق الالتفافية، وارتدى  القفطان واعتمر العمامة المعروفية، وأرسل لحية مستعارة وعنجر شاربين مستعارين وأطلقهما مدفعين، ومدّ لسانه إلى جلاديه ساخرًا وقائلا: ما فشرتم. كان هذا الشيخ الشاب الذي ما زال شابًا دائم الخضرة والعطاء، هو عريس هذه الأمسية الشاعر الملتزم فكرًا وعشقًا وشبابًا؛ نزيه حسون! ألست القائل يا نزيه: لله كنوز تحت العرش مفاتيحها ألسنة الشعراء؟ لقد حملت مفتاحك الإبداعي، وفجرت كنوز الرب تحت العرش، لقد غمرتنا كبًّا من عند الرب، دمت لنا أيها الشاعر المتألق دائمًا، ودامت ينابيعك الحاتمية، لقد  فجرت فغمرت فأبدعت فأمتعت.

مداخلة عفيف شليوط: برز نزيه حسون ولمع اسمه من خلال المهرجانات الشعبية التي كانت تُعقد في قرانا ومدننا العربية، كشاعرٍ ثوري تعبوي بامتياز، ملتزم بقضايا وطنه وشعبه. نحن نعلم كم كان الشاعر في العصر الجاهلي هام ومركزي في حياة القبيلة التي ينتمي لها، وكم كانت القبيلة تعتز وتفخر به، وكان الشاعر آنذاك بمثابة الناطق الرسمي باسمها، وهذا هو حالنا مع الشاعر نزيه حسون، حيث أصبح يردد الناس قصائده التي تُعبّر عن مشاعره وهمومه، وأذكر البيت التالي (من ديوان ميلاد في رحم المأساة) باكورة أعمال الشاعر: قسمًا بلينا لن نلين للحظةٍ/ يا سلطةً هوجاء فلتتعلمي

بالإضافة للشعر الثوري التعبوي، يمزج نزيه الشعر السياسي مع العشق، وفي ديوانه الأخير "نايّ الروح" يكتب قصائد عشقٍ، إلا أن العشق لدى نزيه له دلالات أخرى. فالعشق لديه هو العشق لكل ما هو جميل، ولكل ما هو عزيز على قلبه. ففي قصائده نجد العشق للأرض والوطن، العشق ببعده الانساني. ففي قصيدة "يا من بُعثت الى العباد رَسولا" يبرز عشقه للرسول الكريم، وفي قصيدة "عن الجمال وسحره" يذوب عشقاً في الجمال والطبيعة والوطن، وفي قصيدة "هل غادر الشعراء" تتحول قصيدته الى بكاء من شدّة تأثره بمعشوقته حيفا، وهو الذي أدمن العشق في قصيدة "يا قلبها"، ويهيم عشقاً بفاتنة خرساء، ويسأل الله أن يهديها لسانه، لتهمس بالسلام على سلامه في قصيدة "الفاتنة الخرساء"، وفي قصيدة "وأمام حُسنك أحرفي تتكسّرُ" نجد شاعرنا يرفع الراية البيضاء، ويعلن استسلامه أمام جمال حسناء فاتنة فيقول: مالي أَمامكِ عاجزًا أتـعـثَّــرُ/ وأمام حُسنكِ أحرفي تتكسَّرُ/ مالي يترجمني الحنينُ قصيدةً/ والشّعرُ ينزفُ أدمعًا تَــتَــــفَجَّرُ/ قلبي يذوبُ منَ الهيام كَشَمْعةٍ/ والرُّوح من جمرِ الهوى تتبخرُ/ وتفِرُّ من شفتي الحُروفُ جَميعُها/ وتخونني الكلمات حين أعبِّرُ/ هذا الجمال يفوقُ سحرَ قصائدي/ ويظلُّ منْ ورد البلاغةِ أنضرُ

وهو في إحدى اللقاءات التي أجريت معه تحدّث عن استحواذ المرأة على حيّزٍ واسعٍ من قصائدهِ يقول: لاشك أن المرأة هي عالم كامل من السحر والجمال في حياة الرجل بشكل عام، فما بالك بالمرأة في حياة شاعر مرهف الإحساس والوجدان، فالمرأة تقود الشعراء إلى فضاءات من الإبداع والهيام والتحليق.

فالمرأة معين لا ينضب من الإلهام والإيحاء للشاعر، والشاعر الذي لم يعش حالة ِعشق، ولم يبحر في كون وجمال وأسرار المرأةِ في رأيي، يفقد الكثير من مقومات الإبداع وشعر الغزل، وهو يميل الى تسميته شعر العشق، وهو احد المواضيع الهامة في ديوان الشعر العالمي عبر كل العصور.

وعودة الى الديوان "نايّ الروح"، نبحر معًا مُجدّدًا، وهذه المرّة مع القصيدة التي أطلق الديوان على اسمها "نايّ الروح": ففي هذه القصيدة القصيرة جدًّا والمعبّرة جدًّا، يكتب شاعرنا عمّا آل إليه حالنا، في عصر استباحة القتل وارتكاب أفظع الجرائم اللا انسانية، يقول: في عصرٍ أمسى فيه القتل مُباح/ وصهيلُ الدم يطاردني/ ينزف قلبي في كل اللحظات/ بدون جراح

ما أجمل هذا المقطع، فهنا يتحوّل الدم، الدم الذي يُسفك يومياً في عصرنا هذا الى جواد، وصوت صراخه يطارد مشاعر الشاعر، الذي قلبه ينزف لكن بدون جراح. إلا أنه لا يجد الحل في ظل هذا الواقع المأساوي إلّا باللجوء الى الرومانسية، يبحث عن عالمه الخاص، ربما نسميه نحنُ الماديون هروبًا من الواقع، أما هو فيسميه عشقاً روحيًّا، ويتلاعب بالألفاظ بشكلٍ مثير فيقول: في كل صباح/ أبحثُ عن نايٍ تُنقذني/ تعزفني عشقاً روحيًّا/ تعزف روحي/ كي أرتاح

تعامل الشاعر مع العشق غير المحسوس الى شيءٍ محسوس، فجعل العشق يُعزف، ومن العشق الروحي الى روحه (تلاعب في الألفاظ)، فتعزف الناي روحه لكي يرتاح. مرّة أخرى: عشقاً روحيًّا، روحي، أرتاح. فهنا العشق الروحي تحوّل الى روح الشاعر لكي يرتاح. إنّ هذه الأبيات أشبه بمعادلة رياضية، أشبه بعلم المنطق، فالشاعر يتناول حالة معيّنة، ليحوّلها الى حالةٍ أخرى ليتوصل بالتالي الى النتيجة. صدّقوني هذه القصيدة القصيرة جدًّا يمكننا الحديث عنها لوحدها طيلة هذا المساء، فكم بالحري الديوان بأكمله، ولكي تعزفوني عشقاً روحياً ، لكي أرتاح وأريحكم، لن أطيل عليكم رغم شغفي بأن أبحر أكثر وأكثر في عالم هذا الديوان، ولكن اسمحوا لي أن أتطرق قليلاً لمشروع إصدار هذا الكتاب .

إن مؤسسة الأفق للثقافة والفنون التي قامت بإصدار هذا الكتاب، تعمل من خلال هذا المشروع الثقافي على دعم الأدب في بلادنا ودعم الأديب في هذه الديار، فنحن قمنا بإصدار مجموعة من الكتب الأدبية لكتاب وشعراء محليين، دون أن يتحمّل الشاعر والكاتب أعباء تكاليف الطباعة والتوزيع، ونحن قمنا بتحمّل هذا العبء بدلاً منهم. لم نكتفِ بذلك بل بادرنا الى سلسلة نشاطات وفعاليات للترويج لإصداراتنا، على سبيل المثال قمنا في مطلع الشهر الحالي بتنظيم سلسلة فعاليات ثقافية لشريحة المُسنين في مدينة شفاعمرو، قمنا من خلالها باستضافة المؤلفين وتوزيع كتبهم مجاناً على المشاركين، لتشجيع المطالعة بين أوساط المُسنين، وكان لشاعرنا نزيه حصة لا يستهان بها من تلك الفعاليات. كذلك الأمر نعقد الندوات الثقافية حول إصداراتنا في مؤسسات ثقافية في مناطق مختلفة في البلاد والمناطق التابعة للسلطة الفلسطينية، وفي مدارسنا لتشجيع المطالعة لدى الطلاب.

وأوّد في هذا المساء أن أزّف لكم بشرى البدء بمشروع لترجمة أدبنا للغة العبرية، وسيخرج هذا المشروع الى النور في مطلع العام القادم. ومع هذه البشرى أختتم كلمتي، آملاً أن أكون قد وفقت بإلقاء الضوء على نقاط هامة لدى الشاعر المحتفى به، وعلى مشروع مؤسسة الأفق الثقافي. كما أوّد أن أنتهز الفرصة لأتوجه بجزيل الشكر لنادي حيفا الثقافي بإدارة المتفاني في دعم النشاط الثقافي في مدينة حيفا الصديق العزيز فؤاد نقّارة، حيث هنالك تعاون مستمر بين الأفق ونادي حيفا الثقافي، كما أحيي  اتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين  على مساهمته في إحياء هذه الأمسية الثقافية، هذا التعاون الأول بين الأفق والاتحاد والذي آمل أن يتعزز مستقبلاً، ومساؤكم ثقافة.

مداخلة تركي عامر: نَزِيهٌ أَنْتَ شَاعِرُنَا الْغَيُورُ/ عَلَى إِرْثٍ تُعَانِقُهُ الدُّهُورُ/ عَلَى أُمٍّ تَهُزُّ الْكَوْنَ يُسْرَاهَا/ وَيُمْنَاهَا لَنَا نِعْمَ السَّرِيرُ/ عَلَى شِعْرٍ يُغَنِّي الْحُبَّ وَزْنًا/ بِقَافِيَةٍ وَتَصْطَخِبُ الْبُحُورُ/ بُحُورُ الشِّعْرِ لَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ/ وَلَا رَمْلٌ شَوَاطِئُهَا صُخُورُ/ تَكَسَّرَتِ الرُّؤُوسُ وَلَا تَعُدُّوا/ فَفِي الْأَعْدَادِ لَا تُحْصَى الْكُسُورُ/ إِلَيْكَ أَبَا الْعَلَاءِ الْيَوْمَ جِئْنَا/ شَمِيمًا مِنْ شَذَاكُمْ نَسْتَعِيرُ/ لَنَا فِي شِعْرِكُمْ نَارٌ تَخَفَّتْ/ عَلَى مَاءٍ تَسِيرُ وَلَا تَسِيرُ/  تُدِيرُ الرَّأَسَ كَأْسٌ دُونَ خَمْرٍ/ وَخَصْرًا رَاحَ مِنْ سُكْرٍ يَدُورُ/ أُحِبُّ خِطَابَكَ الشِّعْرِيَّ جَهْرًا/ فَفِيهِ الصِّدْقُ عَذْبٌ يَا أَمِيرُ/ وَفِيهِ الْعُمْقُ مَضْمُونًا وَشَكْلًا / وَلَا مَعْنًى بِلَا مَبْنًى يَصِيرُ/ وَفِيهِ السَّهْلُ مُمْتَنِعٌ عَسِيرٌ/وَإِنَّ الشِّعْرَ أَصْعَبُهُ الْيَسِيرُ

نَزِيهٌ أَنْتَ شَاعِرُنَا الْغَيُورُ / عَلَى أَرْضٍ لَنَا فِيهَا جُذُورُ/ عَلَى شَعْبٍ يُرِيدُ الْعَيْشَ حُرًّا / عَلَى شِعْرٍ يُؤَاخِيهِ الشُّعُورُ/ تُرَاقِصُكَ الْقَصَائِدُ وَالْأَغَانِي / وَأَنْتَ الصَّبُّ عَاشِقُهَا صَبُورُ/ وَيَا حَيْفَا بـِ (نَايِ الرُّوحِ) جِئْنَا / وَ(حَسُّونًا) بِهِ فَرَحًا نَطِيرُ/ يُحِبُّ النَّاسَ مِنْ قَلْبٍ وَرَبٍّ / وَلِلْأَحْرَارِ فِي الدُّنْيَا نَصِيرُ/ عَرَفْتُكَ يَا زَمِيلِي قَبْلَ دَهْرٍ / وَحَالًا بَيْنَنَا امْتَدَّتْ جُسُورُ/ بِكُلِّ تَوَاضُعٍ كَالْعُشْبِ تَحْيَا / وَلَا يُعْمِيكَ تِيهٌ أَوْ غُرُورُ/ أُحِبُّكَ يَا ابْنَ أُمِّي مِلْءَ قَلْبِي / وَعُذْرًا يَا أَخَي قَلْبِي صَغِيرُ/ وَلَكِنْ لَا عَلَيْكُمْ يَا صَدِيقِي / فَطَيَّ الْقَلْبِ مَنْزِلُكُمْ كَبِيرُ/ عَلَيَّ اللهُ فِي حُبِّي شَهِيدٌ / وَيَعْلَمُ مَا تُخَبِّئُهُ الصُّدُورُ/ وَقَعْتُ بِحُبِّكُمْ وَالْحُبُّ أَعْمَى / عَلَى أَشْكَالِهَا تَقَعُ الطُّيُورُ

clip_image002_efb5f.jpg

القدس: 8-10-2015 ناقشت ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ، رواية "الخنفشاري" للأديب الفلسطينيّ نافذ الرّفاعي، تقع الرّواية التي صمّمت غلافها الفنّانة لينا القادري وصدرت هذا العام 2015 عن دار الجنديّ للنّشر والتّوزيع في القدس في 192 صفحة من الحجم المتوسط.

 ممّا يذكر أنّه صدر للأديب الرّفاعي قبل ذلك روايتان هما: "قيثارة الرّمل" و"امرأة عائدة من الموت" كما صدرت له دراستان هما:"دور اللجان الشعبيّة للخدمات في المخيّمات الفلسطينيّة" و"فرص تطور التّنظيمات الفلسطينيّة إلى قوى حزبية فاعلة في المجتمع الفلسطينيّ."

بدأ النّقاش ابراهيم جوهر:

مراجعة فلسفية لماض متوهج وحاضر كاب ومستقبل غامض

حفلت رواية (الخنفشاري) للروائي (نافذ الرفاعي) بمضمون تجمّعت خيوطه من جزئيات شخصياته ومواقفها الغريبة التي تترافق مع غربة الحالة وغرابتها، ومن مفاصل تاريخية تركت أثرها الدامي على شخصياته في فكرها وسلوكها ونزوحها ورجوعها.

لا يخفى مضمون الرواية التي تنتقد اللصوصية الثورية (!!) والفهلوة الاجتماعية والطبقية والاغتراب وهي تتشظّى في مسيرتها الفنية وتكوينها في صنعتها لتناسب الحالة الموصوفة للشخصية الرئيسة (الخنفشاري) ذي الملامح الفلسفية التي استقت تمردها من صعاليك العصر الجاهلي وثورية قادة معاصرين.

حضرت المرأة حضورا طاغيا فكانت النصف الآخر المتمم للرواية والثورة والحياة. وسيجد المتابع المهتم صورا للمرأة في واقعها الاجتماعي المتباين، كما سيجد نماذج مماثلة للرجل الخجول والجريء والخنفشاري والانتهازي، والثوري المنهزم والمنسحب والعائد إلى مرابعه والخائن المرتشي والثائر _اللص، والثائر- الثائر.

خريطة (الخنفشاري) هنا شاملة لمكوّنات المجتمع بمفاهيمه وطبقاته وأفكاره وتاريخه.

لكن شعورا انتبني – وأجد له مبررا – يتعلق بهذا التنافر وتلك السرعة في سوق الأحداث وتقديمها والإخبار عنها وكأنها تلخيص سردي سريع لا يعطي القارئ متعة التأمل ولا يقف معه ليلتقط أنفاسه. لقد شعرت وكأن الكاتب الروائي (نافذ الرفاعي) قد وضع مخططا لأفكار أولية وحوار وسرد على أن يعود إليها متأنيا منقّحا لكنه تسرّع في دفعها إلى المطبعة.

وقال عبد الله دعيس:

يستحضر نافذ الرفاعي شخصية الخنفشاري من أعماق التراث العربي، ويجعلها حيّة في ربوع فلسطين، بعد أن يلبسها لباسا جديدا يجعلها أقرب إلى البوهيمية التي تمثّل التفكير الحرّ المطلق غير المقيد بأعراف المجتمع وتقاليده. الخنفشاري، والمعروف في تراث العرب أنه ذلك المتحذلق الذي يدّعي معرفة  كل شيء ويدعي العلم والفهم وهو لا يملك منها شيئا، يصبح أيضا ذاك الشخص غريب الأطوار الذي يمسك بالمتناقضات بأطراف أصابعه ويتأرجح على حبل رفيع بين الصوفيّة والمجون والثوريّة.

هل أراد الكاتب أن يعكس الخنفشاري صورة فلسطين وجميع التناقضات التي تتجاذبها تحت عباءة الاحتلال؟ ربما كان الخنفشاري واحدا منا يعيش بيننا، وربما يكون في داخل كل منّا خنفشاريّا يعزف على أوتار التناقضات داخله في مجتمع يعجّ بالتناقضات، وعالم يمتاز بازدواجيّة المعايير.

رواية الخنفشاري رواية فلسفيّة، أبطالها أشخاص حاولوا أن يتجرّدوا من كل الرّوابط التي تكبّل الإنسان كالجهل والعادات والتقاليد والتعصّب للعائلة والانقياد لها دون تفكير. فهل نجح أولئك بأن يتميّزوا عن المجتمع، أو أن يصنعوا مجدا شخصيا، أو يغيروا حركة الحياة الرتيبة التي سار عليها مجتمعهم؟ أم أصبح هؤلاء تائهين، لا هم وصلوا إلى ما كانوا يتوهّمون أنه الصواب ولا تشبثّوا بثقافتهم وحضارتهم. نلحظ من خلال أحداث الرواية أنهم بقوا تائهين حتّى بعد أن حصلوا على الشهادات العليا، والتي لم تمنعهم من أن يكونوا أشبه بمجموعة من المراهقين الساذجين.

يبدو الكاتب ساخطا على كثير من السلبيات التي يراها في مجتمعه، ويحاول أن يظهرها عن طريق شخصية الخنفشاري والشخصيات الأخرى في الرواية، فنرى الكاتب، مثلا، يظهر التمايز الطبقي في المجتمع الفلسطيني ونظرة أهالي المدن إلى القرويين وتعاليهم عليهم ويسميهم الكاتب بالأرستقراطيين، ويجعل الخنفشاري يستلذّ بكسر هذه الطبقية عن طريق الإيقاع بالفتيات "الأرستقراطيات". ورغم وجود هذه النعرة في المجتمع الفلسطيني فإنّها لا ترقى لكونها طبقيّة، وأظن أن الكاتب بالغ في توصيفها، وأراد من خلالها تبرير بعض الأفكار السياسية التي كانت تقوم على وجود هذه الطبقيّة والتي لا تنطبق بأية حال على المجتمع الفلسطيني، الذي يتكون في غالبيته من القرويين وأهالي المدينة البسطاء.

ولا يُخفي الكاتب امتعاضه مما آلت إليه الثورة الفلسطينية، ومن ضياع جهود الكثيرين الذين التحقوا بها متفانين في خدمة وطنهم، لكنّ جهودهم وتضحياتهم لم تكن سوى سلما تسلّقه الانتهازيون والمنتفعون. فيردد الكاتب مقولة "إن الثورة يصنعها العبقري، ووقودها المغامر ويقطف ثمارها الجبناء." ويقول أيضا: "عندما أعلن الثوار عن أسمائهم فقدوا احترامهم." فهو مؤمن بالعمل الثوري الذي يتصف بالإخلاص والتفاني في العمل دون سعي للسيادة والشهرة والسلطة.

شخصية الخنفشاري مثيرة للجدل، فهو ذاك الشخص التي يتصف بكل المتناقضات في لباسه ومظهرة وسلوكه وهو يعكس تناقضات المجتمع من حوله. لكن الكاتب لا يكتفي بوصف حال الخنفشاري بل يجعل روايته خنفشاريّة بامتياز، تتمرد على النسق التقليدي للرواية، ويبدع حبكة جديدة شبيهة ببطلها الخنفشاري. فيصبح الكاتب شخصيّة ضمن الشخصيات الأخرى في الرواية، تبث له الشخصيات بأسرارها والذي هو بدوره ينقلها للقارئ. ويتداخل الزمان والمكان في الرواية تماما كملابس الخنفشاري ذات الألوان النافرة غير المتناسقة. فنرى الكاتب يتنقل في فصول الرواية بين أماكن مختلفة، فساعة هو في جامعة بيت لحم ومن ثم في لندن وأمريكا وعمان ويقفز مرة أخرى إلى الجامعة بتوليفة غريبة متداخلة. وكما فعل بالمكان يفعل بالزمان. فيتأرجح الزمن في سطور الرواية وصفحاتها خلال عقدين من الزمان بين بداية الثمانينات مرورا بانتفاضة الأقصى، دون تناسق، عاكسا شخصية الخنفشاري والاضطراب الذي يصيب كل من نظر في تاريخ هذه الحقبة ورأى الأحلام الكبيرة توأد وأدرك ما آلت إليه الأمور. هذا التداخل المكاني والزماني هو من ميزات هذه الرواية وجمالياتها وخدم الفكرة التي أرادها الكاتب بشكل عبقريّ، وإن كان يجعل قراءة الرواية تجربة صعبة مربكة. ويعمد الكاتب إلى الفكاهة في إخراج روايته، ويغلّف خيبة أمله بتهكّم مرير.

يموت الفنان في نهاية الرواية، فهل ماتت المشاعر لدينا وتبلّدت الأحاسيس حتى بتنا نرضى بما لم نكن نتخيل أنه سيحدث؟ وهل بقي الكاتب بعده ليعيد لنا أفكار الماضي وتناقضاته وآماله وطموحاته، أم ليرسم بريشته طريقا نحو المستقبل؟ ربما هذا أو ذاك. لكن، يبدو أن الخنفشاري يعود إلى رشده في النهاية ويلقي بأفكاره المجنونة وراء ظهره ويعود ليصبح مدرّسا للكيمياء ويتزوج بامرأة بسيطة ويتخلى عن أحلامه في كسر طوق الأرستقراطيّة. فهل انتهت رحلة التيه لنعود من حيث بدأنا دون أن نتعلم من أخطاء الماضي؟

الخنفشاري بدأ تائها وانتهى تائها، لأنه أحب هذا الوطن لكنّه لم يكتشف سرّه. فهذا الوطن لن يقبل أفكارا دخيلة لا تنبع من دينه وثقافته وحضارته. لذلك فإن من يظنّ أنه يستطيع أن ينسلخ عن أمته فسيبقى في حيرة الخنفشاري وضياعه. 

وشارك في النّقاش عدد من الحضور منهم: جميل السلحوت، نسب أديب حسين ونمر القدّومي.

إن كلمة "سخرية" تحمل العديد من المعاني في لغتنا العربية فهي قد تدل على إخضاع الآخر، إذلاله أو قهره مما يعكس نظرة دونية قد نهى عنها ديننا الحنيف، حيث وردت هذه الكلمة في العديد من المواضع في القرآن الكريم كقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم" (سورة الحجرات، الآية 11). و من هنا ندرك معنى أن لا يستهزئ بشر بغيره مهما كان جنسه أو لونه أو طبقته الاجتماعية أو حتى إن كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة، ولا يحتقره حتى لا يشعره بالإهانة مقارنة بالآخرين، وهذا أصبح حال الكثيرين من أبناء شعبنا العربي اليوم للأسف الشديد.

هذا المشهد الذي يحتوي إجمالا على ملامح السخرية جعلنا نقف أمام كتاب "قلوبهم معنا وقنابلهم علينا" (1) للمبدعة الجزائرية أحلام مستغانمي وهو جملة من المقالات كتبتها بحروف الألم الذي امتزج بالسخرية من واقع عربي هزيل خلال فترة الغزو الأمريكي للعراق نشرتها عبر مجلة "زهرة الخليج" الإماراتية على مدار عشر سنوات.

من هنا نستنتج أن مصطلح السخرية يعتبر من أرقى أشكال التعبير الأدبي مهما كان جنسه: مسرحية، قصة، قصيدة شعرية، رواية أو مقالة، خاصة لما يحمله في طياته من مواقف انتقادية تظهر في إحساس الكاتب بالمفارقة الدلالية بانفعال لا يخلو من ملامح الفكاهة والإمتاع حيث تقول المبدعة أحلام مستغانمي في شأن مقالاتها: "بعض هذه المقالات بكيت وأنا أعيد قراءتها، وبعضها ضحكت ملء قلبي كأنني لست من كتبها. وبحسب مقياس هذه الأحاسيس المتطرفة، ارتأيت أنها تستحق منكم القراءة" (ص 7).

من العتبة الأولى للنص ممثلة في العنوان "قلوبهم معنا وقنابلهم علينا" تستوقفنا مفردتين أساسيتين "قلوب" و"قنابل" لكل منهما دلالة تختلف عن الأخرى، فالأولى جمع "قلب" والذي تربطه علاقة وطيدة بمشاعر الإنسان وضميره كذلك، أما الثانية مفردها كلمة "قنبلة" وهي جسم معدني أجوف يحشى بالمواد المتفجرة ويقذفه العدو على غيره. من هنا نرى أن عنوان هذا الكتاب يحمل نظرة ضبابية وانسداد أفق وظلم يحكم حياة جملة من البشر وواقع بلد بعينه، منذ لامسته أقدام العدو وهذا ما سيكتشفه القارئ حتما خلال مباشرة عملية القراءة.

تعلن المبدعة أحلام مستغانمي ومنذ أول مقالة لها في الباب الأول (شوف بوش بقى واتعلم) تحت عنوان "من غير ليه.." عن رفع التحدي وهذا يبدو أكثر وضوحا من خلال سخرية لاذعة تطبع النص الأول بشكل عام حيث تقول: "لا تسألوني لماذا لا أحب بوش الأب، لا بوش الابن، ولا بوش الأم. وإذا كان لا بد لي أن أختار واحدا من آل بوش، فسأختار الكلبة بوش، تلك التي أثناء إقامتها في البيت الأبيض، وبصفتها الكلبة الأولى، اختارت أن تضع مواليدها في غرفة نوم الرئيس..." (ص 13). هذا يدفعنا لنكتشف كقراء جملة من الآليات التي توظفها الكاتبة ببراعة لتنقل لنا موقفها مما يجري في الواقع كقولها في المقالة الثانية المعنونة "إذا لم تستح...": "...لا أعرف من ناس أميركا إلا سياسييها، ومن اشتهر من نجومها، فلقد عجبت لأنني لم أجد في تاريخ أحد من هؤلاء ما يشي بذرة من الحياء، إلا إذا كان وصول بعضهم للنجومية، أو للسلطة، يتطلب أن يكون معافى من هذا المرض الأميركي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمناصب السياسية الكبيرة..." (ص 17)، وبصراحة فعنوان المقالة يدفعنا لنتذكر فورا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، فالحياء رافد من روافد التقوى لكن أمريكا لا تعرف مذاقه للأسف الشديد، وهذا ما عبرت عنه مستغانمي من خلال تلك السطور بلهجة تهكمية لا تخلو من السخرية بامتياز.

تتحدد معالم هذه اللهجة الساخرة كذلك في الباب الثاني (العراقي هذا الكريم المهان) أيضا انطلاقا من تعدد المواضيع ذات التيمة الواحدة التي ترتكز على كرامة العراقي المهانة، ثم من إلمام الكاتبة بمعطيات تخص الأحداث التي تعرض لها العراق الشقيق ومعرفتها بخلفيات عدوه الأمريكي ففي مقالتها الموسومة "اضرب القطوسة.. تفهم العروسة" حيث تقول: "ولذا، الدبابة الأميركية التي صوبت نارها نحوهم ما كانت تقصد سوانا، نحن ملايين المشاهدين العرب، الذين رأينا دمنا يتدفق في كل مكان في فندق فلسطين. والنار التي استهدفتهم، بذريعة الخطأ، ما انهالت عليهم سوى لتشرع الحرب المعلنة على الحقيقة، حيث سقوط المدن يعني سقوط الشهود العيان." (ص 49).

لا تكتفي الجزائرية أحلام مستغانمي بفضح هذه الهيمنة بعين الحياد المزيف الذي لا يخلو من نبرة الغضب بل تعمل على خلخلة الحاكم العربي وإخراجه من دور البطولة الكاذبة حيث تقول في مقالتها "شاربا الطاغية.. وأحذيته": "ذهبا شاربا صدام، وما زال البعض يحوم حول ما يحلو للذباب أن يحط فوقه. ذلك أن المشكلة ليست في شاربي الطاغية، بل في من لا يتصور نفسه إلا ذبابة." (ص 63).

ملامح السخرية تتكرر في مجمل مقالات الأديبة مستغانمي حيث تنقل لنا جملة من الأحداث بامتدادات أخرى تعزز غاية التهكم الذي يظهر جليا في الباب الثالث (خالتي أميركا) فمثلا تظهر عدة مقاطع تستدعي التأمل في مقالتها الموسومة "قلوبهم معنا.. وقنابلهم علينا" وهي التي اختارتها عنوانا مناسبا لكتابها بدقة متناهية أين نقرأ ما يلي: "تصوروا أمة تأتي بمئات الألوف من رجالها، وبترسانة حربية لم تشهد مثلها الكرة الأرضية.. فقط لتأخذ بزمام أمور شعب آخر لوجه الله، وتنفق من مالها لهدايتنا، ما تعجز قدرة البسطاء من أمثالنا على حسابه. كل هذا من أجل عيون الديموقراطية، كي تهبنا نعمة الحرية، باسم أرباب عدالة العالم الذين،  لمحض مصادفة، هم  أيضا أرباب الاقتصاد العالمي!" (ص 129-130).

ستتحدد السخرية بشكل مباشر من خلال مقالة أخرى تحت عنوان "أكاذيب.. بالجملة" التي افتتحتها الكاتبة بمقولة تشرشل (في الحرب تصبح الحقيقة ثمينة إلى درجة أنها يجب أن تحاط بحراس من الكذب)، وتلك أسلبة اختارتها مستغانمي كتكنيك يخاطب المعنى الاجمالي لما تكتبه في مجمل مقالاتها تأكيدا على البعد الساخر في خطابها فمثلا نقرأ ما يلي: "النصب أخو الكذب. لذا دوما كانت حقول الأكاذيب الغربية تهز كلما رأت رؤوس أموال عربية قد أينعت.. وحان قطافها." (ص 149).

تفضح المبدعة أحلام مستغانمي نوايا الخطاب السياسي الأمريكي المبني على قيم مزيفة ترفض السلام واحترام الآخر من خلال جملة مقالاتها في الباب الرابع والأخير (تصبحون على خير يا عرب) حيث نقرأ لها في مقالة "قل لي.. ماذا تشرب؟" ما يلي: "في زمن الطهارة الأميركية، والنوايا الحسنة لكبرى الشركات العالمية، كيف لا ننام مطمئنين وكوكاكولا بطيبة الأم تريزا تفكر فينا، والقديس 'ماكدونالد' يدعو لنا مع كل همبورغر بالخير و'نايك' و'أديداس' يقودان خطانا نحو أحلامنا القومية الكبرى." (ص 194). هنا نشهد أنه غزو ثقافي بصفة حضارية يهدف أولا لطمس هويتنا العربية الاسلامية ويشجع شبابنا للتخلي على ثقافته الوطنية، وثانيا يعتبر بدوره غزوا اقتصاديا ذات خلفيات سياسية خبيثة.

أخيرا نتبين من خلال جملة مقالات هذا الكتاب كيف تفضح مستغاني الأفكار السامة للغزو الأمريكي بل وتسخر بأسلوب راقي من خلال تشريح إيديولوجياته السياسية الدنيئة بآليات انتقادية ترفض الإجرام المسلط على ذلك العربي الذي لا يزال يتخفى وراء صمته ويسخر من أخيه العربي الآخر، حيث يذكرنا ذلك بمثال المبدعة أحلام مستغانمي في مقالتها الموسومة "جوارب الشرف العربي" الذي افتتحته بمقولة من القرن الثالث قبل الميلاد لصاحبها كوانتوس إينيوس أين نقرأ ما يلي: "مشهد حميمي، يكاد يذكرك ب'كليب' نانسي عجرم، في جلبابها الصعيدي، وجلستها العربية تلك، تغسل الثياب في إناء بين رجليها، وهي تغني بفائض أنوثتها وغنجها 'أخاصمك آه...أسيبك لا'..." (ص 78).

المصدر

(1) أحلام مستغانمي: قلوبهم معنا وقنابلهم علينا، دار الآداب، ط 3، 2010.

 *كاتب صحفي جزائري

clip_image002_47f6e.jpg

 

clip_image004_29ddf.jpg

أقام نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا ومؤسّسة الأفق للثقافة والفنون أمسيةً ثقافيّة، لإشهار "الانهيار" للكاتب المسرحيّ عفيف شليوط، في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسية في حيفا شارع الفرس 3، بتاريخ 8-10-2015، ووسط حضور من المثقفين والأدباء والأصدقاء، وقد رحب المحامي (رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافيّ) بالحضور، وتولى عرافة الأمسية الإعلاميّ وليد ياسين، وتحدّث عن "الانهيار" كلٌّ من الأدباء: حنّا أبوحنّا، نبيهة جبّارين، د: محمد صفوري، والمحامي حسن العبادي، وفي نهاية اللقاء وجّه الحضور أسئلة للكاتب، ثمّ شكر شليوط الحضور والمتحدثين والقائمين على إحياء الأمسية، ومن ثمّ تمّ توقيع الكتاب والتقاط الصور التذكاريّة!

 مداخلة وليد ياسين عريف الأمسية: عفيف شليوط عرفته قبل ما يقارب أربعة عقود من الزمن، كانت بداياته في عالم الفن المسرحي، وجمعنا بعض الكرّ والفرّ في هذا المضمار لسنوات.. لكن عجلة الزمان تدحرجت وتشعّبت، فانحاز كلُّ طرَفٍ إلى مشاغله ومسيرة حياة تفرض نفسَها، وتقودُ الإنسان إلى عالم يكون أحيانًا غيرَ عالمِه. اخترتُ الصّحافة واحترافَ النّصّ السّياسيّ، الّذي تداخلَ أيضًا هنا وهناك في النصّ الأدبيّ، أو مجال العمل الاجتماعيّ، وأمّا هو، فسعى إلى استكمال مسيرتِهِ الفنّيّةِ ككاتبٍ مسرحيٍّ ومُمثّلٍ ومُخرجٍ، وباحثٍ في عالم المسرح المَحلّيّ، وطبعًا ككاتبٍ قصصيٍّ له عالمُهُ الخاصّ.

عفيف شليوط، المُشاغبُ في كتاباتِه، أثارَ أحيانًا الجدلَ حولَ إنتاجاتِهِ الفنّيّةِ وكتاباتِهِ، في انتقادِهِ الجريءِ لظواهرَ تَعامَلَ معها غيرُهُ كأبقارٍ مُقدّسة، تخوَّفوا مِن مُلامستِها، ربّما خجَلًا أو وَجلًا مِن ردّ فِعل، لكنّهُ خاضَ معركتَهُ، ولم يَعرفْ مَعنى اليأس في تَحَدّيهِ لواقعٍ نظَرَ إليهِ بشكلٍ مختلف، ونجَحَ مِن خلالِ أعمالِهِ المَسرحيّةِ والأدبيّة، وحتى في نصوصِهِ النّاقدة، بفرْضِ نفسِهِ على السّاحةِ، وحقّقَ رسالتَهُ، لا بلْ توَّجَها بإنشاء مؤسّسةٍ لرعايةِ الفنّ والإبداع الأدبيّ، في وقتٍ غابتْ فيهِ المُؤسّساتُ الفاعلة في هذا المَجال لهذا السّبب أو لآخر.

الفنان والكاتب عفيف شليوط  من مواليد شفاعمرو، لكنّه اختارَ حيفا مَقرًّا لإقامتِه، وبهذا تستحقُّ شفاعمرو وحيفا تقاسُمَ شرفِ انتسابِهِ إلى كلٍّ منهما. اختارَ في دراستِهِ الأدبَ المُقارنَ واللّغةَ العربيّة، وكرَّسَ جُهدًا للكتابةِ الإبداعيّة. شاركَ في تمثيلِ وإخراج وتأليفِ عددٍ كبيرٍ مِنَ المَسرحيّاتِ، وأثبتَ حضورَهُ اللّافتَ، سواء على المسرح أو في عالم الإبداع الأدبيّ. ونعتزّ بأنّ أعمالَهُ وصلتْ إلى العالميّة، سواء مِن خلال مشاركاتِهِ في مهرجاناتٍ مسرحيّةٍ دوليّة، أو منتدياتٍ أدبيّة.

في أحضانِ حيفا نلتقي بهِ هذا المساء، والاسم الذي اختارَهُ لمجموعتِهِ التي نحتفي بها هنا "الانهيار"، لا يُجسّدُ المرحلة التي حققها بشكلٍ تصاعُديٍّ في إبداعِهِ الأدبيّ، كما الفنّيّ.. لكنّها مرحلة تُحتّم الوقوفَ على ضفافِها، لاستقراء ما وصَلَهُ كاتبُنا في مسيرتِه. معنا في هذه الأمسية الأديبُ والشاعرُ حنّا أبو حنّا، والناقد الدكتور محمّد صَفّوري، والشاعرة نبيهة جبّارين.

مداخلة الأديب حنّا أبوحنّا: سلسلة قصص قصيرة تدور جُلُّها حولَ محوَرٍ يتصدّرُ عنوان الكتاب "الانهيار"، ومشهد مسرحيّ قبل ذلك في كتاب "السنسلة"، يدورُ أيضًا حولَ هذا المحور؛ "في النهاية ينبعثُ صوتُ انهيارِ السنسلة، وصوتُ صرخةٍ رهيبةٍ يُطلقها السيّد". ونعودُ إلى اللغة حيث "انهار" تعني انقضّ وسقط فجأة، أي هوى وانحطّ بكلِّ ثِقلِهِ وحجمِهِ وبشدّةِ صوت، تصدّعَ وتداعى وتهاوى ووقع ضعف، إلى حدٍّ فقدَ معهُ كلَّ طاقةٍ ونشاط انهيار انكسار وهزيمة".

القصّة الأولى "الانهيار": "صاحب مصلحة" يَدعو العمّال إلى بيته في ذلك المساء، ويُصرُّ على حضور الجميع. توافدوا مساءً، وانتظروا في غرفة الاستقبال، لكنّهُ كان في غرفتِهِ طالبًا عدمَ إزعاجِهِ. هؤلاء العمّال يتصرّفون كالقطيع لا يسألُ، وينساقُ صامتًا، يقولُ لهم صاحب المصلحة: تنتظرون أن أتكلّم لتعرفوا سبب الدعوة؟ وحين يشرحُ يقولُ: كنت أقرّرُ وحدي وأنتم تتمتعون بنجاحي، دون أن تتحمّلوا نتائجَ أخطائي. كنت دائمًا الشخص القويّ الذي يُقرّر. أقفُ اليوم لأخبركم بأمرٍ خطير، صدمة ربّما لم تتوقّعوها". تصبّب العرقُ من الجميع. يقولُ: يجبُ أن يحدث تغييرٌ جذريٌّ في حياتنا. يجبُ أن تُشمّروا عن سواعدِكم وتعملوا. المصنعُ لم يعُدْ قادرًا على تأمين الحمايةِ لنا. أجهشَ بالبكاء، ولم يتجرّأ أحدٌ أن يسألَ ماذا حدث. وقف. وقفوا. دخلَ إلى غرفته دونَ أن يتكلّم، أمّا هُم فعادوا وجلسوا بصمت. لم يتكلموا. أرادوا أن لا يعرفوا.

ونعود الى القطيع: "نظراتٌ تتجوّل في أنحاء المكان، دون أن يصطدمَ بعضُها ببعض، هذه العيون أتقنت جيّدًا فنّ الهروب الأزليّ". الوحيدة التي تحاولُ أن تبادرَ إلى عملِ شيءٍ هي الابنة الصغرى. حملت صينيّة عليها ما تيسّرَ من الطعام، واتّجهتْ إلى باب غرفة الوالد، و"الجميع ينظر بصمت". أغلقت البابَ وغابت. انتظروها دون أن يُبدي أحدٌ انتظارَه، لئلّا يلحظ الآخرون. "خرجتْ والخوفُ بعينيها تتأمّلُ الحاضرين". لم يسألْها أحدٌ عمّا يحدث في الداخل.

هناك قرارٌ واحدٌ اتّخذَهُ القطيع: "قرّروا إغلاقَ الببيت. إسدال السّتائر. عدم الرد على الهاتف، وقطع كلّ اتّصالٍ مع الخارج، إلى أن يتوصّلوا إلى حلّ!". وهكذا يكون "العمل في اللاعمل"، أو الحركة في اللاحركة. وأمّا نهاية "صاحب المصلحة" فقد لبستْ ثوبَ الرّمز، فهو في الداخل يتململُ جسمُهُ، يشعرُ بالتقلّ.. يُحاولُ أن يختفي.. أصبحَ جسمُهُ بحجم كفِّ اليد. اختفى رأسُهُ، ويداهُ، ورِجلاهُ تحوّلتا كالسّلحفاة. وأتركُ النّهاية للقرّاء.

القصّة "كهنة من الثلج": المنتظرونَ على الشاطئ في حيفا يُحدّقونَ في اللّاشيء طالَ انتظارهم؟ "جلسوا.. تثاءبوا.. وقفوا.. شربوا.. عادوا.. ناموا.. استيقظوا.. ركضوا.. جاعوا.. أكلوا.. عطشوا.. شربوا ولم يخرج شيء.. أمّا أمّ عاطف العرجاء فلا تحتمل عالم اللافعل وتصيح: "ولكوا تحركوا، اعملوا اشي، الشجرة الاشي الوحيد اللي تحرك" لكن صراخها لم يُحرّك ساكنًا.

وفي قصة "لحظو عابرة": ص48: "ذاتي تقرّر أن تتمرّد علي، أن تصبح شيئًا آخر، ذاتي تبحث عن هُويّتها، تحتار أيّ الضّمائر تختار: هو هي هما هم هن أنتم أنتنّ أنت أنتما.. كلّ شيء إلّا أنا". وقع الاختيار أخيرًا على ضمير الغائب. الاختيار ليس مجرّد صدفة، والعِداء للأنا ليس مجرّد صدفة. ولنلتفت إلى هذا الحوار في القصّة "القادم الجديد إلى هنا" ص40: تسأله الفتاة الإسبانيّة: من أين أنت؟ -من فلسطين. -هل تُجيد اللغة العبرية؟ - نعم."

في هذه القصص رسالة أساسيّة في صرخة أمّ عاطف العرجا، ويكون السؤال: هل كانت نكبة 1948 مثارًا لتلك الصرخة؟ ونسأل دائمًا: كيف لا نكون قطيعًا؟ لكنّنا نسأل كيف كان موقف خالد في قصّة "الخمول"؟ وكيف كان أثر أمّه عليه، وهو الذي صمد وحارب من أجل إحداث التغيير؟ لا تسألوني ولكن اسألوا الكتاب واقرؤوهُ. ولا بدّ مِن همسة لعزيزنا عفيف: ليتك راجعت أو استعنت، لتمنع عددًا مِن هفوات اللغة، ممّا لن يكون في الطبعة الثانية.

مداخلة الاديبة نبيهة راشد جبارين: السّلام عليكم وطاب مساؤكم. عندما دُعيت للمشاركة في هذه الاْمسية، لعرض وإشهار كتاب الاستاذ عفيف شليوط (انهيار – قصص قصيرة) لم أتردّد، لأنّني أجد في قصص الاستاذ نكهة خاصّة، أشتمّ منها رائحة الفنّ، وأشاهد أثناء مروري ظلالًا وأنوارًا، وتمرّ من فوقي غيمات، تحمل زخّات من الخير، وأرى أنّ الأخ الأستاذ ينظر بعين النّسر، نظرات ثاقبة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا ودينيًّا  نظراتٍ مُحِبّةً وغيورة.

ففي مشوار تجوالي بين انهيارات الكهنة من ثلج، والبحث عن وطن، والقادم الجديد الى هنا، ولحظة عابرة، ولوحده، والخمول، والضياع. تتبع ناظراي ناظريّ الاخ الكاتب والفنان الأستاذ عفيف، ونجحت أن أصل إلى نافذة إطلالاته، فأطللت منها، وإذ بها نافذة تطلّ على الوطن، والوطن الكبير، وعلى العرب والعروبة والأصالة، وعلى الحرية والإنسانية بعين الغيرة على..، وعين المحبة، والعتاب النديّ.

قصة الانهيار: هذا العنوان الذي يوحي بالسقوط والفشل والخسارة، أرى في ذات الوقت أنه يُسقط ظلاله على معنىً في اتجاه آخر، يحمل الشّموخ، والعلوّ، والارتفاع. وما بين الشّموخ والانهيار تُذرَفُ دمعاتٌ، اعتصرَها الألمُ والحنين إلى أيّام الشموخ والارتقاء. في هذه القصّة الجميلة المؤثرة، كثيرٌ مِن الحقيقة المؤلمة التي أصبحت تسيطر على المجتمع العربيّ بشكلٍ خاصّ، أنّ قيمة المرء أصبحت بما يَحويه رصيدُهُ مِن المال، وأنّ العلاقة بين الناس، وحتى أقرب الناس أصبحت تنزلقُ في مهاوي المصالح الشخصيّة، وكأنّ الناس تخلّوْا عن إنسانيّتهم، فلا توادَّ ولا تراحُم.

الأفعال الكثيرة المتلاحقة في النصّ، صوّرت لنا الأحداث كأنّها تتراكض عكس الاتّجاه، كا نرى الأشجار بجانب الشارع تركض بعكس اتّجاه المركبة، وذلك لتصوّر لنا لحظة الانهيار، بأنها كانت سريعة ومفاجئة، ومع الانهيار المادّيّ، انهارت القيم والمبادئ والأعراف، لتتقزّم شخصيّة المدير صاحب المصنع، ثم تتحوّر الى جسم صغير غريب غير مرغوب فيه حتى في البيت، ولا أعرف لماذا اختار الكاتب شخصيّة الزوجة هي المبادرة للتخلّص من هذا الجسم الذي أصبح غريبًا، بعد أن مسخه الانهيار، انهيار في الإدارة والربح، وانهيار الصورة الذاتيّة والعلاقة الأسريّة والاجتماعيّة، فسأكون متفائلة، فربّما من مبدأ "قتل الرحمة" فعلت الزوجة ما فعلت. ومِن بين زخّات الألم والانقباض والأسف والدّهشة، تأتي جملة: "خرجَتْ والخوفُ بعينيها"، لتُذكّرَنا بأنّها ذات مرة "جلست والخوف بعينيها" في أشعار نزار، وبين الأوتار في صوت كاظم، فكانت رشقة جمال وتنفّس للقارئ.

2- كهنة من ثلج: نجح الكاتب عندما انتدبَ شخصيّة الكهنة، لأنّهم عادة يحظون بالتقديس والاحترام والإطاعة، ولا يُرجى منهم إلّا كلّ خير، بكلام آخر هم مصدر قوّة عظمى، لكنّ قدومهم من بلاد بعيدة، من وراء البحار كان حدثًا غريبًا، والأغرب أنّهم كانوا يؤدّون الصّلوات، ويقومون بقيادة الناس إلى الخلاص، بشكل حركيٍّ ميكانيكيٍّ خالٍ من الأحاسيس والمشاعر الإنسانيّة، لأنّهم كهنة من ثلج، لا يحملون رسالة، وإطاعتهم عمياء، والشخص الوحيد الذي اكتشف أمرهم اعتُبِر مجنونًا بين المُصلّين. ولكنّ المثابرة جعلته يقتربُ من الحقيقة، وأمّا الحرارة والنور السّماويّ الذي دخل النوافذ، وأذابَ الثلج عن الخديعة، أتاحَ الفرصة ليتسلّم القيادة أحد أبناء الحيّ. هنا لفتة جميلة بأن حركات الشعوب التحرّرية الناجحة هي حركات ذاتيّة، وأمّا الحرارة التي تأتي من الأعلى، فهي تلك القيم والمبادئ الإيمانيّة السّماويّة، تأتي من نفس الشعب، ولا حرارة ولا مبادئ ملائمة لأيّ قيادة يمكن أن تأتي من غير دائرة الشعب. أُعجبتُ بالأفعال المتلاحقة في النصّ، وسرعة وكثرة الحركة المرسومة فيها، ومن بينها تتسلّل رائحة الملل، والانتظار ذاك الذي عانت منه الشخصيات.

الثلج الذي يرمز إلى النقاء، يرمز في ذات الوقت إلى البرودة والجمود. أمّا الحرارة والنور المنبعث من السماء فاخترق النوافذ، لتُضاء الكنيسة بنور الشمس الغائبة عنهم زمنًا طويلًا. وهل كانت الشمس إلّا رمزًا للحرّيّة والانطلاق والحياة؟ وهل كان النّور إلّا رمزًا لمعرفة الحقّ والحقيقة؟ متى يذوب كهنة الثلج، وتُؤدَّى الصّلوات بأصوات تملؤها الحرارة والصدق والإخلاص والانتماء– حيفا، عروس الكرمل تنوبُ عن أخواتها، وتنتظر هذا النور، وهذا القدّاس والصلاة التي يقيمها، ويقودها كاهن ليس ثلجيًّا، ولم يأتِ من بلاد بعيدة من خلف البحار.

3البحث عن وطن: لطالما كانت الألوان مبعث فرح وسعادة وحبور، ومَن منّا لا يستهويه ويجذبُهُ قوسُ قزح بألوانه المتعدّدة الجميلة المتناسقة؟ مَن منّا لا يأسرُهُ جمالُ الحدائق الغنّاء بألوانها وأزهارها المتناثرة؟ إلّا أنّ الألوان في قصّة الأستاذ عفيف "البحث عن وطن" اختلطت، وضاعت وضاءتها في فوضى السيطرة والظهور، وجعلت بطل القصّة يحرق أوراقه وكتبه، ويحرق شوقه وحنينه إلى الماضي الجميل، أحرقها في شعلة الخلاف والأنانية التي خلطت ألوان الرايات، وجعلته شلّالًا من فوضى ألوانٍ راحتْ تجري في بحر الخلاف والأنانية. وهامَ البطلُ على وجهِهِ يبحث عن وطن، يكونُ له راية واحدة، وطن يكون للجميع وليس للجَماعات.

4 – القادم الجديد إلى هنا: لقد كان القادم الجديد إلى هناك- إلى لندن، يحمل على الأقل، ومن ضمن ما يحمل من بلاده التي هُجِّر منها وشُرِّد، كان يحمل سلاحًا، هو سلاح الاعتزاز بوطنه، بجماله وخيراته. فما أن انغمسَ ناظراه بالجَمال الطبيعيّ، والعراقة في شوارع لندن، حتى سبقته عبارته بالحسرة والشوق معلنةً: "إنّ هذا الثراء من خيرات بلادي التي استعمرتموها طويلًا". لكنّه لم يجرؤ على ترديدها، لأنها إخلال بالنظام. الاعتزاز بعروبته لا تفارقه طرفة عين، فها هو يرى الجمال، ويشتمّ العزة فيمن جذورها تنتمي إلى الأندلس-لأنهم كانوا هناك- العرب كانوا هناك، في جزيرة البطولة والعزة والكرامة. وهناك تنسّم العرب واليهود أنسام التسامح والتعايش والسلام فيما بينهم، ومن يحمل هذه الذكرى الطيّبة لا مكان له بين صُنّاع القرار، وإن طالب بالسماح بإقامة الدولة الفلسطينيّة، لن يُدعى إلى أي اجتماع بعد ذلك، إلّا أنّ الحمامة في فلسطين، لا تتوقف عن التحليق خوفًا من أحد، فهي تنشد السلام من أجل السلام، ومن أجل من يحملون الحجارة.                           

5- لحظة عابرة: السرعة هي إطار اللحظة العابرة. ولكنّ سرعة المَشاهد، وحركتها وأصواتها وألوانها وتعابير الوجوه فيها، شيء يدهشني في نص القصة. الحيرة المرسومة بالكلمات وبالضمائر تحيّرني، التساؤل: لماذا أنا غير مرغوب فيّ في وطني؟ سؤالٌ يستفزني، أمام الحواجز والتفتيش والانتظار، فهي تحتجز أنفاسي، أنا في وطني سجين، لكن الفرق فقط أنّ السجن كبير. فإذا شدّني حب الإستطلاع لمعرفة ما يدور عند الحواجز، جعلني "لحظة عابرة". فالإنسان في عمر الزمان لحظة عابرة، فما باله إن كان يعاني من الضياع وفقدان الذات، وفقدان الحرية، حرية الفكر، والتعبير والتنقّل.

اللحظة أسرع من أن يُعبَّر فيها عن موقف، أو عن تساؤل معيّن، والعِداء يُغلق كل الأبواب أمام السيارة وأمام الخطوات، وحتى أما الحروف والكلمات، فإن هي إلاّ "لحظة عابرة"، هذا ما آل اليه حال البطل في القصة، عندما تساءل قرب الحاجز.

6- لوحده: مرة أخرى يطل الكاتب الاستاذ عفيف إطلالة كاشفة كيف أصبحت الذاكرة قصيرة الأمد لا تصل حتى إلى يوم واحد (أربع وعشرين ساعة)، وان العلاقات الانسانية الحميمة أصبحت فاقدة للذاكرة، فلم يعد الزميل يذكر زميله إذا ما أدار ظهره وغاب، حتى وإن كانت الزمالة تجمعهما لسنوات طويلة، حتى وإن كان هذا الغائب يحمل كل سمات الطيبة والخير والمحبة للغير. شهد على ذلك بطل القصة الذي قضى أيّامًا وساعات ينتظر اتّصالًا هاتفيًّا، أو زيارة من زملائه دون جدوى.

أجد في القصّة لغة جميلة تدعو إلى محاربة الروتين، والانغماس في العمل على حساب الراحة الشخصيّة، التي يجب أن نقتطع لها وقتًا خاصًّا أيضًا، فالبطل في صباح اليوم الثالث، عندما قرّر أن يرتشف القهوة في حديقة بيته، أخذ ينظر مليًّا حوله وهو يرتشف القهوة، نظر إلى أزهار حديقته، فاكتشف كم هي جميلة، وكأنّه يراها للمرة الأولى في حياته. شعر بالهواء المنعش وهو يلاطف وجهه صباح ذلك اليوم، وكأنه اكتشف للمرة الأولى في حياته أنه هناك هواء في هذا الكون. استعان البطل بخياله، وطاف في أماكن كثيرة، بعيدة وقريبة ليجد من يتعامل معه بالحسنى والإنسانيّة، إلّا أنّه باءَ بالفشل، فراح يخاطب نفسه قائلًا: "لا أحد يسأل عنّي أو يهاتف، أو حتى يحاول أن يمثل عليّ أنّه مهتمٌّ بي، اِكذبوا عليّ، أنا بحاجة إلى كذبكم، قولوا إنكم قلقون عليّ، وأنا أعلم أنّه في قرارة أنفسكم تفكّرون بذات اللحظة بأمر آخر، لكن لا يهمّ، أنا موافق، أنا بحاجة حتى إلى اهتمامكم الكاذب".

كلام مؤثر جميل، وصورة صادقة للإحباط، ودعوة لنساعد ولو بكلمة كما ورد في الحديث الشريف: "الكلمةُ الطّيّبةُ صَدَقةٌ"، وعندما عاد الى المدينة وتاه في الحياة العاديّة، وجد الشارع خاليًا صامتًا ولا أحدَ يهتمُّ به أو له. أمّا الحصان الضخم فهو الموارد الضخمة التي يملكها الفرسان، أي حكام الشعوب العربيّة، وأمّا أنّ ليست لهم وجوه، أي ليست لهم مواقف ثابتة ومُشرّفة. أما حيفا فهاجسُ الكاتب ورمز لكلّ الوطن الجميل الذي ينتظر أبناءَهُ ولا يتنكر لهم.

7- الخُمول: كثيرًا ما نواجه في قرانا مثل هذين القطبيْن المذكوريْن، سلبيّ وإيجابيّ. الإيجابيّ مُحِبٌّ للخير والعطاء والتطوير، أمّا السلبيُّ فهو فضلًا عن أنّه مُخالفٌ ولا يُحبُّ الخير والعطاء، فهو أيضًا أنانيّ، وربّما سلك هذا الطريق فقط من أجل الظهور واحتلال العناوين، إلّا أنّ الجميلَ في القصّة، أنّ روح التغيير والعمل والعطاء لم يؤثر عليها كلّ أساليب الإحباط، بل انتصر الخير والإيجابيّة، وجذبت القطب السّالب مُخالِفًا لقانون الطبيعة، وقد عبّر عن انتمائه لبلده ومجتمعه بالقهوة العربيّة. وزبدة القول: "لا تنتظر من لا يكترث لطلباتك، ولا يهمّه أمرك وقتًا طويلًا، بل بادِر إلى الخير وسيتبعك الأكثريّة ".

8- الضَّياع: العنوان يقودُنا إلى ضياع وتيه لا نعرف حدودَهما المكانيّة ولا الزمانيّة. الضياعُ في العمل وفي الفراغ، الضياع في الليل وممارساته، الضياع في الداخل وفي الخارج، لأننا كرويّون، والكرة يَسْهُلُ دحرجتها في أيّ اتّجاهٍ نريد. التشبيهُ جميل، فالشعب الفلسطينيّ المُشرّد أشبه بالكرة، والجميع حوله لاعبون محترفون، يُتقنون اللعب والضرب والرّكل في ملاعب الوطن العربيّ، من العاصي حتى الفرات والنيل والخليج، ومَن أراد أن يخرج عن كرويّته ويعود إلى وضعه الطبيعي وحيّزه الحقيقيّ، لا يجد إلّا المطاردة والضرب والرّكل، والعنف بكلّ أشكاله ووسائله، ويبقى شعبنا المُشرّد وحيدًا لا أحدَ يؤازره، ويبقى جائعًا للحرّيّة والسلام والحياة الكريمة. لعلّه يأتي جيلٌ يُرمّم ما انهار، ويُعيد بناءَهُ صرحًا منيعًا للحرّيّة والسلام. وفقك الله أخي عفيف لمزيد من الإبداع والعطاء.

مداخلة د. محمّد صفّوري مجموعة "الانهيار "بين الواقعيّ والغرائبيّ:                            1. مدخل: تتّسم قصص مجموعة "الانهيار" للكاتب عفيف شليوط بسمة القصر؛ فهي قصيرة في قطعها الصّغير جدًّا، وهي قصيرة في عدد صفحاتها، إذ تقع أقصرها في ثلاث صفحات، ولا تتجاوز أطولها عشر صفحات، وهي قصيرة أيضا في عدد قصصها الّذي اقتصر على ثماني قصص فقط. واعتمادّا على نظريّة الاستقبال والتّلقّي للمفكّر الألماني(Hans Robert Jauss) "هانز  روبرت ياوس(1921- 1997)[2].

في قصّة "الخمول" ينبري الكاتب لمناهضة صفة الخمول، وتثبيط عزيمة من يسعى إلى تغيير واقعه الاجتماعيّ إلى الأفضل، من خلال توظيف شخصيّتين متناقضتين؛ توفيق الملقّب "جلطة" رمز الإنسان الخامل، ومقابله خالد الّذي لا ينثني عن عزمه، حتّى يُحدث في قريته التّغيير الّذي يريد، مدعومًا بهمّة أهل قريته، الأمر الّذي وضع "جلطة" أمام الحقيقة الدامغة، وليتنازل فيما بعد عن أفكاره السّلبيّة وعدائيّته لخالد.

يبدي الراوي في قصّة "الضّياع" تذمّره من تنكّر الإنسان العربيّ لذاته، ويهاجم انغماسه في الملذّات، وسيطرة المادّة عليه، وذلك عبر تجرّد الإنسان من مسؤوليّاته الأسريّة، أو تجرّده من الأخلاق، وعزوفه عن أي مبادرة لتغيير واقعه المرير.

2.2 الهمّ الإنسانيّ: لعلّ من أكثر قصص المجموعة إثارة للقارئ قصّة "الانهيار" وقصّة "لوحده"، إذ يتطرّق فيهما لمعالجة همّ إنسانيّ عامّ، ففي قصّة "الانهيار" يتنكّر أفراد الأسرة لربّها الذي قضى عمره في إدارة مصنع له دون أن يساعده أحد، حين كان يقدّم لهم جميعا كلّ ما يحتاجون، وعندما تراجع العمل وإنتاج المصنع لم يسانده أحد من الأسرة باستثناء ابنته الصّغرى الّتي واصلت خدمته والاطمئنان عليه بعد أن حبس نفسه في غرفته ولم يخرج منها، حتّى بدأ جسمه بالنّحول والتّحوّل في النّهاية إلى سلحفاة، وامتنع عن تناول طعام ابنته الصّغرى إلى أن فارق الحياة، فأحدث بموته أزمة أسريّة جديدة؛ من سيتابع المشوار وحمل المسؤوليّة؟ ماذا سيقولون للنّاس؟ وهل سيبقى في البيت ويبقون هم مدفونين داخله؟ تُسرع الأمّ قبل خروج الناس إلى أعمالهم فجرًا، تحمله في كيس قمامة، لتقذفه في عربة النّفايات، ولا تتنفّس الصّعداء إلّا بعد أن تشاهد عمّال النّظافة يُفرغون محتوياتها، منطلقين إلى مكان آخر، عندها فتحت باب البيت ونوافذه، وسمحت بالرّدّ على الهاتف. إنّها قضيّة تعاني منها كلّ المجتمعات، بل هي قضيّة العصر، قضيّة تنكّر أقرب النّاس لربّ الأسرة الّذي قضى حياته في خدمة أبناء أسرته دون أن يلقى منهم الحضن الدّافئ الّذي قد يخفّف عنه ما ألمّ به، أو يفرّج عنه كربته.

   تبلغ قسوة النّاس ذروتها في قصّة "لوحده"، وفيها نسمع صرخة الرّاوي المدوّية نتيجة تشيّؤ النّاس وتجرّدهم من الحسّ الإنسانيّ نحو إنسان خرج إلى التّقاعد، فانفصل عن زملائه، وأضحى وحيدا في هذا العالم دون أن يبادر أحد إلى مواساته. انتظر اتّصال الأصدقاء والزّملاء دون جدوى، إنّهم تحوّلوا إلى أجهزة بلا مشاعر. سعى الرّجل إلى التّخفيف عن نفسه، معتمدًا على قواه الذّاتيّة، من خلال جلوسه في حديقته الّتي شُغل عنها، أو مشاهدة فيلم ما، أو البحث عن علاقات وصداقات جديدة، لكنّه يُصدم عندما يرى النّاس قد تحوّلوا إلى آلات دون مشاعر، فيعود إلى بيته وتسوء صحته، ويغرق في مناجاة النّاس عارضا ما كان يأمل منهم من تضامن، أو مواساة، أو اهتمام ولو كذبا، وتدوّي صرخته عالية، وهو  يركض ويصرخ في أعلى الجبل محاولا طرد ما يطارده من أفكار، ثمّ يقع على الأرض ويجهش بالبكاء، يعود بعدها بسيّارته إلى حيفا وسط ظلام دامس، ويرى نفسه محاطا بفرسان بلا وجوه من كلّ جهة، إلّا أنّه ينطلق بسيّارته متحرّرا منهم.

2.3. الهمّ القوميّ: يُفرد الكاتب بعض قصصه لمعالجة الهمّ القوميّ، فيلاحظ في قصّة "البحث عن وطن" أنّ تعدّد واختلاف النّزعات القوميّة، وعنايةَ كلِّ فئة بتحقيق مصالحها الخاصّة، وانشغال أفرادها بإشباع غرائزهم على اختلافها، يؤدّي إلى ضياع الوطن، الأمر الّذي جعل الشّخصيّة تشعر بعدم الرّاحة على مساحة القصّة كلّها، وتتأزّم حالة شعوره بعدم الرّضا وعدم الارتياح في مواقف عديدة ومختلفة، حتّى يقرّر الرّحيل عن الوطن بعد ضياعه. وفي قصّة "القادم الجديد إلى هنا" يعكس صورة لحياة الإنسان الفلسطينيّ وقد أضحت رحيلّا متواصلًا، ويبدو أنّ الفلسطينيّ ذاته كان سببًا مباشرًا في هذا المصير لانعدام فاعليّته في حلّ مشكلته، إلّا أنّ الفاعليّة الوحيدة الّتي يبديها هي اهتمامه بإشباع غريزته الجنسيّة مع فتاته الّتي لم يحسن الحفاظ عليها أيضًا، فما أن ينتهي من ممارسته الجنسيّة حتّى يصفع فتاته ويرحل إلى مكان جديد. وفي قصّة "لحظة عابرة" يؤرّق الرّاوي وضع الإنسان الفلسطيني في هذه البلاد، إذ يشعر أنّه غريب في بلاده، وأنّ حياته شقاء متواصل من المهد إلى اللّحد، بعكس سائر الشّعوب الّتي تعيش لتتمتّع في حياتها، ناهيك ما يواجه من ملاحقة السّلطة وحواجز التّفتيش، وحالة الفوضى والرّعب، وما يحدث من انفجارات، تجعل الرّجل يغادر سيّارته راكضّا بحثًا عن مخرج، فتتّجه الأنظار نحوه، ويطلقون بنادقهم، ليقع أرضًا، دون أن يفهم مِن كلّ ما جرى سوى أنّه لا شيء، إنّه لحظة عابرة.

2.4. لذعات سياسيّة: يهيمن على قصص المجموعة كما أسلفنا كلٌّ من الخطاب الاجتماعيّ، القوميّ، والإنسانيّ، لكنّ الكاتب لا يتنازل عن لذعاته السّياسيّة في بعض القصص، تارة بصورة مباشرة، وأخرى بسخرية مُرّة أو فكاهة سوداء[4]، أو إلحاح الكاتب في تكرار  الوصف "صمت قاتل" الّذي ظهر في مواضع عديدة من قصص المجموعة كقوله: "الأعين تراقب حركاتها بصمت قاتل"(8)، أو: "سكنت بصمت قاتل"(ص16)، أو: "يخيّم على المكان صمت قاتل"(64)، وقد يظهر  هذا التركيب في القصّة الواحدة أكثر من مرّة، مع بعض التحوير أحيانًا، الأمر الذي يذكّر بمجموعة الكاتب الأولى "الصّمت القاتل "[6]. لكن لا تأتي كلّ المتناصّات مباشرة، إنّما تُفهم باللّمح والإشارة مثل وصف الرّاوي حالة النّاس، وقد تجرّدوا من مشاعرهم، بالآلات، دون أن يُظهروا أيّ تعاطف مع الشّخصيّة، ممّا يستحضر في ذهن القارئ قصيدة "مقتل صبيّ" لأحمد عبد المعطي حجازي وقوله: "النّاس في المدائن الكبرى عدد"[8].

   تظهر تقنيّة التّكرار عنصرًا بارزا في بعض قصص المجموعة ليس للتأكيد فقط، إنّما تعبيرًا عمّا في نفس الكاتب من إلحاح على فكرة ما، ترافق القارئ على مساحة القصّة كلّها، ممّا يزيد في دراميّة الحدث وتعظيم الأثر في نفس القارئ

[2] . محمّد فؤاد عبد الباقي. (1988). سورة الرّعد، آية 11. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. القاهرة: دار الحديث، ص 741.

[4] . نزار قبّاني. (1973). قصائد متوحّشة. ط 4. بيروت: منشورات نزار قبّاني، ص 12.

[6] . غسّان كنفاني. (1970). عائد إلى حيفا. بيروت: دار الآداب.

[8] .  تفاصيل أوفى عن نظريّة الاستجابة والتأثير ينظر: فولفجانج آيزر. (2000). فعل القراءة: نظريّة جماليّة التّجاوب في الأدب. ترجمة: حميد لحمداني. الرّياض: مكتبة المناهل.

[9] . مزيدا عن دور التّكرار أو التّكرير وأثره في دراميّة الحدث وتعظيم الأثر، يُنظر: إبراهيم طه. (2014). "قصيدة المقاومة: مشروع تحديث" مدارات، 7: ص15 – 25.

المزيد من المقالات...