ربما لم تحظَ مدينة في الشعر العربي بما حظيت به مدينة القدس  حبا لها وحضا للدفاع عنها خلال تاريخها الطويل . وشهدت الحروب الصليبية وفرة كبيرة من الشعر الذي حض على ذلك الدفاع ، وكان المسجد الأقصى دائما في قلب حوافزه . وتكرر في العصر الحديث ما حدث زمن الصليبيين من انشغال الشعر العربي بالقدس ، وهذه المرة كان الانشغال لاستيلاء الصهاينة على جزء المدينة الغربي في حرب 1948 ، واستيلائهم على جزئها الشرقي في 7  يونيو 1967 ، وضمه إلى الجزء الغربي رسميا في  30  يوليو 1980بعد ضمه في شهر الاحتلال إداريا  ، والادعاء الباطل بأن القدس الموحدة هي العاصمة الأبدية لدولتهم .  ويجري فيها منذئذ نشاط لا يهدأ لتهويدها وإخلائها من مكوناتها الفلسطينية بشرا ومعالم حضارية ودينية ، والاعتداءات المتواصلة على الأقصى أخطر فعاليات هذا النشاط تمهيدا لإقامة الهيكل المزعوم مكانه . وكانت انتفاضة الأقصى في 28 سبتمبر 2000  غضبا على اقتحام شارون له ذروة انشغال الشعر العربي بالقدس وأقصاها ، فكتب الشعراء الفلسطينيون والعرب قصائد غزيرة في حب القدس والأقصى وحض العرب والمسلمين على حمايتهما حماية لدينهم ولأوطانهم ولكرامتهم ومستقبلهم من الخطر الصهيوني الذي يأتلف مع الغرب الصليبي في هجومه عليهم . وجمع الدكتور يوسف شحدة الكحلوت أستاذ الأدب والنقد المساعد في قسم اللغة العربية  في الجامعة الإسلامية كثيرا من ذلك الشعر ، وأصدر منه في 2002 الجزء الأول بعنوان " مختارات من شعر انتفاضة الأقصى المباركة " ، وأهداه  : " إلى الوطن الغالي فلسطين ، إلى الأقصى الأسير الحزين ، إلى كل شهيد وجريح وسجين ، إلى كل الأباة المجاهدين . ". وصدره بمقدمة قصيرة عن دور الشعر في  مجاهدة أعداء العرب  والمسلمين منذ بدء الدعوة المحمدية المباركة حتى اليوم ، وأتبع المقدمة بدراسة مطولة حام فيها على القضايا التي تمحورت حولها قصائد المختارات . ومن قراءة قصيدة " مرثية القدس " لأبي المظفر الأبيوردي (460 _ 507 ه)  ومن قراءة بعض قصائد المختارات نجد أنفسنا في ذات الحال التي تألم منها ، وحض العرب والمسلمين على التحرر من براثنها الفتاكة ، والتوحد في حرب الأعداء الصليبيين لكون مصير العرب والمسلمين واحدا في الابتلاء بخطر أولئك الأعداء وإن حسب بعضهم أنه في أمن من ذلك الخطر لموالاته ومحالفته لهم  . والآن  إلى القصيدة ! يستهلها الشاعر ببيان تردي حال المسلمين ضعفا وعجزا ، يقول : " مزجنا دماء بالدموع السواجم = فلم يبق منا عرصة للمراحم " ، فهذه الدماء والدموع من الكثرة حتى لم يبق منها ما يسيل رحمة بأي شيء في حياة المسلمين . ويذم بكاء المسلمين الذي هو آية صارخة على ضعفهم وذلهم ، وتكون هذه الآية في أعلى درجات دلالاتها على الضعف والذل في زمن الحرب التي يجب أن تواجه بالقوة والسلاح لا بالبكاء : " وشر سلاح المرء دمع يفيضه = إذا الحرب شبت نارها بالصوارم  " . ويحذر المسلمين مما يترقبهم من أخطار وأهوال الحرب فوق ما هو نازل بهم منها : " فإيهاً بني الإسلام إن وراءكم  = وقائع يلحقن الذرا بالمناسم " .  

الحرب  التالية ستجعل عالي ما في حياتهم سافلا . ويستنكر نوم بعضهم ولو خف ، ونعومة عيشهم التي تشابه نوار الخميلة : " أتهويمة في ظل أمن وغبطة = وعيش كنوار الخميلة ناعم ؟! " ، ويوبخهم على نومهم ملء جفونهم وما يحدث في ديار الإسلام من عدوان الصليبيين وفظائعهم يوقظ كل نائم : " وكيف تنام العين ملء جفونها = على هفوات أيقظت كل نائم ؟! " ، ولا توفيق له في نعت ذلك العدوان وتلك الفظائع ب " الهفوات " أي السقطات أو الزلات ، ولعلها (النكبات ) ، و " الهفوات " خطأ طباعي في النص . ونومهم خفيفا أو عميقا خيانة عظمى وموت ضمير إسلاميا وقوميا . كيف تنامون " وإخوانكم في الشام يضحي مقيلهم = ظهور المذاكي أو بطون القشاعم "  ؟!. أهل الشام في قتال متصل مع الصليبيين لا يفارقون فيه ظهور خيلهم الشواب الجياد ، ويسقط فرسانهم  ، فتأكل جوارح الطير لحومهم . ويذل الصليبيون أهل الشام ، وبقية المسلمين في ترف وأمن وانصراف عن إخوانهم : " تسومهم الروم الهوان وأنتم  = تجرون ذيل الخفض فعل المسالم ! " . ويحذر أولئك  اللاهين الخاذلين  لإخوانهم في الشام  من الندم على لهوهم وخذلانهم : " وتلك حروب من يغب عن غمارها = ليسلم يقرع بعدها سن نادم " . ويخاطبهم مباشرة ليؤثر في مشاعرهم الخابية : " دعوناكم والحرب ترنو ملحة = إلينا بألحاظ النسور القشاعم " ، ويستنجد ، وهو المقيم بخراسان زمن كتابة القصيدة ، بأصوله العربية الأموية ، فيقول : " تراقب فينا غارة عربية = تطيل عليها الروم عض الأباهم " . ويحذرهم في ختام قصيدته بأن  موت روحهم الدينية والقومية سيفضي إلى التخلي عن كل الحرمات العربية والإسلامية لتكون نهبة مباحة للصليبيين : " فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه = رمينا إلى أعدائنا بالحرائم " . حال العرب والمسلمين اليوم ذات حالهم الذي صورته لنا القصيدة إلا أن الله _ عز قدره _ وهبهم صلاح الدين العظيم ، فلم شملهم وقهر الصليبيين في معركة حطين يوم السبت 25 ربيع الثاني 583 . وسيقهر الصهاينة مثلما قهر الصليبيون . ستختلف الوسيلة بين القهرين لاختلاف الزمن ، إنما قهر الصهاينة آتٍ حتما . هذه أمة القرآن لا يضرها من خانها من أبنائها اللاهين العاقين ، وتسحق في الختام كل المعتدين .  

                                         *** 

القصيدة في الجزء الأول من كتاب " اللغة العربية " للصف العاشر في فلسطين ، ونرجو تصويب تاريخ ولادة الشاعر وتاريخ وفاته اللتين  جاء أنهما في ( 705 _  754 ه) .  

sbhdssss1015.jpg

من يتابع الأعمال الروائية الأخيرة "لجميل السلحوت" يجد أنها أخذت تتجه نحو القضايا الاجتماعية، وتحديدا مشاكل المرأة في المجتمع الذكوري، فقد كتب روايات " الخاصرة الرخوة، المطلقة، اليتيمة، والأرملة مشتركة مع ديمة جمعة السّمّان" وغيرها، وكلها تتناول واقع المرأة في المجتمع، وما تتعرض له من ظلم وقهر اجتماعي، إن كان من  قبل الزوج أو المجتمع وحتى الأهل، تأتي رواية "الليلة الأولى" الصادرة عن مكتبة كل شيء، حيفا، 2023، لتؤكد واقع المرأة البائس في المجتمع الفلسطيني والعربي، ولتحارب الجهل والتّخلف.

عنوان الرواية "الليلة الأولى" يأخذنا إلى ليلة الزواج الأولى، وكيف يكون حال العريس والعروس، وما يتعرضان له من ضغط اجتماعي، يتمثل في (فض البكارة)، فالزوج "موسى" يرتبك ويضطرب، ولا يكون بحالة نفسية تسمح له بمعاشرة عروسه، والزوجة "ليلى" التي يقع عليها ضغط أكثر من الزوج، لأنها ستكون أمام حالة لم تألفها، ومع هذا المجتمع يتعاطف مع الزوج وينحاز له، ويبقي الزوجة دون الاهتمام المطلوب، ويزيد من الضغط عليها لتقوم بأشياء لا تعرفها وصعبة عليها.

وعندما يفشل الزوج "موسى" في معاشرة عروسه، يتجهون نحو العرافة "مبروكة" والمشعوذ "أبو ربيع"، الأولى يهمها المال وممارسة الجنس مع عشيقها، رغم أنها تبدي الورع والتقوى أمام الناس، والثاني يهتم بالجنس أكثر من المال، لهذا لا يترك أي امرأة تأتي إليه، إلا ويضاجعها (ليخرج منها الجني الكافر).

اللافت في الرواية أنها تتناول الآباء والأمهات بصورة سلبية، حيث يلجأون إلى المشعوذين عند وجود مشكلة نفسية أو اجتماعية، بينما الأبناء بمجملهم جاؤوا بصورة إيجابية، حيث واجهوا سلطة الآباء، ورفضوا أن يكون "مبروكة وأبو ربيع" هما العنوان الصحيح لعلاج "موسى"، ورغم إصرار الآباء على التوجه إليهما وصرف الأموال دون جدوى، إلا أن "عمر" شقيق "ليلى" يستعيد بالقوّة كل ما أخذته مبروكة من أموال ويعيدها إلى "أبو موسى". وهذا الطرح كافٍ لإيصال فكرة أن عقلية الآباء المتخلفة والمتمسكة بالعادات السيئة تزيد من المشاكل، بينما الأبناء يستطيعون حلها وبطرق صحيحة وقصيرة وبجهد وتكلفة أقل، وفي هذا دعوة لرفض الموروث الشّعبي السّيّء، مثل مراقبة العروسين ليلة دخلتهما، واللجوء إلى المشعوذين لمعالجة المرضى ولحلّ بعض المشاكل.

الرواية فيها حوارات عديدة تدور بين الآباء والأبناء، وبين "موسى وليلى" وبين ليلى ومبروكة، وبين عمر ومبروكة، وكلها أسهمت في إيصال فكرة عقم التفكير القديم وسذاجته، لهذا جاءت نهاية الأحداث بطلاق "ليلى" من "موسى"، وهروب "موسى" إلى مكان يستعيد فيه فحولته.

لغة الرواية بسيطة وسلسة، وجاء بصيغة السارد الخارجي، العليم؛ لتشير إلى أننا أمام واقع اجتماعي عام يعاني منه المجتمع،  وما وجود الأمثال الشعبية التي نطقت بها  شخصيات الرواية إلا تأكيد على ثقافة المجتمع بهذا الخصوص، وفضحها كي يبتعد النّاس عنها، لهذا سيجد كل قارئ للرواية ما  يتوافق مع تطلعاته في انعتاق المجتمع من أفكار عفا عليها الزمن وشرب "البكاء والدم."

sfhgshff1015.jpg

"الليلة الأولى" هو عنوان الجزء الأول من الرواية الجديدة الصادرة بداية هذا العام 2023 عن مكتبة كل شيء في حيفا للأديب جميل السلحوت، وتقع في 190 صفحة من الحجم المتوسط، يحمل غلافها لوحة للفنان التشكيلي محمود أحمد شاهين، وهي من إخراج ومنتجة وتصميم شربل إلياس.

تطرح الرواية رسالة اجتماعيّة، وتصور حاجة المجتمع للتمرّد على الثقافة البائسة التي تعزّز الأفكار المتخلّفة ضد المرأة، كما تحمل دعوة لتغيير الأعراف والعادات البالية المتعلقة بالزواج، وتتناول واقع المرأة في المجتمع، وما تتعرض له من ظلم وبؤس اجتماعي من الزوج والمجتمع، وتؤكد على أهمية محاربة الجهل والتّخلف.

عند الغوص في المقومات السردية وتنوع اتجاهاتها، وسير الأحداث وتحليلها والوقائع والتفاصيل وعمق الشخصيات، يستمتع القارئ بأسلوب الكاتب المشوّق، وأسلوب السرد المباشر الصادق، المعبّر عن الواقع الاجتماعي المعاش، وعن النفس البشرية الملاصقة لواقعها ورؤاها وأبعادها العميقة، فهذه الرواية الإنسانية تظهر تعامل مجتمعنا مع بعض القضايا الحساسة، وتفضح كذب الدّجالين والمشعوذين الذي يعملون على استغلال الناس بخبث، متسترين بعباءة الدين لتحقيق غاياتهم ومصالحهم ومآربهم الشخصية الدنيوية، وانعكاس ذلك على حياة البسطاء والمجتمع بشكل عام.

يرصد الكاتب بين سطور الرّواية أنماط التفكير والسلوكيات وبعض القيم والتقاليد، من هنا نجد أنه يعمل على تذويت سطوره بحرص شديد، فيصبغها ببصمته الخاصّة، وذلك بربط النصّ بالتجربة الشخصيّة؛ لينقل المعرفة إلى القارئ، وما أمكنه من معارف متنوعة في مجالات عديدة من الحياة العامة، منها السلوكيات اليومية ووصف الحياة ورصد بعض الظّواهر الاجتماعيّة والمعلومات، فيطرح عبر شخصيّاته مشاكل اجتماعية سائدة في العصر والثقافة التي كُتبت عنها، مثل الزواج والطّلاق والجنس والدّين وغيرها من المواضيع المتشابكة، المرتبطة بالواقع المعاش؛ لتصوّر البيئة المكانيّة لشخوص الرّواية وعمق الصّراع الاجتماعيّ في نفوسهم.

تعرض الرّواية القضية النّسوية والذّكوريّة بوضوح، ومحاولات سلب وطمس حقوق المرأة، والتّعامل معها كأداة للمتعة والإنجاب وخدمة الرّجل، والقيام بالأعمال المنزليّة والطبخ فقط، ويدعم السلحوت طروحاته بالموروثات الشّعبية المختلفة ومنها المثل الشّعبيّ، كي يبيّن الثّقافة الشّعبيّة ونظرتها السّلبية الدّونية ضدّ المرأة، لا لترسيخ هذه العادات بل للتّنفير منها، موضّحا أن الأديان قد أوصت بالمرأة خيرا.

كما يتطرّق لثقافة القبيلة والتّعصّب بجرأة وينتقد المقدّس الاجتماعيّ لمعالجة المسائل الشّائكة، بأسلوب المنطق والاقناع والمعالجة الشّفافة الواضحة، والّلغة السّهلة البسيطة المفهومة.

"الليلة الأولى" هي رواية  اجتماعيّة إنسانية جريئة، تكشف المستور وتفضح الكثير من الظواهر الاجتماعيّة السّلبيّة التي تسود مجتمعنا وتعاني منها المرأة بشكل خاصّ، تحمل عناصر الرّواية النّاجحة والحبكة القويّة والصّياغة المحكمة، مؤلّفها الأديب المقدسيّ جميل السلحوت، يحمل فكرا مستنيرا وله حضوره الثقافي المميز، يمتلك تجربة أدبيّة ثريّة، وهو كاتب مسكون بالوطن وقضاياه، صدر له العديد من المؤلفات الأدبيّة التي نسج حروفها بفكره الجامح وكتبها بمداد قلمه النّزيه، هو روائي مخلص للكتابة، يلتزم بهموم الإنسان وقضايا الوطن، وقد حظيت كتاباته وأعماله باحترام الأوساط الثقافيّة والأدبيّة،  يواصل نشر المقالات الفكرية والأدبية والنقدية وغيرها، وقد قرأت له الكثير من الروايات للصّغار وللكبار، والكثير مما كتب في المواقع والصّحف الإلكترونية المختلفة، وهو يتّصف بغزارة الإنتاج والنشر، ينطلق بما يكتب من رؤيته الواقعية، داعيّا إلى التّسامح وحريّة التّعبير، مجتهدا في وصف حالة الفوضى السّائدة في المجتمع، متطرّقا إلى مواضيع جريئة بشجاعة وثقة، مؤمنا بأهمية دور المثقف الرّيادي في محاربة الجهل والتخلّف.

نشدّ على يد الأديب جميل السلحوت مع التمنيات له بالمزيد من العطاء الفكري والأدبي، ونبارك له هذا الإصدار مع خالص الاحترام والأمنيات الأجمل بحياة مليئة الإبداع.

sfgsfhs1015.jpg

ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسيّة الأسبوعيّة رواية "كلاندستينو على جسر باسانو" للكاتب المغربي حسن المصلوحي، وتقغ الرواية الصّادرة هذا العا 2923 عن دار افريقيا الشّرق-المغرب في 237 صفحة من الحجم المتوسّط.

افتتحت الأمسية مديرة الندوة ديمة جمعة السمان فقالت:

مهما كان جفاء الوطن، إلا أـنّه يبقى رحيما، كما أنّ الأمّ مهما كانت قاسية إلا أنّها لا تأكل أطفالها.

رسالة قويّة، أرسلها أستاذ الفلسفة المغربي، الكاتب حسن المصلوحي من خلال روايته كلاندستينو على جسر باسانو.

الرواية بمثابة دعوة للشباب العربي بأن لا يهجروا أوطانهم بحثا عن الرزق مهما كانت حياتهم صعبة في أوطانهم، إذ أن هذه الظّاهرة مستفحلة على امتداد الوطن العربي، فلا تقدير للكفاءات، ولا احتضان للشباب الذين يتخرجون من الجامعات؛ لتتلقفهم البطالة وترميهم في بطن الجوع هم وأسرهم. فيهربون من الفضيلة حيث الرذيلة، يبيعون أنفسهم للشيطان، يؤمنون بأن الغاية تبرر الوسيلة.

كما أنّ الكاتب تناول أيضا موضوعا هامّ وجريئا جدا، طرح الأزمة التي خلّفها المتأسلمون، والتي طالت كل العرب والمسلمين، إذ أنّهم يستغلون الدّين لتحقيق مآربهم المادية والسلطوية، فيسيئون للدين الإسلامي، فيتحوّل بنظر العالم من دين تسامح ومحبّة إلى دين إرهاب وإجرام، ويوصف كل من يعتنقه بالارهابي المجرم.

قضيّتان تؤرق العالم العربي الإسلامي، الذي أصبحت أصابع العالم يشير إلى مواطنيه بأنهم لا يستحقون الحياة، فلا ينظرون لهم بعين الرحمة والرأفة، بل يسحقونهم بحجة تخليص العالم وإنقاده من الإرهاب.

وهنا يثير الكاتب سؤالا في غاية الأهمية، هل وصل الأمر بالعربي إن تم تخييره بين ترحيله من بلد المهجر إلى وطنه أو السجن، بأن يختار السّجن!

هل السّجن في المهجر يعتبر أكثر أمنا وأمانا للعربي من وطنه الأم؟ هل وصل الأمر بالإنسان العربيّ أن يفضّل عيشة المتسوّلين في بلاد الغربة عن وطنه الذي ربي به ونشأ فيه، حيث ذكريات الطّفولة في حضن الأسرة التي قدّمت له كل ما تستطيع وفق إمكاناتها المحدودة؟

أسئلة كثيرة تحتاج إلى أجوبة، على الرغم من صعوبتها.

أعجبني حوار البطل (سعد) المغربي الداخلي (المونولوج)، والذي عكس صراعه الداخلي بين الفضيلة والرذيلة، ومحاولته إيجاد المبررات المختلفة لإقناع تفسه بأن يمضي في طريق الشّيطان.

أعجبتني اللغة الجميلة والوصف الجميل الذي جعل القارىء يشعر وكأنه أمام فيل سينمائي بكل تفاصيله.

إلا أنّ لي ملاحظة، أعتقد أنّ الكاتب أساء لهذا العمل الهام بصورة كبيرة من خلال اقحام المشاهد الإباحية التي تخدش الحياء، مع أنها لا تشكل أيّ إضافة للفكرة التي طرحها، وكان من الممكن الاستغناء عنها، خاصة وأن الكاتب يمتلك قلما جميلا قادرا على إيصال الفكرة دون اللجوء إلى المشاهد التي ظهرت في الرواية.

 الهدف من الرواية عظيم، إذ أن ما جاء فيها يعتبر رسالة توعوية للشياب العربي. فكيف ستدخل المدارس بهذا الطرح غير الملتزم! مع العلم أن كاتبنا هو تربوي، مدرس لمادة الفلسفة للمرحلة الثانوية، وهو محبوب جدا بين طلبته، وعلاقتهم معهم مميزة.

كما أنني أتساءل أيضا، وهل ستسمح العائلات العربية المحافظة بدخول هذه الرواية بشكلها الحالي إلى بيوتهم؟

بالتوفيق للكاتب حسن المصلوحي صاحب الحرف الجميل. بانتظار رواية أخرى تطرح موضوعا هاما آخر يعكس واقع عالمنا العربي الأليم، فهذا هو دور المثقف، يسلط الضوء على قضايا المواطن بأسلوب أبداعي، إذ أن الثقافة نعتبر من أهم مفاتيح التغيير.

وقال عبدالمجيد جابر:  

1.افتتاحية الرواية:

في روايتنا هذه نرى أن الشخصيات الرئيسة كالراوي وسعد وحسن وأشرف وسميحة وأغلب الشخوص كلهم قد خرجوا وهاجروا من أوطانهم، والبعض عاد لمرابعه، والوحدة الوظيفيّة في المقدمة دليل على جودة افتتاحيّة الرواية وتماسكها. فالوحدة الوظيفيّة، مهما يكن شكلها، قادرة على تحديد مسار الرواية، وطبيعة السرد فيها، فضلا عن إثارتها شغف القارئ وحفزه إلى القراءة، والتمهيد لبناء الشخصيات واختراق الأمكنة الروائيّة.

1- تصور الرواية الغرب بأنه نازي عنصري، غير متسامح دموي يكره العرب والمسلمين، ويرى تفوق العرق الآري، ويرى أنهم هم الأفضل والأحق بالحياة والتناسل عن باقي البشر. ويبدو أننا نسينا تعذيب الكنيسة للعرب والمسلمين والمورسيكيين في الأندلس، وما تلاها من حروب صليبية، وتدمير ليبيا اليوم والعراق وسوريا ولم نتعلم الدرس.  وأنه الغرب يعلم بنيه على غرس بذور العنصرية حتى بالتزوير، فكرستينا قتلت والديها المافيا الايطالية وغرسوا في نفسها أن من قتلهما هم العرب والمسلمون، وصوروا لها أن من اغتصبها وهي طفلة عربي اسمه عمر، وهو في الحقيقة شخصية غربية متعنصرة.   

3- والغريب أن قوارب الهجرة لأوروبا من المغرب العربي تجري وتتقاطر اليوم على قدم وساق، وهؤلاء لا يدرون ما ينتظرهم من غول فاتح فاه يتلقفهم، ويحول إنسانيتهم ومثلهم وقيمهم لمبادئ وقيم منحطة، بفعل التفرقة وتفوق العرق الآري المسموم والمشوّه.

4-وتصور الرواية أن مجتمعاتنا طاردة لأبنائها ومبدعيها، إلى جانب الفشل في بناء أنظمة سياسية مستقرة ومقبولة من شعوبها، فشاع الفقر والعوز والحاجة. فسعد وحسن وغيرهم من المهاجرين هم ضحية الهجرة للغرب، امتهنوا الرذيلة بفعل الواقع المر، فإما أنهم انحرفوا وانساقوا لبائعات الهوى أو المنحرفين، فمارسوا الرذيلة فكانوا من الفاعلين أو من المفعول فيهم، بحثا عن رغيف الخبز أو الأمان، أغلبهم ضاعت كرامتهم، ومنهم من فقدوا أرواحهم بعد أن فقدوا كيانهم.

5-وتصور الرواية أن الهجرة عذاب للروح، ليس الهجرة للغرب بل أيضا الهجرة للعربان، الذين استهوى مزاجهم المنحرف مؤخرة سميحة ففرطت بها أمام الفقر ورغيف الخبز.

6-المفارقة 

المفارقة بين كريستينا المشربة بالعنصرية وما فعلته بحبيبها سعد، وبين حسن وغدره لحبيبته آمال، وإخلاصها له عندما قدمت لأوروبا حال مقتله.

فإنّ "أهميّة المفارقة في الأدب مسألة لا تحتمل الجدل، إنّ الأدب الجيّد يجب أن يتّصف بالمفارقة. وما على المرء إلا أن يسرد أسماء مشاهير الكتّاب الذين تتميّز أعمالهم بوجود المفارقة فيها، مثل: هوميروس، وآيسخيلوس، ويوريبيديس..إلخ" والمفارقة هنا تجسم هول المأساة والظلم الذي حاق بالفلسطينيين.

وتبدو المفارقة واضحة في شرقنا المتسامح وقيمه الرفيعة الأبية، وبين الفكر الغربي المتأصل على كره الغير، وتظهر المفارقة جلية في روح المهاجر قبل الهجرة، وما يتمتع به من قيم أصيلة، وبين روحه التي تتبدل في الغرب فتسوء. 

والمفارقة واضحة جلية عند المرأة الغربية، فقيس المهاجر هاجر وتزوج بأجنبية وعندما قضت وطرها منه ملّت واستبدلته فهذا ديدنها، بمن يشفي غليل شهوتها وعلى عينك يا تاجر بينما آمال حافظت على نبلها رغم خيانة حبيبها لها.

7- توظيف التناص بمختلف أشكاله من التناص الديني  والأدبي والتاريخي والفلسفي، والكل حافل وحاضر في الرواية .

8.الرواية موشاة بالفلسفة وأقوال الفلاسفة، وقد أخضع المؤلف آراء الفلاسفة والحكماء وأطّر بها فكر الرواية.

تصويبات

ص  8 في منزلها المتواجد  والصواب: في منزلها الكائن والتواجد هو اللوعة والشوق من الوجد.

ص 9 كلما رآها تتأمله كثيرا  والصواب: كلما رآها تأمتله كثيرا 

ص9 تتذكروقت كانت طفلة . يجب فصل الكلمتين عن بعضهما.

ص15 الفضاء وكلاسيكيته كافية لتعيدني والصواب:  الفضاء وكلاسيكيته كافيتان لتعيداني

ص 17 فتيات حسناوات يرفقنه والصواب: فتيات حسناوات يرافقنه  ومثل هذه الأخطاء تكرر كثيرا دوما أشير.

ص 17 لا يأبه بالبصاصين والمتدمرين والصواب: لا يأبه بالبصاصين والمتذمرين

ص17 كن يرفقنه نحو الخلود   والصواب: كن يرافقنه نحو الخلود.

ص 17 كلما ابتعد عنهم شبرا كلما اقترب من النعيم ذراعا  يجب حذف "كلما" الثانية  فلا تتكرر.

ص 19 ثم يرفعه للفوق والصواب: ثم يرفعه فوقاً أو لفوق.

ص23 بقدر ما أشعره بالرضى  بقدر ما زاده عند الاستيقاظ شعورا بالاضطراب والصواب:  بقدر ما أشعره بالرضى  زاده عند الاستيقاظ شعورا بالاضطراب .

ص 25 كلهم رأوا شمس ابتسامتها إلا سعد والصواب:  كلهم رأوا شمس ابتسامتها إلا سعداً

  ص32 يقال أن القبة تبنى حبة حبة .... والصواب: إن وليس أن.

ص 39 أنظر حولك أيها الرجعي. والصواب: انظر حولك أيها الرجعي...همزة وصل لا قطع

ص 41 فاسمح لي بأن أقول لك أنك لست رجلا     والصواب: فاسمح لي بأن أقول لك إنك لست رجلا    

ص 45 ماذا تفعل هنا لوحدك والصواب: وحدك.

ص 46 حرصت كريستينا ألا يفارق سعد  شقتها لوحده.. والصواب: حرصت كريستينا ألا يفارق سعد  شقتها وحده

ص 49 أُنظري جيداً  والصواب: انظري جيداً  ..همزة وصل لا قطع.

ص 50 لذلك أُنظري كيف يحاول سحبها  والصواب لذلك انظري كيف يحاول سحبها  همزة وصل لا قطع.

ص 64 صدرها الشبه عاري والصواب: صدرها شبه العاري

ص 64 وإلى أي درجة والصواب: وإلى أية درجة

ص 69 ليتبدى فوق الأراضي  الأخرى عقلاً مريضاً والصواب: عقلُ مريضٌ

ص 81 في حضن حديقة المسيرة المتواجدة والصواب: في حضن حديقة المسيرة والواقعة..

ص 108 فلماذا إذن أمشي لوحدي؟ والصواب: فلماذا إذن أمشي وحدي؟

ص 113 فإن هذه المدينة تستفز ذزق الحب فيك = والصواب: فإن هذه المدينة تستفز ذوق الحب فيك أو نزق

ص117 حب بطعم الأزمنة أمراً مقدساً = والصواب:حب بطعم الأزمنة أمر مقدس.

ص 117 أغلقا قفلا كتب عليه إسميهما والصواب: اسميهما همزة وصل لا قطع

ص 124 ليستيقظ ابنيّ        والصواب ابناي

ص 127 وتركني لوحدي والصواب: تركني وحدي

ص 127 قال أنه يرغب في أن يمنحني هدية والصواب: قال إنه يرغب في أن يمنحني هدية

ص 128 كنا نمارس الرياضة لمدة ساعتين والصواب: كنا نمارس الرياضة مدة ساعتين.

ص 130 اصمتي وإلا قتلتك والصواب: اصمتي همزة وصل

ص 153 الغرفة التي يتواجد بها سعد والصواب: الغرفة التي يقيم فيها سعد.

ص 168 تجاه الأعراق الغير أوروبية والصواب: اتجاه الأعراق  غير الأوروبية.

ص 168 وكتبنا عليه إسمينا  والصواب: وكتبنا عليه اسمينا...همزة وصل لا قطع.

ص202 حتى يشعر المرأ بالاختناق والصواب: حتى يشعر المرء بالاختناق

211ص  وكان كلما اقتربت الحافلة من القرية الصغيرة اليتيمة يزداد والصواب: وكان كلما اقتربت الحافلة من القرية الصغيرة اليتيمة ازداد 

ص 215 قال لها أن الموت ليس شيئا شريرا والصواب: قال لها إن الموت ليس شيئا شريرا.

وكتب عفيف قاووق:

في روايته كلانديستينو على جسر باسانو، يتطرق الكاتب المغربي حسن المصلوحي إلى قضيّة المهاجرين قسراً وسراً من بلدانهم العربية نحو أوروبا عموماً وإيطاليا خصوصاً، محاولاً إبراز المعوّقات التي تعترض هؤلاء المهاجرين ونظرة الإستعلاء او الإشمئزاز التي قوبلوا بها من قبل السكان الأوروبيين.

   رواية كُتبت بأسلوبٍ سرديّ وبلغةٍ واضحة ومتناسقة، اتّسمت في بعض المواضع   بالشاعريةّ والحسّ الفنيّ، حيث أورد الكاتب في متن روايته بعض النصوص الشعريّة والأدبيّة لبعض الشعراء مثل مجنون ليلي ونزار قباني، وبعض الأناشيد الوطنيّة العربيّة، وإلى جانب السارد العليم، شهدنا بعض الحوارات بين شخوصها، وحتى بعض المونولوجات  والمناجاة الفرديّة من قبلهم، بطل الرواية هو الشاب المغربي سعد، الذي ترك بلده متوهّماً أنّ الغربة نعمة، ولكن صدمته ليالي البرد القارسة التي جمَّدت الدم في عروقه، والأحلام في صدره، وينتهي به الأمر مرميّاً في قارعة الطريق، يمرُّ العابرون قُربه فيرمقونه بنظرات احتقار واشمئزاز كما لو كان جيفة نتنة، قبل أن يلتقي بكريستينا وتبدأ معاناته وقصتّه. المتبحّر في هذه الرواية يمكن له إستخلاص محاور عدة سنتناولها ولو بإيجاز قدر الممكن، أولى هذه المحاور، والتي دون شكّ الدافع الرئيسي للهجرة، تكمن في الإشارة إلى الأوضاع المتردّية في بلداننا العربية وإنعدام فرص العمل والعيش الكريم، بعد أن خيّم البؤس على الوجوه الشاحبة التي قتلتها الحاجة والجري وراء رغيف بعيد المنال، وإن وجد فهو لا يُمضغ من فرط قساوته.  وهذه حال معظم مجتمعاتنا العربيّة، فالفقر والبطالة هما من المُسبّبات الأولى لهجرة الشباب والبحث عن فرص عمل خارج حدود الوطن، ھروباً من معیشتھم البائسة، ومن الوعود والإنتظار الذي تجرّعـوه حدّ الثمالـة بعدما طـرقوا أبواب المؤسّسات، التـي صدَّت أبوابھا في وجوھھم بحجّة قلّة الخبرة، وإن كانت هذه الهجرة محفوفة بالمخاطر حتى أصبحت القوارب التي تُقِلّ المهاجرين، تُعرَف بقوارب الموت. كل هذا يجعل من الهجرة إحدى الخيارات التي تداعب مخيّلة الشباب للهروب من جحيم الوطن، وكما يقول وديع، وهو أحد أصدقاء سعد، بأن الأوطان تحوّلت إلى سجون كبرى، بحيث أنّه عندما اعتقلته الشرطة الايطالية بسبب بيعه للكوكايين حُكم  إختيارياً بين الترحيل او السجن سنتين، فاختار السجن على أن يعود للوطن . كما أن بعض العادات والتقاليد الإجتماعية خاصّة فيما يخصّ الزواج وكثرة الإنجاب، أشارت لها الرواية بكونها من العوائق الضاغطة على الوضع المعيشي، يقول سعد "على المرء أن يعيش لنفسه لا لأجل غيره مثلما فعل رضوان ابن خالته الذي لم يتجاوز العشرين من عمره، ومع هذا فهو أب لطفلين وزوجته حامل بالثالث، لقد كسرت ظهره أعباء الحياة وبان الشيب في شعره، فسحقاً لهكذا ثقافة". 

المحور الثاني الذي تطرّقت إليه الرواية، يكمن في مسألة التعصّب والعنصريّة التي كانت سيفاً مسلّطاً على المهاجرين العرب،وكيفيّة تعامل الإيطاليّين شعباً وأجهزة أمنيّة معهم، وتذكر الرواية حادثة قيس التونسي، الذي تزوّج بإمرأة إيطالية طمعاً في الحصول على أوراق الإقامة، - وللأسف هذا حال الكثير من الشباب العربي- ليجدها لاحقاً في حضن عشيقها وعندما واجهها منتفضاً لكرامته أتت الشرطة واعتقلته؛ لتحرمه من طفليه تمهيداً لإبعادة وترحيله إلى تونس، ومن مظاهر العنصريّة أيضاً ما تتبنّاه المنظّمة المتطرّفة التي كان ينتمي إليها والد كريستينا، والتي تنادي بأن تكون إيطاليا خالية من الأوباش العرب والمسلمين الذين يحملون العنف والتطرّف، فالعرب كلهم حيوانات يجب طردهم من البلاد.

ولأننا نتكلم هنا عن العنصريّة ونظرة الإستعلاء التي ينتهجها الغرب تجاه شعوبنا، فالإنصاف يلزمنا ان نعترف أنّنا أيضاً تحكمنا ثقافات وعادات في بعض جوانبها، تجعل الغرب في حالة توجّس وحذر من التعامل معنا، يكفي أن نشير إلى ما ورد في الصفحة 39 من الرواية وكيف تذكّر سعد توصيات والديه له، "أمّه توصيه بألا يتزوّج إيطاليّة، لأن الأجنبيّات كافرات بالله كما تقول. وأيضاً والده يقول له بأنّ النصرانيّات لا يصلحنَ للزواج، لأنّهنّ لا ينجبنَ أطفالاً كُثر ولا يحتشمنَ أمام الناس". أمّا في الصفحة 223، يستغرب سعد كيف يتمّ استقبال الأجانب في بلداننا العربيّة بكل حفاوة ويقول "مساكين هم العرب، لا يدركون أنّ هؤلاء لا يستحقّون لا الحبّ ولا الإحترام". ولا ندري هنا إذا كان هذا رأي الكاتب نفسه، لأنّه إعتبر أن سعد كان محقّاً عندما قرّر أن يتناول الحياة من منطلق جديد، بقوله "سنكون مجانين إن نحن حملنا أبناء العاهرات محمل الجد، هؤلاء  يُفترضُ أن نتعامل معهم على أنهم والعدم سواء".

نقطة أخرى أودّ الإشارة إليها فيما خصّ المرأة،  فقد أظهر الكاتب وكأنّ المرأة العربية أو الفتاة بشكل خاص إذا ما هاجرت، فإنّما تهاجر لتبيع جسدها وهذا برأيي لا يمكن تعميمه أو الركون إليه، خاصّة في عصرنا الحالي،  فقدّمت لنا الرواية سميحة التي هاجرت نحو الخليج، لا تمتلك من المؤهّلات إلا تلك المؤخرة المكتنزة وذلك الصدرالذي يغري الجميع، وأنّها تُرسل المال لوالديها نتيجة إمتهانها بيع الجسد، وأصبح والدها من الأعيان، وكأنّ المقولة تصًح هنا بأن الغنى يستر الزنا،  وأنّ الغاية تبرّر الوسيلة كما يقول ميكْيَافيلِّي، ففي موضع آخر يحاول سعد تبرير علاقته بكريستينا وتنازله عن مبادئه، حيث ينقل لنا مناجاة مع صوته الداخلي الذي يقول له: كُن نذلاً لكن كُن واضحاً مع ذاتك، جوع والديك يا أيّها المَنْسِي لا يُؤمن بالأخلاق، منذ اليوم عليك أن تأخذ سميحة مَثلك الأعلى؛ لأنّها صريحة مع ذاتها، ولا أحد يستحقّ التعامل معه بأخلاق غير أمك وأبيك،" يؤسفني يا صاحب الشعارات الفارغة أن أقول لك أن مؤخّرة سميحة صنعت الرفعة لوالديها، بينما عقلك لم يوَرِّث والديك إلا الفقر والحاجة، وعليه فإن مؤخّرة سميحة أفضل من عقلك". برأيي هذا تجنٍّ وظلم للمرأة العربيّة المهاجرة والعاملة في سبيل تحصيل رزقها، وإظهارها على شاكلة سميحة.

هذا فيما يخص المرأة العربيّة أمّا في موضوع الشباب العربي المهاجر أيضاً قدّمت لنا الرواية نماذجَ عنهم يحملون دليل إدانتهم بأنفسهم، عدا عن كونهم مهاجرين سرّيين دخلوا البلاد خلسة، وهذا الدخول بحكم كافًة الأعراف والقوانين الدوليّة يعتبر مخالفة، إلّا انّ الأهمّ من هذا، أن تظهر الرواية الشباب العربي المهاجر وكأنّه شباب مُنحلّ أخلاقياً مثل العربي نوفل الذي قدّمته بكونه لوطياً ينكح الشواذ مقابل أجر مالي، وأيضا وديع الذي اعتقل بسبب بيعه الكوكايين. وحتى حسن رغم صدق مشاعره إلا انّه قُدّم لنا كخائن لحبيبته آمال. أيضا تصف كريستينا حسن عندما دخل بيتها بأن "جحظت عيناه حين رأى فخذيَّ من تحت تنورتي القصيرة، فنسِيَ نفسه ونسيَ صديقه وصار أسيرا بين فخذيَّ وفتحة صدري.159" هذه النماذج تعطي صورة غير مشجّعة عن الشاب العربي المهاجر وتقدّمه بأنّه  يستسهل الخروج على القانون ويرتكب كافّة الموبقات والحماقات.

أشارت الرواية إلى حالة قد نجدها عامّة او مبرّرة أحياناً، وهي ردّة الفعل العكسيّة التي تنتاب الفرد عند تعرّضه للظلم، ممّا يولّد لديه نقمة على الجميع وإتّهامهم بأنّهم تخلّوا عنه، ويصل في نقمته هذه أحيانا إلى معاتبة الله وحتّى إلى رفض وجود هذا الإله، وهذا ما نلحظه في مناجاة كريستينا مع الله، ووصولها لدرجة الإلحاد به، هي حالة كما قلنا يمكن إسقاطها أيضا على حالات مشابهة في مجتمعاتنا، خاصّة بعد انتشار الحركات المتطرّفة والداعشيّة التي تقتل وتستبيح الأرض والعرض باسم الله والدين، بحيث يصل المرء للقول إذا كان الدين هكذا فبئساً له من دين. أما كريستينا فتقول : لم أقتنع يوماً بتعاليم القساوسة الذين كانوا يظهرون لي مجرّد مشعوذين، بل قتلةً مُتوارين خلف ثياب الفضيلة والزهد والتسامح. وهنا أسأل الكاتب هل هو لجأ إلى التورية لإيصال رأيه بما نشهده من ممارسات بإسم الدين فترك كريستينا تدلو بدلوها فيما يخص نظرتها إلى الكنيسة، في حين أن المراد الذي يهدف إليه الكاتب التصويب على ما نشهده من ممارسات باسم الدين حتى الدين الإسلامي؟.

   لم يشَأ الكاتب في هذه الرواية إلّا أن يمرّ على ذكر بعض الطروحات الفلسفيّة، ومن هذه الطروحات علاقة الفرد بربّه وهل هي محكومة  بالنفعيّة التي أصبحت قانوناّ تحتكم إليه الإنسانيّة كما تقول كريستينا، فلو كان الله مجرّد فكرة خالصة لمن آمن به البشر، ولو كانت الأديان محض أفكار مجرّدة لا تنتج عنها فائدة عمليّة لما اعتنقها أحد، ولأنّنا نخاف اصطلاء النار ونتوق للتنعم في الجنّة فإنّنا نؤمن بوجود الله 95.

وفي موضع آخر، نجد الدعوة الى إعمال العقل والإيمان بضرورة التجدّد والتنوّع والإختلاف، وضرورة ان يقوم الفرد بعمليّة نقد ذاتي لسلوكيّاته ومعتقداته لأن الإنسان مُنح عقلا لكي يُخضع نفسه لنقد ذاتي دائم ليكتشف ذاته بصورة أفضل، وأن التنوع والإختلاف من السنن الطبيعية، فالمأساة الحقيقية هي أن نكون نمطيّين متشابهين، أو نُسخا متطابقة تصادق على قول بعضها البعض دون تفكير، وتبصم على ذلك بالعشرة دون تأمل معتقدين أن طريق الحقيقة هو طريق198.

وكذلك تثير الرواية مسألة العمل على أنّه أساس ودليل على وجود الفرد، "العمل شيء مقدّس وقيمتك لا تستمدّها إلّا من وضعيّتك داخل صيرورة الشغل، ومتى توقَّفتَ عن الانتاج توقفتَ عن الوجود، وكأنها نسف لمقولة ديكارت الذي يقول أن التفكير هو أساس الوجود". وأيضا تعيدنا الرواية إلى أسطورة الإله زيوس فيما يخصّ الحُبّ، ذلك الحبّ الذي وُلد من جُرح كما يقول الشاعر أريستوفان، أننا كُنّا بشراً بشكل مختلف، برأسين وأربعة أذرع وأربعة سيقان كما تقول الأسطورة، وأنّ الإله زيوس قرّر أن يهوي بسيفه على أجسادنا شاقّاَ كلّ واحد منّا إلى شقّين، ومنذ ذلك الحين لا زلنا نهيم باحثين عن نصفنا الآخر الذي فقدناه.

       من خلال رسالة والد كرستينا وإعلانه التوبة من الجماعة المتطرّفة، وأيضاً ما أدلى به سعد أثناء جلسة المحاكمة، يقدّم لنا الكاتب رؤيته ونظرته للعالم ودعوته للعيش بسلام دون تمييز ولكن يبدو أنّ هذه الدعوة لم تؤتَ أكُلها في الأوساط الإيطاليّة، فبقي التمييز العنصري قائماً بالرغم ممّا ورد في رسالة والد كرستينا الذي كتب: "أقِرُّ أننا لا نتميّز عن الآخرين بشيء، وأن المجد كل المجد للمساواة والمحبّة والسلام، وأن المذلّة للتمييز والحقد والكراهية والرغبة في الهيمنة وإستعباد الآخرين. أما سعد الذي أدلى بمرافعته أمام المحكمة والتي أبكت كلّ إيطاليا كما جاء في الرواية، كونه جاء إليها بقدميه ليتحوّل إلى قطعة لحم لا تقوى على الحِراك، لقد وضع سعد إصبعه على الجرح في عمليّة بحثه عن أصل المشكلة، يقول مخاطباً هيئة المحكمة: "ما قامت به هذه المرأة لا يُنسب إليها وحدها، بل هو انعكاس لثقافة اجتماعيّة يتمّ بثُّها في قنواتكم الاعلاميّة وتكريسها في قوانينكم، أنتم تُعادون كلّ القيم الانسانيّة وتُنافقون، وفي معرض مرافعته هذه يقوم سعد بتذكيرهم بأنّهم سرقوا ما احتوته مكتبات بغداد والأندلس ومصر،  مستفيدين من كافة العلوم عند العرب كمبادىء الرياضيات والفلك والهندسة وغيرها. داعياً إلى التلاقي والتعايش السلمي بين الشعوب،"الإنسانية فسيفساء فسيحة، فيها من كلّ لون ومن كلّ شكل، فيها العرب والعجم، البيض والسود، وغيرها من مختلف الأعراق والأجناس". بالمحصّلة وبعد رسالة والد كريستينا ومرافعة سعد في المحكمة، يبدو أن لا شيء قد تغّير في سلوكيّات الناس، وأنّ حوار الحضارات والثقافات لا يزال في بداياته، بدليل أنّ الجرائد قد عنونت صدر صفحاتها في اليوم التالي بعبارة أعيدوه من حيث أتى.

 لا بد من تسجيل بعض الملاحظات على هامش الرواية، حيث أجد أنّ هناك نوعاً من المبالغة في حوار أشرف مع رجال الشرطة يقول "رغم أنّي بلا وثائق إقامة فلا يجب أن تعاملوني بهذه الوضاعة أيها الصعاليك العنصريّون". وفي موضع آخر وبما يشبه المرافعة، يقول أشرف مخاطباً رجال الشرطة، أيّها العنصريون، يا من تدَّعون التحضُّر وتنسبون لنا الهمجيّة، أليست الهمجيّة هي ما اقترفتموه في حقّ أجدادنا؟ ألم تقتلوا الشيوخ والأطفال  والأرامل، إنّ دماء شهدائنا في الرِيف المغربي وصحراء الجزائر وليبيا شاهدة على بربريّتكم أيها القتلة المجرمون.

    حوار سعد مع كرستينا بعد صلبه، وإستعماله للتسجيل وكيفيّة إستدراجها لتتذكّر حقيقة ما جرى لوالديها ولها في الميتم، كان غير مقنعا مع الإعتراف بجمالية الفكرة، الهاتف اخذ منه عندما اتصلت كريستينا بصديقه حسن فهل أعادته له ليضعه في جيبه ومتى وكيف تمّ شحن الهاتف طيلة فترة تعذيبه.

    كما يستغرب القارىء ويتساءل، كيف لهذا المتشرّد أن يداوم يوميّاً على ارتياد المقهى واحتساء قهوته المفضّلة، بل انّه أيضاً يمتلك هاتفاً نقاّلاً يتّصل بواسطته بأصدقائه. كما أنّ الرواية أظهرت سعد بصورة الرجل المتسامح والمتعالي عن أيّ خطأ أو خطيئة إرتكبت في حقّه، بادر المحكمة بالقول أنا أبرّىء كريستينا وأغفر لها كل ما حدث. 

مع ملاحظة هامشيّة هنا وهي اقتحام خصوصيات الآخرين، سعد سمح لنفسه بإقتحام خصوصيات كريستينا، إطّلع على مذكّراتها وقرأها، وفتح حاسوبها الشخصيّ خفيةً عنها.

    يبقى أن نشير إلى انّ الهجرة لا تزال حلماً يراود الكثير من الشباب العربي الذي يجد فيها طوق النجاة، بالرغم من المآسي التي انتهى إليها العديد من المهاجرين، وهنا نتذكّر عودة أشرف الى القرية بعد ترحيله من إيطاليا، عاد إلى بلاده وتحوَّل إلى متشرّد ينام على قارعة الطريق، يحكي لشباب قريته عن الفتيات الشقراوات بالمراقص وعن الأزقّة الرومانسيّة المرصوفة بالقبلات. أما شباب القرية فكانت قوارب الموت تزُفُّ أرواحهم واحدة تلو أخرى على شطآن الأبيض المتوسط قربانا لإله وهميِّ إسمه أوروبا.

ختاما رواية كلانديستينو على جسر باسانو لا شك اثارت قضية جدلية وضاغطة ترخي بظلالها على مجتمعاتنا العربية، ممّا يستدعي التوقّف عندها للبحث عن الحلول الناجعة التي تبعد عنّا تناول مرارة هذا الكأس.

sfgdnhd1015.jpg

عن دار ببلومانيا للنشر والتوزيع في جمهورية مصر العربية، صدر مؤخراً الديوان الشعري الأول للشاعر لطفي مسلم، وجاء الديوان تحت عنوان "قلب مصاب بالحكمة"، ويقع في (124) صفحة من القطع المتوسط، وسيكون الديوان متوفرا في معرض القاهرة الدولي لهذا العام في جناح الدار.

وفي تقييم خاص بلجنة تحكيم جائزة منف للآداب العربية، وقد سبق للشاعر أن تقدم للجائزة بهذا الديوان كتب أ. عاطف عبد العزيز الحناوي: "غلبة الحكمة على قصائد الديوان وفي هذا اتساق بين العنوان وبين محاور القصائد" وهو كذلك "كلاسيكي اللغة والتصوير"، واشتمل على "بعض الاقتباس من القرآن الكريم مثل قصة الخضر وخرق السفينة".

يتألف الديوان من (63) قصيدة ومقطوعة شعرية التزم فيها الشاعر الشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية، وتنوعت موضوعاتها ما بين الذاتي والوطني والإنساني إلا أنها كلها قد اتسمت بميسم واحد من "الحكمة" و"التعقل"، ولذا فقد غلب على هذه القصائد الإيقاع الهادئ والعقلانية في مناقشته للأفكار التي تناولتها.

تناولت قصائد الديوان في الحديث عن بعض الشخصيات العربية التي كان حضور في الوجداني العربي، وأهمها قصة الطفل المغربي "ريّان أورام" الذي قضى نحبه بعد حادثة سقوطه في بئر عميقة، في حادثة مؤثرة تابعها ملايين المشاهدين عبر العالم، كما تحدث عن علاقة فلسطين بالجزائر، وعرّج على مئوية الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان واستشهاد شيرين أبو عاقلة، واستشهاد بعض المناضلين الفلسطينيين.

عدا عن تناوله قضايا الحب والصداقة والعلاقة بالأب والأم وغيرها من القضايا الحياتية التي يحاول الشاعر أن يرسم صورة للإنسان الجميل في أخلاقه وتعاملاته مع الآخرين، وأن يعيش الحياة كما ينبغي، هادئا مطمئناً، بعيدا عن الحقد والحسد والتطرف الديني، متمتعا بخلق التسامح وحب الخير للناس.

وأما على المستوى الفني فقد اتسمت قصائد الديوان بما تتسم به قصائد الحكمة من الاهتمام بالموضوع وسبكه بلغة مؤثرة بعيدة عن التعقيد الأسلوبي والصور البلاغية، فجاءت لغته سلسة وأفكار القصائد مترابطة، تتخللها أبيات الحكمة المشتقة من الموضوع أو تنتهي بدرس حياتيّ بليغ ينصح الشاعر به قرّاءه.

والشاعر لطفي مسلم من مواليد قرية تلفيت في محافظة نابلس في فلسطين عام 1990، درس تكنولوجيا المعلومات في جامعة النجاح الوطنية، ويعمل إداريا في إحدى المدارس الفلسطينية. شارك مسلم كذلك في أمسيات شعرية متعددة، ونافس على عدة جوائز شعرية، وحاز على بعضها.

المزيد من المقالات...