mghfgjj907.jpg

shqof907.jpg

عن دار إلياحور للنّشر والتّوزيع في أبو ديس-القدس، صدرت في الأيّام القليلة الماضية سلسلة قصص"الخالة مريم" للأديب الكبير محمود شقير. وصدر معها سلسلة "حبّ الوطن" أيضا التي كتبنا عنها قبل أيّام قليلة.

إشارة لا بدّ منها

محمود شقير أديب كبير ومتميّز، ونعيد ونكرّر ذلك عندما نتطرّق لكتابات أديبنا الكبير للكبار وللصّغار، ونكرّر أكثر وأكثر عندما نكتب شيئا عن كتاباته للأطفال، كي يترسّخ في أذهانهم هذا الاسم الكبير، الذي يعتبر مدرسة أدبيّة ينهل منها الكبار والصّغار، فهو قدوة تقتدى.

اعتراف

ولتأكيد ما قلته سابقا فإنّي أعترف أنّي أقرأ إصدارات أديبنا محمود شقير، خصوصا تلك الموجّهة للأطفال أكثر من مرّة، واحدة للإطلاع، وواحدة للتّسليّة ومرّات للمتعة والفهم والتّعلّم منها، فأديبنا متجدّد وعميق لدرجة الدّهشة، وقصصه للأطفال بسيطة ولافتة لدرجة تدعو لآداء التّحيّة له على هذا الابداع.

المضمون

قرأت سلسلة قصص "الخالة مريم" أكثر من مرّة، وألحّت على ذاكرتي مقابلتي في منتصف ثمانينات القرن العشرين لكاتب أطفال روسيّ خانتني الذّاكرة، فنسيت اسمه، لكنّي أتذكّر أنّه كان في الرابعة والثّمانين من عمره، وصدرت له أربع وثمانون مجموعة قصصيّة للأطفال، وممّا قاله في تلك المقابلة بأنّه يعود طفلا عندما يكتب قصّة للأطفال، فينسى نفسه ويضع قلمه أحيانا في فمه كما كان يفعل في طفولته! فتتلوّن شفتاه بالحبر دون أن ينتبه لنفسه. ومعروف أنّ الكتابة للأطفال هي أصعب الكتابات، لأنّها تتطلّب من الكاتب أن يعرف نفسيّة الأطفال. وكأنّي بأديبنا محمود شقير يشبه ذلك الكاتب الرّوسيّ، فهو عندما يكتب للأطفال يعود إلى طفولته، أو يتقمصّ شخصيّة الطفل الموجّهة القصّة لجيله، إضافة إلى ثقافة أديبنا الواسعة والشّموليّة، وما يستفيده من طفولة أحفاده، خصوصا حفيده مهدي صاحب الحظوة عند جدّه. ومعروف عن أديبنا أنّه يتحلّى بذكاء ودقّة ملاحظة بائنة، لذا لا عجب أن يكتب قصّة ابداعيّة عن حدث معيّن واقعيّ نشاهده جميعنا.

وفي سلسلة القصص الأربع هذه"الخالة مريم" نرى أنّ الطّفلين مهدي وجمانة هما بطلاها، أو شخصيّتاها الرّئيستان، يضاف إليهما "الخالة مريم". ففي قصّة"الخالة مريم تشتري التّفّاح" هناك بائع فواكه وخضار متجوّل، ينادي بمكبّر صوت:" معنا تفّاح، معنا خيار، معنا جزر، معنا بندورة، معنا درّاق" ص3.  فتشتري الخالة مريم ما تحتاجه من هذه الفواكه والخضار. وهنا يقلّد مهدي وجمانة البائع، فيدوران على درّاجتيهما ذواتي العجلات الثّلاث، ويناديان مقلّدين البائع، فتخرج إليهما الخالة مريم مريم وتشتري منهما! وهكذا، ويكرّران محاولتهما:"ولم يتوقّف مهدي وجمانة عن اللعب مع الخالة مريم إلا حين نادته أمّه، ونادتها أمّها؛ لكي يشربا حليب الصّباح."ص5.

في قصّة "الخالة مريم لم تغادر البيت": افتقد رجال الحيّ ونساؤه وأطفاله الخالة مريم، فتبيّن أنّها مصابة بالرّشح، فظّلت تشرب السّوائل طوال النّهار، فزارها أولاد وبنات الحيّ، غنّوا لها بناء على طلبها،" وكانت تشعر بتحسّن في صحّتها وهي تصغي للغناء."ص8.

وتهدف هذه القصّة إلى تعليم الأطفال على زيارة المرضى، وأنّ على مريض الرّشح أن يكثر من شرب السّوائل، وأنّ سماع الأغاني والموسيقى يريح الإنسان.

قصّة "الخالة مريم والثّلج": تتحدّث القصّة عن يوم مثلج، ممّا يضفي جمالا على الطّبيعة، وهذه القصّة تعليميّة تربويّة، فعلى من يخرجون للعب بالثّلج أن يرتدوا ملابس دافئة:" كانوا يرتدون المعاطف الثّقيلة، ويضعون على رؤوسهم طواقي الصّوف، وينتعلون الأحذية الجلديّة الدّافئة."ص10. وعلى الأهل مراقبة الأطفال أثناء لعبهم بالثّلج كي لا يؤذوا أنفسهم:"خرجت-الخالة مريم- تطمئنّ على أطفال الحيّ."ص9. وتهدف القصّة إلى تعليم الأطفال أن يلقوا التّحيّة على من يختلطون بهم،:" قال لها الأولاد والبنات: صباح الخير يا خالتي. وقالت لهم الخالة مريم: صباح الخير."ص10. وعلى من يلعبون في الثّلج ويتقاذفونه أن لا يمضوا يومهم في اللعب، وأن لا يؤذوا أنفسهم أو غيرهم، بل يكتفون باللعب قليلا من الوقت:"ظلّت الخالة مريم هي والأطفال يلعبون في السّاحة البيضاء طوال ساعتين.ص10.

قصّة "الخالة مريم والشّمس" تعلّم الأطفال أنّ النّاس يقضون نهارهم الذي تنيره الشّمس بالعمل أو الدّراسة، فالأطفال يذهبون إلى مدارسهم لطلب العلم، ويعودون إلى بيوتهم، وقد يلعبون بعد انتها دوامهم المدرسيّ، وعندما يهبط الليل": تعود الخالة مريم إلى بيتها، ويعود مهدي وجمانة إلى وكلّ الأطفال إلى بيوتهم مسرورين.ص12.

ملاحظة: نلاحظ في هذه القصص كما هي قصص الأديب شقير للأطفال والفتيات والفتيان كلّها أن شخوصها يتكوّنون من ذكور وإناث، وهذا مقصود لتعليم الأطفال أن الحياة لا تستقيم إلى بوجود الجنسين. 

الرّسومات والإخراج: رسم شخصيتيّ جمانة ومهدي جميلة وموفّقة، أمّا رسومات "الخالة مريم" فلا، فوجهها لا يدلّ على وجه امرأة، وهو مستدير كما رغيف خبز الطّابون. أمّا الإخراج فلائق ومقبول.

* * خطوات إلى الأمام :(التأسيس للاستقلال, وفك الارتباط بالنقد الغربي):

توصلنا ـ فيما سبق ـ إلى ضرورة رفض الانفتاح الحضاري القسري ، ورفض الانتحار الحضاري ، وكان اختيارنا أن نعود إلى مرحلة الإحياء والتجديد الحضاري لدور العقل المسلم ، لأننا نرفض الاندثار .

وخير ما نراه لإعادة البناء والنهوض ، هو قناعتنا أن تجديد العقل المسلم ، لا يتم إلا من خلال تعرفه على مرجعيته (القران الكريم والسنة النبوية) أولا ، ثم الاستفادة من تجارب الأمم عن طريق أسلوب الامتصاص الحضاري لخبرات الآخرين ,فيما يخص مشروعنا النقدي . ويمكن أن يتم ذلك من خلال البحث عن ضالتنا في وسط فضائل العقل الفلسفي ، من خلال شروط تضمن لنا هذا التعامل منها :

1ـ أن نتخلص من مرحلة الانبهار وعقد المغلوب ، لأنه أعمى واصم وغير أمين على تعريف  الأمة بفضائل عدوها .

2ـ أن نرفض نقل تجارب الآخرين وفضائلهم المخلوطة بكفرهم كما حدث في مرحلة الانفتاح الإجباري .

3ـ أن نعرف كيف نستفيد من تجارب الأمم الأخرى وندرس تجاربها في الأخذ عن الآخر .

**    فمن تجارب نظرية الامتصاص ( التجربة الاوروبية) :

فمن تجارب الأوروبيين في الأخذ عن الآخر ، ما نفذوه في مرحلة نقل حضارتنا الإسلامية, ليستفيدوا من ذلك في بناء حضارة أوروبا .

فقد مارس الأوروبي أسلوبا محددا في نقل حضارة الإسلام وعلومها وآدابها وفنونها و ثقافتها ، وهو ما يسمى ( بنظرية امتصاص الخبرة ) والتي كانت تقوم على الخطوات التالية :

أ ـ استيعاب المنتج الحضاري ( الإسلامي ) .

ب ـ تفكيك هذا المنتج وتحليله للتعرف على فكره وأهدافه وخبراته .

جـ ـ طرح أو رمي الفكر والأهداف والخصوصيات الاسلامية، خوفا من انتقال تأثيرها إلى العقل الأوروبي .

د ـ امتصاص الخبرات والأساليب من هذا المنتج الحضاري مجردة عن فكرها الاسلامي.

هـ ـ صبغ هذه الخبرات والأساليب بمنهجيات التفكير الأوروبي وأهدافه وغاياته ، ومن الأمثلة التطبيقية التي سارت على هذا النهج ، ما فعله العقل الأوروبي في الجانب الأدبي ,عندما حول حي بن يقظان إلى نموذج روبنسون كروزو ,أو رسالة الغفران إلى نموذج الكوميديا الإلهية ، أو قصص ابن الجيلي إلى نموذج دونكيشوت(27) وعندما تم توجيه سؤال للمفكر الاسلامي الكبير مالك بن نبي- رحمه الله - ما الفارق بين الحضارة الاسلامية و الحضارة الاوروبية ؟ قال : تماما كالفارق بين حي بن يقظان و روبنسن كروزو .

وعلينا أن نتذكر أن الأوروبي مارس هذا الدور كعلاقة اختيارية , مع الثقافة الإسلامية دون قسر أو إكراه ، وليس كما مورس علينا  قسرا وقهرا وغلبة ، في عهد الانفتاح الإجباري الذي أرغمنا عليه الاستعمار الأوروبي بأساليبه المتعددة وبتلاميذه ,الذين رباهم على ثقافته من ابناء جلدتنا.

وبذلك ضمن هذا الأوروبي ، نقل خبرات العقل المسلم ، ليستفيد منها ، ولكنه حمى أوروبا من أن تقع تحت تأثير الإسلام وانتشاره ,لأنه لا يريد الاسلام, ولكنه يريد علم المسلمين وخبرتهم فقط. ؛لأنه يبحث عن اشباع حاجاته الدنيوية ولا يهمه البحث عن الحق والحقيقة  

** الارتباط بالنقد الغربي خطواتنا لفك الارتباط به: وحتى نبدأ بالتأسيس لنظرياتنا النقدية , لابد من أن نفك ارتباطنا بهم وبمدارسهم النقدية ، و أن نستخرج نظرياتنا النقدية أيضا من مصدرين هما مرجعية الأمة في هذا الأمر:

1 ـ المرجعية الفكرية : التي تشكل الرؤية الفكرية للنقد الإسلامي وهي (القرآن الكريم والسنه الشريفة وعلوم الأمة ) ومن تراكم خبرات العقل المسلم عبر تجاربه ، في قضايا الفكر و الأدب و النقد، وهي مرجعية علم الوحي التي تخضع المتغير للثابت ، وعلى إثرها يخضع لتعميق العلاقة مع الحق ، و أما في المنظور الجمالي والفني من الجانب النظري ، فيخضع فيه الجمال لخدمة الحقيقة وتجلياتها في   الإبداع ، وبذلك تجمع هذه المرجعية ( مرجعية الوحي ) بين مرجعية (الثوابت ومرجعية الإحالة إلى الوجود) داخل نصوصها .

2ـ  المرجعية الأدبية : والتي يمكن أن تشكل الرؤية الجمالية والأدبية للتفاعل مع الحياة من خلال الرؤية الفكرية للعقل المسلم ، ومن خلال ما حققه من النصوص الإبداعية عبر تاريخه العريق الممتد من العصر الجاهلي إلى عصرنا الحديث ، وما يمكن أن يستخرج من قوانين الإبداع ومقاييسه من خلال هذه النصوص وتطورها الفني والجمالي ، وما يتكرر من قوانين هذا الإبداع ، لنتعرف على الخاص والمشترك والإضافي في هذه النصوص ،التي هي المادة الأولى لاستخراج نظريات النقد الإسلامي ، من خلال إنجازات النص الأدبي الخاضع للرؤية الفكرية التي تمثل خصوصيات العقل المسلم ومعايرة في النقد .

هذه منهجية التميز ، التي توضح مساره ، إنها طريق شاقة ومتعبة ، ولكنها صحيحة وسليمة بإذن الله ، كما يقول شاعرنا الإسلامي :

هذا السبيل وان بدا من صاحب النظر الكليـل

دربا طويلا شائكا أو شبه درب مستحيـــل

لا درب يوصل غيره مع انه درب طويـل(30)

  • عضو رابطة الادب الاسلامي العالمية
  • الموضوع له مراجع

-1-

يدحض نور مصالحة في كتابه "فلسطين أربعة آلاف عام في التاريخ" السردية الاستشراقية الغربية حول تاريخ فلسطين القديم، وكذلك السردية الصهيونية التي يأخذ بها الكيان الصهيوني في سعيه لإثبات حق تاريخي له في فلسطين. 

كلتا السرديتان ملفقتان كما يثبت نور مصالحة وآخرون سبقوه (طبعاً لا يقلل هذا من أهمية عمله). فقد اعتمدتا على الرواية التوراتية من خلال اتخاذها مرجعية تاريخية، وما هي بمرجعية تاريخية بالتأكيد. فلم يستطع كل الذين استندوا إليها أن يعززوها بما يتطلبه علم التاريخ من وقائع وأدلة.

نور مصالحة هنا يكمل مشروع إدوارد سعيد: "الاستشراق"، وكتاب "المسألة الفلسطينية"، حيث يؤكد "أن الاستشراق التوراتي المتركز على فلسطين بالتحديد كان جزءاً وامتداداً للسردية الاستشراقية للهيمنة، وتصويرها في الغرب. وهي سردية كتبت من دون أي شرقي فاعل فيها (مصالحة، ص34).

ويقتبس من كيث وايتلام: "اختراع إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني" مؤكداً ما ذهب إليه ادوارد سعيد: "الدراسات الغربية اخترعت إسرائيل القديمة وأسكتت التاريخ الفلسطيني" (مصالحة، ص 38).

وبعد إنهاك الرواية التوراتية بالأدلة الداحضة لأية علاقة لها بالتاريخ في فلسطين، وعدم وجود أية أدلة لتصديق ما تورده من وقائع "وقصص"، مكتفياً باعتبارها "أدبيات مقدسة" تصلح أن تعلّم "في الأقسام الأكاديمية، أو البرامج اللاهوتية والدراسات التوراتية (مصالحة، ص 46).

وذلك ليصل إلى الاستشهاد بزئيف هيرتسوغ (استاذ الآثار في جامعة تل أبيب، ومدير معهد الآثار فيها من 2005-2010، في مقالة نشرتها مجلة هآرتس الأسبوعية، في 29 أكتوبر 1999، تحت عنوان "تفكيك أسوار أريحا"، يكتب هيرتسوغ: "بعد 70 عاماً من الأحفار المكثفة في أرض إسرائيل، وجد علماء الآثار ما يلي: أعمال الآباء الأولين أسطورية. والإسرائيليون لم يسكنوا مصر. ولم يخرجوا منها، ولم يغزوا الأرض. وليس هنالك أي ذكر لامبراطورية داود وسليمان، ولا هناك مصدر للاعتقاد بإله إسرائيل. هذه الأمور باتت معروفة منذ سنين. لكن إسرائيل شعب عنيد، ولا أحد يريد أن يسمع هذا". (عن هيرتسوغ، مصالحة، ص 47) .

ويتابع "هذا ليس رأي من بين آراء" قائلاً: "يتفق الذين انخرطوا في عمل علمي في موضوعات التوراة، وعلم الآثار، وتاريخ الشعب اليهودي المتداخلة- الذين نزلوا في يوم من الأيام إلى الميدان بحثاً عن أدلة تؤيد قصة التوراة يتفقون الآن على أن الأحداث التاريخية المتعلقة بمراحل ظهور الشعب اليهودي تختلف جذرياً عما ترويه القصة" (عن هيرتسوغ، مصالحة، ص 47/48).

وبكلمة، "لم يعد علم آثار فلسطين بعد الآن يستخدم العهد القديم مرجعاً أو مصدراً تاريخياً (مصالحة من 48).

ويلخص مصالحة بالقول: "يقتضي التاريخ المؤسس على الأدلة- مقاربة علمية، وتفكيراً نقدياً، وأدلة عملية، ومادية، ووقائع دقيقة. فالمقاربات الدراسية للتاريخ تتطلب دليلاً إثباتياً، وقائع، أو دحضاً" (مصالحة ص 50). 

وبالمناسبة إذا كان علم التاريخ لا يعتبر الروايات التوراتية وقصصها مرجعاً تاريخياً، فأولى بكل تفسير لآيات القرآن المتعلقة بالأنبياء عليهم السلام ألاّ يعتمد، أو يلجأ، للروايات التوراتية من بعيد أو قريب. أي ضرورة المزيد من التدقيق لتحرير التفاسير من "الإسرائيليات"، لئلا تتعارض مع العلم، أو تخدش صحتها.

-2-

عندما أخرجت روايات التوراة من مجالات علم التاريخ وعلم الآثار، ولم تجد دليلاً واحداً يؤكد صحتها لم تعد مصدراً مسلماً بصحته التاريخية. الأمر أصاب مقتلاً لما جاء في التوراة من رواية تتعلق بكنعان والكنعانيين وسواهم أيضاً. وأصبح من الضروري البحث في الآثار والمنقوشات الحفرية، وفي كل ما تركه المصريون والآشوريون والبابليون والفرس وصولاً إلى هيرودتس (القرن الخامس ق.م) "أبي التاريخ". وهنا تبين أن رواية التوراة عن الكنعانيين لا تتطابق والحقائق التاريخية. ولا يسمح بالحديث عن "أرض كنعان" باعتبارها فلسطين. أو عن الكنعانيين باعتبارهم جدود الشعب الفلسطيني وسكان فلسطين الأصليين.

إن كل ما استطاع نور المصالحة أن يجمعه حول موضوع كنعان بعد نفي المرجع التوراتي أو عدم اعتماده.

أولاً: تاريخياً استخدم اسم كنعان في العصر البرونزي المتأخر: "كان اسماً لمنطقة جغرافية تشمل سورية ولبنان والأردن وفلسطين. ولم يطلق على فلسطين وحدها. وذلك من القرن الخامس عشر قبل الميلاد حتى بداية القرن التاسع ق.م.

ثانياً: أول إشارة مؤكدة تذكر كنعان وجدت على تمثال "أدريمي" من "اللاّخ" في شمال سورية عام 1500 ق.م.

ثالثاً: عندما غادر الفينيقيون موطنهم في الساحل اللبناني ممتداً شمالاً ليشمل جزءاً من الساحل السوري، وجنوباً ليشمل شمال الساحل الفلسطيني، أعلنوا أنهم كانوا كنعانيين.

رابعاً: يستشهد مصالحة بباحث في العهد القديم (التوراة) هو نيلس بيتر ليمشه يقول: "رواية العهد القديم عن الإسرائيليين والكنعانيين يجب أن تقرأ على أنها نظرة أيديولوجية إلى الآخر (غير اليهودي) لا على إشارة إلى جماعة إثنية تاريخية حقيقية" (مصالحة ص79).

ولهذا على كل من يؤكد على الأصل الكنعاني للشعب الفلسطيني أن يأتي بالأدلة المعترف بها في علم التاريخ، وليس بالاستناد إلى الروايات التوراتية التي لا يمكن اعتمادها مرجعاً تاريخياً.

-3-

تتركز أهمية الكتاب، بسبب مستواه الأكاديمي، بمقاييس الأكاديمية الغربية في دحضه للاستشراق الغربي التوراتي الصهيوني في ما يتعلق، أيضاً، بأسطورية الرواية التوراتية التي لا يمكن اعتمادها كمرجعية تاريخية، وعدم إقامة أي صلة من قريب أو بعيد، بين رواياتها، وما أقره علم التاريخ من حقائق ووقائع. وبهذا يحرر من السردية الصهيونية والسردية الاستشراقية التوراتية الصهيونية الغربية. وذلك في ما يتعلق بوجود تاريخ للشعب اليهودي في فلسطين كما ترويه التوراة.

أما البعد الثاني الذي يتضمنه كتاب نور مصالحة، فيتركز في الفصل العاشر حيث يُعرّى الفكر المسيحي البروتستاني الصهيوني في بريطانيا في القرن التاسع عشر وصولاً إلى "وعد بلفور" وإقامة الكيان الصهيوني 1948.

وبالمناسبة إن التدقيق بهذا الفكر البروتستاني وجبلتهُ الصهيونية يظهر الخطأ التاريخي الذي اعتبر هذا الفكر هو فكر الإصلاح الديني، وفكر النهضة والتنوير والعقل. صحيح، إن مآخذ كثيرة يمكن أن تسجل على الكنيسة الكاثوليكية في عصر الإقطاع الأوروبي، ولكن الفكر الذي نقضها بالرجوع إلى التوراة، وما أدى إليه من مشروع صهيوني، هو بالتأكيد خطوة إلى الخلف. وأكثر رجعية من الاتهامات التي وجهت للبابوية. لأن تأثيرات هذا الفكر البريطاني – الأمريكي البروتستاني التوراتي الصهيوني، هو الذي يشكل الخطر الأكبر على العالم ومستقبل الإنسانية، ويحتل أعلى درجات العنصرية.

طبعاً لا علاقة لنور مصالحة في هذا الاستنتاج، ولكن التدقيق في ما قدمه في الفصل العاشر، يمكن اتخاذه سنداً في هذا الاستنتاج.

ويختتم نور مصالحة الفصل العاشر وهو الدرّة الثانية في الكتاب، بتناوله الدقيق لعمليات التزوير الكبرى التي حدثت في فلسطين، في تغييب اسم كل ما يحمل اسماً فيها، وعبرنته وأسرلته، كجزء مكمل لعملية اقتلاع الشعب الفلسطيني، والاستيلاء على فلسطين، وإحلال الكيان اليهودي الاستيطاني الصهيوني فيها.

وثمة تسع صفحات في الفصل العاشر، من 384 إلى 392، يستعرض فيها نور مصالحة كيف زوّر قادة المشروع الصهيوني وبناة "دولة إسرائيل" أسماءهم لتبدو متوافقة مع "شعب" له تاريخه وهويته ولغته وأسماؤه لأن الاحتفاظ بالأسماء التي جاء أصحابها من عشرات البلدان، تكشف فضيحة أخرى للعملية التاريخية في صناعة "شعب" له هوية قومية واحدة. فالمشروع الصهيوني كان بحاجة إلى اختراع "الشعب الإسرائيلي" من خلال تزوير التاريخ الفلسطيني، وبحاجة إلى صناعة "شعب" لإقامة كيان "دولة" – "مجتمع"، "شعب" ليس كمثل بقية الشعوب.

فمثلاً غولدا مائير كان اسمها الأصلي غولدا مابوفيتش من كييف، يتسحاق شامير كان اسمه الأصلي اتسهاك جيزيرنيكي من شرق بولندا، زألمان شازار اسمه الأصلي شنورزالمان روباشوف من روسيا، شمعون بيريس اسمه الأصلي شيمون بيرسكي (بولندا) (مصالحة 384 – 386).

 أما الفضيحة الاكبر والتزوير الأخطر فقد تمثل في تزوير وتغيير اسم كل ما هو فلسطيني– عربي– إسلامي في فلسطين، أو تاريخي قبل الإسلام. وهذا لم يقتصر على القرى والمدن والشوارع والأحياء فحسب، وإنما امتد حتى إلى أسماء الأكلات الفلسطينية أو الأثواب أو الدبكات أو الألحان. وباختصار سلب كل ما يمكن سلبه، وتزوير كل ما يترك أثراً فلسطينياً أو عربياً أو إسلامياً. هنا يمكن القول إن نور مصالحة لاحقهم على "الدعسة".

إن الجهد الذي وضعه نور مصالحة في هذه المجالات، يرتفع بالكتاب وأهميته إلى مستوى أكاديمي مرموق عالمياً، وإلى تأثير إيجابي هائل في الصراع الأيديولوجي والتاريخي والحقوقي والوجودي الذي يخوضه الشعب الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني على كل المستويات.

-4-

 

الفلسطنة والهوية الفلسطينية

على إن كتاب نور مصالحة "فلسطين أربعة آلاف عام من التاريخ" ابتلي بأيديولوجية "الفلسطنة" واختراع هوّية فلسطينية قائمة بذاتها، لا علاقة لها بالهوّية العربية الإسلامية لفلسطين، باعتبارها جزءاً من الوعي، وشعبها جزء من الأمة العربية والأمة الإسلامية (بالمعنى العقدي والحضاري للكلمة).

هذا "الابتلاء" جعله يهرب من كتابة تاريخ لفلسطين وللمكوّنات التي شكلت شعب فلسطين. وانتهت خلال ألف وأربعمئة عام إلى أن تكون هويته عربية إسلامية، كما هو الحال بالنسبة إلى الشعوب التي تسكن البلاد العربية من المحيط إلى الخليج.

فمن جهة الجغرافية، حاول أن يثبت أن جغرافية فلسطين الانتدابية، كانت كذلك تقريباً طوال التاريخ. فلم يربط تاريخها بتاريخ سورية ولبنان والأردن، وبامتداد مصري وامتداد مشرقي، وصولاً إلى شبه الجزيرة العربية. ولذلك كثرت إشارته باستخدام عبارة "على حدة" ولا سيما عن سورية كأنها جزيرة في بحر. ووصل به الأمر إلى حد القول أنها تمتعت باستقلال أو شبه استقلال تاريخي. علماً أن أغلب تاريخ فلسطين إن لم يكن كله، وبشبه إطلاق، كان جزءاً من منطقة (سورية لبنان شرق الأردن) خضعت تاريخياً للأمبراطوريات القديمة قبل الأمبراطورية اليونانية كما بعدها، كما الامبراطورية الرومانية والبيزنطية إلى الفتح العربي الإسلامي.

لهذا تجنب مصالحة أن يسرد تاريخ فلسطين ما قبل الأمبراطورية الإغريقية طوال أكثر من ألفي سنة. فلم يتابع ما تعرضت له من غزوات: ولا آماد كل غزوة بالنسبة إلى الأمبراطوريات القديمة الفرعونية المصرية والبابلية والآشورية والفارسية. فكيف يكتب تاريخ فلسطين دون تتبع الغزوات المختلفة. وكيف يكتب تاريخ دون سجل الغزوات الامبراطورية– التاريخ السياسي- العسكري لفلسطين. وكيف يكتب عن تاريخ ثقافي إذا لم يربطه بالتاريخ السياسي والعسكري. وكيف يكتب عن مثقفي الأمبراطوريات الذين "استوطنوا" في مدن فلسطين كأنهم من أبناء الشعب الأصلي.

لقد تجنب مصالحة أن يكتب عن تاريخ هذه الغزوات لأنه إن فعل سيجد أن فلسطين جزء من منطقة بمصير واحد. فما من أمبراطورية سيطرت على فلسطين وإلا وسيطرت على الأردن ولبنان وسوريا وصولاً إلى مصر، إن كانت آتية من الشرق، أو وصولاً إلى فارس والهند إن استطاعت، إذا كانت آتية من مصر- فلسطين أو من الغرب.

بل حتى عندما تناول العصور الإغريقية والرومانية والبيزنطية، بل حتى مرحلة حروب الفرنجة، فكان يتجنب التعرض للتاريخ السياسي والعسكري فيما راح يركز على تاريخ المدن الفلسطينية وازدهارها الثقافي وتاريخ الكنيسة في العصر البيزنطي خصوصاً، وتاريخ النخب الإغريقية والرومانية التي توطنت في تلك المدن. وهنا يصل به الأمر إلى اعتبار المؤرخين الشعراء والمطارنة والبطاركة الإغريق أو الرومان ممن برزوا في غزة وقيسارية ويافا والقدس باعتبارهم فلسطينيين كيف؟

هنا لم يكن يفرّق بين عامة الشعب ولغته وكينونته من جهة، وبين النخب المستوطنة أو المنحدرة من، الامبراطوريات المسيطرة من جهة أخرى. مثلاً انطوخيوس العسقلاني في القرن الثاني قبل الميلاد، أو يوزيبوس القيساري أو بروكوبيوس القيساري أيضاً. ولهذا لم يتساءل كيف تبخرت نخب الأمبراطوريات بعد الفتح العربي الإسلامي؟ باختصار هاجروا ولحقوا جيوش دولهم. أما لو كانوا جزءاً من شعب فلسطين فكيف أصبحوا مسيحيين عرباً، وكيف أصبحوا مسلمين عرباً، ولم يبق منهم جماعة واحدة ترطن باللاتينية أو الإغريقية إلى جانب العربية.

ولهذا لا نجد تاريخاً ومتابعة دقيقة للأقوام والجماعات التي كوّنت الشعب الفلسطيني ابتداء من شعب بلست ومن الأقوام التي تكلمت بالآرامية. ولا نجد متابعة دقيقة للهجرات العربية قبل الفتح الإسلامي وبعده، والتي شكلت مع أقوام آخرين الأمة العربية. إن الإسلام وحده غير كافٍ للتفسير لأن مناطق كثيرة دخلها الإسلام، غير هذه المنطقة، حافظت على قوميتها ولغتها وحضارتها وهويتها. وكذلك حافظت بعض الأقليات على هويتها وإثنيتها.

ربما متابعة الفصل الذي يتحدث عن الغساسنة في العصر البيزنطي، والهجرات العربية بوجودهم يشكل واحدة من الأجوبة التي يمكن أن تفسّر تشكل هذه العملية الفريدة التي امتدت من المحيط إلى الخليج، وطبعت شعوبها بالطابع العربي الإسلامي (المسيحيون العرب جزء من المكوّن الأساسي) وجعلتها وطناً واحداً وأمة عربية واحدة.

ولكي يصل بهذا الخلل في قراءة تاريخ فلسطين الحقيقي إلى الهوية الفلسطينية يلجأ إلى محمود درويش فيستشهد بقوله: "ولدت قرب البحر من أم فلسطينية وأب آرامي، ومن أم فلسطينية وأب مؤآبي، ومن أم فلسطينية وأب أشوري، ومن أم فلسطينية وأب عروبي (قصيدة مديح الظل العالي)" (مصالحة ص 309). (وبالمناسبة: الأب المؤابي في التوراة لا يمكن أن تذكر روايته هنا).

يقول نور مصالحة: "يعتبر محمود درويش تجسيداً لمفهوم الهوية الفلسطينية المتعددة الشرائح، واضحة من خلال كل الثقافات القوية (القومية) التي مرت عبر أرض فلسطين: الهلينية والفارسية والرومانية والبيزنطية والآرامية والعربية واليهودية والإسلامية والعربية اليهودية والفارسية والبريطانية" (ص 309).

لاحظ هنا كيف ميّعت الهوية العربية والإسلامية وأصبحت جزءاً من "السَلَطَة" أو شريحة من الشرائح. وذابت في عشرات الهويات. لأن هذه "السَلَطَة" تجمع اللبن مع الفسيخ.

إذا كان من الممكن لأحد أن يغض النظر عن محمود درويش وهو يحكي كشاعر عن الأم الفلسطينية التي لا علاقة لها بالأم العربية والمسلمة الأصيلة، فكيف يمكنه أن يغض النظر عن عالِم في التاريخ حيث تذهب به الفلسطنة إلى هذا الحد. ويذهب به التبرؤ من هويته العربية (المسيحية والمسلمة) إلى هذا الحد. وهو الذي حطم السردية الصهيونية، والسردية المسيحية البروتستانتية الصهيونية تحطيماً يليق بالسرديتين، وهو الذي كشف ما تعرضت له فلسطين من اقتلاع للشعب الفلسطيني، ومن إحلال صهيوني وتزوير مرغه بالعنصرية والجريمة كما يجب ويستحق. ولكن ما العمل؟ هذا هو البحث عن هوية استثنائية.

mat906.jpg

jmmdfs906.jpg

جميل السلحوت؛ كاتب مقدسي ولد في أجواء لهيب النكبة الفلسطينية، نُشر له ما يقارب ستين إصدارًا بين رواية وقصة وسيرة ذاتية وسيرة غيرية، وقصص أطفال. وأمّا العمل الذي نحن بصدده للكاتب السلحوت فهو: روايته "المطلقة"، صدرت عن مكتبة كل شيء حيفا عام 2020. تقع الرواية في عشرين محطة (استراحة)، توزعت على (201) صفحة من القطع المتوسط.

أمّا لماذا اخترنا هذه الرواية للمناقشة والتحليل، من بين أعمال الكاتب "جميل السلحوت"، فلأن الرواية، وفق ما يشير نوره المرّي ولطيف زيتوني، أصبحت تتبوأ مكانة بارزة بين الأجناس الأدبية الحديثة من حيث الكثرة والإزدهار والانتشار. إلا أنها ذات ملامح هامة لا بد من التوقف عندها بالقراءة والتحليل، أهمها: أنها تتميز بازدهارها وتعدد أنواعها واتساع أغراضها واختلاف أساليبها، وتنوّع مصادرها وسرعة تطورها ورحابة مجالها، وتمردها على القوالب واستيعابها لكثير من عناصر الفنون، وانتشارها في كلّ الآداب المعاصرة([1]).

ووفق هذه الأهمية، سنقوم، فيما يأتي، بمناقشة هذا السرد الروائي من حيث: نوعها، وقضيتها الروائية (ثيمتها) التي عالجتها، وبنيتها، وعناصرها (كالشخصيات والمكان والزمان... الخ).

تبدأ الرواية بغلاف يحمل سيمياء تشي بالنص الروائي وبوح به قبل أن يلج القارئ إلى المتن. فلوحة الغلاف تحمل رسمًا تعبيريًّا لفتاة تقف منتصبة، وتنظر للبعيد، وقد أدارت ظهرها للعالم. والغلاف الأخير امتداد للأول، إلا أنّ هناك وردة نبتت في منظر شبه صحراوي؛ وكأنها تعبير عن الأمل والتفاؤل، المنطلق رغم عوامل اليأس والإحباط المحيطة. وبين الغلافين سرد روائي، سنتعرف عليه، فيما يأتي من هذه القراءة التحليلية.

فالرواية هي من نوع "الرواية الاجتماعية"؛ إذ اهتمت بقضية اجتماعية تخص الأسرة الفلسطينية بشكل عام، والأسرة المقدسية على وجه الخصوص. وهي في جانب مهم منها "رواية نسوية"، من حيث أن السرد يحتفي بالمرأة، ويُبرز الرؤية الأنثوية الناضجة والعقلانية في إدارة الأحداث، وأعطت للروابط الإنسانية قيمة عالية، عندما احترمت الذكورية كشريك في كل تفاصيل الحياة. ومن تزاوج هذين النوعين للرواية، تكثَّف السرد على ما يتعلق بشريحة المطلقات من الفتيات، لا سيما الأمّهات منهمنّ.

تقوم الثيمة "القضية" الروائية الرئيسية، لرواية "المطلقة"، كما رأيتها، على وصف الوضع النفسي والاجتماعي للمطلقة، والتغيرات الدراماتيكية التي تحدث في حياة الفتاة بعد طلاقها. ولأجل ذلك، أنشأ "جميل السلحوت" مجموعة مرتكزات اتّكأت عليها الرواية، أهمها اختياره الدقيق لشخصيات روايته، كما سيتم التطرق لها لاحقا.

لقد سعى الكاتب إلى معالجة هذه القضية، ووضع الحلول الناجعة لها، بمنتهى الانسيابية والسهولة واليسر، من خلال الحوارات الداخلية الواعية بين شخصيات الرواية، دون أن يُقحم رأيه عنوة، وقد اعتمد في ذلك على جعل الأحداث والشخصيات محل اهتمامه، دون أن يجعل من نفسه وصيّا عليها، ونلاحظ أنه تغلغل داخل هذه الشريحة، مبيّنا بعض الأسباب الكامنة خلف ظاهرة الطلاق، ووضع القارئ في صورة بعض التناقضات المجتمعية التي تؤدي إلى هذه الظاهرة.

من ناحية أخرىـ عالج "السلحوت" دور الفكر التكفيري، أو الأفكار المتعصبة والمنغلقة غير القابلة للتطبيق، في تمزيق الأسر والمجتمعات، كما علّق الجرس فيما يتعلق بالدّجالين والمشعوذين، الذين ينتهكون أعراض الناس البسطاء ويسلبون أموالهم، بغير وجه حق؛ من خلال استغلال المفاهيم السحرية ذات الأثر (السحريّ) عليهم.

وفي معالجاته هذه، استشهد "السلحوت" بالآيات القرآنية التي كان للاستشهاد بها بالغ الأثر في تطييب النفوس وجبر الخواطر. كما وظَّف عددًا لا بأس به من الأمثال الشعبية، التي استخدمت في مواكبة الأحداث، وتعزيز وجهات نظر شخصيات الرواية أثناء الحوارات. 

يتألف هيكل الرواية من بنية مكانية والتي كان لها حضورها ودورها في عدد من المشاهد والأحداث، حيث احتفى السرد بمدينة القدس، وجعل معظم الأحداث على أرضها وفي محيطها القريب؛ إذ تم توظيف المسجد الأقصى المبارك ومسجد باب الرحمة، وقبة الصخرة المشرفة، وشارع صلاح الدين في الأحداث المختلفة؛ كالصلاة والمناجاة من قبل المهمومين، والمحكمة الشرعية والمحامين المتواجدين في شارع صلاح الدين، ومستشفى المقاصد لعلاج الأسير المريض. وأما البنية الزمانية، فلم تتضح ملامحها، ولم يولِها السارد أهميّة كبيرة، ولعله يقصد بذلك جعلها تصلح لكل زمان. 

أمّا شخصيات الرواية، فقد اختارها الكاتب بدقّة وعناية، توزعت بين الشخصيات الصلبة التي تأخذ أدوار البطولة في المشاهد المختلفة، وتمثلت بثلاث مطلقات، كان المشترك بينها أنّ كل واحدة منهنّ تعرضت للظلم والاضطهاد من الزوج وأسرته، وزوجة شرسة وفالتة من عقال المجتمع (أم أسامة). كما أنه اختار أسماءهن لتكون ذات سيميائية تتوزع بين الحداثة "جمانة"، والأسماء التقليدية "عائشة" وما يشير إلى الصبر والتحمّل (صابرين)، كما أن هناك طفلا وطفلة اكتويا بنار الطلاق، حظيا بما يلزم من الرعاية والحب من أسرتي والدتيهما. كما كانت الشخصيات الهشّة التي دخلت في المشهد ثم غادرته كشيخ الجامع والفتّاح ومدير مكتبه، والشخصيات الثانوية؛ التي أخذت دور المساندة كالوالدين والأخوة. وقد شكلت الشخصيّات، بمستوياتها الثقافية والأكاديمية المختلفة، الهيكل الأساس للرواية، الذي مكّن الكاتب من تحقيق سرد روائي متماسك، يسير بالقارئ بتؤدة وهدوء بين ثنايا النّصّ.

وعلى مستوى المعمار الروائي، فقد جاء السرد الروائي بلغة عربية سليمة وواضحة، خالٍ من الأخطاء، وقد تنقل القارئ بين الأحداث بتتابع سلس، بأحداث تقترب جدّا من الواقعية، مما خدم ثيمة الرواية، والنهايات التي سعى الكاتب إلى تحقيقها.

كلمتنا،

ونحن نغادر هذه الرواية يمكنني القول السارد، وهو الكاتب نفسه، قد تجول بنا في ثنايا نصّ، مشبع بروح العمل الروائي؛ فهناك "خيط" روائي متين، يصل بين الأحداث والمشاهد، وينسق بينها، ويضبط إيقاعاتها، بما جعلها تعبر عن مدرسة فكريّة، عميقة الأهداف والرؤى، في مواجهة ظاهرة الطلاق؛ التي هي بحد ذاتها آفة اجتماعية موجعة ومريبة.

ولعلّ جماليّات النص تكمن في قدرة البطل الرئيس (جمانة) على إدارة الحوارات مع الوسطاء؛ بعزة نفس، وشموخ، وتميّز في الإقناع، ووضوح في الطرح، متكئة على الرصيد المعرفي والثقافي الذي امتلكته من خلال المستوى الأكاديمي البكالوريوس الذي وصلته، وهذا الشهادة نفسها التي كانت السلاح الفعلي المدافع عنها عندما حلت نائبة الطلاق، إذ انطلقت فورًا إلى الجامعة، للشروع في برنامج الماجستير. وفي نفس الوقت حفظت لطليقها كرامته الخاصة وحقه في مقابلة ابنه والتمتع به، دون التنازل عن حضانتها.

كما تمكن السارد من توزيع الأدوار، ضبط إيقاع الأحداث، وصولا إلى مجتمع نسويّ واعٍ، لمجموعة من الفتيات اللاتي وظفن إمكاناتهنّ المعرفية والثقافية، وفهم دورهن في مجتمعهنّ، بما لهنّ من حقوق انتزعنها بقوة واقتدار وخلق رفيع، وما عليهنّ من واجبات أدّينها نحو مستحقيها عن طيب خاطر، وصولا إلى نهايات سعيدة متزامنة لهنّ جميعا.

بقي القول، إنه من الأهمية بمكان أن تصل هذه الرواية للأسرة الفلسطينية، قدر الاستطاعة، وأن تصل لكل مكتبة مدرسية وجامعيّة؛ لتمكين الطالبات، من مختلف الأعمار، من مطالعتها، لما يعتمرها من تشجيع على مواصلة الفتاة لتعليمها، والاقتداء بالسلوكيات والتصرفات الإيجابية لشخصيات الرواية، والتعرف على نهايات الشرير/ة، مهما علا صوته/ا وهو يشوه خصومه ويدعي عليهم ادعاءات باطلة. 

فلسطين، بيت لحم، العبيدية

06 كانون الأول، 2020م

 

[1] المرّي، نوره (2008). البنية السردية في الرواية السعودية. رسالة دكتوراة غير منشورة. جامعة أم القرى. المملكة العربية السعودية. ص: 2؛ وزيتوني، لطيف (2002). معجم مصطلحات نقد الرواية. ط1. مكتبة لبنان/ ناشرون. بيروت، لبنان. ص: 98-99.

rasa906.jpg

 

rrafggg906.jpg

عزيز العصا

حسام زهدي شاهين؛ هو الأسير الفلسطينيّ الكاتب، أو الكاتب الفلسطينيّ الأسير، لم يترك للسجّان ولا للسجن فرصة الوصول لإحباط كينونته الوطنية والفكرية والفلسفية، أو العبث فيها. فقد بقي حرّا طليقًا يتجول على أرض وطنه الحبيب، الذي ضحى بعمره وشبابه دفاعًا عنه، وهو يصطفّ إلى جانب عظماء شعبه من الأسرى الأبطال الذين سطروا، فرادى ومجموعات، أسمى آيات البطولة والفداء؛ إذ حوّلوا الأسْر إلى جامعة، بل أم الجامعات، عندما طوّروا أنفسهم واصطفوا في طوابير العلم، يقوم كل منهم بدور المعلّم والمتعلم، وصولًا إلى أعلى الشهادات والمراتب العلمية التي يصلها غيرهم ممن هم خارج الأسّر.

هذه هي الوجبة الفكرية "الدسمة" الثانية التي يدعوني عليها الأسير "حسام شاهين"، وهو يفكر، ويتفلسف ويكتب سيرته؛ فقد كانت الوجبة الأولى روايته "زغرودة الفنجان"، التي لا تزال تفعل فعلها في وجداني السياسي والأمني والاجتماعي كلما تذكرتُ مقاطعها ومشاهدها وما فيها من تفاصيل. وكم كانت الرواية، بالرغم من أنها باكورة إنتاجه الأول وبدايات تجربته الروائية، ذات أثر في قارئها! فما بالك عندما يكبر الكاتب خمس سنوات وتكبر معه تجربته ويتجلى نضجه الكتابيّ على الورق!

فقد تواصلت معي "نسيم" الشابّة اليافعة التي نذرت نفسها لمتابعة شقيقها "حسام"، وتلمّس حاجاته واحتياجاته، للحد الذي يجعله لا يرى قضبان السجن ولا جدرانه الصلبة ولا أسيجته المتعددة المراحل؛ فهي تحرص كل الحرص على أن تمسك بيد حسام وتتجول معه في شوارع الوطن وأزقته، وترسم له بالكلمات ابتسامات أطفال فلسطين وعكازات شيوخها. نسيم من ذلك الصنف النخبوي من أبناء فلسطين وبناتها الذين يشيعون الأمل في جنبات الزمان والمكان، مهما اشتدت ظلمة الليل وحلكته.

لنعود إلى جديد حسام الأدبيّ، إنه "رسائل إلى قمر"؛ وقمر هذه هي آخر طفلة عاش معها وعايشها قبل اعتقاله. وهي ابنه صديقه ورفيق دربه الكفاحيّ، وقد دأب حسام على الكتابة إلى قمرـــــالطفلة، بلغة الكبار لا بلغة الصغار؛ وكأنني ألمح في ذلك أن حسامًا صاحب بصر وبصيرة تعانق السحاب؛ طموحاً ونظرة للحياة.

كما هو حال أي ناقد أدبي، وجدتُني اتوقف عند الغلاف، واتفقد سيميائياته المختلفة، التي تبدأ بإضافة "شظايا سيرة" كعنوان فرعي مساند للعنوان العريض، وكأن "حسام" ينبئ القارئ عن خبايا وخفايا بين السطور تشي بالسيرة الذاتية لهذا الأسير الذي اعتقل عام 2004؛ في أوج انتفاضة الأقصى التي اجتاحت فلسطين، وأربكت الشرق الأوسط بأكمله، وهو طالب جامعي وقائد ميداني ومقاتل صلب، صمم لنفسه دور حامي مجتمعه، والحريص على أبنائه وبناته، والمقاتل دفاعًا عنه.

ثم تأتي السيمياء التي لا بد منها؛ وهي ما يشير إلى السجن من خلال القضبان التي يقبض عليها الأسير بقوة واقتدار وعنفوان وتحدٍ للاحتلال وباستيلاته. ولم يغادرنا الغلاف قبل أن يوحي للقارئ، ويؤكد له، أن الرسائل إلى "حبيبته قمر" وإلى أبناء جيلها، ليست أوامر وتعليمات ذات قدسيّة لا يجوز محاكمتها أو القفز عنها، وإنما جعل "حسام" حرية الاختيار والانتقاء هاديًا ودليلًا للأجيال القادمة، لا يجوز التنازل عنه أو العبث فيه؛ إذ يقول لقمر (وجيلها): خذي منها ما يحلو لك، وأتركي الباقي لمن يريد!

أما النصوص أو السرديّات، أو الرسائل فهي (57) نصَّا تتوزع على (221) صفحة من القطع المتوسط، لكل منها عنوانها المستقل وكينونتها الكاملة؛ غير المتواصلة مع غيرها، إلا بقدر ما من توظيف بعض الأحداث. كما أن الكاتب اجتهد في توزيع نصوصه هذه على (7) محطات. وفي كل عنوان من تلك العناوين تجد أن هناك سرًّا كامنًا خلفه، بدءًا بـ "مدخل"، إذ يدعو فيه "حسام" إلى الانفتاح، ويرفض تقييد العقل الذي لم يصيغه الإنسان لنفسه. ولم يفته أن يوضح بأن ذلك لا يعني تغييب الضوابط الإنسانية والأخلاقية التي تنظم علاقة الإنسان بمحيطه الاجتماعي. وعندما تلج إلى المحتوى، وبعد الإهداء إلى أمه وإلى "قمر" وشقيقته "نسيم"، نجد أن الكاتب المقدسي محمود شقير، بفتح هذه الرسائل بالتعريف بالكتاب، ويبوح عن بعض أسراره وخفاياه، دون أن يتجاوز الكاتب والحديث عنه وعن فلسفته في الحياة.

يستهلّ الكاتب المحطة الأولى من رسائله بنصّ يحمل عنوان "الرسالة في حياة الأسير". وهنا، توقفتُ معمقًا، لما وجدتُه في هذه السرديّة من عمق في التحليل وتجليات في الفكر والفلسفة وعلم النفس الاجتماعي. فقد كانت الرسالة، عبر التاريخ، ذات أثر بالغ في وسائل التواصل، وهي التي كانت تحرك الجيوش وتشعل الحروب أو تخمدها. وتكمن ذروتها في "الرسالات" السماوية الثلاث بين الخالق والبشر.

أما بالنسبة للأسير، فللرسالة ذات أهمية قصوى لما تحمله من مضامين فكرية وإنسانية. وأنها تلعب دورًا ثلاثيّ الأبعاد في حياة الأسرى؛ فهي لا تقتصر على نقل الأخبار بين المرسل والمستقبل، وإنما توفر الإحساس بالاستمرارية بينهما، وهي كما يقول حسام: البيت المعنوي الذي يعيش فيه الأسير، وفي الرسالة كل ما في الحياة، مضافًا إليها فانتازيا الحياة والرومانسيّة، وفيها علاج روحيّ تساعد الأسير على تخطي التوترات التي تعتريه في عزلته، وهي بناء وجدانيّ إنساني يتم تشييده بالكلمات. ويذكرّنا "حسام" بأحد أنواع الرسائل وهي "الكبسولة" التي تنقل بسريّة تامة لأهميتها القصوى ولسرية محتواها. ومما يدلّل على أهمية رسائل الأسرى ودورها في رفع معنوياتهم وصمودهم، ما يقوم به الاحتلال-السجّان من بحث وتقصٍّ عنها من أجل الوصول لها والعبث فيها وسبر غورها، لعله يجد فيها خيطًا يقود إلى التعرف على كنه الأسير وميوله واتجاهاته وطرائق تفكيره، ومدى ارتباطه بمجتمعه وأسرته.

وأما العناوين الأخرى، في هذه المحطة، فلكل عنوان دلالاته وسيميائياته التي تشي بنصّ هادف مشبع بالفكر والفلسفة والرأي الراجح. ففي نص "أدوات"، نجد الفانتازيا ذات الرمزيات والدلالات التي وظفها الكاتب وجعل لكل أداة منها دورها في الحياة؛ مثل: "سباط" صديق الطبيعة، وهو الذي يحمي قدم الإنسان من الكدمات والإصابة وله عديد من الأصدقاء والصديقات داخل الوطن وخارجه. و"طبيعة" تحافظ على توازن البيئة وتحميها، و"كوارث" هي عدو لكل شيء و"نسمة" التي تدرس العلوم السياسية في جامعة القدس. يؤنسن "حسام" هذه الأدوات ويجري حوارات بينها، يمرر من خلالها أفكاره ورؤاه في عديد من القضايا، كحقوق المرأة والبيئة، والمفاهيم الخاصة بالوطن والانتماء له والتضحية من أجله.

وتحت عنوان "خارج السياق" يصف "حسام" حالة خلافية بينه وبين "سبتي" أحد زملائه، يمر من خلالها حكمة جميلة "الانغماس في حب "الأنا"" يحررها من احتياجات "النحن""، ويستمر في معالجة هذا الخلاف تحت عنوان "انتقاص الكلام" الذي تبين من فحواه أن "سبتي" غاضب مما جاء في أدوات لا سيما "سياط"، مما أدى إلى إيقاف الاستمرار في مشروع "أدوات" ليعلن الكائن عن التوقف، قائلاً: "الفكرة لم تمت لكن الإلهام مات: الإلهام هو روح الفكرة".

ثم ينطلق في عناوين: "باكوره حلم"، و"شظايا"، و"مرحلة"، و"ذاكرة"، و"محاولة"، و"غضب"، و"مكاشفة". وفي كل منها نجد الكاتب وقد أعاد محاكمة عديد من المفاهيم والمصطلحات وأعاد تعريفها والتوقف عندها، كالزمن، وتوارث القيم بين الأجيال، والصبر عند الغضب، وعلاقة الأسير بجدران السجن التي يواجهها بالأمل ويقتل وحش اليأس، ويرى في الذاكرة رصيد تجربة الماضي.

ويستهل المحطّة الثانية بنص "أبو الوطنية الفلسطينية" ليدخل في استذكار علاقته، وهو طالب، بياسر عرفات في الذكرى التاسعة لرحيله، الذي كان يبدي اهتمامًا مباشرًا بالواقع الطلابي، ويورد حادثة طريفة تتعلق بآخر انتخابات طلابية شارك فيها. وفي نص "أفكار" يعالج أزمة "القيل والقال" التي تفتك بالمجتمع وفي "وسيلة وهدف" يتحدث عن علاقة الإنسان بوطنه. مؤكداً أن خيانة الوطن انطلاقاً من فكرة الاغتراب، قد تؤدي إلى خيانته من حيث المبدأ، وأن المحتلين عاجزون عن رؤية الرابطة السرية التي تجمع الإنسان بوطنه.

وتتوالى العناوين في المحطات الأخرى. ففي المحطة الثالثة يبدأ، بـ "أدوات أخرى" و"الكتاب"، ففي الأولى يتناول الفأس واستخدامها بوجهين: البناء والتخريب، وفي الثاني يوجه حبيبته قمر بأن تكون متعددة الثقافة والمعرفة، وما يعنيه من انفتاح على الثقافات والمعارف والابتعاد عن التعصب. وفي نص "ذلك البنطال" يرى في الأم مثال لا يعلو عليه أيّ مثال، ويستشهد بحنين الشاعر محمود درويش إلى خبز أمه. وفي العنوان التالي "أين البلد من شباب البلد" يتطرق إلى قضايا الهوية الوطنية والولاء للوطن والانتماء للمكان. ويختم "حسام" هذه المحطة بنص "أيتها الأم" مستشهدًا بـِ "أم لؤي" التي لم تفرح للأفراج عند ابنها، وهي في خيمة الاعتصام محاطة بعشرات أمهات الأسرى.

وفي المحطة الرابعة تأخذ المرأة نصيب الأسد في النصوص، بدءًا بنص "امرأة بألف رجل"، يليها "مناضلة من القدس"، ثم "نجمة في سمائنا" (ويقصد سهى بشارة تلك النجمة القومية المضيئة في سماء أمتنا العربية). "ويستمر في هذه العناوين الجاذبة وصولاً إلى "التحدي والاستجابة" و"الحرية والتمرد".

أما المحطة الخامسة فنبدأ بـ "أحلام ــــــ حرية ــــ أحلام" وصولًا إلى "امرأة على جبل أحد"، يليها "الدكتورة منى الششنية" من قطاعنا الحبيب، التي يصفها "الزيتونة الصابر" التي أثبتت للقاضي والداني قدرة المرأة الفلسطينية على تحمل الأعباء.

وفي المحطة السادسة يبدأ حسام بـ "كاترينا وأنا وثالثنا الشيطان"؛ المرأة النرويجية المثقفة التي رفعت راية فلسطين، ثم يستحضر "سلوى هديب" المناضلة المقدسية الأسيرة التي صمدت في وجه المحقق وخاضت معركة إضراب عن الطعام عام 1985. وينهي هذه المحطة بـ "اشبينة فلسطين"؛ وهي المناضلة الإيطالية التي اصطفت إلى جانب الشعب الفلسطيني وساندت قضيته، واتهمت بـ "معاداة السامية".

وأما المحطة السابعة والأخيرة، فتضم ثلاثة عناوين نسوية كاملة، بدءًا بـ "وزارة خارجية بلا وزارة"؛ ويشير فيها إلى المناضلة "فدوى البرغوثي" التي طافت العالم وهي تدافع عن قضية شعبها ورسالة زوجها النضالية، ثم "الجدّة نجلة حارسة الأحلام"، وهي نجلة بواري ــــ دانيال الحيفاوية (مولودة عام 1927) التي عشقت البحر، ثم اكتوت بالنكبة، ومن شدة الألم أجهضت ثماني مرات، لينتهي أمرها بسباعية جميلة: ثلاث بنات وأربعة صبيان. عاشت نجلة الغربة والاغتراب وعذابات الفقد، وفي عام 1982 زارها شقيقها يوسف العجوز وابنه فردّا لها الروح.

ويختم حسام نصوصه بـ "اخجل من دمع أمّي"؛ يكثّف فيها حكايته مع أمه آمنة" إلا أنها لم تعش الأمن بقدر ما كانت تمنحه. ثم يغوص في تفاصيل أمه ليستقر عند وصف مشاعرها عندما كان يتعرض للاختطاف من حضنها الدافئ على يد قوات الاحتلال.. ويغادر هذا النص، بل كتابه بأكمله، بقوله "إن قلب الأم كالفضاء؛ لا يعرف حدوده ومكنوناته إلا الله"!

مسك الختام مع حسام،،

لقد تجولنا مع حسام-الأسير، دون أن نراه خلف القضبان، بل جعل القضبان خلفه، فتجول مع مجتمعه، وتلمّس قضايا شعبه، ووثق للمناضلين والمناضلات، وتوجه للأجيال القادمة؛ ناصحُا أمينًا وحكيمًا يضع خلاصة تجربته لتلك الأجيال، التي يرى فيها الأمل بمستقبل مشرق. ولاحظنا في هذه النصوص أن حسامًا لم يعقّم الحالة في السجن، ويجعلها فوق الخلاف والاختلاف، وإنما أشار إلى حالة خلافية كبيرة أجهضت مشروعًا فكريًّا، عالجها "حسام" بنضج الإنسان الحريص على وحدة الأسرى وتماسكهم في وجه السجن والسجّان.

إذا قلنا بأن الطفولة أخذت نصيبها في نصوص "حسام" باعتبارها موجهة إلى قمر-الطفلة وجيلها، فإن المرأة أخذت نصيب الأسد في هذه النصوص، التي ظهر دورها وأثرها في جميع المحطات؛ فظهرت المناضلة، والأسيرة، والمكتوية بالنكبة، وظهرت الأجنبية صديقة الشعب الفلسطيني، وأما المظلة فوق هذا كله فكانت الأمّ التي لامست القدسية في نصوص حسام هذه.

من هنا، فإنني أرى بضرورة نشر هذا الكتاب في مدارسنا، ليقرأ طلبتنا منه مقتطفات يومية قادمة من أسير خلف القضبان، يقفز عن جدران السجن ليبث الأمل فينا، ويرسم ملامح مستقبل الأجيال القامة المشبع بالحرية والقدرة على اتخاذ القرار والتعبير عن الذات، دون خوف أو وجل!

المزيد من المقالات...