لاتقل: مصان؛ لأنه من الثلاثي الأجوف الواوي، والصواب: مصون .... قال الشاعر :

بَلاَءٌ لَيْسَ يُشْبِهُـهُ بَـلاَءُ ... عَدَاوَةُ غَيْرِ ذِي حَسَبٍ وَدِينِ

يُبِيحُكَ مِنْهُ عِرْضاً لمْ يَصُنْهُ ... وَيَرْتَعُ مِنْكَ فِي عِرْضٍ مَصُونِ

قال الحريريّ رحمه الله في " درّة الغوّاص في أوهام الخواصّ " الصفحة : 70 :

" ومن شجون هذا النّوع قولهم : ( فرس مُقَاد )، و ( شعر مُقَال )، و ( خاتم مُصَاغ )، و( بيت مُزَار ).

والصّواب أن يقال فيها: ( مَقُود ) و( مَقُول )، و( مَصُوغ )، و( مَزُور )، كما حكي أنّ الخليل بن أحمد عاد تلميذاً له، فقال تلميذه: إن زرتنا فبفضلك، أو زرناك فلفضلك، فلك الفضل زائراً ومزوراً.

... ومن هذا النّمط قولهم: ( مبيوع )، و( معيوب )، والصّواب أن يقال فيهما: ( مبيع )، و( معيب ) على الحذف، كما جاء في القرآن في نظائرهما:{ وَقْصرٍ مَشِيدٍ }، {وَكَانَتْ الجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً }، فقال: ( مشيد ) و( مهيل ) على الحذف، والأصل فيهما: مشيود ومهيول.

... وقد شذّ من ذلك قولهم: ( رجل مدين ومديون ) و( معين ومعيون ) أي: أصابته العين، ومنه قول الشّاعر:

نُبِّئتُ قومكَ يزعمونك سيّداً *** وإِخال أنّـك سيّـدٌ مديـون

وجميع ذلك مما يهجن استعماله، إلاّ في ضرورة الشّعر التي يجوز فيها ما حُظِر لإقامة الوزن "

[1] والمحذوفة عند سيبويه رحمه الله: الواو الثانية الّتي هي واو المفعول الزّائدة، وأنّ الباقية هي الواو الأصليّة من ( صون ).

أمّا أبو الحسن الأخفش رحمه الله، فقال: إنّ المحذوفة هي الأولى، وأنّ الباقية هي واو المفعول التي تدل على المعنى، والله أعلم.

dfsfhdgjdj9431.jpg

dfsfhdgjdj9432.jpg

   هناك روايات أقرؤها ولا يمكنني الا العودة اليها مرة أخرى وأحيانا أكثر من مرة فهي تترك أثراً ما في خبايا الروح، ومن هذه الروايات رواية "قلوب من نار" للكاتبة والفنانة التشكيلية دلندا الحسن الأردنية الهوية والإقامة والفلسطينية الجذور من مدينة قلقيلية، وحين اهدتني الروائية التي لم التقها ابدا ولم اتعرف اليها روايتها تاركة لي اياها في مقر رابطة الكتاب الأردنيين في عمَّان في نهاية الشهر العاشر 2019م سعدت بقراءتها وتمتعت بها، وتركت بعضاً من تساؤلات في روحي وأثر ما، وحين عدت للوطن من عمَّان بعدها بفترة قصيرة نسيت الرواية في بيتي في عمَّان ولم اتمكن من العودة بعد انتشار وباء الكورونا وإغلاق المعابر لمدة عام، وحين عدت وضعت الرواية على برنامجي المكتظ بالقراءة والكتابة لأعود اليها مرة أخرى. 

  لوحة الغلاف من ريشة صاحبة الرواية فعبرت من خلالها عن الرواية التي كتبتها عبر الوجوه بلا ملامح ولغة الألوان بين الأخضر بتدرجاته من الفوسفوري المشع للأخضر الداكن موشحة بألوان أخرى غلب عليها الأحمر على الألوان الأخرى، اعطت فكرة عن هذه القلوب المخلوقة من نار كما اسم الرواية، وهي رواية كتبتها لتوثيق ذاكرة جزيرة أم النار من جزر الامارات العربية المتحدة والتي ولدت وعاشت بها الكاتبة 17 عاما، وحين زارتها على هامش معرض للكتاب بعد غياب 14 عام متواصلة وجدت كل شيء قد تغير، فعبرت عن ذلك حينها بالقول: "تملكتني رغبة قوية لسرد تاريخ جزيرة أم النار؛ لأحافظ على ذكرياتي ونسختي الأولى من الحياة في الإمارات"، ولعل هذه الفقرة بالمقدمة كان لها عامل كبير بمسارعتي لقراءة الرواية القراءة الأولى بسبب حجم ارتباطي بالمكان وتجوالي الدائم بين القرى والمدن والدول لأكتب عن بوح الأمكنة بقلمي وعدستي، وعبر صفحتين قبل البدء بالسرد الروائي وضعت على الصفحة الأولى ابيات شعرية معبرة عما يبقى بعد الضياع للشاعرة نازك الملائكة وفي الصفحة الثانية عبارة عن الحياة والواقع والأحلام والتخيلات، وعبر 175 صفحة من اصدارات دار التنوير للطباعة والنشر في لبنان ومصر وتونس كانت الرواية، والتي تكونت من ثلاثة فصول أسمتها الكاتبة النار الأولى والثانية والثالثة بدلا من كلمة الفصل برمزية سيتم اكتشافها بين دفتي الرواية. 

   في بداية الرواية اوردت الروائية تأريخا لاكتشاف اللؤلؤ الصناعي وتأريخا للحرب العالمية الأولى وتأثيرها على المنطقة عامة وفلسطين خاصة، إضافة لتاريخ جزيرة أم النار التي تعود للعصر البرونزي لتمهد لنا مسرح الرواية من خلال "إمارات الساحل المتصالح" والتي أصبح اسمها الامارات العربية المتحدة بعد عام 1970م، لتروي عبر فصول الرواية حكاية قلوب من نار ممازجة الحب المراهق والطفولي بالأسطورة والسحر ولعنات السومري واللقاء والفراق والألم والموت والوحدة والسفر والمصادفات الغريبة، تاريخ وحكايات مختلفة من خلال عدد كبير من الشخصيات كل لها دورها، وهي رواية ممتعة وسلسلة وتثير الرغبة بالقراءة بدون توقف، فقد لامست بها شغاف القلوب الشابة كما ترسم لوحة تشكيلية، وفي نفس الوقت اشارت لبعض الجوانب الاجتماعية السلبية مثل الأب الذي لا يعلم بناته ويرى ان المرأة لا تحتاج الا لزوج يضعها تحت جناحه، وهمه وهم امرأته تزويج البنات فقط، وأيضا اشارت لوسوسة النساء وزرع الشك ان الزوج ان سافرت زوجته ولم يسافر معها أو سافر وحده سيكون قد قرر الزواج عليها، إضافة إلى الزواج التقليدي الذي تجبر الفتيات عليه، وفي ص 145 قالت ان النساء في مخيم الوحدات للاجئين حين تتشاجر امرأة من أخرى تكشف عن ثدييها وترفعهما وتبدأ بالدعاء على الأخرى، وهذا بالمطلق غير صحيح فأنا تربيت فترات من طفولتي في المخيم، وكانت العجائز ترفع ثدييها من فوق الثوب بدون أن تكشفهما للدعاء، إضافة لعدة قضايا اجتماعية أخرى منها فرض الحجاب على الزوجة وتدخل الحماوات بزوجات الأبناء، وأشارت ايضا كيف يربي الآباء ابناءهم للانتماء للوطن فلسطين من خلال الحديث عنه وان التقليد في كل البيوت وجود صورة الأقصى وخارطة فلسطين، والرواية تحدثت أيضا عن معاناة الفلسطيني وتأثيرات الأحداث عليه، من حرب الكويت إلى أمراض تتأتى عن العمل بمصافي النفط، والشتات الذي يلازمه طالما انه بلا وطن والوطن محتل ومغتصب، وتفجير برجي التجارة في أمريكا فكان ربيع النورس وأسرته مثالا حيا لذلك، وكون الرواية توثيقية في جوانب منها كان على الروائية أن تنتبه لبعض المسائل المهمة والمرتبطة بتواريخ وأحداث وأن لا تقع بالخطأ فيها، ففي هذه المسائل لا مجال لخيال الكاتب وهذا ما سأشير اليه عبر حديثي عن الرواية وقرائتها نقديا. 

   السحر والأسطورة وخيال الكاتب يبرز من خلال شخصية السومري وهو يمارس سحره ولعناته ضد الفتية الذين يؤذونه، وكان قد تعرض لهجوم من شباب ملثمين وقاموا باخصائه بعد أن توفيت والدته وأصبح يعيش في خيمة أسفل جسر يربط جزيرة أم النار مع جزيرة أبو ظبي، ولكن الكاتبة لم تشر كيف كان يعيش هذا الفتى الغريب بدون أم ولا أب وفي خيمة وحيدا ومن أين يأكل ويشرب، وقدراته السحرية من خلال لعبة صنعها لها والده من شجرة مسحورة، وهو ابن النوخذة خليفة الحبيب ربان سفينة صيد اللؤلؤ الطبيعي من أم زنجبارية حمل ملامحها الافريقية والتي  هربت من وطنها كما غيرها الى عُمان بعد الحرب الاحتلالية التي اشعلتها بريطانيا بأطماعها، والبحار النوخذة خليفة من أبو ظبي وكان يعمل بصيد اللؤلؤ بسفينته مع عدد من البحارة ويبيعه للتاجر الهندي راو موهان والذي أسس واولاده شركات تجارية مختلفة مع اكتشاف النفط بالامارات في بداية الستينات، ولكن اعمال البَحار تأثرت بصناعة اللؤلؤ الصناعي، فتراكمت عليه الديون للتاجر الهندي مما دفعه لمغادرة أبو ظبي الى سلطنة عُمان حيث أجر مركبه وجمع مبلغا من المال ليسدد التاجر الهندي، والسؤال هو كيف تراكمت الديون عليه؟ فهو يبيع ما يتم جمعه من اللؤلؤ ويقبض الثمن، فهو بائع وليس مشترٍ بالدين، ولكنه مات بطريق العودة بالحمى، وهنا كانت اشارة ذكية لمن تمكنوا من الأجانب من استغلال ثروة النفط من غير السكان العرب.  

   الرواية جمعت عدد من الشخصيات الفلسطينية من عدة مناطق في فلسطين ومن الشتات، ومنهم عاهد الغريب المتخصص بالتاريخ والآثار وشقيقه طه المهندس الكيميائي من سكان قطاع غزة ويحملون وثيقة السفر المصرية وتم تهجيرهم من يافا، والذين انتقلوا في أواخر الستينات للإمارت المتصالحة كما ورد في صفحة 26، ولكن في صفحة 27 ورد أن طه كان ينفذ عمليات عسكرية ضد الاحتلال الصهيوني من خلال انتمائه لكتائب عز الدين القسام!! فإن كان هو قد ذهب للامارات في أواخر الستينات، فكيف كان ينفذ عمليات عسكرية وينتمي لجناح كتائب القسام التي أعلن عن تأسيسها في بدايات الانتفاضة الفلسطينية في أواخر 1987 تحت اسم: "المجاهدون الاسلاميون"، ثم تغير اسمها إلى "كتائب القسام" في منتصف عام 1991؟ وهذا خطأ كبير كان يجب الانتباه له. 

  وفي اواخر الثمانينات عمل عاهد في شركة بترول أبو ظبي ثم انتقل لجزيرة ام النار التي عمل منقبا عن الآثار بها حين وصل الامارات في اواخر الستينات،  ومن شخصيات الرواية أسعد الشرع من المهجرين من عكا عام 1948 ويحمل الوثيقة السورية وعمل مصورا في تلفزيون ابو ظبي، وسميرة اليازجي من المهجرين من صفد عام 1948 وتحمل الوثيقة السورية وعملت معلمة في أبو ظبي ثم مقدمة برامج بتلفزيون ابو ظبي حيث احبت اسعد الشرع وتزوجا، وبعد وفاة زوجها تزوجت من صديقهم عاهد الغريب وتزوجوا في زيارة لغزة عام 1975م وأنجب منها ابنتهما يارا، وهنا لا بد من الاشارة لخطأ آخر حيث أن حملة الوثائق السورية وجوازات السفر السورية ممنوعين تمام من الدخول الى فلسطين المحتلة لأي سبب من الأسباب بتلك الفترة، وما زال هذا القرار الوطني السوري قائما، ومن يقوم بذلك يحاكم بتهمة الخيانة في سوريا. 

   برهان النورس من سكان غزة ايضا ومن حملة الوثائق المصرية وأصلا من بلدة طيرة دندن التي احتلت عام النكبة وطردوا منها، والتقى صديق طفولته عاهد الغريب صدفة في ام النار حين عمل عاهد بالبترول، وبرهان ايضا عمل بالكويت بأواخر الستينات وتزوج من فريال العباسي الفلسطينية الحاملة للجنسية الأردنية وجواز سفر أردني، قبل عام من حرب تشرين عام 1973 ورزق منها بتوأم هما أريج وربيع وانتقل للامارات عام 1976 للعمل في مصفاة ام النار في ابو ظبي، وابراهيم الخاتم من الضفة الغربية والذي حضر ليعمل حمالا في ميناء الامارات في بداية الثمانينات وهو منحرف السلوك وسكير وعربيد فعمل مع الاحتلال مقابل المال لنقل المعلومات عن الجالية الفلسطينية في الامارات!!، ورغم عدم ورود كلمة الاحتلال لكن الروائية قالت ان الخائن أثناء وجوده بالضفة الغربية قدم له شخص ما حقيبة ممتلئة بالدولارات مقابل المعلومات، وهنا نجد قفزة غير منطقية أن عاهد الغريب خضع لابتزاز هذا العميل وزوجه ابنته يارا مقابل ان لا يشي للاحتلال أو للأمن الاماراتي عن أخيه طه، علما ان طه مقيم بالامارات وكذلك عاهد والعميل، وتهديد الخائن بالابلاغ عن صفقات أسلحة يبرمها المهندس طه مع دول أخرى لصالح حماس ص 171 لن تضره كثيرا في تلك الفترة بالامارات، فعلاقة الامارات مع الاخوان ومن بينهم حماس كانت قوية بتلك الفترة فقد اشارت الكاتبة أكثر من مرة للاخوان المسلمين في الامارات ووجودهم بدون مضايقات ومن هذه الاشارات أيضا ص 9 حين اشارت الكاتبة ان اريج وصديقتها عادتا من الدرس وهن يحملن مجلة الاصلاح الدعوية الصادرة عن جماعة الاخوان المسلمين، حتى أنه كان بإمكانه أن يلجأ للأمن الإماراتي من خلال السفارة الفلسطينية أو مباشرة، فالعلاقات مع دولة الاحتلال لم تكن موجودة في تلك الفترة. 

   النار الأولى كانت القاعدة والأسس التي قامت عليها الرواية لتنقلنا إلى النار الثانية في جزيرة أم النار حيث تبدأ الحديث عن قلوب من نار والصبية الأطفال الذين سيكونون أبطال الرواية وهم يارا الغريب الطفلة الجميلة ابنة سميرة اليازجي والتي تبلغ من العمر خمسة عشر عاما والتي كانت الشاهد على ما قام به الفتية وهم ما زالوا في المرحلة الثانوية ضد السومري والذي القى عليهم لعناته، والتي تعلق بها ربيع النورس وهو الشخصية الرئيسة في الرواية وابن برهان النورس وهو مصاب بمرض نقص النمو، والذي عانى من فقد حبيبته ومن وفاة زوجته إضافة لمرضه، حين رآها وهو يمارس الاضطهاد للسومري مع اصدقائه اللبناني نبيل الناقة ابن الطبيب اللبناني والأم الفلسطينية جمانة الوروار من سكان عين الحلوة في لبنان، والأردني سليم الفانك وهو ابن الممرضة مريم الفانك، ليثأروا من ضربه لهم حين دخلوا خيمته وعبثوا بأغراضه التي سرقها من المقبرة وحصانه الخشبي المسحور، مع الاشارة ان الكاتبة اوردت أن مريم الفانك والتي توفي زوجها بنت بيتا في بلدتها الحصن شمال الأردن، والكاتبة لم تشر لعائلة مريم وأعتقد انها نسبتها الى عائلة زوجها أو انها وزوجها من نفس العشيرة، فآل الفانك من عشائر الحصن المسيحية التي استقرت في الحصن بعد نزوحهم من الكرك، وهناك الطفلة شهد ابنة فريال العباسي والمعروفة بعدوانيتها ولكنها صادقت يارا، وهناك اريج شقيقة شهد الأكبر والتي تهتم بالقراءة وحفظ القرآن على يد المدرسة حنان والتي تنتمي للاخوان المسلمين هي وزوجها أبو جهاد ص 54، بينما نبيل أحب شهد المتمردة والتي اشتبكت كعادتها مع اخته علياء وعادتها. 

   من الامارات تنقلنا الروائية الى مسرح آخر وهو دولة الكويت وقصة حب صامتة أخرى لأريج ابنة فريال عباسي لمشعل الشاب الكويتي، والذي ستلتقيه مرة أخرى صدفة في الامارات بعد إجتياح الكويت من العراق عام 1990 واستضافة الكويتيين الذي كانوا خارج الكويت في الامارات بشقق سكنية، والذي قتل اخوته باعتقالهم من قبل العراقيين وحين يعود للكويت يلتحق بحركة الاخوان المسلمين كردة فعل، وبالصدفة تكون نفس شقة أهل يارا الذين رحلوا فجأة من الحي، وتنمو العلاقة بينهما وهي ما زالت طالبة بالثانوية، وهكذا نرى وسنرى كيف أن هذا الحب المراهق والطفولي هو الذي أعطى الرواية اسمها. 

  وكانت البداية لهذا الحب حين تمكنت فريال العباسي من الحصول على تأشيرة لها وأسرتها لزيارة أهلها بالكويت ومسرح حياة فريال الأول، حيث تستعيد في الطائرة ذاكرة طفولتها حين أجبروا على النزوح بعد حرب وهزيمة 1967 من أحد قرى طولكرم للأردن التي كانت الضفة الغربية تحت حكمه وسيطرته قبل الحرب، وهنا وقعت الكاتبة بخطأ آخر فقد قالت أن عائلة فريال العباسي حصلت على الرقم الوطني الاردني وجوازات أردنية مؤقتة (خمسة سنوات) وسافروا للكويت بعد فترة من النزوح حيث تزوجت في الكويت عام 1972، وهذا خطأ فادح فكل مواطني الضفة الغربية ومن سكنوا الأردن بعد النكبة 1948 من المهجرين ومن ابناء الضفة الغربية حملوا الجوازات الأردنية والجنسية الأردنية، ووقعت بالخطأ نفسه في ص 141 حين قالت عن زواج اريج التقليدي من ابن خالتها: "كان مبرر أهلها أن ابن خالتها يحمل رقما وطنيا، وجواز سفر أردني مؤقت خمس سنوات" الرقم الوطني لا يكون الا مع جواز سفر دائم وليس مؤقت، ولم يبدأ العمل بالأردن بالأرقام الوطنية الا من منتصف آذار عام 1992، ولم يبدأ العمل بالجوازات المؤقتة بحق مواطني الضفة الغربية إلا بعد قرار فك الارتباط في تاريخ 31/7/1988 وبالتالي حين نزحت اسرة فريال من الضفة الغربية كانوا يحملون الجوازات والجنسية الأردنية الكاملة الحقوق بناء على قانون الجنسية الأردنية لعام 1954، ووقعت بخطأ آخر في ص 79 حين نسبت رمزية الكوفية الفلسطينية للشهيد أبو عمار بينما يعود ذلك الى ثورة 1936 حين فرضتها قيادة الثورة على كل الفلسطينيين حيث كانت يستخدمها الثوار وأبناء الريف، وأصبح البريطانيون المحتلين يعتقلون كل من يلبسها، فلبسها كل الشعب في مواجهة الاحتلال البريطاني وبقي استخدامها مستمرا من تلك الفترة، وأبو عمار لبسها لرمزيتها في تلك الثورة، وأيضا بالحديث عن اعداد حلويات المن والسلوى ص 84 فهي ذات لون اخضر يميل للبني ويجف كالحجارة ويتم تكسيره قبل صناعته ولونها ليس ابيض كما ارودت الروائية، ويصبح أبيضا بعد التصنيع وطريقة الصنع كما وردت لا علاقة لها فعليا بالطريقة الحقيقية. 

   والغريب ما ارودته الكاتبة في ص 122 أن عبد الله العزام الذي كان في صفوف القاعدة مع ابن لادن كان يدرب عناصره "للجهاد مع حماس ضد الاحتلال"، والقاعدة التي اشرفت الولايات المتحدة على تأسيسها وتدريب عناصرها لم تكن فلسطين المحتلة ضمن برامجهم بالمطلق، ومنذ انسحاب السوفيات من افغانستان في 15/2/1989. فكل ما قامت به القاعدة بتسمياتها المختلفة معروف ولا علاقة له بالمطلق بفلسطين. 

  الرواية سلسلة وتشد القارئ كثيرا وصيغت بأسلوب جيد وممتع بغض النظر عن ملاحظاتي النقدية، فقد تمتعتت بقراءتها مرتين، فهي مازجت بين الابداع التشكيلي للروائية كفنانة تشكيلية وبين كونها روائية وكاتبة فكانت بعض من العبارات والفقرات وكأنها لوحات تشكيلية مرسومة بالحروف، فكانت هناك في الرواية علاقة جدلية بين عناصرها الفنية وخاصة الأسلوب والموضوع والسرد الروائي، فتمكنت من نقل الواقع إلى عمل فني سردي روائي يثير مخيلة القارئ ويجعله يستمتع وخاصة من خلال مزج الحدث بالتاريخ والحب البريء والأسطورة والسحر،  وتمكنت أن تضع اصبعها على جرح الفلسطيني بهوياته المختلفة بين جواز أردني مؤقت أو دائم ووثيقة مصرية وأخرى سورية وغيرها، فتختم الرواية بقول ربيع النورس لنفسه: "وطني حيث الحب، وطني حيث الحياة، وطني هو شعلة القلب، أما فلسطين فهي الوطن الذي نحلم ونتمنى كل يوم أن نعود اليه"، إضافة لمعالجة الرواية قضايا اجتماعية مختلفة، وتثير روح القارئ مع معاناة اولئك الشباب الصغار ومعاناتهم مع حب المراهقة سواء من نجح وتكلل بالزواج أو لم يصل لهذه المرحلة، فيشعر القارئ فعلا أن الرواية "قلوب من نار"، كما حفلت الرواية بمفاجئات عديدة تجنبت الاشارة لها وخاصة في نهاية الرواية، كي اترك المجال للقارئ ليستمتع ولا أفسد عليه المتعة بالقراءة. 

dfsfghgdd94411.jpg

dfsfghgdd9445.jpg

"جحافل الجحيم" عنوان لرواية للكاتبة رنين عمار ضراغمة صادرة عن دار "ببلومانيا" للنشر والتوزيع في جمهورية مصر العربية، وهي الرواية الثالثة للكاتبة إضافة لمجموعة قصصية رغم ان الكاتبة مواليد 1991، وقد وصلتني الرواية من خلال الشاعرة والكاتبة والاعلامية قمر عبد الرحمن والمهتمة بابداعات الأسرى سواء من كانوا بمعتقلات الاحتلال أو خرجوا منها، وبما اصطلح على تسميته أدب السجون والذي أسميه أدب الصمود، ولديها برنامج وتر النصر المتخصص بذلك، وقد قدمت الكاتبة للرواية بالحديث من خلال عشر فقرات عن ضرورة المعرفة باعتبارها الطريق للنور والنضج الفكري والعقلي وسبيل التغيير في المجتمعات انهتها بالقول: " إن دروب المثقفين والأدباء لا يمكن أن تتكلل بالنجاح دون أن يكون وطنهم عنوان حروفهم والقضية الأسمى في أمانيهم المشتعلة بالحب والأمل"، وعبر ثمانية فصول عنونتها تحت عنوان: قواعد لعبة الشر الأعظم في فصول" بدأت روايتها، والمزينة بغلاف يصور يد خفية تحرك شخص بخيوط داخل زنزانة من الجحيم مع رمزية لطائر بألوان العلم الفلسطيني مما يعطي فكرة مسبقة عن الرواية من خلال الإسم ولوحة الغلاف. 

فكرة الرواية بمحاورها ليست جديدة، فمعظم الروايات التي قرأتها لأسرى وأسرى سابقين وكتاب مهتمين قائمة على محاور المشاعر والصمود والنضال والتعذيب والخيانة من العملاء، ولكن الاختلاف بروح الكاتب والأسلوب، وهذ الرواية قامت فكرتها على مجموعة من الشباب من طلبة الجامعة يعملون على مقاومة الاحتلال ولكنهم مخترقون أمنيا من عميل خائن، فيروي حسام وهو المتحدث والراوي لمعظم فصول الرواية الحكايات والشخصية الرئيسة فيها، يتحدث عن التجربة النضالية وعن حجم التعذيب الذي تعرض له في التحقيق، ولكنه أيضا ورغم تجربته مع الخائن والعميل يقع في فخ "العصافير" وهم عملاء الاحتلال في الزنازين، وهو ابن لشهيد أقسم ان يثأر لوالده، فهو يتحدث عن تجارب اعتقاله لمرتين في السابق وهذه الثالثة بتهم تصنيع أسلحة محلية وقنابل، ورغم بساطة هذا السلاح الا انه يؤكد على: "أن الإرادة المرتبطة بالذكاء هي السلاح الأقوى في كل معركة في هذا العالم"، ومن هنا يبدأ برواية الرواية، رواية الأسير وايمانه بوطنه قبل الأسر وكيف خاض تجربته النضالية حتى وقع بالأسر من خلال شخص جنده الاحتلال للتجسس على المناضلين، ولكن هنا اشير ان من يتم تجنيدهم من الاحتلال يتم ذلك من خلال جهاز الشاباك "الأمن الداخلي" وليس الموساد "الأمن الخارجي"، حيث ان الكاتبة وقعت بالخطأ حين اشارت أن صديق حسام الذي اوقع به هو ضابط في الموساد ومرة اخرى انه مجند بالشاباك، ووصفت المتهم بالخيانة انه متفوق وذكي ويجيد أكثر من "عشر لغات" وهذا بتقديري مبالغة كبيرة لوصف طالب ما زال على مقاعد الدراسة في جامعة محلية ويخرج عن اطار خيال الكاتب، وفي نفس الوقت فالعميل لا يمنح رتبة عسكرية في اجهزة الأمن للاحتلال، فالرتب العسكرية للعسكريين فقط وليس للعملاء، وفي الفصل الاول يكون هناك حوار طويل بين الأصدقاء الثلاثة: حسام ذو التفكير والالتزام الاسلامي والايمان بحركة الجهاد الاسلامي وقادتها حيث يقول انه يؤمن بهذه الحركة وقادتها: "من الدكتور المعلم الشقاقي إلى القائد القدير رمضان شلح حتى زياد نخالة جميعهم يحملون فكرا اسلاميا نيرا متقدا بثوابت موحدة"، وعمر اليساري والمثقف والذي يتحدث عن الماسونية وسيطرتها كذراع للصهيونية على العالم، وكامل العبثي بسلوكه الظاهري، لكن هذه الحوارية بغض النظر عن المعلومات فيها أخرجت السرد الروائي عن أصوله وخاصة مع ذكر اسم المتحدث في بداية حديثه، وهذا تكرر أكثر من مرة في الفصل الأول وفي الفصل الثاني مع حسام في الزنزانة، وفي عدة فصول منها بشكل خاص الفصل السادس والأخير فتحول السرد الروائي الى حوارية وكأن الرواية معدة لحلقات اذاعية وليس لرواية، وفي الحديث عن الماسونية تحولت الرواية وكأنها محاضرات تدريسية وهذا يخالف أصول الفن الروائي أيضا، وإن كان في الجانب الآخر يدلل على حجم ثقافة كبير وقراءات واسعة للكاتبة. 

الثلاثة شكلوا نواة لخلايا عسكرية لمقاومة الاحتلال وهنا استغرب الفكرة، فالجهاد الاسلامي منظمة عقائدية اسلامية فكيف يكون عمر اليساري فيها وكامل الذي تظهر على سلوكه العبثية والعلاقات النسائية فيها ايضا رغم حجم التساؤلات الأمنية على سلوكه؟ لو لم تضع الكاتبة اسما للفصيل لكان ذلك أقوى، فالرواية عمل أدبي وليس منشور حزبي، ونلاحظ في الرواية ان حسام يعمل على قضية الثأر سواء لوالده الشهيد أو لزميلته في الجامعة مها حسين التي أحبها بصمت حين أصيبت واختطفها الاحتلال من المستشفى!! وهذا ايضا يثير نقطتين على الرواية، ان العمل الجهادي مقاومة للاحتلال وفكر عقائدي ولا يقوم على مبدأ الثأر، وإلا لثأر سيدنا محمد من هند قاتلة عمه حمزة أسد الاسلام والتي مثلت بجثمانه واستخرجت كبده ولاكته، وبالعكس قبل عليه السلام اسلامها وايمانها ولم يثأر منها ولم يعاديها، ويلاحظ انه فقط في الفصل الثالث جرى الاشارة لمها انها كانت عضو في الخلية الجهادية بينما في الفصلين الأول والثاني كانت الاشارة الى حسام وعمر وكامل فقط. 

في الفصل الثالث تبرز شخصية فاطمة كراوية ثانية في الرواية، وهي زوجة شهيد وابنة شهيد ووالدة طفل تكمل دراستها بعد استشهاد زوجها، وتنظم الى مجموعة حسام الجهادية، التي اصبحت مكونة من حسام وعمر وكامل ومها وفاطمة، والغريب ان الفتاتين الاختين مها وفاطمة لم يشر لهن بالسابق في كل اجتماعات الخلية الجهادية، وهي تروي حكايتها النضالية ومعاناتها مع والد زوجها والمشكوك انه عميل أيضا، وعن تجربة النساء في الأسر والمعتقلات، وتبرز مها لتروي حكايتها وظروفها وعشقها لحسام بصمت حتى اعتقالها، مع الاشارة انه في الفصول الاولى لم يكن هناك اية اشارة لذلك سوى اصطدام حسام بها بدون انتباه واعتذاره لها وانه احبها من تلك اللحظة، والاشارة الثانية لاصابتها بالمواجهات المعتادة مع الاحتلال واختطافها من المشفى وأسرها، وهذه القفزات الفجائية في الرواية ملفتة للنظر، وأيضا تعطينا الكاتبة عدة نماذج من الأسيرات من صغيرة السن والطالبة بالمدرسة حتى الأم العجوز، والأم التي تحرم من رضيعها، اضافة لشخوص أخرى مثل دعاء وسجى وهالة وألما 

ولكن باستمرار كانت تبرز مفاجئات وأحيانا غير منطقية، فكيف ظهر فجأة لحسام طفلة اسمها شهد وهو طالب بالجامعة ومناضل سجن أكثر من مرة!! وأيضا خلال سرد مها لروايتها قالت انها التقت عمر بعد ان كان مختفيا لتنفيذه عملية عسكرية وبعد اعتقال فاطمة وحسام والذي حكم بالمؤبد، بينما في فصل سابق كانت مها قد اعتقلت بعد اصابتها بالمواجهات واختطفت من المشفى وكان حسام معها بالمشفى!! وفي حديث آخر انها كانت بالمشفى مع الطفل خالد ابن شقيقتها فاطمة الأسيرة، وفي حين لم يرد انه أفرج عنها حين اختطفت جريحة من المشفى إلا في آخر الرواية مما شكل قفزة غير طبيعية، علما ان حسام قبل اعتقاله كان يريد الانتقام لها بعملية عسكرية لم تتم، وفي نفس الوقت كيف أصبحت مها عضو في الخلية العسكرية حيث حين اصيبت واعتقلت لم يكن لها دور بذلك، وأيضا كامل صورته الكاتبة وكأنه ذو قدرات علمية وتجسسية غير طبيعية وغير معقولة بحيث انه يضع اجهزة تنصت على الهويات الشخصية والأوراق الخاصة لا ترى بالعين المجردة!! وأضافت انه سافر الى لبنان لتنفيذ عملية إغتيال بجواز سفر مزور، وهذه العمليات من تخصص الموساد ولا يلجأون لعميل فيها، وأيضا ان الدكتور سميح سافر الى غزة عن طريق مصر بجواز سفر مزور حين اصبح مطلوبا للاحتلال، وهنا السؤال كيف تمكن من السفر للأردن وهو المنفذ الوحيد إن كان مطلوبا ولا يمكنه السفر من نابلس الى عمَّان إلا بالهوية الفلسطينية أو جواز السفر الفلسطيني، وما احتياجه اصلا لجواز مزور للوصول الى غزة، وبعدها جرى اغتياله بقصف جوي من خلال تتبع الجهاز المخفي في هويته من العميل كامل!! بينما في فصل آخر يستشهد خلال استلامه أسلحة تبين أنها ملغمة، لتقفز الكاتبة بأسلوبها الى نمط آخر في الرواية هو أقرب للبوليسي، حين يكتشف حسام أن كامل معتقل ومحكوم مؤبد وأن الخائن هو عمر وأنه عاد الى عمله في تل ابيب كضابط في الموساد بعد انهاء مهمته، وهذا اعاد لذاكرتي قصة كوهين الجاسوس الاسرائيلي، وإن نجح كوهين بالتسلل الى سوريا باعتباره ابن لمهاجر سوري عاش ومات في امريكا الجنوبية وبأوراق مزورة، لكن هذا لا يمكن أن يتم في بقعة محصورة في فلسطين وكما نقول بأمثالنا: "حارتنا ضيقة ونعرف بعضنا مليح"، فيمكن للشاباك تجنيد عميل ولكن لا يمكنه ان يزرع أحد ضباطه في مجتمعنا وخاصة طالب في الجامعة ويرسله لتنفيذ عمليات اغتيال في الخارج أيضا ولديه مهمات التجسس على التنظيم، فالحبكة هنا لم تكن قوية وسادها الكثير من نقاط الضعف، فإن كان صهيوني فمستحيل ان يزرع في مجتمع صغير الكل يعرف الكل، وإن كان عميل فلن يكون لديه كل هذه القدرات والتدريب الاحترافي، والعميل حين ينكشف قد يتمكن من الهروب ليعيش في ظل دولة الاحتلال، لكن تكون أوراقه قد سقطت ولا يعود الجهاز الذي جنده مهتم به، وهناك عشرات الأمثلة لعملاء فروا حين انكشافهم وتحولوا الى عمال وعمال نظافة ليعيشوا بظروف بائسة، فحتى العدو لا يحترم العملاء ومن ينكشف يتركونه لمصيره،  لتعود الكاتبة لأسلوب الحوارات بين الاشخاص في الفصل السادس وما تلاه حول دور اليهود في العالم وعن الماسونية وطرقها للسيطرة على العالم، وعن الدين الاسلامي والإلحاد بعيدا عن مفهوم السرد في الرواية والتي كانت تنتهي باشتباك الايدي أحيانا. 

كانت نهاية الرواية غريبة جدا، فحسام يفرج عنه بصفقة تبادل، ويبحث عن مها التي أفرج عنها بالصفقة نفسها والتي ترفضه برسالة طويلة رغم انها فهمت انه ليس متزوجا وأن شهد بمقام ابنة لديه تربت بينهم لا غير، ولكن لفت نظري الفقرة التالية في نهاية الرواية تقريبا وبعد الرسالة التي تلقاها من مها والتي سأنهي حديثي عن الرواية بعدها والفقرة تقول حرفيا: " انتهت الحفلة (حفلة تخرج مها من الجامعة) وذهبت في يأس محاولا محاولتي الأخيرة معها ورأسي يردد كلماتها في تلك الرسالة البائسة واليائسة لكني لم أفقد إيماني بأن الحب الصادق وجب أن لا يموت فهذا مهر الذي لا فرار منه في روح كل العشاق.. عرضت  الزواج بدون مقدمات ومبررات وتوسلات ، ففاجأتني  وقبلت أخيرا، لكن اشترطت عدم الزواج في الوقت الحالي لأن عليها بعض الأمور يجب أن تكملها ، وأيضا أرادت أن نبني منزلاً ونرتب أمرنا لم اعترض ، كانت فرحتي تعادل كل شيء في الدنيا عادت تدريجيا أيامنا الجميلة  ونما الحب شيئا فشيئاً  كما كان ، مر عام كامل وأخيرا حان موعد زفافنا كان ذلك اليوم أتعس يوم في حياتي حين دخلت قوات الاحتلال مقتحمة المكان وأعادت اعتقالي وعدت للسجن .. في كل مرة كانت تأتي لزيارتي كنت أصبرها،  وأقول لها أن الحرية ستأتي مرة أخرى كما أتت. مرت  ست  سنوات وهي ترفض أن ننفصل بطلب مني وتعيش حياتها ولا تنتظرني .."، وهذا الحديث كان واضح أنه عن مها من خلال الفقرة السابقة، ليرسل حسام رسالة لزوجته بعد قوله: "بعثت برسالتي لفاطمة مهنئا إياها بولادة طفلينا مها وكامل"، فيقول: "عزيزتي فاطمة.. بعد التحية والأشواق الحمد لله على سلامتك ومبارك علينا طفلينا الملاكين مها وكامل"، فكيف فجأة انتهت حكاية مها وتزوج شقيقتها فاطمة، وأنجب منها توأم علم انه كان يتحدث عن لقائه بمها يوم تخرجها ولم يشر اطلاقا لأي عرض بالزواج من فاطمة التي تعرف ان حسام يحب مها شقيقتها وكان يبحث عنها وهي من أرشدته بأي جامعة تدرس، وايضا قال حسام في فقرة سابقة: "حان موعد زفافنا كان ذلك اليوم أتعس يوم في حياتي حين دخلت قوات الاحتلال مقتحمة المكان وأعادت اعتقالي وعدت للسجن"، فحسب الفقرة كان الاقتحام لمكان الزفاف بحيث يشير أن الزواج لم يكتمل بالعلاقة الزوجية. 

الرواية ركزت على جانبين هما: معاناة الأسرى وصمودهم والآمهم، فالأسير انسان ومن هنا جالت الرواية بالمعاناة الانسانية للأسرى بعيدا عن الأهل والأبناء ومن خلال الحلم بالحرية، المعاناة مع المرض وتفتيش الغرف والاهانات والنقل بـ"البوسطة" والاهمال الطبي والمعاناة بالمشافي الاحتلالية والعزل الانفرادي، وكل وسائل الضغط على الأسيرات والأسرى نفسيا وجسديا للاعتراف او التجنيد، بحيث شكلت كل حكاية لأسير قصة منفردة كان يمكن اصدارها تحت اسم حكايات من عالم الأسرى، فكان الأسر والسجن هو المسرح الذي دارت فيه وحوله غالبية أحداث الرواية، والجانب الآخر هو على الماسونية العالمية والصهيونية وقدراتهم الهائلة بحيث ان الرواية صورت الطرفين بحكومة تمسك كل العالم بخيوط خفية، وكان الحديث عن ذلك بالحواريات والسرد أشبه بمحاضرات تقدم معلومات ابعدت الرواية عن النسق الروائي والتواصل السردي الروائي، وإن نجحت الرواية بالحديث عن الجانب الانساني لمعاناة الأسرى فهم بشر وليسوا عمالقة من فولاذ. 

xfgsfgshdf941.jpg

عن الإتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيّين في رام الله صدرت في مجلّدين هذا العام 2021 الأعمال الرّوائية الكاملة للأديب حسن حميد. وبهذا فقد وصلت روايات د. حميد إلى القرّاء من أبناء شعبه في وطنه فلسطين.

والأديب الدّكتور حسن حميد الذي شرّدت أسرته من "أكراد البقارة" قرب مدينة صفد في نكبة الشّعب الفلسطينيّ الأولى عام 1948، وحلّت بها الرّحال في مخيّمات دمشق، حيث ولد في العام 1955. يعتبر واحدا من رموز الثّقافة الفلسطينيّة المعاصرة، وهو مبدع برز في القصّة والرّواية والأبحاث. وإذا كان اسم أديبنا الرّائع قد لمع في العالم العربيّ، فقد حجبت إصداراته عن أبناء شعبه الذين يعضّون على تراب وطنهم بالنّواجذ بسبب الحصار الثّقافيّ الذي فرضه المحتلون عليهم. من هنا تأتي أهمّيّة نشْر رواياته التي قام بها مشكورا الاتّحاد العامّ للكتّاب والأدباء الفلسطينيّين في رام الله، ضمن برنامجه بإعادة نشر الأعمال الكاملة لبعض الرّوّاد والرّموز الأدبيّة الفلسطينيّة.

سبق لي أن قرأت قبل سنوات رواية "جسر بنات يعقوب" للأديب حسن حميد، وها أنا أقرأ مجموعة رواياته كاملة، وسأتوقّف عند رواية "مدينة الله" التي صدرت طبعتها الأولى عام 2009 عن "المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر".

وهذه الرّواية -كما هي روايات أديبنا السّابقة- تؤكّد من جديد أنّ كاتبنا مسكون بالمكان الفلسطينيّ، الذي شُرّد منه في النّكبة الأولى تسعمائة وخمسون أللف فلسطينيّ -حسب إحصاءات الأمم المتّحدة-، وأصبحوا الآن أكثر من ستّة ملايين شخص، عانوا ويلات التّشرّد والحرمان وشظف العيش. والأديب حسن حميد كفلسطينيّ أصيل مسكون بوطنه وطن الآباء والأجداد، لذا فقد كرّس مشروعه الثّقافيّ لهذا الفردوس المفقود.

وتأتي رواية "مدينة الله" في سياق المشروع الثّقافيّ لأديبنا، وقد استوقفني العنوان "مدينة الله" والمقصود بها مدينة القدس، فالقدس العاصمة السّياسيّة، الدّينيّة، الثّقافيّة، التّاريخيّة، الحضاريّة الاقتصاديّة للشّعب الفلسطينيّ، وهي بمثابة القلب في الجسد الفلسطينيّ، وهذه المدينة العربيّة التي بناها الملك اليبوسي ملكي صادق قبل أكثر من ستّة آلاف عام واتّخذها عاصمة لمملكته، لا يمكن أن تكون إلا عربيّة فلسطينيّة، وكأنّي بأديبنا يقصد عندما اختار هذا العنوان لروايته عن المدينة المقدّسة " مدينة الله التي وهبها للفلسطينيّين"، أو أوحى للفلسطينيّين لبنائها لتكون مدينتهم التي اختارها لتكون مهدا للدّيانات السّماويّة. وكأنّي بأديبنا يقصد أيضا أن يقول بأنّ القدس مدينة التّعدّديّة الثّقافيّة. ومن خلال الرّواية التي اختصر فيها الكاتب مراحل تاريخيّة مرّت بها المدينة نلاحظ أنّه رغم أطماع الغزاة والمحتلّين السّابقين والحاليّين فإنّهم كما قال محمود درويش "عابرون في مكان عابر"، فالمدينة مدينة عربيّة فلسطينيّة ولن تكون غير ذلك رغم الليل الدّامس الذي مرّت وتمرّ به.

الأسلوب: بلغة أدبيّة ساحرة اختار الأديب حسن حميد أسلوب الرّسائل لبناء روايته عن المدينة المقدّسة، وهي رسائل كتبها بطل الرّواية "فلاديمير" لأستاذه "جورجي إيفان" في بطرسبورغ، لكنّها لم تصله؛ لأنّ موظّفة البريد اليهوديّة وديعة عميخاي أحتفظت بالرّسائل، ومنعت وصولها إلى صاحبها، وبعد أربعين عاما وعندما أصيبت بمرض عضال أفرجت عنها وسلّمتها لبيت الشّرق في القدس. وبيت الشّرق هو مركز أبحاث أسّسه الرّاحل فيصل الحسيني، واتّخذه مقرّا غير معلن لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة.

و"فلاديمير"بطل الرّواية تزوّج من رشيدة مراد الفلسطينيّة، ومن خلالها تعرّف على المدينة المقدّسة، وعلى غيرها من الأماكن الفلسطينيّة، كما تعرّف على معاناة المقدسيّين بشكل خاص والشّعب الفلسطيني بشكل عام من عسف المحتلين والجرائم البشعة التي يرتكبونها. ويلاحظ ما جاء في الرّواية بوصف جنود الاحتلال بأنّهم يركبون البغال" بغّالة" وهذا الوصف ليس عفويّا، فالبغل لا يتّصف بالأصالة، وراكبه ليس فارسا ولا خيّالا، وهذا يتماشى مع المثل القائل" من قلّة الخيل شدّينا ع الحمير"، فـ "البغّالة" أصبحوا "فرسانا" لعدم وجود فرسان يردعونهم! وهؤلاء "البغّالة" طغوا وبغوا بحيث اعتدوا بالضّرب والإهانة على ركّاب سيّارة لأنّ سائقها قال لهم "مرحبا"، وفي صباح اليوم التّالي اعتدوا على ركّاب سيّارة لأنّ السّائق لم يقل لهم "مرحبا"! والمحتلون قلبوا حياة الفلسطينيين رأسا على عقب، فمثلا "أبو العبد" افتتح مقهى في قلندية الواقعة بين القدس ورام الله مع أنّه يحمل شاهادة بكالوريوس رياضيّات، وهذه إشارة إلى البطالة التي يعاني منها خريجو الجامعات في الوطن المحتل، وعشرات الآلاف منهم تحوّلوا إلى العمل الأسود في مطاردتهم لرغيف "الخبز المرّ" كي يواصلوا حياتهم، وهذه قضيّة لها تأثيراتها السّلبيّة على نواحي كثيرة في البناء الإجتماعيّ الفلسطينيّ.

وصف الكاتب الكثير من الأماكن في القدس مثل الصّخرة المشرّفة والمسجد الأقصى، كنيسة القيامة، درب الآلام، المغارة وغيرها. كما وصف بيوت القدس القديمة ونوافذ بيوتها. وقد توقّفت عند"المغارة"، وأعتقد أنّ الكاتب يقصد بها "مغارة سليمان" اللامتناهية في عمقها، والتي يقع مدخلها تحت سور القدس التّاريخي بين باب العمود وباب السّاهرة في الجهة الشّماليّة للمدينة القديمة الواقعة داخل سورها التّاريخيّ.

ملاحظة لها ما يبرّرها: لم يدخل الكاتب المدينة المقدّسة لظروف خارجة عن إرادته، بسبب الاحتلال الغاشم، لكنّ المدينة تسكنه مع أنّه لم يسكن فيها، وقد أظهر بعاطفة قويّة من خلال روايته مدى حبّه وتعلّقه بالمدينة، ولا غرابة في ذلك، فالقدس جنّة السّماوات والأرض، وهي عنوان عروبة فلسطين، وعدم معرفة الكاتب لجغرافيّة المدينة أوقعه في بعض الهفوات التي لا تؤثّر على البناء الرّوائي، وتمنّيت لو أنّ كاتبنا عرض روايته على مقدسيّ يعيش في المدينة قبل طباعتها، ومن هذه الهفوات، حديثة عن "الرّامة"، والرّامة بلدة فلسطينيّة في الجليل الأعلى وهي البلدة التي ولد وعاش فيها شاعرنا الكبير سميح القاسم، أمّا البلدة المقدسيّة فاسمها "الرّام"، وتقع شمال المدينة بين القدس ورام الله، وكذلك وصفه لما سمّاه "نبع سلوان" واسمها عين سلوان، وهي على بعد حوالي أربعمائة متر عن سور القدس من الجهة الجنوبيّة" وهذه العين لها مدخلان" بينهما نفق صخريّ يرتفع حوالي ثلاثة أمتار وبعرض حوالي متر واحد تنبع منه مياه العين، لتخرج من "العين التّحتا" كما يسميّها العامّة، ومنها كانت تروى أراضي حيّ البستان حيث كانت تزرع الخضار وتنمو أشجار التّين، وبعد أن استولى المحتلّون على العين ومياهها، أقام الأهالي بيوت سكن عليها، وصدر قرار احتلالي بمصادرتها لأنها تقع ضمن ما يسميّه المحتلون "الحوض المقدّس" ويزعمون أنّ ما يسمّى "مدينة داود" كانت قائمة عليه، ومن الهفوات التي وردت في الرّواية وجود أشجار أمام كنيسة القيامة وهذا غير صحيح أيضا، فأمام مدخل كنيسة القيامة ساحة صغيرة مساحتها أقلّ من مئة متر مربع تفصل بين الكنيسة ومسجد عمر.

وماذا بعد: تبقى الرّواية إضافة نوعيّة شكلا ومضمونا للرّواية الفلسطينيّة عن القدس، وهذه العجالة لا تغني عن قراءتها.

xfgdsfghbhh941.jpg

خالد البيطار

فن الرثاء فن أصيل من فنون الشعر العربي، وقد برز فيه من القدماء الخنساء التي رثت أخاها صخرا، فقالت:

وان صخرا لتأتم الهداة به

وان صخرا اذا نشتو لنحار

حمال ألوية هباط أودية

شهاد أندية للجيش جرار

وبرز في شعر الرثاء أبو ذؤيب الهذلي الذي رثى أولاده الخمسة بقصيدة رائعة:

أمن المنون وريبها تتوجع 

والدهر ليس بمعتب من يجزع

واذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

ولقد برعت الفارعة بنت طريف من الخوارج في رثاء أخيها المحارب الشجاع الوليد بن طريف الذي قتله الحجاج،  فرثته أخته بقصيدة رائعة، فقالت:

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

وأبدع الشاعر الأموي جرير في رثاء الزوجات، وكان من أوائل من ابتكروا هذا الفن، وكان البكاء على الزوجة الحبيبة من قبل يعد عارا وعيبا حيث قال:

لولا الحياء لهاجني استعبار

ولزرت قبرك، والحبيب يزار

صور في قصيدته أروع المشاعر، وأصبح بهذا العمل قدوة لغيره من الشعراء ...

وتمضي الأيام، وترتقي الشهيدة بنان الطنطاوي على أيدي الطغاة، فيبدع الشاعر الداعية عصام العطار في رثائها، وتصوير أخلاقها وصفاتها ومدى تعلقه بها:

رثاء رفيقة الدرب:

يقول الأستاذ المجاهد عصام العطار في رثاء الشهيدة بنان علي الطنطاوي رفيقه دربه في الجهاد :

بَنَانُ يا جَبْهَةَ الإسلامِ دَامِيَةً

ما زالَ جُرْحُكِ في قَلْبي نَزيفَ دَمٍ

بنانُ يا صُورَةَ الإخلاصِ رائِعَةً 

ويا مِثَالَ الفِدَى والنُّبْلِ والكَرَمِ

بنانُ يا مُقْلَةً للبِرِّ ساهِرَةً

لأَبْؤُسِ النّاسِ قدْ ناموا ولم تَنَمِ

بنانُ يا مُنْتَهى الإيثارِ ما شهد الْـ

إِيثارُ مِثْلَكِ في خَفْضٍ ولا عُدُمِ

تَبْكِينَ منْ رَحْمَةٍ بالخَلْقِ خالِصَةٍ 

وما بَكَيْتِ منَ الأَهْوالِ والوَصَمِ

وبعد أن صور الاخلاص والرحمة بالناس والشفقة على الأخرين مضى الشاعر المكلوم يقول:

بنانُ يا أُنْسَ أَيّامي التي انْصَرَمَتْ 

ولَيْسَ يومُكِ في قلبي بِمُنْصَرِمِ

ويا رفيقَةَ دَرْبي والدُّنا ظُلَمٌ

نَشُقُّ دَرْبَ الهُدَى في حالِكِ الظُّلَمِ

ويا ثَباتَ فُؤادي في زَلازِلِهِ

وبَلْسَمَ الجُرْحِ في نَفْسٍ وفي أَدَمِ

ويا وِقَائي إذا ما كُنْتُ في خَطَرٍ

ويا يَميني ويا سَيْفي ويا قَلَمي

يا واحَةَ الأَمْنِ في ظِلِّ الوَفاءِ ويا

نَبْعَ الحَنانِ وبَرْدَ السَّلْسَلِ الشَّبِمِ

يا بَهْجَةَ الحُبِّ يا نُعْماهُ في كَبِدي

وزَهْرَهُ الحُلْوَ في كُوخٍ وفي أُطُمِ

ويا جَنَاحِي إذا حَلَّقْتُ مُنْطَلِقاً 

يَسْمُو بنا العَزْمُ فَوْقَ النَّجْمٍ والسُّدُمِ

فَارَقْتِ في صُحْبَتي الأيَّامَ وادِعَةً

وآمِنَ العَيْش في رِفْهٍ وفي رَحِمِ

لقد فقد الشاعر الداعية بفقدها الرفيق والأنيس وقص جناحه، وعجز عن التحليق فوق سماء الواقع المرير وأصبح وحيدا في مواجهة أشرس الأعداء:

عِشْنا شَريدَيْنِ عَنْ أَهْلٍ وعن وطَنٍ

مَلاحِماً من صِراعِ النُّورِ والقَتَمِ

الشَّرْقُ والغَرْبُ إلْبٌ في خُصُومَتِنا

أَنَّى اتَّجَهْنَا وَرَأْيٌ غَيْرُ مُنْقَسِمِ

وأَعْبُدُ الشَّرْقِ مِنْ أَبْناءِ جِلْدَتِنا

كأَعْبُدِ الغَرْبِ في الكُفْرانِ والظُّلُمِ

نَلْقَى النَّوازِلَ تَنْهَدُّ الجبالُ لَها

شُمَّ الأُنوفِ بِعَزْمٍ غيرِ مُنْهَدِمِ

وقَصْدُنا اللهُ لمْ نُشْرِكْ بهِ أَحَداً

ونَهْجُنا الحقُّ لَمْ نَرْتَبْ ولَمْ نَرِمِ

أَلْوانُ حَرْبٍ تَقَلَّبْنَا بِجاحِمِها

ما بَيْنَ مُسْتَعْلِنٍ مِنْها ومُنْكَتِمِ

الْكَيْدُ يَرْصُدُنا في كَلِّ مُنْعَطَف

والمَوْتُ يَرْقُبُنا في كَلِّ مُقْتَحَمِ

والجُرْحُ في الصَّدْرِ مِنْ أَعْدائِنا نَفَدٌ

والجُرْحُ في الظَّهْرِ من صُدْقانِنا القُدُمِ

وُمُدْنَفُ الجِسْمِ في تَرْحَالِنا مِزَقٌ

على الطَّريقِ وأَلْوانٌ منَ السَّقَمِ

حتى سَقَطْتِ على دَرْبِ الجِهادِ

وقَدْ عَزَّ النَّصيرُ ، بلا شكْوى ولا نَدَمِ

صَرِيعَةً بِرَصاصِ الغَدْرِ ، خالِدَةً 

في مِسْمَعِ الدَّهْرِ ، تَرْتيلاً بكُلِّ فَمِ

وَبِتُّ وَحْدي على الدَّرْبِ العَتيدِ

وقدْ غابَ الرَّفيقُ، بجُرْحٍ غيرِ مُلْتَئِمِ

تَبَّ الجُنَاةُ لَقَدْ أَْصْمَوْا بِخِسَّتِهِمْ

قَلْبَ المُروءَةِ والأَخْلاقَ والذِّمَمِ

رحم الله الشهيدة بنان علي الطنطاوي، ولعن الله من قتلها...

وفي عصرنا الحاضر درج الشعراء الاسلاميون وغيرهم على هذه السنن ...فأبدعوا في رثاء الأمهات والأبناء والزوجات، ورثوا اخوانهم وأحبابهم، كما رثوا العلماء الأعلام الذين رحلوا، وقد تركوا أثرا جميلا في النفوس وفي الناس....

أمي:

توفيت أم الشاعر خالد البيطار بعد مرض ووهن، فكتب يقول في رثائها:

فقدت الصبر يوم فقدت أمي

ولم أملك دموعي وهي تهمي

رأيت بوجهها الراضي ضياء

ونورا للتقى والطهر يومي

أما كانت تقضي الليل ذكرا

وتسبيحا ولا ترضى بنوم

لقد كانت تلك الأم الصالحة توقظ أولادها لصلاة الفجر، وتحبب اليهم طريق الخير:

وتوقظنا لندرك بعض ما في

التهجد من فلاح دون غرم

ترغبنا لنسلك خير درب

ونهجر ما عداه بكل حزم

ويبدو الشاعر، وهو راض بقضاء الله وقدره وحكم الله على عباده بالموت:

وما أنا بالمغاضب حين أشكو

فحكم الله فينا خير حكم

ولكن نفثة جعلت فؤادي

يردد بعض ما يشجى ويدمي

واذا ماتت أم الرجل أحس بمرارة اليتم، ولو كان كبيرا، وناداه مناد: لقد ماتت التي كنا نكرمك من أجلها فاعمل صالحا نكرمك من أجله.

شهيد الظلال:

وعندما ارتقى الأستاذ سيد قطب شهيدا على أيدي الطغاة عام 1966م كتب الشاعر خالد البيطار يقول:

أدمعي فاضت بعيني عندما

قيل لي استشهد ذاك البطل

أدمعي فاضت ولكن وقفت

في المأقي بثبات تسأل

لم لا نفرح بالمستشهد

فهو يدعو الى الفرح بالشهداء، وليس الى الحزن عليهم؛ لأنهم يرتعون في حواصل طير خضر في جنان الخلد...

يا الهي أنت أدرى بالألى

هيأوا السفن، فغاب القائد

أنت أدرى بالأولى حثوا الخطا

ومشوا صبحا فمات الرائد

من لهم في السير ان لم تجد ؟

فهو يتمنى أن يعوض الأمة خيرا ، ويصور الشاعر أحواله وأحزانه بعد رحيل الامام الشهيد سيد قطب:

غير أن الخطب قد أرهقني    وانتظار الصبح قد أرقني

انني ألمح فجرا مشرقا        لكن النفس غدت تسألني

من لهذا الفكر بعد السيد ؟

فمن المؤكد ان الله سوف يهيئ لهذه الأمة قائدا ربانيا يجري على يديه النصر المؤزر.

يا أبا حسان:

وعندما توفي الشيخ المجاهد مصطفى السباعي مؤسس الحركة الاسلامية في سورية رثاه خالد البيطار بقصيدة حزينة، فقال:

حزن القلب عليه وبكاه

وجثا بين بين شرود وانتباه

كلما فكر كيف انطفأت

هذه الشعلة خانته قواه

وانحنى يبكيه دمعا شابه

دفقات ساخنات من دماه

وصور خالد البيطار عظمة المصيبة التي نزلت برحيل القائد المجاهد:

ايه يا دنيا لقد ودعت من

باع دنياه لكي يرضي الاله

قدم الروح اليه ومشى

لا يهاب الموت لا يبغي النجاة

كلما أبصر دربا للهدى

حمل المشعل واحتث خطاه

ليرى الركب الذي تاق الى

منبع النور وميضا من ضياه

لقد رحل الشيخ الامام مصطفى السباعي قبل أن يعم الضياء أرجاء العالم :

يا أبا حسان قد فارقتنا

وضياء الحق لم يبد سناه

يا أبا حسان قد ودعتنا

والظلام المر طاغ في مداه

يا أبا حسان من ينقذنا

من تراه ان دجا الليل محاه

لقد كان - رحمه الله- جبلا من الجبال المحصنة المنيعة، وكان لا يفتر في احياء الأمل، وبعث الهمم، وغرس الهدى في النفوس:

أيها الرابض في تربته

كنت كالطود منيعا جانباه

كنت لا تفتر عن بعث المنى

في قلوب خمدت فيها رؤاه

كنت لا تفتر عن غرس الهدى

في قلوب لم يطوقها حلاه

ولقد كان السباعي -رحمه الله- أمة وحده يمثل جيلا من الجهاد والثبات والمفاخر:

كنت جيلا ثائرا عن ثقة

ان للحق وان نام الحماة

وثبة تخرس أفواه الألى

تبعوا الباطل وارتادوا حماه

وثبة ترجع للكون الهدى

وتعيد النور في كل رباه

يافارسا:

توفي الشيخ المجاهد أبو النصر البيانوني - رحمه الله- عام 1987م، وكان مشهورا بالصدق والأريحية والغيرة على دينه والنشاط في سبيل نشره ونصره، وقد تأثر الشاعر خالد البيطار بوفاته، فكتب يقول:

يافارسا ما كنت أحسب أنه

يكبو ويترك ساحة الميدان

ياشعلة ما كنت أحسب أنها

تخبو ونحن من الظلام نعاني

لكنها الأقدار أقدار الفتى

تأتي بلا ريث ولا استئذان

ولقد صحبه الشاعر زمنا طويلا، فما وجد فيه الا الصدق والأمانة والتواضع والأخلاق الفاضلة:

صاحبته زمنا فما ألفيته

الا الأمين المخلص المتفاني

وجميع من عرفوه كان جوابهم

نعم الأخ المتواضع الرباني

عرف الطريق فسار فيه مشمرا

ودعا الى الاسلام دون توان

ويعلن الشاعر حزنه لأنه حين مات البيانوني كان بعيدا عنه لذا لم يراه، ولم يلق عليه نظرة الوداع:

لم أبكه يوم الفراق لأنني

شاهدته قد نام باطمئنان

والبشر يعلو وجهه وكأنه

يرنو الى حلم جميل هاني

لكنني لما انفردت وجدتني

أبكي ولا أدري الذي أبكاني

ورغم رحيل الشيخ المجاهد الا أن منزلته ما تزال تعمر القلوب:

يا فارسا لك في فؤادي موطن

لا زلت تسكنه على اطمئنان

وندي صوتك لا يزال كأنه

رطب يصب اللحن في أذاني

قد غبت لكن لم تفارق خافقي

أبدا ولم تذهب من الوجدان

رحل الشيخ:

وعندما رحل شيخ حمص (محمود جنيد) في عام 1993م رثاه الشاعر بقصيدة باكية يقول في مطلعها:

رحل الشيخ بعد صبر طويل

طاهر القلب طاهر الأثواب

واستراح الجسم النحيل وكم

كان حمولا للهم والأوصاب

كم زهت حوله الحياة لتغريه

فلم ينخدع بلمع سراب

ولكن ضاقت الحياة فما ضاق

ولا حاد عن طريق الصواب

ولقد عاش عمره مستقيما

فجزاه المولى جزيل الثواب

وصور الشاعر خالد البيطار أحوال حمص بعد رحيل الشيخ محمود جنيد الذي كان الأب الروحي لأهل المدينة:

هذه حمص بعد موتك صارت

كيتيم ملقى بأرض يباب

ماله والد يعود اليه

أو مثيل له من الأتراب

هذه حمص قد عراها اكتئاب

وهي تبكي في حرقة وانتحاب

خرجت تحمل الفقيد وتمضي

خلف جثمانه بحشد مهاب

رفعته فوق الأكف احتراما

ووفاء لشيخها الأواب

فقدت عند فقده الحلم والعلم

وزين العباد في المحراب

فقدت زاهدا عفيفا حييا

عالما عاملا بما في الكتاب

ويمضي الشاعر في تعداد صفات الراحل الكريم، ويختم القصيدة بالدعاء له بالجنة:

أنت حي في كل قلب وان غبت

وواروك في ثنايا التراب

كنت بدرا تنير درب الحيارى

عندما ترتئيه دون ارتياب

ان رب العباد زادك فضلا

بالتقى والنهى وفصل الخطاب

لك أرجو أعلى الجنان مقاما

عند رب العباد يوم المأب

يا هذه الدنيا:

وعندما توفي صديقه عبد الكريم العطار ( أبو علي) عام 1999م ذرف عليه الدموع بصمت، فقال:

العين فاضت بالدموع أبا علي

وتضرجت أعليك تبكي أم علي ؟

بالامس كنا في الحديث عن الحياة

وما تخبئه الحياة لكل حي

عن حلوها عن مرها عما يدور

بساحها المأهول من رشد وغي

واليوم واراك التراب فأكمل

القبر الحديث ونحن لم ننطق بشي

ماذا أقول:

وكان خالد البيطار صديقا عزيزا للشاعر محمد الحسناوي عمل معه عدة سنوات، فلما مات بكاه أحر البكاء:

ماذا أقول وقلبي كاد ينفطر

مما ألم به اذا جاءه الخبر

الموت حق ولكنا نضيق به

أليس فيه الفراق المر والكدر

حاولت اخفاء دمعي مظهرا جلدا

فما استطعت وصار الدمع ينهمر

وأشاد الشاعر بجهود الأخ الراحل، فقال:

أخي الحبيب أبا محمود كم سهرت

عيناك كم كتبت يمناك تبتكر

وكم شهرت سلاحا أنت تتقنه

فارتد لما رأه الكاذب الأشر

ورب قول له في الحرب موقعه

يصيب مالا يصيب القوس والوتر

لقد كان رحيله خسارة كبرى لدعوة الاسلام في بلاد الشام:

أخي الحبيب أبا محمود يا قمرا

أضاء والليل مسود ومعتكر

أخي الحبيب أبا محمود يا بطلا

أمام خصم غدا بالزيف يستتر

أخي الحبيب أبا محمود يا أملا

قد كان يحفزنا اذ يحدق الخطر

اليوم غبت فلا الأحلام تسعفنا

ولا الأماني كذا الأمال تنحسر

وهكذا نرى الشاعر خالد البيطار قد رثى العلماء والدعاة والأدباء والشعراء، وكان متألق المشاعر متوهج العواطف، وجاءت ألفاظه فصيحة سهلة واضحة وكان بعضها قوية جزلة تملأ الفم وتقرع الأذن وأما الجمل والتراكيب فهي متينة متماسكة ...

ولقد نوع الشاعر في الأساليب، فجاء أسلوبه جامعا بين الخبر والانشاء ..

وكان محلقا في الخيال متفائلا في أغلب الأحيان ويصور الواقع بريشة الفنان وأغلب صوره الفنية تقليدية وقليل منها المبتكر ...ولقد حافظ على وحدة البيت ووحدة الوزن والقافية....

فجاء شعره متكامل الأدوات الفنية واني لأرجو طلبة الدراسات العليا أن يفردوه بالبحث والدراسة فهو جدير بأن تعرف الأجيال ابداعه ...كما أني أرجو ورثة الشاعر أن يسهموا في طبع الأعمال النثرية والشعرية الكاملة لتسهل دراستها لدى الباحثين .....

وسلام على شاعرنا الداعية في الخالدين.

مصادر البحث:

1- معجم البابطين لتراجم الشعراء المعاصرين.

2- ديوان ياربيع الحياة.

3- ديوان لم يزل لي أمل.

4- ديوان أشواق وأحلام.

5- ديوان أجل سيأتي الربيع.

المزيد من المقالات...