ghdgffhgh989.jpg

صدرت رواية اليافعين "مايا" للأديب المقدسيّ جميل السلحوت هذا العام 2022، وتقع في 102 صفحة من الحجم المتوسط، ويحمل غلافها الأّول لوحة للفنّان التّشكيليّ محمّد نصر الله، ومنتجها وأخرجها شربل الياس.

رواية ممتعة مشوقة كتبت بلغة سهل مناسبة لليافعين ولجميع الأعمار من هواة القراءة والمطالعة.

-- تحمل الرواية بين طياتها وسطورها العديد من القيم والمعاني التربوية الوطنية والإنسانية والمعرفية.

-- شخوص الرواية هم في الواقع حقيقيون بوجودهم وأسمائهم .. كالأجداد الأفاضل الجد جميل والجدة حليمة، وأبنائهم من بينهم قيس وزوجته مروة وبناتهم لينا وميرا ومايا، المغتربون في شيكاغو وكذللك جيرانهم التلحميين "بيت لحم" داوود وعبير وابنتهم ميلسا والجدّة هالة التونسية وبناتها مروة وصفاء والعم احمد وغيرهم.

- يسلط الكاتب الضوء في روايته على الطفلة (مايا) تلك الطفلة الذكية الخلوقة المحبة لوالديها وأجدادها، ولوطنها الأمّ فلسطين ومدينة القدس مسقط راس والدها قيس وجديها في جبل المكبر.. ومدى تعلقها بهذه المدينة الساحرة والوطن الجميل بكل تفاصيله.

- ص 15 في الحديث الذي دار بين مايا وجدتها هالة التونسية والمفارقات بين مدينة قرطاج ومدينة القدس، فكلتاهما من المدن القديمة والجميلة بعمرانها وتفاصيلها، إلا أن مايا خاطبت جدتها قائلة بأن"في  القدس أشياء لا توجد في غيرها من مدن العالم تماما مثلما لاتوجد مدين تشبه القدس" حيث بدأت بتعداد معالمها الدينية والتاريخية غير الموجوده لا في قرطاج ولا في أيّ مدينة من مدن العالم.

- تأثير حكايا الأجداد للأحفاد عن القيم النبيلة المتمثلة في حب الوطن والتعلق به .. وانعكاس ذلك بالإيجاب على عقلية الأحفاد وترسيخها في ذهنهم. كحديث الأجداد جميل وحليمة لحفيداتهم عن مدينة القدس وعظمة تاريخها ومقدساتها، وأسواقها وأسوارها وروعة سكانها وهوائها .. إلخ بل واصطحابهم للحفيدات لزيارة تلك الأماكن السياحية لتعزيز قيمة حب الوطن فيهم. 

- جاء في الرواية توجيه للتلاميذ القراء خصوصا المغتربين منهم لالتقاط الصور التذكارية في الأماكن المقدسة في القدس وغيرها من مدن فلسطين، فذلك فيه تذكير دائم للأطفال المغتربين بوطنهم الأمّ، وحديثهم لزملائهم عنه عند التقائهم في ساحات المدارس.. كتبادل أحاديث كل من مايا وأخواتها مع جيرانهم التلحميين وزميلتهم عنود التي يقطن أجدادها في الأردن، وهم من أصول أردنية وأحاديثهم المشوّقة عن القدس وفلسطين، سواء من خلال سماعها من قبل الأجداد أو من خلال تكرار الزيارات المباشرة لها .. وعن ذاك التبادل الثقافي والمعرفي حول زيارة مدن فلسطينية من قبل مايا وأخواتها، وزيارة أماكن ومدن تاريخية في الأردن من قبل عنود .. فهذا التبادل الثقافي بين الزملاء يثري المعرفة لدى كل منهم.

- جاء في الرواية ذكر للعديد من المعالم التاريخية في بلادنا كالقدس، حيفا، يافا، عكا وغيرها من مدن فلسطين التاريخية.

- ورد في الرواية تعريف بقرب الحدود بين الضفة الشرقية ( الاردن) والضفة الغربية( فلسطين) حيث يفصل نهر الأردنّ بينهما، مشيرا الى الاحتلال الغاشم الذي يقف عائقا دون الوصول بوقت قصير الى كل من الضفتين .. بالرغم من قصر المسافه بينهما. 

- ص22 و23 حديث مايا لصديقتها عنود عن الاحتلال الوحشي وممارساته الجائره بحق المصلين والاعتداء على الماره عند باب العمود.

- ص 24-25 المشادة الكلامية التي جرت بين مايا ومعلمتها في الصف حول صور لمسجد قبة الصخرة والمسجد القبليّ في الأقصى والتي كانت بحوزة مايا وادعاء المعلمة أنها صور لجبل الهيكل، مما أثار ذلك غضب مايا وزميلتها عنود وآخرين .. وإصرارهن على هويتهن الفسطينية العربية، وإن كانت مايا مسلمة وميلسّا مسيحية، فلا فرق بين مسلم ومسيحي في بلادنا .. مما أشعر ذللك المعلمة أنها في ورطة صعبة فتركتهن وشأنهن..

- ص 46 أمثال عديده تناولها الكاتب في روايته مايا .. كحب الأجداد للأحفاد ( ما أغلى من الولد الا ولد الولد )  وغيرها من أمثالنا الشعبيّة. 

- ص 52-55 توجيه الوالدين قيس ومروة  لبناتهما لأهمية استخدام اللغة الأمّ  اللغة العربية، وذلك من خلال التحدث معهن بالعربية، ومن خلال برامج الأطفال العربية التي تبثّها الفضائيّات العربيّة، وكذلك عن طريق الأغاني والأناشيد بالعربية .. كإعجاب مايا وحفظها لبعض أغاني فيروز مثل تك تك يا ام سليمان .. وطلعت يا محلا نورها .. وأناشيد من بلادنا مثل شمست شميسه وغيرها ..

- ص 64  جء في الرّواية إشارة إلى مستوى الاهتمام بالفرد في أمريكا.. وذلك عندما صرختمروة  بأعلى صوتها حين رأت أفعى الحدائق مع أنها غير سامة.. والتي أطلقتها ميرا لتحبو على سجادة الصالة.. وعند سماع الجيران للصراخ اتصلوا بالشرطة التي بدورها لبت النداء على الفور .. حضروا ثم انصرفوا بعد تحققهم من سبب الصراخ ..

- ومن طريف ما قرأت في الرواية هو خوف جد مايا من الأفاعي حتى لو كانت ميتة، مع انه كان قد أكل في طفولته لحم ثعلب ولحم ضبع..ص 62. 

-  في الرّواية توجيه للتلاميذ القراء حول الاهتمام بثقافات الشعوب كما عن دول الصين وكوريا وفيتنام وغيرها واصطيادهم الأفاعي، ليأكلوها كما يأكلون الحشرات والجرذان والصراير وغيرها.

- في الرواية تعريف ايضا بالوطن الأمّ وطن الآباء والأجداد الذين ولدوا فيه وعاشوا وماتو ودفنوا فيه، وطننا الأمّ فلسطين .. وفي الرواية دعوة القصوى لعودة المغتربين الى البلاد  وانخراطهم في مجتمعهم والمشاركة في بنائه والحفاظ عليه من الغرباء.

- في الصفحات 70-80  اثراء معرفي للقراء من حيث الوصف الدقيق والمشوق لشلالات نياغارا، والتي زارتها أسرة قيس ومروة في عطلة عيد الميلاد المجيد القصيرة .. مفضلين بذلك زيارة البلاد في العطلة الصيفية الطويلة للاستمتاع بمشاهدة القدس، وبعض المدن الفلسطينية بين الأهل والأجداد .. إلا أن جائحة كورونا حالت دون تحقيق هذه الزيارة التي لطالما انتظرتها مايا وأخواتها طويلا ... ص 97-98 .

- التعريف برياضة اليوجا كإثراء معرفي للقراء التلاميذ .. ص92 .. والتي تعرفت عليها مايا من خلال امرأة عجوز كانت تمارسها في بهو أحد فنادق نياغارا.

رواية مايا بشكل عام غنية بالقيم الإنسانية والمعرفية والوطنية.. ومن بين الرسائل التربوية التي حملتها الرواية هي التأكيد على الآباء والأمّهات المغتبرين لتربية أبنائهم على حب الوطن والانتماء له من خلال وسائل عديدة كالزيارات المتكررة لبلادنا فلسطين وزيارة أماكنها المقدسّة والتاريخية. وحديثهم المستمر عن أرض الوطن بكامل تفاصيله من تراث وحكايات الأجداد، وجرائم الغزاة الطامعين في بلادنا .. وكذلك الاهتمام بتعليهم لغتنا العربية.. وهذا سيساعد كل مغترب للتفكير يوما ما بالرجوع الى البلاد والانخراط بمجتمعه الصامد وليكونوا عنصرا مهما في المساعدة في بنائه وتطويره والحفاظ عليه من عبث الغرباء.

يبقى أن نقول أن رواية "مايا" هي رواية الحنين إلى الوطن.

كتاب رسائل من القدس وإليها، من تأليف الكاتبين المقدسيّين جميل السلحوت وصباح بشير، الصادر عن مكتبة كلّ شيء الحيفاويّة، حزيران 2022، يقع الكتاب الذي يحمل غلافه الأول لوحة للفنّان التشكيليّ محمد نصرالله، ومنتجه وأخرجه شربل إلياس، في 182 صفحة من الحجم المتوسط.

لا شكّ أنّ فنّ الرسالة الأدبيّة هو أحد فنون الكتابة المهمّة في الأدب العربيّ، فقد ظهر مع ظهور الكتابة والتدوين في العصور الإسلاميّة الأولى، وازدهر في العصر العبّاسيّ، واستمرّ بقوّة في مختلف البقاع الإسلاميّة، وكان له تألّقه في العصر الحديث، حيث الرّسائل المتبادلة بين الأدباء والكتّاب والشعراء. ومع انحسار استعمال الرسائل الورقيّة، ربما بدأ هذا الفنّ العريق بالتّراجع قليلا، حين حلّت الرسائل الإلكترونيّة، والتي طابعها السّرعة والإيجاز، محلّ الرسائل الورقية، ويُأخذ على الرسائل الإلكترونيّة الردّ الانفعالي العاطفي أحيانا دون تفكير أو رويّة أو مراجعة حقيقيّة لما كُتب، ودون التّروّي والتّفكير في تأثير الرّسالة على نفس المتلقي.

ورسائل الأديب جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير هي رسائل إلكترونيّة، لكنّها لم تُكتب على عجل، ولم تكن ردا انفعاليّا، بل امتدّت لأكثر من عشر سنوات منذ عام 2010 حتى نهاية عام 2021، لذلك فهي امتداد طبيعيّ لفنّ الرسالة الأدبيّة الراسخ في الأدب العربيّ، وتطوير له؛ فاستخدام الرسائل الإلكترونيّة هنا، لم يُفقد الرسائل قيمتها الأدبيّة وجمالها ورونقها.

ويلحظ القارئ لمجموعة الرسائل المتبادلة بين الشّيخ جميل السلحوت وصباح بشير، اللغة الأدبيّة الجميلة، والعبارات الماتعة، والسّرد المشوّق، وتنوّع الموضوعات وثراءها؛ فلغة الرسالة وأسلوبها عادة ما تلائم المتلقي لها وقدرته اللغوية وفهمه، فلكل مقام مقال، والرّسالة الموجّهة لعامّة النّاس لا تكون كالرّسالة الموجهة لأديب يمتلك أدوات اللغة ويحسن فهمها، وتداعب عباراتها الجميلة وأساليبها البديعة شغاف قلبه، لذلك أبدع الكاتبان وأحسنا التّعبير عمّا كان يجول في خاطريهما، وأمتعا المتلقّي وجذباه لالتهام السطور، والسفر مع رسائلهما في أقطار المعمورة دون كلل أو ملل.

ومن اللافت في هذه الرسائل، أنّ الكاتبين لم يلتقيا إلا لماما، ولم تجمع بينهما لقاءات ولا حوارات خارج هذه الرسائل المتبادلة، فما الذي دفعهما إلى الاستمرار بالمراسلة لفترة طويلة؟ وخاصة أنّ البعد عادة ما يجعل العلاقة بين أي شخصين تفتر بعد فترة من الزمن- فالأصدقاء المقربون يتبادلون الرسائل الكثيرة في بداية اغتراب أحدهما، ثمّ تبدأ هذه الرسائل بالتّناقص حتى تنقطع أو تصبح نادرة قليلة، ولا تلبث العلاقة أن تفتر بينهما- "والبعيد عن العين بعيد عن القلب." كما يقولون. لكنّ مجموعة الرسائل المتبادلة بين الكاتب جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير، تزداد وتتابع بعد مضيّ عدد من السنين على رسالتهما الأولى! وذلك لأنّ ما جمعهما هو اهتمام مشترك، وهمّ مشترك، وأفكار متقاربة، وحبّ للّغة  والأدب،  وحبّ للوطن، وحرص على نبذ الجهل السائد في المجتمع ورفع من شأن الإنسان العربيّ، وخاصّة المرأة.

من الواضح من خلال  قراءة الرسائل المتبادلة بين الكاتبين، أنّهما لم يكتباها لكي تُنشر، وإنّما ليتبادلا فيها الأفكار والمشاعر، لذلك كانت عفويّة صادقة غير متصنّعة، وهذا ما يميّز هذه الرسّائل ويميّز فنّ الرسالة بشكل عام.

وقد امتدت الرسائل بين الكاتبين لمدة تربو على عشر سنوات، وهي سنوات حدث فيها تغيّرات كثيرة في العالم العربيّ، الذي تاق أبناؤه لحريّة ينتزعونها من أنياب الطغاة، فثاروا عليهم، وتفتّحت أزهار الرّبيع العربيّ، لتنقضّ عليه سيوف الطّغيان لتئده في مهده وتحوّل الحلم الجميل الذي استوطن قلب كلّ عربيّ حرّ إلى كابوس مزعج دفع بالكثيرين إلى براثن اليأس. وقد اتسمت هذه السّنوات القليلة، بتغيّرات اجتماعيّة وسياسيّة كبيرة جدّا، وانقسم النّاس فيها: فمن آمن بالحرّية كقيمة أصيلة، وآمن بمبادئه وتاريخه وثقافته ودينه بقوّة، لم يتزحزح قدر شعرة عن إيمانه، وتلقى الضربات المضادّة بقوة وثبات، وأصبح أكثر إصرارا على الوصول إلى شواطئ الحريّة والعزّة رغم حلوك العتمة، ومنهم من ركن إلى الطغاة وآثر سلامة العبوديّة على وعثاء الحريّة، ومنهم من شكّ بقاناعاته مع أول اختبار حقيقيّ، وانزوى بعيدا عن الأضواء ووصل إلى حالة من اليأس والإحباط، ومنهم من تملّكته الآلة الإعلاميّة للباطل فامتدّت يداه إلى معاولهم فأمعن بهدم روح الأمّة. يبدو الكاتبان، من خلال رسائلهما الممتدة خلال هذه الفترة الحرجة، ثابتين على أفكارهما، لكن بإمكاننا أن نلحظ التغيّرات الاجتماعية والسياسيّة التي حدثت من خلال هذه الرسائل. ونلاحظ التتابع في الرسائل في فترات معيّنة والانقطاع في فترات أخرى، فلم تكن هناك رسائل بين العامين 2013 و 2017 حيث كانت الصدمة كبيرة على المثقفين، ولم تتضح الأمور بعد، ثمّ أصبح الأمر بعدها واضحا جليّا لكل ذي عقل وقلب.

يتناول الكاتبان عددا كبيرا من الموضوعات في رسائلهما، وإن كان التركيز على الأوضاع الاجتماعيّة في فلسطين يأخذ حيزا كبيرا منها، ويتبادل الكاتبان شؤون الأدب وحياتهما الأدبيّة، فيتعرّف القارئ للرسائل على إنتاجهما الأدبي وعلى الحياة الثقافية في القدس وفلسطين، ويتحدّث الكاتبان عن حياتهما الشخصيّة، فتكون رسائلهما سيرة ذاتيّة مصغرة، ويتحدثان عن حياة  الفلسطيني في ظلّ الاحتلال، والتحوّلات التي حدثت في القدس بسببه، ويصفان البلدان التي زاراها فيما يشبه أدب الرّحلات، ويتحدّثان عن الأمور السّياسيّة في مواقع كثيرة، رغم أنهما يقولان أنهما يريدان أن يبتعدا عن السّياسة وهمومها، وغير ذلك الكثير. وتنوع المواضيع في هذه الرسائل يثريها.

يتفق الكاتبان على كثير من الأمور، والمشترك بينهما كبير، فهما محبان للأدب، محبان للسفر، مؤمنان بقيمة الحريّة، يزدريان الجهل، ويحفهما الأمل  بالتّغيير. لكن هناك تباين بين شخصيّتيهما، فالكاتبة صباح بشير كانت تشعر بالاغتراب عن مجتمعها، ثمّ اختارت طوعا الغربة والابتعاد عن الوطن، وعندما عادت، اختارت أن تسكن في حيفا بعيدا عن مرتع طفولتها والقدس التي أحبتها، كما تقول، ونراها تزدري العادات الاجتماعيّة العربيّة وترفع من شأن المجتمعات الغربية التي عايشتها. أما الكاتب جميل السلحوت فرغم وعيه لكل ما في مجتمعاتنا من جهل وعادات سيّئة، والتي يشير إليها بوضوح ويحاربها بقوّة، إلا أنّه لا ينفصل عن ثقافتة مجتمعه وتراثه ودينه، ويرى الخير فيها، كما يرى الاعوجاج والانحراف، ويسعى نحو الإصلاح دون الانقلاب على الثوابت ومعاداتها، يعجبه في الغرب الكثير الكثير ويذكره دون انتقاص، لكنّه لا ينحدر نحو الانبهار بحضارة الغرب، ولا ينسى ما قامت عليه هذه الحضارة من ظلم واضطهاد واستعمار وتفرقة عنصريّة والكيل بمكيالين.

"رسائل من القدس وإليها" كتاب رائع يستحقّ القراءة، يعطي صورة واضحة عن الحياة الاجتماعيّة في القدس وفلسطين، وعن الوضح الثقافيّ فيها، في فترة اضطربت فيها الأفكار والمشاعر، تمرّ الأمّة فيها بمخاض عسير، نأمل أن يسفر عن ميلاد لمستقبل جميل.

سلمى هذه قارئة، ويبدو أنها متابعة لجلّ ما أكتب، أو على الأقل ما ينشر لي في موقع جريدة رأي اليوم الإلكترونية، وهي كذلك ذات لغة جيدة في التعليق والتعقيب على المقالات والنصوص المنشورة. أقرأ لها تعليقا على مقالة كتبتْها الصديقة الكاتبة صفاء أبو خضرة تناولت فيه كتابي "استعادة غسان كنفاني"، ونُشرت المقالة في الموقع بتاريخ: 11/7/2022، ثم عادت لتعلق على مقالة الرفيق عمر كتمتو حول الكتاب نفسه، وقد نُشرت المقالة أيضا في الموقع ذاته بتاريخ: 12/7/2022 لتؤكد الملحوظة الخاصة بعنوان الكتاب، لترفضه هذه المرة رفضا باتا ونهائيا.

هل كان تعليقها مزعجاً في المرّتين؟ لا أظن أنه يصل إلى درجة الإزعاج، لكنه مستفزّ بمعنى ما، أي يدفع الكاتب للكتابة، لأن الصورة التي في ذهن "سلمى" عني صورة مشوّهة كثيراً للأسف، وأنا هنا لا أصحح الصورة، ولا أحاول أن أزيل عنها الغباش، وما تراكم عليها من غبار، إنما لأوضح أكثر ما كنتُ كتبته يوما تحت عنوان "كيف يصنع القراء الصورة؟"، إن أي صورة لأي كاتب في ذهن أي قارئ هي صورة ناقصة بالتأكيد لاعتبارات كثيرة؛ أهمها عدم القدرة على الإحاطة والشمول بكل عوالم الكاتب الكتابية والنفسية، فالقراء، ومنهم سلمى، يحكمون على ما تخايل لهم من صورة في تلك الكتابات.

في تعليقها الأول؛ أظن أن الصورة بعيدة درجتين حسب هذا المقال؛ الدرجة الأولى أن الكاتبة صفاء أبو خضرة استنتجت صورة ظنية لي من خلال كتابي، وهذا حق كل كاتب أو ناقد؛ فكل كتاب يحمل صورة لكاتبه، يطلق عليها في النقد "الكاتب الضمني" أو "المؤلف الثاني"؛ وهي الصورة التي قد تصل للقراء من هذا الكتاب، وهذه الصورة هي صورة متوهمة ومتخيلة، لكنّ لها شروطاً موضوعية لرسمها قد تساعد فيها الأفكار، وطريقة تناولها، وحدة مناقشتها، وطبيعة اللغة المستخدمة، والتوتر العاطفي، وما إلى ذلك من شروط، وقد لا تكون هي صورة الكاتب الحقيقية، وقد تلتقي مع بعض صفاته، وأحياناً قد تتطابق تطابقا تاما، مع ندرة هذا الاحتمال.

أما الدرجة الثانية في ابتعاد صورتي في "عيون سلمى وفكرها" أنها رسمت لي صورة أخرى أكثر توهما وبعدا من خلال نسجها من الصورة المتخيلة التي تكونت في "عيون صفاء أبو خضرة ومقالتها"، فكأنها رسمت صورة متخيلة عن صورة متخيلة أخرى؛ صورة بعد صورة، أو محاكاة المحاكاة، فابتعدت مرتين، فإذا كان الكاتب أو الناقد وهو يحلل كتاب كاتب آخر يرسم صورة هي غير متطابقة قطعا، وبعيدة، فمن يرسم صورة أخرى لهذا الكاتب من خلال المكتوب عنه سيبتعد خطوتين، وتصبح الصورة مشوّهة وغير حقيقية.

ما هي الصورة التي رسمتها لي سلمى في تعليقها على المقال؟

أستطيع تتبع تلك الصورة في أنني "كاتب غير دقيق"، فخطأتني في عنوان الكتاب، فغسان "حي في نبض كل الأحرار الشرفاء ولا يحتاج إلى استعادة"، هذا يمسّ صنعة الكتابة وعصب الكتاب وفكرته الأساسية، مع أنها- وهذا جزء من التشويه المضاعف- لم تقرأ الكتاب، تعود في التعليق مرة ثانية لتكتب بشكل قاطع اعتراضها على العنوان بهذه الصورة: "عنوان كتاب الشاعر فراس حج محمد ليس موفقا… أنا قد اعترضت عليه لأن العنوان يوحي بأن الشاعر فراس قامة أدبية عملاقة أكثر من غسان كنفاني نفسه، وهذا بالطبع يجافي الحقيقة تماما!!!! وأرفضه بشكل مطلق!!!!! وحيث إننا بشر فلنا الظاهر ولا نستطيع معرفة نوايا مؤلف الكتاب!!! ومن فحوي مقالك هذا أستطيع الاستنتاج بأنك في البداية اعترضت على عنوان الكتاب مثلي تماما… ولكن بعد اتصالك بالشاعر فراس وافقت على عنوان الكتاب".

وحيث أن اتصالك كان على هيئة سؤال فرض رؤيتك على المؤلف الذي أجاب بنعم لرؤيتك وتوجهك الوارد في صيغة السؤال ولم يترك للشاعر فراس أية خيارات اخرى سوى تبني رؤيتك المفروضة عليه… مما يدعوني للتشكيك بصدق مقصد الشاعر فراس… وبالتالي ما زلت معترضا على عنوان الكتاب…. ولو صدقت النوايا بإمكانه تصحيح وتغيير عنوان الكتاب.".

إن في هذا التعليق كما هائلا من الاستهجان، يدل على ذلك علامات التعجب التي تستخدمها "سلمي" في تعليقها، وأظنّ أنها لو قرأت الكتاب ربما لغيرت وجهة نظرها، وأنا أهيب بها- إن قرأت هذا الرسالة- أن تراسلني على البريد الإلكتروني لأرسل لها الكتاب إلكترونيا، فهو متاح (بريدي الإلكتروني) إن بحثت عنه، وستجده إن كانت معنية بتصحيح هذا الخطأ الذي وقعتْ فيه، أو تعزز خطأي أيضا الذي وقعتُ فيه، كما قال القرآن الكريم: "فإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين"، أو على الأقل لتشرح لي كيف يوحي العنوان بأنني قامة أكبر من غسان. هذه النقطة تحديدا لم أفهمها. في هذا التعليق أبدو أيضا مغرورا ونرجسيا كثيرا، ربما ومتطاولا على العظماء كذلك.

الملمح الثاني لهذه الصورة المستقاة من التعليق الأول هي أنني "حسود"؛ أحسد غسان كنفاني على محبوبته غادة السمان، وأتمنى أن يكون لي حبيبة كغادة. هذا أيضا- كما جاء في الكتاب- له سياق كامل متكامل وضعت فيه هذه الأمنية. إنّ موضوع الحسد والغيرة موضوع مبرر لو كنت أنا وغسان من جيل واحد أو متنافسين على أمر واحد أو أنّ كلينا يحب امرأة واحدة، متعلقيْن بها، أما أن أكون ولدت بعد استشهاد غسان بثلاثة عشر شهرا تقريبا، فكيف سأحسده؟ هذا من باب المقاربات غير اللازمة، ولا تدخل في حساباتي ككاتب. هذه الصفة صفة نفسية قاسية ومقيتة، ولن تصدقني "سلمى" لو دافعت عن نفسي في ذلك، ولو عرفت علاقتي بالزملاء الكتاب والكاتبات لم تقل ذلك، ولم تُلبسني هذه الصورة المشوّهة، ولو قرأتْ ما كتبته تحت باب "غسان كنفاني وأنا" لربما أيضا رأتني بصورة أكثر إيجابية.

كتابتي عن غسان كنفاني كونه مثقفا وعظيما وكاتبا مُهمّاً، أحبّ وأرغب أن أحقق ما حققه من تأكيد صدق مواقفي تجاه الأشياء؛ مثله تماماً، كونه كاتبا قدوة. هذه هي رغبتي الحقيقية في الكتابة عن غسان في هذا الكتاب، وفي هذا الفصل تحديدا، وموضوع الأمنية هي أمنية كل كاتب أن تحبّه كاتبة على درجة كبيرة من الوعي والثقافة والحب والجمال كغادة السمان، وهذا أيضا ليس موضوع حسد إنما موضوع رغبة، فتجارب الكتاب يُقاس بعضها ببعض، ويتقارب الناس أو يكادون، ولا يحمل ذلك أي معنى سلبي، بل ربما أشار إلى أن غسان كنفاني كان ذا حظ عظيم حتى في الحب، كما في الكتابة، ومن بعدُ في حيازته شرف الخلود والشهادة، إذ أحبته كاتبة لها هذه المواصفات، وهذه من منح الحياة التي لا توهب لأي أحد، أذكّر فيها من باب ذكر النعم والمواهب والعطايا الإلهية، فكيف يكون حسدا؟ لعل أقرب ما يدافع عني ما قاله يوما الشافعي عن الصالحين: "أُحِبُّ الصالِحينَ وَلَستُ مِنهُم، لَعَلّي أَن أَنالَ بِهِم شَفاعَةْ".

فأنا أحب الكتاب الناجحين، ولست منهم، لعلي أن أنال بهم شفاعة، فإن لم نكتب عن هؤلاء وهم أصل الأدب، والتعلم منهم واجب، فهم أساتذتنا بمعنى من المعنى، فهل سنكتب عن الكتاب الرديئين السطحيين؟ وهل ستحمينا "سلمى" من قراء آخرين يسلقوننا بألسنتهم الحِداد ليقولوا عنا إننا مجاملون، ونشوه الحقيقة، وننسى الكتاب الكبار. سنجد من هم على شاكلة سلمى، وربما هي أيضا، ما تتهمنا به كذلك. فمن رام عيبا وجده.

تؤكد سلمى صفة الحقد فيّ، هذا الحقد المتفرّع عن الحسد بالضرورة، وتدعي أنني أحسد محمود درويش، فتقول: "المتتبع لكتابات ومقالات الشاعر فراس حج محمد يلاحظ- وبشكل فج- أنه يكنّ نوعاً من الحسد أيضا للشاعر الكبير الراحل محمود درويش". لا أدري كيف أتت بذلك؟ هل قرأت كتابي "في ذكرى محمود درويش"؟ وهل في هذا الكتاب أي ملمح للغيرة والحسد؟ وما ينطبق على غسان كنفاني في كتابتي عنه ينطبق على محمود درويش وكتابته، فأنا أحب درويش شاعرا، وناثرا، ولم أترك له كتابا أو حوارا أستطيع الوصول إليه إلا وقرأته، وأقرأه بلذة متناهية، وأكتب عنه بحب، ومقالاتي في ذلك كثيرة، وموقفي من درويش شاعراً يختلف عن موقفي منه سياسيا أو صاحب فكر، مال أحيانا إلى الإسرائيليين وصادق كتّابهم، وأراه "شاعرا مدجنا وانتهازيا وباحثا عن مجد شخصي" كما يُفهم إلى حد التصريح من حواراته، وكان ينادي بالدولة الواحدة، ويدعو إلى الصلح العام مع الإسرائيليين كما في قصيدته "سيناريو جاهز"، هذا الانتقاد ليس حسدا، إنما هو انتقاد لموقف سياسي، كما أنتقد السلطة الفلسطينية عامة، أو وزير الثقافة الفلسطينية، أو اتحاد الكتاب الفلسطينيين أو الأمين العام للاتحاد، أو الرئيس محمود عباس نفسه أو أي كاتب آخر، فهل كل هؤلاء أحسدهم؟ يا لطيف، ما هذه النفسية التي أحملها؟ ما أشد سوادها يا سلمى!

الصفة الثالثة التي منحتني إياها سلمى، هي أنني أكتب عن هؤلاء العمالقة طمعا في الشهرة. تقول سلمى: "وبالرغم من كل ذلك، فإنه يتناول بالنقد وغيره سيرة هؤلاء الشعراء وكتاباتهم. وأتمنى أن لا يكون ذلك من باب التمسّح بسيرة هؤلاء العمالقة من أجل الشهرة". عندما نشرت بعض المقالات والنصوص الشعرية والنثرية ذات الأفكار "الأيروتيكية" اتهمني بعض القراء بأنني أكتب في هذه الموضوعات من أجل الشهرة. وها أنا عندما أكتب عن كنفاني وعن درويش أتهم بأنني أسعى إلى الشهرة أيضاً. بهذه التهمة صفعتني زميلة عندما حدثتها أنني كتبت مقالة ونشرتها عن تميم البرغوثي. ضحكت بمكر، ورمت تهمتها التي جرحتني بكل تأكيد.

بماذا ستصف "سلمى" من يكتب عن القرآن الكريم وعن شخصية محمد صلى الله عليه وسلم، أو من يكتب عن الله عز وجل؟ فهل ستصفه بأنه يكتب ليكون نبياً أو إلهاً؟ لله درك يا سلمى ما أخصب خيالك هذا الفذ! وهذا ليس سخرية ألبتة، إنما امتداح لهذا الأفق المحمول على الدهشة الذي فتحته لي سلمى بهذا التحليل، أرأيت يا سلمى كيف يكون تلاقح الأفكار ذا إيجابية مطلقة؟

في واقع الأمر، هذا مقتل كبير يصيب الكتّاب، ولن يدافع عنك مثلُ كتاباتك، ولأن "سلمى"- رعاها الله- لم تطلع على كتاباتي جميعا ولم تُحِطْ بها علماً، توصلت إلى هذه النتيجة المستفزة. في الحقيقة كتبت عن كتّاب ما زالوا في أول الطريق، وهم كثر أكثر بكثير مما كتبت عن الكتاب العمالقة، بل ونشرت كتبا عنهم، وخاصة الكاتبات. هنا ربما حمل "سلمى" هذا "الاعتراف" على أن ترسم لي صورة مشوهة أخرى بأنني "نسونجي" أتمسّح من النساء وأتقرب لهن بالكتابة عنهنّ. أعتقد أنها مؤهلة لتقول هذا عني، سامحها الله. فكل شيء يصدق على الكتّاب هذه الأيام.

على أية حال، تأكدي يا "سلمى" أن صدري واسع ومتسع لملاحظاتك، ولم أضق بها ذرعاً، كما قد يجعلك هذا المقال ترسمين صورة أخرى عني لتضيفي لي من الأوصاف ما ليس فيّ، إنما من عادة الكتابة أن تجلب الكتابة وتجلّيها، وتتوالد الأفكار وتنمو على أذيال بعضها البعض، فشكرا جزيلا لك، على ما تفضلت به، وهذه دعوة لأن تقرئي كل كتبي فسأمنحها لك هدية، تأكيدا أنني لست منك غاضبا أو منزعجاً.

ودمت بود، ولتستمري في متابعتنا- نحن الكتاب- حتى وأنت ترسمين لنا مثل هذه الصور المشوّهة، "فمن نشر عرّض نفسه للنقد"، علينا أن نكتب فقط ما نحن مقتنعون به، رغما عما يتشكل من صور ضمنية لنا، وعلينا أن نقرّ ونعترف أيضاً بأن الكتابة- مهما كانت شارحة- فهي ناقصة، ولذلك نحن الكتّاب نتحمل أحيانا ما يصل القراء من صور مشوّهة عنا من خلال كتبنا ومقالاتنا ونصوصنا، فهذه هي المعادلة فلنكن أكثر تسامحاً وديمقراطيّة.

وإلى اللقاء يا "سلمى" في المتون وليس في الهوامش.

Cgdgh988.jpg

صدر عن مكتبة كل شيء في حيفا قبل أسبوعين كتاب" رسائل من القدس وإليها" للأديب المقدسي جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير، ويقع الكتاب الذي يحمل غلافه الأوّل لوحة للفنّان التشكيليّ محمد نصرالله، ومنتجه وأخرجه شربل الياس في 182 صفحة من الحجم المتوسك.

توجه في الآونة الأخير مجموعة من الأدباء إلى كتابة أدب الرسائل، وهذا ظاهرة محمودة، فنحن في المنطقة العربية نعاني من شح في هذا التوع من الأدب، فقد صدر رسائل بين محمود شقير وشيراز عناب، وها هو جميل السلحوت وصباح بشير يدونان رسائلهما في كتاب "رسائل من القدس وإليها"، فبداية المراسلات كانت في القدس حينما تقابلا في ندوة اليوم السابع التي يقيمها أدباء القدس أسبوعيا في مسرح الحكواتي، ثم تم سفر جميل إلى الولايات المتحدة لمدة ثلاثة أشهر واستمر الرسائل، ثم سافرت صباح بشير إلى الإمارات العربية ومكثت فيها عدة سنوات، ثم انتقلت إلى المملكة المتحدة وعاشت في لندن فترة من الزمن، إلى أن استقرت في حيفا، فالعنوان منسجم مع مكان إرسال الرسائل، حيث كانت الرسائل في البداية تكتب من القدس وترسل إلى القدس، لكنها لاحقا كتبتها صباح بشير من خارج القدس؛ لتصل إلى المقدسي جميل السلحوت.

بما أن التعارف بينهما كان من خلال حلقة نقاش أدبي، فقد أخذت الرسائل هذا الجانب بين الاعتبار، وبما أن مشاركة صباح جاءت متأخرة على الندوة، فقد استدعى هذا أن يشير جميل السلحوت في أول رسالة إلى بدايات الندوة، ومتى عقدت وفي أي مكان: "..وقد تعودنا على حضور مبدعين من طالبات وطلاب من بناتنا وأبنائنا في الداخل الفلسطيني، الذين يدرسون في الجامعة العبرية للمشاركة في ندوة اليوم السابع التي تأسست في الفاتح من شهر آذار ـ مارس 1991" ص6، وهذه إشارة إلى عمق المؤسسة الثقافية الفلسطيني، وعلى أنها مستمرة، فزمن كتابة الرسائل بدأ في 11 نيسان ـ ابريل 2010 وانتهت في 31 -12-2021 وبهذا يكون عمر الندوة ثلاثون عاما، وعمر الرسائل أحد عشر عاما.

     تشير صباح بشير إلى بداية اهتمامها بالأدب وكيف أن والدها كان له الفضل في هذا الجانب من خلال المكتبة المنزلية التي أسسها: "...مكتبة خاصة لوالدي، تدهشني بكل ما تحتويه من الكتب الثقافية والأدبية، وغيرها من كتب علم النفس التي كان والدي شغوفا بها" ص21، ثم تنتقل إلى ما تعانيه المرأة في المجتمع الذكوري بقولها:"...فالنظرة الدونية للمرأة مازالت قائمة وسط اتهامات قاسية محبطة ومستفزة أحيانا،.. بسبب تلك الثقافة الذكورية البالة، تتأخر المرأة وتمنع من تسجيل تفوقها على لوحة الإنجاز" ص21، الجميل في هذه الرسالة الإشارة من صباح أنها تؤكد على حالة الظلم التي تقع على المرأة العربية من مجتمعها/أهلها وعلى ضرورة إزالة (الثقافة الذكورية) من المجتمع، لكي يتقدم المجتمع  ويتحرر الوطن.

      وهذا ما استدعي من جميل السلحوت ليشير إلى روايته "ظلام النهار" وما تحمله من مضامين اجتماعية: "..وفي روايتي الأولى "ظلام النهار" التي صدرت هذا العام 2010، فهي تتمحور على التخلف والجهل والموقف من المرأة، وقد طرحتها بطريقة مقززة ومنفرة لمحاربتها وليس لترسيخها" ص16، نلاحظ رسائل، رسائل تكاملية، حوارية، تنمي المعرفة وتعمق محور النقاش، وهي متعلقة بجوانب أدبية ثقافية اجتماعية، وهذا ما يجعلها قريبة من المتلقي الذي يجد همومه فيها.

تنقل صباح بشير رؤيتها الأدبية لرواية السلحوت بقولها: "...أنت تعلم بأن اللهجة العامية تختلف من منطقة إلى أخرى في بلادنا، لذا فاستعمال اللهجة المحكية لمنطقة ما قد يعيق الفهم لقارئ آخر يعيش في منطقة لا تتحدث ذات اللهجة،  ليتك لجأت إلى اللغة الثالثة؛ لتصبح الكلمات مفهومة للقراء كافة... وملاحظة أخرى وهي أنني لاحظت بعض الأخطاء المطبعية التي كان يمكن تلافيها" ص 31و32، هذا الطرح يبقي مضمون الرسائل  ضمن مكان ندوة اليوم السابع، حتى أنها تبدو استمرارا للندوة وللمحاورات التي تجري فيها.

بعد سفر جميل السلحوت إلى أمريكيا يتحدث في رسالته عن تلك القارة وما فيها، يتحدث عن رؤيته للمجتمع الأمريكي بقوله: "رأيت غالبيتهم يتناول أحد ملاحق الصحيفة ويدفع ثمنها ويترك الصحيفة، لكنهم يثقون بحكومتهم ويطيعونها بشكل أعمى، لأنها منتخبة من قبل الأغلبية، وتوفر لهم سبل الحياة الكريمة كلها" ص38و39، اللافت في هذه الرسالة أنها تتحدث عن تفاصيل كثيرة عن جغرافية أمريكيا وسكانها، فكانت أقرب إلى أدب الرحلات منه إلى أدب الرسائل، وقد تناول الطالب العربي بصورة متميزة تجعل القارئ يشعر بالنشوة: "...أن جامعاتها ترحب بالطلاب العرب، لأنهم يرفعون اسم الجامعة باجتهادهم، وأن 92% من الطلاب العرب ينهون الشهادة الجامعية الأولى دون أن يقصروا بمادة واحدة، يأتون إلينا وسريعا ما يتعلمون اللغة ويتفوقون على الطلبة الأمريكان" ص43.

تقرأ صباح بشير رواية "جنة الجحيم" لجميل السلحوت وتبدي وجهة نظرها فيما جاء فيها: "تتميز الرواية بالسهولة  والبساطة،  وشعرت بانسيابها العفوي، فهي أقرب ما تكون إلى الواقع المعاش، ... شعرت أنني أعيش الأحداث، أعاينها وأرصدها عن قرب.

لكن لي بعض الملاحظات...فاستخدامك اللهجة المحكية بكثرة، تكاد تكون عسيرة على الفهم بالنسبة للكثيرين، كما أن العنوان "جنة الجحيم" مربك بعض الشيء، وكم تمنيت لو أن كلمة جحيم لم ترد مطلقا في العنوان" ص50، بهذه الرسالة تحافظ "صباح بشير" على الجانب الأدبي في الرسائل، وتبقيها ضمن ندوة اليوم السابع، المكان الذي تعارفا فيه.

يرد جميل السلحوت على الملاحظات بقوله: "...إلا أن الاحتلال بجرائمه وانتهاكه لكرامتنا ولحرماتنا ولإنسانيتنا قد قلب نعيم العيش في وطننا إلى هوان دائم، وهكذا جاءت رواية "هوان النعيم" وأنا الآن في مرحلة تشطيب الجزء الرابع من هذا المسلسل الروائي" ص52، المحاورات الأدبية وإبداء وجهات النظر ميزة تحسب لهذه الرسائل، إضافة إلى تناولها المشاكل الاجتماعية والهموم السياسية في المنطقة العربية، ولما تقدمه من معرفة جغرافية للعديد الأماكن، إن كانت في فلسطين أو خارجها.

تتحدث صباح بشير عن ظاهرة الدين السياسي وأثره السلبي على المجتمع بقولها:" لسيت السياسة وحدها هي من يقضي على أوطاننا، فظاهرة التعصب الديني دون الفهم الصحيح للدين، تملأ المجتمع وتكاد تغلق كل حيّز فيه، وها نحن نشهد تحولات خطيرة بين النصوص المتشددة التكفيرية التي أصبحت أكثر انتشارا... التطرف يلغي أي هوية أخرى مهما كانت، وهذا ما يحد من التعددية والتنوع والاختلاف والمشاركة في تيسير الحياة" ص57، من هنا تأخذ الرسائل الاهتمام في الجوانب الاجتماعية والسياسية وحتى الجوانب الشخصية لكلا منهما، فقد أصبحا صديقين بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

تتحدث صباح عن مشكلة العقل العربي وكيف أنه يسير ضمن منطق القطيع:"...لثقافتنا الشرقية التي تؤكد على التبعية مسؤولية الفرد تجاه المجموعة وإكراهه على تنفيذ وابتاع سياسة القطيع، دون الاهتمام بتعليمه وتهذيبه أو إكسابه  قيم المواطنة الحقيقية والانتماء، نحن نشجع السيطرة والتسلط على الإنسان وعلى حالته الذهنية والفكرية، كذلك نتدخل في أدق تفاصيل حياته" ص69و70، وإذا عدنا إلى ما جاء في رسالة "صباح" يمكننا التأكد أنها تتحدث عن وجع عام ووجع شخصي، فهي ترى مجتمعها/ وطنها/ شعبها/ أمّتها تعاني وتتلذذ بمعاناتها، فهي أمة/ مجتمع غارق في الألم، ويتلذذ بما هو فيه بشكل مازوشي، معتبرا نفسه متميزا عن بقية الأمم/ الشعوب رغم أنه من المجتمعات المتخلفة والمتقهقرة.

الواقع القاسي يفرض على الإنسان إيجاد مخرج، شيء يخفف عليه شيئا من هذه القسوة، لهذا وجدنا "صباح" تنتقل إلى أكثر من مكان، أحد عناصر التخفيف، وكذلك تتجه إلى الكتابة/ القراءة التي تجد فيها:"..أعشق القراءة والكتابة، أتجدد بهما وانبعث فيهما" ص80، إذا عدنا إلى  الرسائل سنجد أن "صباح بشير"  تتحدث عن المشاكل الاجتماعية أكثر من جميل السلحوت، وهذا يعكس واقعها الاجتماعي الذي تكتمت عليه ولم تتناول منه إلا النزر اليسير، بينما كان جميل السلحوت تحدث وبإسهاب عن تفاصيل كثيرة عن حياته وعن أسرته  وزوجته وأحفاده، لهذا كان مضمون رسائله تتجه نحو المعرفة أكثر منها للنقد.

يتحدث جميل السلحوت عن جغرافية فلسطين بطريقة مفصلة، وعن الاستيطان ودوره في تهويد المكان:" بلدتنا السواحرة ... كان أبي يفلح الأرض بالحبوب، وكان مصدر رزقنا الوحيد يعتمد على الفلاحة وتربية المواشي، مررنا بمنطقة الخلايل التي امتدت عليها مستوطنة "معاليه أدوميم" وابتلعتها، ومررنا بمنطقة الصرارات التي تقوم عليها مستوطنة "نيؤوت أدوميم" ...ووقفنا على قمة جبل المنطار، ومن هناك رأينا إلى الشمال الغربي منا، أبو ديس، العيزرية وجبل الزيتون، ورأينا القدس الشريف ومسجدها الأقصى المبارك" ص100، اللافت في هذه الرسلة التي تمتد من صفحة 100 إلى  صفحة103 أنها تتناول المكان وما جرى فيه، مبقية شيئا هامشيا بسيطا تحدث فيه السلحوت عن مشروعه الأدبي  في روايتي المطلقة والخاصرة الرخوة".

جميل السلحوت يتقدم اكثر في أدب الرحلات، فيتحدث في إحدى الرسائل عن تفاصيل هذا الأدب، وكيف أنه كان محطة اهتمام العديد من الرحالة العرب، ثم ينتقل ليتحدث عن رحلاته، وكيف أنه اسهم في كتابة أدب الرحلات من خلال كتابه "في بلاد العم سام".

في عصر النت وتطور التكنولوجيا أصبحت عملية الطباعة والنشر أسهل، بحيث يمكن لكل من يمتلك المال وعنده كتابات مهما كانت أن  ينشرها، يتحدث جميل السلحوت عن هذه الظاهرة بقوله: "...يلاحظ تهافت بعض من يحلمون بأنهم قادرون على الكتابة، فرأينا عشرات بل مئات الكتب التي تطبع على حساب كاتبيها في مجالات مختلفة، ومع أن هكذا كتب في غالبيتها لا قيمة أدبية أو فكرية لها، ولا تساوي ثمن الورق الذي طبعت عليه، ومنها مع الأسف ـ مطبوعات موجهة للأطفال! إلا أن أصحابها يجدون من يصفق ويبارك لهم" ص164و165، تؤكد صباح بشير على أن هذه الظاهرة خطرة على المجتمع وعلى الثقافة متناولة جانب ظاهرة السعي وراء الجوائز، وأثرها السلبي على الأدب والأدباء:"..الاعتراف بأن تلك الجوائز ليست معيارا لجودة العمل أو تفوقه، فعدد لا يستهان به  كل يوم يجربون حظهم في الكتابة، وآخرون من المبدعين الحقيقيين يستعجلون ويتسرعون في كتابتهم، للحاق بموعد الجائزة، فتنحدر أعمالهم هبوطا دون أن تصعد إلى السلم الأدبي بنجاح"167و168.

يتحدث جميل السلحوت عن ظواهر المجتمع السلبية خاصة ما يتعلق منها بطريقة تعاملها من الموت: "...ننعى بفخر واعتزاز ... فعن أي فخر وعن أي اعتزاز نتحدث، وهل ارتقاء واحد من أبنائنا سلم المجد يدعو للفخر والاعتزاز؟ وهل ننتظر هكذا ساعة لنبدي فخرنا واعتزازنا بذلك؟ ويصاحب عملية التشييع هتافات وربما إطلاق عيارات نارية، ...إذا كان استشهاد إنسان ما يدعو إلى الفخر والاعتزاز، يتوجب تقبل التهاني فهل هكذا سلوك براءة للقاتل من دم القتيل؟ فإذا كان الأمر كذلك فإنه يستحق الشكر أيضا، لأنه جلب لنا الفخر والاعتزاز، وهذا ما لا يقبله عاقل" ص176و177، من هنا تكمن أهمية الرسائل، فهي تكشف وتبين الخلل في العديد من سلوكياتنا وطريقة تعاملنا مع الأحداث.

  صباح بشير تؤكد على أن هناك العديد من المشاكل تواجه طريقة تفكير العقل العربي خاصة ما هو متعلق بالمؤامرة: "...بفايروس كورنا، فالفايروس مؤامرة، العلاج مؤامرة، أخذ اللقاح مؤامرة. هذه العقليات المتخلفة ترفض رفضا مطلقا كل ما هو جديد من الأفكار  والقيم الإنسانية" ص181، بهذا الشكل نستطيع القول أننا أمام رسائل تناولت أكثر من جانب، فرغم أنها بدأت كرسائل شخصية-أدبية، إلا أنها تناول العديد من القضايا والهموم، فكانت أحيانا قريبة من أدب الرحلات، وأحيانا تتطرق إلى  ما هو اجتماعي أو سياسي، وحتى فكري.

clip_image002.jpg

كتاب رسائل من القدس وإليها، من تأليف الكاتبين المقدسيّين جميل السلحوت وصباح بشير، الصادر عن مكتبة كلّ شيء الحيفاويّة، حزيران 2022، يقع الكتاب الذي يحمل غلافه الأول لوحة للفنّان التشكيليّ محمد نصرالله، ومنتجه وأخرجه شربل إلياس، في 182 صفحة من الحجم المتوسط.

يرسل الرسالة الأولى الكاتب جميل السلحوت  في تاريخ2010/4/11، وذلك بعد التقائه بصباح  أوّل مرّة في ندوة اليوم السابع المقدسيّة. أمّا الرسالة الأخيرة فتنهيها  الكاتبة صباح بشير  في تاريخ 2021/12/31.

فإذا ما تأمّلنا تاريخ بداية الرسائل وانتهائها، نجد أنّها امتدّت إحدى عشرة سنة، تطرّق فيها الكاتبان للحديث عن مواضيع عديدة تؤرّق الكاتبين، فنجدهما يتبادلان الآراء والأفكار في هذه القضايا، ويحاول كلّ منهما إعطاء اقتراحات للخروج من الأزمات التي يعاني منها مجتمعنا: أزمة ثقافيّة، سياسيّة، تربويّة، اقتصاديّة، أخلاقيّة، جماليّة وغيرها..

     أثناء عرض هذه القضايا، يتحدّث كلّ كاتب عن جوانب مضيئة في حياته: مؤلفات وكتب، سفر وتجوال في العالم، وصف الأمكنة وتأثيرها على النفس وإغناء  تجربة كلّ  كاتب الفكريّة والأدبيّة والثقافيّة.

من خلال هذه الرسائل عرفنا الكثير عن هذين الكاتبين: آراؤهما، رؤاهما الفكريّة والأدبيّة، آمالهما وأحلامهما. ولنبدأ أوّلًا بالكاتب جميل السلحوت. فمن خلال رسائله اتضحت لنا رؤاه الفلسفيّة والفكريّة والعقائديّة، فنجده إنسانا تنويريّا، يؤمن بالعلم والمنطق والعقل، يحارب الجهل والتخلّف و ثقافة الهبل كما أسماها في كتابه" ثقافة الهبل وتقديس الجهل" من إيمان بالمشعوذين والسحرة، وقتل النّساء على ما يسمّى شرف العائلة، إهانة المرأة وضربها وعدم السماح لها باختيار شريك حياتها( ص 83).ثم يتطرّق إلى وضع التعليم  المزري وعدم اهتمام أكثريّة أولياء أمور الطلّاب  بتربية ومتابعة أبنائهم خصوصا في مرحلتيّ الطفولة والمراهقة، فتحدّث في هذا السياق عن طفولته التي كتب عنها في كتابه" أشواك البراري-طفولتي سيرة ذاتيّة" حيث عانى من طفولة قاسية وعدم اهتمام أهله به، ثمّ اعتقاله عام 1969 وتعرّضه لتعذيب قاسٍ أورثه انزلاقا غضروفيّا في الرقبة وفي أسفل العمود الفقريّ مع تقرّحات في المعدة والقولون. ومع ذلك لم يفقد حلمه وإصراره على تكملة تعليمه الجامعيّ، فالتحق بجامعة بيروت العربيّة انتسابا ودرس اللّغة العربيّة.( ص 85). وتابع مشواره الأدبيّ؛ ليكتب عن عيوب مجتمعه محاولا تسليط الضوء عليها، مبديا رأيه فيها ومحاولا تقديم النصائح للشّباب للتخلّص من هذه الآفات.

كما يتعرّض الكاتب جميل السلحوت للحديث عن القدس والمحاولات لتهويدها وتهويد حيّ الشيخ جرّاح وحصارها وعزلها عن سائر مناطق فلسطين، كما يتحدّث عن  منطقة براري بلدته السواحرة القريبة من القدس، وعن خسارة أهله  وسائر سكّان بلدته لهذه الأرض التي صادرتها إسرائيل، وبنت عليها مستوطنة معاليه أدوميم، وهكذا خسر الفلسطينيّون مصدر رزقهم، حيث اشتغلوا بزراعة الأرض وتربية المواشي (ص 102) .

وللرحلات حيّز هامّ في هذا الكتاب، فالكاتب جميل السلحوت يتحدّث عن رحلاته الكثيرة إلى أمريكا، حيث يسكن فيها عدد من إخوته وابنه قيس، وقد تعرفنا على أماكن سياحيّة جميلة في أمريكا، ومنها شلّالات نياغرا من خلال ما وصفه في رسالته للكاتبة صباح. ويشير أيضا إلى تأليفه لكتاب "كنت هناك" الصادر عام 2012، يتحدّث فيه عمّا شاهده في الأردنّ، سوريا، لبنان، مصر، السعوديّةـ روسيا وأمريكا. كذلك يتعرّض لحياة الشعب الأمريكيّ الذي لا تهمّه السياسة، مع ذلك فهو يحترم حكومته.

ومن اللّافت في هذا الكتاب ما وصف فيه السلحوت اليهود من أنّهم عرب يهود، عاشوا في الدّولة الاسلاميّة معزّزين مكرّمين:" حتى ظهرت الحركة الصهيونيّة وضلّلتهم وسلختهم عن عروبتهم، وهذا يؤكّد أن الصراع في فلسطين بشكل خاصّ وفي الشرق الأوسط بشكل عامّ ليس صراعا دينيّا، وإن   ما هو صراع مع الحركة الصهيونيّة كحركة استعماريّة، اختارت أن تعادي شعوب المنطقة وإحلال مهاجرين يهود مكان الشعب الفلسطينيّ بعد الاستيلاء على أرضه". (ص 150).

  ومن ظواهر تكريس الجهل ما يجري من هدم للمؤسسة التّعليميّة مثل قانون يمنع معاقبة تلاميذ المدارس، وهذا أمر جيّد وفق رأي السلحوت، لكنّ المشكلة  تكمن في عدم وضع قوانين أخرى تضبط فيها التّلاميذ، وتحمي المؤسسات التّعليميّة والعاملين فيها، ممّا أدّى ذلك إلى اعتداء على المعلّمين لفظيّا وجسديّا. وقد شمل الاعتداء أيضا الحرم الجامعيّ، فقُتل طلّاب لأتفه الأسباب، ولم تنج المستشفيات من الاعتداء. وهنا يطرح الكاتب سؤالا مهمّا: هل نحن نعيش مرحلة ضياع اجتماعيّ تتصاحب ومرحلة الضّياع السياسيّ؟(ص 158-159).

 ويرى السلحوت أنّ كل ذلك إضافة إلى  انتشار ظاهرة حمل السلاح، وتجارة المخدّرات، وقتل النساء تحت ما يسمّى "شرف العائلة"، يدلّ أنّنا نعيش خللا اجتماعيّا، فنحن بحاجة إلى ثورة على التّقاليد البالية التي تشكّل رافدا لهزائمنا المتلاحقة، وهذا لن يتأتّى إلّا بالتعليم الصحيح، ومواكبة العصر والعلوم الحديثة.( ص 159-160).

وتردّ الكاتبة صباح في رسائل متتابعة على رسائل السلحوت، فتعرّف بذلك على جزء كبير من سيرتها الذاتيّة، بدءا من ولادتها في القدس، طفولتها وتشجيع والدها لها على القراءة، حتى تعليمها وزواجها وعملها في الصّحافة والإعلام في مجلّة نسويّة تعنى بشؤون المرأة، ثم انتقلت للعيش في دولة الإمارات العربية المتحدة، استقرّت في أبو ظبي، وبعض الدول الخليجيّة. سافرت مرارا إلى الأردنّ وتركيا، ثمّ انتقلت للعيش والاستقرار في لندن، وزارت بعض الدول الأوروبيّة، ثمّ انتقلت إلى تونس وزارت دول المغرب العربيّ، وحاليّا تعيش في حيفا.(ص 98).

هذا التنقّل المتكرّر وعدم الاستقرار في مكان واحد ألقى بظلاله وثقله على الكاتبة صباح، فوصفت علاقتها بالأمكنة:" عدم الاستقرار في مكان واحد جعلني أفقد الكثير من ممتلكاتي وأغراضي، خصوصا الكتب. فما أن تعيد ترتيب حياتك لتعيش في مكان وترتبط به، ثمّ تجد نفسك مضطرّا لمفارقته"(ص 96). ومع ذلك فقد استفادت صباح من تجربتها هذه فتقول في ذلك:" تعلّمت الكثير في فضاءات المدن، فالأماكن التي مررت بها كثيرة، وكلّها ساهمت في تكوين شخصيّتي، غير أن الوطن مقرّ النشأة الأولى ومرتع الصبا هو من يسكنني".(ص 98).

  وفي رسائلها للسلحوت تتعرّض الكاتبة صباح إلى عدّة مواضيع اجتماعيّة ثقافيّة تعليميّة تربويّة تؤرّقها  منها مثلا: التمسّك ببعض العادات البالية التي تعيق تقدّمنا،  كما أن المناهج التربويّة التعليميّة لم تتمكّن حتى الآن من تقديم ما يتوافق واحتياجات الواقع، فهي لا تعمل على بناء شخصيّة قياديّة ناقدة عميقة ومفكّرة ومؤثّرة. فالتّعليم في بلادنا هو عمليّة تلقينيّة لا تتناسب مع النموّ والتطوّر الحاصل في تفكير النشء، كذلك دور المؤسسات الثقافيّة والإعلاميّة المتخاذلة والجامعات الغائبة أو المغيّبة عن البحث العلميّ وتشجيع القيادات الشابّة"(ص 107). وقد ضاعفت الكورونا من الهوّة بين الطلّاب أنفسهم وبينهم وبين المعلّمين، وهي ترى أنّه لم يتمّ إعداد المعلّمين بطرق تدريسيّة حديثة تتماشى مع العصر وخاصّة في فترة الكورونا والتعليم عن بعد.

كما تتعرّض الكاتبة صباح إلى دور الصحافة العربيّة، فترى أنّ الثقافة تعيش حالة من الاغتراب، فحضورها باهت في صحف ومواقع إلكترونيّة ذات طبيعة إخباريّة لا تؤسس لأهداف ثقافيّة، كما أنّ تمثيل المرأة في الإعلام ما زال سلبيّا، فهي تصوّر كسلعة أو أداة جذب للتّسويق ويتمّ تجاهل ثقافتها وطموحاتها أو عملها وإبداعاتها.(ص 114).

تنتقد الكاتبة صباح الفكر الشرقيّ وتقارنه بالفكر الغربيّ الذي يحترم الإنسان كفرد حرّ مستقلّ بذاته، لديه كلّ الطاقات والامكانيات الفكريّة الخلّاقة، نقيض الثقافة الشرقيّة التي تؤكّد على التبعيّة ومسؤوليّة الفرد تجاه المجموعة، وإكراهه على تنفيذ سياسة القطيع دون الاهتمام بتعليمه وتهذيبه، وإكسابه قيم المواطنة والانتماء(ص 69-70).

 ولحيفا والقدس مكانة خاصّة في قلب الكاتبة صباح، لذا تخصّ كل مدينة بنصّ جميل شاعريّ تصف فيه جمال المدينة، ففي وصفها للغروب في حيفا تقول:" وحده ذلك الشعور من يعيد إليّ روحي وسط الزّحام وفتنة الغروب، سحر الألوان ورائحة البحر، والبهجة التي تعوم حولي في قلب الماء، انسكابه ارتطامه المشرّع على كلّ شيء، يشعل ذلك في داخلي الحنين والأحاسيس الكثيرة كما يبعث فيّ الألفة والشجن وكثير من الذّكريات المخبّأة عندها أتذكّر قول أمّي" ضعي أمنياتك وقت الغروب لعلّها تشرق يوما ما".(ص 147).

  وفي وصفٍ شاعريّ جميل آخر لحيفا تكتب صباح بشير ما يلي:" ولقدسيّة المكان وبعد أن يهدأ الموج تخشع عين الشّمس، تمشي على استحياء وتغيب في خجل، تتوارى حتّى الصباح مبتعدة، آخذة معها النور والضّياء، يسدل اللّيل ستائره تتلألأ النجوم حينها أمعن النّظر في أكوان لا يراها أحد سواي، أكوان من الورد والزّهر".(ص 148).

وفي وصفها للقدس تقول": في كلّ مرّة أزورها أكتشف بأنّي ما زلت أقيم فيها، ولم أغادر، فحين ألتقيها يكاد قلبي يترجّل من صدري، ويقفز ليدوس ترابها وروحي ترفرف من حولي مسرعة لتعانق فضاءها، تأخذني الرّهبة أمام هيبتها وتلامس حواسّي رائحتها، وأمام أسوارها العتيقة تلك القابعة في قلب التّاريخ ، تهدأ روحي وأسكن كطفل غفا في حضن أمّه".(ص 153)

يشترك الكاتبان في حبّهما للقراءة والكتابة. يقول الكاتب جميل السلحوت في ذلك، أنّه حين كان طفلا كان يذهب إلى مكتبة في القدس مشيا على الأقدام ليشتري كتابا، وقد رافقه هذا الشّغف للقراءة والكتابة حتّى يومه هذا.(ص23).     

تفصح الكاتبة صباح عن حبّها الشديد للكتابة، فهي حلمها الأوّل، وقد شرعت في كتابة رواية ومجموعة قصصيّة للأطفال. فالكتابة بالنسبة لها:" شرفة الروح المنفتحة على السّماء وزيارة الرّؤى في ارتقائها إلى ما وراء السّمع والبصر، حيث العوالم الخفيّة المحفوفة بالمعرفة المستترة خلف حجب الغيم، شجى القلب وسرّ الفرح".(ص 80). وتشير إلى أهميّة الحبّ بشكل عام في حياتنا: حبّ الوطن، حبّ الأم لأولادها، حبّ الأصدقاء والعائلة، حبّ النفس، فالحبّ كما تقول هو نكهة الحياة ومذاقها.(ص 78).

نلحظ في هذا الاستعراض الموجز لما ورد في الرّسائل المتبادلة بين الكاتبين، أنّهما تعرّضا لرؤاهما الفكريّة، الثقافيّة، الاجتماعيّة، السياسيّة والإنسانية، إضافةً لذكر محطّات هامّة في حياة كلّ واحد منهما: عمله، نشاطاته، إصداراته، قراءاته، رحلاته وتنقلاته في هذا العالم وما إلى ذلك.

من هنا  أميل للاعتقاد أنّ هذه الرسائل هي لون فنيّ جديد من ألوان السّيرة الذاتيّة، إذ تميّزت السّيرة الذّاتيّة المعروفة لنا  بالسّرد الذّاتي للكاتب عن نفسه بلسان المتكلّم أو الغائب، لكننا هنا نجد لونا جديدا، وهو فنّ كتابة السّيرة من خلال الرّسائل.

فهنيئا للكاتبين  جميل السلحوت وصباح بشير على هذا الإبداع الجميل والتوثيق الهامّ لحياتيهما ولمجتمعهما، بلغة سليمة جميلة وسرد شائق.

المزيد من المقالات...