د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة  174

(24- المؤتلِفُ لفظًا المختلِفُ أرضًا.. وحقائق التاريخ!)

ربما توهَّم قارئ كُتب (د. كمال الصليبي) أن استنتاجات المؤلِّف معقولة، وأنها مقنعة حين يذكر الأماكن المتجاورة في (التوراة) فيجد إزاءها نظائر متجاورة في جنوب غرب الجزيرة العربيَّة.  فإذن النصّ التوراتي يتحدَّث عن تلك الأماكن.  بيد أن هذا ليس كذلك بالضرورة، وليس بدليل على ما استُدلّ به عليه بإطلاق؛ فكما أن أسماء الأماكن تتشابه في أماكن متعدِّدة، فإنها كذلك قد تتجاور أسماء متشابهة بالترتيب نفسه في بُقعتَين جغرافيَّتَين.  ولنأخذ مثالًا إضافيًّا هنا، إلى ما سبق من أمثلة:

أصرّ المؤلِّف على أن ثلاث كلمات واردة في (سِفر صموئيل الثاني، 5: 8)، وهي "صنور، وفسحيم، وعوريم"، هي أسماء أماكن، مخالفًا علماء التوراة ومترجميها الذين لم يَعُدُّوها كذلك، بل الكلمة الأُولى: اسم مكان، والثانية والثالثة بمعنى: "العرجان"، و"العميان".  ثمَّ طَفِق يفتِّش في "المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السعوديَّة" لإلصاق هذه الأسماء الثلاثة بأماكن في جنوب غرب الجزيرة العربيَّة.  وبعد لأيٍ زعمَ أن: (صنور) هي: قرية (الصرّان)، في (هَرُوْب)، و(فسحيم): قرية تُسمى (صحيف)، في جبل (الحَشَر)، و(عوريم): جبل (عوراء)، في هَرُوْب.(1)  هكذا قال.  أ فلا توجد مثل هذه الأسماء في أماكن أخرى؟   بلى، نستطيع أن نجد مثل تلك الأسماء الثلاثة، وربما على نحوٍ أوضح، في مكانٍ واحدٍ، هو جبال (فَيْفاء)، دون أن نبتعد إلى جهات أخرى، فنقول، مثلًا: (عوريم: أحد ثلاثة مواضع يُسمّى كلّ واحدٍ منها: امْعَرام/ العَرام).  و(فسحيم: أحد مكانَين إمَّا اِمْصفيحة/ الصَّفيحة، أو اِمْصافح/ الصافح).  أمَّا (صنور: فربما بُقعة اِمْسَنْدَر/ السَّنْدَر، أو لعلَّها نَيْد اِمْصَدر/ الصَّدر، وحدث التحوير والتقديم والتأخير في الأصوات، وهذا أمرٌ معتادٌ متوقّع).  وهكذا يفعل الصليبي عادةً في عزو الأماكن التوراتيَّة إلى الجزيرة العربيَّة.  فها هي تي أسماء ثلاثة مواضع أشبه بالأسماء التوراتيَّة، وهي بألفاظها إلى اليوم، في أماكن متجاورة من المنطقة نفسها في (جبال فَيْفاء)، ولم تضطرنا للقفز من (هَرُوْب) إلى جبال (الحَشَر)، التماسًا للاسم الثاني.  وعلى ذلك قِس.  ما يدلّ على أن هذا منهاجٌ سهلٌ، ولا يُثبت شيئًا في حدِّ ذاته، فضلًا عن أن يُثبت ما يقلب التاريخ وجغرافيَّته رأسًا على عقب. 

ولنضرب مثالًا آخر أوضح.  فلو كان ما أجراه الصليبي من مقارنات دليلًا عِلْميًّا، من أجل وجوده أسماء في الجزيرة العربيَّة مشابهة لأسماء توراتيَّة- إضافةً إلى وجودها متَّسقة في الترتيب تقريبًا، ومتجاورة في مواضع من مناطق متدانية- لو كان ذلك دليلًا، لما وجدنا في جبال (فَيْفاء) أماكن بأسماء كهذه مثلًا: (القعبة، الكعبة، الصفا، المروة، الحَرَم)!  ولما وجدنا هناك أماكن بأسماء كهذه: (مَنَفة، المعادي، المحلَّة، القهر، مصر)!  ونحن لا نعلم، على وجه التحديد، متى سُمِّيت تلك المواضع بتلك الأسماء؟  ولماذا؟  ويبدو أن هذه تقاليد قديمة، تحدث إمَّا لأسباب دِينيَّة، أو حنينًا إلى مَواطن سابقة، أو لمجرد الطرافة.  فإذا سُمِّي مكان: (الصفا)، جاء من يُسمِّي مكانًا مقابلًا: (المروة)، وهلمّ جرًّا.  وبالقياس إلى استقراء الصليبي، فلو أن أسماء الأماكن الأصليَّة القديمة المشهورة اندثرت، أو وقع حولها الجدال، لربما جاء صليبيٌّ في المستقبل ليؤلِّف كتابًا يقول فيه: إن (الكعبة، والصفا، والمروة، والحَرَم) ليس مكانها في (مكَّة المكرَّمة)، بل في جبال (فَيْفاء)!  لماذا، يا مولانا؟  لأنها موجودة بأسمائها إلى اليوم هناك، ومتجاورة على نحوٍ مدهشٍ في بقعةٍ طبغرافيَّةٍ واحدة.  وسوف يقول أيضًا: إن (مِصْر) التاريخيَّة ليست في قارة (أفريقيا)!  لماذا، يا مولانا؟  لأن (مَنَفة، والمعادي، والمحلَّة، والقهر (القاهرة)، ومصر) كلّها نجدها بأسمائها إلى اليوم متجاورة على نحوٍ مدهشٍ في بقعةٍ طبغرافيَّةٍ واحدة.  إذن، "لا بُدّ"، و"لا شكّ" و"لا ريب"، أنها هناك، وأن المؤرِّخين السابقين واهمون، والنصوص التي ذكرتها في أماكن أخرى قد حرَّفت فيها وخلطت!  ما يعني أن هذه الطريقة في تسمية المواضع والديار محتملةٌ جدًّا، وهي تقليدٌ قديم، نَبَّه إليه البلدانيّون العرب، وألَّفوا حوله الكتب، كما تقدَّم.(2)  ومن هنا لا تصحّ هذه الظاهرة دليلًا على تحديد المواطن التاريخيَّة، بحالٍ من الأحوال، دونما شواهد آثاريَّة قاطعة، يمكن الركون إليها عِلْميًّا.

وعليه، فإن تشابُه الأسماء، بل حتى تطابقها، وتراتبها متجاورةً بالطريقة نفسها الواردة في روايةٍ ما، لا يعني أن الرواية تُشير إلى تلك الأماكن بالضرورة، ولا يصلح ذلك مستنَدًا يُستدلّ به، في ذاته، على حقائق الجغرافيا والتاريخ.

ثمّ قال، مستنتجًا بعد تحليلاته السابقة:

إنه "في ضوء ما قيل حتى الآن [يعني ما قاله هو حتى الآن!] يجب البحث عن "أورشليم" التوراتيَّة... في منطقة ما إلى الشمال من قعوة الصيان (وهي "جبل صهيون" في رجال ألمع)"!(3) 

وواضح أنه قد تعِب في البحث عن اسمٍ يُلصق به اسم (أورشليم).  لكنه في الأخير لم يجد إلَّا اسم فخذٍ قَبَليٍّ يكنى بـ(آل شريم) في (النماص).  فلم يفوِّت الفرصة، فقال:

"والأرجح هو أن "أورشليم" هذه... يمكن أن يعثر عليها فورًا على مسافة حوالي 35 كيلو مترًا إلى الشمال من بلدة النماص في سراة عسير، شمال أبها.  إنها القرية التي تسمى اليوم آل شريم (ءل شريم)، التي يحتوي اسمها على بعض التحريف التعريبي عن الأصل يورشليم!"(4) 

تُرى من (آل شريم) هؤلاء؟

لقد آن أن يعرف القارئ هؤلاء الذين ينسب إليهم الصليبيُّ أورشليم. 

إنهم فخذٌ قَبَليٌّ متأخِّر الزمن.  وليس آل شريم باسم مكان، لكن القرية تُسمّى باسم أهلها.  وهم من (آل عازب)، وآل عازب من قبيلة (آل لَصْلَع)، وآل لَصْلَع من قبائل (بني سفار)، وبنو سفار من قبائل (المجنب)، وهي من قبائل (ابن الأحمر/ بلَّحمر)، من قبائل رجال (الحَجْر).(5) 

وبذا فإنهم فرعٌ من فرعٍ من فرعٍ من فرعٍ من فرعٍ من بلَّحمر.  على حين أعاد الصليبي وجودهم إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وذهب إلى أنهم: "أورشليم"! 

وهكذا يفعل حين يجد اسم قبيلةٍ أو عشيرةٍ تتفق بعض حروفه مع اسم مكانٍ توراتيٍّ، زاعمًا أنه اسم مكان، ثمَّ يعزوه إلى آلاف السنين. 

ولله في خلقه شؤون!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر: الصليبي، (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 181.

(2) راجع إشارتنا في مقال سابق إلى كتاب (ياقوت الحموي، -626هـ= 1229م): "المشترك وضعًا والمفترق صقعًا". وكتاب (محمّد بن عبدالله بن بليهد، -1377هـ= 1957م): "ما تقارب سماعه وتباينت أمكنته وبِقاعه".

(3) م.ن، 183. 

وراجع ما قيل في مقالات سابقة حول اسم (الصيّان)، وأنه اسم إنسان، وإنما سُمِّي المكان باسمه.  وقد عاش في العصور المتأخّرة، ولا علاقة له لا بصهيون ولا بغير صهيون.  وتُعَدّ عشيرته فخذًا من (رجال ألمع).

(4) م.ن.

(5) حول (بلَّحمر)، انظر مثلًا: العمروي، عمر غرامة، (97- 1398هـ)، المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السعوديَّة، الجزء الثالث، بلاد رجال الحَجْر، (الرِّياض: دار اليمامة)، 52- 57.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «العابثون بالتاريخ!: 24- المؤتلِفُ لفظًا المختلِفُ أرضًا.. وحقائق التاريخ »، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الجمعة 4 سبتمبر 2015، ص8].

     تفتحت البلدان الإسلامية على العالم الآخر، فكان هناك تأثر وتأثير، إذ أخذ المسلمون من الشعوب التي خالطوها ولاسيما الغربية منها الغث والسمين، وحصلت هجرات كثيرة اجتماعية وثقافية، ونتيجة لهذا الاحتكاك تغيرت الأخلاق والقيم والسلوكيات، فأخذ الشعراء الإسلاميون يقارنون بين الماضي والحاضر في النهضة والعلم والمفاهيم السائدة، ومن هنا كان حديثهم عن الحضارة والأخلاق، وعن الأسرة عامة والمرأة خاصة، وعن الأوضاع الثقافية في العالم الإسلامي .

أولا : الحضارة والأخلاق في الشعر الإسلامي المعاصر :

    الحضارة عادة تنشأ في ظل قانون ونظام وهدف تسعى إليه، وهي تتحرك متفاعلة مع العالم دون أن تفقد هويتها، ولقد قدمت الحضارة الإسلامية أروع مفهوم وتطبيق لها، فقد أنشئت بقانون إلهي لابشري، ولهدف رباني هو عمارة الكون ، وكانت لاتميز بين أبيض وأسود أو بين غني وفقير ، وترك للجميع حرية التعبير والتعليم، وسخرت معطياتها لخدمة الإنسان . وكانت تتميز بقيمها الرفيعة حتى بات العالم الإسلامي موطن العلم والبحث والأمن والرخاء، ولاتزال مكتبات العالم تشهد بهذه النهضة القوية .

    وسأبين سمات كل من الحضارة الإسلامية والحديثة، والأخلاق التي سادت المجتمع الإسلامي كما بانت عند الشعراء الإسلاميين المعاصرين :

1-  الحضارة في الشعر الإسلامي المعاصر :

    تحدث الشعراء الإسلاميون عن الحضارتين الإسلامية والغربية وقارنوا بينهما، وحذروا من أخلاقيات العصر التي وفدت إلينا مع الحضارة الغربية، ونددوا بحضارة الغرب ومفاسدها وماديتها :

أ‌-     سمات الحضارة الإسلامية :

     فرق بين حضارتين ، إسلامية تقوم على الدين والخلق والعلم، وغربية مادية تناهض الدين وتعلي شأن العلم على كل شيء وإن تعارض مع الدين .

    لقد انطلق المسلمون من الجزيرة العربية لينشروا دين الله سبحانه في الأرض، وينقذوا البشرية من الفساد والطغيان فأسسوا حضارة لايزال العالم يشهد بها ويترنم بخيرها، هذا عمار عدنان شيخوني، يقول في الحضارة الإسلامية العظيمة وسيادتها في الأرض، وهدايتها للناس بالنور وحكمها بالعدل، ونشرها للعلم ثم تكالب أهل الشر عليها ليطفئوا نورها  :

كسرنا جموع الفرس والروم عنوة     بما ظلموا، ذلوا وعادوا صواغرا

وجالت بأرض الصين والغال خيلنا     وبتنا على الدنيا ملوكا أزاهرا

وكنا نسود الناس بالعدل والتقى     وبالعلم والأحلام نبني الحواضرا

ونعلــــــي كلام الله في كل بلدة     وفي كل أرض قــد نُشِيدُ المنائـــــــــرا

وكنا منار العلم والعلم حكمة     نحكِّـــــــم في كل الأمـــــــور الضمائرا

هدينا شعوب الأرض بعد عَماية     وبات أديم الأرض بالنور عاطرا

تألب أهل الشرك والكفر والهوى     ووافاهم الشيطان يسعى مؤازرا

يريدون طمس النور بعد سطوعه   فساروا كبحر الموت إذ مدّ زاخرا

فأبرقت الدنيــــــا بأفظع غيمة     ترى وَبْلَــــــها يهمي حـــُـــــتوفا مواطرا([2]) يتحدث أيضا عن حضارتنا المجيدة وما فيها من دين وعلم، وخلق وخير كان بهداية المولى فيقول :

هي أعلى الحضارات في علم وفي عمل     وليس يدركها في الخلد إنهاء

الحــــــق والخيـــــــر فيها كالبنــــــــاء عـــــــــلا    تكاملـــت فيه أنحـــــــــــاء وأجــــــزاء

الله صانعهـــــــا قد جـــــــــــلَّ عن شَــبَــــــهٍ    فهــــــــــي الحضارة لايدنــــو لها داء

العلم ينسجـــــــه نـــــــــــورا بلا خطــــــــأ     ففيــــــــــه للناس إيضــــــــــاح وإنجــــــاء

     وهذه الحضارة ليست كالحضارة الغربية المادية التي لا تسعد الإنسان، لأن حضارة الغرب وإن هي طاولت النجوم مادية طارت بجناح العلم، وحاربت الفطرة والدين بعد أن حاربت المسيحية العلم كما حارب الملوك الحرية ،ولهذا قالت الثورة الفرنسية اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، أما حضارتنا الإسلامية فمبنية على الدين الذي اختاره الله لعباده، يقول الأميري موجها خطابه إلى ذوي الحضارة الغربية مبينا فضائل حضارتنا :

ماحضاراتكم وإن هي مدت     من ثراها إلى النجوم جسورا

بالتي تسعــــــد الأنام وئـــاما    وسلامـــــــــا وصحــــــــة وحبـــــــــــــــورا

نعمة الأمن والسكينة في الأعما     ق والحب سلسبيـــــــــلا نميرا

وتآخي الإنسان في الله بالإنــ     ــسان يسدي له ودودا نصيــــرا

هي فحوى الحضارة الحق بالإحــ    ــسان يحيا الإنسان فيها قريرا

وهي الخير أبدع العُرب بالإســ   ــلام صرحا له مشيدا حصـــــــــــورا

وأقاموا حضارة الدين لاالطيــ    ــن فسادت وعمت الكون نــورا

إن دين الإسلام شرعا ونهجا     أكمـــــــــل الله وحيــــــــه دستــــــــورا

وبشرع القرآن والهدي هد     ي رسول الله يمضي جاهدا مستنيرا([4]) :

عالم اليوم كم شكوت الداء      وبذلت الجهود ترجو الشفاء

من صراع ساد الحياة فأضحت     حسرة أورثت بينها الشقاء

فشلت هذه الحضــــــــارة في أن     تجعــــــــــل الناس إخوة سعداء

تاه فيها الإنسان يطلب حلا    للمـــــــآسي وينشــــــــــــد النعماء

جاهلا ملة تــــــــولى بنـــــــــاها     خالـــــــــق عم  لطفــُـــــــه الأحياء

فهــــــدى سيد البريــــــــة مازا     ل شعـــــــــاعا يسلــــــــــط الأضواء

لعلاج المشاكل التي يفزع العا     لم من هولها ويشكو العناء

     ويطلب د. عارف الشيخ من أبناء حضارتنا أن لايتغَنَّــوا بالماضي ثم ينسوا واجباتهم اليوم، وينسوا ضرورة النهوض بالعلم ، والقضاء على المفاسد وأهمية نشر العدل في ربوع العالم والخير، يقول :

أمة الإيمان قد حان الأجل     أن تبثوا في الورى روح الأمـــل

ابعثوا مجــــــدا جديدا بيننا    حقـِّــقوا الحاضـــــــر فالماضــــــــي أفــــل

إن أشقى الناس من غنى على     وتر الماضي ولم يتقن عمل

ندَّعـــــــي أنا سبقنــــــــا أممــــــــــــا    وليالينــــــــــا كـــــــــؤوس وغـــــــــــــزل

يادعاة الحق هبــــــوا وانشروا    عدلكم مافــــــــــاز إلا من عدل([6])

   ولقد تحدث الشعراء عن مفاسد الحضارة الغربية ليبصروا الناس سبل الحق، قال عبد الرحمن بعكر([8])

    وينكر أسامة الخريبي([10]) :

ليس الشباب أنوثة ونعومـــــــــة     خلق الشباب مكافحين جنــــــــودا

لهفي على ابن الأكرمين مخنفسا    رخصا يسابق في الدلال الغيدا

الشَّعر مُنْسَدِل على أكتافـــــــه     يتسلح الأمشــــــــاط لاالبـــــــــــــــارودا

بسوالــــــــف وسلاسل وأظافر    يعصي الإلـــــــه لكي يطيـــــــــــــع يهودا

الخصم يغزو بالسموم عقولنا    لتظــــــــل للفكـــــــــر الدخيل عبيـــــــدا([12]) ابتذال الرجال وتشبههم بالنساء، وتعاطيهم المخدرات وغيرها من المفاسد فيقول :

طبائعنـــــــــــا صالحـــــــــــات جليلــــــــــة     تعـــــــــاف انحلال النفــــــوس الذليلة

تخنـــــــــث هــــــــذا الزمــــــــان ودبـــت    خنــــــافيس هِــــيْـبـــّــي يشيــــــــــع الرذيلة[14])

   ونبه محمد جميل العقاد أبناء الجيل إلى أن مايفعلونه من تقليد للغرب ليس تقدما بل انحدارا، ودعا إلى العلم لاإلى التفرنج، وإلى الاخشيشان في الحياة حتى نكون أقوياء ونستعيد الأمجاد، وبين أن الغرب الذي سيطر علينا بفكره بلغ مابلغه من القوة بالعلم لابالفساد، يقول :

ياويح شبان غفَوا     كم يرجعون إلى الورا

حسبوا التفرنج رفعة    كلا لعمري ذا عماء

عودوا لتالد مجدكم    فنفوسنا أضحت ظماء

مابالتخنث قد رقوا    حتى امتطوا متن الهواء

 بالعلـــــم ليس بغيـــره    علموا الدواء لكل داء

ملكوا عليكم أمركم    حتى غدوتم كالإمــــاء

وتفاخروا في دينكم    نفحاته هــــــن الحُداء([16])

    ويشيد محمد جميل العقاد بمن ترك التدخين إرضاء للمولى تعالى فيقول :

عابد الرحمن فاهنأ    بالعطايــــــــــــا الوافرات

تركك الدخان أمر    من عظيم المكرمات

ضاعف العزم وجاهد   فالدخان تُرَّهــات

فهـْـــــو والله بـــــــــلاء   وشقـــــــــاء للممات([18])

     ويبين د. العشماوي أن إهمال تربية الأولاد على الدين، وانشغال الأهل عنهم، وإرسالهم إلى الغرب للتعلم يؤدي إلى ترديهم إذ لايستطيع هؤلاء أحيانا أن يصمدوا أمام المغريات واللذائذ إن لم يحصَّنوا بالدين والخلق، يقول على لسان فتى عاش في بلاد الغرب فهوى ثم ارعوى :

ليلي أرقِّصُه على سهراتي     والفجر يعرف غفوتي وسباتي

في أرض أوربا قتلت كرامتي     وأضعت في حاناتها ثـــــرواتي

باريس تعرفني ولندن لم تزل     ترنو إلى جيبي وحسن هباتي([20])، يقــــــــــول د. ماجد عرسان الكيلاني([22])

   ومن مظاهر هذه الحياة عمل المرأة والرجل ونزع الحجاب والعفاف، وعدم المبالاة بالحلال والحرام ، يقول محيي الدين عطية([24])

    ويندد د. العشماوي بتفشي التعامل بالربا لتزداد الثروة ويقول :

جمعوا المال بالمرابـــــــــاة حتى    لم يعد للحلال فيهم مـــــــــرام([26])

    ونتيجة للغنى الذي عاشته دول الخليج بعد ظهور البترول، والبذخ الذي عاش فيه أبناؤها دعا د. عارف الشيخ إلى ترشيد الإنفاق كي تبقى الحياة لأن لكل مال نفاذ ، يقول :

     ويقيني

     أن

     هذا الماء

     أو

     ذاك الطعام

     سوف ينفد

     سوف ينفد

     فدعوا الإسراف

     والتبذير

     واستبقوا

     بقايا الخير

     للغد

     رشدوا الإنفاق

     كي تبقى الحياة

     رشدوا الإنفاق

     كي تبقى الحياة([28])

      ولقد كان من تكالب الناس على المتاع وتفاخرهم بالكماليات، ووقوعهم في شباك المصارف الربوية أن راح الشعراء الإسلاميون يوجهون الأنظار إلى المصارف الإسلامية، لأنها لاتستغل المتعاملين معها، يقول أبو الفضل شمسي باشا :

لمصارف الإسلام لحن قصائدي       ولها حروفي لؤلؤا منضودا

في الفقه والدين الميسر والحجا     يبــــــدون رأيا صائبا وسديدا

جعلوا التسامح في المصارف سنة    واليسر مفتاحا لنا وعهودا

والاقتصاد أنار درب مصارف      ليظل نجما ساطعا مشهودا

ذقنا المرارة من كؤوس عــــــــدونا     فأتيت تمحو ظلمهم تبديدا

يامصرف للخير إن قلوبنــــــــا     حملت لك الإكبار والتمجيدا

سنظل للإسلام ندعو جهرة    ونذود عنك جحــفلا ووفودا([30])

     التغريب مسلك للتخريب كما يقول د. العشماوي، ولقد أوهم المتغربون الذين انساقوا وراء الغرب الناسَ بأن اللحاق بركب الحضارة الغربية رقي ونهضة، ونسوا أن الغرب يعيش حياته في شقاء، يقول الأميري في الحضارة الغربية :

جاهلياتُ عالم الغرب يحيا     في رحاها إنسانُـــه مقهورا

خمرَت روحَه فكابد يشقى     ثم يشقى مكابرا مسعورا

وأرى داءها يــــدُبُّ إلينا    مُغرِيـــــا مُغوِيا لدودا كفـــــــــورا

دولَ القوة العَنوت رشاداً    لاعناداً وجنِّبُوا الكون بورا

أنتم توردون أنفسكم والنا     س طَراً موتا بطيئا خطيرا([32])

أما الشاعر جلول دكداك فيذكر فتك الحضارة الغربية بالإنسان عن طريق الأسلحة ونهب خيرات الشعوب، مع ادعاء أهلها أنهم يريدون الخير والسلام والتآخي للبشرية ، يقول :

كم يدعي الغرب أن السلم مطلبه    وهو الذي حطها في شر منحدر

في كفــــــــــــــه اليمــــــــــنى أزرار أسلحـــــــة     بالعلـــــــم طـــــــــــوَّرها في ألـــــــف مختبــــــــــر

والجـــوع باليسرى في الناس ينشره    مستـــــمتعـــــــــا أبــــــــــدا بالــــــــزهو والبطر([34])

      ولذلك يدعو محمد التهامي إلى إنقاذ الإنسان أي إنسان لنشر الخير في العالم أجمع ، يقول :

ياأيها الإنسان في يدك الهدى     إياك أن تنسى نداه وتغفله

وأخوك إنسان وروحك روحه     ودماكما في وحدة مسترسلة([36])

    وعلى الرغم من معاملة د. عارف الشيخ لصديقه بالمودة والمحبة إلا أن حسده جعله يتنكر له مما دعاه إلى التخلي عنه ، يقول :

حاولت أن أمتص حقد الحاقد     فذهبت ألقى مبغضي بتودد

صافحته، عانقته، ودعوتــــــــــــــــه     لتقارب من بعــــــــد طول تباعـــــــــد

فإذا به ذئب تقمص شكل إنـــ    ــسان وأضمـــــــــــر وثبـــــــة المترصــــــد

لايستريح لرؤيتي أو صحبـــــــــتي    أوَيستريـــــــــح وإنــــــــــه من حســــــــــدي

فبدأت عندئــــذ أعود إلى الورا    متـــــــــــروِّعا مــــــــن قلبـــــــــــــه المتوقـــــــــــــــد([38])

    ويندد د. العشماوي بفساد الأخلاق كالحسد والحقد وقلة الحياء فيقول :

ورب نقي النفس مكتمل الحجا     يحيط به الحساد حيث يكون

يظلـــــــــــون في كيــــــــــد له وعــــــداوة     لينتقصـــــــــوا من أمــــــــره ويهيــــــــــنـــــــوا

وكم رافع رأسا وفي الوحل رجله    كذلك أمــــــــــــــر الحاقدين جنـــــون

إذا لم يردَّ المرءَ عن فعل منكر حيــــــــــــــاءٌ ولم يردعــــــــــــــه عنـــــــــــــه يقيـــــــــــــــــن

فقد ضاع حتى لو بدا منه مظهر     جميل ولو تاقت إليه عيون([40])

 وكان عبد العزيز الرفاعي([42])

ثانيا : الأسرة في الشعر الإسلامي المعاصر

   قال المولى تعالى : "والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة "([44]) وقال " تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك"([46])

     واختيار الزوجة الصالحة من خير مايدعم الحياة الأسرية لما فيها من خلق وتقوى وصفاء يقول د. عثمان مكانسي في زوجته وتدعى إلهام :

صانـــــــــك الله دوما ياأليهامي     عشت في سعد فقد أسعدت أيامي

هذه الدنيـــــــا متاع أنت جدواه      زوجة فيهــــــــــــــــا الصلاح ظاهر نام

قد حبـــــــــاني الله فيها ما أمنــّــيه      درّةٌ حـــــــــــازتْ كمـــــــــــــالات بإتمـــــــــــــام

زانها خلــــــــق رفيـــــــــع طاب إنباتا     قد حبــــــــــــاها الله فيه فضــــــــــــل إنعام

من يرم للحق عونا والهدى ذكرا        فبذات الدين يلقى كل إكرام([48])

    ومفهوم الأسرة يشمل الزوجة والأولاد ، يقول محمد أحمد الصديق في قصيدته المنزل معبرا عن حبه لأسرته وشوقه للعودة إلى أهله حيث الراحة النفسية والسكينة ، وحيث ضجيج الأولاد ، يقول :

هنالك أخلــــــــع ثـــــوب العناء     وكل الغيـــــــــــــوم به تنجلـــــــــــــــــي

وحولي أفراخ عش صغار      وأغراس روض الغد الجمـــــــــــــل

فمن ضحكة تستـدر الحنان     إلى قبلـــــــــــة عذبــــــــــة المنهــــــــــــــــــل

وشكوى الصغير بحق الكبير     يكفكف من دمعه المسبل

وكم أستغيث بأم العيال     لإسكات ذي الرضعة المعول

ومن عجـــــــــبٍ قولـها إنه     يــــــــريدك أنت .. ألا فاحمــــــــــــــل

وكم ذا أشاطـــــرهم ملعبا     وأنسج من حبهـــــــــم مأملــــــــــــي

ويعجبني سعيهم للصلاة     وميل إلى المسلك الأفضل([50])

     وقد يتسع المفهوم ليشمل العشيرة ، فالشاعر د. بهجت الحديثي يرى أن عشيرة العبيد كلها هم أسرته :

قومي العبيد وفي أمجادهم عِـبَر        رمز الكرامة لاذل ولا خـــور

إن العبيـــــد شيوخ كلهم أنف    ترنو إلى مرتقــــــــــاهم أنجــــــــــــم زهـــــــــــــر

إن العبيد ذوو تقوى وقد جمعوا       أصلا ودينا وما أغرتهــــم سرر([52])  

    كما ندد الشعراء الإسلاميون بمن يترك الزواج بحجة أنه لايريد أن يرتبط بواحدة قد يملها فضلا عن الواجبات الأسرية، يقول محمد مصطفى حمام(العــــــلاقة بين أفـــــراد الأسرة " أبا وأما وزوجا وأولادا "

وقد رسم الشعراء الإسلاميون صفحات نيرات من العلاقة بين أفراد الأسرة :

- فالأب هو رب الأسرة وصاحب الأيادي البيضاء عليها، وقد بين الشاعر معاذ محمود نحاس([55])

    وكم يشقى الوالد ويحرم نفسه ليقدم لأولاده كما يقول د.أكرم قنبس :

مات الذي كان في دنياه يغمرني     بالمكرمات ويدعو لي ويجتهد

وكم لأبنائه قد قال قولتــــــــه     من أجل علم به الأبنـــــــــــاء قد وعَدوا

أعطيكم لحم أكتافي إذا فقدت    دراهم فارتقوا في العلم واجتهدوا

ذو همة ينضح الإيمان من دمها     وذو أياد بها تخضوضـــــــــر الجرد

هذا هو الوالد المعطــــــــــاء سيرته    مسك وذو مُسكة ترجى وتعتمد([57]) في مرثيتها لوالدها :

أبي وسنادي ضوء أَمْسي وبهجتي     أكل امرئ عمن يحب سينزع

يقــــــــوِّم زلاتي ويصفــــــــــح عثرتي       وتَنسى عقوقي والجميل تُشجع

    أما العقاد فيرى في الأب صورة للرجل االتقي المهيب الذي يأمر فيطاع ، يقول :

لها أب يحكي الأسدْ    مؤديا حق الأحدْ

تهــــــــابه في غيبتــــــــــــه     هيبتـــَـــــــه في حضرته

تحس عــِـــــزريل حضر    إذا لهــــا يوما زجر([59])

    ويحس الابن مهما كبر باليتم عند فقد الأب ، يقول د. عثمان مكانسي في ذلك :

هطلت دموعي واستجاش جناني    لما علمت بفقــــــــــد من رباني

وشعرت باليتم الحقيق يلفــــــــــني    بالرغم أن الشيب قـــــــد وافـــــــــــــــــاني

ماذا أقول وقد حرمت وصالكم    ومنعت قهرا من جناك الداني

أبتاه في ظل الرحيم مقامكم     لاظلم في ذاك الجناب الحاني([61])

     كما ندد د. عبد الجبار الزيدي بمن يعق والديه، يقول في حفل اليوم العالمي للمسنين :

من مهجتي أهدي لكم أشعاري    يامن بنيتم عزتي وفخاري

يامن صبرتم في الحياة على البِلى     ومضيتم في قسوة التيار([63])

    ولما لم تُجدِ معه هذه النصيحة سألته إن كان يرضى لها أن تسير هي في هذا النهج فقال مستنكرا :

    يابنتي

    إن العار

    منه الحر

    يخجل

    سأسارع

    للسلاح

    كيف عرض يستباح

   فبينت له أن الناس كذلك لايرضون انتهاك أعراضهم ، وعليه أن يتوب إلى بارئه فيصفح الله عن زلته .

-أما الأم ففضلها عميم فهي الساهرة المضحية بلا حدود، الناصحة الأمين، المربية للجيل ، يقول د. عثمان مكانسي معترفا بفضل أمه :

قبلاتي أطبعها رغبــــــــــــا     وضلوعــــــــــي تزداد حنينا

للأم حبــــــــــاها مولانا       عفوا وصفـــــــاء ويقينـــــــــا

ربتنا بالخلق الأسمى      جعلتنـــــــــا نلتـــــــــزم الديـــــــــــــــــــنا

فالفضل لها والشكر لها    هي منبع خير يهدينا

يارب فأكرمهـــــــا دوما     فلأنـــــــتَ المكرِم آمينا([65])

ومهما بلغت الأم من الكبر عتيّا، وارتجفت منها الأعصاب واحدودب الظهر فإن عاطفتها نحو أولادها تبقى متقدة ولذلك على الأولاد أن يرعوها ، يقول الأميري :

أمي وقد جاوزت ثمانينها     واستشـــــــــرفت ترمــــــــق تسعينهــــا

الضعف في أعصابها راجف    والعمــــــــر قد أوهن تكوينهــــــا

واحدودب الظهر وأعباؤها    في وجهها خطت مضامينها

أمي وكل الخيــــــر في طبعها     والبــــــــر قـــــــد زان لهــــــــــا دينهــــــــــا

تحمل همي وهمــــــــــــوم الـــــورى     والفكـــــــر لايحصـــي أفانينهـــــــــــا

فكيف لاأحملهـــا في الحشا    لاخفــّــــــــــف الله موازينــــهـــــــــــــــــا([67])

   وقد تكون الغربة سفرا إلى بلد الأهل ، تقول صفاء ناعسة لأمها التي بعدت عنها :

أتاني طائــــــف في الليل يشــــــــــدو     يبــــــــــــارك فيَّ إرضـــــــائــــــــــــي لأمــــــــــــــــــي

إلام تطمحيــــــــــن ببُعـــــــــــــــــــــد أم       يشعشع نورها ماحي الظــــــــــــــلام

فياأمي أبلغـــــــــــــك سلامي

أترجــــــِـــــين السعـــــــــــادة في بعـــــــــــاد     وزينبُ حبــــَّــــــة القلـــــــــــب قـــــــريبـــــــــــــة

إذاً قد خِبتِ خاب السعي ضِلا    هي الروح هي السلوى الحبيبة

زهور الحب أهديها النجيبة([69])

    ويتمنى د. عبد القدوس أبو صالح لوسقى قبر أمه بدموعه، وكانت قد فاضت روحها إلى بارئها وهو في مغتربه ، فأحس أنه لايزال طفلا يحتاج إليها ثم راح يذرف الدمع غزيرا عليها ويقول :

أمـــــــــــاه ماأبقــــــــــــت لي الأيـــــــــــام بعـــــــــــــدك باقيــــــــــةْ

أمـــــــــــــاه مُـــــدِّي لي يديـــــــــــك وإن تكــــــــــوني ثاوية

مازلْتُ طفلك جرَّحت كبدي الليالي الشاتيــــــــــــة

أمـــــــــاه هل يبكي الرجــــــــــال إذا ألمــّــــــت داهيــــــــــة

إن الرجولــــــــــــة قد علمــــــــــــــــــت بسالــــــــــــة متناهية

لكنهــــــــــا في دمعـــــــــــــةٍ للعيـــــــــــــن تبـــــــــــدو غاليـــــــــــة

فسكبتــــُــــــــــــها ياليتهــــــــــــا كانت لقبرك ساقيـــــــة([71])

  - أما الزوجان ففي قلب كل منهما للآخر مودة ورحمة ، وهما السكن والراحة والسعادة ، يقول زهير المزوق معبرا عن هذا :

سكن الفؤاد بقربهنـــــــــهْ     والعيش مــــرٌّ بعــــدهنـــَّــــــهْ

سبحان من منح النسا     ء لطافة في طبعهنه

ومنحن للزوج الودا    د وللصغــــــــــار حنانهنــــــه([73])

       وقد اختار د. عارف الشيخ زوجته لجمالها ونقائها وحنانها وقال :

أنت سمراء قد اخترتك كوني لي حبيبةْ

لك شكواي ونجواي وما ذاك بريبــــــــــــــــــة

أنت طهرٌ ونقاء أنت عنوان الفضيلة

أنت دفء وحنان أنت للعاني شفاء

أنت للشاعر إحساس وللحادي حداء([75])

    وإن نأت عنه اشتاق إليها وأرسل إليها بمثل قول د. العشماوي لزوجته :

رحلتُ وبي لهفـــــــــــة للتلاقي     يقصر عن وصفها ماأقــــــــولْ

رحلتُ وما كنت أعلم أني     سيقصر عزمي وليلي يطولْ([77])

   فلما فارقته الفراق الأبدي وكان قد استشهد في سجنه في 1981م بكته بدموع حرى وقالت :

ماعــــــــــــدت أنتظر الرجــــــــوع ولا مواعيــــــــــــد المســــــــــــاء

ماعـــــــــــدت أهــــــــــــرع حين تُقْبـــــــــــل باسما رغم العناء

ماعاد يطرق مسمعي في الصبح صوتك في دعاء

وتركتــــــــــني أمضي مع الأيـــــــــام في صمت الشقـــــــــــــــــاء

ولسوف ألقاكم ، أجل ، وعـــــــــــــــــد يصدقه الوفاء

وسنحتمي بالخلــــــــــــد لانخشى فراقــــــــــــــــــــا أو فناء([79])

    -أما الأولاد فلذات الأكباد وريحان الأسر فيملؤونها بهجة وسعادة، وإن كان في ضجيجهم ضيق وتعب ، ولا يجتمع متضادان إلا في الولد والمشاعر نحوه، هذا الأميري في قصيدته أب الشهيرة يعبر عن هذه الأحاسيس تجاه أولاده بعدما فارقهم فراح يتذكر فعالهم، شغبهم وإيذاءهم مع حبه لهم وشوقه إليهم فيقول :

أين الضجيج العذب والشغب     أين التدارس شابه اللعب

أين الطفــــــــولة في توقدهـــــــــــــا    أين الدمى في الأرض واللعــب

أين التسابــــــــــق في مجاورتي    شغفــــــــا إذا أكلـــــــــوا وإن شربـــــــــــــوا

فنشيدهم ( بابا ) إذا فرحوا     ووعيدهم بابا إذا غضبــــــــــــــــــوا

ذهبوا أجل ذهبوا ومسكنهم     في القلب ماشطُّوا وما قرُبوا

في كل ركن منهــــــــــــــم أثـــــــــــــــر     وبكل زاويـــــــــــــــــة لهم صخـــــــــــب

في الباب قد كسروا مزالجه    وعليه قـــــــــد رسموا وقد كتبـــــــــــــــوا

بالأمس في (قرنايــــــــــل) نزلوا      واليوم قد ضمتهم (حلب)

حتى إذا ساروا وقد نزعوا     من أضلعــــــــــــــي قلبا بهم يجـــــب

ألفيتُني كالطفل عاطفة     فإذا به كالغيـــــــــث ينسكــــــــــــــــــــــــب

هيهات ماكل البكا خـــــــور     إني وبي عزم الرجال أب([81])

    أما محمد حكمت وليد فبعد أن يعبر لابنه عن حبه الشديد له يدعوه ليكون رجل المستقبل المجاهد في سبيل الله ويقول :

على الأعناق تحمل والأيادي     وحبك في الضلــــــــــــوع وفي الفـــــــؤاد

وأي بشائـــــــــــر حلت علينــــــــــــا     كما حــــــــــل الربيـــــــــــــع على البوادي

فنم ولـــــــدي بمهدك في هناء    وداعـــــــــب طيـــــــــف أحــــــــلام الرقــــــــــــــاد

ألا ولدي نـــــــذرتك للجهاد     فســــــــــــــر في ساحتيــــــــــه باجتهــــــــــــــــــــــــاد

لك القـــــــــرآن نبراسا وهديا     وداعيـــــــــــــــــــه إلى سبـــــــــــــــــــل الرشــــــــــــاد([83])

       وللبنات حبهن كذلك ، يقول يحيى حاج يحيى([85])

    وعندما تبتلى البنت وتصبر على بلواها ينظر إليها أبواها بإكبار وإعجاب، هذه ابنة الشاعر محمد حبيب يسجن زوجها بالطغيان السياسي فتربي ابنيها وهي تعاف الدنيا وزخرفها الزائل، وتروح تتابع علمها بكل همة وجد، فيقول فيها :

لله درك يابنتي ياصابرة     يامن صمدت لدى الظروف القاهرة

لم تنحني رغم الشدائد والعنا      تتجاهلي رغبات روح غائرة

دنياك طفلاك عماد، مجاهد     أحنيت فوقهما عواطف غامرة

فامضي رعاك الله عبر دراسة     تعليك شأنا فالحياة مصابرة([87])

     ويبتهج يوسف العظم لأن ابنه عماد الدين صمد في البلد الأجنبي في وجه المنكر ويقول :

رجم الشــــــــر فذُلَّ الشــــــرُّ وارتــــــــــــــــد رجيما

ودعــــــــــا الله فلبــــــــــــاه رؤوفــــــــــــا ورحيمــــــــــــــــــــا

كم طوت تلك المتاهات صبايا وشبابا

فتمــــــــردتَ عليها صادقــــــــا ترجـــــــو ثوابـــــــــــا

وبدا النـــور على وجهـــــــــــــــك آمالا عذابا

ياعمـــــــــاد الدين لاتطرق لغير الله بابا([89]) على لسان طفل أهملته أمه لتتسلى مع الجيران :

قد ذهبت أمي إلى الجيران     وخلفتــــــــــــــــــــــــــني جائعا أعاني

وأوكلتني لكمارا الخادمة    تلك التي طول النهار نائمــــــــة

  ولا ترى الليل رغيد العيش    إن لم يمر في قناة الـــــــــــــدش

ألقيتِني في حضن أجنبية    تعلفــُــــــــــني كآلـــــــــــــة غبيــــــــــــــــــــــــــــــةْ

فأين ياأماه دفءُ الحب    يضمُّني في قلبك المحب([91]) 

    وللأخوة مكانتهم أيضا ، وهذا د. عثمان مكانسي يرسل إلى أخته رسالة يعبر لها عن شوقه إليها فيقول :

ولأختي أبعث أشواقي    من قلب صب تواق

إن طال زمان البعد فبعـــ     ـــد البعد دنوٌّ وتلاق

وسلاما أرسله عطرا    بلسان أخيك المشتاق([93])

[2] - محمود الطاهر الصافي شاعر من محافظة البحيرة بمصر له ديوان انتصار الإيمان: معجم الأدباء الإسلاميين 3/1311والشعر في / 1312

[4] - حسن بن يحيى الذاري من بلدة الذاري باليمن له ديوان قذائف اللهب وبراكين الصحوة وأنوار الفجر: معجم الأدباء الإسلاميين 1/ 325 والشعر في 327

[6] - من الشعر الإسلامي الحديث / 95

[8] - من الشعر الإسلامي الحديث / 288

[10] - أحمد فرح عقيلان ( 1924-1997م) شاعر من الفالوجة بفلسطين له ديوان جرح الإباء، ولابأس، والبردة الجديدة : معجم الأدباء الإسلاميين 1/ 150

[12][12] - الشيخ زكريا بن سليمان آل الشيخ الملقب بالمفدى ( 1908-1977م) شاعر من الجزائر شارك في ثورتها له ديوان إلياذة الجزائر ، اللهب المقدس، تحت ظلال الزيتون : معجم الأدباء الإسلاميين 3/ 1384، وموسوعة ويكيبيديا الموسوعة الحرة .

[14] - إلياذة الجزائر / 133 ومثلها في ديوان محمد جميل العقاد / 455

[16] - قادمون مع الفجر / 93

[18] - مجلة الأدب الإسلامي م45ع19س1419هـ 1998م رفعت محمد بروبي ، قصة مدمن / 36

[20] -  سمعت من أناس أعرفهم أنهم أكلوا دجاج كنتاكي من مطاعم أمريكية فأسقطوا أجنتهم وأصيبوا بعد ذلك بالعقم، وسمعت بصفقة لحم ملوثة دخلت إحدى البلدان العربية،  ولعل الشاعر اطلع على مثل هذه الأخطار .

[22] -من رسالة للشاعر في 2005م

[24] - مجلة الأدب الإسلامي م5، ع19، س1419هـ ، محيي الدين عطية ، القطار /103

[26] - موقع يوسف القرضاوي .

[28] - شذرات / 163-172

[30] - نقوش على واجهة القرن الخامس عشر /53

[32] - الإسلام في المعترك الحضاري / 41

[34] - في رحاب الأقصى / 116

[36] - نقوش على واجهة القرن الخامس عشر / 60

[38] - من مخطوطه صوت الحق

[40] - ديوان بائعة الريحان / 49

[42] - شذرات / 28

[44] - رواه أبو داود نقلا عن تربية الأولاد في الإسلام / 36، والموقع الإلكتروني

[46] - ديوان شذرات / 116

[48] - ديوان محمد جميل العقاد / 457

[50] -ديوان إشراق / 223

[52] - البيكو لفظة فرنسية تستعمل في شتم المسلمين واحتقارهم في شمال إفريقيا، أما (البكوية) فلفظ تشريف في مصر يسمى (بيك وتنطق بيه ) : إلياذة الجزائر / 147 والشعر في الصفحة نفسها .

[54] - معاذ محمود نحاس شاعر من حلب ولد 1977م  له شعر في مجلة الأدب الإسلامي: من رسالة من زوجة الشاعر في 2012م

[56] - رسول التوحيد / 84

[58] - ديوان محمد جميل العقاد /458

[60] - نبضات قلب / 7

[62] - من رسالة للشاعر في 2009 والقصيدة قالها في عجمان في 20/9/1998م

[64] -نبضات قلب /94

[66] -ألوان طيف / 157، ومثلها في مع الله / 153

[68] - من رسالة الشاعرة في 2001م

[70] - مجلة الأدب الإسلامي م5 ع19 س1419، د. عبد القدوس أبو صالح ، أمي الحبيبة / 112

[72] - معجم الأدباء الإسلاميين 1/ 488

[74] - شذرات / 33

[76] - ديوان إلى حواء / 142

[78] - نفسه / 24-25

[80] - رياحين الجنة / 25

[81] - قالت المرآة / 126 ، ومثلها في ص 134

[83] - أشعار من زمن القهر / 16

[85] - من الشعر الإسلامي الحديث / 304-305

[87] - شعراء الدعوة الإسلامية 10 / 73

[89] - صالح علي الأحمر شاعر من اليمن ت2011مكان رئيس تحرير مجلة بث اليمنية وله شعر متناثر في الدوريات : الموقع الإلكتروني 

[91] - من رسالة للشاعر وقد قال القصيدة في حفل عقيقة الطفل في 12/11/2008م

[93] - معجم الأدباء الإسلاميين 3م 1096 وشعراء الدعوة الإسلامية 10 / 60

clip_image001_864ef.jpg

وكتب الشاعر ( صلاح الدين عيادة الوليد ) قصيدة في رثاء المفكر الإسلامي نجم الدين أربكان – رحمه الله – يقول فيها :

من إلى رحمة مولاه رحلْ      فسمعنا نجم إصلاح أفلْ

إنه نجم رشاد وهدى           ومنار في سلوكٍ وعملْ

نذر النفس لإصلاحٍ فما       آثر الراحة ما كلّ وملْ

يحمل الهمَّ بقلبٍ ثابتٍ        وبعزمٍ دونه يهوي جبلْ

لقد نذر نجم الدين أربكان نفسه للإصلاح ومحاربة الفساد والوقوف بوجه التيار العلماني الذي يعادي الإسلام ويسعى لفصل الدين عن الدولة ، وكانت غايته المثلى نهضة الأمة لتلحق بركب الحضارة ، وكادت الهموم تمزّق فؤاده ، ولكنه تسلّح بالأمل والعزيمة الصلبة والإرادة القوية :

نهضة الأمة أسمى غاية               لم تفارقه إلى حين الأجلْ

هاله ما قد جرى في أمتي    وسط هذا الضعف قد أحيا الأملْ

في رماد شعلة من نفخه         أوقدتْ ناراً بها الذلُّ اشتعلْ

واستعادتْ أمتي ما نسيت       من حضارات أقامت ودولْ

ومضى ترجع للماضي وما     كان من مجدٍ لماذا الوهن حلْ

ولماذا قلعةُ العزّ غدتْ          ترهبَ الخصمَ كذئبٍ وحملْ

ولماذا حلَّ فيها خورٌ                 إنه في أمتي أمرٌ جللْ

إنه الإعراض عن خالقنا    سببٌ في كل وهن ٍ قد حصلْ

أربكان رحمةُ الله على        جدثٍ ضمك والفضلُ هطلْ

سرتَ في صدقٍ عسى يكرمكم      بجنانٍ ربنا عزَّ وجلْ

ويرى الشاعر أن سبب تخلف الأمة عن ركب الحضارة هو الوهن وحبّ الدنيا وكراهية الموت والبعد عن قيم الإسلام الخالدة، والإعراض عن الله ....

ألا يارب مغفرةً لنجمٍ :

وكتب الشاعر الإسلامي المعاصر محمد جميل جانودي قصيدة يرثي فيها البروفيسور نجم الدين أربكان – رحمه الله – يقول في مطلعها :

ذهلتُ بما رأيتُ من السماء              توشحت السواد بلا مراء ِ

وبعد هنيهةٍ سكبتْ دموعاً            وجابَ نحيبها رحبَ الفضاء

سألتُ أحبتي ما الأمر حتى        حدا الحسناءَ على هذا السخاء

وفيما عيونها فاضت كسيلٍ          وفيما الأرض ضجّت بالبكاء

أجابوني وهم مثلي حيارى              أحبتنا نعت نجمَ السماءِ

نعتْ نجماً ولا نجماً كنجمٍ             أضاء زمانه أسنى الضياء ِ

أجل قد كان نجماً لا يبارى          تألق في الصباح وفي المساء ِ

صوّر الشاعر حزن الطبيعة على رحيل المجاهد أربكان ، فالسماء توشحت السواد وراحت تسكب الدموع بغزارة ، فسأل الشاعر أحبابه لماذا تبكي هذه الحسناء ، فكان النبأ الصاعق لقد رحل نجم السماء ، الذي أضاء زمانه بالعلم والعرفان :

طفولته ترى رجلاً عظيماً       رأى ما كان من جهد البلاءِ

رأى رمزاً كبيراً قد تهاوى             هوت معه رموزُ الأوفياءِ

رأى ديناً قويماً قد تنحّى           بمكرٍ من أساطين الشقاء

وحلّ محلّه سفرٌ تولّى               كتابته صنائع ذي العداءِ

رأى تبديلَ حرف كان مجداً              لأمته ومجلبةُ الهناءِ

رأى العربية الفصحى تنادي      لقد أقصيت من ألفي لياء

رأى أمجادَ عثمانٍ علاها           غبارٌ هبَّ من دانٍ وناء

رأى الأخلاق تمحى من نفوسٍ      وتطبع بالرذيلة والخناء

لقد أدرك البروفيسور نجم الدين أربكان فداحة الجريمة التي أقدم عليها مصطفى كمال حيث أبدل الحروف العربية ووضع محلها الأحرف اللاتينية ، وطمس آثار بني عثمان، وألغى الخلافة ، والأوقاف ، ومنع الآذان باللغة العربية، وحارب الحجاب ، فتلفت أربكان حوله، فشخص الداء ووصف الدواء، وتحلى بالصبر، وجاهد لنشر الدعوة ، فدخل نور دعوته في كل بيت في تركيا ، يقول الشاعر :

تلفت حوله فرأى وميضاً          بأفئدة الرجال الأصفياء

تعهده برفقٍ واصطبارٍ             إلى أن صار نجماً ذا بهاء

وأضحى نوره في كلِّ بيتٍ      تجلّى في الرجال وفي النساء

وأعلى راية الإسلام سلماً          يواجه كيدَ مكرٍ وازدراءِ

فأشرق وجه تركيا علينا            أطلَّ بوجه سعد ٍ والبراء

وعاشَ الناسُ أحراراً كراماً         بفضل غراسه أهل الوفاء

أقرَّ الله مهجته بنصرٍ               تمثّلَ في التحرر والإباء

بكى فرحاً لأن الحقَّ أضحى      علانيةً يسيرُ بلا اختفاء

وأضحى أهله يشمون هوناً        سلاماً قولهم عند اللقاء

وصور الشاعر شوق المسلمين لأيام أربكان، وأشاد بجهوده في نهضة تركيا لقد علم أمته كيف تسمو وتحلّق في سماء المجد والعلياء، فلله درّ الشاعر عندما صوّر ذلك فقال :

ألا يا أربكانُ إليك نهفو             فأنت أخو علوٍّ وارتقاء

لقد علّمتَ شعبك كيف يسمو    بصبرٍ في الشدائد والعناءٍ

بحمد الله في النعماء دوماً          وشكراً في المسرّة والرخاء ِ

ألا يا أربكان إليك منا             تحيّة من أحبك في صفاء

ونرجو الله أن نلقى قبولاً       لدى مولاك َ في حسن الأداء

أنجمَ الدين معذرةً فإنا                 تبارينا بدنيا الأشقياء

وأغمضنا عيوناً عنكَ ردحاً             وتهنا في الولاء والبراءِ

غرقنا في بحار القوم حتى            ننال لديهم بعضَ الثناءِ

نسينا أن منهجنا قويمٌ             وأن الناسَ فيه على سواءِ

فصححتَ المسارَ وكان صعباً    عليكَ مسيرنا دون اهتداءِ

وحانت وفاة نجم الدين أربكان، فوّدع الحياة مبتسماً؛ لأنه عاش حميداً، ومات سعيداً، وناداه الرسول فلبّى النداء :

وجاء الموتُ نحوكَ في أناةٍ            كما يأتي كرامَ الأتقياءِ

وناداكَ الرسول بكلِّ رفقٍ             إلى الرحمن هيّا للعلاء ِ

فلبيتَ النداءَ بكلِّ شوقٍ         لتلقى الركبَ موفورَ الجزاء

ألا يا ربّ مغفرةً لنجمٍ          ألا يا ربّ اجزلْ في العطاءِ

و بعد :

ثم رحل ذلك النجم، ولكنه خلّد اسمه في صفحات المجد والعلياء، وترك في تركيا المعاصرة آثاراً لا تمحى، وها هم تلاميذه : عبدالله غول، ورجب طيب أردوغان، وأحمد داود أوغلو، ورجائي قوطان، يتابعون مسيرة الخير والبذل والعطاء التي خطها أربكان بدم قلبه، فصاراً قدوة ..ومنارة ..ونجماً ساطعاً ..دخلت أنواره في جميع القلوب المؤمنة، وسرت في بيوت الأتراك مسرى الدم في العروق .

clip_image001_f0d20.jpg

(1319- 1395ه)

(1901- 1975)

الشاعر منير الكلاليب شاعر إسلامي النزعة معاصر عاش في حمص .

تعرض للإهمال والنسيان ربما بسبب مواقفه المحافظة، وفي هذه الصفحات تعريف موجز به وبشعره .

أصله ونشأته :

هو منير بن عبد السلام بن خالد بن حسن بن عمر بن الشيخ حسن الكلاليب بن نعمة بك العشاني ( وفي الأوراق العشابي ) فهو من أصل عربي، ويقال : إن العشابي من أصل أندلسي، هاجر من الأندلس إلى حلب، ثم نزح بعض أولاده إلى حماة، فلبث فيها طويلاً، ثم غادر بعض أبنائه إلى حمص .

ويزعم بعضهم أنه من أصل كردي، ولم يثبت هذا بدليل ياء النسبة في العشابي التي هي خاصة في اللغة العربية مع ما تحمله كلمة ( العشاب) من معنى عربي .

أما إذا كانت الغساني هي النسبة الصحيحة فلا إشكال في عربية أصله .

ولد الأستاذ الشاعر منير الكلاليب سنة 1901م من آباء يتوارثون العلم والأدب فيأخذ الابن عن أبيه منذ الشيخ حسن الأول ( الكلاليب) إلى يومنا هذا، وكل منهم يلقب بشيخ .

فيحكى عن الشيخ حسن الأول أنه ذو قدم راسخة في العلم، كما كان الشيخ خالد، جدّ الأستاذ منير، من صناديد اللغة العربية وأعلام المذهب الشافعي، وكان كثير من أهل هذا البيت يتعاطون الشعر، فقد حاز عم الأستاذ منير وهو الشيخ أنيس الكلاليب، قصب السبق في مسابقة شعرية اشترك فيها شعراء العرب كافة في زمنه . وتولت نشر ذلك جريدة كانت تصدر يومئذ اسمها (ثمرات الفنون) بالإضافة إلى معرفته الواسعة بعلوم اللغة العربية .

وهب الله هذا الشاعر الذكاء الفطري .

دراسته :

تلقى دراسته فنال التحصيل الابتدائي، وكان عازماً على إكمال دراسته، ولكنه أصيب بالتهاب عظمي في مفصل رجله اليسرى الحرقفي، إذ كان يخطب بدار الحكومة في حمص، واضطر أن ينفصل عن طلب العلم المقيد بالصف إلى طلب العلم المطلق بأن يختلف إلى العلماء والأدباء والشعراء المشهورين في تلك الأيام وعكف على مطالعة كتب الأدب ومكتبة أسرته غنية بنفائس الكتب والمؤلفات، وقد رحل إلى القاهرة فمكث فيها حيناً من الدهر يتردد على دار كتبها وعلى جامعها الأزهر .

عمل مدرساً في المدارس الثانوية بمدينة حمص، فتخرج على يديه أعداد كثيرة من الطلاب .

مؤلفاته :

له ديوان شعر عنوانه :

1-( من شعر منير الكلاليب ) يشتمل على تسعة أبواب .

2-كتاب في المعاني والبيان والبديع – لم يطبع .

3-طريقة تعليم الأميين .

4-الإصابة في تعليم القراءة بعد الكتابة .

الانتاج الشعري :

له ديوان عنوانه : ( من شعر منير الكلاليب ) – مطبوع .

وأورد له كتاب : الحركة الشعرية المعاصرة في حمص 1900- 1956م – عدداً من النماذج الشعرية .

بالإضافة إلى كتاب : من أعلام حمص – ج1 .

وله مطولة شعرية ذات نفس ملحمي، عنوانها : ملاحم عربية وأساطير إسرائيلية .

وديوان مخطوط تذكر المصادر أن قصائده في الموضوع القومي .

انشغل شعره بتاريخ العرب ووقائعهم، مثل : موقعة القادسية، وذي قار قديماً .

وكفاح الشعب الجزائري من خلال ثورته حديثاً .

وله شعر في الغزل يدعو فيه إلى السلوان والتأسي، إلى جانب شعر له في الحث على منح الإنسان حقوقه وتمكينه من حريته ، كما كتب في فضل الأم .

المضمون الإسلامي في شعره :

ملاحم إسلامية :

صور الشاعر ملحمة الإسلام في القادسية ضد الفرس، حيث مزّق الله ملك المجوس استجابة لدعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول الشاعر :

أورد الظامئين منهل ماء             من معين من روضة غناء

غارساً من ملاحم العرب أشجا       راً خباها دون لدان ماء

ذي عروس والعمر سبعون يوماً        وهي بكر تزف للأدباء

مهرها فهو القبول وشيء           من دعاء ونفحة من رضاء

قصد الفرس جيش سعد بن أبي وقا   ص يجتاز واسع الأفلاء

هب كسرى لدرئهم جاعلا من        رستم قائداً مجيد النداء

وتلاقوا في القادسية والحر           بُ لظاها مسعورة الإبراء

حملَ العرب حملة طاح فيها          رستم في جيوشه الخرماء

يمم الفرس هاربين جلولا         ء ، فكانوا في إثرهم باقتفاء

وامحت دعوة الأكاسر من بعــــــــــــــــــــــد عـــــــــــــــراك ومقتل في وماء

حققت دعوة النبي عليهم          إذ دعا أن يمزقوا كغشاء

فرنسا تحتل الجزائر :

وجهت فرنسا جيوشها المدججة بالسلاح لاحتلال الجزائر ، فوقفت الدول الإسلامية تنتظر دورها ، وها هو الشاعر منير كلاليب يفضح جرائم المستعمرين ضد الشعب المسلم الأعزل:

أرســــــــــــــــلت جيشها المدجج يحتلـــــــــــــــــــــ   ل بلاداً لأمة عزلاء

واستباحوا مـــــــــن الجزائر مــــــــــا ليــــــــس مباحا لأهلها الجلداء

فاستجاروا بالغرب منها فكانوا مستجيرا بالنار من رمضاء

استقلال الجزائر :

وحظي أهل الجزائر بثمرة جهادهم المرير، بعد مليون شهيد رووا ثرى الجزائر الطهور أينع الثمر، واستقلت الجزائر :

جنيتم من جهادكم انتصارا      ومن غرس الجهاد جنى الفخارا

قفوتم بالعلا آباء صـــــــــــــدق        جــــــــــــــــروا شوطاً بعيداً لا يجارى

نصبتم للأباة منـــــــــــــــــــــار عزٍّ        فمـــــــــــــــــــن رامَ الحياة عليه سارا

تخذتم في الخطوب وفي الرزايا           ثباتكم وحزمكم شعارا

يكاد القلب يقصد حيث كنتم        فلو حملته أجنحة لطارا

تكريم الأم :

للأم دور كبير في تربية الأولاد ، فالذي ربى المسيح ورعاه امرأة ، والذي آسى الرسول ووقف إلى جانبه في بداية الدعوة امرأة عظيمة هي خديجة ، يقول الشاعر :

كثيرات صنوف الأمهات       وأولاهــــــــــــــن بــــــــر الأمـــــهات

وما ولد المسيح وما رعاه       ســـــــــــــوى امـــــرأة من المتبتلات

آسى رســـــــــــــــــــــــــول الله إلا       خديجة يوم لم يك من أساة

الشمس وهي من الإناث       لظل هلالكم في المظلمات ِ

ذكرى الشهداء :

هو شاعر مجيد وهبه الله بلاغة التعبير ورقة الوصف ومن شعره البديع قوله بمناسبة ذكرى الشهداء في 6 أيار :

ذكرى لأيار تجـــــــــــــــــدّ فتؤلم ُ      فلها به مــــــــــــــــــــــــــــــــن كلّ عـــــام مأتمُ

وفمُ الزمان مهدل وجفونه    حزناً على العرب الجحاجح تسجمُ

وكأن كلّ محـــــــــــــــلة بمناحة ٍ       شغــــــــــــــلت وجللها حداد أسحمُ

عاثتْ يدُ الجاني بجنتهم           وما رأفت بأزهار تهش وتبسمُ

أشجى جمالاً أن يسيرَ أريجها        في الخافقين فينتشي المتنسمُ

قصفت يداه أولئك الملأ الألى  بذلوا النفوس بقومهم واستسلموا

من كلّ قمري بذروة ســــــــــــــروة ٍ       غــــــــــــــــردٍ بمجد جدوده يترنّمُ

(عبد الحميد) (وعزة الجندي) معاً     ورفيق سلوم وغرّ أعدموا

ومن نظمه في الغزل ما يدل على رقة شعره وأسلوبه وخياله الرشيق قوله :

خطرت على ولم تحيي فمالها      أســـــعى لها بي شأني فأمالها

وغمزتها فنبت ولوّت خدها    صعراً علي وأحدقت كلكالها

ومنها :

يا للغرام لنفس صبٍّ شفّها      طول السهاد وطردها عذالها

هل من سبيل أن يطيف خيالها   فعساي أبرأ أن رأيتُ خيالها

أشكو فيأسوني الطبيب بقولها      نستعض عنها تجدْ أمثالها

موقفه من جرائم المستعمرين :

ورأى منير الكلاليب أن قانون الطوائف الذي فرضه الفرنسيون مزّق الأمة، وأسخط الشعب، وسوّد صفحة التاريخ :

جاؤوا بما لم تجئ ( آشور) قبلهم       به وشنّعه الـــــــــــــــــــــــــــــتاريخُ إذ كتبا

وقبل جاؤوا (بقانون الطوائف) في      ما أسخط الله والإسلام والعربا

وأكد منير الكلاليب تعاون أعوان الاستعمار مع الغربيين في تمزيق البلاد، لقاء حفنة من المال :

طال الثواءُ على تفرقنا بما       حاكته من دسٍّ يدُ العدوان ِ

الغربُ لا ينفكُّ في تفريقنا     ليسوسنا ويكون ذا السلطانِ

وأعانه دخلاءُ حلّوا بيننا           هم عابدو ديناره الفتّان ِ

وعمّم منير الكلاليب جرائم الفرنسيين، فقال :

ففي حماة وما دانى حما بسطوا       يد الأذى وبحمص ثمّ في (حلبا)

وفي دمشق وحوران وتلكلخ               وغيرهنَّ دمٌ أجروه منسكبا

تحرشوا ببني تلك الديار على         غير اجترام ٍ وأغشوا طفلها رُعبا

فمن برئٍ أذاقوه الحِمام َ ومن        طفلٍ أبادوا وبيت ٍ غادروا خَرِبا

ومن قذائف ألقوها مــــــــــــــــدمّرة ٍ       ومن قذائف أخرى أضرمتْ لهبا

ومثلوا بفتيلٍ جــــــــــــــــــــــــــــــدّلوه ويا       له فظيعاً جنـــــــــوه الوحشُ عنه نبا

يارُربّ طفل بسيّاراتهم صدموا      عمداً وما قِيدَ ممن أحدث السّببا

تعرية الواقع الفاسد :

وقد قرّع منير الكلاليب ضعاف النفوس، الذين اشتراهم المتنفذون بحفنة دراهم، وأفصح من خلال ذلك عن أثر المال السيء في علاقات الناس :

يا عــــــــــــــــابد الدينار حسبكَ لونه      هلاّ اتعظتَ بصفرة اليرقان ِ؟

إنا نرى الدينار ناراً والهــــــــــــــــــــــوى       فيه قرينُ عبـــــــــــــــــادة الأوثان ِ

شرف الفتى في ذوده عن حوضه      لا في احتواء التبر والعقيان ِ

وأكد الشاعر في قصيدة أخرى أن المال هو أصل جميع الشرور، وهو سبب فساد المجتمع :

وحبُّ المال أسباب التلاحي         وأصل الشرّ في جمع الحطام ِ

البؤس الاقتصادي :  

ومما زاد البؤس الاقتصادي سوءاً نهمُ المستغلين وجشع المحتكرين، يقسم منير الكلاليب على ذلك :

لعمرك ما احتكار القوت إلا            دناءاتٌ ومــــــــلأمةٌ وشـــرُّ

إذا أغضى ولاة الأمر عنــــــــه            فذلك منهم ضعف يَفُرُّ

فهو يرى أن احتكار قوت الشعب دناءة وشرّ على الحكام ألا يتهاونوا فيه؛ لأنه يعني مزيداً من المال في يد الأفراد المحتكرين ومزيداً من البؤس والفقر لعامة الشعب، وهنا تزداد نقمة الجائعين، ويستعِر حقدهم على المحتكرين .

عوامل تفتح الوعي :

كانت هناك عدة عوامل أدّت إلى تفتح الوعي الإسلامي في سورية، منها : الحركة السلفية الإصلاحية وعلى رأسها جمال الدين القاسمي ، والشيخ طاهر الجزائري ، ومحب الدين الخطيب ، ثم انطلاق الحركة الإسلامي على يد ثلة من العلماء المجاهدين الأخيار الذين لعبوا دوراً مهماً في الإصلاح والتجديد منهم : الإمام مصطفى السباعي، ومحمد الحامد، وعصام العطار، وعبد الفتاح أبو غدة، وسعيد حوى وبقية قادة العمل الإسلامي الحركي المنظم، ولا سيما الحركة الإسلامية، وجمعية التمدن الإسلامي، ورابطة العلماء، وبعض علماء التصوف .

 وهناك عامل آخر هو تأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق الذي قام بتحقيق الكتب التراثية ونشرها، والاحتكاك بالثقافة الغربية عن طريق البعثات العلمية والاحتلال المباشر، وكذلك لعبت الترجمة دوراً في الإطلاع على ثقافات الأمم الأخرى . وقد كان للطباعة دور متميز في تطوير الوعي، ويقرّ أنيس الخوري المقدسي بأن المطابع العربية قد أخرجت عدداً كبيراً من الكتب والصحف والرسائل، فساعدت على نشر العلم والثقافة وكذلك كثرة المجلات والجرائد، والنوادي .

فحين بنى (محفل أميسا ) للأحرار في حمص نادياً للمحاضرات، أقيمت حفلة للتدريس 1931م، أنشد فيها منير الكلاليب :

نادٍ تكادُ تمسُّ في أرجـــــــــــــائه       ماءَ المواعظِ والعلوم مفجّرا

وتكادُ تحسبُ بابه فمَ واعظٍ     أو شاعر يتلو القريض مُحيَّرا

هموم الأسرة وعلاقاتها :

لقد اعتنى الإسلام بالفرد المسلم؛ لأنه الركيزة في الأسرة المسلمة، ومن ثم المجتمع المسلم، وقد لاحظ الشاعر منير الكلاليب أن المعاناة ليست بسبب الظروف العامة الخارجية المحيطة بالأسرة فحسب، وإنما قد يكون مصدرها أفراد الأسرة أنفسهم، وتسلط بعضهم على بعض، وعندئذٍ تكون أشدّ وأقسى وأكثر ألماً.

وهذا ما حدا بالشاعر منير الكلاليب إلى تحديد العلاقات الأسرية وتوزيع التبعات الشخصية بين أفراد الأسرة ، من مثل ما فعله منير الكلاليب حين حدّد واجبات كلّ فرد وحقوقه عن طريق النصح والإرشاد وبأسلوب مباشر :

وللبعل حقٌّ إن وفّيت ِ به يعشْ       وإيــــــــــــــاكِ في رفهٍ وبيتكِ عامرُ

وليس من الإنصاف تكليفه الذي     يضيقُ عليه كسبُه والمتـــــــــــاجرُ

وما حسناً أن تشركيه بشــــــــــــــــــأنه      ولا أن تلي من أمره ما يُساور

إذا مارسَ الزوجات شغل رجالها    أضاعتهمُ والولدُ فالجمع خاسرُ

عليهنّ أن يعرفـــــــــــــــنَ تربية الذي        يلدْنَ وأن يرعينهُ وهو قاصرُ

وعلمكِ تدبير المنـــــــــــــــــازل لازم ٌ         عليكِ وحقٌّ شأنه لا يغادرُ

الحجاب والسفور :

نبّه الشاعر منير الكلاليب المرأة إلى خطر السفور والتبرج، وحذّرها من الدعوات المغرضة :

فلا تخدعي من معجبٍ بتبرج ٍ         فما هو إلا سيء الظنّ غادرُ

وبيّن منير الكلاليب خطر الاختلاط في المقاهي والحانات على المرأة، لما فيها من شراب، وذئاب بشرية تجرّان إلى مهاوي الرذيلة :

وليس رقيّاً أن تعاطى مــــــــــــــــدامة      وتؤويك ِ حاناتٌ وطوراً دساكرُ

فكم من فتاةٍ جرّها السكرُ للذي   يؤرقـــــــــــــــــــــها في العار والعارُ صائرُ

وذاتِ عفافٍ لن تجيبَ مراوداً      ومذ سكرت لانتْ إلى من يعاقرُ

النيل من شارب الخمرة وبيان مضارها :

لقد تتبع منير الكلاليب مساوئ الخمرة ومضارها تتبع العالم الممحص لينفّر منها وليكره بها :

ولو لم يكن في الخمر شرٌّ لما دعا        إلى منعها أهل النهى وتضافروا

يكافحها الشعبُ العريقُ حضارةً         ويعنى بها مَنْ في الحضارة آخرُ

وهل كافحت أهل النهى غير ما به    أذًى ظاهر أو ما به الشرُّ ظاهرُ؟

وإنّ أذى السكيّر يسري لولـــــــــــــــــده     فهمُ بُلداء الطبع والجســــمُ خائرُ

تصوير آلام الفقراء :

ويصور منير الكلاليب مظاهر البؤس والشقاء والحرمان، ويراها بعيد الحرب العالمية الثانية أكثر انتشاراً في قصيدته ( الضمان الاجتماعي) فيقرن الفقر بالمرض والجهل والبطالة :

علامَ البائسون بكلِّ صقع ٍ       وناحية ٍ لهم سيْر ونشرُ ؟

يطوفُ يتيمهم يبغي لماظاً       فيرجع جائعاً والكفُّ صِفرُ

ويسعى حافياً والثوب بالٍ       كأنَّ الجسم لا يغشاه سَترُ

غزت جثمانه الأمراض شتّى     وناصر جيشها جهل وفقر

وبعد أن سردَ أحوال اليتيم من جوع وتشرّد وعري ومرض وجهل، وصف لونه الشاحب وصفرة جسده، ونومه على قارعة الطريق، ومطاردة الشرطة له، من مكان لآخر :

يفيق بضرب شرطيٍّ عُتُلٍّ        ولا يمري ضروعاً ولا تدُرُّ

فيحمل سِلعةً ويطوف فيها      ويطلبُ شارياً والبيعُ نزرُ

يعولُ على حداثته صغاراً      وأما عضّهم شظفٌ وعسرُ

ويرى الشاعر أن البطالة زادت الطين بلة في فقر الفقراء، وساهمت في جعلهم أكثر تعاسة وشقاء، وجعلت الحياة من حولهم أقسى وأمرّ :

وثمّ بطالة ٍ جرَّتْ أناساً       لساحة شقوة والعيشُ مرُّ

الدعوة إلى تحسين الوضع الصحي لأفراد الأمة :

وأمام الواقع الصحي والاجتماعي، تنادى معظم شعراء المرحلة إلى إنشاء الجمعيات الخيرية، وطالبوا الحكومات بإقامة المشافي ودور العجزة لإيواء الفقراء ومداواتهم، حين رأى منير الكلاليب الأوبئة والأمراض تغتال العباد في وطنه، صرخ مطالباً الحكام بإشادة دور العجزة والمشافي :

ذوات اللون لسْنَ به سواء      هنا ( اليرقان) ثم هناك تبرُ

ومصدورٌ يدبُ على عصاه     عــــــــــــــــــــــــــلتهُ كبرةٌ وعلاهُ بُهر

فينهجُ إذ يشدّ (الربو) شدّاً     ولا مـــــــــال يُداوي ما يضرُّ

تغلب على لغته المباشرة والتقريرية التي جاءت نتيجة طبيعية – ربما – للنهج السردي الذي التزمه فيما كتب من شعره خياله قريب، التزم المسلك الخليلي إطاراً لبناء القصيدة .

مصادر الدراسة :

1-            أعلام الأدب والفن – أدهم الجندي – ج1 – مطبعة مجلة صوت سورية – دمشق – عام 1954م .

2-            الحركة الشعرية المعاصرة في حمص 1900- 1956م : محمد غازي التدمري – مطبعة سورية – دمشق – 1981م .

3-            من أعلام حمص – ج1 – دار المعارف – حمص – 1999م .

4-            معجم البابطين : ذكر له ملاحم عربية، ذكرى الشهداء، تكريم الأم .

5-            الشعر الاجتماعي في سورية – د . حسن عبد المحسن .

1

يكشف النقد الأدبي عن مدى وعي الناقد وعن ثقافته، مثلما يُسقط الناقد على نقده من ملامح شخصيته الثقافية والمعرفية. "فاطمة" اسم عربي أصيل، جذوره عريقة موغلة في عمق التاريخ. تنتمي "فاطمة" إلى "الرواية" الفلسطينية المكتوبة في مواجهة "الرواية" الأخرى! هي رواية الأرض بامتياز لأن الصراع أيضًا على التاريخ والذاكرة! يتمحور المتن الحكائي بـ "فاطمة" حول المرأة ودورها الحاسم في صنع الحدث بالمجتمع!

مهاد نظري: كنت ادخرت، مرغمًا، "فاطمة"(1) إلى أن يحين أوانها، فلكل شيء أوانه! أملاً أن يسعفني الوقت بفرصة سانحة تتيح لي التفرَّغ لقراءتها على نحو يليق بها ويفيها بعض حقها، وذلك لأسباب خارجة عن الإرادة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: التزامات العمل وتزاحم مشاغل الحياة وهمومها التي لا ينقطع لها حبل، لكن هي الأيام ما أسرعها! بقي أن أنوِّه بأن غاية ما تسعى إليه الدراسة: الوقوف على أهمية الرواية ودلالاتها، ثُمَّ أن تكون حافزًا للقارئ ولكل مهتم كي يستحضر تلك الأجواء!

بدءًا، فقد أراني ملزمًا بالتذكير أنَّ النقد الأدبي يستوجب الحفر عميقًا، بحثًا عن المثير والمدهش من خلال إجراءات القراءة المنتِجة والتفاعلية للمعطيات النصية، ومن ثَمَّ سبر غور السطور والكشف عما بينها وما تحتها، ناهيك بالفراغات القائمة بين ثناياها، والتي يجب على القارئ ملؤها وصولاً إلى المعنى ومعنى المعنى، على رأي الجرجاني. ففي منظور ما، يعدُّ النقد الأدبي كشفًا عن مدى وعي الناقد وعن ثقافته! الناقد الحق، كما يُفترض، يُسقط من ملامح شخصيته الثقافية والمعرفية، ويطبع نقده الأدبي بطابعه هو، لا بطابع الآخرين فحسب، كما تقتضي ذلك الكتابة النقدية المنهجية. وحريٌّ بنا التنبه على أن يتم ذلك النشاط الإجرائي بأناة وأريحية وعلى نار هادئة، وذلك محاذرة الوقوع في منزلقات النقد الأدبي، أو تفاديًا لأي إجحاف أو تجنٍ قد يقع على الأثر الأدبي المنقود فيسيء له، كتلك التي تعكسها من حين لآخر، بعض القراءات الأفقية أو المجتزئة، التي يغلب عليها التعميم، والكلام جزافًا، ومن ثم المبالغة في الإطراء وحسن المديح والثناء من دون ذكر ولو مسوِّغ واحد على الأقل! وعليه فمن خلال فعل القراءة وإنتاجية الدلالة، تتبدى المعالم الحقيقية لكل ناقد، لأن فهم الناقد للنص منوط بأفقه الثقافي والمعرفي! وفي الحق، فنحن بصدد رواية "فاطمة" التي يمكن أن تعدَّ تجربة إبداعية نوعية أو محطة متقدمة، في مشهد حركتنا الأدبية المحلية وفي مسيرة حياة نفاع الأدبية تحديدًا، وذلك لأسباب عدة سوف نأتي على ذكرها لاحقًا. وأما توظيف المؤلف لـ "فاطمة" ودورها الرئيسي في الرواية، بمعزل عن دلالاتها المتعددة، فيعد تأكيدًا لدور المرأة الحاسم في المجتمع الذي لا يقل عن دور الرجل، من خلال لوحات فنية تصويرية وأخرى تعبيرية، تجسِّد الأنوثة والجمال والعشق، جنبًا إلى جنب حب الأرض، والناس، والعمل، والتماثل الذي يبلغ أوجه في حد التطابق التام ما بين المرأة والأرض وهي الوطن، بعيدًا عن أسلوب الرواية التقليدية أو النمطية. من هنا، تبدو "فاطمة" ذات أهمية خاصة تستحق الدراسة!

2

"فاطمة" رواية محلية بامتياز: لم يكن محمد نفاع أديبًا متمرسًا وحسب إنما كان وما زال أيضًا من السياسيين الأحرار، فالأدب والسياسة متداخلان حكمًا، وكل فصل بينهما يعد فصلاً تعسفيًا أو مفتعلاً لا طائل تحته. هو كاتب متمكِّن أدبيًا وسياسيًا لما حبته الطبيعة به من الحنكة والحكمة والخبرة والتجربة الشيء الكثير. ومعروف أن الأديب ينهل أدبه من مصادر كثيرة منها التجربة الشخصية، والبيئة المحلية التي نشأ بها، وتعد "فاطمة" خير دليل على ذلك. لنذكر ونتذكر بأن أدباء كثر، مثال ذلك: نجيب محفوظ، ومحمود درويش وآخرون، ما كان لأحدهم أن يصل إلى دائرة العالمية لولا أن يكون قد برع وتفوق في دائرة المحلية أولاً، و"فاطمة" رواية محلية وشعبية بامتياز! كانت همًّا يرافق أديبنا أنى حلَّ أو نزل، يصطحبها معه، يحملها على عاتقه من دون أن يتعبه حملها، حتى حين كان يتجول في بعض أقطار الإتحاد السوفياتي سابقًا، بقيت "فاطمة" معه لم يتركها ولا هي تركته، كانا لا يُريان إلا معًا!

صفوة القول: يعرف كاتبنا من أين تؤكل الكتف في غير مجال! لما عرك الحياة وعركته، وهو إلى ذلك، لم يهادن في مواقفه بل كان وما زال منافحًا عن كل القضايا المحقَّة والعادلة أينما كانت، من منظور أممي وفق ما يمليه عليه الفكر التقدمي الاشتراكي والماركسي، من دون أن ينسى الأصل وإن كان من الماضي! جميع تلك المركبات أضفت وأضافت إلى كتابات محمد نفاع أبعادًا متعددة ومتنوعة، كما ساهمت في صقل دوره البنَّاء، كفردٍ واعٍ ومسؤول يؤدي واجبه أمام شعبه والتاريخ معًا، وهو ما يقوم به على أتم وجه، متوسِّلاً حماية أدبنا وثقافتنا وروايتنا وذاكرتنا وعاداتنا وقيمنا الأصيلة والجميلة والمشرقة من الضياع والنسيان، وفي الوقت نفسه، تعميق الفهم والإدراك بذلك الموروث الإنساني وحفظه من الاندثار!

لرواية "فاطمة" مغزاها وهدفها أولاً وأخيرًا، ولم تكن تلك الكتابة لمجرد الكتابة أو من باب الترف! إنما تعد تجربة نوعية وإضافة جديدة بكل المقاييس، لاسيما من حيث الشكل: اللغة الروائية الخاصة بالكاتب تبدو كلغة تراثية قادمة من الماضي، بما تتضمنه في ثنايا النص من حمولات دلالية، ولوحات فنية، وقيم جمالية، وتشكيلات لغوية، هي مرايا تغلب عليها اللهجة الفلسطينية المميزة. كذلك ما تشتمل عليه من مخزون هائل هو مزيج من الألفاظ والتعابير الفصحى والمحكية. وقد أحسن المؤلف صنعًا، وهو يقوم، من حين لآخر، بتفصيح العامي وإخضاعه لأحكام اللغة الفصيحة وذلك للضرورة، علمًا أن تلك المفردات العامية تعد ابنة بيئتها ومجتمعها، لذا فإنها يمكن أن تعبِّر أفضل تعبير عن قصدية الكاتب، مثلما تلقى قبولاً وترحيبًا لدى شريحة خاصة من المتلقين! وقد يكون من الأهمية بمكان، أن ننوه بجرأة الكاتب في اختياره لتلك اللغة كشيفرة خاصة به يقوم بتطويعها خدمةً للرواية بأكملها، لكي تتناغم مع المرحلة الزمنية التي تحكي عنها، ولكي تتناسب مع مستوى الشخصيات الطبقية والفكرية والثقافية والاجتماعية، فكل لغة تشاكل عصرها وناسها! "فاطمة" رواية غنية، رحبة بلغتها، وأفكارها ودلالاتها وشخصياتها وأحداثها، التي تجري بانسيابية مرنة ومتدرجة، كما تكثر فيها اللقطات السردية والومضات المتنوعة والمشاهد الحيَّة! أما المتن الحكائي فيها، فإنه يتمحور حول شخصية واحدة هي "فاطمة"!

وبما أن المؤلف ينتمي إلى مدرسة الشعب والوطن، فهو من بيتها، ولأنه من بيتها فقد برع في رائعته الموسومة بـ "فاطمة" كإحدى تجلياته الإبداعية الخالدة! وقد قال مَن قال: الكتابة هي الكاتب والكاتب هو الكتابة، وكل أثر يدل على صاحبه! ولا عجب أن كثيرين من الفنانين يعيشون حياتهم اليومية بالأسلوب الذي يبدعون به، يقول جان ليسكور "الفنان لا يبتدع أسلوب حياته، بل يعيش بالأسلوب الذي يبدع به"(2)! وهو ما يمكن أن ينطبق على أديبنا إلى حدٍّ كبير! وانطلاقًا من صلب وجدانه الشخصي، وكيان روحه الذاتي، وبحنين متزايد وشغف لا يعرف حدًا أو قيدًا، يشيِّد نفاع، من قلب الحياة جنبًا إلى جنب خيوطه الذهبية المتخيلة، ذلك البناء المعماري الموسوم بـ "فاطمة"، رواية ليست إلا صدى لروح مبدعها! وعليه فمن غير المستبعد أن تكون "فاطمة" مرآة تعكس الأفكار والمواقف والمبادئ لشخصية مؤلفها! كذلك، تجدر الإشارة إلى الكاتب وجرأته في اقتحامه لمجال الخطاب المحظور أو المنهي عنه(تابو)، الأمر الذي يجسِّد رؤية واقعية حقيقية. وهو حين يوظِّف تلك التعابير والألفاظ الجنسية، فليست مقصودة لذاتها، كما يرى بعضهم، ولا تدخل في قصدية الكاتب أو هدفه، ولكنها كوسيلة رامزة وموحية ذات دلالات خاصة تحيل إلى الأرض والوطن! والجنس منطلق الأشياء وأصل كل فن! وكاتبنا يعبِّر من خلال تلك اللوحات الفنية عن أسئلة وجودية، أو قل أسئلة الحياة!

من خلال "فاطمة" يبدو المؤلف/الراوي راصدًا اجتماعيًا ونفسيًا وسياسيًا للمجتمع وبعض النماذج الشخصية الفاعلة فيه، حيث يعود بنا، إلى تلك الأيام الخوالي وهو يحيل إلى الماضي بزمانه ومكانه، إلى عقود كثيرة قد خلت من قبل، لدرجة أنه يشعرك وكأنه قادم من الزمن الماضي، ولا نقول رهين الماضي لأنه أديب معاصر! فالمؤلف وهو يقوم بفعل الكتابة يأخذنا معه، من خلال فعل القراءة، في رحلة شائقة وممتعة، منفتحًا على الزمن الماضي زمن الكتابة، فالمؤلف وهو الراوي يكتب عن الماضي لا عن الحاضر ولا عن المستقبل، علمًا أن كل منهما يشغلنا أكثر من الماضي، لكنه يحافظ على الصلة فيما بينها! فالمكان والزمان هما اللذان يحددان صناعة النص شكلاً ومضمونًا، حتى قبل أن يرى النور، وقد فرضت زمكانية الرواية حضورها الطاغي وبنجاح على الرواية نفسها، إن لجهة الشكل وإن لجهة المضمون، ولو جاء على غير ذلك لوقع الجفاء بين الكاتب والقراء لاسيما بينه وبين مجايليه تحديدًا، ولكان أسقط بيد الرواية والراوي والكاتب معًا!

3

"فاطمة" صورة بانورامية شاملة: يشكل الزمن أحد أهم عناصر الخطاب السردي، وحين يتداخل مع المكان وهو القرية العربية، فلا بد أن تتجلى صدقية الكاتب بما يعرض له من أحداث ووقائع، الأمر الذي يزيد من تعلق القارئ بـ "فاطمة"! ومع أن الزمن الماضي مختلف كليًا عن الزمن الحاضر ولا وجه للمقارنة إلا أن للماضي وذكرياته الجميلة، كما هو معروف، نكهة ومذاقًا خاصين، كيف لا وفيهما من عبق الآباء وروح الأجداد والوطن، وفي كافة مجالات الحياة تقريبًا لاسيما لدى المؤلف وهو كلي المعرفة! وقد عاش ذلك الماضي الذي لا يُنسى بحلوه ومره، بآلامه وآماله، وليس من سمع عن الشيء كمن عاينه أو شاهده بأم العين! فهو يشعرنا بأنه ما زال ابن عصره لأنه عاش وشاهد وسمع فنقل لنا الصورة طبق الأصل، تمامًا كما هي على حقيقتها، وقد عرض للزمان والمكان بأتم معنى وأدق مبنى! إلا أنه وعلى الرغم من هيمنة الماضي على زمن الرواية نراه يبقي على تواصل مع الزمن الحاضر، ممتزجًا بالهَمِّ السياسي، همنا جميعًا، يقول "والغرب لا يسر القلب"(ص10)! كذلك قوله "واليوم تغيب كلمات تلك الأيام" (ص16)! أيضا "الانكليز مهدوا لليهود"(183)! و "هذا من العراق. إجو من العراق" (185)! وثمة إشارات أخرى رامزة تلمح إلى دلالة خاصة، يقول من المأثورات الشعبية:

"سيجت حولي الدار خوفي من العدا

تاري ما سياج الدار إلا رجالها"(ص13)!

تمتاز الرواية بأنها تقدِّم صورة بانورامية شاملة لواقع الحياة مع الناس من تلك المرحلة مصحوبة بالضحك والفكاهة والسخرية، في بيئة عربية ريفية عامرة بالناس وبالحياة، والجمع بين السخرية والمفارقة والفكاهة التي قد تفرح وقد تحزن، والمتناقضات والمحظورات الاجتماعية والصراعات. مقدمة للقارئ غزارة في الأمثلة، المثال تلو المثال، على وجود حياة زاخرة بكل ما للكلمة من معنى! عن الدين ورجاله والجنس والسلطان والغرب والعام والخاص، من أمثال ومأثورات وأغان شعبية بأدق التفاصيل. عن العادات والتقاليد والأعراف والقيم، في الأفراح والأتراح، وما يمكن أن يثار حولها من الأسئلة الاجتماعية والوجودية. عن أدوات العمل بأجزائها وأسمائها التي قد لا يعرفها بعضنا لاسيما أبناء جيل الشباب، وطيور وحيوانات ونباتات بلادنا على مدار الفصول الأربعة. عن المسكن والمأكل والمشرب والعمل والأرض ونمط الحياة بكل ألوانها وأحوالها، وكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من دلالات نفسية ووجدانية وإيحاءات اجتماعية وسياسية وغيرها وغيرها مما يصعب حصره! أو قد يفوتنا الكثير الكثير من الأحداث وتفاصيلها ما لا نستطيع أن نأتي على ذكره بالكامل! هنا بالذات تكمن عظمة تلك المرحلة التاريخية المهمة التي قطعها شعبنا، على الرغم من صعوبة الظروف القاسية التي مر بها، بإزاء ما نشهده اليوم من التطور التاريخي الطبيعي لكل مجتمع ومجتمع! ولأن الأدب تعبير عن المجتمع بالدرجة الأولى الأمر الذي قد يجعل "فاطمة" ترقى إلى درجة الوثائق الأدبية والاجتماعية والتاريخية! وقد لا يجانب المرء الصواب إذ يقول: إن الكاتب وهو ملمٌ بما يكتب وبالقرية العربية في بلادنا تحديدًا، يستعيد أحداثًا واقعية وحقيقية من صفحات تلك العصور الخوالي، أيام "العز" في بعض جوانبها! وما تشتمل عليه من ظروف وفعاليات ونشاطات حياتية يومية، وأخرى معيشية حقيقية من غير لف أو دوران أو تمويه. وقد تجدر الإشارة إلى حقيقة أن الكاتب خبير ومتمكن لا بل ممسك بناصية القرية العربية إلى درجة الاختصاص، فهو يصول ويجول، يشرق ويغرب بها بإحكام وإتقان لافتين، وحين يكتب عنها فإنه يكتب عن وعي وإدراك تامين. وهذا يقدِّم الدليل تلو الدليل لمن يجهل أو يتجاهل تلك الأيام وتلك الأحوال التي كانت تسود آنذاك! وفي المقابل، لمن أراد أن يدرك الحياة والواقع الذي كان يعيشه شعبنا على الرغم من بساطته وقلة الإمكانيات وضيق ذات اليد، لكنها لا تخلو من بساطة وهدوء وراحة وهناء! فالأديب، كما يفترض، يجب أن يتمثَّل حياة الناس ويعيش التجربة حين يكتب "إن الأدب هو ما صدق في التعبير عن نفس قائله، وما صدق في التعبير عن الموضوعات التي يطرقها الأديب، ويتوجه بها إلى أفراد مجتمعه"(3)! بناء على ذلك، يجب إعطاء تمثيل حقيقي وبمنتهى الموضوعية للواقع كما كان، فالرواية واقعية تمتح من الوجود الإنساني في واقع الحياة. أضف إلى ما تقدم، فإنها تمثِّل تلك المرحلة أصدق وأدق تمثيل، وهذا ما يفعله المؤلف في روايته "فاطمة"! وليس ذلك من باب التقديس بل من باب التذكير، أي قبل أن تضمحل أو تمحي تلك الأحداث وأبعادها ودلالاتها من الذاكرة الفردية والجمعية على حد سواء. وتلك حقيقة راسخة عمقها عمق التاريخ، من الضروري أن نذكرها ونتذكرها ما حيينا! فهي تلامس شغاف الذكريات الجميلة بفيض من المشاعر والوجدان، لدى الكثيرين من بنات شعبنا وأبنائه! ناهيك بأنه بمثل ذلك اللون من الأدب يمكننا تعويض النفس البشرية عن المعاناة الفعلية في الحياة اليومية! الأمر الذي يعني تحقيق غايات الأدب وأهدافه من الفائدة المرجوة والمعرفة والمتعة! وهو ينعكس إيجابًا، بكل تأكيد، علينا جميعًا أفرادًا وجماعة. وبذلك يكون محمد نفاع قد سدَّ نقصًا لاسيما لدى أبنائنا وبناتنا القرَّاء على تعاقب الأجيال! يجب أن يعرف هؤلاء حياة شعبنا على حقيقتها ويتعرفوا عليها عن كثب، قبل أن تذهب للنسيان أو تصبح في طي الكتمان. ويثبت واقع الحال بأنه ليس بدعًا أن تكون لشعبنا حضارة وحياة حافلة، كسائر الشعوب، في حتمية تطورها التاريخي والمستمر، لأن شعبنا كان وما زال شعبًا حيًا في وطنه وطن الآباء والأجداد، وأن بلادنا لم تكن، يومًا من الأيام، خلوًا من أهلها أبدًا، بل كانت تعج بالحياة وبالناس والعمل، ولم تتوقف للحظة أو تنقطع عنها أبدًا، الأمر الذي يدحض تلك الإدعاءات الكاذبة والمزاعم الباطلة التي تنفي وجوده وتلغيه، وكأني بلسان حال المؤلف يقول: عودوا إلى التاريخ! وهل لأحد أن ينكر أو يلغي ذلك التاريخ مهما كان، إلا أن يكون جاحدًا أو معاندًا أو مكابرًا؟! من هنا، يمكن لـ "فاطمة" أن تصنَّف ضمن "الرواية" الفلسطينية المكتوبة، في مقابل "الرواية" الشفوية المسموعة! فالصراع أيضًا على "الرواية" وعلى الذاكرة!

انطلاقًا من تلك الرؤية فإن "فاطمة" تعد مساهمة جليلة في إضاءة وتوضيح الصورة الحقيقية وبأدق التفاصيل لحياة شعبنا في تلك الأيام! لاسيما أمام أجيال اليوم التي لا تكاد تعرف شيئًا عن حياة شعبنا الماضية، هذه الأجيال التي سرعان ما يخطف بصرها وبصيرتها معًا بريق التكنولوجية العصرية من مظاهر مخادعة، وماركات مسجَّلة، وأجهزة التقنيات المستحدثة وملابساتها المستجدة، لاسيما تلك التي لا تغني ولا تسمن من جوع إلا في أقلها!

4

"فاطمة" اسم عربي أصيل: "فاطمة" عنوان الرواية، الذي يعد لافتة المرور أو بوابة العبور الأولى إلى النص. هو اسم عربي أصيل جذوره عريقة موغلة في عمق التاريخ. يشار إلى أن الرواية قد صيغت في تداخل زمني معروف، يقول الراوي: "فاطمة" "عاصرت الأتراك والانكليز واليهود وظل في راسها عقل"(ص32)! ولو قال: عاصرها الأتراك والانكليز واليهود، لجاءت دلالتها أقوى وأبلغ! والفرق بين الدلالتين واضح! ومن صفات حاملة اسم "فاطمة" أنها تحب الارتباط من القريب لها، وتتردد كثيرًا فى القبول بالزوج الغريب! تحمل فى قلبها حبًا كبيرًا للناس ولأهلها. تتحمل كثيرًا مِن إيذاء مَن حولها لكنها تصبر عليهم. مقرَّبة لوالدها ومدللة عنده. تحب "أولادها" وتخشى عليهم كثيرًا. قلقة كثيرًا من كل شيء(4)! من هنا، لم يكن موت زوجها مفاجئًا! موت زوجها كان ضروريًا للإبقاء على تفردها في دور البطولة من دون منافس أو شريك! أو ربما لأنها لم تقبل به زوجًا، ولم تستجب له ولم تتفاعل معه فهو من أبناء "العمومة" كما يبدو! وبالتالي لم يحدث إخصاب ولا إنجاب! وهكذا جاءت "فاطمة" اسمًا على مسمى، ذات دلالات على مدلول! إن رمزية "فاطمة" وحضورها الطاغي في الرواية هما المدخل إلى الرواية، فالكاتب يحاول، من خلال تسليطه الضوء على حضور "فاطمة" ومجموع أحداثها تلك، أن ينبش الماضي لكي ينير الحاضر، ومن ثَمَّ أن يسقطها، في بعض جوانبها، على واقع اليوم! يريد أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، في ما آلت وتؤول إليه بعض الأحداث والوقائع من حولنا. الأمر الذي يشي، ولو من طرف خفي، برغبته في إقامة التواصل بين الماضي والحاضر!

وقد جعل المؤلف من جسد "فاطمة" رمزًا واهبًا للحياة، إذ تمنح الحضن الدافئ والأمان والحنان لكل من يعشقها ويحبها، وفي الوقت نفسه، يجعل منها صنوًا للقرية العربية، لأية قرية عربية! ولا فرق لديه إطلاقًا بين قرية وأخرى، فكل قرانا العربية في بلادنا متشابهة، وكل واحدة تشبه سائر أخواتها من القرى العربية! القرية العربية، بمنظور ما، هي الجزء أو النموذج الذي يحيل على الكل، على القرى العربية كافة، وعلى الأرض كذلك لأنها وحدة واحدة، وإن ذكر مناطق أو أماكن بعينها، هكذا يقول "الأرض كلها موصولة في الجرمق والزابود والبيادر والبيوت والناس وعيون الماء، خلقة متكاملة يد واحدة"(ص280)! "فاطمة" هي الجزء وكنَّى بها عن الكل! "فاطمة" هي الأرض والأرض هي "فاطمة"! فلا غرو أن يصبح وجود "فاطمة" يشكِّل شرطًا أساسيًا بل وجوديًا للعاشقين والمعجبين والمتشبثين بها، أصحابها الأصليين! فبدونها لا وجود لهم ولن يكتمل معنى وجودهم إلا بوجودها! جاعلاً منها أنموذجًا أو مثالاً في مناقبها المتعددة: من جهد ونشاط وأنوثة وحب وجمال وعشق! يقول الراوي في أجمل وصف لـها "فاطمة خلقتها من بياض الثلج ونقائه وعبق الربيع الصافي المزغلل ووهج الصيف وخريف الكمال"(ص13)! كذلك قوله "أشلب مخلوقة في كل بلاد الجيرة.. في البلاد"(ص150)! وعليه فإن رواية "فاطمة" رواية الأرض بامتياز! والدلالة واضحة لا تحتاج إلى بيان!

في كلامه على "فاطمة" يعني استدعاءً للأرض والوطن، ولنا جميعًا، أفرادًا وجماعات! وحب الناس لـ "فاطمة" يعني حبهم لمسقط الرأس، ومن ثَمَّ حبهم للأرض والتشبث بها وبالوطن أيضًا! مقابل أولئك القادمين من بلاد الله الواسعة، يقول "الأغراب هناك معروفون بسحنتهم ولباسهم ومشيتهم ونظراتهم، هم ليسوا كالحصادين والحراثين والمشاحرية. لأول مرة تشاهد الأرض هذه المجموعة الغريبة"(ص205)! فالعلاقة الرمزية بين المرأة "فاطمة" والأرض الوطن، إنما تعني تماثلاً يصل حد التطابق، وذلك بجامع صفات مشتركة متعددة: الأنوثة، والجمال، والحب، والحنان، والأمان، والدفء، والأم الرؤوم الخ... إن هذه المغالاة في تعلق الناس بجسد "فاطمة" قد ارتقت بها إلى مصاف غير طبيعية! هي جسد يفور بالشهوة واللذة، "يدها هي الأخرى تسرح على بدنها، وبدنها ناعم حي يفور قوة وعافية"(ص36)! إلى أن أصبح الجميع يخطبون ودها ويتمنون تملكها أو وصالها أو قربها في أقل تقدير! الصغار والكبار على حد سواء، كل الأجيال يتسابقون في التقرب إليها زلفى، "فاطمة" تخلب عقولهم! ذلك ما فعلته بالناس من حولها، اللاهثين خلفها! فالجميع ينتظرونها تباعًا بفارغ الصبر، وعلى أحر من الجمر، يقول الراوي "وصاحب الحظ قربها يقول بمزح، ومزح الرجال جد: اللي سبق شم الحبق"(ص37)! كذلك قوله "والزعلان أكثر من الراضي"(ص150)! أيضًا "كل واحد ناوي يتحركش"(ص24)! وإن كان في المقابل ثمة من ينعتها بأنها "مرتدة، كافرة، أم صبيّة، قتلك حلال، عرضك سايب على الدروب، داشرة، ممحونة، فالتة، مفضوحة"(ص150)! مع ذلك، وعلى الرغم من ذلك، يبقى للقارئ نصيب في حب "فاطمة" والتعلق بها، فالمؤلف وببراعة لافتة ينقل العدوى أيضًا إلينا، حين يجعلنا نحن القراء نتودد إليها أيضًا ونتعلق بـها ونحبها ونعشقها! من منا لا يعشق "فاطمة" ؟! كلنا من عشاقها!

5

الصنعة الأدبية في الرواية: يوظِّف المؤلف شخصية المرأة "فاطمة" كثيمة مركزية في الرواية من بدايتها إلى نهايتها، حيث يتمحور المتن الحكائي حول شخصيتها! و"فاطمة" شخصية معدَّلة، تتمتع بصفات قوية ولها جوانب متعددة في مختلف مجالات الحياة: الاجتماعية، والعملية في البيت، والأرض، وحتى السياسية وإن جاءت على استحياء، كانت رجالة أيام زمان. .. يقول "فاطمة لا تستطيع العيش بدون الناس. دبيكة راس، قوَّالة في الأجر، معزبة وطباخة وخبازة وفرَّاكة كبة في الأفراح" (ص22)! "هاي أرجل من كل الزلام"(ص83)! وهي هي على ثباتها، على الرغم من تعاقب الأجيال عليها، من يوم يومها "مع النسوان حرمة، ومع الزلام زلمة"(254)! "فاطمة" صبية جبارة! بقيت صامدة صابرة على الرغم من أنها "عاصرت الأتراك والانكليز واليهود وظل في راسها عقل"(ص32)!

تحتفي الرواية، على نطاق واسع، بالوصف جنبًا إلى جنب لغة السرد والحوار، إذ تبدو لغة سلسة سهلة لكنها لا تخلو، من حين لآخر، من بعض المفردات والألفاظ التي تحتاج إلى جهد مضاعف لمعرفتها وفك معناها. أيضًا، يلحظ القارئ على الرواية، في بعض جوانبها، أنها تقوم على توظيف أسلوب "تيار الوعي" وهو مصطلح ابتدعه وليم جيمس(1840-1910). وهو أسلوب في لغة السرد الروائي، يعتمد على الولوج إلى داخل الشخصية بغية الكشف عن خبايا النفس الإنسانية وما يعتمل فيها من جوانب ذهنية ومشاعر وأفكار، ومن ثم الدوافع التي تحركها في سلوكها. لا يهتم الراوي برسم معالم الشخصية من الخارج، لكن يتغلغل فيها بغية سبر مكنوناتها من الداخل. ويعد التذكر أو استرجاع ما مضى من أحداث وأفكار، من خلال المونولوج (الحوار الذاتي) خاصية بارزة في تيار الوعي(5)! مثال ذلك قوله على لسانها "امسكي حالك يا بنية!! تتوحمين على محرمة ثلج!! لم يحن الأوان بعد، وما أوان يستحي من أوانه. وها هي بوادر الدموع تكاد تفر من عينيها، وقد رغرغت فيها الذكريات"(ص27)! كذلك قوله "ظلت تكلم نفسها وأفكارها سارحة، وهي تستعرض مجريات الليلة، تبتسم وتعبس وتتنهد" (ص73)!

كذلك، يلحظ القارئ على المؤلف استخدامه، من حين لآخر، أسلوب التحوير، مثال ذلك قوله: "العشبة المفرفحة بتطلع على المزابل"(ص87)! وهو تحوير واضح للقول أو الحديث المأثور "إياكم وخضراءُ الدِّمن"! كذلك "زنا العين النظر"(280)! تحوير للحديث النبوي "العين تزني وزناها النظر"! كذلك قوله: "كم وردة خلَّفت عليقة"(ص87)! وهو تحوير للقول المأثور "كم من ورده خلفت زردة"! أيضًا قوله: "ياما بين القمح زيوان"(87)! وهو تحوير للقول "انقلب الزمان وأصبح القمح زوان"! أو "ياما تحت السواهي دواهي"!

في سياق متصل، يمكن الإشارة من الناحية الفنية والصنعة الأدبية إلى أن الرواية تكثر من الوصف، وكان الأجدر أن تترك الشخصيات لكي تتصرف هي مباشرة وتتحرك على سجيتها وهو الأجمل والأفضل. لهذا ظهر أن الاستطراد في الوصف يبدو غالبًا على الرواية. كذلك، يغلب على الرواية الانتقال بتفصيل مسهب من مكان إلى مكان، ومن حدث إلى حدث، ومن شرح إلى شرح! الأمر الذي أوقع الرواية في مطبات السرد الروائي، وقد كانت بغنى عن ذلك كله، وهو ما أساء إلى النص في بعض جوانبه، وكان من الأوْلى أن تبتعد عن ذلك كله حتى لا يمل القارئ! مثال ذلك: الإطالة والتكرار والاستغراق في الشروحات والتعليقات، إلى درجة المبالغة، في محاولة واضحة من جانب المؤلف مط الرواية ما أمكنه ذلك، الأمر الذي أصابها بشيء من الترهل، علمًا أن المؤلف غير ملزم البتة بتقديم شروحات أو تفسيرات، فتلك فجوات يفترض أن يملأها القارئ! كذلك يلحظ القارئ على الرواية أنها قلما تتكئ على عنصر الأسطورة إلا في بعض كتابة سحرية وإيمانات ومعتقدات ليس أكثر!

وقد تجدر الإشارة أيضًا، إلى أن الرواية لم تبلور موقفًا سياسيًا متقدمًا، يستجيب لتطلعات "فاطمة" والأرض والناس، لكن توجد ثمة إشارات رامزة ليس أكثر، مثال ذلك "جاي يا غلمان جاي، الهاجانا قتلوا صالح"(ص161)! أيضًا تهجمها على موظفي تسوية الأراضي بقولها "ضبوا شراشكو وانقلعوا"(ص281)! وهكذا يمكن القول: لم تعمل الرواية على تطوير الموقف السياسي لدى "فاطمة" أو سواها من شخصيات الرواية بالحد الأدنى، ليصل إلى الممارسة النضالية الحقيقية والفعلية، طبعًا باستثناء شذرات هنا وهناك! ولم تتخط "فاطمة" حتى القول من الموقف إلا كرد فعل، وبالتالي لم تتجاوزه أو تبادر إلى الفعل إلا في ما ندر! لمرة يتيمة لم تتكرر، نسمع الراوي وهو يخبرنا بأن أحد الرجال "أعطاها الغرض، وشوية فشك"(ص78)! وفي اعتقادي أن ذلك الموقف لم يكن مفاجئًا أو يأت مصادفة، إذ يشبه، إلى حد كبير، مواقف ومبادئ سياسية موجودة بين ظهرانينا!

وقد يكون من اللافت وهو مما يستوقف القارئ حقًا، التطرق إلى إشكالية موت "فاطمة"! بـ "غبة قلب"(ص214)!! وهي السكتة أو الجلطة القلبية! ثم أردف المؤلف قائلاً "العلم عند الله وين انتقلت روحها، وين طبت أرضها"(ص219)! فقد ذهب بعض القراء إلى أن موت "فاطمة" كان نهاية قاسية أو مفاجأة حقيقية، قد لا تستقيم مع أهمية دورها على مدار الرواية! وفي ذلك ما يتعارض مع كونها المحرك الرئيسي، وتداخلها الحاسم في مجريات أحداث الرواية! وعليه كان يفترض بالمؤلف لو أبقى "فاطمة" على قيد الحياة!

لعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا: لم يكن موت "فاطمة" من قبيل المصادفة أيضًا! وقد تجدر الإشارة إلى حقيقة أن يكون المؤلف قد هدف عامدًا متعمدًا إلى كسر أفق التوقع لدى القارئ حين أمات "فاطمة"! وهو يعلم يقينًا وعن وعي تام ما لـدى "فاطمة" من مكانة مرموقة وأهمية خاصة! لكنه اختار تقنية أسلوبية موسومة بـ "كسر أفق توقع القارئ"! زيادة في التوتر والإثارة والإدهاش الذي قد يبلغ أحيانًا حدَّ الصدمة! وهذا ما حدث بالفعل، وهي من أهم المفاهيم التي أكدت عليها نظرية التلقي! وفي تأكيد المؤلف بأن "الأرض لا تموت ولا تتقمص"(ص246)! وإن ماتت "فاطمة" ما يدعم الذي ذهبنا إليه! يضاف إلى ذلك أن وتيرة الأحداث في زخمها وتصاعدها لم تتوقف للحظة، بل على العكس تمامًا إذ استمرت في تصاعد ملحوظ! فالحياة كانت أقوى وأبقى ومستمرة، حتى بعد موت "فاطمة"، في جريانها لا تعرف التوقف! يقول المؤلف بعد موت "فاطمة" وقد شارفت الرواية على النهاية "كل الدروب في البلد عامرة، الرايح رايح والجاي جاي. في المواسم تعمر أكثر، وأي وقت في دور السنة بلا موسم"(ص249)؟! وتنتهي الرواية بأجواء مفعمة بالفرح والأمل والحياة، ها هو المؤلف يقول "ظل سماخ القمح يكبر، وورق البرقوق يرتعش، والعصافير تغني وتزغرد في فرح، وشبابة الراعي ترشح مع الحجل

..."(ص285)! فللحياة نبض لا يعرف التوقف أبدًا!

مهما يكن، فرواية "فاطمة" تعد إضافة نوعية بكل المقاييس، رواية مترامية الأطراف متعددة الأبعاد، لذا ما كان لتلك الإشكاليات أو الهنات أن تبخس الرواية قيمتها وأهميتها على مستوى المبنى والمعنى معًا!

 

*هوامش: 

1. محمد نفاع: فاطمة، دار راية للنشر، حيفا، 2015. اعتاد بعض أدبائنا أن يطلقوا على الأرض أسماء لنساء عربيات، مثال ذلك: محمود درويش: في قصيدة الأرض:
أنا الارض
والأرض أنت
خديجة!
2. باشلار غاستون: جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، ط2، ص30، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1984.
3. محمد كمال الدين علي يوسف: الأدب والمجتمع، ص9، القاهرة ، 1962.
4. ينظر الرابط: http://www.thaqafnafsak.com/
5. روبرت همفري: تيار الوعي في الرواية الحديثة، ترجمة محمود الربيعي، ص22،33، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2000.

المزيد من المقالات...