لا يزال شِعر"ابن الفـارض" موضع الإعجاب والاهتمام عند الكثير من الباحثين عرباً كانوا أوْ عجما، فله شروح ودراسات عديدة. لكن لمْ يتم تحقيق ديوانه إلاَّ مؤخراً على يد المستشرق الإيطالي (جوزيبي سكاتولين Giusepp Scattolin) الذي قدَّم أيضاً فهماً جديداً لشِعره مستخرجاً إياه من دراسة دلالية دقيقة تجنباً خطر إسقاط مفاهيم أجنبية عليه.

في أخريات حياته؛ أقام (ابن الفـارض) بقاعة الخطابة بالجامع الأزهر، متعبِّداً معتكفاً، ومنعزلاً عن الناس. وفي هذه الفترة أكمل ديوانه تدويناً وإملاءً كما فعل والده من قبل، يقول في قصيدته (زدني بفرط الحب):

زِدْني بفَرْطِ الحُبّ فيـك تَحَيّـرا =وارحمْ حشىً بلَظَى هواكَ تسعّـرا

وإذا سألُـتـكَ أن أراكَ حقيـقـةً =فاسمَحْ ولا تجعلْ جوابي لنْ تَرى

يا قلبُ أنتَ وعدَتني فـي حُبّهـمْ صَبراً =فحاذرْ أن تَضِيقَ وتَضجرا

إنَّ الغرامَ هوَ الحيـاةُ فمُـتْ بِـهِ صَبّاً =فحقّـك أن تَمـوتَ وتُعـذرا

قُل لِلّذِيـنَ تقدَّمـوا قَبلـي ومَـنْ بَعدي =ومَنْ أضحى لأشجاني يَرَى

عني خذوا وبيَ اقْتدوا وليَ اسمعوا=وتحدّثوا بصَبابتي بَيـنَ الـوَرى!

ينظر ابنُ الفارض -والعارفونَ عامة- إلى حب الله على أنه أصل وجود الخلق، وواسطة سريان الحياة والحركة في المخلوقات استناداً إلى الحديث القدسي: "كنتُ كنزاً مخفياً، فأحببتُ أنْ أُعرف، فخلقتُ الخلق، فبه عرفوني".

وتتجلّى مقامات الحب الإلهي الكوني، في قصيدته "الميميـة" وذلك من خلال حديثه الرمزي عن هذا الحب، وكنَّى عنه بالمدامة من حيث هي كناية عن وجود المحبة الإلهية منذ الأزل، ولا تدخل في قيود الزمان والمكان، فيقول في قصيدة (شربنا على ذِكرِ الحبيبِ مُدامةً):

شربنا على ذِكْرِ الحبيبِ مُدامةً=سَكِرْنا بها، من قبلِ أن يُخلقَ الكَرمُ

يقولونَ لي صفها فأنتَ بوصفها=خَبيرٌ، أجَلْ! عِندي بأوصافِها عِلْمُ

صفاءٌ ولا ماءٌ، ولُطْفٌ ولاهَواً،=ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جسمُ

تقدَّمَ كلَّ الكائناتِ حديثها=قديماً، ولا شَكلٌ هناكَ، ولا رَسْمُ

وقامَتْ بِها الأشْياءُ، ثَمّ، لحِكْمَةٍ=بها احتجبتْ عنْ كلِّ منْ لا لهُ فهمُ

وعنديَ منها نشوة قبل نشأتي=معي أبداً تبقى وإنْ بليَ العظم!

على نفسهِ فليبكِ منْ ضاعَ عمرهُ=وليسَ لهُ فيها نصيبٌ ولا سهمُ!

يقول الناقد الأديب (صابر عبد الدايم): إنَّ الأوصاف السابقة لا تَصدق إلاَّ على (المحبة الإلهية) وإلاَّ فهل للخمر حديث؟ وكيف يتقدَّم حديثها كل الكائنات؟ وكيف حدثتْ له النشوة قبل مولده؟ وكيف تبقى معه بعد فناء جسده وخلود روحه؟!

إنَّ الله جميلٌ، وجماله مطلق، ويستغرق هذا الشعور بالانجذاب إلى جمال الذات الإلهية عند ابن الفارض استغراقاً جعله يشهد محبوبه الحقيقي في كل معنى من معاني الحياة، وفي كل مظهر من مظاهر الكون؛ حتى في نغمة العود، وألحان الناي، وفي مسارح الغزلان، وفي مساقط الغمام، وبين الأزاهر والورود، يقول:

تـراه إنْ غـاب عني كل جارحةٍ=فـي كـل معنى لطيف رائق بهج

فـي نغمة العود والناي الرخيم إذا=تـآلفا بـين ألـحان مـن الهزج

وفـي مسارح غزلان الخمائل في=برد الأصائل والأصباح في البلج

وفـي مـساقط أنداء الغمام على=بـساط نـور من الأزهار منتسج

وفـي مـساحب أذيال النسيم إذا = أهـدى إلـيَّ سحيراً أطيب الأرج

لم أدرِ ما غربة الأوطان وهو معي= وخـاطري أيـن كنا غير منزعج!

عاش "ابن الفـارض" فيما بين (576- 632هـ) كثيراً ما كان يعاوده الشوق إلى الحجاز وأهله، فمن تلك البقاع الطاهرة، ينحدر أصله، فكانت أسرته تفتخر بنسبٍ متصلٍ ببني سعد، قبيلة السيدة "حليمة السعدية" مُرضعة الرسول الأعظم! فكتب قصيدته (أرَجُ النّسيمِ سرَى) :

يا ساكني البَطحاء، هلْ مِن عَودَةٍ=أحيا بها يا ساكني البطحاءِ؟

وحياتكمْ يا أهلَ مكَّة َ وهيَ لي=قسمٌ لقدْ كلفتْ بكمْ أحشائي

وعلى مُقامي بالمَقامِ، أقامَ في=جِسمي السّقامُ، ولاتَ حينَ شِفاءِ

أسْعِد أُخَيَّ، وغنّني بحَديثِ مَنْ=حلَّ الأباطحَ إنْ رعيتَ إخائي

واهاً على ذاكَ الزَّمانِ وما حوى=طيبُ المكانِ بغفلة ِ الرُّقباءِ

بعدما رجع من الحج، لمْ يمكث طويلاً، حتى عاوده الشوق أكثر من ذي قبل، ولا عجب في ذلك، ففي تلك الديار تفجرت قريحته بأعذب القصائد، وأرقّ الأشعار، فكتب قصيدته الشهيرة (هلْ نارُ ليلى بَدت ليلاً؟) التي استهلّها قائلاً:

هلْ نارُ ليلى بَدت ليلاً بِذي سَلَمِ =أمْ بارقٌ لاحَ في الزَّوراءِ فالعلمِ

ناشَدْتُكَ اللَّهَ إنْ جُزْتَ العَقيقَ ضُحًى=فاقْرَ السَّلامَ عليهِمْ، غيرَ مُحْتَشِمِ

يا لائماً لامني في حبِّهمْ سفهاً =كُفَّ المَلامَ، فلو أحبَبْتَ لمْ تَلُمِ

وحُرْمَة ِ الوَصْلِ، والوِدِّ العتيقِ =وبالعهدِ الوثيقِ وما قدْ كانَ في القِدَمِ

عني إليكمْ ظباءَ المنحنى كرماً =عَهِدْتُ طَرْفيَ لم يَنْظُرْ لِغَيرِهِمِ

طوعاً لقاضٍ أتى في حُكمِهِ عَجَباً =أفتى بسفكِ دمي في الحلِّ والحرمِ!

يقول جبران: "إذا نظرنا إلى فن "ابن الفارض" وجدناه كاهناً في هيكل الفكر، أميراً في دولة الخيال، قائداً في جيش المتصوفين"! وهكذا؛ يظل شِعر ابن الفارض موضع الإعجاب والحفاوة عند الأدباء والباحثين عرباً كانوا أوْ عجماً، شرقاً قطنوا أوْ غرباً. ومن أصدق ما قيل عنه تلك الأبيات التي كتبها سبطه (علـيّ) فوق ضريحه:

جُزْ بالقرافةِ تحت ذيْل العارضِ=وقُل: السلامُ عليكَ، يا ابن الفارضِ

أبرزتَ في نَظْمِ السلوكِ عجائباً=وكشفتَ عن سِرٍّ مصونٍ غامضِ

وشربتَ من كأس المحبّةِ والوَلا=فرويتَ من بحرٍ محيطٍ فائضِ!

مَن هو ابن الفـارض؟!

هو أبو حفص شرف الدين "ابن الفارض" أشعر المتصوفة، يُلقَّب بـ"سلطان العاشقين" درس الفقه الشافعي بالأزهر، وأخذ الحديث عن ابن عساكر، ثمَّ زهد في الحياة وتجرد، وسلك طريق التصوف، فكان يأوي إلى المساجد المهجورة في أطراف المقطم، ويقيم فيها ليالي وأياماً طويلة صائماً ومعتكفاً. عندما زار مكة نظم معظم أشعاره في الحب الإلهي، وعاد إلى مصر بعد خمسة عشر عامًا قضاها في رحاب الحرم الشريف!

وصفه العلماءُ كالذهبي، والزركلي، وابن خِلّكان، وابن حجَر، وابن العماد الحنبلي، وغيرهم بأنه كان جميلاً نبيلاً، عليماً بأسرار اللغة، وعاشقاً للحُسن والجمال المطلق. وقد عكفوا على شرح ديوانه وتأويله، وكشفوا عن الرموز والإشارات التي احتجبتْ وراء العبارات والألفاظ ذات المعاني البعيدة! لاسيما أن أشعار المتصوفة تتكئ على الإشارة والتلميح الذي يعمدون فيه إلى المواربة والإغراب، كما يُعوِّلونَ على أساليب المجاز والاستعارات والكنايات وغير ذلك من ألوان البلاغة التي من شأنها أن تزيد الأمر خفاء، وتُحوِجك إلى إعمال العقل!

لقد التمسَ الأولياءُ والعارفونَ ألفاظهم وعباراتهم في التعبير عن حبّهم الإلهي والنبوي من معجم الشِّعر الغزلي أوْ الخمري، ممّا خلفه الشعراء العذريُّون كقيس وجميل وكُثيِّر، وغيرهم! حيث تكثر عندهم مفردات (الحب، الصبابة، الأسى، الجوى، والحان، ألحان، الطاس، الخمر، المدامة، النشوة)! ومن شعراء المتصوفة من يسرف في اصطناع هذه الألفاظ الغزلية والخمرية مثل: ابن عربي، وابن الفارض، وجلال الدين الرومي!

وقد ظنَّ البلهاء وذوو العاهات العقليّة أنَّ الألفاظ الغزلية تدلّ على معانِ ماديّة بحتة؛ فالحبّ حسي، والخمرة خمرة مادية! ونظراً لضيق أُفقهم وعجزهم عن فهم الرموز وفكّ مغاليقها؛ سارعوا إلى التشنيع على الأولياء والعارفين والغضّ من القيم الروحية التي تنطوي عليها قصائدهم، الأمر الذي اضطرَّ "ابن عربي" أن يضع بنفسه شرحاً لديوانه "ترجمان الأشواق". وعن سبب اللجوء إلى الألغاز والرموز يقول القشيري في كتابه (الرسالة): "لقد قصد الصوفية أن تكون ألفاظهم مستبهمة على (الأجانب) غيْرةً منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، فهي معانِ أودعها الله في قلوب قوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم".

ولهذا؛ قالوا: "لا يغشى مجالسنا من ليس منا"!

يقول العارفون: إنَّ (الحبّ الإلهي) عند المتصوفة، معناه الحب الخالص لله، وهو المحور الرئيس الذي تدور عليه رياضة النفس ومجاهدتها، وهذا ما أشار إليه "ابن الفارض" في قصائد كثيرة مثل "التائية الكبرى" كقوله:

وعن مذهبي في الحبِّ ما ليَ مذهبٌ= وإنْ مِلتُ يوماً عنه فارقتُ مِلَّتي!

وكل الجهات السِّتِّ نحوي مُشيرةٌ= بما ثَمَّ من نُسْكٍ وحَجٍّ وعُمرةٍ!

dsdg1031.jpg

صدرت الرواية بالعربية عن دار دال للنشر والتوزيع/ سوريا/ دمشق في 368 صفحة من القطع المتوسط سنة 2003، بترجمة منار فخر الدين فياض. حازت الرواية على جوائز عديدة في سان فرانسيسكو، جائزة الحياة من مؤسسة الثقافية المسرحية الأمريكية، وتنويه المكتبة الأمريكية. هي الرواية الأولى للحسيني أفغاني الأصل، أمريكي الجنسية، وأصدر بعدها عدة روايات (ألف شمس مشرقة 2007، ورددت الجبال الصدى2013، صلاة البحر 2018). اعتبرت هذه الرواية من أكثير الكتب مبيعاً، حيث بيع منها سبعة ملايين نسخة، وتم ترجمتها إلى لغات عدة، وأنتج فيلم تحت العنوان نفسه عام 2007.

خالد حسيني، هو كاتب وطبيب أفغاني أمريكي، ولد في 1965 في كابول، انتقل وعائلته إلى إيران، حيث كان يعمل والده في سفارة أفغانستان في طهران، وفي أواسط السبعينيات حصل والده على وظيفة في باريس، وبسبب الغزو السوفييتي، حصل على حق اللجوء السياسي في أمريكا. حصل على بكالوريوس أحياء 1988، ثم أنهى دراسة الطب 1993، وكانت هذه الرواية نقطة تحول في حياته. عمل مبعوثا للنوايا الحسنة للأمم المتحدة لشؤون اللاجيئن، وساعد في أعمال خيرية في أفغانستان.

إن أي تلخيص للرواية هي قراءة بحد ذاتها، وقد مر الكثير من الكتاب والنقاد في سرد قصة الأخوين غير الشقيقين أمير وحسن، فالأول أمّه بشتونية، بينما أمّ الثاني هازارية فقداهما بعد ولادتهما، الأولى ماتت، والثانية هربت مع المغنين والراقصين، وأرضعتهما "سكينة" (حسن وأنا رضعنا من الصدر نفسه: 21)، أبوهما سارق بالمعنى الوارد في الرواية، فهو مغتصب، وكاذب. يعيش حسن في قصر برجوازي في "وزير أكبر خان"، شمالي كابول، ويخدمهما علي وابنه حسن. عاشا معا، وطيّرا الطائرات الورقية معا، "ومشينا خطواتنا الأولى على المرج نفسه، وتحت السقف نفسه نطقنا بكلمتنا الأولى، كلمتي الأولى كانت بابا، كلمة حسن الأولى كانت أمير، اسمي: 21"، وتعرض حسن للتنمر والغيرة من قبل أمير، الذي كان يشعر بحنو خاص من أبيه. فازا بمسابقة الطائرة الورقية، وكما كان حسن بارعا في المقلاع، والتقاط الطائرات الورقية الساقطة. عاصف ألماني الأمّ أفغاني الأب (أشقر ذو عينين زرقاوتين)، هتلري الثقافة، يتنمر على الأطفال خاصة حسن، وفي يوم الفوز في مهرجان الطائرات الورقية الشتوي، راح حسن يلتقطها، وهناك حشره عاصف وأصدقاؤه، وتم اغتصابه. جبن أمير في الدفاع عن حسن، وبدأ بنصب المكائد لحسن، حيث كانت فرقتهما، إذ اتهمه بسرقة الساعة وبعض المال اللذين حصل عليهما كهدايا في عيد ميلاده. جاء الاجتياح السوفييتي لأفغانستان، ليحسم هجرة البرجوازيين إلى باكستان، ثم أمريكا. عاش أمير في أمريكا، وأنغمس في حياتها وثقافتها، حتى أنه تزوج من ابنة الجنرال (إقبال تاهيري) التي كانت قد هربت من أبيها، وعاشت مع أفغاني مدة شهر.

تصل رسالة من رحيم خان، صديق والد أمير، تفيده بعلاقة أبيه مع زوجة علي، وأن حسن أخوه، وأنه مات، وترك صبيا اسمه (يعني الرونق والصفاء المشوب بالحمرة، واللطافة، والعزة).

يعود أمير إلى أفغانستان وقت طالبان، ويجد أن  يخدم عاصف أحد أذرع طالبان، حيث اعتبر  صبي عاصف، يرقص، ويغتصبه أيضا. تدور معركة بينهما، كاد أمير أن يفقد حياته، لولا المقلاع  الذي ورث مهارته من أبيه، فيفقأ عين عاصف، ويهربان إلى الباكستان، ويعودان إلى أمريكا. هناك يطيّران الطائرة الورقية بحرية.

سأتناول الرواية من زاوية اللون الأزرق الواردة فيها، فكثر حتى أنه يعتبر من ملامح الرواية الرئيسية. فاللون الأزرق يعني: الطاقة والإثارة والنشاط، والهدوء والسكينة، فهو يرتبط بالسماء الصافية والسلطة، والثقة والكرامة. ويُشير إلى النظافة، والقوة، والذكاء، والخيال الواسع، والإلهام والحساسية، والحكمة والاستقرار، والإيمان، والتفاني والحنين، والمسؤولية، والوفاء، والصدق، والأمان الداخلي. والعيون الزرقاء حاسدة، بينما يرتديه الأطباء والممرضون. والدم الأزرق هو دم العنصريين تجاه الآخرين، فهو دم الفاشست.

في الرواية يشير إلى الحرية والإنطلاق، بعيدا عن القمع والكبت، ويتجلى بشكل أوضح في علم الولايات المتحدة، في مستطيلها الأزرق الذي يتحوي على 51 نجمة بعدد ولاياتها، فاللون الأحمر يعبر عن البسالة والصلابة، والأبيض يشير إلى الطهارة والنقاوة والصفاء والبراءة، أما الأزرق فيشير إلى اليقظة والمثابرة والعدالة.

أما علم أفغانستان، ففيه الأخضر والأحمر والأسود، ولم يشر إلى تلك الألوان إلا لماماً، وبصورة متفرقة، غير مركزة.

الطائرة الورقية تشير إلى الانطلاق في السماء الزرقاء، ومهرجان الطائرة الورقية هو تقليد سنوي شتوي، فتوصف مرحلة الملكية في أفغانستان، قبل العام 1978 بالحرية والإنطلاق، فأبو أمير هو من رجالات الدولة، وكان رجل أعمال أرستقراطي، وممثل دبلوماسي في عديد الدول. عاش أمير هذه المرحلة في شمال كابول، ومنذ الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، وبعد حكم طالبان، انتهى هذا التقليد، وفي بداية الرواية وفي نهايتها، تظهر الطائرات الورقية الحمراء (الخطوط الأفقية في العلم الأمريكي، بأذيال زرقاء (مربع الولايات المتحدة)، تحلق عالياً في السماء، وترقص فوق الأشجار.

عندما اشتركا أمير وحسن في مهرجان الطائرات الورقية، وأسقطوا آخر طائرة نافستهم، كان لونها أزرق، ركض حسن لجلبها تعبيرا عن النصر والغلبة، وقعت في زقاق، فإذا بعاصف يحاصره هو ورفيقاه، كان بعينيه الزرقاوتين، وبنصف دمه "الأزرق" (أفغانيا ألمانيا)، يحاول ابتزاز حسن، وتنتهي باغتصابه. حمل حسن الطائرة الورقية، مكسور الخاطر، مغتصب، والدماء تنساب نقاطاً على الثلج الأـبيض، فتسود. سلمها لأمير، الذي شهد اغتصابه دون أن يدري، وحملها كعلامة نصر مشوبة بالهزيمة، والجبن، ظلتا ترافقاه طيلة حياته، مرة شعوراً بالغيرة من حسن، ومرة أخرى بالندم، ومحاولة التكفير عن الذنب.

قام أمير، بنصب مكيدة لحسن، فأخفى ساعة اليد الزرقاء، وبعض المال، تحت مخدة حسن، ملصقا به تهمة السرقة، فما كان من حسن إلا الاعتراف بذلك، حبا ووفاء لصديقه أمير، فيقرر الأب "علي"، الهازاري أن يرحل، رغم فقره، وتشوه وجهه، ومشيته العرجاء. حزن الأب كثيراً، فهو ابنه من "صنوبر"، زوجة علي التي تصغره ب 19 عاما.

حين رحل أمير إلى أمريكا، والتحق بالجامعة، واختار تخصصه (اللغة) بحرية، امتلأ المدرج عند التخريج، ب "الأرواب" الزرقاء، والفتيات يصرخن ويتعانقن ويبكين فرحاً، وهو كذلك مثلهم يتشح بالأزرق، لون المحيط الهادي، المتسع إلى آخره، فهو حلم الطفولة الذي رآه في الأفلام.

في أمريكا، يتعرف على صديق أبيه القديم (الجنرال تاهيري)، وبعدما عرف أن أمير مهتم بالكتابة، اختلف حول مواضيعها، هل هي حول القصص الإبداعية أم التاريخية لأفغانستان، وحين سلم عليه الجنرال، كانت عيناه الزرقاوتان شاحبتين، ربما بسبب غربته، وفقدانه لقب الجنرال الذي حصل عليه في أفغانستان. يعجب أمير بابنة الجنرال (ثريا)، وحين تقدم لخطبتها، ارتدى بزّة زرقاء بلون البحر.

بناء على اتصال صديق أبيه من باكستان (رحيم خان)، ليعود، ويأخذ معه  (ابن أخيه حسن)، رأى الطائرات الورقية الحمراء بذيول زرقاء في سان فرانسيسكو، وحين وصل أفغانستان، كانت الطرقات مليئة بالدراجات الهوائية، والريشكوزات (الدراجات النارية) تنفخ دخاناً أزرق، تدور في متاهة الطرق والأزرق الضيقة. رأيت مشهداً مؤثرا حين عادت "صنوبر" أم حسن، الهاربة منذ ولادته مع الراقصين والمغنين (الغجر ربما)، التي تخلت عن زوجها وابنها، ومارست الدعارة، انقلب لون السماء من الأزرق الساطع إلى الأرجواني.

عاد أمير إلى الملجأ الذي كان فيه ابن أخيه حسن، وكانت السماء، سماء أفغانستان تتوق للحرية والانطلاق، واسعة زرقاء. علم أمير من مدير الميتم، أن أحدهم أخذه  لخدمته، وأشياء أخرى، فظهر إليه، رجل ضخم، بلحية عظيمة، منفذ حكم الإعدام بالزانيات والزانين في الملعب، بين الشوطين، ظهر بمسبحته الزرقاء الفيروزية، فإذا به عاصف، الأفغاني الألماني، المغتصب لوالده، طفلا كذلك. طلب أمير أن يرى ، فأوتي به مع حارس، يحمل ستيريو، خلفه طفل، يرتدي الثياب التقليدية بلون الزفير الأزرق. خلع عاصف نظارته السوداء، ليتعرف عليه أمير، وطلب من أمير أن يخلع لحيته الصناعية، وكانت عينا عاصف زرقاوتين قاتلتين، مصبوبتين على عيني أمير.

تجري معركة بالأيدي من طرف عاصف، بينما أمير مستسلم لضرباته، حتى أصيب في كل أنحاء جسده، في شفته (مثل شفة أخيه حسن الأرنبية)، وفي عينه، وفكه. كاد أن يموت، كانت عيناه منتفختان ومزرقتان، لولا مهارة  باستخدام المقلاع مثل أبيه، فصوب كرة نحو عاصف لتستقر في عينه اليسرى.

يتمكن أمير أخيرا، من الحصول على تأشيرة من السفارة الأمريكية في باكستان،لابن أخيه ، وفي غرفته العلوية في الولايات المتحدة، يعرفانه على غرفته، وسريره بشراشفه، مطبوعا عليها طائرات ورقية ملونة، تطير في سماء زرقاء نيلية.

ياتي الجنرال وزوجته على العشاء، فيتعرفا إلى ، وتهديه كنزة زرقاء. في الخارج، في الحديقة، حيث الأفغان يمارسون طقسهم المعتاد، يشتري أمير طائرة ورقية، ويعيد اللعبة مع ، محاكاة لدوره في طفولته مع أبيه حسن. إنهما يعودان إلى الحرية من جديد.

فازت الرواية بعدة جوائز، لكن ورغم توق خالد حسيني للحرية التي يراها من خلال كونه من الطبقة الأورستقراطية، المتنفذة أيام الحكم الملكي، ومن خلال مثاله الأعلى أمريكا، فهناك بعض الأسئلة:

1- هل كان سيكتبها، لو عرف نهايات المشهد في أفغانستان، فطالبان عادت؟

2- هل ما زال يرى في أمريكا شعارا للحرية والانطلاق إلى العالم الواسع، بعد احتلال دولا أخرى بعد أفغانستان؟

3- هل ما زال يرى في الحكم الملكي، اللون الأزرق، أفقا واسعاً للطائرات الورقية؟

4- كيف وفق بين ذوي الدم الأزرق، والحريات التي ليس لها حدود في بين البحر والسماء؟

مقتطفات من الرواية حول اللون الأزرق:

  • "اتصل بي صديقي، رحيم خان من باكستان، وطلب مني أن أذهب لأراه، ....،  ذهبت لأمشي بجانب بحيرة سبريكلز، ....، نظرت لللأعلى، ورأيت زوجاً من الطائرات الورقية، حمراء بأذيال زرقاء طويلة، تحلق عالياً في السماء، ترقص فوق الأشجار عند النهاية الغربية للحديقة فوق طواحين الهواء، تحلقان جنبا إلى جنب، كزوج من العيون تحرسان سان فرانسيسكو، المدينة التي أسميها الآن وطني" (ص11)
  • "عاصف الأشقر، (ولد للأم ألمانية، وأب أفغاني)، ذو العينين الزرقاوين، حكم كل الأولاد الآخرين: 47).
  • "الهدية الثانية التي أهداني بابا إياها (في عيد ميلاده)، كان ساعة يد، بزجاج أزرق وعقارب ذهبية" (كانت الهدية الأولى دراجة: 110).
  • "في ذلك الصيف، سنة 1983، تخرجت من الثانوية وعمري عشرين سنة، كنت أكبر خريج يرمي قبعته في ملعب الفوتبول، أذكر أني أضعت بابا بين زحمة العائلة، وفلاشات الكاميرات، والأردية الزرقاء، ...، فتيات بالأزرق، يصرخن ويتعانقن ويبكين: 136"
  • "أول مرة رأيت فيها المحيط الهادي، كنت سأبكي، كان ضخما وأزرقا كما في شاشات السينما في طفولتي: 141).
  • "تبادل (الجنرال تاهيري) القبل، وصافح يدي بيديه الاثنتين، أتمنى لك التوفيق في الكتابة، قال وهو ينظر إلى عيني تماما، عيناه الزرقاوتان الشاحبتان، لم تظهرا شيئا مما يفكر فيه:146". (عندما لفتت انتباهه ابنته ثريا).
  • "وصلنا إلى بيت التاهيري المساء التالي، ليتقدم والدي لخطبتها (ثريا) رسميا، ...، كنت أرتدي بذة زرقاء بلون البحر:171)"
  • "رأيت زوجا من الطائرات الورقية، حمراء بأذيال زرقاء، تطيران عاليا فوق الأشجار على الطرف الغربي من الحديقة: 194" (في سان فرانسيكو).
  • "كانت الطرقات مليئة بركاب الدراجات الهوائية، متجولين، ريشكوزات تنفخ دخانا أزرق، كلها تدور في متاهة من الطرقات والأزقة الضيقة، بائعون ملتحون يلفون أنفسهم بأغطية خفيفة من جلد الحيوان، يبيعون مظلات مصابيح، سجادات، ...: 197" (حين عاد إلى أفغانستان).
  • "أفلت حسن يدها، وطار خارج البيت، ذهبت وراءه لكنه كان سريعاً جداً، رأيته يركض على التلة حيث كنتما تلعبان، أقدامه تركلان غيوما من الغبار، تركته، جلست مع صنوبر كل اليوم، بينما انقلب لون السماء من الأزرق الساطع إلى الأرجواني: 211" (حين عادت أم حسن (صنوبر) إلى ابنها).
  • "السماء كانت واسعة وزرقاء:262" (في أفغانستان).
  • "مسبحة بحبات زرقاء فيروزية: 273" (مسبحة عاصف).
  • "فتح الباب، ودخل الحارس، يحمل ستيريو- ميكسر على كتفه. خلفه طفل، يرتدي بيرهان-تومبان بلون الزفير الأزرق: 276" (عندما أحضروا له (عاصف) سهراب).
  • "جاءوا بالطفل، ...، ثم خلع نظارته وصب عينيه الزرقاوتين القاتلتين على عيني: 278" (عندما التقى بعاصف لاسترداد الطفل).
  • "كانت عيناي منتفختان ومزرقتان: 300" (وهو في المشفى أمام المرآه في بشاوار).
  • "كانت السماء زرقاء خالية من الغيوم:348" (بعد أن انتقل سهراب من العناية المكثفة إلى الغرف).
  • "كان مطبوعا على الشراشف طائرات ورقية ملونة تطير في سماء زرقاء نيلية: 353" (غرفة سهراب في أمريكا).
  • "أتى الجنرال وكالا الجميلة على العشاء، ... أعطته كنزة زرقاء:355" (أعطت حماته الكنزة لسهراب).

 

sdgsgs1031.jpg

عندما ننتهي من قراءة رواية "ثورة الأيام الأربعة " للكاتب المغربي عبد الكريم الجويطي الصادرة عن المركز الثقافي العربي (383 صفحة من الحجم المتوسط)، نكتشف بأن الكاتب لم يحك لنا إلا عن يوم واحد من تلك الأيام الأربعة. وبالتالي أي قراءة أ وتأويل لهذه الرواية، دون قراءة الأجزاء الأخرى التي لم تنشر بعد، ستظل قراءة مبتسرة وتأويلا ناقصا. لهذا لا بد من الإشارة، إلى أن قراءتي وفهمي وتأويلي سيقتصرون فقط على هذا الجزء. ولن أنتظر أ وأستشرف أ وأرجم بالغيب الأجزاء المتبقية. وكذلك لن ألوي للمعاني الواضحة في النص عنقها، لتساير معاني مفترضة في كتابة لاحقة، قد تأتي وقد لا تأتي. ثم إني أعتقد، أن كل النصوص الروائية، هي بشكل من الأشكال نصوص ناقصة ولن تكون أبدا مكتملة. وقد عبر غابرييل غارسيا ماركيز عن هذا، في أحد حواراته حين قال: "إننا لا ننتهي من كتابة، رواية وإنما نتخلص منها."

فماذا حدث في اليوم الأول من " ثورة الأيام الأربعة"، التي لم تطلق فيها إلا رصاصات معدودات، ليعتبرها الكاتب حدثا مهما، ويتفرغ ربما، لسنوات طويلة من البحث المكتبي والميداني للكتابة عنها؟ مع العلم، أن الحدث الذي استند عليه الكاتب لتشييد معماره الروائي، أ وما عرف بأحداث مولاي بوعز ة، التي وقعت في بداية السبعينيات من القرن الماضي، بتدبير من التنظيم السري لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وبزعامة الفقيه البصري، بهدف الإطاحة بنظام الحسن الثاني وتأسيس نظام جمهوري، ه وحدث معروف. وأسال مدادا كثيرا وكتبت حوله العديد من الكتب والمقالات وقدمت فيه العديد من الشهادات. ما غاية الكاتب إذن، من العودة إلى حدث وقع قبل أكثر من نصف قرن، بهمة وعزم كبيرين، ليؤلف عنه رباعية روائية ضخمة؟ هل لأنه، كمهتم بتاريخ المغرب وتاريخ تادلة على وجه الخصوص حيث وقعت الواقعة، اكتشف خللا أ وفراغا ما في الكتابة التي أرخت للحدث، فقرر بكل عدته وعتاده المعرفي والتخييلي، الاتكاء على الرواية، بما تتيحه من حرية في التعبير والهدم والبناء، لتصحيح ذلك الخلل وملء تلك البياضات؟ أم هي فقط، عودة لهذا الحدث، لاتخاذه مطية مشوقة، للحديث عن أشياء أخرى تم إغفالها في تاريخ المنطقة، يرى الكاتب أنها جديرة بالالتفات وتسليط الضوء عليها إبداعيا وتقديمها في قالب روائي جميل للعالمين؟ أم هي تصفية حسابات ثقافية وفكرية، مع مرحلة ثورية إيديولوجية لها سياقها التاريخي. مرحلة، كانت سببا في حدوث مآسي سياسية واجتماعية كثيرة، وآثار وخيمة أعاقت لسنوات طويلة، تنمية البلد وتقدمه؟ وهل الشكل الفني والتقنيات المعتمدة في كتابة هذه الرواية وكذا اختيار الشخوص وأوصافهم والنعوت التي ألحقت بهم، وطريقة سرد الأحداث وبنائها، واختيار لغة شاعرية منتقاة كلماتها في كثير من الأحيان بعناية شديدة، كان مناسبا ومنسجما مع إنتاج خطاب روائي منطقي ومنسجم والقناعات التي تم دسها بذكاء في الحكايات. وتصريفها بدهاء، على لسان شخوص الرواية المتعددين؟ وهل يلامس القارئ، المطلع على ما جرى فعلا، تطابقا منطقيا وواقعيا في الأحداث المسرودة وتلك التي حدثت بالفعل. أم سيتعثر كثيرا باختلافات وتناقضات بينهما. وخصوصا من حيث الأحداث والشخوص والخطاب؟ وهل كتبت الرواية من أجل الانتصار لفكرة الثورة وأبطالها وإعادة الاعتبار لهم، كما فعلت بعض الكتابات والشهادات الأخرى، أم جاءت الرواية ( كما قد يفهم البعض) كثورة مضادة لما جرى والتنكيل بأصحابها والنيل منهم ومن أعراضهم بشكل فظيع؟ ثم ما هي الخلاصة أ والانطباع العام الذي يمكن لقارئ متأن أن يخرج به من قراءة هذه الرواية؟

للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، سأركز على محورين أساسين: الواقعي في بناء رواية "ثورة الأيام الأربعة" (من جهة). والتخييل وهيمنة الخطاب الواحد فيها( من جهة ثانية).

أولا: الواقعي في البناء التخييلي للرواية.

مهم جدا أن أشير، بأنه من الصعب على القارئ العادي في قراءة عادية وعابرة، أن يميز في رواية الأيام الأربعة، بين ماحدث على أرض الواقع فعلا، وما تم دمجه في سيرورة السرد من أحداث متخيلة. وفي هذا الفصل، سأحاول التركيز فقط على ما جاء في الرواية من وقائع حدثت بالفعل. لأعود في الفصل الثاني، عند مقاربة خطاب الرواية إلى تسليط الضوء على المتخيل فيها.

تتضمن الرواية أربعة عناصر أساسية، نجدها هي نفسها في كتابات وشهادات أخرى متعددة، مثلا في" أبطال بلا مجد" للمهدي بنونة و"الثورة الموؤودة" لمحمد لومة و"ثورة لم تكتمل" لمحمد التوزاني ومقالات أخرى إلخ... ) وهذه العناصر هي:

1 _ تاريخ الثورة ومكانها

تشير الرواية إلى تاريخ مضبوط وكذا إلى المنطقة التي انطلقت منها هذه الثورة، وه ونفس التاريخ والمكان الذي انطلقت فيه مجموعة من الثوارعلى أرض الواقع في ليلة الثالث من ماريس 1973، في محاولة لقلب النظام الملكي في المغرب وتأسيس نظام جمهوري بديل." في مغيب اليوم الثاني من مارس عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، صادف يوم جمعة، حوالي السادسة والنصف، بدأنا صعود الجبل...تجاه قمة تاصميت" ص 12. والمكان كما يبدو، ه وجبال الأطلس، منطقة تادلة بني ملال.

2 _ هوية الثوار

إن كان الكاتب قد أعطى للثوار في روايته ألقابا ونعوتا أخرى مموهة لهويتهم الحقيقية، على اعتبار أنهم شخوص روائية، إلا أنه أبقى على آخرين بصفاتهم وألقابهم أ وأشار إلى قرائن وصفات تدل عليهم، كما ه والحال بالنسبة للفقيه البصري وآخرين معه، وكذا قائد المجموعة إبراهيم التزنيتي المعروف بعبد الله النمري، عض وسابق في هيئة أركان حرب جيش التحرير. يقول السارد " كلما ذهبت للمكتبة، تبدى لي التزنيتي صاحب سر، بل أسرار. وكل ما حوله مجرد ديكور لإخفاء حياة أخرى أكثر حركة وثراء."ص 62.

3 _ خطأ في التنفيد وسوء في التقدير.

بسبب خطأ في التنسيق بين مجموعة من المسلحين متفرقين في عدة مناطق بالمغرب، للقيام بهجومات متزامنة يوم عيد العرش الثالث من مارس 1973، قامت فقط مجموعة واحدة بقيادة إبراهيم النمري (التزنيتي ) بهجوم مولاي بوعزة، بينما كانت المجموعات الأخرى قد أجلت هجوماتها لمدة أسبوع. وكما نجد هذا مكتوبا في عدة مصادر، نجد الإشارة إليه في الرواية واضحة. يقول السارد منتقدا بسخرية ومرارة، طرق التواصل بين قيادة الثورة ومنفذيها، التي أدت لخطأ فظيع عند التنفيذ: " ثورة تريد أن تنقل المغاربة نح والمستقبل، لكنها تستعمل أدوات القرون الوسطى، الرقاصة، الجفر والتوكل على الألطاف الإلاهية، لا ينقصنا إلا الحمام الزاجل مع القيادة العليا للتنظيم في الجزائر."ص 132

4 _ مآل الثورة

مصير الثورة، سواء في الرواية أ وفي الواقع، كان ه والفشل الذريع. بعض الثوار قتل في مواجهة السلطات، وبعضهم ألقي عليه القبض وأعدم أ وسجن. وبعضهم فر متسللا خارج المغرب إلى الجزائر. يقول أحد الثوار بيأس :" علينا أن نتفرق ويحاول كل واحد منا وبطريقته الخاصة، أن يتسلل إلى الجزائر، هذا ه والحل، الباقي جنون وانتحار. " ص 204

يستخلص مما سبق، أن الكاتب استند في كتابة روايته، على أحداث ووقائع تاريخية حقيقية. لكن طبعا، بعد تفكير وبحث عميقين في تفاصيلها، واشتغال طويل على بنائها سرديا وتخييليا ولغويا، من أجل إنتاج خطاب روائي متين ومحبوك ينتصر لثورة ثقافية فكرية تحارب الأمية والجهل والعنف. خطاب، رغم ما يوحي به تعدد الأصوات ووجهات النظر المتباينة داخل الرواية، يظل خطابا واحدا، كأنه تعبير مباشر عن قناعات الكاتب ورؤيته ومواقفه مما حصل في تلك الثورة." يا ثوار، لا يمكنكم أن تفعلوا أي شيء أمام كم السذاجة التي أراها، حاربوها أولا وسترون، لن تحتاجوا إلى إطلاق رصاصة واحدة. السذاجة عدوتي وعدوتكم ." ص 236. فأين يتجلى هذا الخطاب تخييليا في "ثورة الايام الأربعة"؟

ثانيا : التخييل وهيمنة الخطاب الواحد في الرواية

يعتبر الناقد والروائي محمد برادة، في أحد حواراته وه ويتحدث عن التخييل،"أن الواقع مهما كان معبدا وفسيحا، يبد ودائما ضيقا لا نقبل أن نعيش فيه، دائما نبحث عن نوافذ تقودنا إلى عالم فيه الكثير من المخيلة والتخييل، ليسعفنا أن نتابع الحياة... ومجرد أن نتحدث عن شيء من خلال التخييل، يجعل ذلك الشيء وإن كان مصدره الواقع، متحولا ومتخيلا."

بهذا المعنى، حتى وإن ظهر بوضوح من القرائن التي تمت الإشارة إليها آنفا، أننا أمام أحداث تاريخية واقعية، فإن "ثورة الأيام الأربعة"، تبقى عملا تخييليا محضا أساسه اللغة والمخيلة. سواء من حيث البناء والشخوص،أ ومن حيث اللغة والخطاب. ذلك أن الكاتب لم يقم نسيج روايته على سدى الواقع وتصميمه، ولا على خطية زمنية كرونولوجية للأحداث، ولا استسلم لمنطق وفكر المشاركين في الثورة، كما حصل على أرض الواقع، وفرضه على شخوص الرواية وأبطالها. ولا تماثل طرحه للأشياء، مع جل تلك الأحداث وما قد يكون فرضه سياقها من موت ودماء وآلام وعذابات وضحايا بالجملة. بل كتب الرواية بجرأة تخييلية فظيعة، تقدم، خطابا ثقافيا فكريا ثوريا، يصل حد الاستخفاف والسخرية والتنكيل بتلك الثورة وبكل ما حصل فيها من تسرع وحماس زائد وسوء تنفيذ وتقدير وخسائر." الثورة حين لا تكون حقيقية، عاصفة،خاسفة، ناسفة، تتحول الى تلقيح للمخزن ضد قوى التغيير لسنوات وعقود، يقضي على الطليعة الثورية في المجتمع ويعيد ترتيب نفسه " ص270.

وهذا التخييل، لخصه الكاتب نفسه، وه ويخاطب قارئه المفترض، بوعي كبير، على لسان سارده العالم بكل شيء:" ما أرويه هنا فيه إعادة صياغة، وفيه إضافة مني بكل تأكيد" ص 108. ثم نجده يؤكد ذلك في الصفحة 112:" شيء ما بداخلي يقول لي، إن ما تراه غير واقعي، غير متماسك، فيه عناصر متنافرة: ثورة، جبل، ثكنة، سرمد، سلاح، جيب، تودا، جلابيب، فطور، مسدس، عناصر كثيرة تفتقد خيطا ناظما يعقلها.."

عنوان الرواية نفسه"ثورة الأيام الأربعة"، كأحد عتبات النص الأساسية، يضمر استخفافا وسخرية واضحين من هذه الثورة المعلنة فيه. مما يدفع القارئ لطرح العديد من الأسئلة، بتعجب واندهاش كبيرين: هل فعلا تصرف الثوار على النح والذي سرده علينا الكاتب في هذه الرواية؟ ثوار يصطحبون معهم سلحفاة ووسادة؟ ينشغلون في أول ليلة من ثورتهم، بإغلاق ماخور وتزويج الرجال المعتقلين داخله من فتياته؟ كيف وجدوا الوقت الكافي لسماع حكاية تودا،( قوادة الماخور) وتاريخها المجيد؟ وكيف سمحوا لزطاورو(محتال يوناني متشرد وأحد معتقلي الماخور) أن يكون له رأي في ثورتهم، وأن ينعث، بكل وقاحة، المغاربة بالسذاجة والغباء؟ وأي ثوار هؤلاء، وهم في طريقهم لإطلاق الشرارة الأولى لثورتهم، وجدوا الوقت والمزاج لتأمل خصائص البغال وأهميتها لسكان الجبال؟ وأن ينتقدوا معداتهم وأسلحتهم، التي يحملونها لمهاجمة النظام، ويصفونها بالخردة؟ وأن يجدوا الوقت الكافي لزيارة معرض صور بالجبل واستطلاع الرأي حوله؟ وأن يهتموا لحكايات نساء ينتظرن منذ سنوات على ربوة، عودة أبنائهن من حروب بعيدة؟ وأن تسعفهم اللحظة بأن ينبشوا في أصول ساكنة الجبل الذين أنهكتهم الحروب والهجرة والعداء التاريخي بينهم؟ وما هذا العبث، في أن يكون أحد الثوار، نجلا للرجل الذي لم ينجح في لعب دور صغير جدا في مسرحية، يخاطب فيها الفرنسيين بكلمتبن كأنه دغول، ه وأحد القادة الذين سيطلق الشرارة الأولى للثورة ضد نظام الحسن الثاني؟ ثم ما معنى أن يقيم الثوار في يومهم الأول، محاكم تفتيش في الجبل ويفتحون تحقيقا مع باحثين أجنبيين، روزا الفرنسية وصامويل الأمريكي المقيمان في الجبل لأسباب بحثية؟

ثم لماذا أصلا، هذا الاستخفاف والاحتقار والتنكيل ول وتخييليا، بحدث تاريخي(اتفقنا أ واختلفنا معه) يظل قائما بما له وما عليه، وله سياقه والأسباب التي دفعت إليه؟

أعتقد أن ما جعل وقائع الرواية وعوالمها، تبد وعلى هذا النح ومن العبث والفانطازيا أحيانا، ه والارتكاز المقصود والذكي من الكاتب على ثلاثة عناصر مهمة جدا لإنتاج خطاب مضاد لكل فكر ثوري، يمجد العنف غير المحسوب العواقب. وهي : شخصية السارد، أحداث توابع، أ وحكايات سردية هامشية لا يربطها أي منطق بالحدث الأساس/ الثورة. ثم اللغة.

عبد الكريم الجويطي في "ثورة الأيام الأربعة"، لا يكتب رواية للمتعة والتسلية وإنما يخوض، بجدية كبيرة ووعي حاد، ثورة ثقافية فكرية،عبر مشروعه الروائي، ضد الجهل والعنف والحماس الزائد. وسأحاول فيما يلي، توضيح ذلك باقتضاب شديد.

1 _ شخصية السارد

كان التنظيم الثوري الذي قاد تلك الأحداث في بداية السبعينيات من القرن الماضي، يتكون من :

_ القادة، ( يحركون الأمور من مقراتهم الآمنة في الجزائر وليبيا)

_ ذوي الخبرة العسكرية العالية ( يقودون الثورة في مناطق متعددة من المغرب)

_ أصحاب الخبرة القتالية المتوسطة وأصحاب التجربة الميدانية.( منفذين )

_ منتمين للثورة ( من داخل التنظيم، لكن لا خبرة قتالية لهم )

_ سكان محليين( تورطوا أ وزج بهم في تلك الأحداث).

ويبد وأن الكاتب، تعمد اختيار شخصية سارده من هذه الفئة الأخيرة، سارد غريب، يتلون كالماء، ينتقل كالريح،يتقوقع كسلحفاة، يتصرف كحثالة، يرتفع كجبل ويتحدث كرسول حكيم.وفي الآن نفسه، هوشخصية خبزية ضعيفة، مترددة، رعديدة، مغلوبة على أمرها، لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد لا بثورة ولا بفكر ثوري ولا خبرة لها لا في نضال ولا تنظيم ولا قتال ولا حمل سلاح. وإنما أستاذ بسيط من عامة الناس، زج به في فعل ثوري خطير لإطلاق شرارته الأولى. لكنه مع ذلك، سارد مواكب لجميع أحداث الرواية ومرافق لشخوصها. يعلم كل صغيرة وكبيرة عنهم، تاريخهم، بلدهم، مشاكلهم، أسرارهم وتطلعاتهم بل حتى ما يمور ويروج في أنفسهم وأحلامهم. " ليس لي أي انتماء سياسي، وحتى في جامعة فاس كنت أتجنب الحلقات والنقاش السياسي وأنسل في أيام التظاهرات والاحتقان وأركب حافلة تبعدني إلى بني ملال. أنا من الخبزيين الكبار ومن الحشود الهائلة..."ص 142.

2 _ التركيز على أحداث توابع.

ماذا ستنتظر، من سارد جبان رعديد، وه ويحكي لك عن مشاركته في تنفيذ ثورة يقودها الحثالة من الخارج، غير أن يحدثك عن البغال والسلحفاة والماخور والعداوات وخنوع مقهورين، ومعرض صور الموتى، وعن تودة القوادة، والمحتال زطاور وونساء ثكالى ينتظرن على ربوة أبناءهن إلخ.

وكما سيلاحظ القارئ، فهذه المحكيات لا علاقة منطقية لها، لا من قريب ولا من بعيد، بثورة أ وفكر ثوري. ولكنها هي التي شكلت صلب التخييل في الرواية، وهي التي وظفها الكاتب بإتقان ودهاء وحرفية عالية، لبناء خطابه الروائي. خطاب يحمل على كتفيه مدفعية من الوزن الثقيل وجه طلقاتها (على الأقل في هذا الجزء الأول من الرباعية)، نح وكل فكر ثوري يختار المغامرة والعنف والحماس الزائد لإحداث التغيير.

وكما سيستخلص القارئ المتأني بنفسه، فالكاتب لم يركز في" ثورة الأيام الأربعة"، على أحداث مولاي بوعزة، وعلى محاولة سردها كرواية تاريخية، أ وكسيرة تخييلية رصينة ومنطقية، كما ه والحال في كتابات وشهادات أخرى قاربت نفس الموضوع، وإنما اتخذ تلك الأحداث مطية، ليجرنا معه مقيدين بسلاسل حبكة متينة ولغة شاعرية منتقاة بعناية، إلى أحداث وحكايات هامشية، وظفها لتنامي الحكي وتصاعده. وكذا لإضاءة الحالة النفسية والجوانية لشخوصه. ليسلط أضواءه الكاشفة عن أشياء كثيرة، تبد وفي كثير من الأحيان تافهة، معتمة وغير منطقية وبعيدة كل البعد عن الذي حصل في تلك الأحداث وفي تلك المنطقة. لكنها مؤسسة لخطاب خطير في الرواية، ينتصر فيه الكاتب لثورة الفكر والثقافة والوعي.

3 _ اللغة

الكاتب على هذا المستوى، متمكن جدا. لغته جميلة ودقيقة ومنتقاة مفرداتها بعناية، بل تكون شاعرية أحيانا، لتعبر بسلاسة عما يريد قوله. لغة، لا يخطئ المبنى فيها معناه. يستمتع القارئ معها ويستفيد، كما ل وأنه يقود سيارة فارهة في طريق سيار، متحكما في مقودها وفي الراكبين معك داخلها. له الحق في التساؤل والتأمل والمناقشة والاستماع إلى الموسيقى والاستمتاع بالمناظر من حوله، لكن علامات ممنوع الوقوف والتوقف منصوبة على طول الطريق في وجهه. وهذه اللغة، هي التي جعلت خطاب الرواية خطيرا. بل موجها للقارئ ومتحكما فيه، منذ أول جملة في الرواية إلى آخر كلمة فيها. حتى إنك تخال الكاتب من شدة تدفقه وغزارة حكاياته والألغام التي يدسها لك بين صفحات روايته،كما تدس الأم لرضيعها دواء مرا في ملعقة عسل، أنه لا يكتب ليمتعك ويتبادل معك وجهات نظر في الموضوع، وإنما يفيض عليك كسيل من عل، ليجرفك معه وأنت منوما وعاجزا عن أي مقاومة، تماما كما تجرف سيول عاصفة رعدية، على حين غرة، كل ما تصادفه في طريقها.

لهذا كان لابد لي، قبل الكتابة عن الرواية، من إعادة قراءتها لأكثر من مرة، والعودة من جديد لقراءة (بالتوازي معها) بعض الكتب والمقالات التي كتبت حول الموضوع، وعلى رأسها كتاب المهدي بنونة" أبطال بلا مجد"، حتى يتأتى لي الصمود في وجه هذا الخطاب الجارف، وفك ما بدا لي متناقضا أوملتبسا فيه. وذلك من خلال استحضار وجهة نظر ورؤية أخرى مختلفة، تم تغييبها بالمرة في هذا اليوم الأول من " ثورة الأيام الأربعة". وهي وجهة نظر ورؤية الثوار أنفسهم أ وعائلاتهم، المفروض أنها جزء من الحقيقة، إن لم تكن الجزء الأكبر منها. ليس الذي عاش الحدث واكتوى بنيرانه، كمن سمع أ وقرأ عنه. قد يأتي الكاتب على ذكر ذلك في الأجزاء المتبقية من هذه الرباعية الجبارة. لكن هذه قراءة في " ثورة الأيام الأربعة". كنص مستقل بذاته.

الخلاصة

رواية" ثورة الأيام الأربعة" رواية كبيرة، فيها مجهود جبار وبحث عميق. وتقدم معارف شتى حول تيمات مختلفة، الثورة، الجبل، الهجرة، الأنا والأخر، النفس البشرية، الألم والعجز، الخيبات، الخيانة، السلطة، الذاكرة، التاريخ، الجهل، الموسيقى، الوراثة إلخ وتحتاج أكثر من قراءة. وهي إذ تقصف بقوة أحداث مولاي بوعزة وما جرى فيها، لا أعتقد أنها تروم الإساءة لأحد، بقدر ما تنتصر لفكرة تنشد التغيير المبني على التوعية والتأطير وبناء الإنسان، ضد أي فكر ثوري متطرف، ينشد إحداث تغيير جدري، عن طريق حمل السلاح والصعود إلى الجبل، ليزج بالبلاد والعباد في دوامة العنف والقتل والفوضى. وهذا واضح في مقولات كثيرة مباشرة، جاءت مهيمنة داخل النص على لسان شخوص متعددين،

أذكر منها ما يلي:

" أتعرف ماهي الثورة يا أستاذ؟ شيء يريد أن يولد وشيء لا يريد أن يموت، وبين هذا وذاك عنف ودماء وغرائز بدائية وسيبة وضربات غادرة وتصفيات حسابات " ص102.

" أنا لم أعد أثق في الثورات، عد إلى التاريخ ستجد أغلبها صنع من طرف البوليس السياسي... الثورة يقودها الحثالة الذين يكونون في أماكن آمنة ويقتل فيها الشجعان."ص 238.

"مالي والتاريخ. اللعنة على هذا التاريخ الذي لن يتقدم الا اذا كنت وقودا له..." ص "381.

sdgsfg10311.jpg

( الدكتور جميل الدويهي )

 

sdgsfg10312.jpg

( حاتم جوعيه )              

لا شكّ في أنَّ الأنا قيدمة قدم الإنسان ، وقد جعلها الرومنطيقيون الحالمون أحدَ الأعمدة التي قامَ عليها أدبهم الحزين في الغالب . ( والأنا عند الرومنطيقي هي محاولة لفتح الكون كما يصفها إرنست فيشر ( ضرورة الفن ) . ثم جاء الرمزيون فلم يرفضوها مطلقا ، وخصوصا عند بودلير، والذي رأى في العالم صورة لنفسهِ : " أنا الجرح والسكين / أنا الصفحة والخد / أنا أعضاء الجسد والمبضع / الضحية والجلاد ".. ( قصيدة المدمّر نفسه ) .                                                                               والأنا ليست دائما مُعَبِّرة عن ego الآخر كما يرى البعض، إذ يعتبرونها صورة عن الغرور أو التكبُّر ، فإذا أحصينا ألفاضَ الأنا عند   شعراء لوجدناها كثيرة جدا، ولعلّ أصحابها من أبعد الناس عن الكبرياء الفارغ ، ويخطىء من يعتقدون أنّ الأنا محصورة بالرومنطيقيِّين ، فهي ليست بضاعة خاصّة ولا حقا يختصُّ بكاتب أو شاعر دون آخر . وفي الإنجيل المقدس مثلا نعثرُ على الأنا بأعداد هائلة ، وكذلك في كلام الأنبياء ، قبل ولادة الرومنطيقيَّة .

وفي قصائدِهِ يعتمدُ الدكتور الشاعرُ حاتم جوعيه على مقدار غنيٍّ من الأنا ، فقد وقعتُ في العديد من أشعارهِ عليها ، إذ يكونُ المُحِبَّ والثائرَ، والمتمرّد ، والمنتقدَ، والمتفاخر بشعرهِ ، وهذه الظاهرة شائعة لديهِ، ولستُ أقدّر أنَّ هذا التفاخر يبرز في حياتهِ الخاصَّة ، فأنا لستُ أعرفهُ شخصيًّا ، وفي الوقت نفسه أرفضُ ما يميلُ إليه بعضُ النقاد من إعتبار أنَّ الشعرَ صورة مطابقة للشاعر ، فجزء من الشاعر يظهرُ من مرآة القصيدة وجزء آخر لا يظهر، وليسَ كل كا يقولهُ الشاعرُ ينطبق على نفسِهِ . وقد رأيتُ شعراء يشيدون بالخمرةِ ولا يشربونها ، ويطفئون سجائرَهم غضبا في بيت شعري وهم لا يدخنون ، حتى انَّ بعضهم يروي مغامراته مع النساء ، ولعلَّهُ لم يعثر على امرأةٍ واحدة تعشقهُ .

وما يلفتُ انتباهي غالبا في شعر الدكتور حاتم جوعية أنه كثيرا ما يتحدَّثُ عن أناه ، وفي المقابل يصوِّرُ أنا غيره في تعارض تام ، ليبرزَ التناقض العميق بين فئتين من الناس . وفي قصيدتهِ " كفاح ثائر" تتجلّى الأنا وتتصاعدُ من لغةٍ رقيقةٍ موحية إلى لغةٍ هادرةٍ مزلزلة ، فالقصيدةُ تبدأ بتصوير الشاعر لنفسهِ على أنَّ النساء مفتوناتٍ بهِ :  

ما زلتُ حلمَ الغيدِ ، كلّ جميلةٍ         تبقى الصبايا الغيدِ طوعَ   بناني

كم من فتاةٍ   في غرامي تُيِّمَتْ           دومًا    تراني   فارسَ   الفرسانِ

الأنا هنا نرجسيَّة ، إذ يتباهى الشاعرُ بما لديهِ من جميل القيم التي تجعلُ الفتيات ينجذبنَ إليهِ ويتهافتن على حبِّهِ . النرجسيَّة هذه قديمة قدم العهود في الشعر ، وقد عرفناها في الشعر العربي عند امرىء القيس ، وعمر بن أبي ربيعة ونزار قباني..بل إنَّ قول جوعية :"ما زلتُ حلمَ الغيدِ كل جميلة " يتوازى عفو الخاطر مع قول امرىء القيس : "

" لقد كنتُ أسبي الغيدَ أمرد ناشئا " ( قصيدة تعلق قلبي طفلة عريَّة ) . وهذا التوازي ليس مقصودًا، بل يأتي تواردًا بين الشعراء الذين لديهم الشعور ذاته بما يصفهُ علماء النفس ، منذ فرويد : بالأنا العليا . غير أنَّ ما يلفتُ أنَّ حاتم جوعيه يسمو بالشعر من فضاء الماديّة إلى فضاءِ الروحيَّة والقيم الإنسانيَّة ، فمحور الفخر ليس المظهر الجسدي والوسامة ، بل كون الشاعر " فارس الفرسان "، وهذا الوصف هو المحط والمحور في البيتين السابقين ، مع ما ينطوي عليه من سمات أخلاقيّة ومعنويَّة وفضائل .

إنَّهُ نوعٌ من الفخر الذي يتسمُ بالطرافةِ وتخففُ من غلوائهِ طلاوةُ الشعر ورونقُ الصياغةِ ، ويسترعي في المكان نفسه من القصيدة وجود معجم لألفاظ رقيقة غير صاخبة : قلبي، مترع ، الآمال ، الإيمان ، ورود فوَّاحة ، أريج النسمات...الخ . وهذا المعجم بالذات يؤكد على أنَّ الشاعر لم يأخذ   نفسا عميقا بعد ولم يتطرق إلى مواضيع تقلقهُ ، فالقصيدة لحن يتصاعدُ بهدوءٍ من الرقة إلى قمَّةِ الغضب والتحدِّي .القصيدةُ شجرةٌ تترفع في همس مع الرياح ثمَّ في صراع مع الرعود .

والتحدِّي ليسَ منفصلا عن نقد المجتمع وأناس يتعارضون مع الشاعر قلبا وقالبا ، فهو في مقلب وهم في مقلب آخر . أناس لا ينحصرون في زمن أو عصر ، بل هم يتكررون خارج محدوديَّة   الوقت الجغرافيا . أناس ينظر إليهم الشاعر نظرة الضيق والنفور ويكيل لهم الهجاء، لكنه ليس هجاء مبتذلا ولا مثالب تطلق عشوائيا، بل هو مرحلة   متقدمة من نقد جارح يُصوَّب إلى الضمير ويشير إلى الفساد المتفشي في المجتمع :

لم   أكترث لكلام   معتوهٍ   وَوَغ       دٍ   حاسدٍ .. ما   جاءَ   من   هذيانِ

لم أكترث   لسموم   نقد   أرعن       ما   ينفثُ   الأوباشُ   من   غثيانِ  

كلٌّ   مريض   بالدَّناءَةِ   والأذى       باعوا الضميرَ   بأبخسِ   الأثمانِ

خسئتْ   تجارتُهُمْ   وخابَ مآلُهُمْ       كانت   مكاسبُهُم   بسوقِ   هوانِ

لقد جسَّدَ الشاعرُ اختلافه عن فئةٍ من الناس تعتمدُ الحسد والنميمة سبيلا للصعودِ، لكنهُ لم يكترث لهم ، فتجارتهم خاسرة وتجارتهُ رابحة، ومكاسبهم تباع في سوق الهوان ، أمَّا أعمالهُ   فمُتوَّجة بالشرفِ . وهنا تنفصلُ الأنا عن الآخر في ردَّةِ فعل قويَّة، كما تنفصلُ الخمرةُ عن الماء حتى ما يلائمها لطافة ،   وكما يفصلُ إبنُ الرومي نفسهُ عن قوم طاروا و" لحقوا خفة بقاب العقاب، ورسا الراجحون من جلة الناس رسوّ الجبال ذات الهضاب" .   ولكن جوعيه يختلفُ عن ابن الرومي إختلافا عميقا ، فقد كانَ ابن الرومي كما يقول طه حسين ( محاضرة 18 آذار 1933 ) يضمر انتقاما اجتماعيًّا ، بمعنى أنه كان يعيب على الناس غناهم ويحسدُ أصحاب النعمة الذين يتمتعون بالحياة بينما هو محروم من هذه المتعة ، أما جوعية فلا يشعرُ بالدونيَّةِ ، بل يتمرَّدُ بروح عالية على أناس لا يستحقون المراكز، بل يأخذونها بالزحف والتملق ، بينما هو محروم منها لأن نفسه كبيرة ولا يفعل مثلهم .

أما وجهُ الشبه بين ابن الرومي وحاتم جوعيه ، فهو أنهما لا يصمتان عن العيوب ، ويتصدَّيان للشذوذ الإجتماعي والأخلاقي الضارب بين الناس . وخير تعبيرعن هذا الموقف ما قاله ابن الرومي نفسه :

ولستُ   بهجَّاءٍ   ولكن   شهادة         لدَيّ     أؤَدّيها ،   ولستُ   بآفكِ

إنها شهادة الحقيقة التي يرفضُ الشاعرُ أن يغضّ الطرف عنها، وهو رسول القيم والمبادىء الجليلة . ومن هذا المنطلق الإيماني بوظيفة الشعر كراصد للحياة ، يقوم حاتم جوعيه بعمليَّة فرز عمودي بين فئتين من الناس ، واحدة تمثل المرائين والأنذال وواحدة تمثل طينته الشعريَّة الصافية التي ترقى عن المادة والتذلل ، فاسمعهُ يقول :

هذا   زمانٌ     للنذالة     والخنا       والحُرُّ     فيهِ   يكتوي   ويُعاني

أمَّا الخسيسُ مُبَجَّلٌ   ولهُ الوظا       ئفُ ، ويحهُ في مجمع   الخصيانِ

نالَ الوظائفَ   كلُّ أكوع   آبق         بوشايةٍ       ولخدمةِ     الشيطانِ

هذا زمانُ الفاسقين ومن مشى         في   الخزي   والآثامِ   والبُهتانِ

نامت نواطيرُ الكرومِ وأصبَحَتْ       كلُّ     الثعالبِ   ربَّة     التيجانِ

لكعُ بن لكع   صارَ فينا   سيِّدًا         والآمرَ   الناهي     بكلِّ     مكانِ

في هذه الأبيات القليلة تعبيرعن عالم نعيشُ فيهِ، فكم من الناس يعانون بأفكارهم النيِّرة وغيرهم يغتبطون بجهلهم وينالون المغانم . والشعر هنا ليس لوحة فنية تخلو من العاطفة ومن التفاعل مع الغير. الشعرُ هو المرآة، هو الصوت والصدى . هو الصورة التي تبدعها ريشةُ فنان لترسمَ واقعا مخيفا على طريقة " غُويا "، بل وجودا سيطرت فيه حفنة من الناس على دفةِ المجتمع ، وتصدَّرت وبغت وتجبَّرت ، فالخسيسُ له الوظائف والكبير يطردُ عن أبواب المجامع ، وهذا ليس بعجيب في عصر المادَّةِ والتهافت على المال ، وقد نامت   نواطير الكروم   كما   نامت نواطير مصر عن   ثعالبها في عصر المتنبِّي، وأصبحَ لكع بن لكع الآمر الناهي، وكم من لكع أصبحَ سيِّدًا في قومِهِ ، إذ إنَّ المقادير تصيّرُ العييّ خطيبا ، حتى وصلَ الأمر بالبعض إلى التباهي بتيجان ومناصب ما هم بأهل لها ، وتسيَّدوا وما هم بأكثر من عبيد لرغباتهم وجبّهم لأنفسِهم .

وفي مقابل الهجوم اللاذع الذي يشنهُ جوعيه على الساقطين المتعالين ، حيث يزخر معجمهُ بألفاظ الهجاء القاسية ، والأوصاف النافرة ، نراهُ   ينتقلُ بلغةٍ رقيقة طيبة للحديث عن   أناه : " أنا منشدُ الأحرار ، ضمير كلّ ملوَّع ومتيّم، سدُّوا أمامي كلَّ دربٍ للعلا ، لكنني العنقاء من بين الرمادِ أعود،هيهات أأكل خز سلطان طغى،هيهات أصمت صمت أهل الكهف.." .

إنَّ هذه المواقف هي تفصيل لحالة الشاعر الحرّ الشريف الذي يرى نفسَهُ غريبا كصالح في ثمود، لكنهُ ينتفضُ على الشعور بالأسى والإضطهاد ليطير كالعنقاءِ باتجاه الشمس ، فالفكرُ لا تتسعُ لهُ الهياكل ، والنورُ لا تطفئهُ عتمةُ القلوب، والقويّ يتمرَّدُ على الزمان والأقدار :

هذا   زمانٌ   فيهِ   حقي   ضائعٌ       لكن     رفضتُ     أوامرَ   السَّجَّانِ

لا فضّ فوكَ يا حاتم جوعيه وأنتَ تعبّرُ عن كلّ شاعر ضاعت حقوقهُ وَطُمِسَت   أنوارُ كوكبِهِ ، وأرادَ الآخرون تهشيمَهُ وتهميشهُ ، كلي   يبقوا متحجّرين في مواقعهم كالقبور المكلّسة، لكنهُ أبدا يتمرَّدُ ويصرخُ من وراءِ السجون ، وينيرُ من خلفِ الحجب ، في ثورةٍ هي ثورةِ الذات بل ثورة   الأوطان ، وهكذا تخرجُ الأنا من من كينونتها المحدودة لتصير أنا العالم ، ويصير نداءُ الشاعر نداءً لكلِّ حُرٍّ على سطح الأرض ليقوم من كبوتِهِ ، فيحمل سلاحَهُ ويحقق ربيعا طالما سعت البشريَّةُ إليهِ وهي تتلوَّى تحت سياط الألم والرعد ..ولعلَّ الربيعَ العربي الذي يشيرُ إليهِ الشاعر في نهايةِ القصيدة هو الأمل المنشود ، على الرغم من نجاح الأنظمة العربيَّة في تصويرهِ على أنه جحيم ، لكي تخيِّرَ الناسَ بين الإرهاب والنظام : حيلة ما بعدها حيلة نجحت الأنظمة للاسف في تسويقها ، حتى أنَّ بعضها جاء بالمُتطرِّفين لكي يقول للناس : " إمَّا بقائي في السلطة وإمَّا خطرهم " ،   وهكذا ينتصرُ في حرب لم يكن مقدَّرا لهُ الإنتصار فيها إلا بهذا المكر والخداع .

إنَّ الربيعَ العربي تعرَّضَ لخضَّاتٍ مزلزلة، لكنهُ انتصرَ في تونس ومصر ، فلماذا يحيّدُ أنصارُ السلطة الأنظار عن الواقع لكي يبقى الناس في وهم وخيال ؟ وهل غيرُ الشاعر مَن يضيىءُ على حقيقة حاولَ أعداءُ الحريَّاتِ وحقوق الإنسان التعتيم عليها ؟ وهل غيرُ حاتم جوعيه من رفعَ صوتهُ عاليا   غير عابىءٍ بانتقاداتِ المنتقدين والمُخوّنين في لغتهم الخشبيَّة التي اهترأت لكثرةِ الإستعمال ؟ بل هل غير حاتم جوعيه ، الشاعر الشاب الثائر، الأنيق ، الصادق، الفنان الرقيق، المشاغب ، الرومانطيقي الحالم ، الواقعي الرامز ، من ينتقل من موضوع ذاتيّ خاصّ إلى الموضوع العام الذي يتصلُ بالمجتمع والحريَّة والعدالة ، من غير أن يشعر المُتلقي بهذا الإنتقال .

وهكذا ترتقي سيماء الأنا في قصيدة حاتم جوعيه باستمرار من صورة الشاعر المحبوب لدى النساء ، إلى إبراز التناقض في المجتمع بين إنسانين ، واحد يشبهه والآخر يشبهُ نفسه فقط ، فتتباعدُ أناهُ عن أنا الآخر كما يتباعدُ المُوجبُ والسالبُ في حركة الكون ، وصولا إلى ربيع العرب والأوطان الذي يفرزُالليلَ عن النهار، ويضعُ حدًّا قاطعا بين الأمس والغد . وفي الإنتقال من موضوع إلى موضوع تحت صرخةِ الأنا، لا يشعرُ المتلقي بأنَّ الشاعرَ حمَلهُ من جوٍّ إلى آخر، فلا نفور، ولا تنافر، ولا شرخ في المعنى والتعبير، بل دفق وانسياب كانسياب الفراشة في حقول الربيع . وبين هذا وذاك تتأرجحُ لغةُ الشاعر تارة مع العطر والنور ورقةِ النسيم وطورا مع العاصفة التي لا تبقي ولا تذر .

كتاب: الشيخان"، طه حسين، دار المعارف المصرية، الطبعة الرّابعة، 1969، من 274 صفحة.

sfsgffg10313.jpg

مقدمة القارىء المتتبّع:

أقف مع صديقنا محمد عبد العزيز حين قال: أحسن طه حسين حين جعل الشيخان في كتاب واحد.

قال: كان سيّدنا عمر بن الخطاب لايولي كبار الصحابة المسؤولية احتراما، وتوقيرا لهم حتّى لايقعوا في الأخطاء كما حدث مع سيّدنا عمار بن ياسر الذي عزله لضعف في التسيير.

أقول: أقف بقوّة مع طه حسين في كون سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يوص لأحد بالخلافة من بعده، سواء لسيّدنا الصّدّيق أو غيره. 25

اجتمع أسيادنا الصّدّيق، وعمر بن الخطاب في حبّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وحبّ سيّدنا علي بن أبي طالب، وحبّ أسيادنا آل البيت.

ظلّ سيّدنا علي بن أبي طالب المستشار الوفي، والصّادق، والأمين لأسيادنا الصّدّيق، وعمر بن الخطاب.

بايع سيّدنا علي بن أبي طلال كلا من سيّدنا الصّدّيق، وعمر بن الخطاب عن طواعية، ومحبة، ورضا، وإقدام، ودون تأخير، ودون منازعة، ولا طمع.

أقول: يمكن القول أنّ سيّدنا الصّدّيق أقام الدولة من حيث تثبيت أركانها، وتأمين حدودها وجاء من بعده سيّدنا عمر بن الخطاب فأقام الدولة من الناحية الإدارية. 98

أقول: من عيوب طه حسين أنّه ألغى عدّة روايات تبدو له غير متجانسة، ولا منطقية. لكن دون حجّة، ولا سند.

العناوين الفرعية من وضع القارىء المتتبّع.

أوّلا: سيّدنا الصّدّيق

لاوصية لأحد:

أقول: كان طه حسين عظيما حين قال: "قبض النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يوص لأحد، لا لأبي بكر ولا لغيره. ولو قد أوصى لأحد ماكانت سقيفة بني ساعدة. ولما خالفه الأنصار عن وصية رسول الله. ولو قد أوصى لعلي لكان أبو بكر أسرع النّاس لبيعته. فكيف وقد اجتمع المسلمون من المهاجرين والأنصار على بيعة أبي بكر. وقد بايع علي -رحمه الله- أبا بكر وعمر من بعده وعثمان من بعدهما، ولو قد علم أن النبي قد أوصى له لجاهد في إنفاذ أمر النبي ولآثر الموت على خلاف هذا الأمر". 25
قال: "والذي لاأشك فيه ... أنّ النبي لم يترك وصية أجمع فيها المسلمون. ولو قد فعلها لما خالف عن وصيته أحد من أصحابه، لامن المهاجرين ولا من الأنصار". 29
أقول: ممّا فهمته من الكتاب أنّ أسيادنا الأنصار أجلّ، وأعظم من أن يرفضوا بيعة سيّدنا الصّدّيق، وسؤالهم "منّا أمير ومنكم أمير" عادي جدّا في تلك الظروف، وتساءلوا ليطمئنوا على وضعهم، وهذا أمر طبيعي، ثمّ بايعوا سيّدنا الصّدّيق بعدما اطمئنوا لوضعهم.

أقول: لايوجد أحد من المهاجرين، ولا الأنصار، ولا أمّهات المؤمنين، ولا آل البيت، ولا الخلفاء الرّاشدين الأربعة، ولا العشر المبشرين بالجنة، ولا الأحياء ولا الأموات من أسيادنا الصحابة، ولا من كتبة الوحي، ولا من كاتم أسرار سيّدنا رسول الله صلى الله عليهم من يملك وصية من سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّه بأنّه خليفة، أو بأنّ فلانا هو الخليفة.

سبق لي وعبر مقالات، ومناشير أن رفضت -وما زلت- رفضا قاطعا مسألة الوصية لأيّ كان ومهما كان، وبيّنت ذلك وما زلت. وكلّ من ادّعى الوصية فهو كذّاب أشر، ويريد أغراضا سياسية. وفي هذه النقطة وجدت تطابقا وتشابها بين ماذهبت إليه في رفض الوصية، وما ذهب إليه طه حسين في رفض الوصية حتّى أنّ الحجج التي ذكرها هي نفسها التي ذكرتها، وأنا الذي لم أقرأ من قبل هذا الموضوع لطه حسين، والحمد لله ربّ العالمين.

سيّدنا علي بن أبي  بايع طواعية، وعن حبّ سيّدنا الصّدّيق:

قال طه حسين: بايع سيّدنا علي بن أبي طالب سيّدنا الصّدّيق "حين بايع النّاس في غير سرع ولا إكراه. رأى أنّ كلمة المسلمين أجمعت على أبي بكر فلم يخالف عما أجمع عليه المسلمون... والمهم أن أحدا لم يخالف على أبي بكر، لا من بني هاشم ولا من غيرهم". 40

أقول: يريد طه حسين أن يقول: سيّدنا علي بن أبي طالب أعظم، وأجلّ من أن يرفض بيعة سيّدنا الصّدّيق. وسيّدنا الصّدّيق أعرف النّاس بسيّدنا علي بن أبي طالب لأنّه أعرف النّاس بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

قال بالحرف: "وعلي أفضل في نفسه وأكرم عند الله من أن يبايع بلسانه ويضمر في قلبه غير ماكان يضمر. ونحن نعلم أنّه نصح للشيخين في خلافتهما... ونصحه لعثمان حين استقام له النّاس وحين اختلفوا عليه". 41

أقول: أبدع طه حسين حين قال : أجمع أسيادنا الصحابة من المهاجرين والأنصار ودون استثناء على مبايعة سيّدنا الصّدّيق. وهذا الإجماع المطلق هو الذي مكّن الصّدّيق من مواجهة المرتدين، وأن يؤدّوا الحقوق التي كانوا يقدّمونها لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والفتوحات، ومحاربة أعظم قوتين وهما الروم والفرس، ونفس الإجماع والاستقرار يقال لسيّدنا عمر بن الخطاب. 42

أقول: كان طه حسين عظيما حين أشار إلى ثقل البيعة، ورفض كلّ أشكال التّوريث، وقال: البيعة عهد، ووفاء بين الراعي والرعية ومن أخلفها بغير حقّ فقد خان العهد. وكلاهما مطالب أن يؤدّي حقّها، ولا يحقّ للخليفة بأيّ حال من الأحوال أن ينقل الخلافة لأبنائه، أو غيرهم لأنّ البيعة تمّت بينه وبين الرعية ولم تتم مع أبنائه، ولا غيرهم ممن ارتضاهم الحاكم.

شرح طه حسين موقفه العظيم بأمثلة، فقال: استشار سيّدنا الصّدّيق نفرا من الصحابة في شأن أن يستخلفه سيّدنا عمر بن الخطاب، وسيّدنا عمر بن الخطاب استشار أسيادنا السّتة في من يكون خليفته. ورغم ذلك لم تتم لهما البيعة إلاّ بعد أن أعلنا أمام الملأ أنّهما سيعملان بكتاب الله وسنّة رسوله وينصحان للمسلمين. ولم يكن ترشيح سيّدنا الصّدّيق لسيّدنا عمر، ولا ترشيح سيّدنا عمر بن الخطاب للسّتّة بيعة تجب على المسلمين إلاّ بعد أن تمّ تجديد البيعة بشكل فردي لكلا منهما، وليسا لأنّهما تمّ ترشيحهما.  48.47

قال: اهتزّ أسيادنا الصحابة من المهاجرين والأنصار حين التحق سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالرّفيق الأعلى لكنّهم سرعان ماعادوا لرشدهم حين قرأ عليهم سيّدنا الصّدّيق الآية المناسبة. وفي الوقت نفسه اهتزّ الأعراب لكنّهم لم يعودوا لرشدهم، وادّعوا النبوة.

أقول: عادي جدّا أن يهتزّ أسيادنا الصّحابة لالتحاق سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالرّفيق الأعلى، ولا يطعن هذا أبدا في دينهم، وحبّهم، وتشبّثهم، وامتثالهم بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم. 51

حبّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسيّدنا الصّدّيق:

أقول: أشار طه حسين إلى نقطة أعترف أنّي أقرأها لأوّل مرّة، وأعرضها بأسلوبي وهي: حين رأى "المسلمون غير المؤمنين من العرب"، أنّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم التحق بالرّفيق الأعلى، تعاملوا مع سيّدنا الصّدّيق على أنّه ميت كغيره من الأموات، وليس أفضل من سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي التحق بالرّفيق الأعلى فأعلنوا على إثرها الرّدة، ومنع الزكاة.

هذه النظرة العظيمة تحسب لطه حسين، وتضاف لأسباب الرّدّة التي لم يذكرها أحد فيما قرأت، وأزعم، ولغاية هذه الأسطر.

أقول: أقف مع طه حسين في قوله: أنّ منزلة الصّدّيق لدى سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يصلها أحد من أسيادنا الصحابة. 19 وقال بالحرف: "ولم يعرف قط أنّ أبا بكر  قال أو صنع شيئا يؤذي النبي منذ أن أسلم إلى أن مات". 21
أقول: أشار طه حسين وعبر أمثلة إلى أنّ هناك تطابقا كاملا، وتشابها تاما بين أقوال ، وأفعال سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وسيّدنا الصّدّيق لصدقه. وقال بالحرف: "وكان أبو بكر أفهم النّاس عن النبي، لأنّه كان أعرفهم به وأقربهم إلى قلبه". 24

حبّ سيّدنا الصّدّيق لأسيادنا آل البيت:

أقول: ممّا فهمته من الكتاب أنّ حبّ سيّدنا الصّدّيق لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولآل بيته، وسيّدتنا فاطمة الزهراء هو الذي دفعه لعدم تلبية طلب سيّدتنا فاطمة الزهراء بما زعمت أنّ لها حقّ في فدك. وقد تألم سيّدنا الصّدّيق من عدم تلبية طلبها، وتألّم من رفض سيّدتنا فاطمة الزهراء التّحدّث معه، وتألّم كثيرا حين دفنت باللّيل عمدا، ودون علمه، وحرم من حضور جنازتها وما كان يتمنى ذلك، ولا يسعى إليه. 65.66

قلتها وأعيدها: تصرّف سيّدنا الصّدّيق تصرّف الحاكم المطالب بحماية أملاك المسلمين، وتصرّفت سيّدتنا فاطمة الزهراء تصرّف البنت التي ترى أنّ من حقّها الدفاع عن ماتراه حقّها. وحدث الاختلاف بسبب اختلاف وجهات النظر، وهذا أمر عادي ومقبول، وظاهرة صحية.

عظمة سيّدنا الصّدّيق من خلال حروب الرّدّة، وتنفيذ جيش سيّدنا أسامة:

أقول: أبدع طه حسين أيّما إبداع حين تحدّث عن عظمة سيّدنا الصّدّيق وهو يواجه حروب الرّدة، وحزنه الشّديد على ماآلت إليه جزيرة العرب قائلا وبالحرف: "فإذا فكرت في أنّ أبا بكر كان أحبّ النّاس إلى رسول الله، وكان رسول الله أحبّ النّاس إليه، عرفت وقع هذه المحنة في نفس أبي بكر". وأعترف أنّي لم أقرأ أفضل من هذا السّطر في ذكر عظمة سيّدنا الصّدّيق وقد أجاد طه حسين، وتفوّق، وتميّز.

أقول: كان طه حسين عظيما حين أشار إلى مقارنة أقف عندها لأوّل مرّة، وهي: ظهرت الرّدّة في أواخر حياة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وحارب صلى الله عليه وسلّم المرتدين بالكتب، والرسل ولو أطال الله في عمره صلى الله عليه وسلّم لحاربهم بالسيف. وسيّدنا الصّدّيق حاربهم بالسيف. فلا يلام على ذلك، ولا يقال من بعده إنّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يحاربهم بالسيف، فكيف لسيّدنا الصّدّيق أن يحاربهم بالسيف؟!.

أضيف: أهل الرّدّة في عهد سيّدنا الصّدّيق كانوا أقوى ممّا كانوا عليه من قبل، وأكثر عددا، وأضافوا لها الامتناع عن دفع الزكاة، ولم يكن هذا من قبل. 51

أشار طه حسين إلى بعض مظاهر حبّ، وتعلّق سيّدنا الصّدّيق بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو: أوّل عمل قام به الصّدّيق إثر توليته الخلافة هو إنفاذ جيش أسامة بن زيد فورا، وحالا، ودون تردّد رغم خطر المرتدين على المدينة، ومطالبة أسيادنا الصحابة بتأجيل تنفيذ الجيش للظروف الصّعبة التي تعيشها المدينة، وبتغيير سيّدنا أسامة بن زيد بقائد أسنّ. من جهة أخرى استأذن سيّدنا الصّدّيق وهو الخليفة، والقائد الأعلى للقوات المسلّحة من سيّدنا أسامة بن زيد وهو الشاب في السّابعة عشرة من عمره أن يبقي معه سيّدنا عمر بن الخطاب في المدينة ليستعين به، وبمشورته. فأذن لها. مايعني أنّ الفتى يأذن للشيخ، والخليفة، والقائد 53

قال: بعد إنفاذ جيش سيّدنا أسامة بن زيد، وضع على منافذ المدينة إلى البادية أسيادنا الصحابة، ومنهم سيّدنا علي بن أبي طالب. مايدل على أنّ سيّدنا علي بايع سيّدنا الصّدّيق في حينه، ولم يتخلّف عن البيعة، ولا مفارقا لجماعة المسلمين. 54

أقول: ذكر طه حسين أنّ سيّدنا الصّدّيق أرسل جيوشا من أحد عشر قائدا. مايدلّ أن جزيرة العرب ارتدّت كلّها وأنّ الصّدّيق صدق، وأحسن حين حارب المرتدين ولو لم يحاربهم -في حينهم- سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وطلب من بعض القادة أن يعينوا بعض القادة بمجرّد مايقضوا على المرتدين المكلّفين بمحاربتهم. مايدلّ على قوّة المرتدين، وخطرهم على أمن الدولة الفتية. 57

قال: قضى الصّدّيق وفي عام واحد على حروب الردة، وعاد العرب على إثرها للإسلام، ولأداء الزكاة. وهذا من عظمة سيّدنا الصّدّيق.

قال: كانت خلافة سيّدنا الصّدّيق كلّها خلافة حرب.

قال: منع سيّدنا الصّدّيق المرتدين الذين عادوا للإسلام من المشاركة في الفتوحات التي انتصر فيها كلّها دون مشاركتهم. 100

أقول: يرفض طه حسين الرواية التي ترى أن أسيادنا الصحابة، وسيّدنا عمر بن الخطاب طلبوا من سيّدنا الصّدّيق أن لايحارب المرتدين لمنعهم الزكاة وهم يشهدون أن لاإله إلاّ الله وأن سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ويرى أن ذلك لايليق بأسيادنا الصحابة الذين يعرفون أنّ الزكاة ركن من أركان الإسلام. ويميل إلى أنّ أسيادنا الصحابة طلبوا منه عدم إنفاذ جيش سيّدنا أسامة بن زيد للأوضاع الأمنية الصعبة التي تحيط بالمدينة جرّاء تربص المرتدين بها وهم -حينها- أولى بالدفع،  والرّدّ، والجهاد من عرب الشام الذين يبعدون عن المدينة بكثير. 63

أسباب قتل الخلفاء:

أقول: يرى طه حسين رحمة الله عليه، أنّ من أسباب قتل أسيادنا عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والفتنة التي وقعت يومها أنّ الأمّة لم تكن في مستوى عظمة أسيادنا الصّدّيق، وعمر بن الخطاب ولم تستطع أن تبلغ مقامهما فحدث الذي حدث.

أقول: يرى أنّ الأعراب المذكورون في القرآن الكريم ظلوا يتربّصون بالأمّة، ويكيدون لها لما رأوا من تمكّن المسلمين، وزحفهم. فعزموا على أن يكونوا سدّا أمامهم، وإفساد كلّ مايقدمون عليه، "وظلّ الأعراب مسلمين لم يدخل الإيمان في قلوبهم"، ولذلك ارتدوا.11

أقول: ممّا فهمته من الكتاب أنّ الإفراط في الأمان، والتساهل مع الحاقدين من المجوس الفرس، واليهود، وكعب الأحبار اليهودي، والمجرم المجوسي أبي لؤلؤة من الأخطاء التي ارتكبها المسلمون، وكانت من أسباب قتل سيّدنا عمر بن الخطاب.

لاعلاقة للإيمان بالمدّة الزمنية:

أقول: أختلف مع طه حسين حين قال وبأسلوبي: لو امتدت الحياة بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأمنت الأعراب. وأضيف: إيمان النّاس بالأنبياء والرسل وعلى رأسهم سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لاعلاقة له إطلاقا وأبدا بالمدّة الزمنية التي أرسل فيها الأنبياء والرّسل. ويكفي أنّ الله تعالى سيّدنا قال في حقّ سيّنا نوح عليه السّلام: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ"، سورة العنكبوت. ورغم كلّ هذه القرون كانت النّتيجة: "وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ"، سورة سيّدنا هود عليه السّلام.

تشاء حكمة ربّك أن يمكث سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مدّة ثلاثة وعشرون سنة -والتي يعتبرها طه حسين قليلة-، وتبقى رسالته إلى يوم الدين. إذن، إيمان أوعدم إيمان قريش، والعرب، والأعراب لاعلاقة له بالمدّة الزّمنية (23سنة) التي قضاها سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين ظهرانيهم، وإذا شئت ضف لها أربعون سنة قضاها معهم وهو الطفل، والشاب، والكهل وهم الذين يعرفونه أكثر ممّا يعرفون أبناءهم.

تعيين سيّدنا أسامة بن زيد على رأس الجيش لاعلاقة له بالثأر لأبيه:

أقول: لاأوافق طه حسين في كون سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم جعل سيّدنا أسامة بن زيد بن حارثة رحمة الله ورضوان الله عليهما على رأس جيش لقتال عرب النصارى قبل التحاقه بالرّفيق الأعلى، لأنّ "لأسامة ثأر عند هؤلاء العرب الذين قتلوا أباه يوم مؤتة".

أضيف: سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجل دولة، ويتعامل بما يضمن أمن وسلامة، واستقرار الدولة والمجتمع، واستشهد في مؤتة خلق كبير من أسيادنا الصحابة، فلا يعقل بحال أن يجهّز سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم جيشا يضمّ هيئة الأركان، وكبار القادة العسكريين لأجل ثأر يحمله فتى في السّابعة عشرة من عمره لأبيه سيّدنا زيد بن حارثة، رحمة الله ورضوان الله عليها. فلا داعي للتّفريق بين أسيادنا الصّحابة رحمة الله ورضوان الله عليهم جميعا.

أخطأ طه حسين حين نفي توسّل سيّدنا عمر بن الخطاب بسيّدنا العباس:

ينفي طه حسين رواية توسّل سيّدنا عمر بن الخطاب بسيّدنا العباس أثناء عام الرمادة، ويرى أنّ الرواية كتبت في عهد الدولة العباسية، ويعلّل ذلك بقوله إنّه تملّق لبني العباس.

أقول: الغاية من رواية توسّل سيّدنا العباس هو جواز التّوسل بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وسيّدنا العباس بضعة من سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وتوسّل به ولم يتوسّل بالأحياء من أسيادنا الصّحابة تقديرا، وحبّا، وتوقيرا لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

قال بالحرف: "ولكني أقطع بأن التوسل بالعباس بن عبد المطلب كذبة تقرب بها الرواة لبني العباس، وما كان عمر ليستشفع بأحد".

أقول: يقرّ طه حسين أنّ سيّدنا عمر بن الخطاب صلى صلاة الاستسقاء لكنّه ينفي نفعا قاطعا، وبقوّة، وشراسة أنّ سيّدنا عمر بن الخطاب استسقى بسيّدنا العباس بن عبد المطلب عمّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

أضيف: يبدو لي أنّ الخلط الذي وقع فيه طه حسين هو اعتقاده أنّ التوسّل بعمّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبالتّالي بالصالحين هو للضعفاء، والفقراء، والمساكين وليس للأشداء، والأقوياء، والعظماء من أمثال عمر بن الخطاب. وهذا -في تقديري- خطأ شنيع وقع فيه طه حسين.

حبّ سيّدنا عمر بن الخطاب لسيّدنا علي بن أبي طالب، وأسيادنا آل البيت:

أقول: ممّا فهمته أنّ سيّدنا عمر بن الخطاب كان يستشير كثيرا سيّدنا علي بن أبي طالب ويأخذ برأيه، لكن أحيانا لايأخذ برأيه حين يجد من هو أفضل منه كما في مشورة إنشاء الديوان التي لم تكن من رأي سيّدنا علي بن أبي طالب.

أضيف: ممّا وقفت عنده أنّ سيّدنا الصّدّيق كان يستشير كثيرا سيّدنا عمر بن الخطاب، وسيّدنا عمر بن الخطاب كان يستشير سيّدنا علي بن أبي طالب. ولا تظهر استشارة سيّدنا الصّدّيق لسيّدنا علي بن أبي طالب -على الأقل- بهذا الوضوح، والكم.

عظمة سيّدنا الصّدّيق من خلال تعامله مع التحاق سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالرّفيق الأعلى:

أقول: أشار طه حسين في آخر الفصل الثّالث وهو يتحدّث عن عظمة الصّدّيق، وبأسلوبي: حين التحق سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالرّفيق الأعلى جزع الكثير من أسيادنا الصحابة حتّى أنّ سيّدنا عمر بن الخطاب رحمة الله ورضوان الله عليه أنكر التحاق سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالرّفيق الأعلى.

أضيف: مايدلّ على أنّ حبّ سيّدنا الصّدّيق لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم رفيع، وعفيف، وعظيم، وناصع، وطاهر، ومميّز عن غيره، ومتفوّق، وظاهر، ودائم، وثابت، وفي أحلك الأيّام وأصعبها. ومن مظاهر عظمة الصّدّيق الكثيرة العديدة هي كيفية تعامله مع التحاق سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بعظمة لامثيل لها.

قال: طيلة خلافة الصّدّيق لم ينكر عليه أحد من الرعية، ولم ينكر على أحد من الرعية. 101

ثانيا: سيّدنا عمر بن الخطاب

عظمة سيّدنا عمر بن الخطاب:

قال طه حسين في صدر الفصل أنّ سيّدنا عمر بن الخطاب ورث غلظة القلب وفظاظته، وشدّته وعنفه عن أبيه.

أقول: واضح جدّا أنّ عنصر غلظة سيّدنا عمر بن الخطاب من مفاتيح فهم شخصيته، ومن عجائب شخصيته. فهو الغليظ القوي قبل إسلامه، والرّقيق الحنون اللّطيف بعد إسلامه. والغليظ القويّ مع أعداء الله ورسوله وفي حضرة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والرّقيق العطوف على المسلمين بعد توليه الخلافة. والغليظ القوي على السّادة والأقوياء والأمراء وقادة الجند، والحنون على الضعفاء والفقراء والمساكين من المسلمين بعد توليه الخلافة.

قال وهو يصف عظمة سيّدنا عمر بن الخطاب: "كان إسلامه فتحا حقا، وكانت هجرته نصرا، وكانت إمارته رحمة. وقد أتاح حياة للمسلمين لونا من الحياة في خلافته مازال الغرب، والمسلمون الآن يحلمون بها رغم توفّر الوسائل، وهو الذي لم يكن يملك وسائلهم".

قال: معاشرة سيّدنا عمر بن الخطاب لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم جعلته ينتقل وبسرعة فائقة من الغليظ الشديد إلى الرحيم، والرقيق، والمعين، والكفيل. حتّى أنّه أمسى سريع البكاء لسماع ذكر الله تعالى، ويبكي للحياة القاسية التي يعيشها سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو الذي لم يعرف عنه أنّه بكى في الجاهلية. مايدل على أثر الإسلام في العقول والقلوب.

قال: "كان أثناء خلافته شديدا حتّى هابه النّاس جميعا، وكان رقيقا حتّى رجاه النّاس جميعا".

قال: "كان عمر يكره أشدّ الكره أن يأكل أو يلبس خيرا مما أتيح للنبي وأبي بكر".

عظمة الصّدّيق من خلال ترشيح سيّدنا عمر بن الخطاب للخلافة:

قال: أعظم عمل قام به سيّدنا الصّدّيق هو ترشيح سيّدنا عمر بن الخطاب خليفة للمسلمين. 107 ولم يفرض على المسلمين إنّما كان ترشيحا، ومن حقّهم أن يقبلوا أو يرفضوا. وقد قبل المسلمون رأي سيّدنا الصّدّيق بترشيح سيّدنا عمر بن الخطاب لحبّهم للصّدّيق، وثقتهم فيه، ولم يخالفه أحد في الإجماع على هذا الترشيح.

قال بالحرف: "وكان اختيار عمر أجلّ خدمة أداها أبوبكر للمسلمين". 109

راح بعدها طه حسين يبدع في شرح أسباب ترشيح سيّدنا الصّدّيق لسيّدنا عمر بن الخطاب، فقال: "فهو قد توفى والمسلمين بين فكي أسدين الروم والفرس، والعرب حديثو عهد بالردة، فكان المسلمون بحاجة إلى رجل قوي، وشديد، وحريص، ومخلص، وقادر بالنهوض بالأعباء الثقيلة التي تركها الصّدّيق، ويقيم الدولة الناشئة، ويرعى مصالح البلاد المفتوحة وأهلها، وينفذ كتاب الله وسنة نبيه، ويجمع المسلمين بالشدة واللين، ويضمن العدل في غير ضعف ولا جبروت. ولم يكن أحد أقدر على تحمل هذه المسؤولية غير عمر بن الخطاب". 110.109

حبّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسيّدنا عمر بن الخطاب:

قال: كان سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يؤثر سيّدنا عمر بن الخطاب أشدّ الإيثار، ويظهر له من ذلك ماكان يقرّ عينه ويملأ قلبه.

قال: كان سيّدنا عمر بن الخطاب شديد الرفق بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والحياطة له؛ والقيام دونه، والحرص على أن يرد عنه كلّ مكروه.

أبدع طه حسين حين قال: كان سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكفكف من غلظة وقسوة سيّدنا عمر بن الخطاب، وفي الوقت نفسه يحي فيه الرحمة واللّين، والشفقة.

سيّدنا عمر بن الخطاب يفضّل أسيادنا آل البيت ويؤخّر نفسه، وسيّدنا الصّدّيق:

جاء في الفصل التّاسع: أنشأ سيّدنا عمر بن الخطاب الديوان لتسيير شؤون المسلمين، والعرب لم تكن تعرف هذا النظام، ولم تعرفه أيّة حضارة من قبل.

قال: أوّل عمل قام به سيّدنا عمر بن الخطاب هو تقسيم الغنائم، والخراج، والجزية على أساس القرابة من سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أوّلا، وعلى أساس حبّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم للصحابي، ولأب الصحابي ثمّ معايير أخرى كالأسبقية في الإسلام، والهجرة للحبشة، والهجرة، وغزوة بدر، والطفل حتّى يفطم.

أقول: أبدع طه حسين حين أشار إلى هذه الملاحظة، قائلا: وأخّر نفسه، وأخّر قبيلة سيّدنا الصّدّيق لأنّهما لم يكونا من عائلة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وأضيف: وهما الخليفة الأوّل السّابق، والخليفة الثّاني الحالي.

قال: وقد ألغى سيّدنا عثمان بن عفان إلغاء العطاء لغير الشيوخ أي أصحاب سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم تحت ضغط المعارضين له الذين قالوا له: "إنما هذا المال لمن قاتل عليه".

عظمة سيّدنا عمر بن الخطاب في شدّته مع نفسه، والولاة، وأهل بيته:

قال: كان سيّدنا عمر بن الخطاب ينصب الوالي المكلّف بشؤون المسلمين، وينصّب والي ثاني على خزينة المسلمين الذي يعطي للوالي مايحتاج من نفقته الخاصة، بالإضافة إلى ماتحتاجه الدولة والمجتمع. مايعني أنّ سيّدنا عمر بن الخطاب كان على علم بما بداخل الخزينة، وكيفية تسييرها، ومقدار ماينفقه الوالي ومن معه.

قال: كان سيّدنا عمر بن الخطاب هو الذي يختار القضاة، ويرسلهم إلى الأمصار، ولم يكونوا تحت سيطرة الوالي إنّما كانوا مستقلين عنه لايتدخل الوالي في شؤونهم.

قال طه حسين: "كان عمر لايؤثر نفسه بشيء من الخير، وإنما يأكل مع النّاس. وكان لايسمح لأحد من أهل بيته بأن يوسع على نفسه من طعام أو شراب والناس من حولهم جياع".

أقول: ظلّ طه حسين يكرّر وفي عدّة مناسبات بأنّه لم يوجد خليفة مثل سيّدنا عمر بن الخطاب. ويقصد الخلفاء الأربعة في عظمته، ولم تعرف الأمم قديمها، وحديثها ملكا أو حاكما "يسير في النّاس سيرة عمر".

قال: "لم تكن أنباء الأمراء تخفى على عمر".

أقول: ممّا وقفت عنده -ولم يذكره طه حسين- أنّ سيّدنا عمر بن الخطاب سلّم دولة قويّة، وتنظيم دقيق عجيب مبهر لم تصل إليه أعتى حضارة وبما فيها الحضارة الحالية -بتعبير طه حسين- إلى سيّدنا عثمان بن عفان. والسؤال: لماذا تدهورت دولة سيّدنا عثمان بن عفان بتلك السّرعة الخارقة، والمخيفة، وذلك التدهور الرّهيب وقد استلم دولة قويّة، ومنيعة، وصحيحة، وثرية، وواسعة؟.

قال: كان يعد مال الوالي قبل أن يوليه، فإن وجد أكثر بعد ولايته حاسبه، وإن عزله قاسمه ماله.

قال: "وليس غريبا أن يقول غيره: إن بيتا من بيوت المسلمين لم يدخله الحزن لموت عمر لبيت سوء".

عظمة سيّدنا عمر بن الخطاب من خلال قوّة دولته:

أقول: جريمة قتل سيّدنا عمر بن الخطاب لم تحدث اضطرابا في أركان الدولة، ولا انقلابا عسكريا. مايدلّ على قوّة، وعظمة دولة سيّدنا عمر بن الخطاب التي بناها، ورعاها وتركها لمن خلفه قويّة منيعة.

قال: وكان عمر يتحرّج من رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم. وكان يكره أن يكثر الناس الحديث عن النبي، وينذر المكثرين بالعقوبة".

أسباب عزل سيّدنا خالد بن الوليد:

أقول: لاأوافق طه حسين في وصفه لسيّدنا خالد بن الوليد بالسّفاك، ويرمي أعداءه في الآبار، ومن أعالي الجبال، ويحرقهم بالنّار، وينصّب بعضهم هدفا للنبال، ويسرف في القتل كما في فتح مكة، وبأنّه اشتهر عنه وعن قبيلته العجب والخيلاء؟!.

أقول: العقاد كان أفضل بكثير من طه حسين في نظرته لسيّدنا خالد بن الوليد، وكان أكثر إنصافا، ودافع بقوّة عن سيّدنا خالد بن الوليد رغم أنّه عاتبه في بعض الوقائع، ووجد لبعض سلوكاته بعض الأعذار. بينما طه حسين كان سيفا مسلّطا على سيّدنا خالد بن الوليد.

من العجائب التي وصلت إليها أنّ طه حسين رفض روايات عديدة وقبل الروايات التي تدين سيّدنا خالد بن الوليد، ودون أن يناقشها، أو يشكّك فيها كما فعل مع غيرها.

أضيف: سيّدنا خالد بن الوليد رجل محترف -بالتّعبير العصري-، وولد قائدا عسكريا بالفطرة، وأدار المعارك باحترافية عالية ومدهشة، وكان قائدا لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولسيّدنا الصّدّيق، ولسيّدنا عمر بن الخطاب الذي لم يعزله لضعف في قيادته.

أضيف: ثمّ إنّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم منحه لقب سيف الله المسلول، وأقرّه على القيادة وقبل فتح مكة، وبعدها، ومن اللّحظة الأولى التي أعلن فيها إسلامه. وأقرّه سيّدنا الصّدّيق على قيادة الجيش طيلة خلافته وبعد مقتل نويرة، وعاتبه على الزواج بزوجته وأمره أن يسرحها رغم أنّ سيّدنا عمر بن الخطاب طلب من سيّدنا الصّدّيق أن يعزله فرفض.

أضيف: ممّا وقفت عنده وأذكره بوضوح أنّ المسألة لاتتعلّق بسيّدنا خالد بن الوليد فهو القائد العظيم، والجندي المطيع لقائده الأعلى، وفارس قلّ نظيره. إنّما المسألة تتعلّق في اختلاف نظرة سيّدنا الصّدّيق، وسيّدنا عمر بن الخطاب وهما الخلفاء، والقادة لسيّدنا خالد بن الوليد. فالمسألة إذن تتعلّق بنظرتين، ومتناقضتين، ومن زاويتين مختلفتين.

قال: أوّل قرار اتّخذه سيّدنا عمر بن الخطاب بعد توليته الخلافة هو عزل قائد الجيش المكلّف بقتال الروم سيّدنا خالد بن الوليد، وتعيين مكانه سيّدنا عبيدة بن أبي الجراح.
أقول: مع العلم كانت المعركة في أوجّها، وأبلى سيّدنا خالد بن الوليد من حيث الفكرة، والشجاعة، والإقدام بلاء خارقا لامثيل له. مايعني أنّ قرار عزل سيّدنا خالد بن الوليد كان مهيّئا من قبل ينتظر التنفيذ، وبمجرّد ظهور أوّل فرصة وهي موت سيّدنا الصّدّيق أخرج القرار وطبّقه فورا، ودون انتظار رغم انتصارات سيّدنا خالد بن الوليد، وانتصاره في أعظم معركة ضدّ الذين يفقونه عددا وعدّة ولم تشفع له انتصاراته، وانتصاره لدى سيّدنا الخليفة الثّاني عمر بن الخطاب. وقد قال سيّدنا الصّدّيق حين علم بتقدّم الروم، وبأعدادهم الهائلة "لأضربنّهم بخالد بن الوليد"، وجعله قائدا على جميع القادة الكبار.

أقول: ممّا فهمته من الكتاب وأقف عنده لأوّل مرّة -ولم يذكره طه حسين-، أنّ سيّدنا الصّدّيق كان أكثر إقداما على الفتوحات الإسلامية، ومواصلتها، وفتح بلادا جديدة من سيّدنا عمر بن الخطاب الذي كان يقبل الفتح، ومواصلته لكن بعد إلحاح من قادته، وبعد رفض عدّة محاولات منهم، رغم أنّ الفتوحات في عهده كان أكثر من الجميع.

قال: من عادات سيّدنا عمر بن الخطاب أنّه كان يراجع سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قضايا حسّاسة كصلح الحديبية، وأسرى بدر، و المنافق أبي بن سلول والصلاة عليه، والصحابي الذي قال لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم "اعدل؟!"، وقضايا أخرى كالخمر، والحجاب التي وافقه فيها القرآن الكريم. وكان يناقش سيّدنا الصّدّيق أثناء خلافته كطلبه بعزل سيّدنا خالد بن الوليد، ورفضه تولية سيّدنا خالد بن سعيد بن العاص قيادة الجيش المتّجه للشام.

أقول مالم يقله طه حسين: فعلا كان يحدث ذلك من مختلف ألوان المراجعة في قضايا بالغة الحساسية. لكنّ سيّدنا عمر بن الخطاب يلتزم، ويصمت، وينفذ بسرعة بعد أن يسمع قول، أو فعل سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

قال: كان سيّدنا عمر بن الخطاب يحصي مال الوالي قبل أن يوليه، وإذا زاد استدعاه وحاسبه. وكلّما وصلته شكوى من أحد ولاّته إلاّ حقّق معه.

المزيد من المقالات...