sfhdghj964.png

مقدِّمة: يقعُ هذا الدّيوان في 152 ص من الحجم المتوسط - صدرعن دار الوسط اليوم للإعلام والنّشر/ رام اللّه، وهو الدّيوان الرّابع الّذي تُصدرهُ الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان. استوحَتِ الشّاعرةُ هذا العنوان (أدَمْوِزُكِ تتعشترين) من الأسطورةِ السّومريَّةِ، مُمَثّلةً بإلهِ البحر (دموزي) حارسُ بوّابةِ السّماء، والمسؤولُ عن دورةِ الفصول ورمزُ الذّكورة. وأمّا (عشتار) فهي إلهةُ الجَمال والحُبّ والجنسِ عند البابليّين. في هذا الدّيوان الشّاعرة آمال متأثّرةٌ كثيرًا بنشيد الإنشاد لسليمان الحكيم (العهد القديم)، ففي سِفر الإنشاد المُحبُّ هو العريس، وهو المسيح حسب الشّرح والتّفسير اللّاهوتيّ المسيحيّ، والعروسُ هي الكنيسة، والسّيدُ المسيحُ هو زهرةً الشّعب اليهوديّ وسوسنةُ الشّعوب، جاءَ مِن البَرّيّةِ؛ أي مِن امرأةٍ بتولٍ لم يَمسُسْها رَجُلْ.

 في هذا الدّيوان يوجدُ مزجٌ روحيٌّ بينَ العوالمِ الصّوفيَّةِ والمفاهيمِ الرّوحيّةِ المسيحيّة، ومِن مُنطلق شرح وتفسير نشيد الإنشاد بمنظارٍ ومفهومٍ لاهوتيٍّ مسيحيّ، فقصائدُ الدّيوان متواصلةٌ ومُتداخلةٌ ومُتسلسِلةٌ وكأنّها قصيدةٌ واحدة، وهي مستوحاةٌ ومُستمدَّةٌ مِن الأسطورة السّومريَّة.

   في الدّيوان نجدُ التّحوّلاتِ في الخطاب الشّعريّ والرّؤيةِ الشّعريّة إلى خطى- ثلاثيّةِ الأبعاد؛ (صوفيٌّ، إسلاميّ،موروثٌ مسيحيّ يهوديّ وأسطوريّ)، والمناجاةُ بين الحبيب في نشيد الإنشاد شرَحَها علماءُ اللّاهوت المسيحيّ في حوارٍ بين المسيح وكنيستهِ - كما ذُكِرَ أعلاه، بيدَ أنّ هنالكَ مُفسرين آخرين يَشرحونَ نشيدَ الإنشاد ويُفسّرونهُ بشكلٍ مختلف، وينظرونَ إليه كأنّه مجرّد غزل محض، ليس فيه المعاني والأبعاد اللّاهوتيّة ونفحات التّصوّف.

ونجدُ تعلُّقَ النّفسِ الكليَّة بالذّات المُقدّسة في حوارها الشّعريّ؛ شوق الحبيب للحبيبة، ويُقابلهُ ويُكملهُ شوقُ الصّوفي للقاء ربّهِ، وكما جاء في نشيد الإنشاد كشوق العشيقة (كالتّفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين)، وفي نشيد الإنشاد تكونُ المعرفةُ باحتساء خمور المعرفة، وفي هذا الدّيوان الشّعريّ يتجلّى الأمرُ بمفهوم الزّهد والعبادة، فتقول (ص82): "أنَّى لِغابِرٍ في الزّهد.. أنْ تَتعفَّفَ بُرُوقُهُ؟"

   النّصُّ الشّعريّ عند آمال عوّاد رضوان لهُ جماليَّاتُهُ، وصُورهُ، ولغتهُ الخاصّة، وإيقاعهُ الدّاخليّ والخارجيّ الأخّاذ، مع بُنيةٍ مُركّزةٍ تتّكئُ على افتراضيَّةٍ مُستفِزّةٍ للّحظة، وهي تعتمدُ على التّكثيفِ بالأسلوب الفنّيّ، مع إيحاءاتٍ في حقلِهِ الدّلاليّ فكريًّا ووجدانيًّا، ومع تعدُّدِ ظلالِ الرّؤية بوحدةٍ موضوعيّةٍ مُنسابة، وهذه هي المجموعة الرّابعة للشاعرة آمال عوّاد رضوان، وقبلها أصدرت ديوانها "بسمة لوزيّة تتوهَّج" عام (2005)، الدّيوان الثّاني "سلامي لك مطرًا" عام (2007)، و "رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقودٍ" عام (2015). وكان لي الشّرفُ في كتابةِ دراسةٍ مُطوّلةٍ لديوانها "بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهَّجُ".

     كتاباتُ آمال عوّاد رضوان تُعبِّرُ عن حالةٍ شعوريَّة وجدانيَّة، يتداخلُ فيها السّياقُ الجماعيُّ والجمعيّ، ونصوصُ هذا الدّيوان تُحلّقُ وتصولُ ما بين عوالم الإله (ديموزي) كرمز أسطوريّ حارسٍ لبوابة السّماء ومسؤولٍ عن دورة الفصول وعنصر الذّكوريَّة في الطّبيعة، وبين زوجتِهِ (عشتار) إلهة الجنس والحُبِّ والجمال عند البابليّين، ويُقابلُها (إنانا) عند السّومريّين، وأفروديت عند اليونانيّين، وفينوس عند الرّومان. إنّ (دموزي) و (عشتار) في فضاءاتِ الوجود يُشكّلان أسطورةً مميّزةً، بأبعادِها وأسرارِها الجماليّةِ المثيرة، وبأحداثِها المُؤثّرةِ الّتي انعكستْ علاقةً عاطفيَّةً عظيمة.

     إنّ النّصَّ الشّعريّ عند آمال عوّاد رضوان يمتلكُ قدرةً تعبيريَّة رائعةً مُترعةً بالجماليَّة، مُتجرِّدةً ومُتحرِّرةً من المألوفِ والقوالب التّقليديّةِ الرّتيبة الجاهزة، مِن خلال ديناميكيَّةٍ مُكثّفةٍ وجديدة، وينمُّ عن هذا شاعرةٌ مُرهفةٌ تدركُ جيِّدًا بذاتها الشّفافةِ المبدعِة، والخلّاقةِ لتجربتها، والمدركة للواعجِها المُتوقِّدةِ عاطفيًّا ونفسيًّا، فنصوصُ آمال الشّعريّةُ هي ترجمةٌ صادقةٌ لمشاعرِها وأحاسيسِها ولواعجِها، ولانفعالاتِها وتفاعلاتِها الكيميائيَّةِ الدّاخليّة، مُشِعَّةً بالإبداع مِن خلال رؤيا عميقةٍ، ومِن خلال توطُّدِ أنماطٍ وتقنيّاتٍ فنّيّة، تعطي حياةً وحركةً نابضةً مُحرِّكةً للنّصّ، وفي طليعتها: 1* الرّمز. 2* أسلوب الاستفهام. 3* التّكراراللّفظي، وفيه يتحقّقُ التّوازن، ويخلق موسيقى شعريَّة.

    الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان تُوظّفُ المجاز المعبّر عن لحظاتِ وسويعاتِ التّوهّج، وهي تُحلّقُ في الرّؤيا الشّعريّة، وتعكس القيمةَ الجماليَّة للرّوح الإنسانيّة، وتمتاز كتاباتها بالتّكثيف اللّغويّ والمعنويّ، وفي الصّور الشّعريّة المبطّنة والمُثخنة بالتّورية وببنية السّرد الشّعريّ، وهي تستخدم الطّاقاتِ الحسّيَّةَ والصّوتيَّةَ والعقليَّة.

    وممّا يلفتُ النّظر في هذا الدّيوان ان الشّاعرة اختارت ضمير المخاطب المؤنّث بشكلٍ مُستمرّ، وكان عاملًا مُوحّدًا إضافيًّا، على اعتبار أنّ المجموعةَ كأنّها قصيدةٌ واحدةٌ متواصلةٌ ومتسلسلة، وكأن الّذي كتبَ نصَّ هذه المجموعة (الملحمة) هو شاعرٌ وليست شاعرة، وقد استطاعتْ وبكلّ لباقةٍ وفنّيّةٍ هذه الشّاعرةُ الأنثى في عصرٍ ومجتمعٍ ذكوريٍّ محض، أن تتجسَّدَ وتتقمّصَ صوتَ الرّجل وروحَهُ وضميرَهُ، وتنطقَ بلغتهِ وأسلوبهِ وطابعِهِ وميزتِهِ، مِن غير أن تُظهرَ الأنثى الشّاعرةَ ورقّتها، ولا يبدو ضعفُها وخضوعُها وتبَعيَّتَهَا.

    لقد أثبتت الشّاعرةُ القديرةُ آمال عوّاد رضوان قدرتَها ولباقتَها، على التّحدّثِ بلغةِ وأسلوبِ وروح الشّاعرِ العاشق، وعبّرتْ عن ميولِها ورغبتها أن يكونَ تعبيرُها هو لغة الشّعراء، وفي صدى وإيقاع الصّياغة الشّعريّة، وبشكلٍ عفويٍّ تلقائيٍّ هي تُقدّمُ رسالةً جماليَّةً للشّعراء، مفادها كيفيّة خطاب الأنثى، وذلك ليرتقيَ ويرتفعَ ويَسموَ الشّعراءُ بمحبوباتِهم وعشيقاتِهم إلى مصاف (عشتار) النّموذج، وللمثال الإلهيّ الرائع المترع والممتلئ بالحبّ والحياة والجمال. تقول الشّاعرة:

"وَمَا زِلْتُ فِي حَوْزَةِ مَاضِيكِ/ أَلُوذُ بِنَبْضِكِ/ ويُشِعُّكِ/ بَيْنَ اعْوِجَاجِ أَضْلُعِي"

   ولكي يكونَ نبضُ الاسطورةِ ناجحًا، يجب أن لا يوصفَ بمجرّد المفردات والتّعابير والمعاني الأسطوريّة، بل يجب أن يُوظّفَ كقيمةٍ فنّيّةٍ جماليَّة، وبشكلٍ متناسقٍ ومتناغم، وينطبقُ مع واقعِنا اليوم، فالأسطورةُ هي وسيلةٌ للوصول إلى المطلوب والمعنى والهدف المنشود.

     في هذا الدّيوان نجدُ الكثيرَ من الاستعارات والتّشبيهات البلاغيّة الجديدة المبتكرة، والصّور الشّعريّة الحديثة والخلّابة، ومثالٌ على ذلك في هذه الجمل واللّوحات الشّعريّة الفنّيّة (ص95):

* "منذُ احْتِطَابِ وَقْتِيَ الرَّؤُومِ"/ *"لَمْ يُنعِشْ صِلْصَالَ كَأْسِي/ اخْضِرَارُ حُنْجُرَتِكِ!"/

* "وَهَا مُرُوجُ تَمُّوزَ.. هَاجَتْ أَثْدَاؤُهَا/ عَلى امْتِدَادِ مَجْهُولٍ.. أَرْضَعْــتِـنِـيهِ!"

* "رُؤى مَرَابِطِي"، * "لُعَابُ نُورِكِ"، * "مَضَائِقِ كِبْريَائِي"، * "إِلَى عَاجِ ضَوْئِكِ الْفَاتِكِ!"،

* "لِمَ فَتَّقْتِ أَسْرَارَ لَيْلِي الْخَزَفِيِّ؟"، * "عَلَى لَهَبِ غِيَابكِ"، * "عَلَى شِفَاهِي الْمَبْتُورَةِ"، * "كَيْفَ غَصَصْتُ بِقُبْلَتِكِ؟".

   وتستعتملُ الشّاعرةُ أيضًا العديدَ من الكلماتِ الفصحى الجميلة الّتي لا يفهمُها كلُّ شخص، مثل: * "أَسْمَالُ طُفُولَتِي تَرْتَجِفُ.. تَرْتَعِدُ" (ص122). و "ضَمِّخِينِي.. بِرِيحِ مَلَائِكَتِكِ" (ص124) حيث تقول: "أَنَا مَنْ ضَمَّخَنِي حَصَى فَرَاغِي".

إنه لتشبيه واستعارة جديدة لم تستعمل من قبل إطلاقا. وتقول (ص25):

* "وَاغْسِلِي صَخْرَ قَلْبِي/ بِزَيْتِ حُبِّكِ.. بماءِ عَفْوِكِ"، وهذه الفكرةُ مستوحاةٌ ومُستمدّةٌ من الدّيانةِ المسيحيّةِ واليهوديّة- (المعموديّة والطّهارة).

وتستعمل الشّاعرةُ أل التّعريف بدل الاسم الموصول في العديد من الجُمل الشّعريّة في هذا الدّيوان.. وأمثلة على ذلك،مثل:

* "صُورَتَكِ الْـــــ.. تُـــثِــــيـــرُ فِيَّ كُــــلَّ حِــــرْمَــــانِــي" (ص 11)، بدل (صورتُكِ الّتي تتثيرُ فيَّ كلَّ الحرمان).

* "وَمَا نَسِيتُ غُزْلَانَكِ/ الْـ.. تَنْبِضُ بِرِقَّتِي الْحَالِمَة!" (ص13)

* "فَتَشْتَعِلِينَ خَفْقًا/ كَحَالِ قَلْبِي.. الْــ تَمَسُّهُ أَطْيَافُكِ!" (ص24).

* "غِـــمَـــارُ أُنُـــوثَـــتِـــكِ الْــ أَشْـــتَـــهِـــي" (ص31)، وهذه الجملة قد تُفهَمُ وتفسَّرُ خطأً من قِبلِ بعض النّقّاد أو القرّاء، وكأنّ فيها إيحاً جنسيًّا، وهي بعيدةٌ كلّيًّا عن هذا الموضوع وهذا المجال، وتتحدّثُ عن الخصوبةِ والثمار ودورة الطبيعة والحياة.

* "أَيَّتُهَا النَّشْوَةُ الــ.. تَسْــ.. كُـــــنْ/ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ".

و "لَا تَغْفِلِي.. عَنْ نَايَاتِي/ الْــــ لَهَا.. عَطَشُ الْحَاجَاتِ!" (ص66).

* "وَكُونِي غَزَالَتِي/ الــْ لَمْ يَزَلْ.. طَـــعْــــمُـــهَـــا/ عَلَى لِسَانِي!" (ص86)؛ أي الّتي لم يزل طعمها.

* "آهٍ مِنْ طُفُولَتِكِ الْــ تَتَشَاقِينَهَا بِي" (ص132)، أي الّتي تتشاقينها.

* "أَضِيئِي.. أَوْتَارِيَ الْــ يُوَسْوِسُهَا السُّوسُ!" (ص 104)، أي الّتي يوسوسها السّوس... وفي هذه الجملة جناس غير تام.

* "أَيَا مَنْفَايَ الْــ يَتَوَارَى.. خَلْفَ حَنِينِي الْغَافِي!"، بدل (الّذي يتوارى ) (ص106).

* "أَيَا يَنْبُوعَ الْمُضِيئَاتِ/ اِغْفِرِي لِيَدِ عَبَثِي الْــ وَأَدَتْ/ خَفَقَاتِ عُمْرِي.. مِيزَانَ شِعْرِكِ/ ونَبَضَاتِ حُزْنِي.. شَقِيقِ فَرَحِكِ!" (ص113).

* "يَنْهَشُ غَمَامَ عيْنِي الْـ تَحَجَّبَتْ" (ص118)

* "أَلَا أيْقِظِي جَدَاوِلَ نَوْمِي../ الْــ يَغْرَقُ فِي شَيْبُوبَتِهِ!" (ص121).

قاموس آمال عوّاد رضوان الشّعريّ غزيرٌ،حافلٌ وزاخرٌ أيضًا بالكلمات الفصحى الجميلة، مثل: زمهرير؛ (أي البرد الشّديد القارص)، و(يتسربل؛ أي يرتدي ويلبس)- فتقول (ص107):

* "أَعْتِقِينِي مِنْكِ/ مِنْ إِغْرَاءَاتِ أَوْهَامِي/ مِنْ زَمَهْرِيرِ أَحْزَانِي!"..

وهذا تشبيهٌ جديدٌ ومبتكر، لم يستعملهُ شاعرٌ مِن قبل. ومثل كلمة (جحافل؛أي الجيوش الجرّارة)، وكلمة (يُضَمِّخ)، و (يشرئبُّ)، و (اضمحلال)، و (يتأجّجُ) وإلخ...

وتستعملُ الشّاعرةُ في هذا الدّيوان التّكرارَ اللّفظيَّ، أو تكرارَ أحد الأحرف في نفس الكلمة، لتضيفَ للجملةِ والعبارة الشّعريّةِ تصويرًا للكلمة، وتُضفي جمالًا وسحرًا ورونقًا موسيقيّا، أو لتؤكّدَ على معنى معيّن، أو لتوضيح الصّورة والمشهد الشّعريّ الدّراميّ للقارئ، وبشكلٍ فنّيّ تقنيٍّ ذكيٍّ ومُحكم.. وأمثلة على ذلك، مثل:

* "فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ.. أَسُووووووحُ" (ص12). يتكرّر حرف الواو هنا خمس مرات.

* "آااااهٍ.. كَمْ تَشَهَّيْتُكِ" (ص28). يتكرّر حرفُ الألِف 4 مرّات في كلمة آه.

* "آااهٍ لَوْ تَعْلَمِينَ/ كَمْ يَشُوقُنِي يَنْبُوعُ قُبَلِكِ/ اِسْـقِــنِـيـهَـا.. اِرْوِنِـيـهَـا" (ص 10).

حيث تكرّر الحرف الأول (آ) للتأكيد على المعنى والحالة النّفسية والحسرة..

* " آآآآآآآآآآه/ نَشْوَةُ آهَتِي الْمَكْتُومَةُ/ مُتْخَمَةٌ.. بِلَدْغَاتِ تَجَاهُلِكِ!" (ص39).

يتكرّرُ حرفُ الألف في كلمة (آه) عشر مرات، وتدلُّ وتشيرُ الكلمة هنا في هذا التّكرار الحرفيّ إلى ذروةِ وقمّةِ تفاقم النّشوة الحارقةِ والمتأجّجةِ والمكتومة..

* "وَيْحِي/ إِنْ كَفَّتْ رُوحِي عَنِ التَّشَظِّي/ فِي مَدَااااااااكِ الْبَعِيــــــــــــــــــــــــدِ" (ص 70).

 وتستعملُ في العديد من الجمل كلماتٍ مُفكّكةَ ومُبعثرةَ الأحرف أفقيًّا وعموديًّا، لتُشير إلى الوضع والحالة النّفسية، ولتؤكّدَ المشهدَ الدّراميَّ وغيرها أيضًا، مثل:

* "لَكَمْ يَسْتَهْوِينِي/ تَــ فْـــ كِـــ يـــ كُـــ كِ/ قَبْلَ أَنْ أُعِيدَ إِلَيَّ.. لُـــحْـــمَـــتَـــكِ" (ص29).

وأيضًا مثل جملة: * "بَعْثِرِي شِـــ فَـــ ا هِـــ ي/ عَلَى ضِفَافٍ.. تَلْتَهِبُ بِنبوغِ الْقُبَلِ!".

   ويشعرُ القارئ ويحسُّ بالفعل عندما يقرأ هذه الجملة الشّعريّة، كأنّ الشّفاهَ مُفكّكةٌ بحسب طلبها وأمرها، لأنّ كلمةَ (شفاه) كُتبتْ مُفكّكة ومبعثرة وكلّ حرفٍ لوحده، ويُدخلُ إلى نفسيّة المتلقّي (القارئ) نوعيّةَ المشهد وجوَّهُ والحالةَ النّفسيّة، وأنّ الشّفاهَ مبعثرةٌ ومفكّكة..

 وأمثلة أخرى من هذا الدّيوان على كلماتٍ كُتبت أحرفُها مُفكّكة ومبعثرة مثل:

* "أَحْلَامِي مُعَلَّقَةٌ../ بَــ ~~ يــْـ ~~نَ../ وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ/ وَأَقْدَامِي تَتَعَثَّرُ../ بَــ ~~ يــْـ ~~نَ../ جُدْرَانِكِ الْــ تَتَهَاوَى!" (ص4)

* "قَلْبِي الْــــ يَــــكْـــــــبُــــــــــــــــرُ بِكِ/ حينَ../ يَـ~~جْـ~~ـمَـ~~ـحُ../ شَجْوًا" (ص5)

* "وَ.. أُحَلِّقُ حُرْقَةً/ أَ~ تَـــ~لَــــ~وَّ~ى/.. وَ../ أَ ~ تَـــ~ لَــ~ وَّ~ عُ/ فِي قَفَصِ النِّسْيَانِ!" (ص48).. أي أتلوَّى وأتلوَّع.

* "أَيَّتُهَا النَّشْوَةُ الــ.. تَسْــ.. كُـــــنْ/ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ" (ص56).

* "فَلَا تَقْلِبِي.. ظَهْرَ النَّهْرِ/ وَ بَـ~يْـ~نَ ظِلَّيْنَا/ دَعِيهِ يَــــجْــــرِي/ لِأُتَــوِّجَــكِ.. مَلِيكَةَ كُلِّ الْكَوْنِ" (ص62).

   وتستعملُ الشّاعرةُ في هذا الدّيوان الكثيرَ من علاماتِ السّؤال وعلامات التّعجب في نهاياتِ

الجُمل، فوُضِعَتْ وَوُظّفَتْ بشكلها الصّحيح الجميل والفنّيّ، تفيدُ الفحوى والمعنى المنشود، وتضيفُ رونقًا وجماليّةً خاصّةً ومميّزةً للجُمل الشّعريّة، ولا تخلو صفحةٌ واحدة في الدّيوان دون وضع بضعة علامات تعجّب واستفهام.. وأمثلة على ذلك مثل:

* "كَأَنَّ حُبِّي وَهْمٌ.. كَإِلهٍ/.. إنْ لَمْ يَتَجَسَّدْ؟!"(ص6)

* "أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ!" (ص7)

* "وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي.. تَتَحَجَّبُ/ خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ!" (ص7)

* "فَلَا نَظَلُّ مُبَلَّلَيْنِ/ عَلَى نَاصِيَةِ رِيحٍ.. بِلَا مَصَابِيح!" (ص9)

* "وَأَظَلُّ فَضَاءَكِ الْمُشَرَّعَ../ عَلَى قَيْدِ الاشْتِعَالِ!" (ص11)

* "فَلَا أَغْدُو فَرِيسَةً لِمَجْهُولٍ/ يَصْطَادُنِي فِي غَفْلَةٍ؟" (ص16).

* "لَا تُدْخِلِينِي.. فِي طُقُوسِ الاعْتِرَافِ/ حَيْثُ تَبُثِّينَ الرَّمِيمَ../ بِنَارِ الْحَيَاةِ!" (ص29)

* "دَحْرِجِي النُّورَ/ عَنْ عَيْنِ دَهْرِي الْأَعْوَرِ!" (ص41)

* "مِنْ خَلْفِ أَسْوَارِ الضَّاحِيَةِ/ تُطِلِّينَ.. بِحَيَاءِ ضَحِيَّة!/ إِلَامَ تُقَدِّسُنِي خَطِيئَتِي؟/ إِلَامَ تُؤَلِّهُنِي حَمَاقَتِي؟" (ص43).

   ونجد هنا التّشبيهَ النّقيضَ أو المعاكس، أي المشبَّه والمشّبه به متناقضان ومتعاكسان، ولا يوجد أيّ رابطٍ أو شبهٍ بينهما (سلبيّ وموجب).

* "رُحْمَاكِ/ لَا تُضَيِّقِي آهَاتي.. بِانْحِسَارِ دَهْرِي!" (ص57)

* "يَا مَنْ تَفُوحِينَ عِطْرَ رَبِيعِكِ صَبَابةً/ إِلَامَ تُقَلِّدِينَنِي مَحَارَاتِ سُهْدِي؟/ إِلَامَ تُؤَلِّقِينَنِي مَزْهُوًّا.. بِصَفْعِ عِنادِكِ؟" (ص61).

* "أَتَطَالُنِي آلِهَةُ حُزْنِي.. فِي مِصْيَدَةِ الْعَبَثِ!/ أَأَعْتَصِمُ بِلِقَاءِ الصُّدَفِ.. أَمْ بِسَطْوَةِ لَهْفَتِي؟/ كَيْفَ

أَقْمَعُ خَرِيفِي.. بِأُغْنِيَةِ الْمَطَرِ؟/ أَتَخْلُو قَوَادِمُ الْأَيَّامِ.. مِنْ لَهْفَةِ اشْتِهَاءٍ؟" (ص63).

* "رُحْمَاكِ/ أَلْبِسِينِي زُرْقَةَ الْحَيَاةِ.. فِي أَوْطَانِ مَائِكِ النَّمِيرِ!" (ص68).

* "أَيَا أَيَّتُهَا الْفَاتِكَةُ بِي/ أَنَّى أَتَحَمَّلُ ذُنُوبَ فَوَاحِشِ حَرْفِكِ؟/ مُذْ غَادَرَتْنِي.. غُدْرَانُ مُحَيَّاكِ/ انْطَفَأَتْ.. ذُبَالَاتُ عَيْنَيَّ!" (ص75).

* "أَتُنْبِتُ مَوَانِئُ الْعَتْمَةِ آمَالًا../ فِي حَقَائِبِ الْهَجِيرِ؟" (ص85)

* "فهَلْ أَتَعَثَّرُ بِيَنَابِيعِكِ.. لِتَرْثِيَ خَوَاطِرِي الْمُتَكَسِّرَة؟" (ص89).

* "فَـقَــطَــفْــتِــنِـي اشْتِعَالًا/ وَأَطْــفَــأْتِــنِــي أَقْمَارًا مُتَكَسِّرَةً/ لكِنْ.. كَيْفَ أَتْــقَــنْــتِــنِـي جُنُونَ أَبْجَدِيَّةٍ؟" (ص91).

* "منذُ احْتِطَابِ وَقْتِيَ الرَّؤُومِ/ لَمْ يُنعِشْ صِلْصَالَ كَأْسِي/ اخْضِرَارُ حُنْجُرَتِكِ!" (ص95).

* "يَا مَنْ لِحُضُورِكِ الْبَذْخُ/ كَحُضُورِ مَلِيكَةٍ كِنْعَانِيَّةٍ/ كَأُسْطُورَةٍ.. فِي خَيَالِي تَتَبَخْتَرُ/ مِنْ حَوْلِكِ مَلَائِكَةٌ تَتَمَخْتَرُ/ فِي سُبْحَةِ تَرَاتِيلِكِ/ وَرُوحُكِ تَتَجَلَّى.. فَوْقَ يَاقَةِ حُلُمِي!/ أَحُرَّاسُكِ شُدُدُ؟/ أَتَحْرُسِينَكِ مِنِّي.. أَمْ تَحْرُسِينَنِي مِنْكِ؟" (ص102).

* "كَمْ أَتُوقُ إِلَى مَنَابِعِكِ/ لِأَرْوِيَ تَارِيخًا..مِنَ الْعِشْقِ الْمَكْنُونِ!" (ص111).

* "أَلَعَلَّ قِيثَارَةَ الْبَنَفْسَجِ/ تَتَسَايَلُ شَذًى مَسْحُورًا؟" (ص112).

* "وَقْتِي يَصْحُو مُعْتِمًا/ يَشِيبُ بِعِنَادِكِ/ وَلَيْلِي يَتَقَصَّفُ/ مُتَبَرْعِمًا بِيَأْسِي الْأَزَلِيِّ!" (ص115).

* "كَمْ حَنَّ خَيَالِي الْمَهْجُورُ!/ مَا انْحَنَى هَيْكُلُهُ/ وَبَوْحُ نَايِي الرَّشِيقِ/ مَا شَاخَ أَنِينُهُ!" (ص119) إلخ...

    وتُكثرُ الشّاعرةُ في هذا الدّيوان من استعمال الفواصل على شكل نقطتين بجانب بعض (..)، وتُوظّف في هذا الدّيوان الكثيرَ من الصّور الشّعريّة الخلّابة، والاستعاراتِ البلاغيّة الحديثة والمبتكرة وبشكل مكثّف، فديوانها حافلٌ وزاخرٌ بالصّور الشّعريّة، وبالاستعارات البلاغيّة الجديدة والمبتكرة الّتي لم يستعملها أحدٌ من قبل، وبالمصطلحاتِ اللّغويّة الجديدة، وأمثلة على ذلك مثل:

* "ففِي أَثِيرِكِ الْحَرِيرِيِّ/ أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ/ بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ!" (ص7).

* "أَنَا.. مَنِ امْتَطَتْنِي وحْشَةُ الْفَقْدِ/ لَمَّا أزَلْ/ أُسَبِّحُ.. سِحْرَ سُكُونِكِ/ مَا نَسِيتُ.. ذَاكِرَةَ عُشْبِكِ الْمُقَدَّسِ/ حِينَ يَسْتَحِيلُ.. لِصَرْخَةٍ فَرِيدَةٍ!" (ص13).

* "سَلَامًا مُدَلَّهًا.. أَعْصِرُنِي/ لِنُورِكِ الْبَهِيِّ/ يَتَأتَّانِي.. مِنْ مُحَيَّا أَتَعَشَّقُهُ/ لَهُ فِي جِرَارِ الْقَلْبِ/ أَلْفُ مَعْنًى.. وَ.. أَلْفُ مَغْنًى!" (ص18).

* "أَيَا قَصِيدَتِي الْخَالِدَةَ/ دَعِينِي.. أُقَشِّرُ لِحَاءَ عَتْمَتِكِ/ أُضِيءُ كُلَّ تَفَاصِيلِكِ/ لِتُكَلِّلِينِي بِالْفَرَحِ" (ص24).

* "رُحْمَاكِ/ فِي طَوَاحِينِ خَفْقِكِ الْمَخْنُوقِ/ أَبْجِدِينِي.. بِجُنُونِكِ!" (ص36).

* "يَا الْمُتَسَلِّلَةُ.. كَشُعَاعٍ وَحْشِيٍّ/ إِلَى أَقْفَاصِ سَعْدِي/ ضَمِّخِينِي.. بِرِيحِ مَلَائِكَتِكِ/ دَحْرِجِي النُّورَ/ عَنْ عَيْنِ دَهْرِي الْأَعْوَرِ!" (ص41)

       ويبدو هنا بوضوح تأثُّر الشّاعرة بسِفر نشيد الإنشاد لسليمان الحكيم.

* "بَوْحِي.. وَرْدٌ جَرِيحٌ/ عَلَى سِيَاجِ رَبِيعِكِ/ لَا يَحُدُّهُ نَزْفٌ/ وَلَا يَلُفُّهُ وَدْعٌ.. وَلَا حَتْفٌ!/

وَأَنْتِ وَدْعِي وقَدَري!/ أَنْتِ وَدَعِي وَسَكَنِي!/

وَكَنُبُوءَةٍ وَادِعَةٍ../ فِي تَمَامِ الْأَزْمِنَةِ/ تَبْعَثِينَني شَهْوَةً/ فِي لُغَتِكِ الْيَانِعَةِ!" (ص45).

* "أَيَا مُهْرَةَ بَوْحِي/ حَلِّقِينِي إِشْرَاقَةً.. تَجْثُو فِي السَّحَر/ لِأَتَشَدَّقَ بِفِيكِ.. برَغْوَةِ مُرَاوَغَتِكِ/ ولِتَشْرَئِبَّ شِفَاهِي اللَّهْبَى ظَمَأً/ لِعَطَشِ أَلْسِنَةِ لَهَبِكِ/ فَمَا أَرْوَعَكِ.. أَيَا مَاهِرَةَ الْبَوْحِ/ أَنْهَلُكِ.. نَهْلَةً نَهْلَةً.. وَلَا أَرْتَوِي" (ص52).

* "غمَامًا روحيًّا.. تَتَشكّلينَ/ فِي وَاحَةِ أشْجَانِي/ وأَبَدًا/ مَا كَانَ جَمَالُكِ.. إِلَى اضْمِحْلالِي" (ص53).

* "أَرْغِفَةُ عُمْرِي../ قَدَّدَهَا غُبَارُ أَحْلَامِي!/ كُؤُوسُ جَوَارِحِي.. تَنَاهَبَتْنِي/ فِي دَهَالِيزِ اللَّحْظَةِ!/ وَقَوَافِلُ نبضي.. تَمْضِي مُثْقَلَةً بِشُحِّهَا" (ص58).

* "يُسَاهِرُنِي اللَّيْلُ../ يُرَاقِصُ زَنَابِقَ أَحْلَامِي/ يُدَغْدِغُ مَكْنُونَاتِ رُوحِي/ وَأَتَثَاءَبُنِي.. انْسِكَابَ خُمُورٍ/ لَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا/ إِلَّا مَنْ نَادَمَ كُؤوسَ أَبْجَدِيَّتِكِ!" (ص74).

* "وَلَمَّا تَزَلْ تَنْسَلُّ.. خُيُوطُ قَلْبِي شَاحِبَةً/ فيَكِرُّ وَجْهِي.. جَمَالَكِ/ ويَتَسَلَّلُ إِلَيَّ.. ضَبَابُ اللِّقَاءِ/ وَأَخْـــشَــعُ سَــاجِــدًا/ حِينَ تَتَدَلَّى ضَفَائِرُ آمَالِي!" (ص76).

* "يَا مَنْ تُفَتِّقِينَ أَكْمَامَ الْبَرْدِ/ بِلَفْتَاتِكِ الْـ.. تَـــثْـــقُـــبُـــنِــي/ كَعُصْفُورٍ كِرْكِسِيٍّ.. مُغَرِّدًا أَنْبَثِقُنِي/ أَتَسَرْبَلُ نِدَاءَكِ/ حِينَ تُسْدِلِينَ.. زَقزَقاتِ حُرُوفِكِ الْمَائِيَّةِ/ عَلَى جِذْعِ لَيْلِي الْمُجَوَّفِ/ وَأُورِقُ.. بِمِيلَادِ طِفْلَةِ الرُّوحِ!" (ص76).

* "أَجْهَشَتْ رَقْصَةُ زُورْبَا.. تُحَاكِي أَطْلَالِي/ تُجَبِّرُ مَا بَطُنَ مِنْ كُسُوري/ فِي هَوَامِشِ خَطوي!" (ص83)... وتوظف الشّاعرة هنا شخصيّة زوربا.

* "زِئْبَقُ الْمَسَافَاتِ يَزُفُّ هَمْسِي/ يَثُورُ وَلَهًا.. يَفُورُ شَغَفًا/ يَتَوَغَّلُ فِي رُكُودِ حِكَايَةٍ جَامِحَةٍ/ وَلَا يَخْنَعُ.. لِمَا بَطُنَ مِنْ جِرَاحِي!" (ص92)، وقد تعني هنا المسافات الطّويلة الّتي لا تحسُّ وتشعر بها، وتختفي وتتلاشى كأنّها عنصر الزّئبق.

* "أَترَاكِ تُمْعِنِينَ فِي فَتْكِي/ وَفَكِّ عَقَارِبِ وِصَالِنا الْقُرْمُزِيِّ؟" (ص93).

* "أَكَأَنَّمَا../ عَجَّتْ أَنْفَاسُ الْمَاضِي الْمَثقُوبِ/ بصَرَخاتِي الْمُنِيفَة؟/ أَيَا غَزَالةَ النَّدَى/ ها ظَمَئِي.. لَمَّا يَزَلْ يَسْتَعِرُ بفُيُوضِكِ النَّوْرَانِيَّة!/ أَنَا مَنِ احْدَوْدَبَ لَهِيبُ أَدْغَالِي.. مُذْ فَطَمَتْهَا نِيرَانُكَ/ مَا تُبْتُ عَنْ ظَمَئِكِ

الْمُدَّخَرِ!" (ص93).

ويبدو هنا بوضوح الصّور الشّعريّة الجميلة والحديثة، والتّعابير والاستعارات البلاغيّة المبتكرة

الّتي لم يستعملها أحدٌ من قبل.

* "منذُ احْتِطَابِ وَقْتِيَ الرَّؤُومِ/ لَمْ يُنعِشْ صِلْصَالَ كَأْسِي/ اخْضِرَارُ حُنْجُرَتِكِ!/ وَهَا مُرُوجُ تَمُّوزَ.. هَاجَتْ أَثْدَاؤُهَا/ عَلى امْتِدَادِ مَجْهُولٍ.. أَرْضَعْــتِـنِـيهِ!/ فِي رُؤى مَرَابِطِي/ تَفَشَّى سَيِّدُ الرَّحِيلِ الصَّاهِلِ!"

(ص95).

* "لِمَ فَتَّقْتِ أَسْرَارَ لَيْلِي الْخَزَفِيِّ/ حِينَ هَشَّـتْهَا أَنْفَاسُ (أُحُبُّكِ)؟"(ص96).

* "بِلَيَالِي عَطْفِكِ الشَّمْعِيِّ/ تَضَافَرْتُ.. جَدَائِلَ أَحْلَامٍ مُتَكَسِّرَةٍ" (ص98).

* "دَعِينِي أَلْتَحِفُ.. بِرَوَافِدِ أَسْرَارِكِ/ لأَزْدَانَ بِحَمَائِمِ نَقَاوَتِكِ!" (ص106).

* "بِتَجَاعِيدِ نَدَاكِ/ أَمْتَطِي خُيُولَ خَيَالِي( (ص110).

* "عُذْرِيَّةُ سُيُولِي/ أَضْنَتْهَا مَلَاحِمُ شَفَقِكِ الْنّاعِسِ" (ص112).

* "من مواقدِكِ/ أستمدُّ دَيْمُومَة التّوَقّدِ." (ص114).

* "وَقتي يصحُو مُعتمًا.. يشيبُ بعنادِكِ/ وليلي يتقصَّفُ.. مُتبرعمًا بيأسي الأزليّ!" (ص115) تعطينا الشّاعرة هنا صورة شعريّة جديدة لليأس.

* " أأهابُ دَيْنونة التّمَرُّدِ؟؟" (ص114).

* "هَدْهِدي أهدابَ سُحبي.. بدمعةِ شمسِكِ !" (ص120).

* "أنا المُكبَّلُ بتبرِ روحِكِ" (ص124).

* " وَكَمِثْلِ خَلَاخِيلِ وقْتِي الْجَرِيحِ/ غَدَتْ تَعْزِفُنِي أنْفَاسِي!" (ص127).

* "لِمَ أَعْشَاشُ ذِكْرَاكِ .. فَاضَتْ عَارِيَةً/ زَاهِدَةً .. عَنْ فِرَاخِي الْجَائِعَةِ؟" ( ص 140).

* "هَا انْسَابَ لُعَابُ نُورِكِ/ في مَضَائِقِ كِبْريَائِي". و *"يُجَرْجِرُنِي.. إِلَى عَاجِ ضَوْئِكِ الْفَاتِكِ!"، و *"لِمَ فَتَّقْتِ أَسْرَارَ لَيْلِي الْخَزَفِيِّ؟"، و *"أَنَّى يَشِينِي مَوْجُكِ الْغَافِي/ عَلَى لَهَبِ غِيَابكِ؟"، و *"أَنْدَهِشُ وَأَنْذَهِلُ/ كَيْفَ غَصَصْتُ بِقُبْلَتِكِ؟"

    وتستعملُ الشّاعرةُ آمال وتُوظّفُ في ديوانها أيضًا الكثيرَ من المُحسّنات اللّفظيَّة والبديعيَّة، وخاصّةً الجناس، مثل:

* "برَغوةِ مُرَاوَغتِكِ"، و *"لتشرئبَّ شفاهيَ اللّهبى" (ص 52).

* "حِينَ تُوَشْوِشُنِي أَهْوَاءُ أَمْوَاهِكِ/ يَلْهَجُ نَبْضُ مَدَاكِ حَيَاةً" (ص99).

* " أَضِيئِي.. أَوْتَارِيَ الْــ يُوَسْوِسُهَا السُّوسُ!" (ص104)

* "أَبِمَائِكِ أَتَحَمَّمُ وَأَحْتَمِي!" (ص127)، وهنا جناس غير تامّ، ولكن كلمة (أتحمَّمُ) غير صحيحة من ناحية لغويّة، وقد وقع في هذا الخطأ الشّاعر والأديب المهجريّ الكبير والعالميّ جبران خليل جبران في قصيدته المواكب حيث يقول: "هل تحمَّمتَ بعطرٍ وتنفستَ بنور"، والصّحيح هو: هل

(استحممت وليس تحمَّمتَ. (نقول: استحمَّ ويستحمُّ وليس تحمَّم و يتحمّمُ).

* "بِتَجَاعِيدِ نَدَاكِ/ أَمْتَطِي خُيُولَ خَيَالِي"(ص110).

* "تتلهَّى بغيِّهَا.. تتغاوى برغوةِ عشقي" (ص113)، جناس غير تامّ.

* "هَا الْمَجْهُولُ الدَّاهِمُ.. يُزَقْزِقُ/ ومَا عَادَتْ أَنْغَامُ الْغَمَامِ.. تَلْكُؤُهُ!" (ص122).

ويبدو هنا بوضوح قدرةُ الشّاعرةِ وعبقريَّتُها الشّعريّة وذكاؤُها، في اختيار الكلمات المعبّرة والهادفة بشكلٍ يعطي المعنى الحسّيّ والذّهنيّ الدّقيق، ويوصِل الرّسالةَ والفحوى للقارئ بشكل صحيح وكامل تقنيِّ وفنّيّ مميّز.

   وتستعملُ في هذا الدّيوان وفي غيره من دواوينها الأخرى الفعل بصيغة الأنا، أي أنَّ الشّخص نفسه يقوم بالأمر وبإلقاء العمل على نفسه، وهذا الاستعمالُ اللّغويّ والنّحويّ جديدٌ ودخيلٌ على اللّغة والأدب العربيّ ومنذ فترة قصيرة، والقلائلُ من الشّعراء العرب الحديثين والمجدّدين الّذين يستعملونه، ويتوكّؤون على هذا النّمط كلونٍ وشكلٍ من التّجديد في اللّغة - محلّيًّا وفي العالم العربيّ، وقد يكون غير مستحبٍّ وَمُحبَّذ لبعض الشّعراء والأدباء، ولكن إذا استُعمِلَ بشكل صحيح وفنّيّ، وليس بشكلٍ مكثّفٍ ومُملٍّ، يكون جميلًا شكلًا وأسلوبًا، وعلى سبيل المثال في هذا الدّيوان، مثل:

* "هَاءَنَذَا أَتْرُكُنِي لَكِ قَلْبًا سَاخِنًا/ عَلَى عَتَبَةِ لِقَائِنَا" (ص 99)، أي أَتركُ نفسي لك قلبًا.

* "عَلَى حَافَّةِ الْمَسَاءِ.. غَادَرْتُنِي" (ص127)، أي غادرت أنا نفسي بنفسي

   وتستعملُ أيضًا التّشبيهَ العكسيَّ والنّقيض، فلا يكون هنالك أيُّ وجهٍ للشبه أو أي تقارب بين المُشبَّه والمُشبَّه به، أي عكس التّشبيه المباشر والواضح الّذي يكون كالتّصوير الفوتوغرافيّ المحض، والّذي ينتَهجُهُ ويتقيّدُ به معظمُ الشّعراءِ العرب منذ الجاهليّة إلى الآن.

     وفي العصر الحديث أصبح العديدُ من الشّعراء العرب المجدّدين، والّذين يسيرون في ركْب الحداثة، يبتعدون عن القوالب الشّعريّة التّقليديّة الجاهزة، وعن التّشبيهاتِ والاستعارات البلاغيّة المتسعملة والمستهلكة الّتي أكل الدّهرُ عليهَا وشرب، وبدؤوا يتعَمَّقُون في الفحوى والجوهر، ويبتكرون الكثيرَ من الصّور الشّعريّة، والاستعاراتِ البلاغيّة، والمُحسّناتِ اللّفظية الجديدة، وخاصّة في مجال التّشبيه، حيث لا يكون هنالكَ تصويرٌ واضحٌ ومباشر، ممّا يصعبُ على القارئ البسيط تحليلَ الصّورة الشّعريّة وفهمها بشكل عميق وشامل.

     ويوجدُ العديدُ من شعراءِ الحداثة في العصر الحديث على هذا النّمط، وأمّا في العصور السّابقة فربّما يكون امرؤُ القيس الكنديّ أولَ من جدّد في هذا المجال وابتكرَ، فابتعد عن السّطحيّة والتّشبيهات البسيطة المباشرة والواضحة، وتفنّنَ بكلِّ معنى الكلمة في استعمال تشبيهات وصور واستعارات بلاغيّة لم يستعملها شاعر من قبل، وفي الكثير من الأحيان لم يستعمل أدوات التّشبيه، واستعملَ التّشبيهَ والصّورةَ المعاكسة والمناقضة، وأبدع في هذا المجال أيُّما إبداع، وهنالك من النّقاد والأدباء الأجانب الكبار مَن شبَّهَ امرؤ القيس بالشّاعر العالميّ وليم شكسبير.

يقول امرؤُ القيس مثلا: "وليلٍ كموج البحر ِأرخى سُدوله عليَّ/ بأنواع الهُمومِ ليبتلي/ فقلتُ لهُ لمَّا تمطّى بصلبهِ/ وَأردفَ إعجازًا وناءَ بكلكلِ"

امرؤُ القيس يشبّهُ اللّيلَ بموج البحر، وقد أرخى سدوله، وهو أول شاعر عربيّ استعمل هذا المصطلح (أرخى اللّيلُ سدوله)، ويُشبِّهُ اللّيلَ أيضًا بالجَمل، مع أنه لا يوجد أيُّ قاسم مشتركٍ، أو أيُّ وجه شبه بين اللّيل وموج البحر والجمل، وهو أيضًا أول من استعملَ هذا التّشبيه (مِكرٍّ مِفرٍّ مُقبلٍ مُدبرٍ)... وفي كلمات متناقضة.

ومثال على ذلك من ديوان الشّاعرة القديرة آمال عوّاد رضوان حيث تقول:

* "ما أحيلاهُ مُرَّكِ" (ص100) - النّقيض - المر والحلاوة.

* "ألبسيني أدغالَ سماواتِكِ" (ص 104). المعنى الشّكليّ للكلمتين متناقض، فالأدغال ترمزُ وتشيرُ إلى العتمة، وللمتاهات، وللشّرّ، والصّراع وللأماكن الخطرة. والسّماءُ ترمزُ للنّقاءِ، والصّفاء، والسّلام والعدالة المطلقة.

* "خطيئتي المُقدّسة" (ص 106).. ويبدو النّقيض - القداسة والخطيئة.

* "تُخلّدُهُ نارُكِ.. ولا يؤُولُ إلى رماد" (ص 114).

* "فاضتْ كفِّي المَثقوبةُ" (ص120). * "نهاركِ الكفيف" (ص 127).

   وتستعملُ في هذا الدّيوان بعض المصطلحات والجمل التي لا يفهمها القارئُ البسيط  والسّطحيّ  ويدرك فحواها، ويظنُّ أنّها إيحاءاتٌ  جنسيّة، وقد تعني بها الشّاعرةُ أمورًا ومواضيع وقضايا أخرى، وأبعادًا إنسانيّة وتاريخيّة ولاهوتيّة وفلسفيّة، وترمزُ إلى العطاء والثمار والخصوبة والأمومة ودورة الطبيعة والحياة والبقاء، وتلتقي في هذا المنطلق والمنحى مع الشّعراء الصّوفيين، وهي تذكرنا بالشّعراء الصّوفيّين الكبار الغزليّين، وبكتاباتهم وقصائدهم الغزليّة المُوَشَّحَة بالتّعابير الحسّيّة والجنسيّة، ويقصدون مواضيع وقضايا أخرى: فلسفيّة، وإنسانيّة، وروحيّة، وتفاني المخلوق وذوبانه حُبًّا في محبَّةِ الخالق (الحب الإلهيّ):

   يقول الشّاعرُ الصّوفيُّ الكبير ابن الفارض: "ومن أجلها طاب افتضاحي/ ولذّ لي اطراحِي وذلي بعد عِزِّ مقامي/ وفيهَا حلا بعدَ نُسكي تهَتّكي/ وَخلعُ عِذاري وارتكابُ أثامي/ فرشتُ لها خدّي وطاءً على الثّرى/ فقالتْ لك البشرى بلثمِ لثامي".

     ومن الشّعراءِ الكبار في العصر الحديث الّذين نجد في شعرهم النّفحات الصّوفيَّة المترعة بالتّعابير والمصطلحات الجنسيَّة، الشّاعر العراقي الكبير (مضفر النّوَّاب)، ويقولُ في قصيدة له من ديوانه (وتريَّات ليليَّة): "في تلكَ السّاعةِ من شهَوَاتِ اللّيل/ وعصافيرُ الشّوكِ الذّهبيَّةِ تستجلي أمجادَ ملوكِ العربِ القدماءْ/ وَشُجَيْرَاتُ البرِّ تفوحُ بدفءِ مراهقةٍ بدويَّهْ/ يكتظُّ حليبُ اللّوزِ ويقطرُ من نهديهَا في اللّيلِ/ وأنا تحتَ النّهدينِ غناءْ".

ويقولُ أيضًا في قصيدةٍ أخرى: (شبقًا في لحمِ المرأةِ كالسّيفِ العذب الفحلْ).

وتقول الشّاعرة آمال عوّاد رضوان:

* ".. وَعَتِيقُ رَجَائِي.. مَا انْفَكَّ يَتَأَنَّقُ/ بِرَائِحَةِ بَيَاضِ أُنُوثَتِكِ!" (ص26).

* " دَعِينِي أُمَرِّرُ شَفَتَيْكِ../ عَلَى شَفَتَيَّ/ لِأَنْذَهِلَ اتِّقَادًا" (ص29).

* "ها تِينُكِ المُعَسَّلُ/ يقطرُ شهدُهُ مُتَّقِدًا/ كَجَمْرَةٍ/ تَفُوحُ مِنْهُ رِائِحَتُكِ/ وَغِمَارُ أُنُوثَتِكِ الــ أَشْتَهِي" (ص31)/ * "غِماري.. في تمامِ نضجِهَا/ مُثقلةٌ.. بلذائذِ فاكهتِكِ المُشْتَهَاةِ/ تشَقَّقتْ.. مُولعَةً بنُضْجِكِ". وإلخ.. (ص32).

   ويبدُو هنا بوضوح تأثّرُ الشّاعرة بسفر نشيد الإنشاد لسليمان الحكيم.

* "أَتَــــمَـــرَّغُ.. بِبَحْرِ جُنُونِكِ/ حِينَ أَنْفَاسُكِ/ تُنْبِئُنِي.. بِجُلِّ خَلَجَاتِكِ/ وَحينَ تَندُّ عَنْكِ.. شَهْقَةُ اشْتِهَاءٍ/ فَلَا أَنْطَفِئُ!" (ص34).

* " وَأَنَا الْمَسْكُونُ بِرَغْبَةٍ/ تَطْغَى عَلَى رَبِيعِ حِرْمَانِي/ دَفْقَاتِي/ مَا عَادَتْ تَحْتَمِلُ/ أَيًّا مِنَ تَأْجِيلَاتِكِ!" (ص28).

* "ولمَّا يزل طعمُ نهديكِ على لساني../ مذ كنتُ رضيعِكِ/ ولمَّا أزلْ..أفتقدُ بياضَ حليبٍ/ يدرُّ شبقًا على شفاهي! / ما أفُلَتِ اللّذّةُ..في رعشتِهَا"(ص39).

* "رفّئيني.. بوِئامِكِ والهَناءِ!/ ولا تتنصَّلي من دفءِ جَسَدي/ أريدُكِ.. أنثى مُشْبَعَةً بي/ تَهْذي في مجاهلِ الدّفءِ/ بحرارةِ ذراعيّ" (ص134).

   وفي الدّيوان نجدُ الكثيرمن الإشعاعات والنّفحات الصّوفيَّة والفلسفيّة عميقة المعاني، جليلة الفحوى والأهداف بأبعادها الإنسانيّة، والعاطفيّة، والفكريَّة واللّاهوتيَّة، ويصعبُ جدًّا فهمها وتفسيرها على القارئ العاديّ، إلا مَن كان مُطّلعًا، ومُلِمًّا، ومُتعَمِّقًا ومُتبحِّرًا في الأدب الصّوفيّ. ويبدُو هنا بوضوح تأثُّر الشّاعرة بالفكر والأدب الصّوفيّ، وبروائع شعرائهِ الكبار المُترعة والمُشِعَّة بالحبِّ الإلهيّ مثل: جلال الدّين الرّوميّ، ومحيي ابن عربيّ، وابن الفارض، والسّهرودي، وشمس التّبريزي، ورابعة العدويَّة وغيرهم... تقول الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان:

* "بِأَوْتَارِ جَنَاحَيْكِ../ أُحَلِّقُ قَوْسَ قُزَحٍ.. خَلْفَ غَمَامِكِ/ حَيْثُ تَسْكُنُنِي السَّمَاءُ/ وَفَوْقَ حُدُودِ الْأَجْسَادِ.. تَطُوفُ بِي خُيُوطُ أَشْجَانِكِ!/ أَنَّى لِغَابِرٍ فِي الزُّهْدِ.. أَنْ تتَعَفَّفَ بُرُوقُهُ/ وَنِيرانُكِ الْمُرَاوِغَةُ عَرّافَةٌ.. فِي مَواقِدِي تَتَأَنَّقُ وَتَتَجَمَّلُ؟" (ص82).

وتقول أيضًا: *"هَا زِئبَقِي راكِدٌ.. فِي قوارير عُزْلَتِي/ يُومِضُكِ حَكَايَا جَامِحَةً.. في فَجْوَاتِ زَمَانِي!". وتقول: *"لِلْمَقَامَاتِ.. سُبُلٌ مُقَدَّسَةٌ/ تَتَرَجْرَجُ.. وَتُلَامِسُ أَشِعَّتي/ وَتَتَوَغّلُ فِي فُيُوضِ تَقَرُّبِكِ!/ لكنَّ تهَرُّبَكِ/ يَفْتِكُ بِحَمَائِمِ أَعْشَاشِي/ يَقْضِمُ صَوْتِي الْمُتَعَسِّرَ فِي خَرَائِبِهِ/ مُذْ فَطَمَتْنِي عَنَاقِيدُ نَارِكِ!/ هَا نِصْفِي السَّمَاوِيُّ/ غَطَّ.. فِي تَفَحُّمِ ذَاكِرَتِي النَّيِّئَةِ/ يَحْرِقُ هَوَائِيَ الْمُمَغْنَطَ../ بِقَبْضَةِ صَمْتِكِ الصَّاهِرِ" (ص84 - 85).

ونقول أيضًا: *"هَا الْحُزْنُ الْمُخْمَلِيُّ/ يَتَوَسَّدُنِي.. كَوْمَةً شَوْكِيَّةً/ يُوغِلُ فِي مَشِيبِي/ فِي إغْفَاءَةٍ مُقَدَّسَةٍ/ وأَنَا الْمُكَبَّلُ بِتِبْرِ رُوحِكِ/ مَفَاتِيحُ الضَّبَابِ بَاتَتْ بِيَدِكِ!

أَيَا طَاعِنَةً/ فِي رَفِيفِ عِطْرِكِ السَّمَاوِيِّ/ أَنَا مَنْ ضَمَّخَنِي حَصَى فَرَاغِي/ بِنَبْضِ بَحْرِكِ/ بَاتتْ تَعُبُّني جِرَارُ الْحُرْقَةِ عُطُورًا/ وَتُغَنِّي لِلرَّاحِلِينَ/ أَلَا فَابْرِقِينِي.. بِوَمْضِ عَيْنَيْكِ/ غِيمِي حَنَانًا.. هِيمِي مَطَرًا/ وَاغْسِلِي صَخْرَ قَلْبِي/ بِزَيْتِ حُبِّكِ.. بماءِ عَفْوِكِ

لَا تُؤَثِّثِينِي/ لِشِعْرِكِ الْأُقْحُوَانِيِّ/ بَلِ اُنْقُشِينِي.. قَصَائِدَ صَلَاةٍ/ لِيَخْشَعَ.. ضَجِيجُ ضَيَاعِي

رُحْمَاكِ/ لَا تُقَمِّطِي رِيحِيَ.. بِأَسْمَالِ النَّارِ/ لَا تَلْتَهِمِي شُعَاعَ سُوَيْعَاتِي/ بِدَامِسِ ظُلمِكِ/ وَلَا تَغْسِلِي دَمِي.. بِالطِّينِ.. بالْغُبَارِ/ بَلِ اِرْوِي طَرِيقِيَ.. بِخُضْرَةِ أَنَامِلِكِ/ وَانْبُشِي أَعْشَاشَ ضَوْئِكِ/ عَلَّكِ تَبْعَثِينَنِي.. أَنَا الْمَنْسِيُّ/ فِي مِشْكَاةِ عَتْمَتِكِ الْبَهِيَّةِ/ وَعَلَّنِي أَنْبَثِقُ ذَاكِرَةً حَيَّةً/ مِنْ شُقُوقِ النِّسْيَانِ!" (ص124 - 126).

    ونجدُ في هذا الدّيوان توظيفَ عناصر الطّبيعةِ: كالعصافير، والضّباب، والسّحاب الماطر،

والشّتاء والعواصف، كرموزٍ دلاليَّةٍ لأبعادٍ وأهدافٍ عديدة، ومثال على ذلك تقولُ الشّاعرةُ:

*"غَيِّبِينِي فِي عَيْنَيْكِ.. دَمْعَةً/ وَدَعِينِي.. أَحِنُّ.. أُجَنُّ/ وَلا أَكِنُّ.. فِي عُرْيِ عَصَافِيرِكِ!/ يَا مَنْ أَسْـتَـغْـفِـرُكِ وَتَـسْـتَـغْـرِبِـيـن!؟/ كُونِي ضَبَابِيَ الْمُسَافِرَ/ إلَى سَحَابِكِ الْمَاطِرِ/ كُونِي.. قُوتَ حُلُمِي الْعَاصِفِ/ كُونِي.. قُطُوفَ شِتَائِي/ لِيَطُوفَ.. بِنَا الدُّوَارُ" (ص42).

ونجدُ أيضًا البعدَ الوطنيَّ واتّحادَ العاشق بالحبيبة الّتي هي الأرض والوطن والهويّة وكلُّ شيء، تقولُ الشّاعرةُ:

*"رُحْمَاكِ/ أَطْفِئِي يَأْسِي.. بِنُورِكِ الْمُقَدَّسِ/ لِأَظَلَّ أَجْمَعُ ظِلَالَكِ/ أُلَمْلِمُ رَعَشَاتِ ضَوْئِكِ/ وَلِأَسْتَظِلَّ بِقَدَرِي!/ أَعِدِّي مَائِدَةَ الْحُبِّ.. لِثِمَارِ حَنَانِي/ اِخْلَعِي عَنِّي مَنْفَايَ/ وَأَلْبِسِينِي وَجْهَكِ/ لِأَنْضُجَ.. بِحَنَانِكِ". (ص46).

    ويتجلَّى بوضوح البعدَ الوطنيّ وذكرَ أسماء بعض المعالم الهامّة في بلادنا مثل: مدينة حيفا ومنطقة الجليل، والنّاصرة والبشارة في هذه الجمل الشّعريّة:

* "مَا أُحَيْلَاهُ مُرَّكِ.. يَا ابْنَةَ النَّسَمَاتِ/ كَأَنَّ رَحِيقَكِ.. تَخَلَّقَ مِنْ نَسِيمِ حَيْفَا/ أَيَسُوقُ النَّسَائِمَ أَيْنَمَا شَاءَ/ لِطِينِ الْبِشَارَةِ نَاصِرَتِي/ لِتَجْبِلَكِ عُيُونِ الْجَلِيلِ فِي الْجَنَّةِ!؟/ يَا أَرَقَّ مِنْ نَرْجَسَةٍ اشْتَمَّهَا شَاعِرٌ/ فَغَدَا مَلَاكًا" (ص100).

    وبالإضافةِ للبعدِ الوطنيّ يحوي ويشملُ هذا الدّيوانُ مواضيعَ وأبعادًا عديدةً مثل: البعد اللّاهوتيّ، والبعد التّاريخيّ والميثولوجيّ (الأسطورة)، والبعد الفلسفيّ، والعاطفيّ، والبعد الإنسانيّ والفنّيّ. والشّىاعرة آمال عوّاد رضوان في هذا الدّيوان تتقيَّدُ بالقافيةِ والقفلة أحيانًا في نهاية بعض الجُمل الشّعريّة، وتتقيَّدُ بوزنٍ واحد أيضًا في بعض الجمل وبشكل عفويّ، فتضيف جمالًا وإيقاعًا حلوًا للقصيدة، وأمثلة على ذلك:

* "وَحْدَكِ/ مَنْ تُؤَجِّجُنِي بِالْجِنَانِ.. مَنْ تُتَوِّجُنِي بِالْحَنَانِ!/ مَنْ تَضْفِرُنِي مَوَاجِعا../ فَتَصْفِرُنِي رِيَاحُ أَحْزَانِي!/ أَتُرَاكِ تُعَاقِبِينَنِي.. بِكَمَالِكِ؟/ أَتُرَاقِصِينَنِي.. عَلَى أجْنِحَةِ هَذَيَانِي؟" (ص61).

وتقولُ: * "مَضَيْتِ.. وَخَلْفَكِ ظِلِّي الْمَوْجُوعُ/ وَمَا انْفَكَّتْ آفَاقِي.. يَتَنَاءَاهَا الجوعُ!/ فِي أَحْشَاءِ مَدَاكِ الْمُضِيئَةِ أَرْكَعُ/ وفِي دَهَالِيزِ عَيْنَيْكِ الْمُشِعَّتَيْنِ/ كَهَرَمٍ هَرِمٍ.. أَكْبُرُ وأَخْشَعُ!" (ص103).

 في هذه الأبياتِ الشّعريّة يوجدُ التزامٌ وتقيُّدٌ بالوزن أيضًا، مع خروج بسيط عن الوزن.. والأبيات على وزن المتدارك أو الخبب. ومثال آخر على التّقيُّد بالقافيةِ وقفلة البيت:

* "سُلْطانٌ حَالِمٌ.. تنَزّلَ بغيْمِ غَابَاتِي/ وَأَغْوَانِي!/ أَسْرَجَ عَيْنَ فرَسِي هَوًى/ وَهَوَى!/ وَلَمَّا يَزَلْ.. يُلَاغِفُ

أجْنِحَةَ شيْطانِي/ يُغْمِضُ خَطِيئَةَ مَلَاكِي/ عَلَى سَلَامِ إلْهَامِي.. وَمَا أَلْهَانِي!/ وَمَضَى/ مضى بعُمْرِي يَتَلَهَّى/ يَتَلَبَّسُ حُمَّى عِطْرِي/ يَتَلَمَّسُ ظِلَّ هَذَيَانِي!" (ص117).

     والشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان في هذا الدّيوان كما ذكرت سابقًا، تُوظّفُ الأساطيرَ (الميثولوجيا) وأسماءَ بعض الآلهة، والشّخصيّات الأسطوريّة القديمة، وبعض الشّخصيّات وأسماء الأماكن وإلخ...، بشكل صحيح وجميل وفنّيّ، فلا يُحسُّ القارئ الذّكيُّ بتكلُّفٍ، أو حشوٍ وابتذالٍ، أو تكرارٍ مُملٍّ، فلها اطّلاعٌ واسعٌ على التّاريخ والأدب، وخاصّة تاريخ وآداب الشّعوب القديمة، وهي تمتلكُ ثقافةً واسعة، بالإضافةِ إلى موهبتها الشّعريّةِ الفنّيّةِ الرّاقية والمميّزة، ولهذا فقد نجحت نجاحًا كبيرًا في توظيف شخصيّات الآلهة الأسطوريّة، والشّخصيّات التّاريخيَّة وغيرها في الدّيوان، لأهدافٍ وأبعادٍ عديدة ومعانٍ تريدها، والقارئ المتذوّقُ، وليس فقط النّاقد الذّكيّ الفذّ والمتعمّقُ والمتبحِّر، يستطيعُ أن يدركَ ويفهمَ الكثيرَ من معاني وأبعاد هذا الدّيوان والفحوى المطلوب.

     وبهذا شاعرتُنا تتميَّزُ عن العديدِ من الشّعراء المحلّيّين الّذين يتَّجهُون إلى الأساطير، ويتوكّؤون على التّراث القديم والقصص القديمة الأسطوريّة، ويقومونَ بتوظيفِ أسماء بعض الآلهة، وهم لا يعرفون تفسير معنى وَكُنهَ كلِّ إلهٍ، وما هي وظيفتُه، ولأيّ إقليم وبلد وحضارة وشعب يتبع، وما يكتبونهُ ويُخربشونهُ هو مجرّد حشو ولغوٍ، ووضع كلماتٍ مِن دون فهم وإدراك.. وهنالك أمثلة عديدة على شويعرين وشويعرات محلّيّين، يذكرون أسماء آلهةٍ قديمة فيما يكتبونه ويخربشونه من تفاهات وسخافاتٍ، ويُسمّونه شِعرًا، ولا يعرفون ما معنى اسم هذا الإله أو ذلك الإله، ومن أين جاءت التّسمية، وما هي وظيفتهُ ومُهمّتُهُ وميزاته، ولأيّ بلدٍ وإقليم ينتمي .

     وإذا نظرنا إلى هذا الدّيوان من ناحيةٍ شكليّةٍ وللبناءِ الخارجيّ، فهو على نمطِ الشّعر الحديث، غيرُ مقيّدٍ بالوزن والقافية، أو بالأحرى هو مزيجٌ بين الشّعرِ الحديث الحُرّ والشّعر التّفعيلة، لأنَّ هنالك العديدُ مِنَ الجميل، ومن العباراتِ الشّعريّة في هذا الدّيوان مُتقيّدةٌ بتفعيلةٍ ووزنٍ واحد، وحتّى الجُمَل الّتي تُدرجُ في إطار الشّعر الحُرّ يوجد فيها موسيقى داخليّة، بيدَ أنّها مُكوَّنةٌ مِن أكثر مِن تفعيلة، أي هي موزونة، ولكنّها غيرُ مقيّدةٍ وملتزمةٍ ببحور الخليل بن أحمد الفراهيدي بحذافيرها، فقد يكونُ في الجملةِ الشّعريّة أكثرُ مِن وزن، وزنان، أو ثلاثة أوزان، والقارئُ المُتذوّقُ يُحسُّ ويشعرُ بجماليّة الموسيقى الشّعريّة، وإيقاعِها وجرسِها العذب، مع أنّها ليست كلاسيكيّةً تقليديّة، وعلى عكس البعض مِن الّذين يكتبونَ الشّعرَ التّقليديَّ مَحلّيًّا، ولا توجدُ عندهم الموهبةُ الشّعريّةُ الحقيقيّةُ الرّبانيَّة، ولا المستوى الثّقافيُّ المطلوب، فتأتي قصائدُهم المُقيَّدةُ ببحور الخليل كأنّها دونَ موسيقى ووزن، وكأنّنا نسمعُ شخصًا يُكسّرُ أحجارًا، لأنّها تفتقرُ للموسيقى الدّاخليّةِ، وللألفاظِ الجميلةِ العذبة وللصُّوَر الشّعريّة، فالشّعرُ الحقيقيُّ هو صُورٌ، وأحاسيسُ، ومشاعرُ، وعواطفُ، ولواعجُ جيّاشة، ووجدانٌ مُتدفّقٌ، ومعانٍ رائعةٌ وعميقة، ومواضيعُ راقيةٌ، واستعاراتٌ ومصطلحاتٌ بلاغيّة جديدةٌ ومبتَكَرة، وتلاؤُمٌ وانسجامٌ وتناغمٌ بين اللّفظ والمعنى، بالإضافةِ إلى جزالةِ اللّغة وعذوبةِ الألفاظ، وسلاسةِ العباراتِ والجُملِ الشّعريّة بإشعاعاتِها السّاحرة، وحتّى إذا لم تكن مُقيّدةً ببحور الخليل، فتكفي هذه الأسسُ والعناصرُ أن تجعلَ من كلِّ قصيدةٍ على هذا النّحو، أن تكونَ ناجحةً وإبداعيّةً ورائعة.

     وهذا هو الشّعرُ الّذي تكتبُهُ آمال عوّاد رضوان، والشّعراءُ القديرونَ المبدعونَ المجدّدون، والّذين يواكبونَ تيَّارَ الحداثة وركْبَ التّجديد في هذا العصر، مع المحافظةِ على المستوى الفنّيّ والإبداع بمعناه الصّحيح الشّامل، والجرس والإيقاع الموسيقيّ الدّاخليّ الّذي قد يكون أهمَّ أحيانًا من الوزن الخارجيّ (بحور الخليل)، ولكن إذا كان هنالك تقّيدٌ كامل بالوزن، تكون القصيدةُ أحلى وأعذبَ وأروع، ولها رونقها وسحرها المُمَيَّز، وتكون مُشعةً أكثر بالجمال الشّكليّ.

وأخيرًا وليس آخرا: إنَّ هذا الدّيوان يُعدُّ من أحسن وأفضل الدّواوين الشّعريّة الّتي صدرت في السّنوات الأخيرة من جميع الأسس والمفاهيم النّقديّة والفنّيّة والذّوقيَّة، وخاصّة في صدد التّجديدِ والابتكار، والتّكثيف من الصّور الشّعريّة الجميلة والحديثة، والاستعارات البلاغيّة المبتكرة، والمعاني العميقة، والأبعاد الفلسفيّة والإنسانيّة، والنّفحات الصّوفية وومضات الإيمان الّتي تسربلُ حَيِّزًا لا بأسَ به من الدّيوان، وأيضًا المستوى الفنّيّ، والثّروة اللّغويّة الكبيرة الّتي يحتويهَا، وفي توظيف الرّموز، والتّراث، والتّاريخ، والأسطورة، والمخزون الثّقافي الواسع بالشّكل الصّحيح، وبالشّكل التّقنيّ والإبداعيّ الجميل والسّلس والمميَّز.

     لقد تطرَّقتُ إلى جميع الجوانب والأمور والمجالات الهامّة في هذا الدّيوان، وخاصّة الأمور والمواضيع الّتي لم يتطرّق إليها بشكل واسع الأدباء والنّقادُ الّذين كتبوا عن هذا الدّيوان، وجميع الّذين كتبوا عنه أبدعوا، وكان نقدُهُم موضوعيًّا ونزيهًا وأكاديميًّا وعميقا. وأنا، بدوري، حاولتُ الاختصارَ قدرَ الإمكان في هذه المقالة، لأنّها ليست أطروحة جامعيّة، ولو أردت التّوسّعَ وتحليلَ كلِّ جملة شعريّة كما يجب، لكتبت مئات الصّفحات التّحليليَّة لهذا الدّيوان الشّعريّ، فاكتفيتُ بالاستعراضِ مع شرح وتحليلٍ مُقتضب، وآمل أن أكون في هذه المقالةِ قد أعطيتُ الدّيوان حَقّهُ، وألفُ مبارك للشاعرةِ المبدعة آمال عوّاد رضوان على هذا الإصدار القيّم والمُمَيَز، وعقبال إصدارات أخرى أدبيّة وشعريّة إبداعيَّة.

أسماء المصادر:

1 - سفر نشيد الإنشاد - الكتاب المُقدّس - العهد القديم.

2 - قصيدة المواكب - (جبران خليل جبران - المجموعة الكاملة - دار الجيل - بيروت - لبنان

3 - ديوان وتريَّات ليليَّة - مضفر النّوَّاب - منشورات صلاح الدّين... و(مضفر النّوَّاب المجموعة الكاملة - منشورات قنبر - لندن).

4 - ديوان امرىء القيس الكندي - دار إحياء العلوم - بيروت - لبنان.

5- ديوان ابن الفارض.

sfhhgdgj9641.jpg

sfhhgdgj9642.jpg

ناهض زقوت

sfhhgdgj9643.jpg

صافي صافي

يقول محمد برادة: "إن الرغبة في التعبير من خلال شكل فني أو أدبي، هي رغبة في الإستمرار في الحياة رغم الحدود والأسيجة الموضوعية أمام الإنسان، أي رغم سقف الموت، وحتمية الزوال ومحدودية الطاقة البشرية في استيعاب تجليات الواقع وتعقيدات العالم ... كما أنها تتطلع إلى الأفق الرحب الذي يعطي الدلالة لتجارب الحياة، إضافة إلى إسعافها لنا على فهم الذات وعلائقها المختلفة بما حولها ... ومن هنا تغدو الكتابة جزءاً من مغامرة العيش والوجود". (الكرمل/82/2005)

بهذه الرؤية يأتي التعبير بالكتابة عند الفلسطيني الذي يحاول دائماً في أعماله الإبداعية إحياء الذات الجمعية التي يحاول الآخرون تغييبها. يأتي المكان عنواناً للذات الجمعية بالنسبة للفلسطيني وخاصة اللاجئ الذي فقد المكان وأصبح مشرداً، فالمكان بالنسبة له ليس قطعة من الأرض منبسطة أو جبلية أو صخرية، بل هو الذاكرة والتاريخ، فكل قطعة من أرض فلسطين تعبر عن تاريخها الممتد عبر الزمان، وتعبر عن وجودها الجغرافي بما حفظته من معالم الجغرافيا، وتعبر عن حياة السكان الذين رحلوا والذين ما زالوا على أرضهم يحافظون على ما تبقى من وجودهم.

بعد ما يزيد عن سبعين عاماً من النكبة ما زال الفلسطيني يعيش ذكريات القرية التي سلبت منه بقوة السلاح والارهاب عام 1948، وما زال يحلم بالعودة إليها. وثمة العديد من الروايات التي كتبت عن النكبة وما قبلها عن حياة السكان وتهجيرهم، فلم يهجر الفلسطيني ذاكرته وذكرياته، ففي كل وقت ومناسبة يسعى لرسم معالم القرية وتفاصيلها وبيوتها وشوارعها وحواكيرها ونباتاتها وأشجارها وحيواناتها، لم يترك اللاجئ الفلسطيني شاردة أو واردة في ذكريات القرية إلا وذكرها للأجيال القادمة لتعميق الانتماء، حتى وصل الحال ببعض الأجيال التي ولدت في المهجر، وقد تمكنت من زيارة قريتها أن تسير على أرضها وفق ما خزنته ذاكرتها من حكاوي الأجداد والآباء عن قريتهم.

بين أيدينا الرواية العاشرة "زرعين" للكاتب صافي صافي صاحب الباع الطويل في كتابة الرواية الفلسطينية التي بدأها منذ عام 1990 برواية الحاج اسماعيل، وبعدها الحلم المسروق، والصعود ثانية، واليسيرة، والكوربة، وشهاب، وسما ساما سامية، والباطن، وتايه، وفي عام 2021 صدرت رواية "زرعين" عن دار الشروق برام الله. الروائي الدكتور صافي اسماعيل صافي أستاذ الفيزياء في جامعة بير زيت، من مواليد قرية بيت اللو في رام الله، لعائلة مهجرة عام 1948 من قرية بيت نبالا قضاء الرملة، عضو الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، وعضو هيئته الإدارية من 1992- 2005. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات الثقافية والعلمية، ومن يتابع صفحته على موقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) يجد أمامه رحالة بين ربوع الوطن يخلد بالصورة وبالكلمة كل معلم من قرى فلسطين.

رواية "زرعين" رواية فريدة في مضمونها ملتبسة في دلالاتها، تروي أحداث رحلة تبدو للوهلة الأولى أنها رحلة إلى إحدى القرى الفلسطينية، وهي كذلك، تبحث في تاريخها وجغرافيتها، وتبرز معالمها التي اندثرت أو ما زالت قائمة، ولكن حين تسبر أغوارها تجد نفسك أمام رحلة روائية تجسد المكان، ولكنها في ذات الوقت تحمل أبعاداً فكرية وفلسفية وسياسية، وتعبر عن دلالات عميقة تحملها اللغة وتطوف بها بين ثنايا السرد، صاغها الكاتب معاً دون أن يشعر القارئ أن ثمة قطع أو فصل بين مضامين السرد، جعلته يواصل القراءة مستمتعاً بجمالية المكان المسرود عنه، إلا أن الرؤية الكلية الجامعة لكل الدلالات المستغرقة بين ثنايا السرد، تشكل رؤية الكاتب لما صاغه من نص روائي، لتعطينا مساراً آخر للرواية مخالفاً لمسار الرحلة.

العنوان والبناء السردي:

يأتي العنوان (زرعين) متوافقاً سردياً ودلالياً مع أحداث الرواية. حيث تشير الرواية إلى سير الأحداث ومكانها "يا سلام ما أحلاكم! وما أحلى مسار اليوم إلى زرعين وجبال فقوعة". وقرية زرعين إحدى القرى الفلسطينية التي احتلت عام 1948 وشرد أهلها "قرية زرعين تقف على رأس التلة المشرفة شرقاً وغرباً، وعلى مشارف عين جالوت، فهل كان ممكناً أن لا يحتلوها؟ لا طبعاً. هل يمكن أن يتغاضوا عن هذه السهول الجميلة في كل اتجاه، لا طبعاً". وهي من القرى التي كانت تابعة لقضاء جنين قبل النكبة، وأصبح أهلها لاجئون في مخيم جنين.

بعد أن قاومت القرية ودافعت عن نفسها، جاء ضابط بريطاني وطلب من السكان اخلاء القرية وأن يتوجهوا إلى معسكرهم في جنين فهو فارغ وفي انتظارهم. دلالة على التعاون البريطاني مع الحركة الصهيونية في تهجير سكان القرى، ويعطينا بعداً زمنياً سياسياً لما قامت به بريطانيا طوال سنوات احتلالها لفلسطين، بأن مهدت الأرض لإقامة الكيان اليهودي.

زرعين الواقع والتخيل:

إن قرية زرعين قبل عام 1948 كانت عامرة بسكانها فهي واقع ما زال قائماً في ذاكرة السارد يقول حين وقف على أطلالها: "أرى القرية بساكنيها الذين كانوا حوالي الألفين، بأزقتها، وحواريها، حيث يشرفون من هنا على مزارعهم، ويطلون من هذه النوافذ على شكل أقواس، وأشكال رباعية على نهر الأردن، وعلى عين زرعين التي ما زالت عظيمة. أرى أهلها، وهم ينقلون ثمار مزروعاتهم، ويفرغونها في البيدر، أرى رعاة الأغنام، وأتخيل زرائبها، أرى كبار السن وهم يجلسون أمام بيوتهم، ... أسمع صوت يسرى البرمكية وهي تغني، وتدق على الدف في الأعراس والموالد. إني أرى القرية بكامل حيويتها وطاقتها، وأراني جزءاً منها"، ما زالت الذاكرة مفتوحة على تخيل المكان وجمالياته. يرسم معالم المكان بكل تفاصيله السهول والهضاب، والوديان والصخور، والنباتات والأشجار، والينابيع والآبار، وأسماء العائلات، فما زال المكان ينبض بمكوناته رغم غياب السنين، فاذا استطاعوا أن يغيبوا السكان فما زالت أثارهم باقية في المكان، وتشهد على وجودهم الحجارة المتراكمة، والأزهار والنباتات التي ما زلت تنمو لتجدد ذكرى الذين احتضنوها في يوم من الأيام.

فهو ابن هذا المكان الذي لا يمكن أن يتنازل عنه، مهما أحدث المحتل من تغيرات على أرض القرية، حيث قام بإنشاء مستعمرة يزراعيل على أرضها (الاسم مستمد من التراث الكنعاني)، وأقام المنتزه فوق موقع المدرسة، هي تغيرات مرفوضة من طرفه وغير معترف بها. ورغم ذلك ما زال الإيمان راسخاً بعودتها "المهم أن تعود، وستعود، ليس بالضرورة كما كانت، يمكن أن تكون أجمل. بالتأكيد ستكون مختلفة". لأن الحياة تغيرت ورؤية الأجيال الجديدة أيضاً تغيرت.

أما البناء السردي، تأخذ الرواية الشكل الدائري، حيث يكون مفتتح الرواية هو استكمال للنهاية. لقد كانت بداية الرواية من انطلاق الحافلة "انطلقت الحافلة كالعادة، دعاء السفر، آيات من الذكر الحكيم، وموعظة حول التعلق بالله الواحد الأحد ..."، وهذا تقريباً من منتصف الرواية، لتستمر الرواية بعدها حتى نهايتها، ويتأزم موقف الفريق في الاشكال الذي وضعهم فيه جمال، بجلب الشرطة الاسرائيلية إليهم لكي تنقذهم من المأزق، ثم يعود من الصفحة الأولى للرواية لكي يستكمل الأحداث يقول: "في نهاية المسار، وبعد أن تأكدنا أننا نجونا .. حاولت أن أخلو بنفسي وأنا أكمل المسار نحو الحافلة"، وذلك باستخدام تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) في سرد الأحداث.

إن السارد الذي يمنح شخصياته فرصة الحكي هو سارد ديمقراطي، حسب الناقدة يمنى العيد. ولكن ساردنا هيمن على السرد بشكل كامل، إلا قليلاً، فهو لا يكتفي بوصف الشخصيات والتعريف بها، بل ينقل على لسانها ما كان يمكن للشخصية نفسها أن تتحدث به، مثلاً: يتحدث أبو نهاد عن قريته ونضالها من خلال عيني السارد، ثم ينتقل إلى أبو نهاد مباشرة في الحديث، قال أبو نهاد، يتحدث عن هجرة القرية، .. ما زال أبو نهاد يتذكر القرية جيداً. ورغم ذلك كان أحياناً يفتح حواراً ذاتياً مع نفسه في مناجاة داخلية، ليطرح بعض الأسئلة أو يعلق على موقف ما. أو يدير حواراً فردياً مع إحدى الشخصيات ويتحاور معها في موضوع ما، كالحوار الذي فتحه مع أبو ماهر حول بيت جد حنان في بيسان، أو يدخل في حوار جماعي كالحوار الذي جرى بين أعضاء الفريق حينما علقوا على التلة، أو الحوار بين الحاج إبراهيم والشيخ محمد حول موقف أبو ماهر من حرق جثة والده ونقلها لقبر جده، ولكنها جميعها من خلال عيني السارد. فالسارد وفق تقنيات الرواية الحديثة هو السارد العليم بكل شيء.

ومن تقنيات الرواية الحديثة التي استخدمها الكاتب، تقنية التواصل عبر الفيس بوك مع حنان، والتي من خلالها وصل إليها بعد سنوات طويلة، وأصبحت أداة التواصل بينهما.

وكذلك تقنية التلاعب في الزمن، حيث نجد في هذه الرواية زمنين: زمن ثابت يرتبط بزمن وقوع الأحداث "لم يكن الفصل ربيعاً رغم اقترابه، فنحن ما زلنا في الشتاء" أي أن زمن وقوع الحدث في أواخر فصل شباط. أما الزمن السردي لترتيب الأحداث فهو زمن متغير أو موزع على مساحة الرواية، حيث نقرأ عن حدث في زمن، ثم لنعود ونقرأ استكمال الحدث في موضع آخر.

المكان وبناء الأحداث:

يقوم بناء الأحداث على وصف رحلة لاستكشاف معالم المكان وهو قرية زرعين، وقرى أخرى (فقوعة وجبالها، عمواس، ومدينة بيسان)، ومن خلال مسار الرحلة نتعرف على العديد من أسماء القرى أثناء تحرك الحافلة منطلقة من القدس "قطعنا فيها المسافة، بين قرى لفتا على اليسار، وقرى بيت اكسا وبيت سوريك على اليمين، بيت نقوبا، أبو غوش، ساريس، دير اللطرون، فعمواس، جمزو ودانيال، فالحديثة، فبيت نبالا، فدير طريف، فالطيرة، فمجدل صادق". لقد نجح الكاتب في إحياء ذاكرتنا، وتعميق الانتماء إلى هذه القرى، وجعلنا نسير معه عبر مسارات المنحدرات والجبال والتلال والسهول والآبار، وأن نكون ضمن اللوحة الفنية التي رسمها للمكان بكل تفاصيله ومعالمه من أشجار ونباتات وحيوان وحشرات، وطرق وبيوت كانت مسكونة بأهلها. كأن السارد واقفاً أمام باب الجنة يصفها بكل أمانة وصدق، فهي كانت الجنة بحق، فقرية عمواس بالنسبة لأبو نهاد هي الجنة، وبيسان بالنسبة لحنان هي الجنة، فأرضنا جميعها هي الجنة. 

لقد رسخت اللوحة عمق الإيمان بالمكان، واعتزاز السارد بوطنه، وقوة انتمائه لهذه الأرض. رغم أنها رحلة في مضمونها البسيط لاستكشاف معالم القرى والتغيرات التي جرت عليها، وما تبقى منها بعد ما يزيد عن سبعين عاماً من الهجرة، إلا أنها تتضمن دلالات عميقة في مسار الواقع السياسي بعد اتفاق أوسلو الذي تنازل عن العديد من هذه القرى، لذا يحاول السارد إعادة بناء المكان وإحياء ذكراه رداً على من سعوا لتغييب المكان. هذا ما نقرأه في حوار السارد مع حنان حين تقول: "نحن كغيرنا نود أن نعود إلى مدينتنا، ونعيش بين ربوعها، فكرت أن انضم لحركات المنظمة، لكنهم يطرحون اسم أريحا، وحين يقولون شبراً شبراً، يشيرون لمدن الضفة، أما بيسان، فتسمع اسمها في الأغاني، وفي أسماء بعض البنات، إنهم يريدونها ذكرى، وهل رام الله والقدس أهم من بيسان".

هنا بدأ السارد يفهمها، ويريد من القارئ أن يفهم، وقد حدد مساره هو المحافظة على الذاكرة حية للأجيال القادمة من خلال الصورة والكلمة عن تلك الأماكن التي تخلى عنها اتفاق اوسلو "في كل مرة أشعر أن هذا هو المسار الأول، لأروح أتعرف على المواقع والقرى المهدمة ... فهذه قرية أمي، وهذه قرية أبي، وهذه قرية أصدقائي، وهذه قرية أنسبائي". جميع هذه القرى ما زال أهلها لاجئون في رام الله وقراها أو مخيماتها، وكان يلتقط صور هذه القرى ويهديها لأصحابها "أنا أهتم بالمكان، حتى أن وجود الزملاء يعطل علي التقاط صور المكان، أحياناً أطلب منهم أن يبتعدوا، أو أسبقهم، أو أنتظر حتى يذهبون". فقد كان شاغله توثيق المكان بالصورة لتصبح مرجعاً للذاكرة ولجماليات المكان، وهدية لأصحاب القرى لكي يحتفظوا بصور بلدانهم من أجل أطفالهم، وهذا ما أرادته حنان من السارد أن يصور بيتهم "بيت الحاج خليل الزرعيني" في بيسان من أجل أن ترى "ظلها في ظلال الصورة، وستورثها لأحفادها كما قالت، فالعيش مع الظلال أفضل من دونه".

لقد كانت الرحلة خلفية لرؤية سياسية منبثقة من اتفاق سياسي جائر بحق اللاجئين الفلسطينيين، ولإيمان راسخ لا يتزعزع بحق الفلسطينيين في المكان، ونفي الرواية التوارتية اليهودية الاسرائيلية عن المكان، بأن الرب وهبهم هذه الأرض. فهذا المؤرخ الذي يتحدث الانجليزية يقرأ التاريخ كما يريد دون أي استناد علمي، يتحدث عن معركة توراتية للملك شاؤول في جبال فقوعة. ويشاهدون على أرض زرعين مجموعة من أطفال المدارس يقوم معلمهم بتزييف الحقائق التاريخية والجغرافية أمامهم، ولكن حشرة البرغش لم تسمح لهم بالاستفاضة في كذبهم فهربوا من المكان، وهي حشرة تستوطن المكان منذ زمن أصحابها، فدافعت عن مكانها أمام كذبهم، فكيف حال الفلسطيني صاحب الأرض والمكان، فهي السخرية النابعة من الألم. ويناقش السارد مع أبو ماهر عن عدم قدرتهم على تحمل البرغش، فيؤكد له أن الأعداء ليس لديهم قدرة على التعامل مع المكان مثلنا، رغم أنهم يعيشون منذ سبعين عاماً إلا أنهم لا يعيشون في المكان، فلا نجد بينهم رعاة أغنام أو أبقار مثلنا، ولا ينامون على السطوح بل في شقق عالية. هذا دلالة على عدم انتمائهم للمكان/ للطبيعة. كما أن كل الأماكن التي ذكروها في التوراة هي موجودة قبلهم، فهم لم يبنوا مدينة واحدة. وينطلق تزييف التاريخ من منطق القوة، كما يقول أبو ماهر للسارد: "الأمر يتعلق بالقوة، وعليها تصوغ تاريخك، تبرر فيها قتل الآخرين، ومصادرة أرضهم، وطرد الباقي خارج البلاد".

لقد حدد فريق الرحلة مسارة بأن لا تعاون أو تطبيع مع الاحتلال، فهم أعداء، ولا يمكن الاستعانة بهم، وهم يرفضون خلال رحلتهم التجول في أسواقهم، أو الشراء من بقالاتهم، أو الدخول إلى مقاهيهم، بل يعتمدون على أنفسهم في طعامهم وشرابهم، حتى القهوة تأتي معهم، وقد رفضوا دخول حديقة عين جالوت حين طلب منهم ثمن تذكرة الدخول.

الشخصيات وحبكة الرواية:

تنطلق الرحلة من خلال فريق ضم عدداً يصل إلى خمسين شخصاً، ولكننا نتعرف على عدد منهم يمثلون الشخصيات الرئيسية في السرد الروائي (السارد/ حنان، جمال، الحاج إبراهيم، أبو نهاد، أبو ماهر، غسان، الشيخ محمد). جميعهم من أماكن متعددة، بعضهم يحمل هوية اسرائيلية، والسارد يحمل هوية ضفاوية، وأبو ماهر قادم من الأردن، ولكنهم جميعاً تجمعهم الهجرة واللجوء، ولكل منهم قرية مهجرة، ولكل واحد منهم هدف من المشاركة في الرحلة.

تبرز حبكة الرواية من خلال عقدتين وهما: العقدة الأولى، المأزق الذي أوقعه جمال بأعضاء الفريق حين اتصل بالشرطة لإنقاذهم. والعقدة الثانية، هي محاولات السارد الوصول إلى بيسان وتحقيق أمنية صديقته حنان في تصوير بيت جدها. نحاول استيضاحهما بقراءة الشخصيات نفسها، فهذه الرحلة تجمع بين الأجيال، جيل الشباب وجيل كبار السن.  

= جمال: شخصية غريبة الأطوار، يمثل فكراً سياسياً يتجنى على العرب، وهو الفكر الاسلامي السياسي، الذي عبر عنه خلال حديثه في الحافلة، وهو أيضاً الذي يعلن آذان العصر ويقيم الصلاة، ويطرح فكرة الإمارة على الفريق، ولكنه اجتماعي بطبعه، بوجهه البشوش، يظهر تعاوناً فوق العادة، مليح القوام، يظهر عليه بقايا مرض مزمن، يعمل مساعداً إدارياً في مدرسة تابعة لوزارة المعارف الاسرائيلية بالقدس. كان يصور المناظر الطبيعية، ويتحدث عن الفائدة التي يجنيها المتابعون من صوره، ويفتخر بعدد المتابعين لمنشوراته، ويبذل جهداً كبيراً لإتقانها لذلك اشترى كاميرا طائرة لهذا الغرض، ويأمل أن يتقاضى أجراً مقابل النشر المتواصل. ولكنه كان يختار ما يصوره، فقد كان يغلق الكاميرا حين تكون الصورة ليست على مزاج المتابعين، مثل حفلات الغناء والدبكة، أو مراسم دفن والد أبو ماهر، ويبحث عما يثيرهم مثلاً عن أفعى كبيرة بين شقوق الجبال. فهو لا يهتم بتوثيق المكان بل بما يجنيه من تصوير المكان.

هذا هو تفكير الجيل الجديد الذي يمثله جمال في دلالات الصورة وأهميتها، وهو جمع أكبر عدد من المتابعين، والثمن الذي يتقاضاه من نشر الصورة. في حين لو قابلناه مع موقف السارد من الصورة نجده على النقيض.

يحاول أن يفرض نفسه كقائد للفريق، من خلال حديثه في ميكرفون الحافلة عن القرى المهجرة والتعريف بها، وتوليته الاشراف وتنظيم الفريق، فهو مساعد للحاج ابراهيم الذي يرسم الخطة، وجمال ينفذها، لذلك فهو أمام شخصية الحاج ليس له كلمة بل صورة باهتة، إنما يستغل قربه من الحاج لكي يفرض آرائه. فقد "أخذ مكانته من خلال الحاج إبراهيم الذي كرمه يوماً بدرع الرجل المثابر على المسارات رغم مرضه".   

تصرف من تلقاء نفسه بالاتصال مع الشرطة الاسرائيلية لإنقاذ الفريق. بعد أن وقع الفريق في مأزق خطير على التلة حيث المنحدر العظيم، وكان الانزلاق يعني السقوط نحو مائة متر للأسفل. لم يستطع جمال انقاذ الموقف أو يستمع لنصيحة الحاج إبراهيم في مساعدة الفريق على النزول، بل أصر على موقفه أنه ينتظر الشرطة لتخلصهم، وحين جاءت لم تفعل شيئاً، بل تركتهم ينزولون من تلقاء أنفسهم، ثم أخذت تحقق مع كل واحد منهم، وكان هدفهم معرفة من هو قائد الفريق، فأنكر الكل أن للفريق قيادة بل كلهم سواسية قادة وجمهور، وحينما سألوا جمال قال: "أنا ضعت، لم أجرب المسار من قبل"، وهذا دلالة على عدم خبرته في الحياة والسياسة.

إن دلالة الموقف تعبر عن شعور الجيل الجديد بالعجز، وعدم قدرته على الاعتماد على نفسه في مواجهة المخاطر، "لم أستطع مساعدة نفسي، فكيف يمكن مساعدتكم، كنا هناك، ضاع الأمل بالنجاة". لذلك يستعين بالآخرين لإنقاذه حتى وإن كان عدوه، هذا الموقف السلبي لم يعجب الآخرين من كبار السن، والسارد الذين يرفضون مساعدة الأعداء، ويفضلون الاعتماد على أنفسهم.

ولكي يثبت جمال أنه ليس عاجزاً بعد تورطه، يرفض مساعدة الحاج إبراهيم في انقاذ الفريق، وهذا دلالة على الصراع بين جيلين على قيادة الفريق، وعلى الموقف من التعامل مع المحتل، في حين يرفض الحاج إبراهيم التعامل مع شرطة الاحتلال، نجد جمال لديه استعداد وقابلية للتعامل على اعتبار أنها واقع.

= الحاج إبراهيم: هو قائد الفريق، مفتون بجمال الطبيعة، ولا يكل ولا يمل من التغزل بالطبيعة، رغم أنه زار العديد من البلدان الأسيوية والأوروبية المعروفة بجمال طبيعتها، إلا أنه لا يجد أجمل من طبيعة الوطن، فكان يردد دائماً "ما أجملك يا بلادي"، "ما أحلى هذه الطبيعة"، "ما أجمل ما أهدانا الله في هذا الكون"، ويردد دائماً الأغاني التراثية والمحفزة للفريق الذين يصفهم بالأبطال.

رغم محاولة جمال تحميله مسؤولية الاستعانة بالشرطة لأنه تخلى عن الفريق، وهي محاولة من جمال لتبرير موقفه المستنكر من جميع الفريق، إلا أن الحاج إبراهيم لم يتخل عن الفريق في مأزقه، فقد أرسل لهم السلامين أكثر من مرة لمساعدتهم على النزول، إلا أن اصرار جمال على عدم نزولهم، وأنهم تحت مراقبة الشرطة. وحين جاءت الشرطة أراد الحاج أن يثبت لهم أن كل الأمور بخير، ولا يوجد شيء يستدعي وجودكم، فأخذ بالغناء والرقص والكل يشارك. ودفع بالسلامين لإنزال الفريق.

أما موقفه من جمال فقد كان صلباً وحازماً، فقد وقف جمال أمامه ممتقع الوجه، يحاول أن يتقرب إليه، إلا أن الحاج أشاح بوجهه عنه، دلالة على غضبه مما فعله وعدم موافقته على تصرفه.

= أبو ماهر: لم يكن أحد يعرفه مسبقاً من الفريق، إنما تعارفوا خلال الرحلة، اسمه محمود الشلبي، لا يحمل هوية فلسطينية ولا اسرائيلية، هو مجرد زائر جاء من الأردن، وله أقارب كثر في مخيم جنين. بعد هجرتهم عام 1948 سكنوا مخيم جنين، وبقوا فيه حتى حرب حزيران عام 67 فهاجروا إلى الأردن، وسكنوا مخيم اربد، التحق والده بالمقاومة، وشارك في معركة الكرامة، ثم سافر والده إلى اليونان على أمل الحصول على جنسيتها. بعد حرب ال67 بسنوات، زار والده قرية زرعين واصطحب ابنه محمود (أبو ماهر) معه، ووقف على معالم القرية، ووقف على قبر أبيه وبكى، وأوصى: "تدفنوني هنا، في القبر، أو بجانبه".

كان كتوماً لا يتكلم مع أحد، وشبه منزو عن الفريق، وأحيانا ينخرط في قلب الفريق. يتفقد حقيبته بين فينة وأخرى، بقايا دموع في عينيه تجف ثم تسيل مرة أخرى.

سلك الفريق طريق اليمين نحو المنتزه، أما هو فذهب باتجاه المقبرة لأنه كان يحمل رفات والده الذي توفى في اليونان. اقترب الفريق من المقبرة الشرقية في زرعين حيث كان يجلس بجانب قبر جده، وكان رطباً، فقد دفن لتوه رماد والده، ويقف الشيخ محمد ويطلب من الفريق صلاة الجنازة على روح المرحوم ماهر محمود الشلبي. وعندما يسأله الحاج إبراهيم عن مسألة موقف الدين من حرق جثة المسلم، يقول الشيخ محمد: الضرورات تبيح المحظورات.

لقد كان هدف أبو ماهر من الرحلة هو دفن رماد جثة والده التي تم حرقها لكي يسهل نقلها عبر المعابر والحواجز، ووضعها في وعاء بلاستيكي من اليونان إلى عمان، إلى رام الله إلى معبر قلنديا، وصولاً إلى زرعين. لكي يحقق وصية والده أن يدفن في قبر والده في القرية، وبعد موته لم يكن أمام ابنه إلا تنفيذ وصيته، وإن تخطى في ذلك حدود الدين. وهذا دلالة على تمسك الفلسطيني بوطنه الذي سلب منه، فإذا لم يتمكن من العودة، على الأقل يجد له قبراً في أرضه لكي يبعث من تراب الوطن وليس من تراب الشتات واللجوء.

كان أبو ماهر أشد أعضاء الفريق رعباً حين شاهد الشرطة، بعد المأزق الذي أوقعهم جمال فيه، لاعتقاده أنها كشفت أمره في نقل رفات والده، وأخذ يهذي مع نفسه، ويبدي ندمه على اتباع جمال ومرافقته، فقد ظن أنه طريق النجاة بعد أن سمعه في إذاعة الحافلة يلقي دروساً عن زرعين وجبال فقوعة، ويساعد قائد الفريق، ويسجل أحداث الرحلة، فاعتقد أنه خبير بها فاتبعه حتى وإن ضاع. فهو مجرد قادم جديد إلى فلسطين من الأردن، ليس لديه خبرة بالرجال والأماكن.

لذلك لم يود المواجهة أو الاصطدام مع الشرطة خوفاً مما فعله، فكان موقفه سلبياً، حاول تجنب الشرطة، ولكنه لم يعاندها حتى لا ينكشف أمره، وقد أمسكه الشرطي وساعده، وحين سأله الشرطي أسئلة تظاهر بالتعب والارهاق، وارتكز على كتف الشرطي وعلى الحاج إبراهيم حتى نزل المنحدر، وعندما نادى الشرطي أن سياراتهم جاهزة لنقلهم، ركب معهم السيارة، وشرب الماء، وأكل بسكويت منهم، وبقي معهم حتى أوصلوه إلى الحافلة.

لقد تناقض موقف هذا القادم من الأردن إلى فلسطين، الذي لم يعش على الأرض الفلسطينية، مع موقف المتجذرين في الأرض، الذين يرفضون التعامل مع شرطة الاحتلال وجيشه، الذي يقمع ويقتل ويعتقل الفلسطيني، في حين كان همه أن ينجو بنفسه، دون أي تحمل للمسؤولية أمام الأخرين.

= أبو نهاد: رجل كبير في السن، في الخامسة والسبعين من العمر، يمشي ببطء، وجمال يحاول أن يساعده بناء على طلب الحاج إبراهيم، يجلس كثيراً للاستراحة ويدخن سيجارة. طويل القامة، أبيض البشرة، قريب إلى الشقار، حليق الذقن، حسن الهندام، يرتدي ملابس رياضية. هو من قرية عمواس المهجرة، سكن في راس العامود بالقدس، يعمل تاجراً في المصرارة، وظل مستأجراً شقة طوال هذه السنوات، لم يبن بيتاً، وظل يحن للعودة إلى قريته.

قرية عمواس هجرت ودمرت في حرب حزيران عام 1967 مع عدد من القرى في منطقة اللطرون وهي يالو وبيت نوبا، هجر سكانها إلى رام الله ومخيماتها. حين وصوله مع الفريق إلى القرية قال لهم: "أنتم تعيشون الآن في الجنة"، ولكنها لم تعد مسكني، فقد خربوها، ولم يبق فيها غير نبع الماء وما حوله من أشجار، ومقام سيدنا أبو عبيدة الجراح، وأخذ أبو نهاد يروي ذكرياته عن القرية التي ما زالت عالقة في ذهنه رغم سنين الهجرة الطويلة، ما زال "يرى فيها كل شيء، يرى الحقول والآبار، (يسرد أسماء الآبار)، ... يرى بقايا البناء، راح يتذكر شبابها، ورجالها، ونساءها، وصباياها". ما زال يتذكر أسماء الموتى في قبور القرية، وأسماء أصحاب البيوت، وبيته القابع بين الأشجار، ويتذكر دفاع الثوار عن القرية، وهجرة أهلها وعودتهم إليها إلى حزيران 67.

لقد شعر أبو نهاد على أرض عمواس بشبابه، وأنه ما زال لديه القدرة على تسلق شجرة الخروب، فتزحلقت قدمه، ووقع على الأرض، وحين أراد غسان أن يقطف ثمرة منها كان حريصاً على توصيته أن لا يكسر أغصانها، فهي شجرتنا. هذا هو الفلسطيني الذي ما زال مؤمناً بحقه في المكان/ الأرض مهما طالت السنوات، ويخاف على أشجارها وثمارها، كأنه يعيش فيها ويأكل من زيتها وزيتونها وتينها وعنبها.

كان يحلو له أن يتعرف على بعض النباتات التي لم يرها منذ عقود، وهو يطوف على أرض زرعين، ويقول: "إن البلاد كانت أجمل، فكل أهالي البلاد كانوا يعيشون بين هذه السهول، وكانت تستخدم لزراعة الحبوب أيضاً، ألا ترى أن هناك طرقاً عريضة تفصل الأرض عن بعضها، ألا ترى أن القطار يشوهها، لقد كانت أجمل، الأرض أجمل بأهلها. هؤلاء مجرد مستأجرين مؤقتين من الدولة، يحاولون استغلالها إلى أبعد حد، لا ينتمون لها، ولا تنتمي لهم".

وحين يشعر بالحنين إلى عمواس كان يأتيها لاستعادة روحه وروحها، ويأتي إليها الشباب، ويغرسون لافتات تبين معالمها، ومنها لافتة على بيتهم، وهذا ما دفع الحاكم العسكري إلى استدعائه للتحقيق حول اللافتة، وبعد نقاش مع الحاكم يؤكد أحقيته في المكان، فيرد عليه الحاكم: "كنت من هناك، نحن هناك، ونحن هنا"، فيقول له أبو نهاد: أنا من هناك ومن هنا، وأنت من هناك .. هناك"، فيقول الحاكم: "ربنا أعطانا الأرض"، فتأتي سخرية أبو نهاد: "وهل ربكم فاتح دائرة طابو". فيرد الحاكم: "إذا تغلبتم علينا اطردونا، واقعدوا مكاننا، وسموها ما شئتم".

تلك هي الحقيقة، فالرواية الاسرائيلية زائفة، وتعتمد على منطق القوة في فرض منطقها الديني والسياسي، فهم امتلكوا القوة، فهجروا أهل المكان، وكتبوا تاريخاً مزيفاً للمكان، ولن تعود إلا إذا امتلكنا القوة. 

حينما وقع الفريق في مأزق جمال، وكان أبو نهاد أحدهم، نجده يستسلم عند شعوره بالبرد، وبدأ جسمه يرتجف، فخاف من الموت "لا أريد أن أموت هنا، أريد أن أموت بهدوء. لتأتي المروحية، ليأتي الشيطان، وينقذني من الموت". يحاول أن يبرر موقفه أنه لا يريد الموت في هذا المكان رغم جماله، ويعبر عن تمسكه بقريته والموت على أرضها "لو كنت في قريتي عمواس، لقلت لكم: اتركوني هنا لأموت، كل منا يختار جنته، وجنتي ليست هنا، رغم جمالها. أريد أن أرجع إلى بيتي في القدس، وأموت هناك".

تبقى من الشخصيات التي كان لها دور في سرد الأحداث، ولكنها أدوار بسيطة، شخصية غسان، والشيخ محمد، وهما شخصيتان متناقضتان على المستوى الفكري والسياسي.

= الشيخ محمد: رجل دين تقليدي يعبر عن آراء دينية يكون أحياناً غير مقتنع بها، وقد كان إمام المصلين لرماد المرحوم والد أبو ماهر، ويبرر الحرق للجثة. يتهم العرب بضياع فلسطين حينما يشاهد سلسلة جبال فقوعة، فيذكر أنها من الصعوبة أن تسقط عسكرياً، فهي قد سلمت من العرب، ومنهم الجيش العراقي، وأننا ضحية مؤامرات، ولن يحرر فلسطين القادة الوهميون في الوطن العربي، بل المحرر من غير العرب ربما من تركيا أو غيرها.

= غسان: يتصدى لهذا الموقف غسان ابن الحركة الوطنية، والعامل في إحدى مؤسسات القدس التوثيقية، ويدافع عن الموقف العربي وخاصة الجيش العراقي، مؤكدا أن شواهد قبور الأعداء (على جانبي طريق جبال فقوعة تنتشر نصب تذكارية تحمل أسماء الجنود الذين قتلوا باللغة العبرية) دليل على خوض معارك كبيرة، وأنهم لم يستسلموا بسهولة، وأن قبور الجيش العراقي في جنين ما زالت شاهدة على دفاعهم.

إن الفكرة من طرح تلك الرؤيتين في السرد الروائي دلالة على ما يتفاعل داخل المجتمع الفلسطيني من رؤى تحاول أن تنفي عن الفلسطينيين والعرب دفاعهم عن فلسطين، لتثبيت حقائق تاريخية جديدة ذات بعد ديني مستمدة من زمن صلاح الدين، أن تحرير فلسطين لا يأتي من خلال العرب بل من غير العرب المسلمين، أي أن الاسلام أو المسلمين هم الذين سيحررون فلسطين.

= السارد/ حنان: السارد ليس ثمة تعريف عن نفسه، غير أنه يجمل هوية ضفاوية، ويعد الشخصية المركزية في السرد، فهو ليس أحد الشخصيات، بل هو المحرك الرئيس لكل الشخصيات في مسار الأحداث. ويمثل دور المثقف الذي يطرح الأسئلة ويناقشها مع نفسه، ويعبر عن موقفه من القضايا المرتبطة بالرحلة.

في قضية المأزق الذي أوقعهم جمال فيه على التلة. يقع في تناقض بين اتباع أوامر جمال الذي أمر نفسه، وبين طلب الحاج إبراهيم المساعدة في النزول، لم يشأ أن يسبب بحرج لأي منهما، يقول: أرى نفسي عاجزاً عن اتخاذ قرار بسيط بعد أن كاد جمال يتعارك مع مندوب الحاج، لحظات انتظار، انتظار قرار الحاج، قرار جمال، قرار الشرطة، ومشاركتنا الباهتة في القرار". دلالة هذا الموقف يعبر عن عجز السارد في التعبير عن رأيه رغم رفضه لسلوك جمال، إلا أنه استسلم لإرادته، في دلالة على خوفه من شق الفريق، ولا يريد أن يكون طرفاً في الانقسام، لذا وقف على الحياد. ولكن موقفه كان حازماً في رفض التعاون مع شرطة الاحتلال أو ركوب سياراتهم، بل تحامل على نفسه رغم اصابته وواصل سيره مشياً حتى الحافلة. وقد حدد موقفه بعد انتهاء المأزق، بأن انحاز إلى موقف الحاج إبراهيم، فعندما جاء إليه جمال ليشرح موقفه يقول: تطلعت نحوه مرة أخرى، وأنا أود أن ينتهي حديثه بأسرع وقت، وحاولت أن أقترب من الحاج إبراهيم".

لقد كان للسارد مثل الآخرين هدف من الرحلة، وقد كشف عن هدفه قائلاً: "أما أنا فأسلك هذا السبيل بموافقة الفريق، علني أصل بيسان، بيسان القديمة، وأستطيع تصوير بيت الحاج خليل الزرعيني، وأرسله لحنان، فهي لا ترى في فلسطين إلا بيسان بلدة جدها، وأبحث عن أثر الصورة المعلقة على مدخل البيت".

هذا التعريف يمثل ملخص حكاية السارد ودوره في الرحلة، الوصول إلى بيسان وتصوير بيت عائلة صديقته حنان. هذه الحنان ليس شخصية في مسار الرحلة، بل شخصية في ذهن السارد، ومن خلالها تتشكل رؤيتنا إليها في سرد الأحداث. هو زميلته منذ أيام الدراسة الجامعية، وكان بينهم لقاءات متعددة، وقد أحبها بشغف، ولكن لم يجرؤ أن يتقدم لخطبتها، فقد صدمته إجابتها عندما سألها عن صفات الرجل الذي سترتبط به، إذ قالت: "أن يعيدني إلى ثرى جدي"، فليس مهما الحب بالنسبة لها، إنما المهم قرار أهلها، فهي ملتزمة بإجماع أهلها، تقول ذلك وهي غير مقتنعة. لكن دلالة طرحها وتناقضها نابع من الظروف التي يعيشها الفلسطيني بعد الهجرة، فالنكبة قد فرضت عليه أشياء لا يقبلها.

في لقاء السارد مع صديقة حنان أوضحت له موقف حنان من عدم الارتباط به، ليس لأنه غير مناسب، بل لأنهم رسموا صورة حياتهم على جمع العائلة لا تفتيتها، فهي مريضة بمرض أهلها، فأبوها يرفض تغريب بناته، ولا يود أن يتوزع أحفاده، كما فعلت بهم النكبة، ولا يود أن يعيش على أمل جمع الظلال، فأنت بالنسبة لهم ظل، ربما تساعدهم، لكنك لست جزءاً من الصورة، وهم يعيشون على أحلام مدينتهم وظلالها.

حنان شخصية جميلة ذكية واعية واثقة من نفسها، تعشق بلدها بيسان لدرجة العبادة، تحفظ أدق التفاصيل عنها، رغم أنها لم تولد على أرضها وتعش فيها، بل تعيش في إحدى البلاد العربية، وتشعر بغربتها كلما التقت بأحد من فلسطين. أهلها ما زالت بيسان تعيش في داخلهم، فالصور المعلقة على الجدران هي صور المدينة، وصور جدها وأعمامها، وأثاث بيتهم لونه أخضر كلون مدينتهم، وهذا دلالة على قوة إيمان الفلسطيني بوطنه ومدينته، حتى وإن كان يعيش على بعد آلاف الكيلومترات عنها، فهو ما زال متمسكاً بهويته "لا تمر لحظة دون أن أشعر بهويتي".

وقد وصل الحال بحنان أن تفكر بالالتحاق بمجموعة فدائية وتستقل طائرة وتهدده بأن يهبط في بيسان، من شدة شوقها لرؤية مدينتها، وحين طرحت الفكرة على والدها، قال: "لو كان ذلك ممكناً لقمت أنا بذلك ... انسي الفكرة هذه، دعينا نحمل مدينتنا معنا، كما نفعل إلى أن يفرجها الله". هذا قدر الفلسطيني اللاجئ أن يحمل مدينته كأنها حقيبة سفر ترحل معه في كل مكان يحل فيه، دون أن يتنازل عنها أو يفرط بحبة تراب من أرضها. لذا كان اتفاق أوسلو خيانة لأحلامهم، وقد عبرت حنان عن هذه الخيانة بوضوح قائلة: "نحن كغيرنا نود أن نعود إلى مدينتنا، ونعيش بين ربوعها ... وهل رام الله والقدس أهم من بيسان".

غابت حنان عنه بعد الجامعة سنوات، لكنه ما زال متمسكاً بوعده لها بالبحث عن بيت جدها في بيسان وتصويره. يتواصل معها عبر الشبكة العنكبوتية، لتجديد الذكرى، ولكن الزمن غير في شكلها، ولكنه لم يغير في تفكيرها، فأول سؤال سألته إياه على الانترنت "هل زرت بيتنا في بيسان".

كانه أصبح لزاماً عليه تنفيذ وعده، لذا شارك في الرحلة بهدف الوصول، وأخذ يصف ملامح البيت للحاج إبراهيم كما خبره من ذاكرة حنان، فأخذ يصف البيت كأنه لوحة مجسدة بتفاصيلها أمام ناظريه، بما يحتويه من حجارة وأقواس ودرج وصور وبوابة وأعمدة رخامية، والصورة العائلية الموجود في مدخل البيت. إن ذاكرة حنان تمثل ذاكرة كل الأجيال الفلسطينية التي تعيش في الغربة، فقد رسخ الأجداد والآباء في ذاكرتهم تفاصيل المكان، ومعالم بيوتهم وشوارع قراهم، فعاشوا يحلمون بالعودة، وإن لم يستطيعوا على الأقل أن يحصلوا على صورة لبيتهم.

إذا غاب الإنسان من المكان تبقى ظلاله شاهدة على وجوده، والظل هو امتداد الشخص في المكان مهما تعاقبت السنين، وكل إنسان له ظل، أي له أصول لا يمكن أن يتنازل عنها، لذلك الظلال متباينة حسب امتداد المرء. لذا طلبت منه حنان أن يصور الصورة الكبيرة الموجودة عند مدخل البيت إذا كانت موجودة، فالصورة تعبر عن الحضور في المكان، وتؤكد على وجودهم السابق في البيت، مهما حاول الأعداء الادعاء أن البيت لهم. هي تبحث عن صورة عن الصورة الأصلية، فلم تطلب الأصل، بل صورة لكي تبقى ظلالها في مخيلة أطفالها، أما الأصل يبقى في مكانه شاهداً على ظلال وجودهم وأحقيتهم في المكان. 

أثناء ركوب السارد الحافلة تمر على بيسان، يحاول أن يصور من خلال النوافذ، ولكن سرعة الحافلة لم تسعفه على تصوير جيد للمكان، فكانت صور مشوشة غير واضحة، وقد جمع ما صوره، وأرسله إلى حنان، فردت عليه أنها لم تجد بيسان في الفيديو، لأن بيسان بالنسبة لها بيت العائلة، وليس البنايات الحديثة.

لم يصل السارد إلى بيسان، ولم يدخل إلى بلدتها القديمة، لأن وقت الرحلة لم يسمح، وما حدث معه من إلتواء قدمه، والمأزق الذي وضعهم جمال فيه، غير من مسار الوقت، فكان وعد الحاج إبراهيم أن تكون زيارة بيسان للأسبوع القادم.

لقد وفق الكاتب في جعل النهاية مفتوحة، وعدم الوصول إلى بيسان، "أمسك الحاج إبراهيم بيدي، وسأل: أما زلت تود أن تزور بيسان. طبعاً. حين تكون جاهزاً سنذهب معاً". إن الوصول يعني نهاية رحلة، ولكنها لم تكن رحلة فهي خلفية لرؤية سياسية، لذا سيبقى مسار بيسان مفتوحاً، ويبقى الاصرار على الوصول إليها هدف كل فلسطيني، فبيسان رمز للوطن السليب كله، الذي تنازل عنه اتفاق أوسلو.

الرؤية الكلية للنص:

يقول السارد: كنا فريقاً واحداً، ركبنا الحافلة معاً، بدأنا المسار معاً، وغنينا، ورقصنا، لكن طول المسار فرقنا، جعل منا كتلاً متباعدة، لا نقوى على التواصل والاتصال. امتد الفريق على طول كيلومتر، يزيد أو يقل أحياناً، تجمعنا الأحاديث والاهتمامات، أحاديث العمل والانشغال في الحياة، ... تجمعنا أحاديث السياسة والمجتمع، والعادات والتقاليد، واهتماماتنا بتعليم أبنائنا في المعاهد والجامعات، تجمعنا صداقات قديمة، أو أصدقاء مشتركين، واهتمامات بمشاريع بحثية وعمل، وهناك من يجمعه مع الفريق روح الفريق والمسار المشترك، فأجد زميلاً ضمن المجموعة، ثم ينفصل وحده بين مجموعتين، لم يكن خياري أن أكون ضمن هذه المجموعة المصغرة، كما غيري، وجدت نفسي هنا، وعلي تحمل المصاعب، كما فرضت علينا".

تلك قطعة من الواقع الفلسطيني، وليس من واقع رحلة، فقد عبرت عن تغيرات نفسيات الناس في المجتمع بعد أن كانوا فريقاً واحداً. لذا تأتي الرؤية الكلية للسرد نابعة من الدلالات العميقة التي طرحها السارد والتي تشكل رؤية الكاتب لما صاغه من نص روائي. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل الكاتب حقاً أراد من روايته أن تكون رحلة أم ثمة رؤية أخرى أراد أن يوصلها للقاري من خلال الرحلة، ثمة عدة رؤى: رؤية إحياء ذاكرة المكان، وطرح الرؤية الإسرائيلية في تزييف الحقائق استناداً لمنطق القوة، والموقف من استدعاء شرطة الاحتلال لإنقاذهم من المأزق، ولكن ثمة رؤية ما زالت ملتبسة بين ثنايا السرد وهي رؤية المسار الديني الذي يمثله جمال، ويعززه الشيخ محمد، وبروز هذا التيار بشكل قوي بعد اتفاق أوسلو، ودعم قائد الفريق له وتعزيز وجوده.

إن اشكالية الأسئلة التي طرحها السارد بين ثنايا السرد تبقى الأكثر قدرة في التعبير عن الرؤية الكلية للسرد الروائي، فقد كان يطرح الأسئلة عند كل موقف يمر عليه ولا يعجبه التصرف، وهنا تبرز شخصية السارد من خلال ما يطرحه من أسئلة اشكالية يهدف من خلالها إلى تفتيح ذهن القارئ على إجابات لمثل هذه الأسئلة، ومشاركته في الإجابة.

لقد كانت الأفكار المطروحة في المجتمع الفلسطيني هي الدافع لدى السارد لطرح السؤال، حول من يحرر فلسطين العرب أم غير العرب، وطرح التمايز بين الرجل والمرأة، من خلال سؤال هل الصلاة على الذكر تختلف عن الأنثى؟، وقضية الحلال والحرام في حرق جثة المسلم، وغيرها. في إجابته تبرز الرؤى المتباينة في المجتمع، فقد كان تغلغل فكر الاسلامي السياسي في المجتمع الفلسطيني، أدى لبروز الخلافات ومحاولاتهم طرح أفكار جديدة مرتبطة بالدين حتى وإن لم يقتنعوا بها، إنما هي نوع من محاولاتهم للسيطرة على المجتمع، كما فعل جمال حين حاول أن يقود الفريق، واستبعاد قائد الفريق الحاج إبراهيم. ورغم عدم تمكنه إلا أنها إشارات ودلالات لما حدث في المجتمع الفلسطيني لاحقاً.

وفي الختام، لقد عبرت الرواية عن التحولات في الرؤية من الحديث عن النكبة وتداعياتها إلى الحديث عن المكان والتعبير عن جمالياته بعد اتفاق أوسلو، لتأتي الرواية الجديدة أكثر تعبيراً عن الحق الفلسطيني أمام محاولات التغييب، وإنكار الحق، ورداً على الرواية الصهيونية في تزييفها للحق الفلسطيني بدعاوي توراتية باطلة لا تصمد أمام قوة الحق على الأرض الفلسطينية نفسها التي ما زالت شاهدة على هذا الحق، وتشهد مقابرها أن ثمة من مات هنا ودفن هنا من أصحاب الأرض، وما الشواهد والتذكارات اليهودية إلا تأكيداً على ثمة من قاوم وقاتل من أجل الحفاظ على الأرض، وأننا سوف نبقى نبحث عن ظلال الصورة في كل حبة رمل من أرضنا، وحين نمتلك القوة نستطيع أن نحرر المكان ونعيد كتابة تاريخه.

لذا يطرح السارد خوفه من المستقبل حين يطرح على نفسه عدة أسئلة، ويحاول الاجابة عليها بنفسه، ولكنه لا يصل إلى مبتغاه: ما زلت غير قادر على فهم الابقاء على القرى المدمرة. ثم يتساءل عن ابقاء المقابر في بعض القرى، وكذلك على بعض المقامات. يحاول أن يبحث عن إجابة "ربما جعلوها شاهداً، لكل زائر، لكي يعرف مصيره الماضي واللاحق، ويقف عليها ليجتر الماضي ويبكي ... هل ودوا تذكير الذين يزورون قراهم بالموت".

ولكن بكل إجاباته لم يصل إلى إجابة محددة، دلالة على غياب الرؤية بعد اتفاق أوسلو، وضبابية الموقف أو المسار السياسي من قضية اللاجئين، ولكنه استطاع تكون رؤية وهي المهمة في هذه الأسئلة: "لكني أخشى أن نرضي بهذه الوقفات، لنظل نبكي، ونجتر الذكريات التي لم نعشها نحن. هل ودوا أن نظل نبكي ونحزن؟ هل يزيدنا حزننا لو جرفوها؟ ربما أرادوا أن نتمثل في هذه البقايا، فنحن بالنسبة لهم مجرد بقايا". هذا ما اراده المحتل، سلب الحق، وجعلك شاهداً على هذا السلب دون أن تفعل شيئاً غير البكاء، وهذا ما لا يريده السارد، بل يرد فعل قوي لا أن نبقى أسرى عصا الخرفيش.

hdgjhdj9641.jpg

hdgjhdj9642.jpg

صدرت عام 2021 عن دار أ. الهدى ع.زحالقة قصّة الأطفال"مفتاح جدّتي" للكاتبة الفلسطينيّة د.روز اليوسف شعبان، وتقع القصّة التي رافقتها رسومات مريم الرفاعي في 26 صفحة.

موضوع القصّة:

 تدور أحداث القصّة حول الحفيدة "رنا" التي انتبهت لمفتاح خزانة جدّتها الذي تعلّقه في جديلة شعرها، فيثير فضولها وتحاول أن تعرف ما يوجد في خزانة الجدّة دون جدوى، وعندما استطاعت انتزاع المفتاح من جديلة الجدّة وهي نائمة، لم تفتح الخزانة لأنّها شعرت بالخطأ الذي ارتكبته وأعادت المفتاح إلى جديلة جدّتها. وبقيت تستمع لأغاني جدّتها وحكاياتها الشّعبيّة، إلى أن وصلت بقناعاتها الشّخصيّة بعد أن حدّثتها جدّتها عن الأغراب الذين احتلوا بلدا، وشرّدوا أهله الذين ظلّوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم.

 الأسلوب:

 أسلوب الكاتبة سرديّ انسيابيّ مشوّق، وقد جاء في السّرد أكثر من قضيّة تربويّة وتعليميّة بطريقة غير مباشرة، وتحفّز الطفل القارئ على التّساؤل والتّعلّم. ومن القيم التّربويّة والتّعليميّة التي وردت في القصّة وجود عناوين لحكايات شعبيّة حكتها الجدّة للحفيدة مثل:"قصّة الشّاطر حسن، جبينه ونصّ انصيص" ص 5، ويلاحظ في الصّفحة ذاتها كيف اعترفت الحفيدة بحبّ جدّتها وتدليلها لها.

-      ورود أكلات شعبيّة كانت تعملها الجدّة لحفيدتها مثل: "الفطائر والحلويّات المحلّاة بالقطر، كالفطير الملولو المحشوّ بالسّمسم، ولقمة القاضي والقطايف المحشوّة بالجوز والجبن. ص 7.

-      وإذا كانت الجدّة تطبخ وتعدّ الحلويات، فإنّ الفيدة كانت تساعدها "في تعشيب الأرض وقطف الثّمار عن أشجار البرتقال والخوخ والرّمّان."ص7.

-      عندما أخذت الحفيدة مفتاح خزانة الجدّة التي غفت من التّعب، لتفتحها وتنظر ما فيها، شعرت بالخطأ الذي ارتكبته، وأعادت المفتاح إلى جديلة الجدّة كما كان، وهنا تجلّت الحكمة في أسمى معانيها:" تذكّرت نصائح والدتي لي بعدم القيام بعمل في السّرّ ما دمت أخشى القيام به علانية، وهذا أيضا ما كانت تؤكّده معلّمتي في دروس الدّين والتربيّة." ص11، وهذا تعريف لفعل الخطأ أو الحرام، وهو الذي يُعمل في السّرّ خوفا من عمله في العلن.

-      تعليم الطّفل على الصّدق والابتعاد عن الكذب، لذا شاهدنا الحفيدة الطّفلة تصدق مع جدّتها عندما سألتها حول محاولتها أخذ المفتاح فأجابت:" نعم يا جدّتي، لكنّي تراجعت، سامحيني، لن أفعل ما يغضبك أو يغضب أمّي أو ربيّ."ص 13.

-      ونلاحظ أيضا تعليم الطّفل فضيلة الإعتذار عن الخطأ، حيث طلبت الحفيدة السّماح من جدّتها.

-      استعمال الجدّة للأغاني والأهازيج الشّعبيّة، وهذه دعوة غير مباشرة لحفظ التّراث الشّعبيّ.لاحظ الأغاني ص 21 و22.

-      انتهت القصّة بمعرفة الحفيدة الطّفلة عمّن شرّدوا من ديارهم تاركين أملاكهم خلفهم، واحتفظوا بمفاتيح بيوتهم وهم على قناعة بحقّهم في العودة إليها.

أعجبني

أعجبني في القصّة أنّ الكاتبة سردتها بسلاسة، وأوصلت أهدافها بسلاسة أيضا بطريقة بعديدة عن المباشرة والوعظ؛ لتثير تساؤلات الأطفال حولها، كما أوصلت للأطفال نكبة الشّعب الفلسطيني وتشريده من دياره دون أن تأتي على ذكر النّكبة والمجازر والمذابح التي رافقتها، وهذا هو الإبداع.

هفوات في القصّة

هناك هفوات لغويّة لا تخفى على الكاتبة لو انتبهت قليلا لها، ومن هذه الهفوات: ما ورد في الصفحة 5 حول"قصص الشّاطر حسن وجبينه ونص نصيص"، فهذه حكايات شعبيّة وليست قصصا. ومنها الأغاني الشّعبيّة التي وردت في الصّفحتين 21و22، ووصفت بأنّها أناشيد، والصّحيح أنّها أغاني شعبيّة. وهناك ما أعتبره خطأ في كتابة الفعل الماضي المتّصل بفاعله تاء المتكلّم، وبضمير المفعول به للمفرد الغائب، فمثلا مع أنّه ورد في كل شطر بالأغنية:

" يا زرع قطفتو والنّدى عليه

يا سامي ندهتو واسم الله عليه

 فلماذا كتبت الكاتبة "قطفتو" و"ندهتو"، ولِمَ لَمْ تكتبها "قطفته" و"ندهته"، وهكذا في بقيّة الأفعال المشابهة التي وردت في بقيّة الأغنية.

الرّسومات والأخراج:

 الرسّومات التي أبدعتها الفنّانة مريم الرّفاعي، جميلة وتناسب موضوع القصّة، وكذلك مونتاج وإخراج القصّة.

ومذا بعد؟

تبقى هذه القصّة جميلة وغاية في الإبداع، وتشكّل غضافة نوعيّة لأدب الأطفال العربيّ.

 clip_image001.jpg

   عبله تايه الشاعرة الكرمية الفلسطينية وابنة أسرة أشتهرت وعرفت بالشعر والأدب، كما عرف أبناء منطقة طولكرم واشتهارهم بالأدب والشعر، ولو قمنا بإحصاء أبناء منطقة طولكرم الذين اشتهروا بالأدب والشعر لما وسعتنا صفحات وقد نحتاج إلى مجلدات، مع ملاحظة أن طولكرم حين كانت قضاء كانت تضم محيطها جميعه حتى مدينة قلقيلية ومحور الصعبيات وتتبع محافظة نابلس، والآن أصبحت أقل بالمساحة حيث أصبحت نابلس إداريا محافظة وقلقيلية محافظة وطولكرم محافظة، لكن بقي يسجل لمدينة طولكرم وضواحيها تميزها بالشعر والشعراء حتى الآن، وحين كانت روحي تحلق بأشعار عبله تايه المتناثرة في فضاء الشعر، كانت هناك نصوص تثير اشراقة روحي وقلمي ومنها هذه النصوص/ الورود بعبقها وشذاها، والتي اعتادت الشاعرة أن تتركها بلا عناوين حتى تشد القارئ للوصول إلى الفكرة بدون عنوان يوجهه إلى اتجاه محدد، وتبقي قصائدها بأبيات ليست طويلة فتكثف فيها اللغة والمعنى فتمنحها جمالا آخر بعيد عن الإطالة وتكرار الفكرة. 

    في النص الأول تمتعت روحي فتخيلت هذه الصور واللوحات والمقاطع الثلاثة في النص، ففي اللوحة الأولى وهي مقدمة النص كان هذا الوصف الجميل لحالة عشقية يثير الروح ويجعلها تحلق في فضاء آخر فوق الغيمات، أتخيل المشهد للحبيب وهو يجثو على ركبتيه كأمير في محراب المليكة، والليل قد تسلل وعبر مقلتيها... 

"جاثٍ وفِي مقلتيَّ الليلُ قد عبَرا/ حتّى بُعِثْتُ على أهدابهِ بَصَرا" 

     فهذا الحب الذي أثار الذاكرة فجعل سيدة النص تسافر مع زمن منسي بالذاكرة، فتهمس: "نثَرتُ الفجرَ"، فهل أجمل من اشراقة حب تنثر الفجر الجديد؟ وهذه الصور المرسومة بالكلمات نجدها في المقطع الثاني من النص حيث تقول ايضا: "نفَضْتُ أمسي" فلنتخيل المشهد الذي كانت نتيجته: "فأغراني تبَسُّمهُ"، وايضا "حنَّ نبضٌ"، حتى تعود وتهمس: "وجئتُ أحملُ أحلاماً أؤَجلها، لأستفيقَ على شطآنها مطرا"، فهل أجمل من حب يلامس الروح ويعيد النبض وينهمر "على شطآنها مطرا"؟ 

"سافرتُ في الزمنِ المنسيِّ ذاكرةً/ معي أنايَ نثَرتُ الفجرَ فانتشرا 

نفَضْتُ أمسي فأغراني تبَسُّمهُ/ وكلَّما حنَّ نبضٌ قيلَ قَدْ عُذِرا  

وجئتُ أحملُ أحلاماً أؤَجلها/ لأستفيقَ على شطآنها مطرا" 

    والخلاصة في المقطع الأخير وهو لوحة مرسومة بريشة القلم وألوان الروح ونبضات قلب فتقول: 

 "إنّي أحبكَ حباً لا شريكَ له  

محملاً بالندى والشِّعرِ والشُّعرا" 

   فهل أجمل من هكذا حكاية حب من روح أنثى معتقة بتلاوين الزمن، فيأتي الحب كما غيمات ثلاث محملة بجمال الندى الصباحي "محملاً بالندى" وغيمة محملة بـالـ "الشِّعر" لتليها الغيمة الثالثة محملة بـ "الشُّعرا"، فيأتي الجمال مرسوما من مشهد يحيط به من خلف الكلمات شَّعر الحبيبة مسدول على الكتفين ومتناثر مع نسمات الهواء كرقصة غجرية؟ 

   وفي النص الثاني/ الوردة الثانية تتألق شاعرتنا عبلة من جديد في نص قصير ما بين الماضي والحاضر اختزل حكايات في ثلاثة أبيات شعرية لا غير، فسيدة نصها تصف الحال في الشطر الأول والحلم في الشطرة الثانية فتقول: 

"بي من متاهاتِ الدِّيارِ – ديارُ/ فعسى بِلقيا تسمحُ الأقدارُ" 

   فنرى حلم بلقاء " فعسى بِلقيا تسمحُ الأقدارُ"، لكنها لا تحدد من تحلم باللقاء به، لأن هذا الحلم الخاص ارتبط بالظرف العام الذي اشارت له الشطرة الأولى، فسيدة النص تعاني من متاهات الديار ديار، فهنا حصرت المعاناة داخل الديار، والديار هي الأمكنة التي نسكنها، ففيها كانت المتاهات ولكن بالتأكيد ليس توهانا عن مكان، بل متاهات فكرية ونفسية، لذا كان الحلم باللقاء في الشطرة التالية، فكان البيت الأول هو مكان ومسرح الحكاية، بينما في البيت الثاني: 

"بي من عيونِ المتعبينَ حكايةٌ/ تلْتَفُّ حول جفونها الأسرارُ" 

كانت ذروة الحدث ومتن الابيات الثلاثة، فسيدة النص تعاني لكنها لا تبوح بأسرارها، فبداخلها "من عيونِ المتعبينَ حكايةٌ"، فلنتخيل من خلال هذا الوصف ما هي هذه الاسرار التي تشير اليها تأثيرات السهر والتعب الداخلي حول الجفون، فهي تبوح بذلك بالقول: " تلْتَفُّ حول جفونها الأسرارُ". 

في البيت الثالث: 

"هذي الشجونُ توثَّبتْ عبْرَ المسا/ وخوالجُ الذكرى صدىً دوّارُ" 

   نرى الشاعرة تضعنا بصورة الحدث وسره، فهي مع سكنات الليل ومع المساء انثالت بروحها الشجون وتوثبت، " هذي الشجونُ توثَّبتْ عبْرَ المسا"، فمن أين أتت هذه الشجون؟ لا تتركنا سيدة النص نبتعد بتفكيرنا فهي توضح بالشطرة الثانية من البيت الثالث أن الشجون أتتها من الذكرى والتذكر والتي كانت مختفية في تلافيف الذاكرة فأتت في المساء فكانت " صدىً دوّارُ"، فكان هنا تعبير أدبي يعتمد على فكرة علمية حين يتردد الصدى من أكثر من جانب في حالات خاصة مرتبطة بطبيعة المكان، فكان الصدى هنا لا يأتيها مرة واحدة وينتهي، لكنه الصدى الدوار المتكرر من كل الجنبات للذاكرة والدماغ. 

   عبله تايه كما عادتها بالشِعر، تطل علينا بين فترة وأخرى ببوح روحها بنصوص قصيرة ولكنها مكثفة جدا، تختصر على القارئ الوقت وتبتعد عن التكرار والإطالة، وفي هذا النص/ الوردة الثالثة المكون من أربعة أبيات رسمت لنا حكاية عشق بين اثنين، العاشق الذي يسجن مشاعره ولا يبوح بها، والعاشقة التي تشعر بمشاعر العشق بدون أن يتكلم، فتقول في البيت الأول: 

"على مدى بوحِكَ المسجونِ ريحُ صَبا/ قد عانقَ الروحَ فانسابَ الهوى سُحُبا" 

   فتحلق بالفكرة ومن خلال خيال الشاعرة تشعر ببوحه المسجون يصلها "ريح صبا"، وريح الصبا هي ريح دافئة تأتي من الشرق، فهل ارادت الشاعرة أن تشبه بوح العاشق بالدفء أم قصدت تحديد موقعه الجغرافي بالنسبة لمكانها أم قصدت كلا الامرين؟ ويبقى الجواب كما المثل: "المعنى في بطن الشاعر"، لكن الشاعرة في عجز البيت أرادت أن تبعد التساؤلات فقالت أن هذا البوح الدافئ "قد عانق الروح" في إشارة أنها مشاعر أحست بها، رغم أنها قالت في صدر البيت "بوحك المسجون" وبالتأكيد ان السجن هو القلب الذي يحمل هذه الأحاسيس، فتحول الهوى الدافئ كما "ريح صبا" إلى غيوم وسحب لكن بانسيابية ونعومة " فانسابَ الهوى سُحُبا" لكن هذه المشاعر تراكمت حتى أصبحت كتل من السحب. 

   في البيت الثاني: 

"حاولتُ أنْ أفهمَ المعنى بلا لغةٍ/ فمنْ سِواكَ قصيداً غابَ فاقتربا" 

    تلجأ الشاعرة إلى روحها وقلبها كي تفهم هذا البوح الذي أتاها كما ريح صبا بدفئها وشرقها، فمشاعر الحب تسمو فوق الحروف فلا تستطيع اللغة التعبير عنه فهي تريد ان تفهم "بلا لغة"، لكن عجز البيت يكشف المستور، فالعاشق كان موجودا ولكنه "غاب فاقتربا" فشبهته بجمالية "من سِواكَ قصيدا"، فالقصيد أجمل ما توارثناه عبر العصور وما زال يلفنا بجماله، وهنا نجد أن العاشق الذي حبس بوحه كان يشعر بالخجل من ابتعاده، فحين اقترب بقي صامتا لكن بوحه حلق بدون أن يتكلم بدفء ريح صبا، فكان هذين البيتين مقدمة النص الشعري ومقدمة الحكاية العشقية. 

   في البيت الثالث: 

"كلُّ العيونِ بها من عِشقِنا قبَسٌ/ وفجرُ عينيكَ يا حلمَ الصِّبا وثَبا" 

    تنقلنا الشاعرة لذروة النص قبل أن توصلنا للنهاية في البيت الرابع والأخير، فهنا الاعتراف بحكاية العشق التي لم تتوقف رغم ابتعاد العاشق، فهي في هذا البيت ترى أن كل العيون التي لدى البشر بها بعض من هذا العشق المتأجج فتقول: "كلَّ العيون بها من عِشقِنا قبَسٌ"، أي فيها بعض من هذا القبس، والقبس في المعاجم العربية بعض من النار أو النور وكما ورد في القرآن الكريم في سورة طه:"إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى"، وكما ورد في القرآن الكريم أيضا: "انظرونا نقتبس من نوركم"، فمن خلال هذا القبس من حكاية العشق في كل العيون، إلى عيني العاشق الذي ترى أنه فجر قفز منه حلم وذاكرة الصِبا والشباب، فتقول: "وفجرُ عينيكَ يا حلمَ الصِّبا وثَبا"، وهنا نجد جمالية أخرى بالنص من خلال كلمتي: صَبا بفتح الصاد وصِبا بكسرها مع اختلاف المعنى وتشابه الحروف فأضاف ذلك إلى النص لوحة جمالية أخرى. 

    وفي النهاية للنص والبيت الأخير: 

" آتٍ إليك أمدُّ العمر َ أزمنَةً/ إِذْ كيفَ يغترُّ قلبٌ جاورَ اللهَبا" 

   نجد الخاتمة لحكاية العشق تنادي عشقها أنها آتية اليه متجاوزة كل الأزمنة التي مرت، فتصرخ: "آتٍ إليك أمدُّ العمر َ أزمنَةً"، وتؤكد أنها ستلبي نداء البوح الصامت الذي ورد في البيت الأول وبالتأكيد لن تغتر بنفسها كون الحبيب هو من ابتعد، فالقلب رغم البعاد لم يتوقف عن الاشتعال بالحب وكأنه "جاورَ اللهبا" طوال الفترة الماضية بقولها في عجز البيت: " إِذْ كيفَ يغترُّ قلبٌ جاورَ اللهَبا"، فتكتمل الصور الجمالية بأربعة أبيات اختصرت رواية وأمكنة وأحداث بلغة مكثفة ولوحات مرسومة بالقلم. 

 تألقت عبله تايه سليلة الشعراء الكرميين في هذا النص كما تألقت في نصوص أخرى شدتني بقوة، فلا امتلك إلا ان أشكرها على هذا الفضاء الجميل الذي اتاحت لروحي التحليق فيه، وجمال الشِعر واللغة التي مست شغاف القلب وسيرت القلم. 

   وهكذا نجد الشاعرة عبله تايه سليلة الشعراء الكرميين تألقت في هذه النصوص كما تألقت في نصوص أخرى، فنراها تروي لنا من خلال هذه النصوص الثلاثة حكاية عشق وحب سكنت روحها، لكنها بكل المؤشرات تشير للماضي الذي ترك أثرها على الروح وعلى القلب، فيخرج الحنين بين فترة وأخرى، فهل من حدث جديد جعل بركان القلب يتفجر من جديد وتسيل حممه شعرا يربط الماضي بالحاضر وحلم المستقبل؟ ربما نرى ذلك في النصوص القادمة مستقبلا، فلا أمتلك إلا الهمس: شكرا لروحك عبلة فقد جعلت روحي تحلق في فضاء أحببته أتاح لروحي التحليق فيه، وجمال الشِعر واللغة التي مست شغاف القلب. 

maagdfgh9641.jpg

maagdfgh9642.jpg

عن دار طباق للنشر والتوزيع صدر كتاب "همسات وتغاريد" للكاتبة عدلة شدّاد خشيبون (2020م)،  وقد جاء في ثلاثة وثلاثين نصّا، ضمن مجموعة منتقاة من الخواطر والنصوص النثرية والصور القلمية، التي جمعتها الكاتبة في قالب فني وصياغة أنيقة, وأهدتها إلى روح والدتها وأختها، وهو كتابها الثاني بعد كتاب "نبضات ضمير" الذي صدر في العام 2014م.

قدّمت الكتاب الروائية دينا سليم حنحن، واستهلّت قائلة: " هذا القلم المميز عندما يكتب، يقودنا إلى أنفسنا المغتابة ليمسح الغبار عن عوالم سحرية مدفونة، نريد لها الخروج من فانوسها السحري".

كان العنوان ثريا بما يكفي لإضاءة العتبة الأولى للقراءة وما جاورها من متن نصيّ، فحضر مباشرا أنيقا، ذو جرس موسيقي رَنَّان، ملتحما بمحتواه معبّرا عنه، عكسَ مرآه ومكنوناته ووصف الحالة الوجدانية التي تعيشها الكاتبة.

وبما يخصّ الفكرة فقد حققت التوازن والترابط في الجمل والألفاظ والتراكيب، كانت واضحة متماسكة بعيدة عن التعقيد والجفاف، وبأسلوب منسجم وقالب أدبي لطيف أفصحت كاتبتنا عن نفسها وعبرت عمّا يجول في خاطرها، اعتمدت التنوّع ووجدانية الأسلوب، ما بين الومضة واللقطة والخاطرة الإنسانية، الرومانسية والاجتماعية، وامتازت سطورها بالإيجاز وجمال الصياغة وقوة التأثير، تزاحم الصُّوَر والتشبيهات، بساطة الألفاظ والاتِّساق مع الدفقة ‏الشعوريّة المرافقة.

وعن اللغة فقد امتلأت بالحس الإنساني الشفيف والأسئلة الوجودية، التماسك التعبيري، سرّدا ووصفا، تمكنت من الولوج إلى فضاءات متخيّلة وعوالم جديدة, وصفت الواقع ونقلَته وزادَت في معانيه سَعَةً ونَمَاء.

أما عناوين النصوص فقد مثلّت البوابة الفنية المبدَئيّة التي يجتازُها القارئ وينطلق منها إلى باقي الصَفحات بفضولٍ كبير، تلك الصفحاتِ التي ازدحمت بثيّمات المشاعر، الحزن الألم والدموع، الحلم والأسرار، الشوق والذكريات، الحنين والنسيان، فكانت بمثابة المُقوِّم الأساسيّ لعُروج هذا العمل إلى منصَّة الإبداع.

 يشعر قارئ هذه النصوص بأنه أمام واقع الحياة وما تكتنفه من أحداث، فتلك الشذرات والنبضات قد استعادت الغياب الذي تحقق في النصّ، الفقدان وخسارة الأُم والأخت، وجع عميق جاثم في الصدر، وُصفته خشيبون بمنتهى الصِدق والتدفق، كانت صورة الأم مترابطة لامتناهيّة وظَهَرت في قالبٍ يحمل شيئا من روحها أحيانا، أو يحمل فلسفتها في تجاوز الألم أحيانا أخرى، واسترسَلَت تمَضي معتمدةً أساليب هادئة يسيرة، شاعريّة المشهد ‏والحركة والإيماءات، واعتبرت الحياة قيّمة ثريّة بما يتذكر الإنسان، فاسْتَهْجَنَت الفناء واستحضرت الغياب بحضور النصّ، وقبضت على اللحظة الشعوريّة قائلة : "موجوعة أنا يا أمّي! وصفير قاطرتي بعيد بعيد.. بردانة أنا يا أمّي! ودفء غطائي جليد جليد، حجم الاشتياق كبير لا يعرف للزّمن ساعة، لا.. ولا يكترث بعقارب لاسعة، بألم السّنين، فقدت ألواني باهتة، بل رثّة وريشتي ضائعة".

وأمام تلك الحالة الحسيّة ومناجاة الأم الراحلة، نقف أمام الوصف وجمع من الأسئلة، المواقف والتفاصيل، ونَسَق جميل من الدهشة والبهجة من جهة، واللَّوم الإحباط من جهة ثانية، وعن العتاب كتبت تقول: "أنا يا صديقي لا أقرأ كفّ الظالمين..لا، ولا أشرب قهوة العابسين، لي كفٌ من دفء نسيم عليل، أداعبها، وأرتشف قهوتي ساخنة، وأحلم باليقين".

ولا بدّ هنا من التّطرق للصدق، فهو كما ‏استَشعَرتُه، كان العنصر الأهم في هذه المجموعة، ليس بما اقترفه الخيال، بل بما نبع من عفوية الخواطر ووطأة الشعور، فالصدق هنا حرّر الذات المبدعة، وأطلق سجيّتها دون رتوش أو تجميل أو إضافة، وجعلها تستَرسل بتلقائية  طبيعية.

 وعن خريف المشاعر كتبت تقول: "لا أقف مكتوفة الأيدي، بل أقف جالسة على يد ضاقت ذرعا بهواء يمنع عنها الهواء، هي صفعة قدر جديدة، جادت بها سخرية الأيام.. أنا يا صديقي لا أكتب الطلاسم، هو واقع يقع على الحدّ الفاصل بين زرقة السّماء وشجرة صفصاف حزينة، بحجم عتمة المساء"..

أخيرا، فقد وثقت عدلة لحظتها والشعور، وعلى أعتاب البوح انعتق حرفها وطار في فضاء لوحاتها محلّقا، ليكشف عن أبعادٍ جماليّة وإيحائيّة، هكذا حتى اكتمل المشهد وانسابت كلماتها كلحنِ ناي، تَسَلَّلَ فَلَوّن القصَب وتورّد، ومن يعرف الكاتبة عن قُرب يعرف أنها تتميّز بعفويتها وإنسانيّتها، فهي تسكب ذاتها مع كل سطر تخطّه، ودائما ما تشي كتاباتها بتفاعلها الإيجابي مع محيطها، لذا فهي تصعد إلى معارج الوجد في عالم من السكينة والرواء.

أبارك للصديقة عدلة خشيبون هذا الإصدار، وأتمنى لها نجاحا أدبيًا مشرقًا، ومزيدا من التألق والنجاح.

المزيد من المقالات...