تنطلق الرواية أحيانا من خبر أو حدث خاص أو عام، يطوّره الكاتب ويتخذ منه أحيانا حاملا للسرد ثم ينطلق إلى سرد الواقع أو التجربة الحياتية فيه، بأسلوب ينقل الواقع كما هو أحيانا، وأحيانا ينجح في تخييل ذلك الواقع، بفنيّة عالية أحيانا ومتواضعة أحيانا أخرى، ما يُؤدّي إلى تأرجح الرواية بين اتجاهات مختلفة، فقد تخرج الرواية كرواية وثيقة، أو رواية تسجيلية، ولكن، ما من رواية أو روائي لا يطمحان إلى أن ملامسة الرواية الفنية بكثير من جوانبها. فينجح الكاتب، وبتواضع أحيانا، في أن يُضفي بعض الملامح الفنية على روايته دون ينجح في صرف نظر القارئ عن كونها رواية تسجيلية أو رواية وثيقة، نجح فيها بتوصيف التجربة المعيشة وتوثيقها بشكل يطغى على فنيّة الرواية. وهذا ما وقعت فيه الكاتبة خلود رزق خوري في روايتها "أمل في الظلام"، رغم أنّها لم تتناول الحدث طازجا، ولم يكن ذلك ممكنا أصلا، لانتشار الحدث أو التجربة أو الحكاية على مساحة زمنية امتدت عددا ليس بالقليل من السنين، فرضت على الكاتبة اتخاذ مسافة بين بداية الحدث على الأقلّ، أو التجربة، وبين تحويلها إلى تجربة روائية لها أهداف توثيقية وتعليمية واضحة، ارتبطت بانطلاق الكاتبة من واقعها الذي تكتب له وتحرص على أن يستفيد من تجربتها لتخفّف المعاناة عن المجتمع عامة، وعن بنات جنسها خاصة، في حال وقوعهن في تجربة مماثلة لتجربتها. فهي تُدرك أن تجربتها الخاصة، يُعاني منها آخرون تعرفهم أو لا تعرفهم، وهو ما يظهر في بعض إهدائها حين تقول: "إلى رفيقتي في معاناة مشتركة ... حنين ...". فقد أدركت خلود أنّ تجربتها، رغم خصوصيّتها، ستتحوّل يوما ما إلى تجربة عامة، وذلك لكثرة الحدوث وتعدّد الحالات الخاصة، ما يعني أنّ الكاتبة أرادت توثيق تجربتها التي عاشتها وعايشتها في تجارب الآخرين، لتكون خطوة وقائية يستفيد منها الآخرون. فهي تُهديها أيضا، "إلى كل أمّ عربية تتعرّض لمصاعب حياة بلا سابق إنذار". وكما ظهر ذلك في الإهداء، يظهر واضحا أيضا في أحداث الرواية.

لم أكن أعرف شيئا عن مرض التوحّد الذي يُصيب الأطفال أو يُولد معهم. ولكنّ الآن، بفضل تجربة خلود التي أتمنى لو لم تمرّ بها كتجربة حياتية، وبفضل روايتها، صرت أعرف عن ذلك المرض، لدرجة أنّني إن لم أستطع مساعدة من يعيش معاناة مشابهة، فعلى الأقلّ أستطيع توجيهه إلى خلود أو إلى روايتها، للاستفادة من تجربتها وللاستمتاع بقراءة الرواية، وللتعاطف مع قصة مغرقة في إنسانيتها.

شدّتني عتبات النص على اختلافها لقراءة الرواية. وجدت بعد ذلك أنّ معرفة المعلومات التي كنت أجهلها، رغم أهميّتها، لم تكن هي ما لفت انتباهي في الرواية، بل تلك المعاناة اليومية التي عاشتها الأمّ ونقلتها الكاتبة بصدق، وذلك الألم الذي رافقها، متوسلة بعض التقنيّات الفنية التي شدّت الحبكة، وإن لم تمنع ترهّلها أحيانا.

يحتوي مضمون الرواية على موضوعين أساسيين هما: مرض الطفل ومعاناة الأمّ، تنبثق عنهما مواضيع أخرى كثيرة ترتبط غالبا بالعلاقات الاجتماعية التي تتطوّر وفقا لتطوّرات المرض والمعاناة.

الطفل ومرض التوحّد

قد يمرّ الإنسان في حياته بتجربة المنفى بأقسى أشكالها، سواء كان المنفى طوعيا أو قسريا. ولكن، أن يولد الإنسان منفيا عن محيطه وعالمه الخارجي ويبقى سجين ذاته يرفض أيّ اتصال بعالمه الخارجي، حتى مع أقرب الناس إليه، أمّه، فقد يكون ذلك أقسى أنواع المنفى. فمن جهة، نحن نشهد رفضه لعالمه الخارجي، ونجهل كيف يواجه منفاه وعالمه الداخلي، ومن جهة أخرى، يدفع الآخرون ثمن تجربته فيتحوّلوا هم أيضا إلى منفيّين، قسرا واختيارا معا، بسبب تجربته هو. تلك التجربة التي تفرض عليهم اغترابهم عن ذاتهم وواقعهم.

يظهر رفض الطفل لعالمه الخارجي في بداياته، بإرجاعه الطعام أي بالقيء. فالقيء في الواقع هو رفض الطعام وقذفه خارج الجسم، ولكنّه روائيا، لا يقف عند هذا الحدّ، فهو رمز يُحيل إلى الرفض، رفض الآخر والعالم الخارجي والاكتفاء بعالمه الداخلي، أو يوهمنا بذلك على الأقلّ. تُصوّر الكاتبة ذلك وتربطه بشكل جيد ببداية معاناتها حين تقول: "فمنذ الساعة الأولى رفض أن أضمّه إلى صدري لأسقيه حنان الأمومة، وفضّل غذاء اصطناعيا ليرجعه في الساعة الثانية على ثيابه" (أمل، ص 16). كان في ذلك إشارة للأمّ أنّ شيئا ما ليس طبيعيا لدى طفلها، ولكنّها مسيرة طويلة من المعاناة، دامت حتى اكتشاف المرض وتفاقمت بعده. سلسلة مضنية من الزياراتن للأطباء والمراكز الطبية والأخصائيين، يكتنفها الجهل أحيانا، واللامبالاة أحيانا أخرى، إلى أن تصل الأمّ والعائلة إلى تحديد المرض، لتأخذ المسيرة شكلا آخر لا يقلّ قسوة عمّا كان. تبدأ عملية البحث عن طرق للعلاج، وتتحوّل لاحقا إلى عملية بحث عن طرق للتعايش مع مرض التوحّد الذي لا علاج محدّدا له. ولكنّها الأمّ، بعاطفة أمومتها، تنكر ذاتها وتواجه القدر وتعيش المعاناة وكل أصناف العذاب من أجل لحظة رضى أو بسمة أمل ترسمها على شفاه طفلها.

توحّد الطفل، المنفى السلبي للأمّ

المدخّن السلبي هو من يُعاني بلا إرادة، نتيجة ما يفعله المدخّن الفعلي. وهناك بعض الآراء العلمية التي يقول أصحابها بأنّ أضرار التدخين السلبي أقسى على المدخّن السلبي منها على المدخّن الفعلي. وحتى لو كان ما تقدّم صحيحا، فإنّ ذلك لا يُساوي شيئا بالمقارنة مع معاناة أمّ، لم تختر منفاها وإنّما قسرته على نفسها أو قسره عليها منفى وليدها. وأكثر من ذلك، فالمدخّن السلبي يُمكنه في لحظة ما، أن يقوم ويرحل مبتعدا عن المدخّن الفعلي. ولكن، هل تستطيع أمّ أن تقوم وترحل لتخلص من منفاها الاختياري، الذي قسرته على نفسها أو قسره عليها، المنفى الفعلي الذي يعيشه وليدها؟ إنّها تدفع نفسها دفعا إلى المنفى والاغتراب عن واقعها وحتى عن ذاتها التي تُنكرها من أجل أن تخلّص وليدها من منفى قسره القدر عليه وعليها.

حياة خلود، أو بطلة روايتها، تحوّلت إلى منفى قسري بسبب منفى وليدها. فمن الساعات الأولى لولادته بدأت تستشعر منفاه وترسم هي منفاها القسري وتربط حياتها ومنفاها بحياة وليدها ومنفاه. تقول: "فمنذ الساعة الأولى رفض أن أضمّه إلى صدري لأسقيه حنان الأمومة، وفضّل غذاء اصطناعيا ليرجعه في الساعة الثانية على ثيابه، تلك الثياب التي أعددتها خصيصا لأصطحبه وهو يرتديها عند عودتنا لبيتنا الذي أعدّ لاستقبال الزائر الجديد بكل ما تحمله فرحة الاستقبال لكل زائر منتظر" (أمل، ص 16). ولكنّها استبدلت ثياب وليدها المرغوبة التي تُحيل إلى الفرح بثياب مرفوضة أسلمتها للحزن، ما يعني أنّ حالة وليدها قسرت عليها استبدال فرحها بمجيئه، بحزن ولّده مرضه الذي منع تواصله مع أمّه وعالمه الجديد، حين تقول: "حزنت كثيرا ولففته في ثياب خُصِّصت للمواليد الجدد الذين يُقيمون في المستشفى فقط" (م. ن.).

وتدخل الأمّ، وحدها في بداية الأمر، منفاها الحزين الذي لا يشعر به غيرها. تقول: "عدنا أدراجنا إلى البيت، وبسمة عريضة تحتلّ وجه زوجي الذي عاش فرحة الحياة حين ناديناه بأبي وسيم، ولم يلحظ الخوف الظاهر في عيوني" (م. ن.). التركيز لاحقا على من وقفوا إلى جانبها في مأساتها، تعني إظهار مدى حاجة الطفل وأمّه، أصحاب المعاناة الأساسيين، إلى التعاطف معهم، وأهميّة المشاركة في تخفيف المعاناة. ومن جهة أخرى، تعني مدى أهمية تصرّف الآخر، لا لنزع المنفيّ من مأساته لأنّ ذلك غير ممكن، وإنّما للتخفيف عن المنفيّ ليصبح قادرا على تحمّل مأساته والتعايش معها.

تبدأ المعاناة التي تطلعنا عليها الأمّ، بطلة الرواية، عبر الذاكرة، لتمتدّ كما تقول: "أربع عشرة سنة مرّت، هي عمر ابني وسيم، الذي جمع بين دموع الآن وقهقهة الزمان" (أمل، ص 19). استشعرت المأساة في بدايتها ولكنّها كما تقول: "لم أدرك في ذلك الوقت حجم المأساة التي ستواجهني أو التي أواجهها. يبدو أن الأيام التي تنتظرني ستكون شاقّة أكثر" (أمل، ص 17). ولكنّها لم تستسلم، ووطّنت نفسها على المواجهة، وأخذت تعدّ أسلحتها، "ولكنّني كنت عازمة على حماية وليدي المبتسم الذي انتظرته طويلا ... أجهّز نفسي وأعدّ الأسلحة كي أحارب حالة لم أسمع عنها من قبل، لكنّي عشتها بحذافيرها لحظة بلحظة" (م. ن.).

ورغم الاستعداد والمواجهة، تظلّ محنة خلود، أو محنة بطلة روايتها، هي محنة الإنسان الذي يقف عاجزا أمام المجهول الذي يرسمه القدر. يظهر عجزها واضحا في تساؤلها: "هل من عدل القدر أن أكون أمّا لا تسعد "بنغنغات" وتلعثم حروف مولودها" (أمل، ص 18). ولكنّها أصرّت على مواجهة قدرها بشجاعة، وهي تُدرك أنّها لن تهزمه، ولكن، لعلّها تخفّف شيئا من قسوته على ابنها وعليها.

وتستمر المأساة وسبل مواجهتها بما فيها من مشاعر إنسانية نبيلة، ومواقف لا تخلو من عتب على لامبالاة المجتمع بهموم الآخرين، إلى أن تجد خلود ملاذها الأخير، وخلاصها في الكتابة، تتصالح بها مع ذاتها، وتنقذ روحها بفعل إنساني نبيل، يستفزّ المجتمع يطمح إلى إنقاذ الآخر الذي يمرّ بتجربة مماثلة.

مواضيع أخرى تكشفها المأساة

تدرك الكاتبة أهميّة لفت نظر القارئ، وخاصة ذلك الذي يمرّ بمعاناة شبيهة بمعاناتها، إلى ما قد ينشأ من تطوّرات جانبية، وعلاقات سلبية أو إيجابية، تخلقها المأساة وتتأثّر بها سلبا أو أيجابا.

عالم الأطبّاء، كغيره، مليء بالجهلة والأذكياء، باللامبالين وبالمتماهين، بالحاذقين لمهنتهم أو السطحيين الذين يدّعون المعرفة. وبقدر هذا وذاك، يُؤثّر عملهم وطريقة سلوكهم على المريض ومرافقيه، فيساهمون بتخفيف المعاناة أو بتفاقمها. وهكذا هو الأمر في عالم الأقرباء والأصدقاء والناس عامة. ينعكس ذلك في أكثر من شخصية تقف من البطلة ووليدها، موقفا سلبيا لامباليا يدفع إلى الإحباط واليأس، أو موقفا إنسانيا نبيلا وداعما، يدفع إلى التفاؤل ويشحن صاحب المعاناة بطاقات يكتشفها في نفسه بسبب ذلك الموقف الإنساني النبيل.

وفي الرواية تظهر أيضا بعض المواضيع الاجتماعية وغيرها، لا أظن أنّ خلود أقحمت بعضها بشكل واعٍ، وإنّما تحت تأثير المعاناة، وإلّا لم تكن لتجعل لمولودتها الأولى ذلك الدور الثانوي الذي يظلمها به المجتمع الذكوري، عندما جعلت تجسيد الحلم (ص 15) مرتبطا بولادة ابن ذكر. وكأنّ زوجها لم يُصبح رجلا إلّا بعد أن صار اسمه "أبا وسيم"، كأنّ "أماني" مولودتهم الأولى لم تكن، أو تلاشت فور ولادة الذكر.

والحقيقة التي لا تشوبها شائبة في الحياة وفي الرواية، هو موقف خلود كما يظهر في روايتها. فهي بدافع إنسانيّ نبيل، تُشرك القارئ في خصوصيّات مأساتها، لا لتكسب تعاطفه فقط، ولكن، بوجه خاصّ لتخفّف عنه هول المأساة إذا عاشها، وبوجه عام لتضعه أمام حقيقة أهميّة مشاركته للآخر الذي يحتاج إلى دعمه عند اللزوم، وكم لهذا الدعم من نتائج إيجابية وإنسانية، على من يحتاجه وعلى من يُقدّمه أيضا.

الشكل الفنّي

من حيث الشكل الفنّي، من الصعب اعتبار "أمل في الظلام" رواية، ليس بمعيار عدد كلماتها فقط، ولا بمعيار وقت قراءتها القصير، فإنّ هذين يجعلانها بشكل واضح، قريبة أكثر من القصة القصيرة، وإنّما بوحدة الحدث والموقف أيضا، الذي تتميّز به القصة القصيرة، حيث تعرض الكاتبة حدثا واحدا تتوالد منه كل الأحداث الأخرى، وكذلك موقفا واحدا من قضية واحدة، لا تتغيّر مهما حاولت الكاتبة التنويع بهذا الموقف تبعا للأحداث الفرعية المرتبطة بالحدث المركزي أو القضية المركزية. القضية المركزية هي "مرض التوحّد" وما يترتّب عليه من معاناة يعيشها الإنسان ذو العلاقة المباشرة بمن يُعانيه. وأحد الأهداف الأساسية هو التوثيق الذي يُحوّل الرواية في بعض مراحلها إلى بحث علمي يعتمد على التعريف والفهم والاستنتاج، وإن كان بحثا تطغى عليه الذاتية والعواطف الإنسانية في معظم مراحله. فالكاتبة أحيانا، تُحدّد الزمن الفعلي للألم (أمل، ص 31-33)، وأحيانا تُعرّف "مرض التوحد" كمصطلح علمي حيث تقول: " التوحّد مرض منتشر بكثرة، وغير معترف به من كثيرين، وغير معروف لدى الكثيرين أيضا. هو مرض تصحبه أعراض كثيرة مثل الحركة الزائدة، حب الجلوس بعيدا عن الناس، الانزعاج من الصوت العالي والقدرة القليلة على فهم أبسط أمور الحياة، وعدم استيعاب اللغة، حتى لغة الأمّ" (أمل، ص 32). وأحيانا أخرى تفهم وتستنتج، "علمت الآن لماذا لا يتكلم وسيم، هو لا يفهم اللغة ولا يستوعب ما أقوله" (م. ن.). أو في مكان آخر، "أدركت كم هي الهوّة بين طريقتي وعملهم الفنّي" (أمل، ص 36)، أو "أمّا أسلوب عملهم الفنّي الذي أخذت أتعقّبه دون حراك، فكان نابعا من معرفتهم العميقة ... حيث كانوا على إدراك تام لخطوات الشفاء، بالمنطق العلمي" (م. ن.).

ولكنّها الرواية، ذلك الجنس الأدبي غير المنتهي، المنفتح على الآفاق، وعلى كافة الأجناس الأدبية الأخرى، وغير الأدبية كذلك، وعلى طرق البحث العلمي وغيره، فهي تتسع للجميع، هذا إلى جانب كون الرواية أصلا، بحثا عن الخير والقيم الإنسانية في العالم المنحطّ الذي نعيشه، وفي مستنقعات الحياة، وبحثا عن الخير والقيم الإنسانية قلّما يصدر عن همّ شخصي ليخدم الهمّ الشخصي ذاته، وإنّما ليخدم الهمّ العام والبشرية بأسرها.

وقبل ولوج النصّ من الناحية الفنية، جدير بالذكر أن الكاتبة دعمت نصّها بعتبات ميتاقصّية كثيرة، أعتقد أنّ الرواية على قصرها ومحدوديّة تطورها الفنّي، لا تحتمل هذا الكم الهائل من تلك العتبات. الرواية نفسها لها عنوانان: "أمل في الظلام" و"حكاية أم مع طفل التوحّد؟ هل كانت هناك حاجة لهذا العنوان الثاني المفسِّر؟ على الأقلّ، قصر الرواية ووضوحها ينفي ذلك! فنيّا، كان الأجدر بالكاتبة ترك المهمّة للقارئ، ولكنّ الهدف التوثيقي فرض نفسه على الكاتبة حتى في العنوان. بعد العنوان هناك إهداء يُفشي الكثير من أسرار الرواية. وبعد الإهداء هناك مقدمة للناشر اللبناني، "مؤسسة الرحاب الحديثة"، يبرز فيها قبل قراءة الرواية، تعاطفه مع الكاتبة كونها من عرب الداخل، وذلك وحده دافع كافٍ عنده لنشر الرواية للمحافظة على التواصل، وبعد القراءة، تعاطفه مع تلك الأمّ العربية الصابرة، القوية فكريا وروحيا قبل قوة الجسد كما يقول. وكل ذلك جميل، ولكنّي كنت أفضل لو أنّ تعاطفه مع الكاتبة خالطه شيء من الاهتمام بلغة الرواية وتصحيح بعض ما ورد فيها من أخطاء لغوية، لكان ذلك أجدى للرواية وكاتبتها.

بعد المقدمة هناك نصوص ممهّدة كثيرة، أولها قبل ولوج النصّ يتبعه مفتتح أو تمهيد غير معنون لولوج السرد. والنصوص الأخرى تفتتح كل فصل من فصول الرواية الكثيرة. كل ذلك أثار لديّ السؤال: هل تحتمل رواية بحجم قصة قصيرة كل هذا التقسيم إلى فصول وهذا الكم من النصوص الممهّدة؟ كان من الأجدى للرواية وكاتبتها لو أدرجت تلك النصوص في سياقات فصولها، لدعمت بذلك شعرية اللغة وفنيّة الرواية كلها.

 

السرد والسارد

ورغم ما تقدّم فأنّ الكاتبة حاولت أن تتوخّي بعض الفنية في سردها للأحداث. فقد اتخذت من مرض التوحّد ومعاناتها الشخصية حاملا للسرد. ولتضمن إقناع القارئ بصدق التجربة، اختارت للسرد صوتها المنفرد، بضمير الأنا، وبدون ذكر اسمها، ما يُحيل إلى الشيء ونقيضه: خصوصية المعاناة وعموميّتها معا، خصوصيّتها لأنّها تجربة الكاتبة أو بطلة روايتها، وعموميّتها، لأنّ الكاتبة تتوخّى منها الفائدة لمثيلاتها من بنات جنسها. وبالنظر إلى خصوصيّتها، يصبح ضربا من البديهة أنّ الراوي هو نفسه الكاتب، وأنّ الأنا المتكلّمة في الرواية هي ذاتها خلود خوري رزق. ولم نلحظ خلال مراحل السرد استعمال أيّ تقنية تنفي ذلك أو توهمنا بأنّ خلود تميل إلى نفي ذلك. وبشكل واضح أيضا، تُطلعنا على أنّها تنطلق في السرد من ذاكرتها الشخصية بعد أربعة عشر عاما من المعاناة، هي عمر ابنها وسيم كما سبق لي أن ذكرت.

وقد حاولت الكاتبة توظيف تيار الوعي الذي تحتاجه الرواية خاصة في التعبير عن معاناة البطلة التي كانت موازية لتطوّر مرض ابنها. ولكنّها إذا أحرزت بعض النجاح في توظيف تقنية الاسترجاع، فقد كان نجاحها أقلّ بكثير في توظيف الحوار الداخلي، المونولوج، الذي كانت تحتاجه للبوح والتعبير عمّا يعتمل في أعماق نفسها من حزن وألم فجّرته مأساة الطفل وتوهّج عاطفة الأمومة.

الشخصيات

تظهر في الرواية مجموعة كبيرة من الشخصيات تتفاوت أدوارها في خدمة الشخصية المركزية، بطلة الرواية التي لم تصرّح الكاتبة باسمها رغم كونها بؤرة السرد. وقد سبق لي أن ذكرت سبب عدم التصريح باسم البطلة. وباستثناء البطلة والطفل، الشخصيات الأخرى التي تظهر وتختفي، هي شخصيات ثانوية جاهزة قلّما تنجح في إدهاش القارئ. وهي تظهر من حيث الشكل تِباعا، تبعا لحاجة الكاتبة في تعميق معاناة البطلة أو التخفيف من حدّتها. ومن حيث المضمون لتدعم فكرة من أفكارها التي تجسّد موقفها الداعم أو المعارض للمواقف الإنسانية المختلفة التي تصطدم بها البطلة في مسيرتها.

البطلة، كامرأة شابة عاشت التجربة التي تنقلها الرواية، هي الشخصية الوحيدة التي تنجح بإدهاش القارئ بما تمرّ به من تحوّل وتتميّز به من إنكار للذات، وموقف إنساني مؤثّر ومبهر. يظهر ذلك في صبرها وقوتها وإصرارها على مواجهة واقعها الجديد، لا لتخفّف من معاناتها ومعاناة وليدها فقط، وإنّما لتخفّف من معاناة المجتمع عامة، ومعاناة كل من يمرّ بتجربة مماثلة لتجربتها.

اللغة

لغة الرواية كانت مباشرة غالبا، بعيدة عن الإيحاء، ولكنّها تفي بحاجات الرواية كرواية وثيقة رغم ما فيها من أخطاء لغوية كان من الممكن تفاديها. وللأسف، اللغة الإيحائية الشاعرية الجميلة، وظفتها الكاتبة خارج النص، في عتباته، تلك التي تسبق النصّ وتلك التي تتصدّر كل فصل من فصوله. تلك العتبات، أو النصوص الممهّدة، حبّذا لو ضمّتها الكاتبة إلى النص وأدرجتها في جسمه وفي سياقات ملائمة، لأعطت بذلك للنصّ ولغته دفعة فنيّة وجمالية كبيرة إلى الأمام، إذ مهما كانت عتبات النص جميلة وإيحائية، تظلّ خارج النص ولا تُشكّل جزءا منه، ولا تُؤثّر كثيرا على تماسك حبكته أو ضعفها، ولا يزيد دورها عن اختزال النص في إشارة سريعة إلى ما ينتظر القارئ فيه، أو تمهيدا يساعد على فهمه.

الإشارات التي توحي بواقعية الرواية، في اللغة وغيرها، كثيرة ولا حصر لها. ولكن، لفت نظري في الرواية ولغتها بشكل خاص، اسمان مأخوذان من اللغة العبرية، هما: "مفراتس" ومركز "ملمان". الأخير هو مركز لعلاج مرضى التوحّد، ولا أعتقد أنّ الكاتبة وظّفته لغير الإيحاء بواقعية الرواية. ولكنّ الأول، "مفراتس"، تلك المنطقة الصناعية في حيفا، التي لا يحظى فيها العمال العرب إلّا بالعمل الشاقّ الأسود، ذكرته الكاتبة لتعكس قسوة الواقع، والمرارة التي شعرت بها عند سماع ذلك الاسم يَرِد بشكل ساخر على لسان أحد الأطباء المتحذلقين الذين تُصوّرهم الكاتبة عبئا على المرضى وعلى المهنة، وذلك حين أنهى الطبيب تشخيصه للمرض بقوله عن "وسيم"، ابن البطلة: "مش ضروري يطلع دكتور متلي، بكفّي ينزل عَ "مفراتس" (منطقة صناعية) للعمل وهذا يكفي" (أمل، ص 24).

اتجهت لغة الرواية غالبا نحو السرد، وقلّما لجأت الكاتبة إلى الحوار، ما يدلّ على اغترابها عن واقعها وصعوبة تواصلها معه. والحوار القليل الذي اعتمدته الكاتبة، قد أجرته على ألسنة شخصياتها غالبا بلغة فصحى بسيطة مطعّمة أحيانا بعبارات عامية أو عامية مفصّحة لم تخلُ من التقعّر والتّرهل. ولكنّها أحسنت حين أجرت العبارة المذكورة أعلاه على لسان ذلك الطبيب المتحذلق، العالة على المهنة، أجرتها بلغة عامية لتسخر منه ولسان حالها يقول له: "أنت والله عبء على مهنة الطبّ، وكثير عليك العمل الأسود في تلك المنطقة السوداء.

* * * * *

وأخيرا، "أمل في الظلام" رواية حقّقت هدفها من الناحية التوثيقية، فقد استطاعت أن تُعرّف القارئ بمرض التوحّد المجهول للكثيرين. وقد نجحت في جعل القارئ يتعاطف ويندمج بالمعاناة التي عاشتها تلك الأمّ التي زعزع كيانها ذلك المرض، مرض وليدها، وقد كاد يُدمّرها ويُدمّر حياة أسرتها، لولا إيمان تلك الأمّ بدورها كأمّ، ذلك الدور الذي جعلها تُنكر ذاتها فخلق صبرها ودعم صمودها في المواجهة. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ الكاتبة أخطأت أهدافها الفنية كليّا، فقد أصابت بعضها بشكل مرضٍ أحيانا، وبشكل متواضع أحيانا اخرى. ولكن قليلا من التأنّي والاهتمام بالناحية الفنيّة كان من الممكن أن يقفز بالرواية قفزة نوعية لافتة.

وختاما، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ كتابة رواية، هي ليست بالسهولة التي يعتقدها البعض، وأنّ هذه الرواية هي التجربة الروائية الأولى للكاتبة، يُمكننا أن نرى في خلود خوري رزق، كاتبة واعدة، قد تستفيد من تجربتها هذه وتعمل مستقبلا على تطوير قدراتها وآليّاتها.

(كابول: 7/9/2015)

رُؤى ثقافيّة 178

تطرّقنا في المقال السابق إلى شهادة (هيرودوت) حول تاريخ الشرق الأوسط القديم.  ذلك التاريخ المتواتر المعروف، الذي لا إشارة فيه إلى ما يشي بشيءٍ ممّا زعمه (د. كمال الصليبي) من تاريخ (بني إسرائيل) في الجزيرة العربيَّة.  ومن نحو ذلك نجد لدى من تلاه من المؤرِّخين، كـ(سترابو، -24م)(1)، الذي يشير إلى قيام (أورشليم) في (فلسطين)، وإلى أنها "مدينة اليهود The metropolis of the Judaeans". وكذا لا نُلفي أيَّ لمحةٍ لدى (كلاديوس ألينيوس Claudius Aelianus، -235م)(2)، في كتاب "تاريخه المتنوِّع" من ذلك التاريخ المبتكر الذي أُلهِم به الصليبي على غفلةٍ من التاريخ! فكيف لم يتفجَّر هذا العِلْم اللدُنِّيّ الجديد بتاريخ العرب المقلوب إلّا في نهايات القرن العشرين؟ أم لعلَّ هؤلاء المؤرِّخين تآمروا مع (آل شريم) في (النماص) لإخفاء الحقائق؟!

على أن الصليبي حين يصل إلى هيرودوت سيفسِّر لنا الأمر بأن تدمير الملك البابلي (بختنصّر) مملكة (يهوذا)، في (عسير) وغرب الجزيرة، خلال القرن السادس قبل الميلاد، قد قضى على كلّ شيء. أمَّا وجود إشارات إلى اليهود في (فلسطين)، فإنما هو إلى مملكة بديلة قويَّة أقيمت هناك من قِبَل المهاجرين من الجزيرة إلى (الشام).(3) لكن لماذا يقيمون دولتهم البديلة هناك؟ أما كانت ديارهم في عسير أَولَى بهم، وآمَن لهم، وأجدر أن يعودوا إليها، لا أن يُلقوا بأنفسهم إلى التهلُكة، بين أيدي أعدائهم؛ فيكونوا بين كمّاشتَي مَلِك (مِصْر) من جانب ومَلِكَي (بابل) و(فارس) من جانب؟ إنه الغباء بعينه! فلو كانت افتراضات الصليبي معقولة، لما كان من الحكمة مطلقًا- لا بالقياس إلى إرث (سليمان الحكيم) ولا حتى بالقياس إلى إرث (هبنّقة) الحكيم- أن يؤسِّسوا مملكتهم في فلسطين، في أحضان أعدائهم! بل أن يعودوا إلى دِيَرَتهم في عسير، أرض الآباء والأجداد، والنبوَّات والأنبياء والرسل، أرض الميعاد وأورشليم المقدَّسة.

 كما أن المؤرِّخ اليهودي (يوسيفُس، -100م) لم يشِر، لا من قريب ولا من بعيد، إلى مزاعم الصليبي حول تاريخ بني قومه من بني إسرائيل في جزيرة العرب، وإنما كان يتحدَّث عن تاريخهم في فلسطين. فما منعه من ذلك؟! إن الصليبي حين يرتطم بمثل هذا يُصِرّ على القول إن يوسيفُس كان يعرف معرفةً تامَّةً أن أرض بني إسرائيل الأصليَّة في مكانٍ آخر، لكنه يكتم عِلْمه. وكذا غيره من علماء اليهود كانوا يفعلون.(4) غير أنه لا يخبرنا عن سِرّ هذا الكتمان الذي لم يبُح به للعالم إلّا الصليبي نفسه؟!

ولنأت إلى مؤرِّخ آخر ذي مرجعيَّةٍ يهوديَّةٍ، وهو يمانيٌّ أيضًا.  وما نحسب أن مثله كان سيفوته ولو طَرَفٌ من ذلك التاريخ الطويل جدًّا لبني إسرائيل، الذي زعمه الصليبي في جزيرة العرب. إنه (وهب بن مُنَبِّه)، صاحب كتاب "التِّيجان". فلقد ظلّ ابن مُنَبِّه، بخلاف مزاعم الصليبي، يشير إلى أن مسارح الأحداث، على عهد (داوود) و(سليمان)، كان مركزها (الشام) و(العراق). كما يشير إلى غزوات كانت لبني إسرائيل تُشَنّ من بلاد الشام على الجزيرة العربيَّة، وعلى مَكَّة تحديدًا، مستلئمين بأنصارهم من (الرُّوم).  ويشير إلى مناوشات بينهم وبين عرب مَكَّة و(الحجاز) عمومًا، من (الجرهميِّين) و(العماليق).  كلّ ذلك وبنو إسرائيل قاطنون في بلاد الشام لا في جزيرة العرب، فضلًا عن أن يكونوا في جنوب جزيرة العرب وغربها. ذاكرًا أن بيت المقدس (أورشليم) هو في مكانه المعروف تاريخيًّا، وكان موطن قداستهم الأَوَّل منذ القِدَم، لا في أيّ مكانٍ آخر.(5) 

فكيف يُتصوّر غياب ذلك العِلْم "الصليبي" المستحدث عن المؤرخ اليهودي الأصل ديانةً، العربي اليماني الأصل عِرقًا، وهب بن مُنَبِّه؟! هذا على الرغم من أن الصليبي، كما رأينا من قبل، حين استشهد ببعض كلام وهب بن مُنَبِّه قد عمل على اقتصاص ما في سياق كلامه من إشارات صريحة إلى أن موطن بني إسرائيل كان في بلاد الشام منذ كانوا، وأن علاقاتهم بالجزيرة إنما كانت علاقات غزوٍ أو تجارة.(6) وذلك، للأسف، هو نهج الصليبي- الذي وقفنا عليه سابقًا- مع ما لا يُعجبه من النصوص، وإن اضطُرَّ إلى الاستشهاد به. وذلك الذي جاء عن وهب بن مُنَبِّه هو المتواتر على مدى التاريخ، العربي وغير العربي. وهو ما يشير إليه (الهمداني) في كتابه "صفة جزيرة العرب"(7)، نقلًا عمَّا "أتى عن بطليموس القلوذي في طبائع أهل العمران من الأرض على التبعيض والتجزئة"، قائلًا:

"وأما سائر أجزاء هذا الربع الذي يلي وسط جميع الأرض المسكونة وما يقع في جزيرة العرب منها مثل إيدوما وأرض سورية وأرض فلسطين وبلاد اليهود العتيقة من إيليا، وتسمى بالعِبرانيَّة يرشلم، وتعربها العرب فتقول أُوراشلم، وبلاد الأعراب الخصيبة، يريد فلاة العَرَب من نجد والحجاز والعَروض وبلاد فونِيقا، يريد اليَمَن، وما والى هذه البلدان، فإنه يَقبل أيضًا مشاكل المثلث المنسوب إلى ناحية الشمال والدبور وهو مثلث الحمل والأسد والرامي، الذي يدبره المشتري والمرِّيخ وعطارد أيضًا. ولذلك صار أهل هذه البلدان أكثر تقلّبًا في التجارة من غيرهم، أصحاب معاملات وأصحاب مكرٍ وغشٍّ، متهاونين للأموال، للسخاء الذي فيهم، ومعهم رجاحة عقل وذكاء وتدبير في الأخذ والعطاء، ويحبُّون أنفسهم. وهم بالجملة ذوو وجهين ولسانين لأجل مشاكلتهم لهذه الكواكب، فمن كان منهم في بلاد سوريَّة، وهي أرض بني إسرائيل، وبلاد إيدوما، وبلاد اليهود العتيقة، فهم يشاكلون الحمل والمرِّيخ خاصّة؛ ولذلك صار هؤلاء متهوّرين، لا يعرفون الله عزّ وجلّ حقَّ معرفته."

هذا، ونؤكِّد- كما يقول كاتب هذا المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي- ما سبق الإلماع إليه من أن الإشكال الجوهري في محاولة الصليبي، وسابقيه ولاحقيه من الباحثين عن الأماكن الواردة في التوراة، أنهم لا يلتفتون إلى طبيعة النصّ التوراتي نفسه. ذلك أنهم، أوَّلًا، يسلِّمون بأن الكتاب سليم من التحريف والخلط، ويسلِّمون، ثانيًا، أنه مصدرٌ تاريخيٌّ وجغرافيٌّ، ووثيقةٌ لا تنطق إلّا بالحقائق والمعلومات الزمانيَّة والمكانيَّة. فيما نحن لا نسلِّم بتلكما المسلَّمتين كلتيهما؛ فلقد اعتورتْ الكتابَ الأيدي والتغييراتُ والتبديلاتُ والتلفيقات. وهو، إلى ذلك، غاصٌّ بالأساطير المجتلبة من هنا وهناك. وهو نفسه ذو أسلوبٍ أُسطوريٍّ وبناءٍ شاعريٍّ. بل هو في بعض أجزائه شِعرٌ أُسطوريٌّ خالصٌ، كما في "نشيد الأنشاد"، وأضرابه. والشِّعر لغة الخيال والمجاز والتصوير، لا لغة الإخبار وسرد الحقائق التاريخيَّة والجغرافيَّة. فإذا أُضيفت الأُسطورة إلى طبيعة الشِّعر، صرنا إزاء نصٍّ ملتبسٍ أشدّ الالتباس، وصرنا إزاء نصٍّ لا يصحّ أن يُؤخذ مأخذ الحقائق المسلَّمة، ولا المعلومات التحقيقيَّة. وعلاقة المؤرِّخ بنصوص كهذه هي- عادةً- علاقةٌ في غاية السذاجة؛ تنطلق من ذهنيَّةٍ لا تفقه طبيعة النصِّ الذي تتعامل معه أصلًا؛ فقد ألِفت التعامل مع وثائق نثريَّة، إخباريَّة وتقريريَّة، لا تخييليَّة ولا شِعريَّة ولا أُسطوريَّة؛ حين تقول إن الحدث وقع في مكان كذا، فهو قد وقع هناك، ولم يبق إلَّا أن نحفر لنتقصَّى الحقائق آثاريًّا. وذلك هو الضلال المبين. من حيث إن القصيدة الشِّعريَّة، وما في حُكمها، وما في شِبه حُكمها، لا تُصبح مصدرًا تاريخيًّا إلَّا حين تُقرأ قراءةً نقديَّةً تأويليَّةً من متخصِّص في النقد الأدبي. وهي، حتى بعد تلك القراءة، لا تمنحنا الحقيقة التاريخيَّة أكيدةً، وعلى طبقٍ من احتمالٍ وحيد. ومن ثَمَّ فإنها لا تصلح وثيقةً تاريخيَّةً إلَّا على سبيل الاستئناس، الذي، ما لم تدعمه شواهد آثاريَّة ملموسة، بقيَ خيالًا أدبيًّا، يقول ما لا يفعل، ويهيم في كلِّ وادٍ، فيتبعه الغاوون من المؤرِّخين! ونحسب أن التوراة، بملاحمها وأناشيدها وقصصها وأساطيرها، من هذا الضرب الإشكالي من النصوص. وكما كان يخطئ البلدانيُّون العرب في الاعتماد على الشِّعر في تتبَّع الأماكن، يخطئ من يسعى من وراء التوراة إلى تعيين الأماكن التي تَرِد فيها على وجه اليقين.

إن الشاعر- ومن تقمَّص صنعته- كذّابٌ فنِّيٌّ، حرفته الكذب. فلقد يذكر في بيت واحد اسمَي مكانَين أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، لا للإخبار عنهما، ولكن بوصفهما رمزَين، أو لأنهما موحيان بظِلالٍ دلاليَّة تعتلج في نفسه. وقد لا يعرفهما، ولا يدري أين يقعان بالضرورة.(8) تلك طبيعة الشِّعر الخاصَّة، وما شاكله من النصوص. وكذا الطبيعة النصوصيَّة في "نشيد الأنشاد"، أو ملاحم داوود، وأساطير بني إسرائيل، ونحوها ممَّا أَجْهَد الباحثين في معرفة بيئاته؛ لأنهم يحرثون في بحور الشِّعريَّة وسراب الخيال. لم يهتدوا إلى شيء، ولن يهتدوا؛ من حيث جهلوا الفارق النوعي بين الطبيعة الشِّعريَّة وغيرها من طبائع النصوص. أضف إلى هذا أن القَصَّاص القديم، أو الإخباري، أو الراوي- وإنْ لم تكن طبيعة نصوصه شِعريَّة- لم يكن بذلك الجغرافي الدقيق، ولا المؤرِّخ الحاذق. فالاضطراب في تحديد المواضع والجهات والأسماء واردٌ عليه جدًّا. وما أكثر نماذج هذا في تراثنا العربي، على سبيل الشاهد. لأن أحدهم إنما يأتينا ناقلًا، لا عالمًا بحقائق ما يقول، ولا باحثًا ميدانيًّا. هذا مع ضحالة المعرفة، وضآلة القُدرات التوثُّقيَّة في تلك الأزمان. فيقع الخلط والوهم، ويظهر ازدواج الحقيقي بالخيالي أو الخرافي. فكيف إذا كان النصّ فوق ذلك كلّه قد صار مأثورًا شعبيًّا، لعبت فيه عشرات الأيدي والأقلام والرؤوس؟!

_____________________________________________

(1) See: Strabo, (1967), THE GEOGRAPHY OF STRABO, (v. 7), With an English Translation By: Horace Leonard Jones, (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press- London: William Heinemann LTD), 16: 2: 28.

(2) See: Aelian, Claudius, (1970), Various History, Rendered into English by: Thomas Stanley (London: Thomas Basset).

(3) انظر: الفصل المعنون بـ"النقلة إلى فلسطين"، من كتابه ((1999)، البحث عن يسوع: قراءة جديدة في الإنجيل، (عمّان: دار الشروق)، 33- 00). 

(4) انظر: م.ن، 39.

(5) انظر: (1347هـ)، التِّيجان، (حيدر آباد الدكن- الهند: دائرة المعارف العثمانيَّة)، 178- 000. 

(6) راجع كلامنا حول ذلك في مقالاتنا السابقة.

(7) (1974)، صِفَة جزيرة العرب، تحقيق: محمَّد بن علي الأكوع الحوالي (الرِّياض: دار اليمامة)، 43- 44.

(8)  من شواهد ذلك ما أورده (الأصفهاني، (2008)، الأغاني، تحقيق: إحسان عبّاس وإبراهيم السعافين وبكر عباس (بيروت: دار صادر)، 18: 130- 131)، عن الشاعر (ابن مناذر)، الذي قال: "قلتُ: "يَقدَحُ الدَّهرُ في شماريخِ رَضْوَى"، ثم مكثتُ حَوْلًا لا أدري بِمَ أُتَمِّمُه، فسمعتُ قائلًا يقول: هبُّود، قلت: وما هبُّود؟ فقال لي: جُبَيْل في بلادنا، فقلت: "ويَحُطُّ الصُّخورَ من هَبُّودِ". قال إسحاق: وسمع أعرابيٌّ هذا البيت، فقال: ما أجهل قائله بهَبُّود! والله إنها لأُكيمة ما توارى الخارئ، فكيف يحُطّ منها الصخور؟!"  وقال له آخر: قلتُ له: "هَبُّود، أي شيء هو؟ فقال: جبل، فقلتُ: سَخِنت عينُك، هَبُّود، والله، بئر باليمامة ماؤها مِلْح لا يَشرب منه شيءٌ خلقَه الله، وقد والله خريتُ فيها مرّات! فلمَّا كان بعد مُدَّة وقفتُ عليه في مسجد البصرة وهو ينشدها، فلمَّا بلغ هذا البيتَ، أنشدها: "ويحُطُّ الصُّخورَ من عَبُّودِ". فقلتُ له: عَبُّود، أيُّ شيءٍ هو ذا؟ فقال: جبل بالشَّام، فلعلَّك، يا ابن [الفاعلة]، خريتَ عليه أيضًا؟!  فضحكتُ، ثمَّ قلتُ: لا ما خريتُ عليه ولا رأيتُه، وانصرفتُ عنه وأنا أضحك." وممّن نبَّه إلى هذه الظاهرة (ابن رشيق، (1955)، العُمدة في صناعة الشِّعر ونقده، تحقيق: محمَّد محيي الدِّين عبد الحميد (مصر: مطبعة السعادة)، 2: 121- 122)، قائلًا: إن "للشُّعراء أسماء تَخِفُّ على ألسنتهم وتَحْلُو في أفواههم، فهُم كثيرًا ما يأتون بها زُورًا".

................................

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «العابثون بالتاريخ!: (13- شهادة سترابو، وألينيوس، ويوسيفُس، وابن مُنَبِّه)»، المصدر: صحيفة "الرأي" الكويتية، الثلاثاء 29 سبتمبر 2015، ص24].

انعدام الكرامة الإنسانيّة في مملكة الرّئيس

clip_image001_9a0c5.jpg

- العنوان العلامة: " مملكة الرّئيس".

يقودنا عنوان المجموعة القصصيّة ( مملكة الرّئيس) إلى تلمّس مكنون النّصوص قبل الولوج فيها. وتتجلّى في العنوان معان يترجمها الواقع المؤلم الممتدّ من عقود بعيدة إلى عقود آتية،  نحياها في ظلّ ممالك ابتناها رؤساؤها وفصلوا أنفسهم عن شعوبهم، بل جعلوا منهم عبيداً لملوكيّتهم. أراد الكاتب ( مملكة الرّئيس) نموذجاً لكلّ نظام نصّب نفسه إلهاً على شعبه مطالباً إيّاه بالسّجود له وتقديم فروض الطّاعة، ضارباً بعرض الحائط كرامته الإنسانيّة.

1) الرّئيس الإله:

خمس قصص يفتتح بها الكاتب المجموعة القصصيّة تعبّر عن قدرة الرّئيس على بسط تسلّطه الشّامل على حياة النّاس. فيستعيد ماضيهم ويبحث فيه عن أيّة هفوة مسّت بشخصه. كما يتحكّم بحاضرهم ويقتل البهجة في نفوسهم ويحرمهم من أبسط حقوقهم،  ويسيطر على مستقبلهم بقمع حرّيتهم الفكريّة ومصادرة آرائهم والاستحواذ على حياتهم.  كما نقرأ في هذه الافتتاحيّة التباساً بين المعنى الحقيقي للألوهية وبين مفهوم الرؤساء لها، ونتبيّن أنّ الرّئيس المنزّه يستبعد الله ولعلّه يعتبره عدوّاً له.

للرّئيس حاشية في مملكته، تحافظ على أمنه الشّخصيّ وتتّخذه إلهاً لها. تلك الحاشية البائسة تشكّل عينيّ الرّئيس، تراقب تحرّكات النّاس وتترصّد آراءهم ملتزمة بتنفيذ شريعته، ومستعدّة دائماً للدّفاع عنها بشراسة، حتّى لو اقتضى الأمر انتزاع حياتهم. وبما أنّ هذه الحاشية عابدة لرئيسها فلا تختلف سلوكيّاتها عن سلوكيّاته. وتسمح لنفسها أن تنتهك حرمات البيوت وتغتصب أجساد وكرامات النّاس.

أظهر الكاتب إبداعاً خاصّاً في تعبيرات لخّصت فكره الشّخصيّ وملاحظاته على آداء الرّئيس الإله في مملكته:

- ( لقد دعت ربّها أن يجلب الموت للرّئيس وعائلته).(1)   

تشير هذه الجملة إلى جسارة كبيرة في سلوك الرّئيس إذ يعتبر أنّ ربّ السّيدة المطلوبة للاعتقال مغاير لربّه بل لشخصه. وبالتّالي تخلق كلمة ( ربّها) صدمة لدى القارئ إذ إنّها تبيّن له القطيعة بين الرّئيس في مملكته وبين الله. وكأنّي بالكاتب يريد القول أنّ الرّئيس لا يعبد الله أو لا يعتبره القدير المترفّع عن الفعل الإنسانيّ السّيّء، وإنّما ينزل الله إلى مستوى صورته الشّخصية معتبراً أنّه يحاربه من خلال المؤمنين به.

تقابل هذه الجملة شبيهة لها: ( يا حقير هذا ربّك الأعلى ، يجب أن تقدّسه!) (2). تعيدنا هذه الجملة إلى صورة الحاكم الإله في تاريخ الشّرق: ( في الأصل كان الحاكم يعدّ من طبيعة إلهيّة، فهو لم يكن مختاراً من الإله بل كان الله نفسه. وقد قامت الحضارات القديمة عموماً في مصر، وفي فارس، وفي الهند، وفي الصّين على أساس هذه النّظريّة، وكان الملوك والأباطرة يُنظر إليهم باعتبارهم آلهة.) (3). وكأنّي بالكاتب يؤكّد على أنّ هذه الفكرة ما زالت راسخة في ذهن من يعتلون سدّة السّلطة.

-  ( هل تسمعني يا سيّدي؟) (4)

تتكرّر هذه العبارة ثلاث مرّات حتّى يُهيّأ لنا ونحن نقرأ  ( أنياب ومخالب) (4)، أنّنا أمام صنم  غير مبالٍ بأوجاع سيّدة انفطر قلبها على أخيها المسجون في مملكة الرّئيس. تشكو ألمها يوميّاً بسبب الظّلم الّذي ألحقه الرّئيس وحاشيته بأخيها وبها. لا بدّ أنّ الكاتب يريد من خلال هذه القصّة تسليط الضّوء على أمرين: الأوّل، قتل الأمل والحلم ماديّاً ومعنويّاً. فالسّجن الّذي نشهده في هذه القصّة لا يشكّل عقاباً على مخالفة قانونيّة، وإنّما  يدلّ على قمع الحرّيّة وتعطيل الرّأي وتدمير الطّاقة الإنسانيّة الخيّرة. والثّاني، اعتبار الإنسان مجرّد سلعة وملكيّة خاصّة يمكن التّصرّف بها بشتى أنواع القبح والإهانة، إمّا بهدف إرضاء الغريزة الحيوانيّة وإمّا بهدف السّيطرة القمعيّة. فالبشر لا كرامة لهم في مملكة الرّئيس ولا قيمة لإنسانيّتهم.

- سيّد الفساد. (5)

لعلّ ( سيّد الفساد) من أروع المشاهد في هذه المجموعة.

يضعنا الكاتب أمام مشهدين متناقضين تماماً:  فروض الصّلاة مقابل سلوكيّات سيّد الفساد.

يفترض التّقدّم للصّلاة نقاء ذهنيّاً وروحيّاً واتّضاعاً تترجمه أفعال إنسانيّة في الواقع. وأمّا هنا فنحن بصدد مراءٍ يصلّي مقابل أن يأخذ أجره من النّاس، أي ليظهر بمظهر التقيّ والمؤمن في حين أنّه يمارس شتّى أنواع الفساد. فبعد كلّ فرض وعلى امتداد النّهار، يهتمّ " سيّد الفساد" بجني الأرباح من صفقات غير مشروعة،  وبالتّلذّذ بتعذيب المساجين من معارضيه، ثمّ التّوجّه إلى الحانات لينقض كلّ وصيّة إلهيّة. فيشرب الخمر ويلهو بألعاب المراهنات، ليخلص إلى قضاء اللّيل في زنى يشرّعه لنفسه.  

قوّة هذا المشهد تكمن في أنّ الكاتب استطاع أن يجسّد الفساد شخصاً. فأخرج من هذه الشّخصيّة كلّ القبح والسّوء، فما عدنا نرى ملامح إنسان بل فساداً بهيأة إنسان، أو بمعنى أصح، جثّة بشريّة  تتنفّس فساداً.

2) مقاربة نفسيّة لصاحب السّلطة.

أجاد الكاتب في ( حواريّة لصاحب السّلطة مع المرآة) (6)  إبراز المسلكيّة النّفسيّة لصاحب السّلطة، مبيّناً مواطن ضعفه واضطراباته النّفسيّة وذلك بتسليط الضّوء على جوانب شخصيّته المتسلّطة.  وتمتدّ هذه المقاربة لتُظهر واقع " مملكة الرّئيس" الغارق في شتّى أنواع البؤس الإنسانيّ، نتيجة انحرافات هذه الشّخصيّة.

تجسّد المرآة في هذا النّص ما يسمّى باعتراض الضّمير، فيصوّر لنا الكاتب  صاحب السّلطة يحاول السّيطرة عليها ويأمرها بإخراج صورته الجميلة: ( أنا صاحب السّلطة، آمرك بصورة تعكس قوّتي ووسامتي). وإن دلّ هذا الأمر على شيء، فهو يدلّ على إدراك صاحب السّلطة لبشاعته من جهة، ومن جهة أخرى، مواجهته لهذه البشاعة تجعله مضطرباً ما يدفعه لتحطيم هذه الصّورة.

- ( لا سلطان لك عليّ)

اعتراض        الضّمير لا يخضع لنزوات الإنسان، ويتجلّى في كشف ذاتيّته بوضوح تامّ فيظهر صورة الإنسان الحقيقيّة. بيد أنّه لا يعيد السّلوك الإنساني إلى حالته الأصليّة السّليمة إلّا بقرار من الإنسان نفسه.

- ( أنا صانع الوقائع والمصائر، صاحب السّلطة الحاكم، ولي يذعن حتّى الجماد والنّبات .. وما أنتِ إلّا كائن حقير أستطيع تهشيمه بقبضتي.)

قوّة صاحب السّلطة تكمن في صورته البشعة. بمعنى آخر، يعتبر صاحب السّلطة قدرته على الاستبداد والتّسلّط والتّرهيب حصناً منيعاً وقيمة عظمى له. وأيّة حركة لإعادة النّظر في هذه القيمة يرهبه، لأنّه يخشى على فقدان سلطته وهيمنته، فإن فقدهما فقد قيمته الذّاتيّة.

3) اعرف عدوّك:

في ( مملكة الرّئيس) (2) يغيب عن ذهن القارئ للحظة عدوّه الحقيقيّ، ويُخيّل إليه أنّه مشتّت بين أعداء كثر. وقد يقتنع بأنّ أعداءه الدّاخليين متواطؤون مع العدّو الحقيقيّ وينفّذون هجماته بانتظام. وقد يلتبس لديه مفهوم الوطن، فيتحوّل إلى مفهوم المملكة المقتنى الخاص للرّئيس بل دولة بوليسيّة ربّها الأعلى الرّئيس، وعلى المنتمي إليها السّجود وتقديم كلّ فروض الطّاعة والولاء. في هذه المملكة المفترضة وطناً في الأصل، يخضع المواطن للتّفتيش والاحتقار وشتّى أنواع العنف الجسدي والمعنوي لمجرّد أنّه خالف وصيّة واحدة، ألا وهي الاعتناء بصورة الرّئيس! فتتولّى الحاشية الدّفاع بشراسة عن الرّئيس الإله. يؤكّد الكاتب هذا الواقع بمشهد مميّز ولافت: ( في هذه الأثناء دوّى الصّوت. الصّوت الهادر الّذي يغطي جميع الأصوات .. صوت طائرات العدو وهي تجوب أجواء البلاد في إحدى طلعات التّحدي الرّوتينية.). معبّرة جدّاً هذه الصّورة الّتي ينقلها لنا الكاتب، المنبعثة من عمق واقعنا المذري والمخزي والمتخبّط بين العدو المتربّص لنا وبين الرّئيس العدو.

4) أوّل الحرّيّة والكرامة:

لا بدّ أنّ الكاتب أراد استعادة الأمل من ثورات ما سمّي بالرّبيع العربي، واصفاً المشهد كنور ينكشف أمام الظّلم والقهر والاستعباد ويفاجئ الرّئيس في ظلمته الدّامسة. فسحة من الحرّيّة والكرامة حملت في ظاهرها أملاً جديداً للشّعوب المقهورة للانعتاق من مملكة الرّئيس. إلّا أنّنا سنرى لاحقاً أنّ المضمون اختلف كثيراً عن الظّاهر وحوّل مسار الثّورات إلى جحيم من نوع آخر يحوي إمارات جديدة لا تقل وحشيّة عن " مملكة الرّئيس".

لكنّ الأهم أن واقع الثّورات أظهر شرخاً في النّفس الإنسانيّة، سواء أكان هذا الشّرخ في المواطن نفسه أو في الجندي الموكل إليه الدّفاع عن الوطن أو في الجماعات المأخوذة بالدّفاع عن العقيدة... فوجد المواطن نفسه في مواجهة مع أهله وإخوانه وأهل بلده.

تطفو على سطح هذه الثّورات غرائز دفينة تطلق العنان للنّعرات الطّائفيّة والمذهبيّة. ولقد فجّرت هذه الثّورات كبتاً تمرّس في الإنسان فحلّت الفوضى، واستبيح القتل، وتفرّقت العائلة، وازداد القهر والظّلم. وانتُزعت البراءة من الطّفولة وتحوّلت إلى وحش ينمو في ظلّ حرّيّة زائفة. (  ما معنى الحرية لطفل مقتولة طفولته سلفاً في عالم ليس له؟)(7)

لقد بدّلت هذه الثّورات ملامح الوطن والمواطن، ولعلّها غرّبته عن نفسه وعن وطنه وهو ما زال يحيا فيه.  ( لا أ أريد الحرب ... أنا لست أنا ... لست أنا ... أنا، هل حقاً أنا هذا الّذي في المرآة! من أنا؟ من أنا؟ وانفجر في بكاء مرير.)(8) .

هل ما نحن بصدده ثورة أم حرب ضارية؟ هل هي مسيرة نحو التّحرّر من العبوديّة أم نزف جراح لا تندمل؟ استيقاظ العقل في الإنسان واستعداده للاستنارة في سبيل التّقدّم أم عودة إلى عصور مظلمة يُسلَك فيها بردّات فعل غرائزية؟ تحقيق مفهوم المواطنيّة وبناء الوطن أم صراع قبائل على النّفوذ والسّلطة؟ أليس من نهاية لمملكة الرّئيس أم أنّ خلودها حتميّ؟. وتطول لائحة التّساؤلات، وقد يزداد الاضطراب لفقدان عنصر الإجابة الواضحة.

الجدير بالذّكر أن الكاتب أحسن في مخاطبة عقل القارئ راسماً له الواقع  كما هو، داعياً إيّاه بشكل غير مباشر  إلى التأمّل بما آلت إليه أوضاعه. ولا شكّ أنّ هذه المجموعة القصصيّة رؤية فكريّة تسلّط الضّوء على الواقع وتبرز ثغراته، وتقود القارئ لاستعادة المفاهيم الأصيلة للحرّيّة والكرامة. ( إنّ كسب الإنسان لحرّيّته لا يمرّ عبر تدمير طبائعه، وإن حدث هذا في لحظة من التّاريخ فإنّ تاريخاّ طويلاّ من الخراب سيعمّ) (7) .

----------------

(1)  إلى الأبد- ص 5

(2) مملكة الرّئيسص 33

(3) الطّاغية- دراسة فلسفيّة لصور من الاستبداد السّياسي- تأليف أ.د. إمام عبد الفتّاح إمام- ص 23

(4) أنياب ومخالب- ص 15

(5) سيّد الفساد- ص 29

(6) حواريّة لصاحب السّلطة مع المرآة – ص 31

(7) عدسة الكاميرا والطّفل- ص 82

(8) البياض- ص 85

الأطياف الأربعة

د . مصطفى محمد أبوطاحون

تأليف : الإحوة حميدة ، أمينة ، محمد ، سيد قطب .

تقديم : المستشار عبدالله العقيل .

الناشر : مركز الإعلام العربي ، ط1 ، 2015م .

عدد الصفحات : 240 صفحة .

في طبعة ثانية أنيقة جداً ، صدرت " الأطياف الأربعة " عن مركز الإعلام العربي ، وكانت الأولى قد نشرتها لجنة النشر للجامعيين .

والأطياف الأربعة بشيءٍ من التجوز ، هي مجموعة قصصية لإخوة أشقاء أربعة هم :

حميدة وأمينة ومحمد وسيد قطب ، وجميعهم اشتهر بحسن بلائه وصبره وجهاده وتضحيته من أجل هذا الدين ، رحمهم الله أجمعين . وفي الأطياف انطباعات شخصية ، وشيء من سيرة ذاتية ... وقصص أدبية ، ومواقف فكرية ، إن الأطياف قد أزعجها الفقد " فقد الأم بعد الأب " ... فتألم لذلك ... الوجدان ، وانفعلت أرواحهم للحرمان ، ويصح أن يقال عنهم ، إنهم : " أناس حاولوا أن يقتنصوا الأزمنة ، والأمكنة في رمز ؛ في نص ، في كلمة ، في كيان مشحون بالحياة الصادقة التي تتجاوز الصمت ، والحصار الاجتماعي ، وتنطلق بقوة الأرواح كاتبة تاريخها الخاص " .

وقد تصدرت الطبعة مقدمة رصينة بقلم المستشار عبدالله العقيل هي من أهم ما يميز ـ كمثيلاتها من المقدمات ـ طبعة جديدة لإبداع أدبي أصيل ، بَعُدَ به الزمنُ عن المتلقي .

وقد استغرقت المقدمة أكثر من ثلاثين صفحة ، ما بين (9 ، 41) عرض فيها العقيل ابتداء للقبائل والأسرات الأدبية عبر تاريخ العربية قديماً وحديثاً ، أما قديماً ، فكما في طيءِّ وهُذَيل ، وكما في أسرة جرير الشاعر الأموي . وأما حديثاً فقد اشتهرت الأسرات : التيمورية ، والبستانية ، والأباظية ، والرافعية ، بالاشتغال بالأدب .

وفي إشارة إلى خصوصية التأليف الأدبي المشترك لإخوة أشقاء ، أشار إلى الخاليّين ، أبي بكر محمد بن هشام ، وأخيه : ابي عثمان سعيد اللذين اشتركا معاً في تصنيف :

الأشباه والنظائر ، وأخبار أبي تمام ومحاسن شعره ، وأخبار المفضل وغيرها .

ثم عرض للأطياف الأربعة تحت عنوانات فرعية هي على التوالي :

ـ الأطياف الأربعة ... إخوة النسب والأدب .

ـ الأطياف الأربعة والحب العذري .

وكشف في دلالة على عمق القراءة ، واستيعابها وواقعيتها وإنصافها على خصوصية كل طيف ، تحت عنوانات دالة ، هي على التوالي :

حميدة ... الطيف المغترب

أمينة ... لغة الحنين

محمد ... فيلسوف الأطياف

سيد ... الطيف الشاعري

وانتهى المستشار العقيل في تقديمه للأطياف إلى أن " الأطياف ... روح مشتركة وأربعة أقلام " فهي مجموعة إبداعية .. لئن أبدعها مختلفون ، فقد جمعتها سماتٌ مشتركة كثيرة ، عدد منها المستشار خمسة هي :

1 ـ الذكريات المشتركة ، وخاصة ما يتصل منها بالطفولة والأم .

2 ـ العفة ، وهي سمة الجميع ، ذُكرناً وإناثاً حال الحديث عن الآخر .

3 ـ الرومانسية المُحببة ، ومن ملامحها ، الاغتراب والقلق ، والانشغال بالموت ، والفزع منه .

4 ـ الوفاء .

5 ـ براعة الوصف .

وختم تقديمه بقوله : " إن الأطياف نص أدبي إسلامي بديع ، يغلب عليه الطابع القصصي ، وفيه ما يتصل بأدب السيرة الذاتية وأدب الخاطرة ، والأطياف أدب في مجمل حديثه عن الحب عذريٌّ رومانسيٌّ أصيل " .

وتبدأ الأطياف " بتعريف " أظن سيداً كاتبه ، وأظنه اختار " تعريف " دون مقدمة أو تصدير ، إحساساً منه ، أن عنوان " الأطياف " مستغرب ، خاصة حينما ندرك أن إبداع الأطياف هو في الحقيقة أطياف الأطياف ، والتعريف على هذا قاصدٌ إلى المبدعين لا إلى الإبداع ، كما أن " الأربعة " هي الأخرى مستغربة ، إذ لم يُعْهدْ حديثاً تأليف إبداعي أسريٌّ مشترك ، وهناك من القصاصين المصريين إخوة لم يشتركوا في إبداع أدبي واحد ، كمحمد ومحمود تيمور ، وعليه فتصدير الأطياف بـ " تعريف " لفتةٌ ذكية موفقّة ، خاصة حينما تبدأ هكذا ، محققة توافقاً وصدقاً وواقعية بين العنوان وما يليه ، وفيه : " صبية وفتاة ، وفتى وشاب ، أولئك هم الأطياف الأربعة ، إخوة في الدم ، إخوة في الشعور ، كلّهم أصدقاء ، وذلك هو الرباط الأقوى ، إنهم يقطعون الحياة ، كأنهم فيها أطياف " .

ويعرف بالأطياف ، طيفاً طيفاً ، بترتيب ما ورد بها ، لا بترتيب السنّ ، بل على عكسه تماماً ، إذ يبدأ بالصغرى ، وينتهي بالأكبر . يعرف أولاً بعذراء السجن الحربي (حميدة) " ولدت في 1937 وتوفيت في 2012م " فيقول : " أحد هذه الأطياف تلك الصبية الناشئة ، إنها موفورة الحسن أبداً ، مُتفزِّعة من شبح مجهول " ويعرف ثانياً بشاعرة الشهادة والمعتقل (أمينة) (ولدت في 1927 ، وتوفيت في 2007م) فيقول :

" وأحد هذه الأطياف ... تلك الفتاة الهادئة ، إنها سارية في الماضي ، لا تكاد منه تعود ، إنها شاعرة ، ثروتها من التصورات أجزل من ثروتها في التعبير " .

ثم يعرف ثالثاً بمحمد قطب " ولد في 1919 وتوفي بجدَّه في 4 أبريل 2014م " فيقول : " وأحد هذه الأطياف ... ذلك الفتى الحائر ، إنه دائم التجوّل في دروب نفسه ومنحنياتها .

يُفتِّش فيها ويتأمّلها ، ولا يسأم التأمل والتفتيش ، إنه يحلم في اليقظة ، ويستيقظ في الأحلام !! " .

أما حديث المعرِّف بذاته ـ إن صح توقعنا ـ فهكذا :

" وأحد هذه الأطياف ذلك الشاب الشارد . إنه عاشق المُحال !

إنه يطلب ما لا يَجِدْ ، ويسأم من كل ما يُنال .

ويسأم من كل ما يُنال .

وإنه بعد ذلك كله ـ لَلْوالدُ والأخ والصديق لأولئك الأطياف " .

وابتداءُ التعريف لجميعهم في كل مرة بقوله : " أحد هذه الأطياف .." ثم اسم إشارة للبعيد ، يعود إلى الفقرة الافتتاحية من التعريف ... بعده بدلٌ يلتزم فيه ذكر ما كان من تعريفه في السطر الأول " صبية ، فتاة ، وفتى وشاب " ولذلك كله ثلاث دلالات :

الأولى : المساواة التامة ، بل روح التسامح الراقية ، والتلاحم الوثيق بين الأربعة ، وإنزال الضعيف منهم منزلة نفسه ، فهو مثلهم ، وجميعهم متساوون ، لا فرق بين أحدهم أو إحداهم والآخرين .

الثانية : تماسك نص " تعريف " بتكرير الرباعية " صبية وفتاة .." على الترتيب محدداً في التعريف بهم .

الثالثة : تقدير " سيد " للمرأة ، انطلاقاً من فطرته السوية ، وتقدميه للضعيف على القوي ، إذ قدم الصغرى ، وأخَّر الكبير .

وبالأطياف (41) واحد وأربعون نصاً ، يغلب عليها أن تكون قصة ، اختص الطيف الأول منها (حميدة) بثلاثة عشر نصاً هي : " غربة ، عبادة الحياة ، أيها القبر ، غرور ، قلب متمرد ، الحلم واليقظة ، إلى المجهول ، الزمن الساحر ، في الليل ، في ضوء القمر ، اليد الخفية ، عظمة الليل ، أرنب يستغيث " ، وهي عنوانات يغلب عليها الاسمية ، كما هو الحال مع سائر الأطياف ، وعتبات النصوص الرئيسية تقع في منطقة الثبات من الوجهة اللغوية ، وهي من الوجهة الدلالية والسردية تكشف عن حالة من القلق " غربة ، إلى المجهول ، الزمن الساحر " والحزن " أيها القبر ، في الليل " .

وفي نصها الأول " غربة " وهو الأطول بالأطياف جميعها ، إذ يشغل من صفحة (74) وحتى (36) وقد جاء في قالب رسالة ، أرسلتها " حميدة " إلى صديقتها أو اختها الحبيبة " سميحة " ، والطرفان " حميدة ، سميحة " يتشاكلان ، ليس من الوجهة العلمية ... الصرفية ، فحسب وإنما من خلال السرد يبدو بينهما كثيرٌ من صور التوافق النفسي والخلقي والاجتماعي ، بحيث يكون بدا الطرفان متجانسين .

والقصة / الرسالة " غربة " تحكي موت الأم وأثرها الكبير في نفس الصغيرة ، خاصة ، والأسرة عامة ، ذلك الموت الذي أوقف بطلة القصة / الطيف لأول مرة أمام حقيقة الموت وقسوته ، وأثر ذلك في اغترابها عن دنيا الناس وخلوتها إلى نفسها ، تبدأ القصة ، وهي أشبه بمقطع من سيرة ذاتية واقعية للفتاة وأسرتها ، بنداء محبب يوهم بالواقعية ، وأن رسالة ما كانت ، ورداً ما كان عليها ، تقول :

" أختي الحبيبة سميحة .. وأخيراً جداً وصلتني رسالتك ، لقد كان يجب أن تصل إليّ ، قبل هذا بكثير ، كانت نفسي تنتظرها حتى قبل أن أبعث إليك برسالتي "

ثم هي تكشف عن غربتها ، وربما غرابتها عن مثيلاتها ؛ إذ هن يستمعن ويحاربن الصخب والضجيج ... تقول : " تلوميني يا عزيزتي على هذا الفراغ ، وتسألينني عن هذا الخجل الغريب الذي يجعلني أعيش هكذا دائماً في نفس بعيدة عن المجتمع وعن الناس ... وتسألينني كيف يعيش مَنْ في مثل سنّي ، حيث الصخب والضجيج والآمال الثائرة والحياة المتفتحة ... كيف يعيش هكذا كالغريب ... آه يا صديقتي لو تدرين ماذا أثارت في نفسي هذه الكلمة الصغيرة " كالغريب " .

وشخصية القصة " القاصة ذاتها " ليست كأترابها ، ممن يعيش حياة الراحة لهواً وتمتعاً ، وبالنص في أكثر من موضع اتكاءً على الوصف الفاعل في تشكيل الحدث ، وتوصيف الحالة ، كما في " الخجل الغريب ، الآمال الثائرة ، الحياة المتفتحة " ...

ثم تترقى " غربة " في الحديث سرداً عن سبب الاغتراب ، وأنه تمثل في موت الوالد ، تقول : " إن والدي الذي أحبه ، وأُلقي بنفسي بين ذراعيه فيربت عليّ في حنان عميق قد مات !! " .

وقد بدا اضطراب الفتاة لموت أبيها الذي نزل بها كالصاعقة متمثلاً في فقدان إحساسها بالمكان ، فبدت حيرتها بين فرحتها بالحياة في المدينة مع أسرتها ، وبين حبها للريف رغم منفراته ، تقول :

" مرّت العاصفة ، وبدأت نفسي تحت وقع ذلك الفيض الكبير من الحنان الذي غمرني به الجميع .. وعاد إليَّ شيءٌ من مرحى المفقود ،وكانت والدتي وشقيقي قد عادا من القرية واعتزما تركها والحياة في المدينة ... وفرحت أنا بهذه الحياة الجديدة ، فلقد أحببت المدينة من أول نظرة ، ولكن شيئاً ما قد اندسّ ينغِّصُ عليَّ بعض فرحتي بهذه الحياة . لقد كنت أحب الريف رغم كل ما فيه من منفرات " .

ثم كانت الكارثة التي عمقت الآلام حين اختطف الموت بعد الوالد الأم كذلك ، فتعزّز إحساس الجميع بالغربة ، لا الفتاة الصغيرة وحدها ، تجسد " غربة " هذه الفجيعة ووحشيتها فتقول :

" أصبحنا ذات يوم ، فإذا نحن أربعة غرباء في هذا الكون الواسع الكبير ... لقد اقتلع الموت البقية الباقية لنا من جذور ! لقد اختطف منا والدتنا ، وقضى علينا أن نصبح هكذا نبتة غريبة بدون جذور ، وهنا خرج الغول القابع في نفسي في ركن بعيد ، وإذا هو قد تضخم ونما ، وملأ نفسي ، وغشّى كل ما فيها من أحاسيس " .

وتستمر هذه الغربة حتى بعد مضي سنتين على موت الأم ، تقول :

" مرّت سنتان ، وتلاشت العاصفة تقريباً ، فإذا أنا غريبة غريبة عن كل ما في الكون الواسع إلا ما كان في الماضي القريب ، فإذا بذلك الغول الكبير يجثم على نفسي كلها ، فلا يترك لها بارقة من نور " ، وتنتهي القصة إلى فقدان إحساسها بكلا الزمان والمكان معاً ، لموت الوالد والأم ، فلا يقرّ لها عيش بالمدينة مع إخوتها ، ولا يهنأ لها بال بالعودة إلى موطن الذكريات بالريف تقول في النهاية :

" حينما بدأت تلوح القرية من بعيد أحسست أن قلبي يخفق ونفسي تبتهج ، وأحسست أن أنفي يندفع إليه نسيمٌ جميل ... وحينما دخلت السيارة في أول الشارع أبصرت أطفالاً قذرين مُهلهلين يسيرون في الطريق ، وبعض النسوة يجلسن بشكل غريب أمام الأبواب ينظرن إلى السيارة ببلاهة ونهم .

أحسست أن غشاوة سوداء قد ألقيت على نفسي ، إنني أيضاً غريبة عن هنا ، وعن كل هذه الأشياء ! إنني لست من الريف !!!" .

ثم تختم رسالتها أو قصتها أو بعض سيرتها ، كاشفة عن حيرتها ، وغربتها الغالبتين عليها ، إذ تقول : " إنني يا صديقتي نبتةٌ حائرة في هذا الوجود " وقد جسّدت " حميدة " في (غربة) مشكلة الاغتراب النفسي / الوجداني الذي تعاني منه الفتاة اليتيمة ، حينما تفقد ركنين من أركان الإشباع العاطفي الطبيعي الفطري .

ومع ما حاوله أفراد الأسرة من رغبة صادقة في تعريف الصغرى يتمها الباكر ، فإن شيئاً ما أصيلاً لا يمكن أن يملأ فراغه بديل ٌ ، وإن كان بعطاء " سيد " .

وفي قصتها الثانية " عبادة الحياة " تجسد الإقبال على الحياة ، وإن كانت عامرة بالشقاء ، وفي سرد شعري ... تقول :

" لمَ لا يعيش الإنسان كل لحظة من الحياة بكل ما في قلبه من حياة ...

ويحٌ لهذا المجنون الذي يلقي بنفسه من النافذة فإذا هو هباء

إنه يظن نفسه كاسباً بهذا الفناء

كاسباً بفراق الأرض وما فيها من شقاء

كاسباً بالراحة الأبدية لا يتخللها عناء

إنه خاسر ، خاسر كل شيء بفقدانه ذلك الشقاء ! "

والمقطع كأنه شعر ، لا باتحاد النهايات الخماسي ، ولا بالتكرير في المفاتح ، فحسب بل بالروح العامة التي تسري في جسد النص .

وفي مقطع رومانسي ولغة حالمة أقرب إلى الشعرية كذلك ، تتماهى فيه الذات مع الطبيعة .. نقرأ :

حينما تسحب الشمس خيوطها الصفراء الباهتة إيذاناً ، بالرحيل ، ويتسرب الليل على الكون الذي أضناه النهار ، حينما يغفو كل شيء ويلقي بعنانه إلى الليل السمح .

وحينما يضم الليل أبناء هذه الأرض كالأم الحنون

ويتسلل القمر الساحر إلى الكون في بطء وهمس

وكأنما يخاف أن يُمزّق سكون ذلك الصمت الرهيب

ويهمس الكون الغافي فيصحو ويجيب

يكون ذلك المسكين (الإنسان) هامداً في أعماق الثرى

إنه لا يسمع أبداً همس القمر الساحر البديع

ولا يعرف أن الليل الحنون يضم أبناء الأرض في رفق رحيم "

وفي قصتها " إلى المجهول " يبدو تلاشي الأمنيات باعثاً على القلق والضيق ، تقول في لغة تصويرية صادقة ، وقورة :

" أمنيات كبيرة مجهولة ترفُّ كالطير السعيد

ثم تحاول (أن) تقتفي واحدة من هذه الأمنيات

فإذا بها تومض وترقص ثم تغيب . كالشبح تراه العين ولا تلمسه اليدان

وتحاول أن تعرف في أي اتجاه تسير . فإذا بها خيال أشباح ترقص في غير اتجاه

وهكذا يغمر نفسها القلق والضيق

فتعود إلى الناس لتتحدث في توافه الأمور ".

وعن فعل الزمن تقول في " اليد الخفية " التي هي الزمن ، وفعله في تحوّلات أوتحويلات الاهتمامات لدى الإنسان :

" تمرّ الأيّام والشهور والسنوات

فتدبّ دبيبها الخافت الرقيق . على الأرض وكل ما فيها من قلوب

حين تتسرب في بطء وئيد هامس (...) ثم ينتبه الإنسان بعد قليل أو كثير

فيحسّ أن نفسه قد تغيّر فيها كثير . وأنه قد انقلبت فيها الموازين والمقاييس

وإذا هي تحبُّ ما كانت تكره بالأمس ، وتكره ما كانت تحبّه "

أما الطيف الثاني " أمينة " فنصوصه أقل من نصف نصوص " أمينة " إذ هي ست ، على التوالي : " المنوال المسحور ، رحلة إلى الماضي ، خريف وربيع ، رسول الفناء ، ثياب العيد ، أختان "

وفي قصتها الأولى " المنوال المسحور " تحكي هي الأخرى صراع الإنسان مع الزمن ، ومن داخل هذا الصراع الكبير صراع الأجيال المتعاقبة ، الجدة ، الأم ، الابنة ، الحفيدة ، وعن رغبة المرأة الفطرية في الاحتفاظ بشبابها وجمالها دائماً ... كما تحكي عن مشاعر المرأة في سن الأربعين ، وتبدأ القصة بداية شائقة بما يوحي بأزمة ما ، جرت وقائعها الأولى خارج المنزل ... هكذا :

" صعدت الدرج وراءها ابنتها ، وفي نفسها أسىً واستسلام وهبوط ، غير أنها عندما دخلت إلى حجرتها قصدت مسرعة إلى المرآة ، وأخذت تتفرس في وجهها وكأنّ بها مساً من الجنون "

ثم هي تكشف عن سر فزعها إلى المرآة ، بما يقرر عفتها وأصالة أخلاقها ، وأنوثتها أيضاً ، إذ تقول : " لم تسرع على المرآة بدافع الاطمئنان على شكلها وهيأتها ، بل كان هناك دافع آخر ... لقد فوجئت بهذه الغضون الخفيفة التي بدأت تظهر على جبينها وحول عينيها ... وجلست لتخلع حذاءها .. في إهمال ، وراحت تحدق في ركن من أركان الغرفة بنظرات ذاهلة غائبة " .

وهي تقرر هذا الذهول ، متكئة في ذلك على الوصف هي الأخرى ، فتقول :

" كان صوت ولديها الصغيرين اللذين يتنازعان لعبة من ألعابهما في الحجرة المجاورة ، كان يلمس أذني ، وكأنه يأتي من مكان بعيد فلا يؤثر في حسِّها ، ودخلت ابنتها ... ومرت أمامها فلم تشعر بها إلا كما يشعر الإنسان بخيال عابر سريع "

وتعتمد على تقنية الفلاش باك ، حينما استدعت زيارتها لصديقتها " بدرية " ، وللاسم دلالته على الجمال ... تلك القيمة الغالية على المرأة .

وتُلمّح " أمينة " إلى تأفف الأجيال الشابة من السابقة في أدب جم ... تقول :

" وإذا بجدة صديقتها ، ملك العجوز الوقور الطاهر القلب ، تأتي لتحييها وتجلس معها ومع (بدرية) بعض الوقت ، وأحستا بشيء من الضيق لمجيء العجوز ... ولكن آدابهما لم لم تكن تسمح لهما بإبداء هذا الضيق "

وبطلة الطيف الثاني " أمينة " هي الأخرى ، في " المنوال المسحور " تحاول توقبف الزمن لئلا يذهب جمالها تماماً كبطلة قصة أختها في (الزمن الساحر) ويلاحظ التقارب الشديد بين العنوانين والفكرتين ، إذ تتساءل بطلة الطيف الثاني مندهشة ذاهلة : " ما أقسى هذا وما أمره على نفسها ! أو حقاً هي الآن امرأة في الأربعين ..

وهل ستظل الأيام تمضي مسرعة دون توقف أو إبطاء ؟ وتصل هي إلى الخمسين ثم إلى الستين ، وتصير جدة هرمة كوالدة صديقتها ؟ لا هذا محال . إن هذا قاسٍ ومؤلم لا يطاق ، ولن يكون هذا أبداً "

والبطلة وهي على هذه الحال ، وفي نهاية القصة ، تبدو عاطفة الأمومة لديها طاغية ، لا يشغلها عنها شيء ، ولو كان الزمن أو الجمال ، إذ لما "طرق سمعها صوت أحد ولديها وهو يحلم حلماً مزعجاً ، فإذا بها تنتفض واقفة تسرع إلى هناك حيث ينام " .

والقصة تكشف عن الواقعية في معالجة الأزمات الذاتية ، وعدم التصادم أو التشدد ، بل التسامح والاستعانة بالمباحات في التسرية عن النفس .

ومن أروع قصص أمينة (ثياب العيد) وتحكي عن تباين حظوظ الناس في الدنيا ، وعن قسوة الإقطاعيين ، وبؤس الفلاح المصري (عبد التواب) وأسرته ، إذ تثقله الديون ، وينهشه المرض ، فلا يقوى على تلبية حاجيات أبنائه الأساسية من ثياب أو مأكل .

أما الطيف الثالث (محمد) فتبدو نصوصه كما ورد عنواناً لأولها (صورة نفسية) لذاته ، وقد جاءت أغلبها في إطار شكلي كأنه الشعر ... المنثور ... في القدرة على التصوير والتكثيف ، وسرعة الانتقال من مشهد لآخر ، كما في قوله بأول صوره النفسية " من ذكريات الطفولة " :

" الطفولة التي تفغر فاها عجباً لكل جديد ...

الحماسة لكل شيء والاندفاع إليه / الحركة التي لا تهدأ ولا تقر .

القفز والوثب والعبث بكل شيء وبكل إنسان

الفوران لكل طرقة كما يفور النبع من باطن الأرض / الانطلاق والحرية

ما أعذب أيام الطفولة ! "

ويبدو فيها البطل / الطيف ذاته ، عنيداً ، منطوياً ، يخشى الناس والشارع فهو :

" مع هذه الجرأة على الظلام كان يرهب الشارع ، ولا يخرج إليه حتى في وضح النهار " وتبدو في الصورة / القصة روح العالم مستكنة بذات الطيف الثالث باكراً ، وذلك في تساؤلاته المتتابعة ، الكاشفة عن تأمل عالِم وروح أديب ، إذ " يذكر أنه خرج ذات يوم مع والده إلى الحقل فرأى عالماً جميلاً لم يكن رآه من قبل ، العالم الفسيح الممتد ... لا يحدّه ... إلا الجبلان القائمان في السماء ، وهما في ذاتهما منظر عجيب جميل ، فأين هما ؟... ما هما ؟ ما هو الجبل ؟  كيف ينبت في الأرض ؟ وهل السماء تنتهي عناك ؟ هل السماء مرتكزة على الجبل هناك عند منهى النظر ؟ أم هي وراءه ؟ وما هي السماء ؟ وما هذه الزرقة الصافية التي يراها فيها أبداً ؟ "

وهو يكشف في نهاية الصورة عن تيارين رئيسيين يتنازعان ذاته العالمة الأديبة ، فبدت الصورة ـ قبساً من سيرة ذاتية ، إذ يقول :

" ذانك تياران قويان في نفسه يفترقان حيناً ويلتقيان حيناً ... فأحدهما إيمان بالواقع المحسوس ،.... والآخر إيمان بما وراء الحياة من قوى خفية ، وهي أعظم أثراً من ذلك المحسوس كله ، وإن كانت لا تبين .

إيمان بالعلم وإيمان بالخيال ومن هنا كانت فيه عقلية عالم دقيق البحث ، يؤمن بالمنطق ، ويُحكمه في كثير من أفكاره وكانت فيه نفس شاعر ، وروح متدين ، وانطلاق روحاني لا يؤمن بالحدود والقيود "

أما الطيف الرابع ، فنصوصه تنسجم في المجمل مع نصوص الأطياف الأخرى في أشياء ، وتفارقها في شيء رئيسي ، أما انسجامها معها فإحساسه الرهيب ، مثلهم بالزمن ، وإن غشيته عنده مسحة فلسفية ، كما في قوله :

" أيها الزمن ! أيها الرحيم القاسي !

إنك لَتلأم الجرح ، وتفتح البرعم ، ولكنك تبلي الكيان وتذوي الحياة ...

إنك لتمنحنا الجديد ، وتهبنا الطريف ، ولكنك تسلبنا القديم ، وتحرمنا التليد ، لا بل أنت تسرق منا هياكلنا ونفوسنا ، وتخطف ذراتنا وخواطرنا وأيا كان ما تعوضنا فإن تعويضك محدد بالعمر صائرٌ إلى نفاد ، وفقداننا إلى غير رجعة ، ولن يُستعاد ! "

وهو يذكر مثلهم الأم والطفولة والطيف ، فهو في نفثته الأولى " أماه " يقرر تفكك وحدة الأسر بعد موت الأم ، إذ لم يشعر الأبناء والإخوة الأطياف حال مات الوالد ... بل حين ماتت الأم ... يقول :

" إننا لم نعد بعد أسرة ... اليوم فقط مات أبي ، واليوم فقط أصبحنا شتيتاً منثوراً ، وإني لأضم اليوم على صدري ابنكما وابنتيكما ، أضمّهم بشدة لأستوثق من الوحدة ، وأُشعرهم بالرعاية ، ولكن هيهات هيهات ، فأنا وهم بعدك أيتام يا أمّاه "

وهو في حب صادق وألم فاجع لفراق الأم ... يدعوها إلى البقاء ...! دون أن يبالي بمرارة آلام الذكرى التي يتجرعونها ... ويعتبر فراقها ثم التسلي عنها بذكراها هو الفراغ القاتل ، فيختم نفثته قائلاً :

" عيشي معنا يا أماه في هواجسنا وأفكارنا ، ولا تبالي أن يلذعنا ألم الذكرى كل لحظة ، فهو ألم رفيع عزيز ، يغذي من نفوسنا ما كان يغذيه عطفك ، ويملأ من وجداننا ما كانت تملؤه رعايتك ، الفراغ القاتل والسلوى الرخيصة يا أماه "

وزمنياً بين الفترة الرابعة (21/11/1941) والأولى (12/10/1940) من نفثته هذه ما يزيد على العام ، ومع ذلك فلوعة الفراق وحرارته كما هي لا تحيد ، ولا تنطفئ جذوتها ، ولا يلمح القارئ حتى مع التفاته للتاريخين ـ أي اختلاف في حرارة الأسلوب بين الفقرتين ، لأنه الوفاء الصادق حينما يعتمل في نفس الأديب ، وأكاد أؤمن من حديث الأطياف عن الأم ، في ضوء واقع الأبناء من بعد ، وقد قضوا جميعاً ، أنه حقاً وراء كل رجل عظيم امرأة ... شريطة أن ترعاه بعين الأم .

أما ما تفارق نفثته سيد نصوص الأطياف الأخرى ، فشاعرية أسلوبه التي انسرب لها كثير من أضوائها الأصيلة إلى قصصه بالأطياف والحق أن " القصة القصيرة تشبه القصيدة الغنائية : كلتاهما محكومة بشيئين ، بالبؤرة الشعورية التي تنمو إحداهما حولها ، وبطول مهما يمتد ، فإنه لا يتجاوز مقداراً تحتمه وتقرره دورات نمو لابد أن تقف عند به عند حد ، ثم تختلف كلتاهما في ما عدا ذلك "

ومن أبرز تقنيات تلك الشاعرية ما بدا أولاً في تكراره للفاتح (أماه) في مطلع كل مقطع ، وأحياناً في ختام بعض المقاطع من نفثته الأولى (أماه) وهي تقنية شعرية بامتياز .

ومن تلك التوازنات الشعرية التي تجاوزت مراحلها عشر دوال لثلاث مرات متتالية قوله :

ـ هناك ألوان من الحديث ماتت في شفاهنا ، فلن تنطق بها أبداً ،

زألوان من الذكريات خمدت في قلوبنا ، فلن تثور بها أبداً ،

وألوان من الأمنيات طمست في أرواحنا ، فلن تضيء لها أبداً "

... أولئك هم الأطياف الأربعة ، وهذه خطواتهم في كتاب ، إنهم عصارة من نفوسهم ، وظلال من حياتهم ، إنها أطياف الأطياف .

والأطياف بحاجة إلى دراسة علمية مُعمقة ، تضعها بمكانها اللائق على خريطة الإبداع العربي والأدب الإنساني عامة ، والإسلامي خاصة .

لغز الصفحات العشر البيض في كتاب "التاريخ العام"

الموقف الجريء من خيانة ابن خلدون :

لقد كتبتُ عدة مقالات نشرتها في صحف مختلفة تساءلتُ فيها عن سبب عدم إشارة المثقفين العرب إلى خيانة ابن خلدون وتعامله مع ( تيمورلنك ) الغازي ، ومساهمته في فتح أبواب قلعة دمشق الصامدة أمامه ، وما حصل من ذبح وحرائق بعدها ، مذابح وحرائق يشير إليها ابن خلدون بشكل عابر وبدم بارد ، بعدما كان تيمورلنك قد فكّر بعقد هدنة مع أهالي دمشق بفعل صمودهم . وقلتُ أن هناك نوعا من التستر على هذه الخيانة وليس التغافل أو التغاضي أو التناسي .

تصوّروا مفكّرا عربيا مهما مثل الدكتور ( محمد عابد الجابري ) يؤلف كتابا يقع في (483) صفحة عنوانه ( فكر ابن خلدون – العصبية والدولة – معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي ) صدر عن دار الشؤون الثقافية ببغداد في الثمانينات (244) ، يتجنب فيه التطرق - ولو بكلمة واحدة على الأقل  إلى المدّة التي قضاها ابن خلدون في دمشق ودوره الخطير الذي لعبه في إسقاطها لمصلحة الغازي .

وخذوا كتابا آخر يقع في (686) صفحة وعنوانه ( الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون ) لمؤلفه الدكتور ( عبد الله الشريط ) (245) . هذا الكتاب هو أصلا أطروحة دكتوراه يتحدث فيها المؤلف عن أدق تفاصيل الفكر الأخلاقي وما يلحقه من سلوك لدى ابن خلدون دون أن يشير ولو بكلمة واحدة إلى تلك الواقعة السلوكية الخيانية ، بل على العكس من ذلك نجد المؤلف يقدم المواعظ والنصائح الأخلاقية للقراء العرب انطلاقا من التنظيرات الأخلاقية لابن خلدون . يقول (شريط) :

( إن الإلحاح على تمجيد ماضينا دون إلحاح يعادله أو يفوقه على نقاط ضعفنا في التاريخ وفي الواقع المشاهد ، ودون تعليل لكل ذلك بفكر علمي متحرر من العقد . إننا بدون ذلك نصبح أشبه بمن يلوي عنق أمته فتُصاب بانفصام في شخصيتها ، ويصبح عندها من الطبيعي أن يكون الحاضر للآخرين والماضي لنا ، والدنيا لهم والآخرة من نصيبنا ، وإن أول عمل علمي يجب أن يقوم به المثقف هو أن يثور على واقعه بالنقد الذاتي ) .

إن الدكتور شريط الذي يقول أنه أمضى ست سنوات في صحبة ابن خلدون دارسا له ومؤشرا نقاط الضعف في فكره الأخلاقي يعلن في ختام مقدمة كتابه :

( وإذا نحن استطعنا يوما أن نعرف ونفهم أنفسنا وإمكاناتنا المعنوية والطبيعية والبشرية ، نكون قد حققنا الخطوة الأولى الصحيحة لخلق فكر أخلاقي فعال وحاسم لأمتنا ، ويكون ابن خلدون ( كذا ) الذي لم يخادع أمته يوما هو معلمنا الأكبر الذي هدانا إلى هذا المنهج القويم ) .

وخُذْ أيضا كتابين من تأليف وتحقيق الدكتور ( علي عبد الواحد وافي ) وهو أكثر الباحثين العرب تخصصا بتراث ابن خلدون ؛ الأول هو ( عبقريات ابن خلدون ) (246) وفيه يتعرض لحياة وآثار ابن خلدون تفصيليا ، ويتحدث في الفصل الرابع عن ( لقاء ابن خلدون بتيمورلنك) من الصفحة (91) إلى الصفحة (95) ويعلّق على (لقاء) ابن خلدون بتيمورلنك والمساومات والتنازلات المهينة التي قدمها ابن خلدون له بالقول :

(ويظهر أن ابن خلدون قد عاوده حينئذ داؤه القديم وساوره الحنين إلى المغامرات السياسية ، فكان يعلّق على صلته بتيمورلنك آمالا أخرى غير ما وُفق إليه في شأن دمشق وشأن زملائه العلماء والقضاة ، ولعله كان يرجو الانتظام في بطانة الفاتح والحظوة لديه . ولذلك أخذ يكذب في مدحه ويذكر له أنه كان عظيم الشوق إلى لقائه منذ أمد طويل ، ويتنبأ له في مستقبله بملك عظيم مستدلا على صحة تنبؤاته بحقائق الاجتماع وأقوال المنجمين والمتنبئين بالغيب . ويظهر كذلك أن ابن خلدون قد أنس سذاجةً في هذا الفاتح مرحبا في المديح فأخذ ينفخ في كبريائه بهذه التنبؤات . ويروي ابن خلدون ما ذكره بدون أن يصرح بما دعاه إلى ذلك فيقول : ففاتحته وقلت له : أيّدك الله ، لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنى لقاءك . فقال لي الترجمان عبد الجبار : وما سبب ذلك ؟ فقلت : أمران ؛ الأوّل أنك سلطان العالم وملك الدنيا ، وما أعتقد انه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد مثلك ، ولست ممن يقول في الأمور بالجزاف ، فإني من أهل العلم . وأما الأمر الثاني مما يحملني على تمنّي لقائه فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان وهم المنجمون والملهمون من المتنبئين بالغيب .. ) .

ويكمل الدكتور (وافي) رأيه بالقول :

(غير أن ابن خلدون لم يوفّق إلى تحقيق ما كان يأمله من تيمورلنك ، فلم تمض أسابيع قلائل حتى سئم البقاء في دمشق واستأذن تيمورلنك في العودة إلى مصر فأذن له ) .

أما الكتاب الثاني للدكتور وافي فهو كتاب ابن خلدون نفسه : ( التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا ) ، وهو سيرته الذاتية التي قام الدكتور وافي بتحقيقها (247) وفيه قسمان بقلم ابن خلدون عن ( لقاء الأمير تمر سلطان المغل والططر ) ، و (الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر ) من الصفحة 406 إلى الصفحة 428، يتحدث فيهما وبدم بارد ولغة رشيقة عن خروجه على إجماع أبناء قلعة دمشق الصامدين ، وخوفه على نفسه ، وتدلّيه من السور لمقابلة أعظم ملك منذ أيام آدم كما يقول ، وكيف قبّل يد الغازي المحتل . يقول ابن خلدون :

(وجاءني القضاة والفقهاء واتفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير "تمر"على بيوتهم وحرمهم وشاوروا في ذلك نائب القلعة فأبى عليهم ذلك ونكره فلم يوافقوه ) ثم يذكر كيف تدلّى ( المثقفون ) العقلانيون (والتطبيعيون !!!) من قضاة وفقهاء من السور وقابلوا تيمورلنك :

( فأحسن لقاءهم وكتب لهم الرقاع بالأمان وردّهم على أحسن الآمال ، واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد ، ودخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها ويملك أمره بعز ولايته) .

ثم يتحدث عن ( مبادرته الخيانية) في الليلة التالية فيقول :

( وأخبرني القاضي برهان الدين أنه – أي تيمورلنك – سأله عنّي ، وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه ، فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع ، وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول . وبلغني الخبر من جوف الليل فخشيت المبادرة على نفسي ، وبكرت سحرا إلى جماعة القضاة عند الباب ، ودلّوني من السور . فلما دخلت عليه فاتحت بالسلام وأوميت إيماءة الخضوع ، فرفع رأسه ومدّ يده فقبلتها ) .

المهم أنني في مقالاتي تلك عن خيانة ابن خلدون كنت أحيّي المبدع السوري ( سعد الله ونّوس ) لأنه أول من تعرّض لهذه المسألة الخطيرة ، وكشفها بصراحة في مسرحيته ( منمنمات تاريخية ) . ولكن بعد أن قرأت كتاب الدكتور (علي الوردي) : (منطق ابن خلدون ) تكشفت لي حقيقة أخرى وهي أن الوردي هو الذي يحمل قصب السبق في هذا المجال . صدر كتاب الوردي في سنة 1960، وقد جاء ليعبّر عن اهتمام الوردي المبكّر بابن خلدون حيث كان جزء كبير من أطروحته التي حصل عنها على شهادة الدكتوراه من جامعة تكساس عام 1950 مخصصٌ لفكر ابن خلدون . ولكن الوردي - وبخلاف الباحثين العرب الآخرين - كان متوازنا في بحثه ، بل وغير هيّاب في أن يخصّص فصلا كاملا من كتابه هو الفصل الحادي عشر لدراسة الصلة بين سلوك ابن خلدون الذي رآه الشريط أخلاقيا يجب الإقتداء به ، ونظريته ، وكان بعنوان جسور هو ( السلوك والنظرية ) ، قال في جانب منه : ( .. مقابلة ثانية قام بها ابن خلدون بالإشتراك مع جماعة من فقهاء دمشق حيث خرجوا إلى تيمورلنك ليفاوضوه في أمر تسليم المدينة له ... أمر لهم تيمورلنك بالطعام ، فنشر لهم السماط أكواما من اللحم المسلوق ، ووضع أمام كل منهم ما يليق به . فتعفف البعض منهم عن الأكل تنزّها ، وتشاغل آخرون بالحديث عنه ، بينما أخذ بعضهم يلتهم الطعام إلتهاما ، وكان ابن خلدون من بين هؤلاء الآكلين . وانتهز ابن خلدون المناسبة فنادى بصوت عال : " يا مولانا الأمير ، الحمد لله العلي الكبير . لقد شرفت بحضوري ملوك الأدام ، وأحييت بتاريخي ما ماتت لهم من أيام . ورأيت من ملوك الغرب فلانا وفلان ، وشهدت مشارق الأرض ومغاربها ، وخالطت من كل بقعة أميرها ونائبها . ولكن لله المِنّة إذ امتد بي زماني ، ومَنّ الله علي بأن أحياني ، حتى رأيت من هو الملك على الحقيقة ، والمسلك بشريعة السلطنة على الطريقة . فإن كل طعام الملوك يؤكل لدفع التلف ، فطعام مولانا الأمير يؤكل لذلك ولنيل الفخر والشرف . يقول ابن عربشاه ، فاهتز تيمورلنك عجبا ، وكاد يرقص طربا . وأقبل بوجه الخطاب إليه ، وعوّل في ذلك دون الكل عليه ، وسأله عن ملوك الغرب وأخبارها ، وأيام دولها وآثارها . فقصّ عليه من ذلك وخدع عقله وخلبه ، وجلب لُبّه وسلبه .. ويحدثنا ابن خلدون كيف أنه صار موضع رعاية تيمورلنك وفي ضيافته خمسة وثلاثين يوما .. وكتب أثناء تلك المدة رسالة عن جغرافية المغرب طاعة لأمر تيمورلنك الذي كان عازما على فتح بلاد المغرب فأراد أن يتعرف على جغرافيتها سلفا . وقد أتمّ ابن خلدون الرسالة في اثنتي عشرة كرّاسة ، قدمها إلى تيمورلنك ، فأمر هذا بترجمتها إلى اللغة المغولية ) (248) .

# أول محاولة تربط فكر المفكّر بسلوكه :

---------------------------------------

ومن ناحية أخرى قد يكون جهد الوردي هذا هو الجهد الأول من نوعه الذي يتناول علاقة سلوك مفكر بفكره في الوطن العربي ، وقد سبقته محاولات في التحليل النفسي للأدب تربط بين سلوك المبدع ومنجزه الإبداعي للعقاد ومحمد النويهي ، ولكن حسب مراجعاتنا لم يحصل في تاريخ الثقافة العربية أن ربط كاتب بين سلوك مفكر وأفكاره وبنيته الشخصية ، اللاشعورية تحديدا. والسمة الثانية التي تميز الوردي في تناوله للجانب السلوكي لشخصية ابن خلدون هي الصراحة الحادة رغم أنه من المعجبين بأفكاره ، وأعتقد أن هذا هو أساس الموقف الموضوعي . يقول الوردي :

(مما يلفت النظر في حياة ابن خلدون ، لا سيما منها تلك الفترة التي اشتغل فيها بالسياسة ، أنها لم تكن تخلو من خُلُق الغدر والنفاق والانتهازية .وهذا أمر يكاد أكثر الباحثين يتفقون عليه . فالمعروف عن ابن خلدون أنه كان لا يستقر في ولائه على شيء وكثيرا ما كان يتملّق من يرجو المنفعة عنده ويبدي له إمارات الإخلاص والنصيحة حتى إذا رآه مهزوما أو مغلوبا قلب له ظهر المجن وأسرع إلى خصمه الغالب يتملق له على منوال ما فعل مع سلفه ) (249 ) .

ولا يتردد الوردي في التساؤل الصادم عن أن ابن خلدون قد قام بفعلته هذه وكان عمره ينوف على السبعين عاما ، فـ :

( ليت شعري كيف كان حاله إذن عندما كان شابا طموحا يحب السياسة ويندفع في سبيلها اندفاعا شديدا ؟ ) .

# المفكّر العظيم قد يكون منحطّ السلوك :

----------------------------------------

ولا يقف جهد الوردي عند حد إثارة معضلة التناقض بين سلوك ابن خلدون وفكره ، بل يوسّع النظرة ليرد على تصور خاطيء لدى قطاع واسع جدا من الناس يفترض أن الشيء العظيم يجب أن يكون عظيما من كل ناحية ، فلا أحد يستطيع تصديق حقيقة أن دستويفسكي – مثلا – كان يسرق مصوغات زوجته ويرهنها كي يلعب القمار وهو الذي يلقب بحق أنه ( نبي روسيا ) ، وأنه أخبر غريمه تورجنيف أنه اغتصب طفلة عمرها عشر سنوات !!. يقول الوردي :

( يحاول بعض المعجبين بابن خلدون تبرئته من وصمة النفاق والتملّق ، كأنهم لا يستطيعون أن يتصورا مفكرا عظيما كابن خلدون يسير في سلوكه الشخصي على هذا النمط الذميم . ولعلهم يرون أن الرجل ما دام عظيما في تفكيره فلا بد أن يكون عظيما في سلوكه أيضا . إن هذا الرأي لا يلائم ما يقول به العلم الحديث في أمر تكوين الشخصية في الإنسان ومدى الصلة بين السلوك والتفكير فيها . فالإنسان قد يكون ذا تفكير عظيم جدا ، وهو في الوقت ذاته ذو سلوك منحط ) (250) .

ويضرب الوردي مثلا بالأستاذ (جود) الذي كان من أعظم المفكرين في القرن العشرين ويرأس قسم الفلسفة في جامعة لندن وله مؤلفات مهمة ، ولكنه مات بعد أن ثارت حوله فضيحة خلقية كبرى ، حيث كان على الرغم من شيخوخته وعلمه يركب المترو دون أن يدفع الأجرة . وكثيرا ما كان يراوغ ويدلّس في هذا السبيل من أجل فلوس معدودة . وعندما انفضح أمره اعترف بأنه كان مصابا بعقدة نفسية تدفعه إلى مثل هذا العمل الشائن دون أن يعرف كيف يتخلص منها . ويضع الوردي معادلة محكمة لحل هذا الإشكال حين يقول :

( أن المنهج الذي اتبعه ابن خلدون في دراسة المجتمع يمكن أن نتبعه نحن في دراسة ابن خلدون نفسه وفي دراسة نظريته . فالرجل كان ذا تفكير عظيم بمقدار ما كان ذا سلوك منحط ، ولعله لم يكن – وهنا يضعنا الوردي في صلب كشف إنساني فكري عظيم – قادرا على إبداع نظريته الرائعة لو كان ذا سلوك اعتيادي .. وربما كانت انتهازيته المفرطة التي شذ بها عن مفكري زمانه هي التي جعلته يشذ عنهم في التفكير ، فالجانبان متلازمان كتلازم الصفات الحسنة والسيئة في الأشياء جميعا ) (251) .

قصة الصفحات البيض :

------------------------

من الإنتباهات الدقيقة جدا والتي تعبّر عن القراءة التحليلية العميقة والمتأنية التي قام بها الوردي لتراث ابن خلدون ، هو التفاتته إلى موضوعة الصفحات البيض في مؤلف ابن خلدون المعروف : " التاريخ العام " . هذه الصفحات البيض التي كان موضعها غريبا ولم ينتبه إلى وجودها أحد من الباحثين ولم يتساءلوا عن مغزاها . يقول الوردي :

( مما يلفت النظر أن ابن خلدون لم يذكر شيئا عن ثورة الحسين في تاريخه العام ، بل ترك مكانها فارغا . والغريب أن الذين قرأوا تاريخ ابن خلدون ، والذين اشتغلوا في طبعه ، لم يفطنوا إلى علة هذا الفراغ " الأبيض " في صفحات الكتاب . يخيل إلي أن ابن خلدون ، عندما أراد أن يكتب عن ثورة الحسين في تاريخه ، تملكته الحيرة وتوقف عن الكتابة . فهو لا يدري أيكتب الرأي الذي يؤمن به في قرارة نفسه ، أم يكتب الرأي الذي يريده الناس منه . والظاهر أنه خصّص لحادثة الحسين صفحات من تاريخه ، وتركها بيضاء لكي يعود إليها فيملأها بعد أن يستقر في أمر الحسين على رأي معين . ثم مرّت به الأيام فنسى أمر تلك الصفحات البيضاء ، حيث بقيت على حالها إلى يومنا هذا ) .   

المزيد من المقالات...