مساقات

قال صديقي التراثيُّ الحداثيُّ (ابن أبي الآفاق):

- اعلم، علَّمك الله، أنَّ من عيوب علم النحو العربيِّ القديم، إبَّان عصور العُجمة والانحطاط الحضاري- وإنْ كابرَ (أبو جهل) و(أُميَّة بن خلف)، ممَّن لم يعتادوا النقد، بل اعتادوا "اعْلُ هُبَل!"-: تشقيقاتٌ مسرفةٌ في صغائر، ما أنزل الله بها من سلطان. متونٌ تتلوها حواشٍ، وحواشٍ على الحواشي!

- أضف إلى ذلك فرضيَّات فارغة. ولا معنى لفرضيَّةٍ من وجهةٍ عِلميَّةٍ جادَّةٍ، ما لم تكن محتمَلة الوقوع. تراهم كثيرًا ما يفترضون ما لا يخطر على ذهن العَرَبيِّ استعماله أصلًا. مثل منعهم الجمع بين التعريف والإضافة، قالوا: كأنْ يقال، ولن يقال: "الغُلامي"!

- بهذا وأشباهه يحشون كتبهم! وهو ما لن يقوله عربيٌّ إلى يوم الدِّين!  

- فلماذا ينشغلون بهذه التوافه ويشغلون الناس؟

- يبدو- إنْ أُحسِن الظنُّ بهذه "الحركات"- لأنَّ معظم النُّحاة أعاجم، وهو يؤلِّفون لمجتمع فيه أعاجم، فمن المحتمَل أن يكون لفرضيَّاتهم الغريبة تلك ورودٌ بينهم.

- بل يبدو أيضًا أنَّ النحو كان قد تحوَّل، ولا سيما في القرون المتأخِّرة، إلى تجارةٍ، وحِرفةٍ مِن استعراض العضلات النحويَّة والمنطقيَّة والتعالم اللغوي.

- صدقتَ. فـ(ابن هشام، عبدالله بن جمال الدِّين الأنصاري، -761هـ= 1360م)، مثلًا، يؤلِّف في النحو مَتْنًا سمَّاه: "شذور الذهب"، والعنوان نفسه دالٌّ على ما وَقَرَ في ذهن صاحبه من نزوعٍ إلى إضفاء هالةٍ تجاريَّةٍ تسويقيَّةٍ على منتَجه!

- على أنك ستجده مَتْنًا لا يخلو من تعمية.

- وربما بدت متعمَّدة، وكأنه يؤلِّف نظريَّةً غيبيَّة، من تلكم التي انتشر وباؤها في القرون الوسطى الإسلاميَّة، قرون العجائب والغرائب والشعبذات، حتى لتَلحظ فيه أحيانًا التقديم والتأخير بلا مسوِّغ.

- قف بنا، نبكِ أو نضحك، من ذكرى شذرةٍ من شذوره!

- وما أكثرها! خُذْ، عافاك الله، قوله في باب (المعرفة: المحلَّى بأل)، مثلًا: "ويجب ثبوتها [أل التعريف] في فاعلَي نِعْمَ وبئس المظهَرَين، نحو: "نِعْمَ العَبْدُ"، و"بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ"، "فنِعمَ ابنُ أُخت القَوم"، فأمَّا المضمَر فمُستترٌ مفسَّرٌ بتمييز، نحو: "نِعم امْرَأً هَرِمٌ"، ومنه: "فَنِعِمَّا هِيَ"، وفي نعتَي الإشارة مطلَقًا وأيُّ في النِّداء، نحو: "يا أَيُّها الإِنْسانُ"، ونحو: "ما لِهذا الكِتابِ"، وقد يقال: يا أيهذا." فلعلَّ سائلًا يسأل هنا: ما الذي جعل ابن هشام يقدِّم مثال نعت (أيّ) على مثال نعت الإشارة، بخلاف ترتيب كلامه عنهما من قبل، ثمَّ يعود إلى (أيّ) مرةً أخرى؟

- لِمَ هذه الرقصة الغريبة، إنْ كان يريد تسلسل المعلومات في ذهن الطالب؟! أ هو اضطرابٌ في التأليف؟

- لا أظنُّ. إنَّ النحو عِلم التركيب والتأليف في أدقِّ صُوَره. بل قل: كأنَّما ليدوِّخ القارئ؛ كي تحتاج دوختُه إليه في الشرح، وإلَّا لفقدَ مهمَّته ووظيفته!

- حرامٌ عليك!

- لا تستغرب! فهكذا كانوا يفعلون، لو استقرأتَ نهجهم بعيدًا عن التبجيل المتوارث والحصانات الممنوحة جزافًا. إنَّ ابن هشام، على سبيل النموذج، كان يبتدع مَتْنًا ملتبسًا، عويصًا على الفهم؛ وكأنَّه وحيٌ تنزَّل عليه من السماء، "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ"، ولله المثل الأعلى؛ لكي يُتحِف القارئ بعد ذلك بشرحه الكريم وتفسيره لمغازي ملغزاته، في عمله الآخر "شرح شذور الذهب".

- وما لمَتْنِه سِوَى شرحه؟!

- وبهذا فمَن لم يستطع منهم النَّظْم في أرجوزةٍ ألفيَّةٍ، كـ(ابن مالك)، فليَنْظِم لعباد الله طلاسمَ نثريَّة، كابن هشام، ما كان يقتضي غموضَها لا المعنى ولا المبنى، بمقدار ما هو نزوع التحذلق، والقصد إلى الإلغاز، والإيهام بخطورة الموضوعات، في عِلْمٍ لا يُشَقُّ له غُبار. والضحيَّة، عبر العصور، لغتنا العربيَّة الجميلة وطلبتها التعساء.

- كيف لا، وصاحبنا يقدم لفقراء خلق الله "شذورًا من الذهب"؟!

- مع أنَّ شذوره قد صارت من أيسر كتب التراث لطلبة النحو في الجامعات، ما زال يقرَّر كتابه على طلبة العربيَّة منذ ألَّفَه، وربما إلى يوم يُبعَث من قبره.

- لهذا تولَّى ابن هشام بنفسه شرح نفسه، لإيضاح ما تولَّى كِبره من "الشذور"، تحت عنوان "شرح شذور الذهب

- نعم.. وما هذا المدار البعيد والنجعة الشاقَّة إلا إمعانًا في شغل نفسه والناس ببضاعته الذهبيَّة! والحقُّ أنَّه لولا هذا لما وجدَ له عملًا أفضل، ولما حقَّق صيته التاريخيَّ العريض.

- إنها لعبة تأليفية قديمة، إذن، حسب رأيك؟

- ولقد جنى بها هؤلاء وتلاميذهم على اللغة العربيَّة وأبنائها، حتى لقد جعلوا النحو يبدو عِلمًا طلسميًّا، لدُنِّـيًّا، مضنونًا به على غير أهله. بل لا قِبل لأحدٍ به، إلَّا من أوتي بسطة في العِلْم والذهن والفراغ.

- وإنْ اتَّهم الناسُ، منذ القدم، بعض المشتغلين بهذا الضرب من النحو بأنه قد أورثهم الحمق!

- تلك مسألةٌ أخرى. لكنَّ السؤال المُلِحَّ هنا: متى تصحو العربيَّة من هذه التركة الثقيلة، فتنفض عن النحو العربيِّ متراكمه عبر عصور الانحطاط، ولا سيما منذ القرن الخامس الهجري؟!

- أي منذ بدأ الفراغ يوهم صاحبه بالامتلاء، والضعف يحمل صاحبه على ادِّعاء القوَّة، والموبقات تدعو العاجز إلى ادِّعاء العظمة.

- تقريبًا. حتى إنَّ أحد أعلام تلك العصور ليُضفي على نفسه ما لا تضفيه الأُمُّ المقلات على وحيدها من النعوت المستحيلة، كأنْ يقول (الشيخ محيي الدِّين بن عربي، -638هـ)، عن نفسه: "قال الشيخ الإمام، العالم الكامل، المحقِّق المتبحِّر، محيي الدِّين، شرف الإسلام، لسان الحقائق، علَّامة العالم، قدوة الأكابر، ومحلُّ الأوامر، أُعجوبة الدهر، وفريدة العصر... إلخ. إلخ. إلخ"!

- لكن هذا كان طابع تلك القرون من التعاظم.

- وذاك بيت الداء. فيا ليت شِعري، ماذا سيقول المرء بعد هذه الديباجة؟ وماذا سيفعل مَن يعتقد في نفسه كل هذه النعوت؟!

- وإذا كان هذا شأن المتصوِّف في النظر إلى نفسه، مع أن منهاجه المفترض التزهُّد والتواضع، فكيف بمن منهاجه التكبُّر والتعالي؟ لكن ربما قيل: إنَّ مثل هذا من نسج النسَّاخ، لا من عند المؤلِّف.

- ربما. ولئن صح هذا- وهو ما لا برهان عليه، ولم تذهب إليه (د. سعاد الحكيم)، محقِّقة كتابه "الإسرا إلى المقام الأسرى أو كتاب المعراج"- فما يعنينا هنا إدراك أن هذا كان ديدن تلك العصور، بأعلامها، وعلمائها، وعلومها. ولا غرو أن نجد آثاره ظاهرةً على المؤلَّفات والمناهج، في شتَّى الفنون، ممَّا خلَّفتْه لنا تلك القرون من تركة. وهي تركةُ- على حدِّ قول (المزرِّد الغطفاني)-: "دُلامِصَةٌ تَرْفَضُّ عنها الجَنادلُ"! ولا يزال لجنادلها روَّادها ومنافحوها.

إني أرى الشاعر في شاعرية عرضها كعرض الذات التي تسع ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، من الصور والرؤى والأحلام التي أصلها من الأنا الفوار، ومرجعها إليه، في لحظة دافقة بالحياة، رائقة في الوجود، معرقة في الخيال، مغرقة في الجمال، لائطة بالأسحار، موزونة بالأوتار، موصولة بالأسرار، لا ترقى إلى الأسمى إلا لتبقى فيه أمدا من الشعور، وحيزا من الانفعال، فإذا هبطت منه في انقشاع الحلم عن الواجهة الأخرى التي لا تنفك تلوح بما فيها من الثقل والسواد، فإذا هبطت منه مقهورة محسورة، عادت في تمردها، وثورانها، وطيرانها إليه وهي في أبهى صورها، وأزكى ذِكرها، وأحلى عبرها، وأغلى سيرها، لتفصح عن الذي فيها من السمو إلى الأعالي، والدنو من العلالي، في مدد لا يقل، وعزم لا يكل، وهل يرتد الشعراء عن الذي عزموا من الإرادة؟ وهل يترك الشاعر ما نواه في محرابه من مواسم العبادة؟ إني أراه وهو يسير في طريقه إلى ما يُسر له من سماوة القمم، ونقاوة الهمم، أراه يعود حينا بعد حين إلى صباه، ومبتدا هواه، لعله يجد فيه ما رآه في أول احتكاكه بالوجود من اللمحة الشاعرة، والوثبة الغامرة، في ورد من الهبات الدرية، والصلات البدرية. أليس الشاعر ، ولو اشتد عوده، طفلا لا يفارق صباه إلا ليعود إليه، في عناق لا يتخلف عن موعده، ولا يرتد عن وعده؟ أليس الصبا هو معقد الآمال والأحلام، حتى إذا ولى بدا ما هو واقع من الأحوال الضيقة حقيقة ترخي بسدولها، وتبغي ديمومة في المكان والزمان؟ غير أن الإنسان في ثباته وهيامه بالحركة لا يرضى بهذا الواقع الذي يضرب بجذوره في المأساة بعنفوانها فيه، فلا سبيل فيما يخيل للنزعة الانهزامية إلى الخلاص أو الفكاك. غير أن الإنسان الشاعر، وهو يقبل من عالم الرؤى والأحلام، لا يرضى بأن يكون كما هو في الواقع، أو كما أريد له أن يكون فيه محسورا مدحورا، ولكنه يتطلع في توفز هو مالكه، والقائم فيه والمقيم عليه، إلى ما أراده، بل إلى ما أريد له من الانسياب في العالم العلوي الذي هو عالم الشعور في غليانه وثورانه، واحتدامه بالصورالمونقات، واحتدامه بالفكَر المورقات، فلا مجال إذن للانحسار والارتداد في لحظة

هي لحظة وهي الحياة ومن يعش=من بعدها يجد الحياة فضولا (1)

فانظروا بعد هذا الذي ذكرناه من الإشارة والعبارة إلى المجموعة الشعرية التي كتبها الشاعر أحمد القاطي بعصبه في جولة من الطرب، ودورة من العجب، فهي ترجمان ذاته، ومفتاح صفاته، ومغلاق ما كان من لحظاته العسيرة، داخل تجربته الوفيرة، فلما استوت هذه التجربة قولا من القول، وأداء من الأداء، وفنا من الفن، تم له من الامتداد في الزمن الشعري ما مكنه من الوقوف بحاله التي لا تبلى، ولوامعه التي تُملى في جوانية هو مدركها بالبصيرة الرهيفة. أليس هو الشاعر الذي عرفته ذكيا في أشعاره، بهيا في أسطاره، رضيا بأوتاره، سخيا في قراءاته وأذكاره؟ أليس هو الشاعرالذي أدرك تازة بما فيه من جليل الهبات، وجميل الصفات، من قبل أن تدركه هي بما فيها من الحب الوريف، والظل الرهيف، والحكي الطريف؟ لقد كان أحمد القاطي، وعرفته في مهرجانات الشعر والأغنية التي انعقدت الأيدي عليها في تازة الفيحاء في مرحلة من مراحل هذا الوطن الشامخ، لقد كان مع أخذه من الشعر بوفرة هي له، إنسانا يملك من معاني الإنسانية ما مكن له في الأصل الأصيل من القدرة على العطاء الأغر الأروع. ألا وإن أهم ما ينبغي أن يكون عليه الشاعر، أي شاعر بلغ منه حب الشعر الشغاف والسويداء، هو تغلغله في الإنسانية، وتغلغل الإنسانية فيه، فإذا هو قادر مقتدر على أن يبلغ من الشاعرية حبتها ومهجتها، ويدرك قلبها ولبها، فإذا هو هي، وإذا هي هو.أما بعد، فإن هذه المجموعة، وقرأتها، شاهد على إنسانية الشاعر أحمد القاطي الذي أحب الجميل فلم يركن إلا له، وقدس الجليل فلم يلجأ إلا إليه. وهل في الوجود الشاعري أجمل من الجميل في ذاته، وأجل من الجليل في جوهره؟

(1) من ديوان الشاعر إبراهيم ناجي

sdgdhfsjgdh915.jpg

يعج الوسط الروائي النسوي العربي بقصص النجاح وغزارة الإنتاج والتجارب الريادية ذات الفنية العالية والتقنية المحكمة والرؤية الحداثية للأدب والمجتمع والذات وقضايا المرأة وغيرها الكثير من القضايا، منها ما كان منارة وفتحا وتجديدا يشكل ملامح الفن الروائي برمته لكلا الجنسين بانطوائه على هضم أكثر من جنس في خلاياه العصبية كجنس الشعر والسيرة، وبالطبع تمثل هذا النوع من التجديد الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، وقد كانت وما زالت روايات مستغانمي أيقونة الرواية النسوية العربية ومحط اهتمام النقاد والدارسين، التي وصفت بأنها قصائد نثرية، فكانت الخطاب الشعري الحكائي، بتأثير لغتها الشعرية الرشيقة العذبة المغرية الموحية الشهية الأنثوية، وهناك تجارب روائية فذة رفدت المشهد الثقافي عامة والمشهد الروائي خاصة بسحابة الحرية الشاهقة التي أمطرت تحررا من انعتاق العبودية والسلبية للإنسان قبل المرأة، حينما اعتنقت مذهب الحرية وأجادت توظيف مسرحها التخييلي في قالب درامي يمتص آفات المجتمع ويعيد تصنيعها وتدويرها وإطلاقها كأشعة ليزر تذيب ما وراء أدمة الظاهر من خبائث، زارعة غرس الحب والحرية، ورائدة هذه التجربة في العالم العربي هي غادة السمان، الروائية التي وثقت للحرب الأهلية في لبنان دون أن تفقد البوصلة في المعالجة مثل غيرها ممن كان أدبهم توثيقيا لمشاهد عنصرية حمّلت الذاكرة العربية المشوهة المكوية المعذبة عبئا قوميا ودينيا فوق عبئها، فرسخت للآخر العربي صورة في ذهن أخيه العربي لا يمكن أن توصل إلا لدائرة الحرب الأهلية ذاتها، معززة خطاب الكراهية وثقافة الإرهاب، بينما كان أدب السمان مختلفا في المعالجة، فكان نتاجها وقفة مع قضايا وجودية كالحرب والطبقية والعنف والاختلاف والعنصرية، تلك الوقفة المعالجة لها كلها والتي توجه القارئ إلى الحلول، وخيط درب الانعتاق، وهو الحب والثورة والعلم؛ لأنها سبل الحياة باختصار ولا تتحقق الحرية مطلب السمان الأهم إلا بها.

لم تكن السمان فقط صاحبة مذهب واضح وراسخ وذكي المعالجة وواع فحسب، بل كانت من الأدبيات اللاتي حفرن بتجربتهن التجديد في الأدب حيث امتطين الكلمة ولم يجعلن لهن حدودا داخل أسوار تقنية معينة، إن الحديث عن تجربة السمان الروائية يحتاج إلى أبحاث مطولة؛ فهي غنية الإنتاج ورائدة في التجديد الذي شكل هذا الفن وأسسه، وما كتب عنها في الصحف والمجلات أكثر من أن يحصى، وقد صدر كتاب:" غادة السمان ـ رؤية نقدية تأملية" من تأليف: سمر رسلان نشرته دار رسلان في دمشق عام 2000، تناولت فيه عرضا لأهم آراء النقاد الذين حاولوا أن يدرسوا أعمالها غير الكاملة في كتب مستقلة كالدكتور شكري غالي وعبدالعزيز شبيل وعبد اللطيف الأرناؤوط. ويكفي للتمثيل على ذلك رواية كوابيس بيروت التي قولبتها بتقنية ثنائية الكابوس والحلم لإظهار ثنائيات متقابلة تحمل على عاتقها الصراع الدائر على الأرض وفي الذهن وفي النفس، ومع أن نسبة الكوابيس كانت ٩٩بالمئة بالنسبة للحلم الوحيد، في ثنائية الانزلاق والارتقاء، إلا أنها شكلت ثنائية معه وأعطت توازنا بالرؤية بين الواقع المؤلم المريع وبين سلم النجاة الذي ترشد إليه الكاتبة في النهاية، وهو الثورة لنيل الحرية، والحب لنيل الحياة، إننا ندرس الكوابيس من زاوية بنيوية قائمة على الثنائيات؛ لأنها فعليا هي القالب الذي حمل البناء الروائي وشكل أطره وصنع فضاءه، أو هي الأساسات إن صح التعبير، وعلى هذه الثنائية شكلت السمان ثنائيات الصراع[1].

التجربة الروائية النسوية العربية كان لها رائداتها اللاتي أسسن لها بتجربتهن الغنية وموهبتهن الأصيلة، فمستغانمي بلغتها والسمان باختياراتها الجريئة والدقيقة الخادمة للحدث والحبكة، فلا حشو ولا استفاضة ولا لغو وكل شيء عندها في مقدار ورشاقة وإتقان، وسحر خليفة بإتقانها للتقنيات الروائية، حفرن جميعهن مع غيرهن أسماءهن بماء ذهبي في الرواية النسوية حتى أصبحن مرجعا تأصيليا لها..

تأتي هذه المقدمة الطويلة بشكل ليس عرضي، بل لإلقاء الضوء على تجربة روائية تعد عالمية وغريبة، استوقفتني، وهي تجربة رجاء الصانع كاتبة رواية "بنات الرياض"، وهي الرواية اليتيمة لها، وهو أمر يستحق التوقف لمعالجة تجربة فنية وغير فنية، تجربة تستحق تسليط الضوء عليها، فقد حصدت رواية بنات الرياض نجاحا منقطع النظير، وترجمت روايتها إلى عدة لغات، وحققت أعلى نسبة مبيعات، وأثارت بلبلة وجدلا في الأوساط الفنية والثقافية والدينية في السعودية، فالرواية السعودية التي وصلت إلى العالمية نتاج حركات الترجمة لها وسعة انتشارها ونسبة مبيعاتها بتكاثف هذه العوامل استحقت لقب الروائية العالمية، نعم حصدت اللقب فعلا، لكن هل فعلا كانت روايتها عالمية فنيا؟ وهل يمكن أن يطلق لقلب روائي وفقا لإصدار واحد؟ وهل كانت روايتها مقبولة فنيا؟ الحق أنني أرى أنه من الفيد تسليط الضوء على جوانب التمكن الفني واللغوي فيها كونها الرواية الوحيدة لها والتي لاقت نجاحا لافتا، ومثلت تجربة روائية متفردة. فسأدرس رواية بنات الرياض ضمن نظرية زمن التلقي، وروائية الرواية على غرار شعرية الشعر:

تمتاز بسهولتها وانسيابيتها، وتكاد تكون فيلما عربيا تتعرى دهاليزه من شارة البدء. رواية بنات الرياض ليست سوى منصة لبث هموم وسموم مجتمع يعشق حقبة العبودية.. إنه أشبه بموقع..(مجتمع سيدات)..الشهير على منصة التواصل الاجتماعي على "الفيس بوك"؛ فالرواية ليست زمانا ومكانا وشخوصا تسرح وتمرح في فضاء معين، هي كاتبة استخدمت الراوي العليم وهو الأسهل، واستخدمت تقنية تيار الوعي، وهي مهمة جدا في توسيع مكنون الشخصيات واتجاهاتها ووظفت الاسترجاع والحلم، وشغلت الفضاء المكاني، حتى أنه بات تحليل الشخصيات هو إعادة صياغة وتكرارا الرواية ذاتها، وأوضحت العلاقة بين الراوي والشخصيات مدعية أن القصص حقيقية؛ حتى تكسب العمل الواقعية المطلوبة.

الزمان: ينقسم إلى قسمين داخل الرواية، زمان خارجي وزمان داخلي، الخارجي بدا ظاهرا في بداية كل فصل وهو زمن الكتابة، وحيث أنها كانت تكتب المتن الحكائي عبر البريد الالكتروني، فإن زمن إرسالها للجمهور هو يوم الجمعة، فيبدو أن زمن الكتابة يسبق يوم الجمعة بيوم أو أكثر، المهم أن زمن الكتابة أسبوعيا من 2005-.6وهو زمن غير روائي، أما زمن القراءة فهو زمن تلقي القارئ للنص إن كان واعيا للتأثير النفسي والإدراكي للعمل عليه، فتلقي العمل في 2006 غير تلقيه في 2020، لأن ما يجد القارئ أنه أدهشه في ذلك الوقت من مكاشفة لمجهول هو اليوم معروف ومعلوم بعد الانفتاح الإعلامي العربي، فالشمس لا تغطى بغربال...

الوصف: كثر الوصف للطبيعة وللمكان في أماكن غير الرياض وبقيت الرياض بجغرافيتها غير نابضة، اكتفت الكاتبة بوصف الشمال والجنوب والشرق وتجولت في أنحاء السعودية وقارنت بين طباع أهلها، وعقلية رجالهم، لكن الرياض بقيت بسكن طالباتها وجامعاتها وبيوتها مظلمة، وقد تكون جزئية الوصف في منزل صديقتها الشيعية هو الوصف الجلي لموجودات المكان الدالة على اعتقاد الأخيرة. وذلك له دوال: وهو أن الراوية منبهرة بالغرب وحاولت وصف الحياة المرفهة والطبيعة وأماكن التنزه والحرية التي تتحرك فيها الفتيات في البلاد الأوروبية، في المقاهي والشواطئ وأماكن العمل وأماكن الترفيه، بينما في السعودية كان تحركها في نطاق المكان محدودا بين الجامعة وصالة الأفراح وإن ذهبت إلى مطعم أو مقهى تطارد وهكذا.. وكما قلنا يدل على عدم تصالح الراوية مع المكان رغم أن الشخصيات أربعة، وأكثر، ومنهن من كن ملتزمات بتقاليد مجتمعها مثل قمرة، إلا أنها لم تكن تعبر عن الشخصية حسب انطباع الشخصية عن المكان، ولا يوجد شخصية تعلقت بالمكان، واحدة فقط وهي ميشيل بعد سلسلة أحداث كرهت المكان ورحلت عنه.

 وتجولت في المكان وبينت كيف تخترق الشخصيات المتزامنة والواقع عليها فعل التزمت المكان وتتشكل حسبه.. وأن أهمية الإنسان والمواطن الصالح تكمن في داخله، وتطرقت لقضية السنة والشيعة، والمحلي والأجنبي، والمتحولين جنسيا أو أصحاب الميول الجنسية المختلفة، وتغلغلت في سيكولوجية المرأة وعرضت قضاياها الخاصة وهواجسها وكشفت شبكة العلاقات بينها وبين المرأة وبينها وبين الرجل، لكن كل ما سبق افتقر إلى التشويق، وافتقر إلى المتعة الجمالية المتأنية من الفن؛ فالرواية فن قبل أن تكون قضية اجتماعية أو سياسية.

لن أحلل الرواية بالشكل التقليدي هنا حيث حظيت الرواية بالكثير من التناول وليس بصعب على رواية مكشوفة مثلها أن يتم تحليل شخصياتها أو تتبع زمانها أو مكانها، أو الوقوف على تقنياتها، لذا سأكتفي بالنذر القليل والإضاءة العابرة من ذاك لتجنب التكرار.

الراوي وبؤرة السرد:

مفهوم الرواية.. وعناصرها/ تعارف الدارسون على أن الرواية هي سرد نثري طويل يصف شخصيات خيالية أو واقعية وأحداثاً على شكل قصة متسلسلة، كما أنها أكبر الأجناس القصصية من حيث الحجم وتعدد الشخصيات وتنوع الأحداث، وقد ظهرت في أوروبا بوصفها جنساً أدبياً مؤثراً في القرن الثامن عشر، والرواية حكاية تعتمد السرد بما فيه من وصف وحوار وصراع بين الشخصيات وما ينطوي عليه ذلك من تأزم وجدل وتغذيه الأحداث، وإنه لتعريف يشبه تعريف الشعر بأنه كلام موزون مقفى له معنى، بمعنى أنه تقليدي ولا يكشف عن ماهيتيه الأصلية الكامنة في أداته الرئيسة وهي اللغة التي تطوع كل التقنيات وتشكلها.. وهكذا الرواية لها ماهية خاصة اللغة إحدى عناصرها بالتأكيد لكن ليس كلها، فمثلا الشعر يستطيع بجمالية وخفة ورقة لغته أن يشحن السطور والأبيات بالشاعرية التي تغني عن أي تصوير، لكن الرواية مجالها أرحب وعندها تقنيات لا بد من تفعيلها لتكون تصويرية شفافة فيها خفة ولتحقق لذة التلاقح بين الواقعي والخيالي. والأسطر القادمة ستحاول توضيح ذلك.

بالنظر إلى فطرة الناس على قص الحكايات فإن كل مخبر بحكاية هو قاص، وإن طالت فهي رواية، فهل مثلا شخصا أتى من بلاد الغربة، وأراد أن يحدث أهله عن تجربته، أو أن يكتب لهم في أي منصة فضائية إلكترونية، هل يمكن نشر أي من تلك الحكايات وجعلها رواية؟ أو قصة طويلة أو قصيرة؟ بالطبع لا، كما أنه لا يمكن تعميم التجربة المسطحة بادعاء أن كل شخصيات العمل هن صديقات الراوي، وبالتالي أي هاو له نفس طويل في الكتابة، ربما يروح ذهنه إلى قص حكايات ومغامرات رفقائه وأصدقائه، وبالطبع هذا ليس من الفن بشيء، لا ننكر بأن الفنان يشرب واقعه، لكن أن يتقيأه على الورق كما هو مع تعديل طفيف في أسماء الشخصيات وتحويل في مسار الأحداث، هذا ليس بفن، إذا عرف الفنان كيف يدمج الواقع بالخيال ويعيد تشكيله وتقديمه بشكل يجعلك فعلا كقارئ عالقا بين الواقع والخيال، بين السماء والأرض، بين شيء يشبهك وشيء مختلف عنك تطاردهما على حد سواء حينها فقط يحق له أن يكتب، عندما يتم عجون مكونات الفرد مع مكونات الجماعة وتشكيل رؤية خاصة للواقع وللمستقبل هنا تكون رواية، الرواية عملية إدراكية شعورية تقمصية فكرية، إذا الرواية قدمت نفسها على أنها واقعية، لم يكن أصحاب المذهب الواقعي أقل واقعية منها لكنهم لم يشعرونا بإلحاح بأننا نقف على أرضنا، دائما كنا نتجول مع نجيب محفوظ في أزقة مصر ومع غيره من الروائيين، لكننا كنا نشعر باللذة في اكتشاف هذا العالم، إنه أشبه بزيارتك لمكان ترفيهي أو سياحي للمرة الثانية، رفيقك في الرحلة أو الزيارة هو من ينسيك هذه المعلومة أصلا، فلا تكاد تتذكر أنك زرت المكان سابقا، ورفيقك في العمل الأدبي هو الراوي، الراوي الذي يستتر خلفه المؤلف لتشكيل الرؤى ووجهات النظر، لدرجة لا يطيق مصاحبه مرافقته؛ فهو كالرفيق المتذمر من كل شيء، ولا يوجد عنده أي مفاجآت، لقد كشفت لنا الراوية رؤيتها وبؤرتها السردية مع كل مطلع لفصل، مع اقتباساتها وإشارتها للشخصية التي سيتم تناولها في الرسالة الالكترونية على شكل عنوان، كلها عتبات تجعل النص الحكائي مسطحا مبتذلا وتقتل روح التشويق، لم يعد للقارئ دور، في البحث عن مغزى الرواية، لقد حرقت الفصول، لأن رؤية الراوية مكشوفة، وشخصيتها معروفة مألوفة، فكم من منسل يقبع خلف شاشة إلكترونية يتوارى خلف ضعفه ليتخذ من لوحة المفاتيح الناطقة بلغته ملاذا ومنفذا للظهور بصورته الحقيقية أو يمارس من خلالها أحلام اليقظة، إذا ما هي القضايا التي آمن بها الراوي؟ قضية واحدة، وهي أنه يجب أن ينتزع اللثام عن المجتمعات المغلقة وتعرف على حقيقتها، بمعنى آخر هي من الأعمال التي تتحدى وتحارب ثقافة الصمت وثقافة الخوف، شيء جميل، لكن هذه المجابهة يمكن أن يقوم بها أي ناشط اجتماعي أو مفكر أو مدرس أو أو.. كل في موقعه، وليس كل من خط بقلمه كاتبا، وليس كل من تخرج من جامعة عالما، والرواية التي لا تجبرك على قراءتها مرتين حرام أن تقرأ مرة، فما بالك برواية كل أقنعتها ساقطة أمامك، إن رواج العمل يتوقف على مدى تلقف الجمهور له، فقد كان المغترب عن هذه المجتمعات متعطشا لدهاليز المجتمع المقنع بالسوداوية والحزم والمتسلح بالعصا والنار، والأفكار السلفية، وقد نعتته هذه المؤلفة بأوصاف صريحة لسان الشخصيات فقد قالت ميشيل: "تأكدي يا سديم أن فراس وفيصل رغم الفارق الكبير في السن بينهما، لكن اثنينهم من طينة واحدة، سلبية وضعف واتباع للعادات والتقاليد المتخلفة حتى إن استنكرتها عقولهم المتنورة، هاذي هي الطينة اللي خلق منها شباب هذا المجتمع للأسف. هذولي مجرد أحجار شطرنج يحركها أهاليهم، ويفوز في اللعبة اللي أهله أقوى " و " أنا كان ممكن أتحدى كل العالم لو كان حبيبي من غير هذا المجتمع الفاسد اللي يربي أبناءه على ( الكونترا دكشننر والدوبل ستاندر دز )، التناقضات وازدواجية المعايير مثل ما يقولون. المجتمع اللي يطلق فيه الواحد زوجته لأنها ما تجاوبت معه بالشكل اللي يثيره في الفراش بينما يطلق الثاني زوجته لأنها ما أخفت عنه تجاربها معه وما تصنعت البراءة والاشمئزاز "(ص306)"، لكن اليوم وبعد الانفتاح الإعلامي عبر القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي لم يعد سرا ما يحصل في داخل الغرف، فيكفي موقع تواصلي واحد ليكشف لك عادات الشعوب وتقاليدها ومشاكلها، وهذا ما يجعل العمل يفقد قيمته مع الزمن، فزمن القراءة والتلقي له دوره، فالخلود للعمل المتكامل وليس للقضايا التي لبست ثوب الفضائحية - وذلك بتحليل الخطاب الذي كانت تسرده الراوية على لسانها قبل كل رسالة أو متن حكائي- إذا لا يمكن عد هذا العمل رواية لمجرد أنه تبنى هذا النمط من القضايا الذي بات موضة عصرية نوعا ما، والذي لا يذهل في الأمر أن صورة الرجل في الرواية هي ذاتها في كل المشرق العربي.. فلم المرأة السعودية تمارس فصامها داخل حدود السعودية وخارجها ولا تتجرأ على أخذ خطوة حقيقية في انتزاع حقوقها؟ أو معرفة طريقها؟ إذا من عناصر الرواية الأساسية الراوي ووجهة نظره وتلك نصف السرد وهو النصف الذي يحرك النصف الآخر.

اللغة../ اللغة المطلوبة في الرواية هي التي يتحقق الانزياح بها عن الاستخدام اليومي العادي بحيث تكتسب ظلالا ودلالات تدعم معاني عميقة وتفصيلية وتفسيرية، مما يجعل السرد في رحلة بنائه للشخصيات والأحداث تباعا مقنعا ونابضا حيا ينقل الحكاية من بعدها الايهامي إلى الواقعي الانفعالي.

" النظم المعتاد للمفردات، والترتيب المألوف للكلمات، لا يصنعان صورا بلاغية، لأنهما بديهيان، فالصورة هي كثافة المعنى، وغياب الصورة هو انفتاح على الدلالة المرجعية المجردة"[2]،"لغة الرواية تمثل مستوى وسيطا؛ لا يبلغ من التركيز والتكثيف ما يجعله قادرا على احتلال مكانة في الذاكرة والبقاء مثل الشعر، ولا يصل إلى التدني والعادية بحيث يصبح من حق كل راو أن يؤديه بكلماته وعلى طريقته، كما يحدث في الحكايات اليومية التافهة، فاللغة الروائية وسيط يقوم بتثبيت مفردات الدلالة، وبناء المعنى الكلي للنص، وتنظيم علاقات التصور والرمز، دون أن يصل من التبلور والكثافة والتشيؤ، إلى الدرجة يحل فيها محل عناصر السرد الأخرى"[3]

فلنتناول مشهد طلاق قمرة أو الفشل العاطفي المتكرر لشخصية سديم ولميس وميشيل، جميعها مواقف صعبة وقد لا يحدث ذلك مع الغالبية، فهي كقصص متفردة نادرة، ومؤلمة،وفيها انفعالات نفسية، المهم كيف عبر الراوي عن تلك الانفعالات؟ بمعادلة ما يساوي الحكي في النص من وقائع، هل اثار مشاعر؟ هل يوجد ظلال؟ هل كون مشاهد نابضة صوتيا وحركيا ولونيا؟ هل صور المشهد بلغة متأثرة بالموقف؟ بارعة في نقل الحدث؟ من لغة التاريخ الميتة الى لغة الحياة المشهدية؟ لغة الإبداع المحسوسة التي تنقل الوقائع والأحداث وما وراءها؟ مع العلم أن تيار الوعي حاضر والراوي العليم يصف ويحاصر، إلا أن الكاتبة هنا ناقلة، لم تحسن تقمص شخصياتها ولم تنفعل بها ولم تحمل لغتها أنفاسها، ولا أنفاس الشخصيات، هنا يتوقف المرء ويسأل نفسه: كل الفنون تدور حول هذا المحور، سواء أدبية أو غير أدبية، الموسيقى مثلا ليست تقنية تتعلمها فتصبح موسيقارا مؤثرا، والشعر ليس قوالب، والتمثيل ليس نصا تحفظه ووجها مقبولا مألوفا، إنه القاسم المشترك بينها جميعا، الانعجان بالعمل التخييلي وتوجيهه وتحميله بالشحنات العاطفية حتى يصل إلى المتلقي بصدق وبدون تكلف وحواجز، وفي الرواية لا يتحقق ذلك دون تقمص، واعتراك خيال بواقع، وقد قرأت تعليقا لأحد النقاد مؤخرا لإحدى الكاتبات في فن الرواية: "بالمختصر أنا لا أستطيع أن أعلمك كيف تكتبين، أستطيع أن أوجهك".  تلك الرواية التي يقضي المرء فيها ساعات وساعات ليسمع هذا المستوى الركيك من الصياغة والجمل الأجنبية المكتوبة بحروف عربية دون تنصيص لها شكلت معاناة حقيقية للقارئ، فليذهب القارئ وليشاهد مسلسلا دراميا أو مسرحا سعوديا أو يستمع إلى برنامج حواري سعودي أو يطالع مجلة أو موقع تواصل افتراضي، ما له وعناء متابعة هذا الترهل في اللغة، وتلك الفوضى العارمة، يوجد في الشعوب العربية كثير من الاختلاط اللغوي مثل لبنان والمغرب العربي، لكن لا نجد هذا التخبط اللغوي في الرواية إلا نادرا، يكفي موقف واحد ليدل على الأنماط اللغوية الشخصيات، لا أن تتناثر العامية بهذا الشكل على طول العمل.

التكرار وضعف الصياغة والأخطاء اللغوية والنحوية الكثيرة: ظهر التكرار وضعف الصياغة في السرد للزمن الماضي وخصوصا الفعل الناقص "كان "،عبر تيار الوعي، مثل سرد على لسان ميشل عن علاقته بماتي ابن خالها، على طول الصفحة بدأت جملها الحدثية بكان، وكان تكرارا مخلا ورتيبا ومملا، ص  92- 94، الأخطاء اللغوية والنحوية آفة لا يكاد يبرأ منها المشهد الثقافي اليوم، لكن إن تعدت حدا معينا فسد العمل ولم يعد صالحا للتداول، وهذا ما كان في كتاب رجاء الصانع التي عكفت عليه ست سنوات تطارد قصص الانترنت وقصص المقربات والصديقات، حتى كتبته، ولكنها بعدها لم يروج لها عمل أدبي، رغم الترويج المبهرج المبالغ فيه لها. وعدم استمرارية الكاتب بأعمال فيها بصمة رغم شهرته التي بناها بسبب طبيعة المجتمع الذي انتقده، يدل على أن العمل كان مجرد مذكرات أو رسائل أو تفريغات نفسية، وقد نكون مجحفين إن عممنا ذلك لكن طبيعة التكوين الفني للنص هي ما تؤكد ذلك.. فما هي تقنيات النص الروائي، هل هي كبحور الخليل بن أحمد العروضية نصب فيها الحكاية فتخرج لنا نصا أدبيا؟ مستحيل أن يكون ذلك، فالرواية فلسفة زمانية ومكانية تخترق ما سبق وتوظفهما في صالح السرد لبناء حدث يؤدي إلى حبكة تسلب اللب وقد تمضي وقد لا تمضي.

الحبكة: أما الأمر الآخر وهو الذي لا أطيق عليه صبرا، وهو الحبكة.. أين الحبكة؟ قد تحتمل رفيق درب ممل في رحلة ما لكن بهدف الوصول إلى شيء، أين الهدف هنا؟ أين التحدي الذي ينتظر القارئ؟.روائيات لهن كلمتهم في العالم العربي اكتفيت بتوظيف شخصية واحدة في المتن الحكائي لكن القارئ لا ينساها ويتابعها بنهم، أما هنا فلا يوجد أي حبكة، واكتفى السارد العليم بكل شيء بقص الحكايات والتفاصيل لدرجة أنك لا تعرف ماذا سيختلف الفصل القادم عن الفصل الفائت، هي مشكلة فن القص في الوطن العربي، تجد فيه أشياء كثيرة إلا القصة، ولا يمكن اعتبار أي شخصية سارت في فضاء معين شخصية روائية، ولا يشفع لها قدر الخيبات التي تمر بها لتجعلها روائية، لا بد أن تكون هناك حبكة، تحد حقيقي يواجه هذه الشخصية يوظف كافة عناصر السرد لخدمته، وإن بقي الحل مفتوحا، تبقى الحبكة هي النقطة التي تشعرك أنك وصلت إلى مرحلة من مواجهة ومكاشفة الذات والواقع باللحظة نفسها التي تشعر أنك صافحت اللامرئي..الروحاني..الطبيعة وما وراء الطبيعة.. إنه المكان الذي تختبر فيه الرواية بتشكيلها الواقعي والخيالي، ليس بتعقيد المشكلة التي تمر بها الشخصية وليس بعدد الإشكاليات التي تواجهها، إنما هو صياغة تلك المشكلة بطريقة تجعلها مشكلة ينفعل القارئ معها وبها، ويتقمص الشخصية بمحاذاة الراوي في مغامرة مخطوفة من عقر الزمن.. لم تخرج القضايا التي تحدثت عنها الرواية عن الخلاف الحاد بين الأجيال والأزمة بين الرجل والمرأة، صراع حيث هو صراع وليس من صنع الكاتبة، ولم تستطع الكاتبة بسردها الضعيف واستخدامها الروتيني السرد الكلاسيكي أن تجعلنا نؤمن بتلك القضايا حتى لو اتفقنا معها في بعضها فكريا، فالإيمان والاعتقاد أقوى من مجرد التقاطع الفكري...

ما سبب نجاح بنات الرياض ووصولها إلى العالمية رغم الضعف التقني والأدبي فيها؟

إن نجاح هذا النموذج ليؤكد حتما أن جمهور القراء العربي اختلف، وهذا شيء يجب مواجهته، فالمثقفون الإصلاحيون البريطانيون يشجعون المبتدئين على قراءة أدب أجاثا كريستي كخطوة نحو القراءة حتى يعتادوا عليها، رغم تحفظهم على شخصيتها الكرتونية على حد تعبيرهم البعيدة عن الواقعية الاجتماعية، وينفقون الكثير من الأموال لاستقطاب معجبين أدبها في إعمار منزلها في إنجلترا، حتى بعد وفاتها استمرت شعبيتها، ولم يهاجمها النقاد على الرغم من التحفظ على أدبها، واتجاهه، لكنهم يرون أنها جاذبة لجيل الناشئين والمبتدئين في القراءة ويجب استثمارها، وعلى الرغم من أن أجاثا كريستي من أغزر الروائيات إنتاجا أدبيا، فقد تعدت المئة رواية بوليسية، إلا أن المقاربة بين تجربتها وبين تجربة رجاء الصانع بنظري يجب أن تكون جدية، وذلك لأن الجمهور العربي يقرأ فعليا عشرات المنشورات والكثير من المعلومات ويسمع المواد الصوتية ويشاهد الأخرى المرئية على مواقع التواصل الاجتماعي لكنه لا يقرأ، ألا يستحق الأمر موقفا جديا مع أدبائنا الروائيين وكتاب القصة القصيرة؟ وهذه الوقفة هي محاكمة للأساليب والمضامين بالجملة، لم استطاعت كاتبة في رواية يتيمة أن تحصد هذا الإعجاب والاستقطاب من كل أنحاء العالم في رواية واحدة بينما بقيت أعمال أخرى قيمة على رفوف مكتبات مؤلفيها؟

في عودة إلى فنية كتاب بنات الرياض يجب أن أذكر بأنه لا يمتلك مواصفات الرواية، ولا يوجد فيه حبكة، ولا مستوى لغوي، ويعج بالأخطاء اللغوية، لدرجة أن الكاتبة نفسها تنصح متابعيها على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"[4] ألا يقتنوا النسخة المجانية على منصات البحث لأنها كثيرة الأخطاء؛ بحجة أنها منسوخة اجتهادا من قبل القراء ومليئة بالأخطاء، لكن، ما سر انجذاب الجمهور لها؟ هي كلمة واحدة بالتأكيد تستطيع أن تلخص ما هو مفقود عند غيرها وموجود عندها؛ ألا وهو الأسلوب، ويعرف الأسلوب في اللغة بأنه طريق، أو فن، أما تعريفه اصطلاحا هو: طريقة يعبر بها بالتفكير أو التعبير، أي بمعنى تعبير بشكل لفظي عن نظم الكلام، أو المعاني، ويمتلك الأسلوب ثلاثة أنواع من الأساليب، وهي كالآتي: الأسلوب الأدبي، والأسلوب العلمي، والأسلوب الخطابي. ورجاء الصانع امتلكت ناصية التعبير الرشيق السلس عن مضامينها حتى لو كان هذا الأسلوب غير أدبي بل خطابي، فالقارئ العادي ماذا يعنيه في أدبياتها إذا كان خطابها مستغلقا وعسيرا وشائكا؟ جملها القصيرة وحوارات شخصياتها الواقعية بلغتها وثوب المثالية المهترئ المنزاح عن شخصيات روايتها جميعها عوامل جعلتها خفيفة للمتلقين، ناهيك عن ظروف التلقي في عام 2005 وقت النشر، حيث كان المجتمع السعودي في ذروة كبته وانغلاقه على نفسه، وطبعا لا يمكن أن يتم تلقيها بالطريقة نفسها التي تم تلقيها وقت نشرها وفقا لنظرية التلقي؛ فالتلقي لروايتها كان حادا عنيفا بصفتها اخترقت ستار خمر النساء في مجتمع يعدهن حريما محرمة، ولكن اليوم لا يمكن عد التلقي لهذا النوع من الروايات سيشكل ردة الفعل نفسها، لأن طبيعة المجتمع السعودي والعربي اختلفت بعد دخول العولمة عليه وانفتاحه-بغض النظر عن طبيعة هذا الانفتاح ومساحته وشموليته للمجتمع ككل- فما عد تحرريا من كل قيد اجتماعي أو ذكوري اليوم يعد شيئا عاديا مثله مثل أي قضية عالقة في المجتمع أو تم تجاوزها. إن أسلوب الطرح في الرواية هو الأسلوب ذاته الذي يستقطب الجمهور لعمل درامي مسرحي أو تلفزيوني أو سينمائي، مما يوصلني إلى نتيجة أن أسلوب الخطاب ومضمونه أهم من شكله، وقالبه، لأن الشكل والتقنيات ما هي إلا وسائل لتحقيق الأنس والغرائبية كثنائية مدهشة في العمل الفني، وليست استعراضا أجوفا من مضمون واقعي، وليست هدفا بحد ذاتها، الهدف هو الخطاب، هو الوصول إلى قضايا الجماهير ومعالجتها، والوسيلة لذلك الأسلوب، لا يعني هذا الطرح هو اجترار تجربة الصانع في تهميش الدور التقني والحبكة الدرامية واللغة المشكل الأساسي للرواية، بل يعني أنه يجب الالتفات إلى تجربتها بعين من الجدية، كروائية نسوية عربية نالت شهرة وانتشارا عالميا ووصلت إلى قلب الجمهور، بأسلوب خطابها ومضمونه، فالجمهور يجفل من الأسلوب المتعسر الشائك، ويميل إلى الخفة والسهولة، التي تحققها الجمل المكثفة الصور والقصيرة الرشيقة، والحيوية الأفعال، والتكرار ذو الإيحاء الصوتي الحي، والمضامين التي تهم الجماهير دون مواربة أو رمزية.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه في تجربة الصانع الروائية، أين اختفت بعد هذا النجاح المنقطع النظير؟ هذا بالطبع يقودنا إلى قضية مهمة في الأدب الروائي العربي، خارج الفن لكنه مؤثر بحق في المسيرة الروائية، وهو أن الفن الروائي يحتاج إلى تفرغ شبه كامل، لأن طبيعة الرواية لا تكتفي بانتقاء اللحظة أو الحدث لرصدها والتعبير عنها، كما في القصة القصيرة أو القصيدة، بل تحتاج إلى رصد مجمل التغييرات ثم التعبير عنها، وهذا يتطلب إلى جانب الموهبة والتعليم والدربة والمران تفرغا واستقرارا وهدوء، وتجربة حياتية غنية، ورجاء الصالح تفتقد إلى أهم شرط من ظروف كتابة الرواية وهو التفرغ، فهي حسب ما أعلنت على صفحتها على "تويتر" تشغل منصب رئيس قسم علاج أعصاب الأسنان في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، وهو منصب قيادي في مهنة غير سهلة، وقد أجابت الكاتبة على سؤال يطاردها منذ إصدار روايتها بنات الرياض: وأين هي الكاتبة بعد بنات الرياض؟ على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي "انستغرام" حيث قالت: "انشغلت وتشاغلت بمرضاي وعملياتي عن الرد، كان شفاؤهم وتعافيهم من آلام التهاب العصب المزعجة ردي الأبلغ، خاصة أولئك الذين أعيتهم زيارة طبيب تلو الآخر بحثا عمن يتمكن من تخليصهم من هذا الألم اللعين، عاهدت نفسي بعد نجاح "بيضة الديك" أن لا أبيض مرة أخرى قبل أن أنال أعلى شهادة عالمية في تخصص علاج العصب والجذور؛ لأن أرواح البشر أمانة في عنقي كطبيبة وعلاجهم بأحدث وأنجح الوسائل العلمية أولويتي.. كان شعاري مع المرضى بعد عودتي من الدراسة في أميركا: رجاء الصنع ليست مجرد روائية.. واليوم بعد أن اكتسبت ولله الحمد ثقة آلاف المرضى أصبح شعاري رجاء الصانع ليست مجرد دكتورة.."[5]، إن هذه التجربة الروائية التي رغبها الجمهور اليوم تقع في صراع بين الأدب والعمل، وكثير من الأديبات الموهوبات يقعن في صراع مشابه وقد يكون بين الأدب الروائي الذي يحتاج إلى تفرغ، وبين العلم والعمل والأمومة مجتمعة، الأمر الذي يثقل كاهلهن، فالرواية تحتاج إلى وقت في هندستها ولا تطهى على عجل، وتحتاج إلى الكثير من التأمل والقراءة والمران، ورعاة الثقافة لا يقدمون لو القليل في مسيرة دعم أي روائي ناشئ ليساعدوه على التفرغ والإبداع تباعا، سواء أكان روائيا رجلا أم امرأة..

في هذه التجربة الروائية النسوية العربية العالمية قضيتان، ورسالتان، الأولى: الفنية المتعلقة بالأسلوب والتي يجب أن تكون رسالة للأديبات والأدباء المتخصصين في فن الرواية، مع التشديد على مصطلح فن الرواية وليس أدب الرواية، مع الإشارة إلى أنها تدرس في بعض الجامعات الغربية في قسم الفنون وليس في قسم الآداب، وذلك له دلالاته العميقة، التي تؤكد ما رميت إليه من طرح، والرسالة الثانية لوزارات الثقافة العربية التي يقع على عاتقها تأمين إجازات عمل سنوية للأدباء الروائيين لدعمهم في قضية التفرغ لفن الرواية، ومساعدتهم على نشر أعمالهم، خصوصا إن كانوا يحظون بالقبول الجماهيري.

[1] انظر: منصور، مروى فتحي: ثنائيات الصراع في كوابيس بيروت لغادة السمان-تقرير مقدم في مساق موضوع في الأدب الحديث.2020-جامعة النجاح الوطنية، بإشراف د. نادر قاسم

[2] تودوروف، تزفيتان:الأدب والدلالة ص116

[3] فضل، صلاح:بلاغة الخطاب وعلم النص ص293

[4] انظر: رجاء الصانع/ باللغة الإنجليزية/ تويتر/ موقع تواصل اجتماعي

[5] انظر: صفحة الكاتبة رجاء الصانع على انستغرام/ موقع تواصل اجتماعي

يُعَدُّ الأب أوّل رجل في حياة المرأة، وهو النموذج الذي تحدد في ضوء علاقتها معه تصوراتها ورؤيتها للرجل في مستقبل حياتها، هذه الصورة الغائبة التي قدمتها الروائية مليكة مقدّم في روايتها "رجالي" عن والدها في خطابها الموجه إلى رجلها الأول وتحدثت عنه تحت عنوان "الغياب الأول". إذ لا يشكل مثالا وقدوة لرجل مستقبلها وفارس أحلامها، وبذلك تكون عقدة أوديب بارزة في الرواية بشكل عكسي، أو ربما تجاوزتها بشكل كلي، وهذا ما نلحظه في المقول السردي: "لم أبحث عنك في رجال آخرين. أحببتهم في اختلافهم لأبقيك غائبا. تفتحت على الحب مع أولئك الرجال يا أبي..."

ذلك الأب صاحب القبعة الريفية، والسروال المشمر، والسترة الخفيفة، الذي تنعته بالجاهل الأمي، ويتجلى هذا في مواطن عدة في الرواية، مثل: "أنت الأمي"[2]، وأيضا في: "لا تعلم بذلك لأنك لا تجيد القراءة"[3]، وهو ما عزز جرأتها في البوح عن الألم الذي عاشته منذ الصغر، ومدى الهامشية التي عانت منها فقط لكونها بنتا؛ لتتشكل صورة الأب لديها في كونه أبا يفتخر دوما بأنه والد الذكور، ويلعن زوجته أم البنات، وفي هذا السياق، تقول الراوية: "كنت تخاطب أمي فتقول لها "أبنائي" عن أشقائي و"بناتك" عني وعن شقيقاتي، تلفظ "أبنائي" دائما باعتزاز، ويعتري نبرتك النزق، والهزء، والبغض والغضب أحيانا، وأنت تقول "بناتك".[4] وهكذا وجدت البطلة نفسها تصرف النظر عن أن تكون أمّاً، ما دامت الأمومة تجلب كل هذه التعاسة والتمييز بين الذكور المبجلين والإناث اللواتي غير جديراتٍ بالحياة.

هذا القهر الذي شعرت به البطلة نتيجة التهميش والإقصاء والنظرة الدونية من والدها دفعها أنْ تبالغ في عنادها له وكرهه لدرجة أن تمنت له الموت "تمنيت هذه المرة لو تموت يا أبي"[5].

إنَّ الصورة التي ظهرت فيها شخصية الأب في الرواية لا تخرج عما هو معهود عن صورته في الرواية العربية، وخاصة تلك التي كتبتها كاتبات عربيات، فثمة صورة نمطية سلبية للأب في الرواية العربية، وربَّما عكست هذه النظرة مواقف تلك الأديبات من المجتمع وسلطته الأبوية البطريركية التي تتسلط على المرأة/ البنت/ الزوجة/ وكل ما هو أنثوي، فالأب هو مثال السلطة وربَّما شكل في اللاوعي تجسيدا للسلطة الأكبر تلك التي استقر عليها المجتمع. فليس والد مليكة فقط من يحمل تلك الأفكار السلبية عن الابنة، بل إنَّها صورة قديمة ومتجذرة في الوعي العربي الإسلامي منذ الجاهلية وحتى الآن، ومهما حاول القرآن الكريم التخفيف من حدتها إلا أنَّ الوعي وترسباته أكبر من التأثير الديني، فلم يلتفت الأب/ الرجل/ الذكر إلى قول الله تعالى: ﴿وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساء ما يَحْكُمُونَ (59) ﴾[6] .إنَّ الأب في الرواية يمسك بناته على هون وضِعَةٍ، فهن أقل مرتبة في نظره من أبنائه الذكور، إلى درجة أنه ينسب الذكور له "أبنائي"، والبنات لأمهن "بناتك"، تعميقا لهذا التجسيد المهين لوضع المرأة، فهم جميعا- ذكورا وإناثا- إخوة أبناء أم واحدة ورجل واحد، إنه الإقصاء وعدم الاعتراف.

إنَّ ما تحدثت به مليكة مقدم عن صورة الأب الغائب، يكشف عن مدى تمردها عليه ويظهر ذلك في اختيارها ضمير "أنت" في الخطاب، وفي توظيف هذا الضمير في مخاطبة شخص غائب أو تتمنى غيابه، كأنَّك تريد أنْ تستحضره أمامك مكتوفا ذليلا، وهنا تحاول مليكة مقدم التمرد على والدها الذي يمثل السلطة مرتين، مرة بإقصائه من السرد فلا يلوح إلا غيابا والثانية في محاولة قتله معنويا والتخلص منه.

لم يعد الأب في الرواية هو أب مليكة مقدم فقط، بل هو أب النموذج والمثال الذي يعكس مجتمع كامل، وبذلك تكون الرواية قد عالجت الموضوع من جانبين؛ جانب ذاتي يخصّ الساردة مليكة مقدم، وجانب يتخذ صفة العموم، تعنى به كل امرأة في هذا المجتمع المقهور بهذه السلطة وبهذا يكون المتن الحكائي عبر شخصية الأب قد عمم التجربة الذاتية للمؤلفة لتأخذ أبعادا عامة وبذلك تكتسب التجربة الذاتية صفة العموم، وهذا ما يطمح إليه السرد في التخييل الذاتي عبر مراوغته بين المرجعيات الواقعية والتخييل الروائي ذاته، إذ لا يمكن التوقف عند صورة الأب واعتبارها صورة أب مليكة وحدها، بل صورة كل أب مهووس ومعبأ بأفكار الرجعية والجهل والتخلف.

[1] - مليكة مقدم: رجالي، تر: د/ نهلة بيضون، دار الفارابي،ط1، بيروت لبنان، 2007، ص 21.

[2] - الرواية، ص 16.

[3] - الرواية، ص 21.

[4] - الرواية، ص 11.

[5] - الرواية، ص 15.

-[6] الآية 58-59 من سورة النحل.

hgggsdsfs9151.jpg

 

hgggsdsfs9152.jpg

"وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ، قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا، إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ". (يوسف، 30)

هل فعلها الكاتب فراس حج محمد؟ لا بُدّ لهُ من ذلك وهوَ العارف باللغة، فالنسوةُ جمعُ قلّة، لذلك كانت التسمية (النسوة) وليس النساء (جمع كثرة).

ثم سألتُ نفسي بعدَ قراءة العنوان وخطرت ببالي تلك الآية الكريمة، وراودتني مخيلتي الروائية بأنّ نسوة فراس في مدينته مثلُ هؤلاء النسوة اللاتي قطّعنَ أيديهن دلالة على الفتنة والشهوة..

لكنَ نسوة فراس، كانت فتنتهنّ ذلك الفضاء الأزرق، تلك البوابة العمياء التي لا تبصر، واستطعنَ الاختباءَ والتخفّي خلفها.

أما اللغة، والصنعة اللغوية التي تميّزت بها لغة الكتاب، هي ساحة النزال بين عوالم فراس ونسائه، فجعل من (مدينته) تجمّعاً لمدنٍ كثيرةٍ وبعيدةٍ في واحدة.

كما أنّه كتبَ نصوصه وأسرارهُ هذه بالأبيض والأسود، دونَ مؤثرات خارجية أو (فلتر) تجميلي حتى، بل كتبَها كما هي بسوادها وبياضها دون ملوّنات، لتكون له مطلق الحرية في فضائه ليكتب ما يشاء، عمّن يشاء، وكيفما يشاء..

وهنا قد يختلف كثيرون معهُ بمفهومه المطلق للحرية، وكنتُ واحدةً من هؤلاء عندما توقفتُ عند بعضِ المشاهد الساخنة ليجرحني سؤال دون أن أجد لهُ إجابة شافية (ماذا أرادَ فراس بالتحديد من هذه المشاهد؟)، فالمشهد ليس مشهداً اضطرارياً في رواية، وليست سيرة ذاتية ليكون حريصاً على الصدق والوصف التامّين لما وقعَ فعلاً، بل كانَ وصفاً حقيقياً كما ذكر في مقدمة الكتاب أن تجربته حقيقية، كما ورد في الصفحة رقم (8) على لسانه: "تجربتي بل تجاربي، في هذا الكتاب واقعية وحقيقية بالكامل ولم تكن على سبيل التخيّل أو التعويض النفسي"..

هل أرادَ أن يكون حراً على طريقة غاندي بقوله: "الحرية هي روح الإنسان وأنفاسه، فكم ثمن هذه الأشياء؟"..

فكان حراً طليقاً في فضائه دون أن يتركَ لنفسه عناءَ التفكير في العواقب، لأنّ قلماً حراً لن يكفّ عن التغريد والتحليق حتى في العتمة.

أو على طريقة مارتن كينج بقوله: "لا يستطيع أحد أن يمتطي ظهركَ إلا إذا انحنيتَ له"، فأرادَ أن يخفف وطأةَ حملٍ ثقيل على كاهل ذاكرته فعرّاها كما يعري برتقالةً من قشرتها..

ربما فعلَ هنا ما لم يخطر ببالنا للوهلة الأولى، على طريقة جيمس بالدوين بقوله:"الحرية لا تُمنح وإنما يتم انتزاعُها"، أن يصنعَ حريةً ما لنساءٍ غلبهنّ الواقع فلم يستطعنَ البوح بعلاقاتهن لأسباب مجتمعية ودينية وشخصية، فأعطى لنفسه الحق بأن يفتح لهنّ الباب على مصراعيه كأنهنّ عصافير طيّرهن الى فضاء لا يُعرفُ لهن فيه أسماء وأتاح لهن "الفضفضة" غير المباشرة، انتزعَ منهنّ ومعهن حكايات الحب والجسد والشهوة وأطلقهنّ عبرَ كتاب..

وربما نصّبَ نفسه الأمل الذي تحدث عنه ابراهام لينكولن "بأن الحرية هي آخر وأفضل أمل على ظهر الأرض"، فأطلق لنفسه العنان وكتب ما كتب، ليكون الأفق الذي أطلق لهؤلاء النسوة الفرصة بالصراخ والنشيج (نحن نحب، نحن نشعر، نحن نخطئ، نحن ونحن ونحن)، ولن يحاسبنا أحد لأننا مجرد حكايات وأسرار مجرد كشفنا اختفينا..

استوقفتني جمل كثيرة وجميلة وثرية في الكتاب منها:

"لم أكن جميلاً بما يكفي، كنّ أجملَ مني، وهنّ يهدينني أجمل ما لديهنّ من طقوس لأصنع تماثيلي اللغوية".

كل تمنياتي بالتوفيق للكاتب، آملةُ لهُ الانشقاق عن نسوته، لتُعمّرَ كتبهُ بما يفيض من إبداع متجدد، فأن يتعدد الكاتب باتجاهاته وأفقه يجد بصيرة أخرى، قد يلوك فيها ما كتب سابقاً دون انتزاع حريته التي يشاء.

المزيد من المقالات...