أورد صاحب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (9/ 200) القصيدة التالية:

هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ ... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ

هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ ... هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ

يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَان رَاحَتِهِ ... رُكْنُ الْحَطِيمِ لَدَيْهِ حِينَ يَسْتَلِمُ

إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا ... إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ

يُغْضِي حَيَاءً وَيُغضَى مِنْ مَهَابَتِهِ ... فَلَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ

فِي كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبِقُ ... بِكَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ شَمَمُ

مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ نَبْعَتُهُ ... طَابَتْ عَنَاصِرُهُ وَالْخِيَمُ وَالشِّيَمُ

لَا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ غَايَتِهِمْ ... وَلَا يُدَانِيهِمُ قَوْمٌ وَإِنْ كَرِمُوا

أَيُّ الْعَشَائِرِ لَيْسَتْ فِي رِقَابِهِمُ ... لِأَوَّلِيَّةِ هَذَا أَو لهُ نِعَمُ.

رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ مَنْ لَمْ أَعْرِفْهُ.

أي ضعّف إسنادها، وهي عنده في الحسين بن علي، وليست في علي بن الحسين.

واختلفت الأقوال كثيراً حول هذه القصيدة مَنْ قائلها، وفي من قيلت عنه. والمشهور أنها للفرزدق في علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهما.

ولهذه القصيدة رحلة طويلة في طولها، وفي نسبتها، وفي اختلاف أبياتها، وتعدد ممدوحيها، وشعرائها، وقضية ورودها في ديوان الفرزدق غير المحقق تحقيقاً علمياً، لا يدل على صحتها، أو على الأقل على صحتها كلها، وسأذكر تاريخ رحلة القصيدة بالتسلسل التاريخي، حيث أورد مَن تقدَّم على مَنْ تأخر، إلى آخر من ذكرها، وهو الغازي المكي الذي توفي سنة 1365 هـ.

وإن الحديث عنها سيكون على قسمين: القسم الأول فيمن نسبوها للفرزدق، وأثبتوها في كتبهم بين مقلٍّ من أبياتها أو مكثر، مع اختلافٍ في ترتيب الأبيات، وفي اختلاف ألفاظها فيما بينهم، واختلاف الممدوحين الذين وصفتهم أبيات الفرزدق.

والقسم الثاني في إثبات من شكك في القصيدة أنها للفرزدق، أو شكك في أبيات منها أنها ليست للفرزدق، بل اختلف حتى أسماء الشعراء المنسوبة لهم، وأسماء الممدوحين.

القسم الأول: من أثبت نسبتها للفرزدق

أول من أوردها كاتب مجهول في كتاب سماه: أخبار الدولة العباسية (ص: 141)، وقيل في ترجمته إنه عاش في القرن الثالث الهجري.

وأوردها الفاكهي في كتابه أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه(2/ 159) وهو من وفيات أواخر القرن الثالث الهجري، وذكر خمسة أبيات منها، وهي:

هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ ... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ

يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ ... رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ

إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا ... إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ

هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمُ ... هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ

أَيُّ الْقَبَائِلِ لَيْسَتْ فِي رِقَابِهِمُ ... لِأَوَّلِيَّةِ هَذَا أَوْ لَهُ النِّعَمُ

علق عليها بقوله بعد أن ذكر أنها في علي بن الحسين: وَيُقَالُ: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْفَرَزْدَقُ هَذَا: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ.

وذكرها إبراهيم البيهقي في المحاسن والمساوئ (ص: 103) المتوفى 320 هـ. وزاد في قصتها عما هو معروف في كتب الأدب حيث جعلها في عبد الملك بن مروان، وليس في ولده هشام، وليس فيها قصة الطواف والازدحام عليه، وإنما رآه عبد الملك فسأل الفرزدق عنه، فأجابه بأبيات عدتها 14 بيتاً، ثم تابع القصة بأمور تختلف عما ورد في كل الكتب.

وأورد أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني (15/ 316) سبعة أبيات، وفيها بيت :

من يعرفِ اللهَ يعرِفْ أوّلية ذا ..... فالدين من بيت هذا ناله الأُمُمُ

وذكرها مع قصتها المعافى بن زكريا في الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي (ص: 680).

أما القصة، فهي كما رواها أبو نعيم الأصبهاني في منتخب من كتاب الشعراء (ص: 30)، ونقلها عنه ابن الجوزي في صفة الصفوة (1/ 356): والتنوخي في المستجاد من فعلات الأجواد (ص: 24) على النحو الآتي:

عن ابن عائشة، عن أبيه قال: حج هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة، فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه، قال: وجاء علي بن الحسين فوقف له الناس، وتنحوا حتى استلم، فقال الناس لهشام: من هذا؟ قال: لا أعرفه.

فقال الفرزدق: لكني أعرفه، هذا علي بن الحسين.

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم

يكاد يمسكه عرفانَ راحته ... ركنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض؟ قيل: هم

هذا ابن فاطمةٍ إن كنت جاهله ... بجَدِّه أنبياء الله قد خُتموا

وليس قولك: من هذا؟ بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم

يغضي حياءً ويغضى من مهابته ... ولا يكلم إلا حين يبتسم

وذكرها المرتضى الشيعي في أماليه (ص: 76)، وقال الزمخشري في ربيع الأبرار: تنسب إلى الفرزدق، مكرمة يُرجَى له بها الجنة، هي أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، مدحه الفرزدق [أي مدح علي زين العابدين]، وأورد القصيدة.

وفي تاريخ دمشق لابن عساكر (41/ 400):

حدثني أبو علي حسين بن محمد بن طالب حدثني غير واحد من أهل الأدب أن علي بن الحسين حج فاستجهز الناس حياله وتشوفوا له وجعلوا يقولون من هذا من هذا، فأنشأ الفرزدق يقول، وذكرها، ونلاحظ إن إسناده فيه مجاهيل بقوله: حدثني غير واحد من أهل الأدب.

ولكنه ذكرها في موضع آخر (41/ 401) بإسناد ليس فيه مجهول الاسم مع قصة هشام بن عبد الملك.

كما ذكرها ابن المبارك في منتهى الطلب من أشعار العرب (ص: 235)، وابن الجوزي ذكرها كاملة في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (6/ 331).

وذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان (6/ 95) قائلاً:

وتنسب إليه [أي إلى الفرزدق] مكرمة يرجى له بها الجنة، وهي أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، وذكر القصة وسبعة أبيات منها.

وذكر محمد أيدمر المستعصمي في الدر الفريد وبيت القصيد (1/ 93): أنها للفرزدق، كما نسبها للفرزدق أيضاً ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (4/ 8)، وذكرها النويري في نهاية الأرب في فنون الأدب (21/ 327)، والمزي في تهذيب الكمال في أسماء الرجال (20/ 400)، ولكنه حكم على روايتها بالضعف.

وَذكرها الذهبي في تاريخ الإسلام (6/ 438)، وفي سير أعلام النبلاء (7/ 449)، وقال: قَدِ اشْتَهَرَتْ قَصِيْدَةُ الفَرَزْدَقِ - وَهِيَ سَمَاعُنَا -: أَنَّ هِشَامَ بنَ عَبْدِ المَلِكِ حَجَّ قُبَيْلَ وِلاَيَتِهِ الخِلاَفَةَ، وذكر القصيدة، ثم ذكرها في موضع آخر من كتابه.

وهي عند السبكي مع القصة في طبقات الشافعية الكبرى (1/ 291)، وابن كثير في البداية والنهاية (9/ 126)، والدَّميري في حياة الحيوان الكبرى (1/ 20)، وابن حجة الحموي في كل كتبه، ومنها ثمرات الأوراق في المحاضرات (2/ 26).

كما ذكرها الهيتمي في الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة (2/ 583)، وابن العماد في شذرات الذهب في أخبار من ذهب (2/ 59)، والبغدادي في خِزانة الأدب (11/ 161)، والعصامي في سِمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي (3/ 332)، والغازي المكي في إفادة الأنام بذ كر أخبار بلد الله الحرام (2/ 646).

وهكذا نكاد نحس أن كثيراً من العلماء اتفقوا على أن القصيدة للفرزدق، وهي في علي بن الحسين رضي الله عنهما على الغالب، مع أن رواية الهيثمي، وغيره هي في الحسين بن علي، وليس في علي بن الحسين رضي الله عنهم جميعاً.

ونرى أن كثيرين من هؤلاء الذين أوردوها في كتبهم هي رواية تناقلها بعضهم عن بعض، دون محاولة التحقيق فيما كان يُثار حولها، مع أن الكلام حول نسبتها أو نسبة أبيات منه قديم قدم أول مُورِد لها، فالمؤلف المجهول الذي أوردها (مع جهالته) والذي كان حياً في القرن الثالث الهجري ذكر أنها للفرزدق.

ومن أوائل من ذكر أنها لغير الفرزدق أبو تمام الشاعر المشهور، وهو معروف بتحقيقه للشعر العربي، وكل كتبه ألفها في جمع أشعار العرب، وقد توفي أبو تمام في نهاية الثلث الأول من القرن الثالث الهجري، أي غالباً قبل المؤلف المجهول الذي كتبوا عنه أنه كان حياً في القرن الثالث الهجري، وهذه الملاحظة أذكرها متعجباً من أن المؤرخين الذين عُرفوا بشيء من التحقيق التاريخي مثلاً، كالإمام ابن تيمية، والإمام الذهبي، والإمام ابن كثير رحمهم الله، يذكرونها كأنها من المُسلّمات، وبعض المؤرخين بعد ذكرها يقول: تنسب إلى الفرزدق، مكرمة يُرجَى له بها الجنة، فكأنه متأكد، ولم يشك بنسبتها للفرزدق في الإمام زين العابدين، وهكذا اتفق هؤلاء على صحة نسبتها للفرزدق، وإن اختلفوا في ترتيب أبياتها، وعدد أبياتها، ومع ذلك فإن هذه الروايات باستثناء ما بدأتُ به من رواية مجمع الزوائد، وهو المصدر الحديثي الوحيد في الأمر، وليس من كتب التاريخ، ومع ذلك ذكر أن الرواية التي أوردها رواية ضعيفة، وأيّد ضعفها الإمام الحافظ المزي، حيث ذكر أنها رواية ضعيفة غير صحيحة.

ورواية هؤلاء الأعلام للقصيدة جعلها موثقة تاريخياً، وبدأ الناس يتناقلونها في كتبهم، حتى اعتبروا أن الفرزدق سينال من الله المغفرة لهذه القصيدة التي - كما توحي إشارات هؤلاء العلماء – أنها ستكون سبباً في المغفرة للشاعر الفرزدق! وأنها ستنفعه يوم القيامة؟، وأصبح من الصعب أن نشكك أو نتكلم حول القصيدة بأي كلمة توحي بضعفها أو بالتشكيك فيها، والقصيدة مع كل ذلك فيها جمال شعري يتناسب بقوة شعر الفرزدق، وقوة عارضته الشعرية، مع أن هؤلاء الذين أثبتوا صحتها للفرزدق، لم يتفقوا على عدد أبياتها، فمنهم من جعلها ستة أبيات، أو سبعة، أو أربعة عشر بيتاً، أو أكثر من ذلك حتى أوصلوها إلى سبعة وعشرين بيتاً، وأثبتها طابعو الديوان بهذا الطول دون محاولة للتحقيق لها ولا لغيرها من القصائد التي قد تحتاج إلى شيء من التحقيق، وبذلك انطمست الأصول الحقيقية – عند هؤلاء – لهذه القصيدة وطولها وترتيبها وألفاظها.

 

بعد أن استعرضت من أكدوا صحة نسبة القصيدة للفرزدق، ولكن اختلفوا بعدد أبياتها وترتيبها، أنتقل إلى من يرون أنها لغير الفرزدق، أو ليس كل أبياتها للفرزدق، فأولهم أبو تمام في ديوان الحماسة (2/ 284)، وتابعه الخطيب التبريزي في شرح ديوان الحماسة (2/ 284) يقول أبو تمام:

قال الحزين الكناني:

هَذَا الَّذِي تعرف الْبَطْحَاء وطأته ... وَالْبَيْت يعرفهُ والحل وَالْحرم

إِذا رَأَتْهُ قُرَيْش قَالَ قَائِلهَا ... إِلَى مَكَارِم هَذَا يَنْتَهِي الْكَرم

يكَاد يمسِكهُ عرفانَ رَاحَته ... ركنُ الْحطيم إِذا مَا جَاءَ يسْتَلم

أَي الْقَبَائِل لَيست فِي رقابهم ... لأولية هَذَا أَو لَهُ نعم

بكفه خيزران رِيحهَا عبق ... من كف أروع فِي عِرنينه شمم

يغضي حَيَاء ويغضى من مهابته ... فَمَا يكلم إِلَّا حِين يبتسم

ومع ذلك، ذكر الزوزني عندما شرح الحماسة نسبتها للفرزدق، مخالفاً صاحب الحماسة نفسه.

وسبق الذكر أن الفاكهي شكك بالممدوح فقال: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْفَرَزْدَقُ هَذَا هو مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ.

ويرى أبو الفرج الأصبهاني: أن الناس يروون هذين البيتين للفرزدق في أبياته التي مدح بها علي بن الحسين التي أولها:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم

وهو غلط ممن رواه، وليس هذان البيتان مما يُمدح بهما مثل علي بن الحسين؛ لأنهما من نعوت الجبابرة والملوك، وليس عليٌّ كذلك، ولا هذا من صفته، وله من الفضل المتعالم ما ليس لأحد، فمن الناس من يروي هذين البيتين لداود بن سلم في قثم بن العباس، ومنهم من يرويهما لخالد بن يزيد مولى قثم فيه، فمن رواهما لداود أو لخالد ففيها في روايته:

كم من صارخ بك من راج وراجية ... يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم

أي العمائر لست في رقابهم ... لأولية هذا أو له نعم

في كفه خيزران...

وفي موضع آخر ذكر الأصبهاني قصة هشام، وأورد القصيدة (21/ 378) أنها في علي بن الحسين.

وذكر النهشلي القيرواني خمسة أبيات للفرزدق في الممتع في صنعة الشعر (ص: 118)، فقال: وقال الفرزدق: وقيل هي لداود بن سلم في قثم بن العباس. وقيل للفرزدق في علي بن الحسين عليهما السلام.

وفي المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء للآمدي (ص: 222)

أن كثير بن كثير السهمي أنشد له دعبل بن علي في كتابه في محمد بن علي بن الحسين بن علي رضوان الله عليهم:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

وكاد يمسكه عرفانَ راحته ... ركنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم

أي أن الأبيات لكثير، وليست للفرزدق، وأنها في محمد بن علي بن الحسين، وليست في أبيه علي.

وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 1305)

وقال الزبير [ابن بكار المؤرخ المشهور] في الشعر الذي أوله

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته % والبيت يعرفه والحل والحرم

أنه قاله بعض شعراء المدينة في قثم بن العباس، وزاد الزبير فيها، منها قوله:

كم صارخ بك مكروب وصارخة % يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم %

وقد ذكرنا في بهجة المجالس الشعر الذي أوله:

هذا الذى تعرف البطحاء وطأته

ولمن هو، والاختلاف فيه، ولا يصح أنه قثم بن العباس، وذلك شعر آخر على عروضه وقافيته، وما قاله الزبير فغير صحيح، والله أعلم.

الذي ذكر [ابن عبد البر] في بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 112) هذه الأبيات ولم يتمهّا، وقال الفاكهيّ :ويقال إن الرجل الذي قال فيه الفرزدق هذا هو محمد بن عليّ بن حسين ،قال: وحدثني أبو سعيد ،قال : حدثني الزبير ،قال : قيل هذا الشعر في قثم بن العباس ،قاله بعض شعراء أهل المدينة ، وزاد في الشعر بيتين أو ثلاثة.

وأما قوله في الخبر الأول : ولفاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ، فإن عليّ بن عبد اللّه أمه زينب بنت علىّ بن أبي طالب، وأمّها فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقول من قال : إن هذا الشّعر قيل في عليّ بن عبيد اللّه بن جعفر، أو في محمد بن علي بن حسين أصح عندي من قول من قال : إنه في عليّ بن حسين ، لأن علي بن حسين توفي سنة ثلاث أو أربع وتسعين، وهشام بن عبد الملك إنما ولي الخلافة سنة خمس ومائة ، وعاش خليفةً عشرين سنة ، وجائز أن يكون الشعر للحر بن عبد اللّه في محمد بن علي بن حسين ، وممكن أن يكون للفرزدق في محمد بن علي بن حسين بن أبي جعفر - وإن كان له في أبيه علي بن حسين - فلم يكن هشام يومئذ خليفةً كما قال أبو علي في روايته ، وأما قول الزبير [ابن بكار]: إنه قيل في قثم ابن عباس ، فليس بشيء، وإنما ذاك شعر قيل في قثم على قافية هذا الشعر، وعروضه ليس هو هذا.

إذن نرى أن ابن عبد البر شكك في الشعر، وفي الممدوح كليهما معاً.

ونقله عنه المكي الفاسي في العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين (5/ 478)، بينما ذكرها التبريزي شرح ديوان الحماسة (2/ 284)، كما سبق ذكره.

وذكر ابن المغازلي في مناقب علي (446 هـ) ستة أبيات منها، وابن المغازلي اتهمه ابن تيمية بأنه يروي الموضوعات.

وفي الحماسة البصرية (1/ 130): وَقَالَ الفرزدق همام بن غَالب فِي على بن الْحُسَيْن بن عَليّ عَلَيْهِم السَّلَام

هَذَا الَّذِي تعرف الْبَطْحَاء وطأته ... وَالْبَيْت يعرفهُ والحل وَالْحرم

ثم أتبعه مباشرة بقوله: وَقَالَ الحزين بن وهب الْكِنَانِي (أموي) الشعر في عبد الله بن عبد الْملك، وَقيل إنَّهَا فِي قثم بن الْعَبَّاس، وأورد القصيدة مختلطة بأبيات موجودة فيما نسب للفرزدق، وبأبيات غيرها.

وفي محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني (1/ 367): وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما يطوف بالبيت فرآه يزيد [ابن عبد الملك]. فقال: من هذا؟

فقال له الحارث بن الليث:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم

ويروي ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (17/ 149):

قال الزبير [ابن بكار]: وأنشدني عبد الله بن محمد بن موسى بن عمر لداود بن سلم يمدح قثم بن العباس، وأنشدني ذلك يونس بن عبد الله قال سمعته من داود بن أسلم:

كم صارخٍ بك من راج وصارخة % يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته % والبيت يعرفه والحل والحرم

يكاد يعلقه عرفانَ راحته % ركنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها % إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

هذا الذي لم يُضِع للملك حرمته % إن الكريم الذي يحظى به الحرم

وقال ابن منظور في لسان العرب (13/ 114): وَهُوَ الْحَزِينُ الكِنانيُّ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُهَيب، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ووفَد إِلَيْهِ إِلَى مِصْرَ وَهُوَ وَالِيهَا يمدحُه فِي أَبيات مِنْ جُمْلَتِهَا:

لمَّا وقَفْت عَلَيْهِمْ فِي الجُموع ضُحًى...وَقَدْ تَعَرَّضَتِ الحُجَّابُ والخَدَمُ

حَيَّيْتُه بسَلامٍ وَهُوَ مُرْتَفِقٌ، ... وضَجَّةُ القَوْمِ عِنْدَ الْبَابِ تَزْدَحِمُ

فِي كَفِّه خَيزُرانٌ رِيحُه عَبِق، ... فِي كَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِه شَمَمُ

يُغْضِي حَياءً ويُغْضَى مِنْ مَهابَتِهِ، ... فَمَا يُكَلَّمُ إلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ

وقال ابن سيد الناس في عيون الأثر (2/ 377): وقال الزبير في الشعر الذي أوله:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم

أنه قاله بعض شعراء المدينة في قثم بن العباس، وفي إكمال تهذيب الكمال لابن مغلطاي (9/ 298): وممن ذكر ذلك لنا محمد بن يحيى عن الغلابي عن مهدي بن سابق أن داود بن سلم قال: هذه الأربعة الأبيات في قثم بن العباس، وذكر أن الفرزدق أدخل هذه الأبيات، سوى البيت الأول في مدح علي بن الحسين.

وذكر الرياشي عن الأصمعي أن رجلاً من العرب يقال له: داود وقف لقثم فناداه:

يكاد يمسكه عرفانَ راحته ... ركنُ الحطيم إذا بها جاء يستلم

كم صارخ بك من راج وراجية ... في الناس يا قثم الخيرات يا قثم

والصحيح أنهما للحزين [الكناني]، واسمه عمرو بن عبيد بن وهب بن مالك الكناني بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وكان على مصر، وقد غلط ابن عائشة في إدخاله هذين البيتين في أبيات الفرزدق، وأبيات الحزين مؤتلفة منتظمة المعاني، متشابهة تنبئ عن نفسها.

وفي الوافي بالوفيات (13/ 292): وَله [أي لداود بن سلم الأدلم المري] مدائح مستحسنة مستفيضة، لَهُ فِي قثم بن الْعَبَّاس فِيمَا ذكره الزبير بن بكار:

(كَمَا صارخٍ بك من راجٍ وصارخةٍ ... تدعوك يَا قثم الْخيرَات يَا قثم)

(هَذَا الَّذِي تعرف الْبَطْحَاء وطأته ... وَالْبَيْت يعرفهُ والحلُّ وَالْحرم)

(يكَاد يعلقه عرفانَ رَاحَته ... ركنُ الْحطيم إِذا مَا جَاءَ يسْتَلم)

(إِذا رَأَتْهُ قريشٌ قَالَ قَائِلهَا ... إِلَى مَكَارِم هَذَا يَنْتَهِي الْكَرم)

هَذَا الَّذِي لم يُضِعْ للْملك حرمته...إنّ الْكَرِيم الَّذِي يحظى بِهِ الْحرم

وأورد ذكرها في موضع آخر باسم بعض شعراء المدينة يمدح قثم بن العباس .

وذكرها العيني في المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية (1/ 41) وقال: قصيدة الفرزدق في مدح علي زين العابدين بن الحسين التي أولها...

وذكرها وقال إنها ستة وعشرون بيتًا.

وأوردها كاملة في مكان آخر في المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية (2/ 969) وعقب عليها بقوله:

ورأيت في كتاب أولاد السراري تأليف المبرد، ونسب بعض هذه الأبيات إلى أبي دهبل حيث قال: ومما نمي إلينا عنه، أي عن زين العابدين، وبعد أن ذكر ثلاثة أبيات منها قال: فأما ما يزاد في هذا الشعر بعد هذه الأبيات فليس منها، إنما هو لداود بن سلم، يقوله في قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب -رضي اللَّه تعالى عنهم- وهو قوله:

يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابتهِ ... فَلَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِيَن يَبتَسِمُ

في كفِّهِ خَيزرانٌ رِيحُهُ عَبِقٌ ... مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ في عِرنِينِهِ شَمَمُ

كمْ هَاتِف بكَ مِنْ أَوْجٍ ورابيةٍ ... يَدْعُوكَ يَا قُثَمُ الخَيرَاتِ يَا قُثَمُ

وقال السخاوي في التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة (2/ 384)

وقال الزبير في الشعر الذي أوله:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والليث يعرفه والحل والحرم

قاله بعض شعراء المدينة في قثم وزاد أبياتًا، منها:

كم صارخ بك مكروب وصارخة ... يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم

وذكرها الحصري القيرواني في زهر الآداب وثمر الألباب (1/ 105) وذكر تداخلها مع قصيدة دواد بن سلم، وقصيدة الحزين الكناني.

وعندما ذكرها المرزوقي في شرح ديوان الحماسة (ص: 1134)

ذكر أنها للفرزدق.

وأعجب ما رأيت في هذا ما قاله الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء (1/ 367):

وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما يطوف بالبيت فرآه يزيد [بن عبد الملك]. فقال: من هذا؟ فقال له الحارث بن الليث:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم

وهي للحزين الكناني في مجاني الأدب في حدائق العرب ليعقوب شيخو (4/ 192)، وفي مكان آخر للفرزدق في مجاني الأدب في حدائق العرب (6/ 254) أيضاً.

والقصيدة موجودة في طبعات الدواوين الأخرى التي اطلعت عليها، وكلها ليست طبعات محققة، وقد ذكر الدكتور شاكر الفحام في كتابه الفرزدق قصة هذه القصيدة، وأن الثابت منها ستة أبيات، بعد أن أورد قصة هشام بن عبد الملك، وكان شاباً حدثاً لم يبلغ العشرين من العمر، بينما كان علي بن الحسين فوق الخمسين، فلم يهتم هشام بالإمام زين العابدين، فانتدب الفرزدق للتعريف به، وأنشد أبياته الستة فيه، ويقول الدكتور الفحام، ويبدو أن الرواة خلطوا بعد ذلك عمدًا، أو عن غير عمد بين أبيات الفرزدق وأبيات أخرى لشعراء آخرين، ثم ربطوا بين واقعة الفرزدق وحجة هشام عام 106 هـ، واخترعوا قصة حول موقف الفرزدق من هشام، واهتم الدكتور الفحام في القصة والأبيات، ولاحق مَنِ افتعلوا الخلط والتزوير، حتى قال: وقد عُني الشيعة بالقصيدة عناية خاصة، وطالت على الزمن أبياتها، وتناقلتها كتب السنة والشيعة على السواء وأشادت بها ...

وينفي الدكتور الفحام تهمة التشيع التي أصابت الفرزدق من جراء هذه القصيدة، وأنه لم يكن من هذا في شيء، فهو من قوم كلهم كانوا مع عثمان بن عفان حتى سموا بالعثمانية، وكان من أهل البصرة الذين كانوا عثمانية، ولم يكونوا من الشيعة، وكانوا يدافعون عن حق بني أمية في الخلافة... بل أكاد أقول [أي الدكتور الفحام]: إن الفرزدق بالغ في رفع أقدار الأمويين مبالغة لا أجدها لشاعر أموي آخر، وفرط في الثناء عليهم، وكان، وهو يمدحهم، يكاد يضفي عليهم صفات الأنبياء والرسل الذين اختارهم الله لتبليغ رسالته، ثم يذكر كيف مدح سليمان بن عبد الملك، وكيف علت عنده منزلته، حتى قال عنه:

ولولا سليمان الخليفة حلَّقت... بهم من يد الحجاج عنقاء مغرب

وهجا الحجاج الذي كان يكرهه سليمان بن عبد الملك، ومدح المهالبة (أولاد المهلب بن أبي صفرة) لأنهم ولاة سليمان بعد الحجاج، ثم مدح يزيد بن عبد الملك ...، وهذا يُكذِّب ما روي عن تشيع الفرزدق وكيف أنه عوقب من قبل هشام بن عبد الملك، فاخترعوا له قصة طويلة تناقلها المؤرخون يتبع بعضهم بعضاً، دون تحقيق أو تمحيص.

إذن نستطيع القول إن الفرزدق مدح زين العابدين مديح تعريف به لأمير شاب دون العشرين، وليس الخليفة، لا مديح تقديس، أو انتماء لمذهب أو نحلة أو طائفة.

فالقصة إذن عندما ذهب هشام بن عبد الملك وكان أميراً ابن خليفة، وأخا خليفة، ذهب إلى الحج، ومن الطبيعي أن شاباً صغيراً لم يبلغ العشرين من العمر، ألا يعرفه الناس، وهو لا يعرف الناس، ولو كان ابن خليفة كبير كعبد الملك بن مروان، وهذا الفتى هو هشام بن عبد الملك بن مروان، فلا يهتم الناس بوجوده بينهم، فهو ليس معروفاً، وهذا أيضاً يدل على أن بني أمية لم يكونوا ملوكاً وأمراء يسيرون بين الناس بطقوس الأكاسرة أو القياصرة، يتقدمهم الخدم والحشم، والحرس بين أيديهم يدفعون الناس عنهم، بل كان التواضع هو ديدنهم، فالحادثة لصالح بني أمية الذين ما زالوا يُتهمون عند المؤرخين، وكثيرٍ من أغبياء التاريخ والناس، أنهم كانوا ملوكًا، وطغاة، فنرى كيف يسير ابن الخليفة، وأخو الخليفة بين الناس، ويطوف في الحج، ولا ينتبه لطوافه أحد، فهو واحد من الناس، وليس من سكان المدينة أو مكة، بل هو مقيم في دمشق، بينما علي زين العابدين رحمه الله كان معروفاً بين سكان المدينتين المقدستين، فهو يزورهما كثيراً، ويتنقل بينهما، وهو مشهور بالعلم والإحسان، والإطعام، والعبادة، وهذا يدل على أن الناس كانوا يحبون الكرام والعلماء والعبّاد، وأما الحكام عندهم، فكانوا موظفين لخدمتهم، كما خاطب أحدهم سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعن أبيه بالسلام عليه بالأجير، فأقره معاوية بأنه أجير عند الأمة، مطلوب منه أن يؤمِّن لها الأمن والأمان والطعام والرفاه، فهو خادم الأمة لا سيدها.

والأبيات التي نرجح أنها للفرزدق في سيدنا علي زين العابدين رحمه الله هي:

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم

يكاد يمسكه عرفانَ راحته ... ركنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهلَه ... بجَدِّه أنبياء الله قد ختموا

يغضي حياءً ويُغضَى من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم

وتداخل بعض أبيات هذه القصيدة مع غيرها من القصائد هو من عمل الرواة والنساخ الذين لم يكونوا من العلماء، أو من رواة الأدب والشعر، فيخلطون بين القصائد الموحدة الوزن والقافية، أو حتى في بعض الأحيان، لا يفرقون بين أوزان القصيدة، فتشدهم وحدة القافية، ويخلطون الشعر بعضه ببعض، وفي بعض الأحيان يأخذ الشاعر نفسُه بيتاً من شعر غيره، أو أكثر؛ لأنه وجده جاهز المعنى، والتركيب لما يريد، ومن أمثلة ذلك ما نقله أستاذنا العلامة أحمد راتب النفاخ رحمه الله في تحقيق ديوان ابن الدمينة عن ابن سلام رحمه الله في [طبقات فحول الشعراء (2/ 554]: «قال ذو الرمة يوماً: لقد قلت أبياتاً إن لها لعروضاً, وإن لها لمراداً، ومعنى بعيداً, قال الفرزدق: وما قلتَ؟ قال: قلتُ:

أحين أعاذت بي تميم نساءها   ....................... الأبيات

[وهي في ديوان الفرزدق (1/ 289) بتعليق إيليا حاوي، والأبيات أيضاً في ديوان ذي الرمة (ص 70) قدم للديوان أحمد حسن بسبح).

فقال له الفرزدق: لا تعودَّن فيها, فأنا أحقُّ بها منك! قال: والله لا أعود فيها، ولا أنشدها أبداً إلا لك! فهي في قصيدة الفرزدق».

ولذلك سأنتقل مباشرة إلى التعليق على الأبيات الستة التي أرى أنها للفرزدق، وقيلت في علي بن الحسين، أو في أبيه رضي الله عنهما.

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم

نلحظ أن القصيدة تبدأ باسم الإشارة (هذا) في بيتها الأول، وتكررت (هذا) في الشطر الثاني من البيت، وتكررت في الشطر الأول من البيت الثاني،

فالتعريف بتقديم اسم الإشارة له وظائف كثيرة، ونرى هنا أثر التعريف باسم الإشارة ما يقولون عنه: تمام العناية، وكمال التمييز، تمييز المتحدَّثِ عنه أكمل تمييز يُحْضِرُهُ في ذهْنِ المتلَقِّي، مبالغةً فِي تعيينه، وقد يحسُنُ هذا في الإِطراء، أو في الهجاء، ومعلومٌ أنّ من طبيعة دلالة اسم الإِشارة تحديدَ المشار إليه تحديداً ظاهراً متميّزاً عن غيره.

وإنْ تكرر اسم الإشارة في هذه الأبيات كما ترى، يُبقي الأبياتَ محتفظة بقوتها وتأثيرها، والتكرار أسلوب حذر لا يسلم من عثراته إلا صادق الموهبة، واسم الإشارة، كما يقول علي بن عبد العزيز الجرجاني، ضعيف في صنعة الشعر، أي أنه ليس من الكلمات الشعرية لطبيعة دلالته المحددة، والتي لا تنقاد بسهولة للتلوين والتظليل، أقول: إن هذه الأبيات مع هذا، وذاك لها قوتها وتأثيرها، واسم الإشارة في كل موقع من مواقعه يميز المشار إليه أكمل تمييز؛ لتضاف إليه هذه الأوصاف العظام، ويزيد الإشارة هنا قوة أن هناك من يتجاهله، فكأن الشاعر يعارض هذا التجاهل بهذا الفيض من الإشارات التي تؤكد ذيوع مناقبه، ومعالم مآثره. فالفرزدق يكرّر ذكر المسند إليه (هذا) إشارة إلى أن المخاطب لا تكفيه القرينة، ولا يفهم إلّا بالتصريح الواضح الصريح.

ولذلك يشير إلى أصل هذا السيد العظيم أنه ابن خير عباد الله، كل عباد الله، فهو ابن سيد الخلق، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو خير البشر قاطبة، فهذا السيد العظيم ابن أعظم سيد في هذا الوجود، وهو يملك صفات مكتسبة، غير الصفات التي ورثها من أصوله، فهو امتاز بالتقوى والنقاء، فهو تحيط به الطهارة من كل جانب، حتى جعلته علَماً، والعلَم: سيد القوم، والعلم في الأصل هو الجبل العظيم المرتفع، فهذا السيد العظيم علم من أعلام هذه الأمة، وعظيم من عظمائها، وجبل كم جبالها الشماء الراسخة، تحيط به العظمة والطهارة والنقاء والصفاء من كل الجوانب.

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته... والبيت يعرفه والحل والحرم

فهذا السيد العظيم، الذي دائمًا يشير إليه الشاعر بأنه هذا الرجل الذي تعرفونه، ويعرفه كل البشر حوله، ليس من يعرفه الناس فقط، بل حتى الأرض التي يمشي عليها تعرفه، فهذه بطحاء مكة، والبطحاء: أرض مكة المنبطحة، تعرفه، وتعرف خطوه وأقدامه عندما يطؤها، ويسير عليها، فالبطحاء تعرف وطأته من بين وطآت الناس كلهم إذا مشوا عليها، أو فيها، وليس فقط تعرفه الأرض، بل يعرفه البيت الحرام، والكعبة المعظمة العظيمة تعرفه إذا أتى إليها، وعظمها، فالبيت الحرام هنا يعرف هذا السيد العظيم، وليس يعرفه البيت الحرام والكعبة المشرفة فقط، بل يعرفه أيضاً أرض الحِلِّ، بالكسر: وهي ما جاوز الحرم من الأرض، خَارج الْمَوَاقِيت من الْبِلَاد، فكل الأرض ما بعد الحرم، هي الحِل، فكأنه يشير إلى أن هذا الرجل العظيم تعرفه جميع جوانب الأرض: حلِّها وحرمها، فَالْحرم مَا بَين الْمَوَاقِيت الْمَعْرُوفَة؛ ولا يحل انتهاكها بالمعاصي، وأراد بهما أهل الحل والحرم، وكل الدنيا فهي إما حل، وإما حرم، فكلهم يعرفون هذا العلم الكبير العظيم.

ثم يقول الفرزدق:

يكاد يمسكه عرفانَ راحته ... ركنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم

راحته: يده، والحطيم: الجدار الّذي عليه ميزاب الكعبة، ويستلم: أَي يلمس الحجر الأسود، وَالْمعْنَى يكَاد يمسِكهُ ركنُ الْحطيم لأجل معرفة رَاحَته، إِذا جَاءَ يلمس الْحجر الْأسود، ولأن ركن الحطيم من مجرد مد يد هذا السيد العظيم ليلمس الجدار الذي عليه ميزاب الكعبة، فيعرف راحته، فإذا به تهزه الأريحية العظيمة التي تدفع بالعمل الصالح والعظيم، فيكاد يمسكه هذا الركن العظيم (الحطيم) لا يريد أن يفلته لبركة يده؛ فيصفه هنا بالشهرة ونهاية الكرم، وطيب المولد والمنشأ في بيت النبوة، حتى كاد الحجر الأسود يمسكه حبًا له، لمّا عرفه؛ لأنه ابن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي شرفت به هذه المواضع، فهي عارفة به، وإذا جاء إلى المستلَم (الحطيم] فيكاد يتمسك به هذا الركن لأنه يميز راحته ويده عن راحة غيرهـ، وأصل يستلم: يتناول الحجر باليد، أو بالقُبلة، أو مسحه بالكف، فكأنه من السلام، فإذا بالحجر يكاد يتمسك به، وتأمل قوله: يكاد يمسكه عرفانَ راحته ركن الحطيم، فإنه من القول النادر، وقد بلغ فيه الفرزدق غاية ما يبلغه شاعر بكلمة، فركن الخطيم له شعور ومشاعر فكأنه بشر حي، يتأثر بالجمال والطهارة والبركة، فيكاد يقبض على هذه اليد الكريمة شوقاً إليها، وتقديرًا لعوارفها، فكيف تُنكر أو تُجهل؟

ثم قال:

إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

إن قريشاً هي قبيلة النبي العظيم، وسيدة قبائل العرب، ولذلك إذا ظهر في مكة، أو في أماكن وجود القرشيين، إذا ما ظهر فيها هذا العَلَم العظيم الذي وصل ما وصل إليه عند الأمة والناس، فإن قريشاً لها رأي عظيم كبير في هذا القرشي العظيم، فإن المكارم التي يعرفها بنو آدم كلهم، ويتفقون على مفاهيمها، ويعلمون إلى أين يكون منتهاها، ومنتهاها هو عند الأنبياء، وأتباع الأنبياء الكرام العظام الذين لا يتركون سنن الأنبياء، فإذا رأت قريش هذا السيد العظيم صاحبَ المكارم، فيصيحون بصوت جلي واضح إِلَى مَكَارِم هَذَا الكريم تنتهي المكارم، فإذا ارتقت المكارم، وارتفعت واستطالت حتى بلغت غايها ونهايتها، تكون قد وصلت إلى درجة مكارم هذا السيد العظيم، فتقف المكارم عند هذا الرجل، لأنها الغاية السامية، والمرتبة التي لا متجاوز منها إلى ما هو أعلى، والمعنى أن أي كريم إذا انتهى إلى درجة مكارم هذا العَلَم العظيم، وقفت في أعلى غاياتها وقممها عنده، وقد لا يصلها غيره، وهي الغاية السامية، والمرتبة التي لا متجاوز منها إلى ما هو أعلى.

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهلَه ... بجَدِّه أنبياء الله قد خُتموا

يعود الرجل إلى تمييز هذا السيد العظيم، وتمييزه له بالأخلاق التي وصفها سابقاً، وهي أمور مكتسبة بجده وأعماله وأفكاره، وتقواه، والآن يتكلم وبأوضح مما سبق في ما اكتسبه من أصول شريفة، فيخاطب مستمعيه بتعريف وتمييز رائع، فهذا السيد هو ابن فاطمة، وفاطمة هي قطعة من النبي، يريب النبي صلى الله عليه وسلم ما يريبها، ويؤذيه ما يؤذيها، فهذا السيد العظيم ابن هذه الشريفة الحسيبة الحبيبة لقلب أبيها صلى الله عليه وسلم، فليس من الممكن أن يجهلها أحد، ومن يتجاهلها فهو ناقص في دينه وعقله وتفكيره، فهو الجهل بعينه، والمقصود من فاطمة ليس هي فقط، وإنما المقصود هو أبوها صلى الله عليه وسلم، وهو جد هذا السيد العظيم، وميزة هذا الجد العظيم أنه أعظم خلق الله، فهو خاتم جميع أنبياء الله، وأعظمهم وأكرمهم، فهذا هو النسب العظيم الكريم الذي يفخر به هذا السيد العظيم الكريم.

ثم يتابع الشاعر أبياته الرائعة فيقول:

يغضي حياءً ويغضى من مهابته ... فلا يكلَّم إلا حين يبتسم

يغضي أَي يدني أجفانه، مَعْنَاهُ أَنه كثير الْحيَاء، ومهيب عِنْد النَّاس، فلَا يكلمونه إِلَّا فِي وَقت ابتسامه، فهو يغضي حياء، أي لحيائه يغضّ طرفه، فهو في ملكته وسجاياه، وكالمنخزل له، والمعروف به، والذي لا ينفك عنه الحياء، وهذا من أجمل ما يتصف به الناس، حتى جعله النبي صلى الله عليه وسلم خيراً كله، ولا يأتي إلا بخير، فهو سجية له، ولا تنفك عنه، ويفرض الحياءَ على من يعاشرونه، أو يعاشرهم، فيُغضَى من مهابته، أي ويغضى منه مهابة له، كأنه قال: ويغضي الإغضاء من مهابته، والدال على الإغضاء يغضى، والإغضاء: هو تقارب بين جفني العين حتى يقربا من الانطباق، مهابته: هيبته وجلاله، يبتسم، الابتسامة: أول الضحك، فيغضي يعود على زين العابدين من الحياء، ويغمض الناس جفونهم أمامه من هيبته، وجلاله، فلا يكلمه أحد إلا حين يبتسم، ليهدئ من روعه، فهو محتشم شديد الحياء، يكاد يطبق جفنيه أمام محدثه، يصفه باستعمال الطيب، وفرط الحياء، وغاية إجلال الناس إياه، فهيبته تفرض على من يقابله أو يكلمه، فيقفون أمامه خاشعين منصتين، متهيبين سبقه بالكلام، وإذا ما ظهرت تباشيره وأسارير وجهه بابتسامة فتعطي الإذن لمن يحضره بأن يكلمه ويطلب منه ما يريد، أو يتكلم بحاجته، فهو من المشهورين بما كانوا يقومون به من كرم وإطعام، وإعانات، ويقول بعض المؤرخين إن كثيراً من عائلات أهل المدينة كان يأتيهم طعامهم وأرزاقهم من غير علمٍ بصاحب هذه الأرزاق، حتى توفي زين العابدين رحمه الله، فانقطعت الأعطيات والإعانات عنهم، فعلموا أن زين العابدين هو الذي كان يتفقدهم، ويقدم لهم العون والإعانة رحمه الله.

fhjhghggjk951.png

لم أقاوم نعاساً جريئاً صادماً بعد انتهائي من قراءة رواية "رغبات ذاك الخريف" للكاتبة الأردنيّة/ الفلسطينيّة ليلى الأطرش التي رحلت أمس الأحد 17/10/2021 عن عمر يناهز 73 عاماً، تلك الرواية التي لامست الأعصاب، فسرى فيها الخدر، فنفثت الوجع صارخاً بكلّ ذرّة من ذرّات جسمي المنهك المكدود بتعب الحياة وأحزانها، استسلمت للنوم لعلّي أتخلّص من تلك المشاعر الفادحة، وصحوت وأنا أهجس بالألم، فما زلت مسكوناً بمسٍّ فنّيٍّ روائيّ جميل على الرغم من فظاعة الحدث الروائيّ الذي خلّف وجعه سكاكين مغروسة في خاصرة الذكرى، من تولّهات "رغبات ذاك الخريف"؛ فللخريف حكايته الخاصّة معي أنا أيضاً.

لم أُخْفِ أنّ "رغبات ذاك الخريف" تمازجت مع آلامي التي أعيشها بكلّ ما حملت الحياة من شقاء وتعاسة ممتدّة عبر زمن روائيّ سبق عام 1948 بسنوات، وحتّى عام 2005، لتبدأ الرواية بنكبة فلسطين، وتنتهي بنكبة عمّان وتفجيرات الفنادق الثلاث "راديسون ساس" و"جراند حياة" و"ديزْ إنْ" على أيدي عصابات لم تفصح الرواية عن انتمائهم وأيديولوجيّتهم.

لم أستطع إلّا أن أرى آمالي وأحلامي مقتولة كلّها ككلّ أحلام وآمال الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج، كما هي آمال هؤلاء الشخوص الذين تحركوا في فضاء روائي مفتوح على وجع إنساني ووجودي قاتل وأليم، شخوص روائيّة وحقيقيّة، وحيوات كثيرة هدّها البؤس والتعب، أسر فلسطينيّة تغرّبت عن الوطن لتعيش مأساة اللجوء، وما عانته تلك الأسر في متاهات الغربة، وتحطّم أحلامها على صخرة الواقع السياسي الذي خذلها، فلم تعد تحلم بالعودة إلى فلسطين الوطن والأمنية، بل زاد تشرّدها وابتعادها أكثر لتنسى الوطن في غمرة الحياة ومصاعبها.

يتناثر اليقين، ويغدو القلق والتلاشي سمة بارزة تقتل النفس وتعشّش فيها الأفكار الهروبيّة أو الاستسلاميّة الماجنة، فمن هارب إلى فضاء إلكتروني موهوم ليصنع حلماً متخيّلاً عبر محادثات التشات، إلى آخر منغمس في المباريات الرياضيّة أو الأغاني الماجنة والمسلسلات، وإمّا أن ترميه الآمال في أحضان الأحزاب الإسلاميّة التي تدغدغ المشاعر والعواطف عبر نصوص مؤوّلة، لتحقيق رغبات مكتومة في نفوس من يحرك وقودها من الشباب الباحث عن قطعة أمل يتمسك بها، وإمّا أن تجد ملجأها في ترّهات السحرة والمشعوذين عرباً وغير عرب، ليكتشف القارئ في النهاية أنّها لم تكن إلّا مجرّد حلقات متسلسلة مفضية لانعدام الأفق لصناعة جيل قادر على التغيير.

وتلامس الرواية كذلك أحلام شباب ضائعين في أوطانهم، يحلمون بتحقيق أماني بسيطة وأحلام متواضعة، فيهجرون الوطن على أمل أن يجدوا في بلاد الغربة منافذ لتحقيق تلك الرغبات الخريفيّة، فيسافر أحدهم إلى فرنسا والآخر إلى أمريكا، وإذا بالواقع قد تغيّر، فتنتكس الآمال وتتبعثر الأحلام، فتغيّر حياة الغربة وأسبابها الموضوعيّة المستجدّة مسار حياتهم، فغيث الصيدلاني الذي حلم بأن يكون عالم جينات وراثيّة مشهوراً ينتهي تاجر عقارات، فيغنى وينسى طموحاته العلميّة، فلا مكان لها في عالم تغيّرت معادلاته.

وأمّا موسى عبد الحميد، فإنّه لم يكمل حلمه بأن يصبح كوافيراً مرموقاً في باريس عاصمة الأناقة والجمال، فتنتهي به الآمال إلى التجارة كذلك، بعد أن عانى الأمرّين من مرارة التشرّد والاختباء كالجرذان خوفاً من الشرطة التي تلاحق العمّال غير الشرعيّين المقيمين في فرنسا، وليرتمي أخيراً في أحضان سيّدة فرنسيّة خمسينيّة ذات الأربعة أبناء فيحصل على الإقامة، ويظهر للعلن، وقد دفع ثمناً باهظاً؛ أحلامه وأمانيه.

وتتابع الرواية خيبات الأمل مع محاسن الطيرواي وزوجها الذي تزوّج عليها سكرتيرته، فتبوء أحلام محاسن بالفشل الذريع تجاه رجل أحبّته وباعت أهلها من أجله، ووقفت بجانبه، وجعلت منه رجلاً كما تقول الرواية، لتكون النهاية الطلاق البائن بينونة كبرى وكراهية مطلقة، ويزداد شقاء زوجها سامي محمود أيضاً عندما تموت زوجته الثانية "عطاف"، فيعود مرغماً من أجل أن يكمل مشوار الحياة ليتابع ولده وابنته، ولكن بعد أن خسر علاقته وحميميّته مع زوجة أحبّته حتّى النخاع.

وترسم الرواية فصلاً آخرَ للشقاء الإنساني، وهذه المرّة مع رجاء وزياد البستاني اللذين انتظرا يوم عيد الحبّ ليحتفلا معاً في أجواء بيروت الرومانسيّة، حيث الموت لهم بالمرصاد، فيكون عبث تفجير موكب رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري قاطعاً وحاسماً في القضاء على أن يتبادل المحبّون الهدايا، تلك الهدايا التي ظلّت محبوسة في الأدراج تنتظر وقتاً أجمل لترى النور، ولم يستسلما لما حدث، فيقرّر زياد التوجّه إلى عمّان لاحقاً برجاء ليخطبها، فيكون نزيل فندق "غراند حياة" الذي يترنّح تحت وقع تفجير آثم، فينتهي الحلم ويتبعثر مع أشلاء البشر الذين قتلوا بلا ذنب في تفجير لا يرحم.

ولعلّ من أكثر الحيوات شقاء إنسانيّاً حكاية عثمان وخديجة الزوجين السودانيّين اللذين جاءا إلى عمّان ليبحثا عن تحقيق حلم أن يكون لهما طفل، فتنهي الحياة وشقاؤها مسيرة الحلم على وقع التفجيرات الآثمة، فيطمعان بعد كلّ المعاناة من الغنيمة بالإياب، لتنتهي الرواية بجملة على لسان عثمان "كيف يمكن لطفل نحلم به أن يعيش في عالم مجنون كهذا؟"

نهاية طبيعية تنتهي بها رواية صوّرت بؤساً وتعاسة بشرية، متلوّنة الحكايات والأشخاص، ممتدّة في المكان والزمان؛ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في ظروف مختلفة، لتلتقي كلّها عند نقطة ارتكاز واحدة هي: أنْ لا مكان لأحلام كبيرة أو صغيرة في هذا الواقع الكارثي، فالكلّ يفقد أحلامه وينأى عنها، وتزداد المسافة يوميّاً بين الشخص والحلم لينغرس أكثر في واقع أسود.

هذه هي "رغبات ذاك الخريف"، صوّرت الحياة بكلّ رغباتها، ولم تكن تلك الرغبات لتزهر، وكيف لها ذلك، وقد نبتت في صحراء الواقع في خريف ليس له آخر؟ رواية تفتش عن أمل فلا تجد له أيّ بارقة تلوح في الأفق، لم تجد سوى الموت لتنتهي به، فيكون الموت العبثي الكارثي الأعمى خاتمة فصول الرواية تلخيصاً لحياة البشر الذين يسيرون في دهاليزها منتظرين موتهم، وقد ماتت أحلامهم وجفّت خضرة أمانيهم، لا فرق عندهم إن ماتوا بمرض السرطان، أو قضوا نحبهم بالجوع أو بسبب تفجير، فلا مفرّ من أن يحيوا حياتهم، وليكن ما يكون.

أبدعت ليلى الأطرش في تصوير حيوات متعدّدة مرتكزة على بؤرة الفكرة الواحدة، وإن تعدّدت ألوان المصائب وأشكالها، ولكنْ يا ترى هل ستكون "رغبات ذاك الخريف" عاملاً مثبّطاً في معابثة الأمل والبحث عنه؟ فعلى الرغم من قوّة حقنة الألم إلّا أنّ نفوسنا ستنهض من كبوتها لتبحث عن أمل جديد نتنفسه كلّ صباح، فالحياة بلا أمل، وإن كان مصنوعاً بالوهم والتصوّر والخيال، حياة لا طعم لها فعلاً، فحياة مشدودة بحبل أوهام الأمل أفضل مليون مرّة من حياة نستسلم فيها لواقع أمرّ من العلقم، فلم نخلق في هذه الحياة إلّا لنهزم اليأس، ولو دفعنا أعمارنا ثمناً لذلك. فيتسلّل الأمل من بين ركام الموت، لتقرأ في الرواية هذه الفقرة: "في لحظات الكارثة أو الفاجعة يمسح العقل المحبّ كلّ احتمال ويبقي الحياة، لا يقبل بغير الأمل، ونجاة الأحبّة، ويرفض القلب إلّا الرجاء بالحياة، فينكر ويقصي غيرها في مواقف الموت".

===========

[*] صدرت الرواية عن الدار العربيّة للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2011م.

fgsfjhdg951.jpg

عن دار الهدى للطباعة والنشر كريم 2001م.ض."في كفر قرع صدرت هذا العم 2021 قصّة "رحلات أبي الحروف في الأقطار العربيّة"، للكاتبة الفلسطينيّة فاطمة كيوان، وتقع القصّة التي زيّنتها رسومات منار الهرم، ودقّقتها لغويّا لينا عثامنة في 24 صفحة مصقولة ومفروزة الألوان، وبغلاف مقوّى في 24 صفحة من الحجم الكبير.

عندما قرأت هذه القصّة توقّفت أمام العنوان"رحلات أبي الحروف في الأقطار العربيّة"، فمن هو أبو الحروف هذا؟ ومن يكون؟ وعندما بحثت عن أبي الحروف وجدت أنّ:" أبا الحروف شخصيّة كرتونيّة تظهر في فقرة مغامرات أبي الحروف من برنامج الأطفال التلفزيونيّ الأردنيّ (المناهل). مهمة أبي الحروف إرجاع الكلمات إلى أصلها بعد أن تقوم شخصية شريرة اسمه خربوط بالعبث بكلمة معينة. مثل قيام خربوط بتحويل كلمة "بطل" إلى كلمة "بصل". والبرنامج مستوحى من برنامج للممثّل الأمريكي جين وايلدر المكنّى بأبي الحروف".

فهل شاهدت الكاتبة فاطمة كيوان برنامج الأطفال الأردنيّ "مناهل" وتأثّرت به، أم جاء معها هذا الاسم عفو الخاطر؟ ويبقى الجواب عندها.

وتأتي هذه القصّة لتعليم الأطفال شيئا عن معالم حضاريّة وتاريخيّة في بعض الأقطار العربيّة، وتعريفهم على بعض الرّموز الثّقافيّة الإبداعيّة العربيّة أيضا، وجاءت بلغة فصحى مسجوعة وسليمة، ومعروف عن الأطفال أنّهم يحبّون السّجع، وفي تقديري أنّ القصّة تصلح للفتيات والفتيان، لأنها فوق مستوى الأطفال، وهذا قد يدخلنا في تعريف من هو الطّفل؟ ففي الثّقافة العربيّة الإسلاميّة المتوارثة تنتهي مرحلة الطّفولة عند سنّ البلوغ! بينما المتعارف عليه في عصرنا هذا أنّ الطّفولة هي مرحلة ما قبل سنّ الثّامنة عشرة، وعند بعض الشّعوب تمتدّ الطفولة حتّى سنّ الحادية والعشرين. وفي تقديري أن هذه القصّة تصلح لمن هم فوق سنّ الثّانية عشرة.

ابتدأت القّصّة من الرّامة الجليليّة بلدة الشاعر الكبير الراحل سميح القاسم، ومن هناك طار أبو الحروف بتشجيع من الشاعر القاسم إلى لبنان، وجاء التّشجيع بمقطع شعريّ للقاسم، وفي بلاد الأرز لبنان اطّلع على نماذج من شعر جبران خليل جبران، كما ( والتقى الرّحّال بخليل مطران"شاعر القطرين")ص5. كما زار مدينة بعلبك الأثريّة.

وطارمن لبنان إلى سوريّا والتقى بالأديبة السّوريّة كوليت خوري، وزار ضريح الشاعر الشهير نزار قباني، ومرّ بقلعة تدمر التّاريخيّة، وساءه ما حلّ بها من دمار وخراب، وهذه إشارة ذكيّة لتدمير تدمر وغيرها من المعالم الأثريّة على أيدي الإرهابيّين التّكفيريّين في الحرب الأهليّة السّوريّة التي اندلعت منذ العام 2011.

ومن سوريّا انتقل إلى الأردن، وزار البتراء والأضرحة التّاريخيّة، والمدرّج الرّوماني، وجرش، ووقعت الكاتبة في خطأ عندما كتبت" فالتقى مصطفى وهبي التّل صاحب الرّوح الخفيفة"ص9. فكيف التقاه والتّلّ متوفّى منذ العام 1949؟ ومن عمّان طار إلى بغداد، "فارتوى من مياه دجلة والفرات" ص 10، وزار بيت الشّاعر الراحل بدر شاكر السّيّاب، "وسمع أزيز الرصاص ورأى أعمدة الدّخان تتصاعد من المساجد والكنائس"ص10. وهذه إشارة أيضا إلى أعمال التّفجير والإرهاب التي تعصف بالعراق الشّقيق بعد احتلاله عام 2003 وتدميره وهدم دولته وقتل وتشريد شعبه من قبل أمريكا وحلفائها، كما التقى الشّاعر العراقي أحمد مطر، وهذا يطرح سؤالا حول هذا اللقاء فالشّاعر مطر يعيش في لندن. وبعدها انتقل إلى مصر حيث الحضارة والآثار الفرعونيّة "ليلتقي حافظ ابراهيم شاعر النّيل في بيته المتواضع في حيّ الزّيتون في القاهرة، وهناك أنشد حافظ ابراهيم قصيدته التي قالها على لسان اللغة العربيّة وجاء فيها:

وسعتُ كتابَ الله لفظا وغاية ** وما ضقت عن آيٍ به وعظات

فكيف أضيقُ اليوم عن وصف آلة **وتنسيق أسماءٍ لمخترعات

أنا البحر في أحشائه الدّرّ كامن** فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي

والسّؤال هو: كيف التقى أبو الحروف بحافظ ابراهيم المتوفّى عام 1932؟ وكيف حدّثه عن الشاعر أحمد شوقي أيضا؟

ومن القاهرة عاد أبو الحروف إلى فلسطين حيث زار القدس والخليل وفي رام الله زار قصر الثّقافة وضريح ومتحف الرّاحل محمود درويش، وغنّى قصيدة "خبز أمّي"لدرويش. ومن رام الله انتقل أبو الحروف إلى النّاصرة "ليصلّي في كنيسة البشارة برفقة الشّاعر حنّا أبو حنّا، وزارا معا ضريح الرّاحل توفيق زيّاد واستذكرا بعض قصائده الوطنيّة، ثمّ عاد أبو الحروف إلى الجليل، وهناك التقى بالشّعراء شكيب جهشان وحنّا ابراهيم وسعود الأسدي، ونذكّر هنا بأن الشّاعر شكيب جهشان توفّي عام 2003، وحنّا ابراهيم توفّي عام 2020. ونتمنّى طول العمر للشّاعر الزّجال سعود الأسدي.

الخيال: بدأت الكاتبة قصّتها:"على بساط الرّيح وفي إثر سندباد حلّق أبو الحروف عاليا في .........."ص3. وهذا استذكار لأساطير قديمة كبساط الرّيح، الذي يحلّق بحمولته في الأجواء، ولا علاقة له بأسطورة "السّندباد البحريّ" المستقاة من حكايات ألف ليلة وليلة" الخرافيّة. وقد استغلّت الكاتبة هذه الأساطير لتتنقل ببطل قصتّها أبي الحروف بين بعض الأقطار العربيّة.

الأهداف المتوخّاة من القصّة:

  • يتّضح من خلال القصّة الحرص على اللغة العربيّة وضرورة تعلّمها بشكل صحيح.
  • في القصّة دعوة للجيل النّاشئ كي يبحث ويقرأ ويتعلّم ويعرف ويطالع على وعن جوانب من حضارة أمّته، وعلى بعض رموزها الثّقافيّة.
  • في القصّة تعريف غير مباشر لجيل النّاشئة بأنّ الثّقافة العربيّة واحدة في مختلف الأقطار العربيّة.
  • في القصّة لفت انتباه لأهمّيّة الرّحلات والإطلاع على أمور يجهلها كثيرون، ومن هذه الرّحلات التّعرّف على الأقطار العربيّة.

ملاحظة عابرة: وردت في القصّة كلمة "الميراميّة"، وهي نبتة طيّبة الرّائحة معروفة تغلى ويشرب ماؤها كعلاج لبعض الأمراض ومنها الرّشح والزّكام، كما تضاف إلى الشّاي أيضا وتعطيه نكهة خاصّة، واسمها الصّحيح هو "المريميّة" نسبة إلى مريم العذراء التي غلتها وأسقت ماءها لابنها السّيّد المسيح -عليهما السّلام-، ونُسبت النبتة إليها، وهي تنبت في بلاد الشّام بكثرة.

" محيي الدين أحمد بن خير الدين المشهور بلقب أبو الكلام آزاد، (1888م / 1306 هـ - 22 فبراير 1958م / 3 شعبان 1377 هـ) . وقد أخذ كنية أبو الكلام لكونه خطيبا بارعا، أمّا كلمة آزاد فتعني في اللغة الأردية "الحـُرّ". ... ألّف العديد من الكتب أهمها تفسير للقرآن باللغة الأردية بالإضافة إلى دراسة عميقة لتحديد شخصية ذو القرنين.

zghdghd9511.jpg

zghdghd9512.jpg

فاطمة كيوان

صدرت عام 2021 قصّة الأطفال "مزرعة الأصدقاء" للكاتبة الفلسطينيّة فاطمة كيوان عن دار الهدى للطّباعة والنشر -كريم. في كفر قرع. وتقع القصّة التي رافقتها رسومات منار الهرم ودققتها لغويّا لينا عثامنة في 24 صفحة من الحجم الكبير، ومطبوعة على ورق مصقول ورسوماتها مفروزة الألوان، وغلافها مقوّى.

أهدتني مشكورة الكاتبة الفلسطينيّة ابنة مجد الكروم فاطمة كيوان ثلاث قصص للأطفال من تأليفها وهي: "رحلات أبي الحروف في الأقطار العربيّة، و"ميمي والصّبيّ الأحدب" و"مزرعة الأصدقاء".

قرأت القصص الثلاث في جلسة واحدة، وأعجبت بالمضمون التّربويّ النّبيل الذي احتوته، وتوقّفت عند قصّة"مزرعة الأصدقاء" للكتابة عنها، كونها صدرت في هذا العام 2021، ولا أعلم إن كانت هذه القصّة آخر إصداراتها أم لا.

ملخّص القصّة: تدور أحداث القصّة في مزرعة للحيوانات يملكها شخص اسمه أبو سامي، وتحوي المزرعة عدّة أصناف من الحيوانات والطّيور كالماعز، البقر، حمار، كلب، دجاج بطّ وإوزّ، وهناك خلايا لتربية النّحل أيضا. وكل صنف له مكان مخصّص له، وحرصا من صاحب المزرعة على سلامة حيواناته فقد وضع جرسا في رقبة كلبه، كي يلفت صوت الجرس انتباه الحيوانات الأخرى إذا ما تعرّض حيوان منها للخطر من قبل عدوّ مهاجم، فتهرع لنجدته، وهذا ما حصل عندما هاجم ثعلب "عشّ الدّجاج". وأوّل ما لفت انباهي هو تعليق الجرس على رقبة الكلب! وهذا أمر لم أشاهده ولم أسمع عنه في حياتي في بلادنا ولا في غيرها من البلدان التي رحلت إليها، فالأجراس عادة تعلّق على رقبة "المرياع" الذي قد يكون من الأغنام أو الحمير أو الأبقار، وعادة ما يكون "مخصيّا"، والهدف من الجرس هو لفت انتباه قطيعه كي يلحق به، ولا علاقة له بالحراسة، أمّا الكلب وهو حارس أمين فإنّه يلفت انتباه صاحبه وانتباه الآخرين من خلال نباحه.

وممّا لفت انتباهي أيضا هو الأخطاء اللغويّة في قصّة موجّهة للأطفال، فعلى سبيل المثال كان هناك سوء استعمال لبعض حروف الجرّ، كما ورد في الصّفحة الثّانية:"فهناك بالطّرف الأيمن زريبة البقرة" والصّحيح "في الطّرف". وورد في السّطر نفسه كلمة"العنزة"، وهي لفظّ عامّيّ دارج، فأنثى الماعز والظّباء والأوعال "عنز"، أمّا "العنزة" فهي :" أطول من العصا وأقصر من الرّمح.......يتوكّأ عليها الشّيخ الكبير".

كما ورد "خُمُّ الدّجاجات" ص3، وهو و"القنّ" كلمات شائعة في اللهجات المحكيّة، أمّا بيت الدّجاج وبقيّة الطّيور فاسمه "عُشّ". وورد  أنّ الثّعلب "اختبأ خلف بيت الحمار والبقرة" والصّحيح "خلف حظيرة الحمار والبقرة"ص7.

وهنك سوء استعمال للضّمير، فعندما تعارك الدّيك مع الإوزّة في الصفحة الخامسة وضع صاحب المزرعة حاجزا بينهما، وفي الصّفحة السّادسة" بالقرب منهم علّق قفص العصافير....." والصّحيح هو "بالقرب منها" لأنّ جمع غير العاقل يعامل معاملة المفرد المؤنّث، وتكرّر هذا الخطأ لاحقا في أكثر من موضع منها عندما استيقظت الحيوانات وطاردت الثّعلب الذي هاجم الدّجاج:" وبدأت تلاحق الثّعلب المعتدي حتّى حاصروه في الزّاوية...." والصحيح" حتّى حاصرته". وتكرّر هذا على طول السّطرين الأخيرين في القصّة ص23. وورد في القصّة أنّ الحيوانات عندما حاصرت الثّعلب" وفي هذه اللحظات كانت الحيوانات جميعًا قد أحاطته" ص12، والصّحيح "جميعُها"، لأنّها توكيد لفظيّ يتبع ما قبله في إعرابه.

وممّا جاء في القصّة " سمع العمّ أبو سامي أصوات الحيوانات، وسمع أصوات حوافرها وهي تركض"ص16. والحافر للحمار وللبغل وللفرس، وفي القصّة حمار وبقر وماعز وكلب وطيور، وبما أنّ للحمار حافرا فإنّ للبقرة والماعز ظلف وهو" الظُّفْرُ المشقوق للبقرة والشاةِ والظَّبْي ونحوها، وللكلب وللطيور مخالب. وبما أنّ القصّة موجّهة للأطفال، حبّذا لو أنّ الكاتبة وضعت أسماء أصوات الحيوانات التي وردت في القصة طقولنا: نباح الكلب، خوار البقرة، ثغاء الماعز، صياح الديك، نقنقة الدّجاجة، زقزقة العصافير، هديل الحمام...إلخ.

الأسلوب: استعملت الكاتبة أسلوب السّرد القصصيّ  الذي لا يخلو من التّشويق.

الرّسومات والإخراج: الرّسومات التي خطها قلم منار تعيرات جميلة وتناسب النّصّ، والإخراج جميل أيضا، وحبّذا لو أنّ دار النشّر تستغني عن كتابة كلمة "تأليف" أمام اسم الكتّاب على الغلاف، فلا داعي لكتابتها فهي مفهومة، ولا داعي لكتابتها.

dfhfdgdgh9511.jpg

dfhfdgdgh9512.jpg

ديمة جمعة السمان

dfhfdgdgh9513.jpg

د. روز اليوسف شعبان

ناقشت ندوة اليوم السابع المقدسية الثقافية الأسبوعيّة قصّة الأطفال"برتقال يافا" للدّكتورة روز اليوسف شعبان عن منشورات "أ. دار الهدى، ع. زحالقة" في كفر قرع، وتقع القصّة التي رافقتها رسومات مريم الرفاعي في 34 صفحة من الحجم المتوسّط.

افتتحت الأمسية مديرة الندوة ديمة جمعة السمان فقالت:

ديمة جمعة السّمان

(برتقال يافا) قصة جميلة تربوية موجهة للأطفال، بنكهة برتقال يافا الحزين.

حرصت الكاتبة التربوية د. روز اليوسف شعبان في قصتها برتقال يافا الصادرة عن دار الهدى.ع. زحالقة، على وصف الأسرة الفلسطينية الجميلة المترابطة، التي حرصت أن يكون للجد الدور التربوي والوطني؛ ليكون القدوة الحسنة للأسرة. كانت أسرة وطنية بامتياز، حافظت على تاريخها النضالي والتراثي، وتمسكت بأرضها ووطنها، لم تضعف أمام العدوان الإسرائيلي الذي استهدف الأرض والانسان.

كما أن تعلّق الحفيدين بالجد وشعورهما بالحزن على أبيهما؛ لأنه حرم من جده ومن الاستمتاع بصحبته تؤكد على أهمية وجود الجد في حياة الأحفاد، والعكس صحيح.

وقد أعجبني رد الوالد الذي يحمل في طياته الأمل، والنظر دوما إلى نصف الكأس الملآن. اعترف أنه خسر الجد، ولكنه أضاف أنه رغم ذلك لا زال محظوظا لان أباه لا زال على قيد الحياة، ولأنهم لا يزالون يعملون في تجارة البرتقال التي ورثوها عن الأجداد، وهذه لفتة جميلة ذكية من الكاتبة.

كانت دمعة الجد سليم تحكي ماضيا مريرا مرّ به الشّعب الفلسطيني إثر النكبة عام 1948م. وقد مرّرت الكاتبة عبر صفحات القصّة بعض من أحداث النّكبة ومعاناة الشّعب الفلسطيني وخسارته لبياراته وأملاكه، وإلى تدمير السّفن التي كانت تحمل أجود أنواع البرتقال بهدف التّصدير.

وتحدثت عن لجوء العائلة المؤقت لبيروت هربا من العدوان الإسرائيلي، والتسلل من جديد بصعوبة بالغة للعودة إلى مدينتهم يافا بعد بضعة شهور.

تناولت القصة بعض الاحصاءات، وتحدثت عن أنواع البرتقال المختلفة: الشموطي وأبو صرة وغيرها. كلها كانت معلومات مفيدة للطّفل، أغنت معرفته ومفرداته.

كانت فكرة الدبوس الذّهبي على شكل حبة برتقالة الشّموطي موفقة جدا، فقد كان "الدبوس" رمزا للصمود والبقاء والتحدي، وارتبط بالكوفية، إذ كان الجد الأكبر يضع الدبوس على كوفيته كعلامة تجارية، تعرّف التجار فور وصوله موانىء البلدان المختلفة التي يصدر لها البرتقال بأن البرتقال اليافاوي عالي الجودة قد وصل، وقد تمسك الجد بالدبوس وحافظ عليه، حتى بعد أن فقده أثناء الهروب الى لبنان، وجده أحد العمال وأعاده للجد الأكبر، فقد كان الدبوس معروفا لكل عمال الموانىء.

هنا، عودة الدبوس كان إشارة تحمل معنى ودلالة جميلة تحمل الأمل والتفاؤل، مريحة للطفل، تشعره بالأمان، وبأن الوطن سيعود لأهله مهما طال الزمن.

كانت معظم أجواء القصة تحمل رائحة البحر بكل ما يحمل من عمق وإباء وكبرياء، إلا أن النّفس كان حزينا جدا يثقل على الأطفال. إذ أنني لاحظت أن الكاتبة أسرفت في جرعات الحزن التي قدّمتها للطفل، ممّا يعكس حالة من القلق وعدم الشعور بالأمان عنده وذلك من خلال التالي:

-كان يجلس الجد سليم على الشاطئ حزينا يمسح دموعه، يجتر الماضي وأحداث نكبة عام 1948. مع العلم أن العائلة لا زالت تسكن مدينتهم يافا، فقد عادوا إليها بعد أن وصلوا بيروت، ولم يصبحوا لاجئين كآخرين ممن لم يحالفهم الحظ بالعودة إلى وطنهم!

رأيت أن في ذلك مبالغة لا داعي لها. فلو كانوا يجلسون على شاطئ بحر بيروت في الشتات، ربما كانت هذه المشاعر مبررة.

- أصيب الجد الأكبر بنوبة قلبية بعد عودته من بيروت عندما خسر تجارته. شعرت أنها كانت قاسية على الطفل ومحبطة، فكان من الممكن أن تكون هناك كلمات مشجعة فيها أمل استرداد ما خسروا من بضائع، فيكفي أنهم عادوا إلى وطنهم أحياء. عليهم أن يجتهدوا من جديد ليعيدوا عز الماضي.

- عادت العائلة من شاطئ البحر بعد قضائهم وقتا ممتعا ليجدوا منزل الجد سليم قد تعرض للسرقة، ولم يكترث الجد للفوضى التي عمت المنزل من اللصوص، ولكن كان همه الوحيد الا يفقد الدبوس "الرمز". وتفاجأت حينما خرج ابنه عابس الوجه يعلن عن فقد الدبوس، فسقط الجد مغشيا عليه.

كيف ممكن للدبوس أن يضيع، وهو " الرمز" الذي بنيت عليه القصة! بضياع الدبوس فقد الأمل باسترجاع الوطن.

تمنيت لو أن القصّة انتهت بأن أحد أفراد العائلة يهتف سعيدا بأنه وجد الدبوس، ويفضل أن يكون من الأحفاد. فتكون دلالة بأن الأحفاد هم سيحملون الراية بعد الآباء والأجداد، ويمضون قدما يدافعون عن وطنهم إلى حين استرجاعه.

من المفضل دوما أن تنتهي قصص الأطفال نهايات سعيدة، كي لا تترك أثرا سلبيا عليهم بعد الانتهاء من القصة.

على الرغم من أن السرد كان طويلا، إلا أن اللغة كانت جميلة، والصور الأدبية موفقة جدا، كما أن القصة تزخر بالمعلومات القيمة التي تزيد من معرفة الطفل بوطنه.

إخراج القصة موفق جدا، وقد أبدعت الفنانة مريم الرفاعي برسوماتها التي رافقت أحداث القصة، وزادتها جمالا.

وقال جميل السلحوت:

معروف أنّ فلسطين كانت من أشهر مصدّري الحمضيّات قبل نكبتها الأولى في العام 1948، وقد وصلت صادرات حمضيّاتها التي تميّزت بمذاقها اللذيذ إلى أوروبا وغيرها من البلدان، وارتبط برتقال فلسطين بمدينة يافا، فعدا عن زراعة البرتقال في بيّارات يافا وقراها، إلّا أنّ ميناءها كان من أشهر موانئ شرق المتوسّط، وكانت الحمضيّات تصدّر منه من خلال السّفن التي ترسو فيه. وبرتقال يافا اكتسب شهرة واسعة لا تزال متداولة حتّى يومنا هذا، فترى بائعي الفواكه وتسمعهم وهم يسوّقون برتقالهم بقولهم:" برتقال يافاوي" أو "يافاوي يا برتقال."

ويافا "أرض البرتقال الحزين"، تحوّلت بعد النّكبة وتشريد أهلها، واغتصاب أرضها، وإهمال مينائها، إلى حيّ بائس فقير، بعد أن كانت مدينة الرّخاء والفنون بأشكالها المختلفة. من هنا جاءت قصّة الكاتبة د. روز اليوسف شعبان، وكأنّي بها تمتثل لمقولة الأديب الفلسطينيّ الرّاحل سلمان ناطور:" ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة، ستأكلنا الضّباع"!

وتأتي هذه القصّة للحفاظ على الذّاكرة، بتناقلها من جيل لجيل، ولتنفي مقولة الخائبين"يموت الكبار وينسى الصّغار"، وصحيح أنّ الكبار يموتون لكنّ المأساة تنتقل من جيل لجيل.

ففي القصّة التي نحن بصددها، تدور أحداثها في يافا وعلى شاطئها، والحوار فيها بين الحفيدة "رانية" وجدّها "سليم" بالدّرجة الأولى، لكن والدها "أحمد" وشقيقها "ماهر" ووالدتها لا يغيبون عن أحداث القصّة، وحتّى الجدّ الأوّل عبدالله المتوفّى لم يغب هو الآخر. فهذه الأسرة اليافاويّة العريقة، تملك بيّارات الحمضيّات المتوارثة، كما تملك السّفن التي تنقل البرتقال لتصديره إلى أوروبا، أي أنّها كانت تعمل في الزّراعة والتّجارة، ولها ماركتها التّجاريّة المسجّلة، والتي هي عبارة عن علم يحمل صورة برتقالة شمّوطيّة. وقد عمل الجدّ الأوّل دبّوسا ذهبيّا على شكل برتقالة "شمّوطيّة"، وتوارثه الأبناء عن الأجداد.

وفي القصّة تذكير بالنّكبة الأولى من خلال هذه الأسرة ومدينتها يافا، فقد شُرّد من مدينة يافا وقراها مئة وعشرون ألف فلسطينيّ، لكنّ الجدّ الأوّل عبدالله عاد متسلّلا إلى مدينته، ولمّا وجد سفنه مدمّرة، وبيّاراته مصادرة، لم يحتمل المأساة فمات بنوبة قلبيّة. وواصل ابنه"سليم" من بعده المسيرة، وبقي محتفظا بالدّبوس الذّهبيّ، ومن خلال القضاء استعاد جزءا من أرضه. وبينما كانت الأسرة تستجمّ على شاطئ البحر، عادوا إلى البيت فوجدوه منهوبا محطّما، ولم يعثروا على الدّبوس الذّهبيّ، فقد سرقه من دمّروا البيت، وهذا أدّى إلى سقوط الجدّ سليم في غيبوبة!

الرّسومات والإخراج: الرّسومات التي أبدعتها مريم الرّفاعي مناسبة وتلائم النّص، خصوصا أنّها مفروزة الألوان، وإخراج القصّة لافت وجميل؟

ملاحظات:

في الصفحة 13 وبينما كان الحوار بين الجدّ سليم والحفيدة رانية حول الدّبوس، وكيف يتوارثه الأبناء عن الآباء والأجداد، وأنّ الجدّ سليم سيورثه لابنه أحمد كما ورثه عن أبيه يحيى، يدخل أبو رانية"أحمد" دون تمهيد شاكرا أباه وداعيا له بطول العمر، ويعده بأنّه سيحافظ على الدّبوس عندما يؤول إليه، وهذا الدّخول بهذه الطريقة يصعب على القارئ الطّفل المستهدف بالقصّة في فهم من هو المتحدّث!

  • في آخر سطر من الصفحة 16 تسأل رانية جدّها:" ما هي أنواع البرتقال التي كان يتمّ تصديرها"؟ فيجيبها الجدّ بتعداد أنواع البرتقال والحمضيّات! وبالتّالي يجدر أن يكون السّؤال حول أنواع الحمضيّات.
  • في القصّة إفراط لغوي غير مبرّر، مثال على ذلك السطّور الخمسة الأولى في الصفحة 13، وكان بالإمكان اختصارها بجملة استفهامية واحدة من رانية وهي: ما هذا الدّبوس يا جدّي؟

وكتب سامي قرة:

تتحدث قصة "برتقال يافا" للدكتورة روز اليوسف شعبان (2021) في مجملها عن المأساة التي حلت بالفلسطينيين عام 1948، وهي إلى حد ما تشبه في محتواها القصة القصيرة التي كتبها غسان كنفاني بعنوان "أرض البرتقال الحزين" (1962). وفي كلتا القصتين يرمز البرتقال إلى الوطن المفقود، إلى فلسطين. كتبت الدكتورة شعبان قصتها للأطفال فيما تستهدف قصة كنفاني البالغين.

يعتمد السرد في قصة "برتقال يافا" على الذاكرة. فنرى رانية تبدأ روايتها بهذه الكلمات "كثيرًا ما كنت أذهب إلى بحر يافا مع أسرتي ...". فهي تتذكر ما كانت تفعله مع اسرتها في طفولتها وفي نبرتها شوق وحنين إلى ماض جميل. تحاول رانية عن طريق الذاكرة أن تعيش مرة أخرى تجربة حياتية كانت قد افتقدتها وهي صغيرة. فعن طريق الأدب بكافة أنواعه يمكننا خلق أو إعادة خلق تجاربنا الحياتية الماضية، وهذا أحد أهم الخصائص التي نجدها في الأدب الفلسطيني الحديث. لكن رانية ليست هي الوحيدة التي تسترجع الماضي، إذ نرى جد رانية يروي ما تعرضت له يافا وفلسطين عامة عام 1948 وكيف كان العمال في مدينة يافا يجمعون البرتقال ويضعونه في الصندوق لتصديره إلى خارج فلسطين.  

الذاكرة في الأدب الفلسطيني عنصر هام للحفاظ على التراث والتاريخ من الاندثار وهي أداة هامة يمكننا عن طريقها تقديم سرد مضاد للسرد الإسرائيلي الخاص بتاريخ فلسطين، وهي عامل هام جدًا كي نفهم ما حلّ بنا وكيف أثر الماضي على الحاضر الذي نعيشه. ومن أجل الحفاظ على الذاكرة الجمعية والهوية في علاقتهما مع التاريخ، يوصي الجد حفيدته رانية بوجوب "الحفاظ على ما نرثه من آبائنا وأجدادنا، خاصة إذا كان هذا الميراث يتعلق بتاريخنا ومجدنا". ولا بد من الإشارة هنا إلى أن عملية التواصل الشفوي بين الجد وحفيدته يعكس أهمية التقليد الشفوي في نقل التراث من جيل إلى آخر والحفاظ عليه.

لدى تقديمه لفيلمه الوثائقي "يافا – ميكانيكية البرتقال" الذي يتحدث عن برتقال يافا قال المخرج الإسرائيلي: "صورت أفلاما عن اللاجئين الفلسطينيين، وتناولت عملية توظيف الذاكرة". لكن الذاكرة تربطنا نحن الفلسطينيين بالماضي فقطـ، والسؤال الأهم هو هل ثمة ما يربط الفلسطينيين بالمستقبل؟ وكيف يمكن للفلسطينيين الاستفادة من الذاكرة والتاريخ في صنع المستقبل؟ وإذا اتفقنا على أن أحد أهداف أدب الأطفال في فلسطين هو تعليم أطفالنا عن التراث والتاريخ الفلسطيني، وإلى عدم سلخهم عن ماضي أجدادهم، فيجب أيضا أن نستخدم الأدب كي نهيّء أطفالنا للحياة في المستقبل في عالم متقلب دائم التغير والتطور لا يمكن التنبؤ به.

يمكننا تقسيم قصة "برتقال يافا" إلى ثلاثة فصول: تجري أحداث الفصل الأول على شاطئ يافا، وتجري أحداث الفصل الثاني عام 1948 كما يرويها لنا جد رانية، وأحداث الفصل الأخير تجري في بيت الأب أحمد.

نقرأ في الفصل الأول عن بحر يافا وشاطئها، ونقرأ عن عائلة فلسطينية تعيش بسلام وفرح، وكل فرد فيها يحب الآخر ويبرز فيها الجد سليم الذي يغمر أحفاده بالحب والرعاية. وفيما يلهو الأحفاد في اللعب على شاطئ البحر والسباحة في مياه البحر نرى الجد سابحًا في خياله شارد الفكر، ويبدو حزينًا تنهمر الدموع من عينيه. وكما تقول رانية فهو يتذكر "تاريخه التليد" ويبكي على أوقات مضت، وهو في ذلك يشبه الأب في قصة "أرض البرتقال الحزين" الذي ينزل من السيارة ويحمل برتقالة وينظر إليها بصمت ثم ينفجر بالبكاء كطفل بائس. فكل من الجد سليم والأب يشعران بألم شديد بسبب ضياع الوطن وفقدانه.   ولرانية علاقة خاصة مع جدها فهي تشعر بألمه وتلعب معه وتبني معه قصورًا من الرمال. هذه العائلة السعيدة سرعان ما يعكر صفوها موج البحر الغادر وينشر الذعر بين أفرادها. لكن الجد يقول إن البحر غدار ومخيف ويحذرهم منه، وفي نفس الوقت يطلب من حفيدته رانية ألا تحزن لأنهما سيعيدان بناء القصر الرملي الذي هدمته أمواج البحر. تمثل عائلة رانية العائلات الفلسطينية جميعها التي تعرضت إلى بطش الاحتلال الذي يمثله البحر. ونجد في دعوة الجد إلى إعادة بناء القصر الرملي دعوة إلى الجيل الجديد لاسترجاع الوطن الذي هدمه الاحتلال وإعادة بنائه. فهي دعوة تبعث على التفاؤل والأمل، على عكس ما نجده في قصة كنفاني مثلا التي تنتهي بحسرة وشعور أن ما مضى لن يعود.

أمّا الفصل الثاني فيبدأ عندما يرى أفراد العائلة عن بعد سفينة مبحرة ترفع علمًا طُبعت عليه صورة برتقالة. ثم ينتقل الحديث عن الدبوس الذي يمتلكه الجد على شكل حبة البرتقال، فهذا الدبوس ورثه الجد عن أبيه الذي ورثه عن والده هو رمز للوطن الذي يحبه الجد كثيرًا ويشعر أن مسؤوليته الحفاظ عليه. ثم ينتقل الحديث كي يتمحور حول البرتقال اليافاوي وأنواعه وما حصل لبيارات البرتقال عام 1948 واستيلاء قوات الاحتلال عليها وتهجيرهم للفلسطينيين منها. ومثل الفصل الأول ينتهي هذا الفصل بنبرة تملؤها التفاؤل والأمل إذ يتمكن الجد من العودة من لبنان إلى يافا بعد رحيله عنها والعودة إلى تجارة البرتقال التي كانت تمارسها عائلته وإحيائها. وفيما يسعد الجد سليم في التحدث عن أنواع البرتقال والبيارات وعن الماضي السعيد الذي نرى أن الأب في قصة كنفاني يجد صعوبة هائلة في التحدث عن فلسطين وعن بياراته وبيوته. فقد كان الأب بعيدًا عن أرض البرتقال يعيش مأساة تهجيره عن الوطن بهدوء وألم، على عكس الجد سليم الذي يتمكن من العودة إلى موطنه وإلى بياراته.

وفي الفصل الأخير نقرأ عن ضياع الدبوس الذي يمتلكه الجد ومرضه ونقله إلى المستشفى وحزن العائلة لا سيما رانية عليه. تدعو رانية لجدها بالشفاء كي تعود إلى البحر برفقته وتبني معه قصورًا من الرمال وتستمع لقصصه المثيرة عن يافا. وإن حزن الجد على الدبوس يعكس حب الجد للوطن، فالدبوس على شكل برتقالة يرمز أيضًا للوطن. نترك الجد سليم مريضًا في نهاية القصة كما نترك الأب في قصة كنفاني مريضًا وبائسًا يرتجف من الغضب، وبجواره مسدسًا وبرتقالة. كانت البرتقالة جافة يابسة تدل على الإحباط وضياع الأمل. فهل يقتل الأب نفسه؟ وهل يُشفى الجد سليم كي يعود إلى البحر ويحكي قصصه المثيرة عن يافا وفلسطين لحفيدته؟ وهل سيرجع الفلسطينيون إلى وطنهم وأرضهم كما فعل الجد سليم؟ فهل هم مثل الأب في قصة كنفاني الذي يستسلم إلى قدره أم مثل الجد في قصة "برتقال يافا" الذي يكافح من أجل العودة إلى وطنه وبالفعل يعود؟

وقالت هدى عثمان أبو غوش:

في هذه القصّة الموجهة للأطفال، يجد القارئ نفسه وكأنّه أمام قصتين:الأولى قصّة البحر وغدره والعائلة، والتي يمكن الإستغناء عنها بسرد كلمات قليلة كمدخل للولوج لقصّة برتقال يافا، لأنّ الكاتبة أسهبت في السّرد والوصف والتّفاصيل الدقيقة التي تعتبر حشوا زائدا، وتثقل على الطفل، بالإضافة إلى أنّها لا تخدم فكرة القصّة كثيرا.(غرق تامر وإنقاذه من قبل الوالد، والتّفاصيل الدقيقة المتعلقة بإحضار المناشف،جدّي الّذي يسكن في الطابق الأرضي).

ثم تنتقل الكاتبة إلى قصّة برتقال يافا التي هي محور القصة وأساسها، وتهدف إلى أهمية المحافظة على تراث الأجداد، وترسيخ الوعي عند الأطفال لذاكرة تاريخ بلادهم، خاصة في عام النكبة 1948؛ فيدخل الطفل لواقع أجداده الحزين، وتثير القصّة لدى الأطفال مدى أهمية برتقال يافا، حيث أسهبت الكاتبة في الشّرح والمعلومات على لسان الجدّ سليم.

وقد أقحمت الكاتبة قصة اللصوص وسرقة الدّبوس في نهاية القصة، ممّا جعل السّرد حشوا زائدا، على الرغم من أننا ربما نقرأ في النهاية الرّمزية من سرقة الدّبوس، الّذي هو استمرار لسرقة التّراث من قبل الاحتلال.

سيطرت على القصّة العاطفةالحزينة، حزن الأطفال على هدم قصرهم الرملي، القلق الذي ساد حين علا الموج وكاد أن يغرق تامر، السّرد الحزين حول ضياع الوطن، وقد جاءت النهاية حزينة حين مرض الجدّ سليم، ممّا ينعكس على انفعالات الأطفال من القلق والحزن، وفي تعاطفهم مع الجدّ، ومن الجدير بالذكر إلى أنّ قصص الأطفال يجب أن تنتهي بالسعادة والفرح.

استخدمت الكاتبة أُسلوب السّرد القصصي التصويري الواقعي، وقد احتوى السّرد على بعض الجمل الطويلة التي يمكن تفاديها بكلمات مختصرة، جاءت القصّة على لسان أحد أفراد الأسرة(رانية) بضمير المتكلّم، ثم انتقلت على لسان الجدّ سليم، وثمّ انتقل السّرد لضمير الغائب. استخدمت الحوار بين أفراد الأسرة، وطرح الأسئلة، وتلك إشارة إلى تشجيع الأطفال في إبداء الرأي وعدم التّردد من والسؤال. استخدمت الاسترجاع الفني في استحضار الزمان والمكان في عرض تاريخ النكبة وأثرها. استخدمت المعلومات التّاريخية عن النكبة ومفرداتها.

أمّا الرّسومات فكانت جميلة، لكن ورد هناك خطأ تطابقي بين الصورة والنّص في صفحة 9، فالصورة التي في صفحة 10 تتطابق مع النّص في صفحة 9.

وختاما فإنّ القصّة لا تعالج أو تطرح مشكلة ما عند الأطفال، بل هي سرد واقعي تاريخي عن النّكبة، هدفها حفظ الذاكرة عند أجيال المستقبل؛ كي لا ينسوا تاريخهم، ولذا تعتبر القصة تثقيفية بعيدة عن المتعة مع الإشارة إلى أنّ القصّة تحتاج لتعديل وحذف بعض السّرد.

وقالت رائدة أبو الصوي:

يافا لقد جف دمعي فانتحبت دمــا

متى أراك وهل في العمر من أمد

أمسي وأصبح والذكرى مجددة

محمولة في طوايا النفس للأبد

كيف الشقيقات ؟

وأشواقي لها مدنا

كأنها قطعة من جنة الخلــد

هذه الأبيات الخالدة من قصيدة يافا

للشاعر اليافاواي الكبير محمود سليم الحوت

لمعت في ذاكرتي عند رؤية لوحة غلاف قصة ( برتقال يافا) للكاتبة الدكتورة روز شعبان.

أحداث القصة جذابة خصوصا أن المكان شاطيء بحر يافا الذي أعشقه،

والكثيرون مثلي عندهم عشق لشاطيء يافا ولمدينة يافا عروس البحر.

أعتقد أن اختيار الشاطيء مكان للقصة لم يأت صدفة، بل عن فكرة ثابتة .

القصة ذات محتوى قيم جدا ، والعقدة في القصة موجودة، والنهاية مؤلمة .

الصور الجميلة التي رسمتها ريشة الفنانة مريم الرفاعي تتناسب مع النص،

وجعلت الشخصيات ناطقة .

كل رسمة لها رمز معين، فالقصر على الرمل البيوت المهجرة التي طرد أصحابها منها بالقوة، والدبوس رمز للوثائق والأدوات التي لازال الفلسطيني

اللاجيء يحتفظ بها على أمل العودة المرتقبة لأرض الوطن. غالبية اللاجئين يحتفظون بمفاتيح بيوتهم التي طردوا منها ظلما وقسرا.

معلومات قيمة للطفل قدمتها الكاتبة بالقصة عن أنواع البرتقال اليافاوي.

الأمّ قدوة ومثال يحتذى به على اهمية احترام وتقدير اجدادنا والعطف على اطفالنا .

في القصة توعية ولفت نظر الى أهمية اتباع الإرشادات عند الدخول الى البحر، ومنها ضرورة استخدام الأطفال لعوامة السباحة .

نهاية القصة مفتوحة . فيها باب مفتوح للنقاش بين المربية والأطفال.

وقالت سامية ياسين شاهين:

افتتحت القصة بسردية تشد الفكر وهي الذهاب للبحر مع العائلة وهذا إشارة لحب الحياة والألفة العائلية، وخصوصا مرافقة الجد للعائلة الى البحر.

اللغة سلسة من السهل الممتنع، هناك تعبير "أخذنا جدي معنا" ص6 لها دلالة عميقة، فالأخذ هو التعلق بالشيء، وهنا أرادت الكاتبة توطيد العلاقات الاجتماعية بين أفراد العائلة.

الحدث التالي هو حزن الجد على أرضه التي سلبها من المحتل؟

ثم قفز بسرعة من حالة الحزن والتذكر الى اللعب مع الجد، هنا مفارقة بين الأحداث، ويجب الربط بين الأحداث،

الإسهاب بشرح وضع المناشف فرط زائد بالكتابة، التأكيد على بناء القصر الرملي، ثم الانتقال إلى أسلوب الحوار، وهذا الديالوج له أثر في التفاهم الاجتماعي، ويؤكد على التمك بالوطن.

ودبوس البرتقال الشموطي هو الرمز للإرث الوطني التاريخي المهم.

تطور الأحداث من جديد، سرقة دبوس البرتقالة ترمز إلى سرقة الوطن.

العبرة فيها كانت واضحة على امتداد القصة وهي التمسك بالوطن والحقوق.

ومن مجد الكروم كتبت فاطمة كيوان:

بمجرد أن تقرأ عنوان القصة (برتقال يافا) وترى صورة الغلاف تتذكر قسما لجورج حبش في إحدى رسائله" قسما ببرتقال يافا وذكريات اللاجئين، سـنُحاسب البائعين لأرضنا والمشترين."

وعندما تبدأ القراءة وترى أن القصة بدأت برحلة استجمام على الشاطئ لعائلة أبو احمد الجد سليم والأحفاد رانية وماهر والوالدين احمد وزوجته   تمتلئ أنفاسك برائحة بحرها وشاطئها وبرتقالها، وتتذكر ان يافا نهضت؛

لتعد "يافا تعد قهوة الصباح" كما كتب أنور حامد، وعلى أنغام أغنية الأخوين الرحباني (أذكر يوما كنت بيافا)، تصبح أنت أيضا أسيرا للشاطئ.

قصة جميلة بطلتها الطفلة رانية المحاورة لجدها سليم، والتي عصف لها

بالقصر الذي بنوه من رمال الشاطئ حين علا الموج، وأيضا تعرض ماهر حينها للخوف من الغرق لولا أبوه وارتداؤه لعوامة السباحة، الأمر الذي ساعده بعملية السباحة. وكان ذالك الحدث سببا لاعادة الذاكرة للجد؛ ليروي للحفيدة ما حصل بالماضي.

هذه الأسرة التي اعتمدت على تصدير الحمضيات والبرتقال خاصة الشموطي، فكان لها باع بالتجارة وعملت لها ماركة خاصة مسجلة "علم عليه رسمة البرتقال الشموطي" وفيما بعد دبوس ذهبي بشكل برتقالة، وكان يصدر عبر الميناء، إشارة لأهميته الاقتصادية "الميناء والبرتقال" في معيشة السكان هناك.

يسرد الجد قصة الدبوس لأحفاده، بينما تقوم الأمّ بتدفئتهم بعد البلل إشارة الى المسؤولية واحترام الكبير، ثم يعودون للبيت واذا بهم يفاجأون بأن لصوصا اقتحموه، وسرقوا الدبوس، الأمر الذي جعل الجد يسقط في غيبوبة، وهذه إشارة الى أن اللصوص يسرقون الأرض والوطن. وهناإاشارة وتلميح من الكاتبة للأطفال بتاريخ النكبة، وأن حلم فلسطين ما زال يؤرقها شأنها شأن الكثيرين، ولا بد من تذكير الصغار بما عانى الأجداد، فالدبوس الضائع هو رمز للوطن الضائع، وما ترتب عليه من ضياع.

القصة غنية بالمفردات الجميلة واللغة البلاغية والصور المطابقة للنص بشكل لافت. وأيضا اسم القصة عكس المضمون من حيث تعريف الأطفال بأنواع الحمضيات، وخاصة برتقال يافا وأهميته الاقتصادية.

وأعحبتني جدا رمزية الدبوس والمحافظة عليه عوضا عن المفتاح" مفتاح العودة" شأن الجميع باستخدامه، بهذا الرمز نقشت الكاتبة صورة جديدة في ذهن الطفل.

ومن شيكاغو كتبت هناء عبيد:

القصة تحكي عن الجد سليم وحكاية عمله مع البرتقال، حيث يذهب هو وأسرة ابنه أحمد إلى بحر يافا، وهناك تظهر سفينة يرتفع فوقها علم مرسوم عليه صورة برتقالة من نوع البرتقال الشموطي، ومن هنا تبدأ الحكاية، حيث تسأله حفيدته: ما هذا العلم يا جدي؟ فيخبرها أن هذا سفينة تجارية وتحمل معها البرتقال الشموطي وهو أجود البرتقال الذي تشتهر فيه يافا، حيث يتم تصديره إلى معظم الدول الأوروبية، ثم تسأله عن دبوس ذهبي يأخذ شكل ثمرة البرتقال الشموطي تراه دوما في الخزانة الزجاجية في غرفته، فيجيبها أن هذا الدبوس ورثه عن والده عبد الله الذي ورثه عن والده يحيى، وهو بصدد أن يورثه لابنه أحمد والدها، وأن هذا الدبوس كان والده دوما يضعه على كوفيته فقد كان يرمز إلى برتقال يافا الشموطي عالي الجودة، الذي كانة يتاجر به ويصدره إلى بلدان عديدة مثل بلدان أوروبا كبريطانيا وألمانيا ورومانيا، كذلك إلى مصر واستانبول.

وربما أرادت الكاتبة إلى الإشارة إلى أن الفلسطيني يحتفظ بكل الذكريات التي تعمق أحقيته في الأرض، فالدبوس رمز للتذكير بالمنتجات المنهوبة، تماما كما هو المفتاح الذي يتناقله الأجيال عن بعضهم، للتذكير بأننا نحن المالكون الحقيقيون للأرض، وما زلنا نحتفظ بالمفتاح الأصلي لأبواب بيوتنا، كذلك خارطة فلسطين التي تعلق تقريبًا في عنق كل فلسطيني، كتأكيد على أننا شعب لا ينسى حقوقه.

أيضا حدثها جدها عن الاحتلال الذي دمر واستولى على بيارات البرتقال بعد أن تم تهجير أهالي يافا وغيرها من المدن والقرى ككفر عانة، إجريشة، الشيخ مؤنس بالسفن إلى لبنان. وفي هذا نموذج مصغر لحكاية نهب وطن بأكمله، كما وتركز على أننا شعب صامد لا يعرف اليأس، فرغم كل جبروت وظلم المحتل إلا أننا نتمسك بكل شبر من أرضنا، فالتهجير لم يستطع أن يمنع جدها عبد الله أن يواصل زراعة البرتقال في البيارات وإعادة تصديره بعد عودته مع بعض المهجرين عن طريق التسلل عبر الحدود، إذ استعاد بعض البيارات بعد عدة محاكم، فتجارة البرتقال بالنسبة له تاريخه وجذوره وأصالته.

تماسك الأسرة وأهمية حكايات الجدات والأجداد برز أيضًا في هذه القصة التي أظهرت مدى التصاق الأحفاد بأجدادهم، ومدى تمسك الأجداد بأحفادهم، وحرصهم على نقل التاريخ لهم بصورة مبسطة تتماشى مع أعمارهم ومدى استيعابهم.

برعت الكاتبة في التعريف على أحد منتوجات يافا الزراعية المهمة وهي البرتقال بجميع أنواعه، وقامت بوصفه بدقة، أيضا استطاعت أن تطلع الأطفال على تاريخ يافا، وكيفية تهجير أهلها من بيوتهم هم وغيرهم من القرويين إلى بيروت، وعلى كيفية استيلاء الاحتلال على بيارات البرتقال والسفن التجارية، وفي ذلك توثيق لأهم الأحداث المؤلمة التي ارتكبها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني.

كما بينت أهمية التمسك بالجذور والتاريخ والأصالة من خلال تمسك الجد عبد الله بتجارة البرتقال اليافاوي الشموطي الذي ورثه عن أجداده.

بعد الانتهاء من الرحلة تعود العائلة إلى البيت، فتجد كل شيء فيه مقلوبا رأسا على عقب، وأن الدبوس الذهبي قد تمّت سرقته، ممّا أدّى إلى سقوط الجد مغشيًا عليه.

لغة القصة قوية متينة تعمل على إثراء لغة الأطفال بمفردات مثمرة، وقد رافق القصة صور ملونة جاذبة برعت ريشة الرسامة مريم الرفاعي فيها، فكانت متناسبة مع أحداث القصة وجعلت منها عملا مشوقا لمتابعته من قبل الأطفال.

وقالت دولت الجنيدي:

قصة جميلة أعادتنا الى أيام جميلة قبل النكبة عام ١٩٤٨ حينما كانت مدينة يافا أجمل المدن وأكثرها عراقة. اشتهرت بمينائها الذي تغنى به الشعراء وببحرها وشاطئها ومؤسساتها وبيوتها الجميلة ومساجدها.

انطلق منها العلم والأدب والأدباء والشعر والشعراء وكبار الفنانين، واشتهرت بإنتاجها وتصديرها. يافا مدينة البرتقال اليافاوي الشهير الذي كان يزرع ويقطف ويصدر الى معظم دول العالم.

جميل من الكاتبة أن تكتب عن هذا التراث الهام في قصة للأطفال الذين لم يعرفوا كيف كانت مدينة يافا، وكيف جار عليها الزّمان.

لقد وثقت الكاتبة تاريخ أسرة يافاويّة كانت تمتلك البيارات، وتشغل المزارعين الذين يزرعون البرتقال، والعمال الذين يقطفونه، والسائقين الذين ينقلونه الى الميناء، ومنه يصدر الى معظم بلدان العالم بسفنهم الخاصة التي تحمل ماركة مسجلة، وهي البرتقالة الشموطية المرسومة على علم مرفوع على كل سفينة. واحتفظت برمز نجاحها وهو دبوس ذهبي على شكل برتقالة كان الجد عبد الله يضعه على كوفيته أثناء العمل، وتوارثه الابن سليم وسيورثه لابنه احمد من بعده. ولكنه للأسف سرق في النهايه كما سرق كل شئ في يافا وفي فلسطين كلها.

استطاعت الكاتبة أن توصل للكبار والصغار أن يحتفظوا بذاكرة تاريخهم ونقلها الى الجيال القادمة. كما استطاعت بمساعدة الرسومات الجميلة المرافقة للرسامة مريم الرفاعي أن تصوّر المجتمع الفلسطيني المتماسك الذي تشترك فيه العائلة بكل شيء يساعدون بعضهم بعضا. حيث يسكن الجد سليم في الطابق الاول. والابن احمد في الذي يليه، وكان الجد والابن وزوجته يجلسون عل مائدة الطعام، والجد يلبس الزّيّ التقليدي الفلسطيني وهو القمباز، ويضع على رأسه الكوفية البيضاء والعقال الأسود. وكيف تخرج الأسرة كلها الى شاطئ البحر يتقاذف الجد الكرة مع حفيديه، ويبني مع حفيدته رانية قصرا من الرمال على الشاطئ، وعندما جرفه الموج حزنت عليه فواساها بأنهم سيبنون غيره، وهذا يصور الحزن الذي أصاب الناس بعدما سرقت بيوتهم من المحتل. ورأينا كيف يسبح الأب مع ابنه الصغير تامر، ويبقى بجانبه، وعندما علا به الموج أنقذه بسرعة لأنه كان يلبس عوامة السباحة، وهذا يعلم الأطفال أن يضعوا دائما عوامة السباحة، وألا يبتعدوا عن الكبار، لأن البحر مخيف وغدار،ونرى دور الأمّ الحانية التي تهتم بكل العائلة وترعاها، تأخذ بيد الجد وتسانده وتمسك بيد ابنتها الصغيرة وتمشيان على شاطئ البحر، وتسرع بالقاء المناشف للجد ورانية حينما بللهما الموج، وتواسي الصغير وتحنو عليه، وتحمد الله على سلامته وسلامة والده، وكيف احتضن الجد الطفلة الصغيرة، ثم كيف تجتمع العائلة على الشاطئ لأكل الساندويشات التي حضرتها الأمّ. (وهذا درس ان يكون الأكل على الشاطئ خفيفا) .وأثناء الأكل أخبرهم الجد عن قصة الدبوس الذهبي، ولماذا اهتم به وحافظ عليه. وبذلك أعطى العائلة كلها درسا بالحفاظ على ما يرثه الأبناء من اللآباء والأجداد خاصة إذا كان الميراث يتعلق بتاريخهم ومجدهم.

وعلمهم أن البرتقال يقطف في شهر تشرين الأول وكيف يقطفه العمال ويعبئونه في صناديق خشبية بعد أن يلفوا كل حبة بورقة خفيفة مرسوم عليها علامة الماركة، حيث كان لكل تاجر ( ماركة) أو علامة تجارية خاصة به، وأن ماركة عائلتهم حبة البرتقال الشموطي المشهورة. وكما روى الجد قصة هجرتهم عام 1948 هم ومئه وعشرون ألفا من يافا ومن القرى المجاورة لها، والتي ذكر اسمها في القصة؛ ليعرفها الكبار والصغار، وكيف ساعد الجد مع زوجته بعض المهجرين بالصعود الى السفن وخبأهم بين صناديق البرتقال، وكيف فقد دبوسه الذهبي أثناء ذلك ولكنه وجده لاحقا. وحدثهم كيف عاد والده عبد الله مع عائلته والعديد من السكان بعد انتهاء الحرب متسللين، وبعضهم دخلوا مع مهربين خفية الى يافا، ووجد أن سفنه دمرت، وتم الإستيلاء على جميع بياراته، أصيب بنوبة قلبية مات على أثرها. وأن الجد سليم عاد الى تجارة البرتقال، وأحيى ماركة آبائه وأجداده من جديد بعد أن استعاد عن طريق المحاكم قسما من بياراته. وختمت القصة بصورة الطفلين يتحدثان مع والدهم بسعادة عن أمورهم العائلية.

هكذا نحن الفلسطينيون كطائر الفينيق ننهض من تحت الرماد.

لقد سردت الكاتبة جزءا من قصة نكبة الشعب الفلسطيني، كيف شرد من وطنه وسرقت ممتلكاته؟ وفي كل موقف وفي كل صورة أعطت درسا للكبار وللصغار بما حدث أثناء النكبة، وما نتج عنها، وفي كل موقف وصورة درسا للأطفال بالحفاظ على تاريخهم وتراثهم وعاداتهم الجميلة وتقاليدهم. المفيدة، وأخذ العبر للأيام القادمة السعيدة بإذن الله.

وقلت رفيقةعثمان:

هدفت القصّة إلى إعادة واستحضار التاريخ، وأمجاد المكان والزّمان، كذلك أهميّة برتقال يافا وتميّزه عن باقي البرتقال بجودة نوعيّته، وتعريف الأطفال على أنواعه المختلفة؛ خاصّةً البرتقال الشّمّوطي.

تعتبر قصّة "برتقال يافا" قصّة ذات أفكار قيّمة؛ لكنّها مكثّفة في أحداثها وازدحام معلوماتها وصعوبة لغتها؛ لتقديمها للأطفال ما دون العاشرة، من الرّسومات تبدو بأنّ هذه القصّة مُقدّمة للأطفال.

في هذه القراءة تناولت إبراز عنصر العاطفة بالقصّة، وتأثيرها على نفسيّة الأطفال؛ حيث

   طغت العاطفة الحزينة على القصّة في عدّة مواقف:

اوّلا عندما هدمت أمواج البحر، القصر الرّملي الّذي بنته الطّفلة رانية بمعيّة جدّها سليم، بعد أن استمتعت كثيرًا في بنائه بصحبة جدّها.

   برأيي هذه الفكرة كانت غير مُوفّقة؛ نظرًا لإكساب الشعور بالإحباط والغضب عند الأطفال عندما تمّ هدم القصرالرّملي بسهولة بواسطة موج البحر؛ ممّا كان له الأثر النفسي السّلبي على نفسيّة الطّفلة رانية. كما نعلم بأنّ الأطفال يتماهون مع شخصيّة البطلة، ممّا يعكس الشعور بالحزن لديهم.

   من الممكن الاستفادة من حدث الهدم باستغلال الفرصة، من قِبل الجد بالشرح حول هدم البيوت الفلسطينيّة التي تمّ تدميرها بعد النّكبة، وأن يبعث الأمل في نفوسهم بالبناء من جديد، عند الهدم تزداد العزيمة بالبناء وعدم الاستسلام. ( هذا لو كانت القصّة مُوجّهة لليافعين).

الحدث الثّاني المؤلم وله الأثر النفسي غير المُرضي، عندما روى الجد عن وفاة أبيه بعد العودة إلى يافا بالتّسلّل، وتمّت مصادرة بيّاراته وسفنه بعد التّهجير ووفاته بنوبة قلبيّة جرّاء ذلك؛ بينما الحدث الآخر المُحبِط أيضًا، وله الأثر النفسي وتسبّب الحزن في نفسيّة الأطفال، هو سرقة اللّصوص للدّبّوس الذّهبي الّذي يحمل شعار ماركة البرتقال الشّمّوطي الّذي ورثه الجد سليم عن أبيه، والّذي احتفظ به في صندوق مقتنياته؛ والحدث الأخير الّذي بعث الحزن أيضًا في نفسيّة الطّفلين رانية وتامر، عند وقوع الجد سليم مغشيًا عليه وأخذه للمستشفى للعلاج؛ بسبب فقدانه للدّبوس الذّهبي بعد سرقة اللّصوص له.

ظهرت عاطفة الفرج لفترات قصيرة، عندما بنت رانية القصر الرّملي، ولكن تلاشت الفرحة سريعًا بعد أن هدمها الموج؛ كذلك بدت الفرحة والسّعادة من علاقة الجد للأحفاد، ولكن هذه الفرحة لم تدُم؛ بسبب إغمائه ونقله إلى المستشفى، فرح الأطفال عندما عرفوا عن الدّبوس الذّهبي الّذي حفظه الجد، لكن هذه الفرحة اختفت، عندما سرق اللّصوص هذا الدّبّوس.

ممّا سبق، نلاحظ بأنّ العاطفة الحزينة هي الغالبة، ومن أهم عناصر القصّة هي إدخال الفرح على قلوب الأطفال، وعدم إثقال همومهم وما لا تحتمله قدراتهم النفسيّة والعقليّة.

   على الرّغم من النوايا السّليمة للكاتبة؛ بعرض الأهداف المنشودة من تمجيد القديم، واستحضار التّاريخ للرّواية الفلسطينيّة؛ إلّا أنّها تناولت عدّة أحداث مكثّفة بعيدة عن مدارك الأطفال دون سن العاشرة، ومن الأفضل تناول حدث أو قضيّة واحدة، في قصّة واحدة والتركيز عليها؛ بدلا من إقحام عدّة أحداث دراميّة في قصّة واحدة.

برأيي تلائم هذه القصّة الأبناء اليافعين، بعد إجراء التعديلات اللّازمة، من التركيز على محور واحد فقط والتوسّع به، مع الاهتمام في إدخال عنصري التشويق والخيال.

   تبدو اللّغة مناسبة لفئة اليافعين، من سلاستها وإثرائها بالقاموس اللّغوي.

   إنّ تناول موضوع الهجرة أثناء النّكبة، والرّواية الفلسطينيّة، هامّ جدّا، هذا الحدث يحتاج لقصة منفردة؛ لتعطيه الكاتبة حقّه من السّرد والتفصيل.

   عنوان القصّة "برتقال يافا" يحمل في طيّاته أهميّة برتقال يافا قبل النّكبة، وهو رمز يشير إلى الرّواية الفلسطينيّة، وأمجاد يافا وعظمة تجارتها، وتصديرها للبرتقال إلى بعض الدّول الأوروبيّة.

من الممكن تأليف ثلاث قصص من هذه القصّة.

المزيد من المقالات...