hgju897.jpg

mat8975.jpg

صدرت رواية "المطلقة" للأديب المقدسيّ جميل السلحوت قبل أيام عن مكتبة كلّ شيء في حيفا، وتقع الرّواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التّشكيلي محمّد نصرالله ومنتجها شربل الياس في 192 صفحة من الحجم المتوسّط.

عندما يطرق الأدب مسائل اجتماعيّة فإنّه يكون قريبا من النّاس، من لغتهم، ثقافتهم، طريقة حديثهم، سلوكهم، وهذا يتطلّب من الأديب أن يتحرّر من لغته العالية، وأن يكتب بلغة شخصيّات الرّواية،  وهذا لا يعني فقدان العمل الأدبيّ قيمته الأدبيّة، بل يؤكّد على أدبيّة العمل، الذي يُقدّم بطريقة تنسجم وطبيعة الشّخصيّات وثقافتها.

تتحدّث الرّواية عن "جمانة" التي تطيق ذرعا بزوجها "أسامة" المتزمّت دينا، والذي يحمل أفكارا تكفيريّة متطرّفة عن المرأة، بعد عودتهما إلى القدس وطفلهما "سعيد" من السّعوديّة حيث يعمل، تقرّر "جمانة" طلب الطلاق من زوجها، الذي عاملها كجارية في غربتها، ورغم أنّها لم تكشف  تفاصيل كثيرة، إلّا أنّها أوصلت فكرة ضرورة طلاقها لأهلها وللمتلقي، وهنا يتمّ (طرق جدران الخزّان)، امرأة تطلب الطّلاق وتسعى له متخلّية عن كلّ حقوقها مقابل أن تنال حرّيّتها، رغم أنّ المجتمع لن يرحمها  كمطلقة، إلّا أنّها تصرّ على الطّلاق الذي تحصل عليه بعد صراع مع أسام وفاطمة أمّه. هذا هو الحدث الرّئيس في الرّواية، والذي يبني عليه السّارد أحداث قصّته،  ويضيف شخصيّات عديدة، "تغريد" أخت "جمانة"، "لطيفة" أمّها وأبوها "عيسى"، رأفت شقيق أسامة، وأبوه سعيد ـ الشّخصيّة الأضعف في الرّواية ـ، سوزان، "صابرين"، وعائشة المطلّقة بسبب غشاء بكارتها المطاطيّ والأرملة، الأسير المحرّر "فارس"، الدّكتورة أميرة، الدّكتور فريد وشقيقه "رمزي"، مأمون المخنّث وأمّه صبحة، إضافة إلى أمل ومنى شقيقتا فريد ورمزي، فشخصيّات الرّواية تمثّل شرائح المجتمع المختلفة، وبما أنّ الشّخصيّات شريحة اجتماعيّة فهي تستخدم الأمثال الشّعبيّة بكثرة، كحال أفراد المجتمع، فهناك العديد من الأمثال جاءت على لسان الشّخصيّات كافّة، وتكاد لا توجد شخصيّة لم تتحدّث بالأمثال، وهذه إشارة إلى (اجتماعيتها) وقربها من نبض عامّة النّاس، كما أنّنا نجد الثّقافة الدّينيّة حاضرة عند الجميع، إذا ما استثنينا "مأمون" المخنّث، لهذا نقول أنّنا أمام رواية اجتماعيّة واقعيّة بامتياز.

وإذا ما توقّفنا عند المطلّقتين "جمانة وصابرين" وطريقتها في مواجهة المجتمع والضّغوط الأسريّة والاجتماعيّة، سنجدهما أقوى وأصلب من "أسامة ومأمون"، فالأوّل فشل في زواجه مرّة ثانية، ولم تقبل به أيّ  امرأة إلّا صابرين التي قبلته على مضض بعد أن أنهكها الخطّاب المسنّون العجزة، فقبلته قائلة: "بلاء أهون من بلاء وكساح أهون من عمى"، "شابّ يبهدلني ولا ختيار مخرّف يدلّلني" ص182، أمّا "مأمون" المخنّث فقد رفضت أمّه استقباله وتبرّأت منه عائلته، من هنا نجد أنّ النّساء في الرّواية، كن أقوى وأكثر أهمّيّة من الرّجال، وهذا ينسجم مع عنوان الرّواية "المطلقة".

استطاعت"جمانة" أن تكمل تعليمها العالي،وأن تحتفظ بابنها "سعيد" وأن تتزوّج من المهندس "رمزي"  الشّابّ الأعزب، بينما "أسامة" تزوّج من "صابرين" المطلّقة، وهي بهذا تتفوّق ـ اجتماعيّاـ على طليقها أسامة. وبالنّسبة  ل"سيعد أبو أسامة" فإنّنا نجده شخصيّة ضعيفة يخضع لزوجته القويّة "فاطمة/أم أسامة"، التي تهينه في كلّ كبيرة وصغيرة، وإذا أخذنا ما قامت به عندما "تجمّلت وتزيّنت" وذهبت إلى  المشعوذ "الشّيخ عديّ" وقبلت أن يضاجعها دون تردّد! مبرّرة ذلك بضعف زوجها جنسيّا! إذن النّساء في الرّواية أقوى من الرّجال، فالأحداث متعلقة بهنّ، وما الرّجال إلا كواكب تدور حول شموسهنّ.

جمانة

الشّخصيّة المركزيّة في الرّواية، فهي تتجمّل بصفات المرأة النّاضجة والقويّة والعارفة لمصلحتها، فهي عندما طلبت الطّلاق كانت تتحدّى المجتمع قبل زوجها، فبعد أن حضر أسامة لتهدئتها وردعها عن قرارها، خاطبته بقولها: "لا حاجة لدار الفتوى أو لغيرها، فلن أعود إلى عصمة أسامة تحت أيّ ظرف، فالحياة معه مستحيلة... لقد خبرته عامين كاملين، تعامل معي فيهما كجارية سجينة، هدر كرامتي واستباح إنسانيّتي، ولولا الغربة في السّعودية لما عشت معه أسبوعين وليس عامين " ص17و18، بهذا الحسم تحدّثت "جمانة"، فهي لم تكن منفعلة بقدر ما حسمت أمرها، واتّخذت قرارها بالإنفصال عن زوجها، مهما كان الثّمن، فحريّتها وكرامتها أكثر أهمّيّة عندها من كلّ شيء.

وعندما حاولت أمّها "لطيفة" إقناعها "بأنّ الزّوج سترة"، ردّت عليها بمثل شعبيّ: "العزوبيّة ولا الزّيجة الرّديّة" ص25، وهذه إشارة أخرى إلى أنّها امرأة تعرف ما تريد، وتتقدّم بثبات نحو هدفها لخلاص من زوجها أسامة.

ورغم عتبها ولومها لوالدها، كونه السّبب الرّئيس لزواجها من أسامة المتديّن التّكفيريّ امتزمّت، إلا أنّه خاطبته بودّ وهدوء عندما ناقشها عن سبب قرارها  بالطلاق من "أسامة": "..لم أنج من كيد أمّه حتّى في ليلة الدّخلة، احتملت ذلك طلبا للستّر، وكي لا أجلب لكم المتاعب،...الحياة معه أصعب مما تتصوّرون، قراري ليس متسرّعا، ولا هو ردّة فعل على تصرّف عابر، وإنّما هي تراكمات لا يحتملها بشر، لذا لا داعي للتّريّث" ص27، مرّة أخرى تتجاوز "جمانة" أحد الموانع من أمامها بطريقة لبقة وهادئة، وتثبت صواب وأهمّيّة قرارها وإصرارها عليه.

وعندما حاولت أمّ أسامة الضّغط على جمانة من خلال خطف ابنها "سعيد" من حضن جدّته لأمّه لم ترتبك، ولم تنفعل، بل تصرّفت بحكمة وعقلانيّة، فذهبت إلى المحامي الذي أعاد طفلها إليها، وعقّبت على تصرّف أمّ أسامة هذا بقولها: "أنا اليوم لبؤة أعرف ما علينا وأعرف ما لنا أيضا" ولن أسمح لأحد بأن يتطاول علينا" ص47، إذن نحن أمام امرأة ثابته، تستطيع مواجهة المصاعب والأحداث القاسية، وأن تتصرّف بحكمة وهدوء.

تذهب أسامة مع والدته إلى المشعوذ الشّيخ عدي بن كعبح (ليفك السّحر) العالق بجمانة، يعطيه رقمها ليتّصل بها: "..أنا عالم روحانيّ، وأريد أن أقابلك، فقد علمت بمشكلتك من زوجك أسامة، وهذه المشكلة لن تجدي لها حلولا إلّا عندي.

ردت عليه جمانة فورا:

"من تدخل فيما لا يعنيه لقى ما لا يرضيه" وأغلقت الهاتف" ص 78، وهذا مشهد آخر يبيّن وعيها وقوّتها وصلابتها، وإصرارها على قرارها وقناعتها به.

ولم تقتصر قوّتها على المواجهة الاجتماعيّة بل تعدّتها إلى المواجهة الاقتصاديّة، فهي ليس لها أشقّاء، بل هناك شقيقتها "تغريد" فقط، لهذا كان عليهما أن تعملا لتأمين مصاريف البيت والأسرة: "ما بعد الضّيق إلا الفرج"، وقد حان الوقت ليستريح الوالد، فلكلّ مرحلة عمريّة متطلبات، فصحّته ما عادت تساعده على العمل، وبفضل الله وبسهر الوالد وشقائه، أتممنا أنا وتغريد مرحلتنا الجامعيّة الأولى، وحصلت كلّ منا على عمل يناسبها، ويسدّ تكاليف الحياة" ص90،  بهذا القول تنسف جمانة فكرة ضعف المرأة وعدم قدرتها على الإنتاج، فهي تتحدّث (كرجل) يتحمّل المسؤوليّة الاقتصادية للأسرة وبصدر رحب، وبهذا تقدّم نموذجا للمرأة الحقيقيّة، والمرأة التي تكوّن ذاتها، بعيدا عن سطوة المجتمع الذّكوريّ ومفاهيمه المهترئة.

وعندما يجتمع المحكّمان اللذان عيّنتهما المحكمة الشّرعيّة؛ لبحث قضيّتها مع أسامة، ويسألها أحدهم عن سبب طلبها الطلاق، تردّ عليه بثقة: "البيوت أسرار، وأسامة والد ابني، لن أغتابه ولن أشهّر به، لكنّني لن أعود زوجة له" ص97، إذن نحن أمام امرأة ملتزمة أخلاقيّا حتّى لمن أساء إليها،  وتكتفي بأن تطلب الطّلاق، دون الدّخول في التّفاصيل والأسباب.

فاطمة أمّ أسامة

بمقدار ما كانت"جمانة" ملتزمة أخلاقيّا تجاه زوجها، كانت أمّ أسامة  على النّقيض، فهي امرأة مجبولة على الحقد والعنف والشّرّ، بحيث يصعب إصلاحها، حتى بعد ندمها على فعلتها القبيحة مع المشعوذ "عدي"، ومحاولتها لإصلاح ذاتها، لكنّها سرعان ما تراجعت إلى أخلاقيّاتها السّابقة،  متّخذة العناد نهج حياة لها.

وهنا يظهر لنا الفرق بين إصرار "جمانة" وعناد فاطمة أمّ أسامة، الأولى وصلت وحقّقت رغبتها في الحياة السّويّة، والثّانية استمرّت في غيّها، حتّى غرقت في الزّنا رغم سنّها الكبير، ورغم أنّها أصبحت جدّة! لهذا يمكن للقارئ أن يفرّق بينهما، فهما بمثابة الخيط الأبيض والخيط الأسود. 

ونتطرّق لنماذج من أقول أمّ أسامة لمعرفة طبيعتها الشّرسة العنيفة، في بداية طلب "جمانة الطلاق" تخاطب ابنها: "لو كنت رجلا لما احجتنا لتدخّل الإمام أو غيره، اسمع يا أسامة، إن كنت ابني حقّا فلن تعود بنت لطيفة زوجة  لك، وسنزوّجك فورا ممّن هي أفضل منها، هذه سوزان  بنت خالتك رائدة" ص23، ولم يقتصر شرّها على الكلام فقط، بل وصل الفعل، فقامت بخطف  حفيدا سعيد بن جمانة من حضن جدّته لأمّه، مستند على مقولة "جحا أولى بلحم ثوره" ص46، وبعد فشلها في الاحتفاظ بسعيد، وحبسها لأربع وعشرين ساعة بتهمة الخطف، تعود إلى البيت هادرة: "هل بنت أمّ ريالة أم... سافر لعملك واتركها "معلقة" حتّى تموت بغيظها، وسنزوّجك أفضل منها" ص54، وتتوّغل أكثر في عنادها، فتقرر الذّهاب إلى المشعوذ "الشّيخ عديّ" الذي يضاجعها بحجّة إخراج الجنّيّ من جسدها، فقبل أن يعطيها موعد جلسة العلاج القادمة: "قفزت من مكانها.. حوّطته بذراعيها وقبّلته بعمق، وهي تجلس في حضنه، رفعت ملابسها حتى بان نهداها، تحسّس أعضاءها  الحسّاسة وقال لها: من غير اللائق أن نعملها الآن، فربما يصدر منك آهات يسمعها ابنك، وهذا سيفسد العلاج، انصرفي الآن، وعودي غدا في السّاعة الثانية ظهرا" ص76، إذن هي تعلم أنّها سيمارس الجنس مع رجل غريب، ومع هذا ذهبت إليه في الموعد المحدّد  وكأنّها عروس  في ليلة دخلتها، وبعد أن قضى وطرا منها، بدأت "تلوم نفسها على فعلتها الشّنيعة" ص94، وبدأت تتغيّر إيجابيّا، لكن هذه الإجابية لم تستمر، فما أن سمعت بأن "جمانة" ستتزوّج حتى عادت إلى عهدها القديم، إلى شراستها وحقدها وحسدها: "يجب أن يتزوّج أسامة قبل بنت "أمّ ريالة" فلا يليق بنا أن تتزوّج طليقته مرّة ثانية قبله" ص180، هذه صورة المرأة السّلبيّة، المرأة التي  تتحكم فيها غريزتها، فبدت امرأة قبيحة، نشازا، لا يمكن التّعاطف معها بأيّ شكل.

المكان

بما أنّ أحداث الرّواية تجري في القدس،  فلا بدّ من الحديث عن  المكان والاحتلال، "فارس" الأسير المحرّر يحتاج إلى عملية زرع كبد، تتبرّع أمّه بكبدها، ويتم تأمين مصاريف الزّراعة التي ستتم في الأردنّ من قبل احد  أغنياء المدينة، لكن  عند الجسر يمنع المحتلون فارس من المغادرة بحجّة المنع الأمنيّ، ويعود إلى القدس؛ ليقضي أيّامه الأخيرة فيها: "عند جسر "اللنبي" رفض الجانب الإسرائيليّ السّماح بعبور فارس بذريعة الأمن، لم يجد مندوب الصّليب الأحمر من يستجيب لطلبه بتسهيل عمليّة المرور، وأُجبرت سيّارة الإسعاف على العودة، لكنّ حاجز "الزّعيّم" عند مدخل القدس الشّرقيّ لم يسمح جنود الاحتلال بدخول فارس إلى القدس، ليرقد في مستشفى المطلع لعدم وجود تصريح ساري المفعول، يسمح له بدخول القدس" ص144، ليتمّ نقله إلفى مستشفى رام الله، وهكذا يتمّ (قتل) فارس من خلال عدم السّماح له بالذّهاب للعلاج.

مشكلة الفلسطينيّ لا تقتصر على  ممارسات الاحتلال الآن فحسب، بل فيما فعله في الماضي أيضا، فأينما ذهب الفلسطيني يجد مأساته أمامه، فدولة الاحتلال قامت على حساب فلسطين وشعبها، عندما تقوم "جمانة ورمزي" أثناء خطبتهما برحلة استجمام  ليافا، تأخذ بالبكاء، توضّح سبب بكائها لخطيبها "رمزي":

"...أبكي فردوسنا المفقود، هل تعلم يا رمزي أن أبي ورث بيتا عن جدّي  في هذه المدينة، وشرّدوا منه ومن أرضنا  مع من شرّدوا من أهل المدينة في نكبة العام 1948، وأنّ غالبية عائلتنا وأقربائنا وأهل مدينتا قد غادروا بيوتهم على السّفن إلى لبنان" ص177، فالمأساة الفلسطينيّة باقية وحاضرة، حتى في المكان والوقت الذي يفترض أن يكون للفرح والبهجة، فالاحتلال  هو الغصّة التي تقف في حلوقنا وتمنعنا من ا(التّنفس) بحرّيّة.

dema897.jpg

mat8973.jpg

لم تأت النّهاية السّعيدة لرواية المطلّقة من فراغ.. ولم تكن أشبه بنهاية الفيلم الهندي، الذي هدفه الوحيد التّرفيه عن النّفس، وقضاء وقت ممتع مع أبطال الفيلم. وينتهي الفيلم بالتقاء الحبيب والحبيبة، فيصفّق لهما المشاهدون على أنغام أغنية تنعش قلوبهم وتأسرها وتمسح دموعهم، بعد قضاء ساعتين من الزّمن، وهم يذرفون الدّموع على الرّغم من عدم وجود أيّ تسلسل درامي مقنع، يشعر المُشاهد بواقعية الأحداث.

رواية المطلّقة للأديب جميل السّلحوت.. التي صدرت مؤخرا عن مكتبة كل شيء الحيفاوية، هي الجزء الثّاني من رواية الخاصرة الرّخوة، التي أثارت جدلا واسعا في الأوساط الثقافية والدينية، وهو الآن يطلّ علينا بالجزء الثّاني؛ ليرسّخ أفكاره وقناعاته؛ ويدعم كل واحدة منها بآيات قرآنيّة تؤكد على صحّة ما يطرح، وتجيب على أيّ تساؤلات قد تنجم عند قراءة الرواية.

المطلّقة رواية واقعيّة من روح المجتمع العربي الشرقيّ، كُتبت بقلمٍ حبر دواته مصنوع من آهات مجتمع ينزف من ظلم يحيق بالمرأة العربية، على مرأى من جميع أفراد الأسرة، دون تحريك أيّ ساكن، وكأنّه قدرها، عليها القبول به دون اعتراض، وإلا ستخرج عن الصّف المجتمعي التّقليديّ، وتتسبّب لعائلتها بالعار. إذ لا زال المجتمع العربي يوصف بالذّكوري، على الرّغم من أنّه بدأ يخطو خطوات واثقة نحو حصول المرأة على حقّها، بعد أن أدركت المرأة حقوقها، وبدأ المجتمع بتقبّل الواقع الجديد تدريجيا، لما فيه مصلحة المرأة التي يقع على عاتقها تربية الأجيال.

"المطلّقة" عنوان يفتح ملفّات اجتماعيّة ساخنة، ويضعها على طاولة النقاش بامتياز، إذ ضرب السّلحوت أكثر من عصفور واحد بحجر واحد. تطرّق من خلال روايته إلى عدة أمور، وأعطى كلّ ذي حقّ حقّه من خلال أحداث واقعيّة تناولها بنظرة ثاقبة، أهدافها واضحة، وعرضها بأسلوب مقنع وشيّق، ولغة السهّل الممتنع.

رسالة أراد أن يوصلها للقارىء وهي أنّ حياة " المطلّقة" لا تنتهي بانفصالها عن زوجها، بل قد تكون البداية لحياة أفضل تجد فيها نفسها، وتكون بذلك قد صلّحت خطأ دفعت ثمنه غاليا خلال فترة زواج غير موفّق، ذاقت فيه الأمرّين، كما حصل مع جمانة، إذ ضغط عليها والدها بالزّواج من أسامة، الذي قام بانتهاك إنسانيّتها، دون إدراكه لذلك. فقد كان جهله وتفسيره وفهمه الخاطىء لتعاليم الديانة الإسلامية وراء ذلك، على الرغم من أنّه درس الشّريعة الإسلامية، كان يمارس انتهاكاته بحق زوجته باسم الدّين.. اعتقد أنّه على حقّ في كلّ ما يفعل. وحتّى عندما تمّ الطلاق لم يذكر أسامة زوجته جمانة إلا بالخير، ولا زال لا يستوعب سبب طلب زوجته الطّلاق منه، فقد رآها خير زوجة.

وهذا يفتح نقاشا عميقا حول مفاهيم شبابنا وقناعاتهم، وتربيتهم وتنشئتهم والبيئة التي كبروا وترعرعوا فيها، ومدى اطلاعهم على الثقافات الأخرى، وقراءاتهم كتبا لعلماء الّدين والمجتمع إلخ.. فلا يكفي أن يحصل المرء على أعلى الشّهادات الجامعية ليكون إنسانا ناجحا، بل عليه أن يثقف نفسه في عدة مجالات مختلفة، وعليه احترام آراء من حوله والاستماع لهم دون تعصب، فقد يجد الحلّ الأمثل هناك.

أمّا جمانة المطلّقة، والأم لطفل يعيش معها- حصلت على حق حضانته-.. فلم يشكّل لها عائقا لإعادة الارتباط بزوج آخر عرف قيمتها، واحترم إنسانيتها، وقام بواجبها وبواجب طفلها خير قيام.  إذ كان الزّوج المحبّ لها، والأب الحنون لطفلها، وسعى جاهدا أن يعوّضها عن معاناتها مع زوجها السّابق.

وهذه رسالة واضحة للمجتمع، مفادها أن من حق المرأة المطلقة أن تأخذ فرصة أخرى؛ لتعيش حياة تحقق لها سعادتها مثلها مثل الرجل تماما.

أمّا الشّعوذة والجهل فقد كان له نصيب أيضا في الرّواية. كانت أمّ أسامة إحدى ضحايا مشعوذ قذر، استغلها واستباح شرفها، وأخذ مقابل ذلك مبلغا كبيرا من المال، بحجة تخليصها من الجنّ، ولم تكتشفه إلا بعد سقوطها بالرّذيلة.

جاء في الرّواية العديد من التساؤلات حول زواج الانس من الجن.. وجاءت الإجابات المختلفة على ألسن عدد من شخوصه دون تدخّل الكاتب، ودون أن يضع لسانه في فم أيّ من الشخوص، وبذلك يطرح موضوعا في غاية الأهمية لمجتمع يؤمن بهذا الأمر، ولا زال يبحث عن الإجابه. لقد كان ذلك في صالح الرّواية.

أمّا زواج المثليين فقد كان له نصيب أيضا، تم طرحه على المستوى الفسيولوجي والاجتماعي والدّيني أيضا بشكل موفّق.

وفي الختام.. نجح الكاتب أن يكون موضوعيّا.. فصوّر في روايته المرأة الطيّبة وصوّر المرأة الشّيطانة، وكان هناك الرّجل الطّيب وكان أيضا الرّجل الشّيطان، فهذا هو المجتمع خليط من الخير والشّر، وعلى كل شخص أن يدفع ثمن أخطائه وسلوكياته كفرد في المجتمع، وليس لنوعه الاجتماعي، كان ذكرا أو أنثى، وقد أنصف السّلحوت بذلك المرأة كما هو دوما، عندما أعطاها حقّها في نصوصه الأدبية، التي تسعى دوما لتحقيق العدالة.

akhnaton897.jpg

تعد ّ الأسطورة المغامرة الأبداعية الأولى التي أبتكرتها المخيلة البشرية من المغامرات التي كانت صدى للواقع المعرفي والجمالي والتطور الإدراكي للإنسان , وشكلت جزءا ً مهما ً من حياة الشعوب وطقوسهم وعبرت ّ عن ثقافتهم ويؤكد الكاتب " علاء الدين محمود" بأن نشأة الأسطورة هي من محاولات الإنسان لإقامة علاقة مع الطبيعة من حوله , كانت تلك هي أولى محاولة لتفسير الأشياء والظواهر , وهذا ما جعل الأدب يحتضن الأسطورة بكل رحابة وحماس .

إن التاريخ العربي حافل بتلك الأساطير والمحكيّات الخرافية القديمة , كان لا بد أن تستلهمه الرواية العربية الحديثة , وهناك عدد من الأعمال الروائية الكبيرة والمميزة التي صنعت حالة سردية مستمدة من الفضاء الأسطوري منها رواية " عودة الروح " لتوفيق الحكيم التي تتحدث عن الأساطير المصرية القديمة فيما يتعلق بالموت والحياة , وكذلك رواية " إيزيس وأوزوريس " لعبد المنعم محمد عمر , و " مارس يحرق معداته " لعيسى الناعوري , و " نرسيس " لأنور قصيباتي وغيرها , ثم كان التتويج والتناول الخلاق للتراث من قبل" نجيب محفوظ" .

من هنا نجد الروائي " صبحي فحماوي" يستلهم الأساطير في معالجة قضايا الإنسان العربي في زمن التمزق والتشظي والاغتراب وسيادة العزلة والوحدة والحياة الفردية في روايته " أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية " .**

نرى أن عتبة الرواية تعتمد في تقنيتها على " منظار الزمن الصيني " المتطور لدرجة إنه يعطي السارد فرصة مشاهدة الصور وسماع أصوات الزمن الماضي وذلك ببرمجة علمية لا يعرف تفاصيلها غير مخترعيه , يقول الروائي صبحي فحماوي في أحد لقاءاته :

" إنني لا أكتب كتاب تاريخ , ولكنني أسرد رواية عشق جمالية تقدم فكرا ً يكتنفه الخيال , وهذا إبداع وليس كتاب تاريخ لا يلتزم بحرفيات المكتوب سابقا ً , وإنما يقدم فكرا ً جديدا ً " .

في ختام القرن الخامس عشر قبل الميلاد وصلت مصر الى قمة المجد فإتسعت رقعتها , وامتد نفوذها من أعالي دجلة والفرات شمالا ً الى " بناتا " عند الشلال الرابع جنوبا ً , وصارت مهيبة الجانب ونافذة الكلمة , يذعن لقوتها وبطشها أرباب التيجان وأصحاب الدول , ويسعى كل عاهل في الشرق الى أن يخطب ودها ويفوز برضاها.. كان أهلها في رغد من العيش , ينعمون بحياة ناعمة ويتمتعون بخير كثير جاءهم من تلك الممتلكات المترامية الأطراف التي تتبع بلادهم وتفيض من خيرها عليهم .

و" صبحي فحماوي " بصفته روائيا ً معلوماتيا ً عربيا ً استطاع " بمنظار

الزمن " أن يشاهد ما يريد من أحداث الماضي، ويكتب رواية معلوماتية تسرد ما يبحث عنه من أحداث الزمن السحيق , لا يعرف السبب الذي دعا لإدارة " منظار الزمن " لإعطاءه الإطلاع على هذا المنظار الزمني والذي يجعلك تستطيع مشاهدة أي ّ زمن ماض ٍ تريد استرجاعه , من هنا عاد بنا الى عصر الأمبراطور" أمنحتب

الثالث" وزوجته الملكة " تيي "وابنه " أمنحتب" أخناتون عاشق الجميلة "نيفرتيتي" للتعرف على قصة حبهما ولمشاهدة معركة " مجدو " الشهيرة والتعرف على مسبباتها وبداياتها ونهاياتها , هكذا أوصلنا " منظار الزمن" الى ذلك العصر الكنعاني الفرعوني المجيد .

تقوم الرواية في بنائها على أماكن وأحداث ثيمية وأسطورية ولغة رمزية , فالشد الأول في المشهد يتناول قصة حب شهيرة للأمير " أمنحتب " أخناتون أبن الأمبراطور المصري " أمنحتب الثالث " والأميرة الكنعانية " إلهام " نيفرتيتي أبنة " رافائيل " ملك مملكة " مجدو " , بينما كان الملك الكنعاني " رافائيل " يتفاوض مع ملك مصر العظيم " أمنحتب الثالث " حول تفاصيل العلاقة المتأزمة بين مصر والممالك الكنعانية , كان الأمير الفرعوني " أمنحتب " أخناتون يشاهد فتاة تسبح في وسط بحيرة الشط، الخليلية فاعتقد أنها تغرق، فخلع ملابسه وغطس لينقذها , وبعد جلوسهما على الشط، شدهما الجمالية الفائقة لكل منهما أمام الآخر , وكانت الإيجابية هي التي أوثقت العلاقة، كونهما يؤمنان بأن الشمس هي القوة الأعظم المسيّرة للحياة على الأرض سواء النباتية أو الحيوانية.. كانت الأميرة إلهام " نيفرتيتي " تحمل بيدها تمثالا ًصغيرا ً لإله الشمس الهندوسي واسمه " سوريا " وكان أخناتون يؤمن بالإله المصري " رع آتون الشمس " فكان الانتماء إلى الشمس هو سر استلطافهما لبعضهما بعضاً.. وقبل أن ينتهي هذا اللقاء الجميل، سألته سؤالاً أخيرا :

" ما دمنا نفكر بهذه الإنسانية الرائعة، والمحبة المتبادلة , وما دمت أنت ولي عهد ملك مصر، فلماذا هذه المشاحنات بين شعبينا , ولماذا تزداد قسوة الفراعنة على أبناء شعبنا في هذه السنوات العجاف , وذلك بابتزازهم، واستغلال طاقاتهم التي أتفقنا على إن مصدرها هو إلهنا الواحد " آتون الشمس " الذي يعطي الطاقة للجميع بلا تمييز ؟

لماذا نجد عندكم التمييز بين حاكم ومحكوم , بين سيد ومسود , وبين فرعوني وكنعاني؟

كانت تودع فارسها الفتي ّ وعيناها تدمعان وهما معلقتان به، فتجد نفسها تترك بين يديه تلك التحفة النادرة التي أعطتها إياها أمها وهي تمثال " شاباس الشمس " الذي يوحدهما دينيا ً وهي تقول له : " لعل شاباس إله الشمس هذا يذكرك بي ذات يوم " .

يقول الروائي صبحي فحماوي في حوار خارج النص:

" التاريخ المكتوب حاليا ً رسمه الغرب لنا بعد أن أحرقوا مكتبة الأسكندرية التي كانت مستودع كتب العلمية والثقافية والأدبية , وتحوي كل كتب العالم في تلك الأيام , فأزالوا اللغة الهيروغليفية واللغة الكنعانية العربية , ولم يبقوا لنا شيئا ً نستند عليه كمرجع حقيقي للأحداث ثم جاءوا ليرسموا تاريخنا كما يشاؤون بصفة أن المنتصر هو الذي يكتب التاريخ كما يشاء " .

بعد ثلاثة أعوام من ذلك اللقاء اشتد تمرد الممالك الكنعانية على مملكة مصر الفرعونية , فيشاهد القائد الكنعاني " رافائيل " ملك مجدو يقف أمام قادة جيوش الممالك الكنعانية القادمين كل من الممالك الكنعانية، وهم يحملون تابوت العهد الكنعاني وذلك إيمانا ً منهم إن الإله " إل " يرافقهم حيث يمضون , وينصرهم على من يعادون وليكون شعارهم؛ " تقديس الموت بهذا التابوت وهم يدافعون عن الوطن " لمواجهة قوات " أمنحتب الثالث " فرعون مصر، بقيادة ولي العهد " أمنحتب " أخناتون .

كان " رافائيل " ملك مجدو يعطي إبنته الأميرة " إلهام " الحرية الكاملة في إبداء الرأي حول الشؤون المدنية وكذلك المشاركة في التخطيط للمعارك العسكرية للمملكة .

صارت الحرب حقيقة واقعة , إذ تواجه الجيشان وجها ً لوجه , الفرعوني من الجهة البحرية، والكنعاني من جهة السهول المحيطة بمدينة مجدو .. ولبدء المعركة تقدم الأمير "أمنحتب " خطوات الى الأمام وانتظر قليلا ً لظهور من يقابله، فإذا بصبية كنعانية فائقة الجمال من الجيش المقابل تتقدم الى الأمام، بصفتها الممثل المفوض عن جيوش مجدو .. ذهل أفراد الجيشين بهذا التقابل غير المتكافئ، وذلك لكون اللقاء لم يكن عدائيا ً كما كان متوقعا ً إذ قالت له الأميرة " إلهام " :

" إيها الأمير الأمبراطوري " أمنحتب " الذي عرفته يتغنى بالمحبة والإنسانية والسلام؛ كنت قد التقيتك على بحيرة الشاطئ الخليلية قبل ثلاث سنوات، وكنا قد تفاهمنا على أن الحياة على الأرض تعني المحبة والسلام , وأننا سنحقق السلام بين مصر وكنعان , ولكننا على عكس ما توقعت، نلتقي اليوم وجها ً لوجه على سهول مملكة مجدو، بمعارك قد تحرق الأخضر واليابس بين بلدينا , وأنا بمبادرة من نفسي وبالنيابة عن أبي " رافائيل " ملك مجدو وملوك الكنعانيين وقادتهم العسكريين جميعا ً أقترح عليك أن تكون مجدو مملكة لقاء وسلام بدل أن تكون شعلة للحروب والدمار وأن نتقابل منها كإخوة وجيران وأصدقاء ومحبين بدل أن تسيل بيننا الدماء ونبقى نحتل بلادكم هكسوسا ً وتبقون تحتلون بلادنا فراعنة .. ذُهُل القائد الأعلى

" أمنحتب " أخناتون بما يشاهده ويسمعه من هذه الأميرة " إلهام " ثم قال :

" نعم كنا قد اتفقنا على المحبة والسلام , ولكنني قادم على رأس جيش مصر، بصفتي ممثلا ً للإمبراطورية الفرعونية.. فلقد قررت أمامك وأمام هذه الجيوش الجرارة قبول مبادرة السلام هذه , على أن تستبدل كل العلاقات بين الدولتين المصرية والكنعانية عامة , وليست ممالك فلسطين وحدها من استعلاء وعداء، الى سلام ووئام تام " .

وبالمقابل عرض " أمنحتب " عرضه على الملك " رافائيل " توثيق معاهدة رسمية لإرساء سلام ومحبة دائمة بين الفراعنة والكنعانيين كافة , واعتبارهم من هذا اليوم أمة واحدة , ولهذا تبتعد الجيوش عن بعضها، ويسهر " أمنحتب الرابع " أخناتون مدعوا ً من قبل أبيها الملك الكنعاني " رافائيل " على عشاء وسهرة ليقضي ليلة ضيفا ً معززا ًومكرّما ً عندهم وفي الصباح اليوم التالي يقرر خطبة الأميرة الجميلة "إلهام".

لو تأملنا هذه الأحداث وهذه الثورة لوجدنا أن الصراع السياسي على السلطة والصراع الاقتصادي على توسيع النفوذ هو المهيمن على مسيرة الأحداث، وليست المسألة مسألة ديانة أو عقيدة، على الرغم من كون " أمنحتب الرابع " أخناتون كان أميراً سديد الرأي وعادلاً وصائب النظر فيما اتخذ من إصلاح ديني يتمثل في توحيد الآلهة، واعتبار الآلهة الأخرى زائفة، ولكن الطبقة السياسية وأصحاب النفوذ ضربت مصالحهم وثرواتهم ومكانتهم الإجتماعية بعد أن هجر الملك " أمنحتب الرابع " أخناتون طيبة على الرغم مما كان لها من السيادة والأبهة عندما وجد ارتباكها بالتقاليد اللاهوتية القديمة التي كانت أكثر من اللازم , وضعفت الحركة فيها نسبيا ، لتكون العاصمة الجديدة " أخت آتون " هي الحداثية البديلة المتطورة .

يتفق مؤرخو " أمنحتب الرابع " أخناتون على أن الكشف الحقيقي لأخناتون وثورته الرائعة تمثلت في فنه وليس في دينه , ففي عهده بدأ الفن يتنازل عن الكلاسيكية وينزع الى الحقيقة السافرة في تصوير طبيعة الأشياء , فتصور الفرعون الى جانب زوجته في جولاتهما معا ًفي دار العبادة، وفي شرفات القصر، وحينما يخرجان للنزهة في عربته , وايضا ً يحيط الغموض بمعظم مراحل حياة أخناتون , نشأته ودوافع ثورته وحقيقة علاقاته الأسرية , نهايته ولعل ذلك ما جعل منه شخصية فنية بامتياز .

بعد السنة الثانية عشرة لحكم أخناتون أخذ الضعف يدب في بنية السلطة ووقع انشقاق في الأسرة نفسها , إذ استطاع الكهنة ذوي التاريخ العريق المتمكن، الضارب جذوره في أرض مصر والمروي بماء النيل استقطاب خاله الانتهازي " آي " الذي خضع لمشيئة كهنة آمون وأضطر بحكمته وذكائه العودة من " أخت آمون " مع زوجته " تاي " للسكن في طيبة وهذا أعطاه الفرصة للتجاوب مع استعدادات الكهنة، ونشاطاتهم للانقلاب على دين أخناتون.. وها هو الزمن يمضي والإمبراطورية المصرية تخسر مواقعها لتنكمش الى دولة صغيرة، وحتى الضرائب المحلية لم تعد تجمع، فأصبحت الخزينة المصرية مقفرة وعمت الفوضى في جميع مناطق البلاد، مما أدى الى حزن الملكة " تيي " الأم كثيرا على هذه التشققات في العائلة الملكية، ولم تستطع لم شملها، فتوفيت في سن الخمسين وذلك بعد اثنى عشر عاما من عهد ولدها أخناتون .. وفي نهاية منظار الزمن نشاهد تحطم أعصاب أخناتون وهو يرى الثورة تندلع في أكثر من موقع من مناطق الإمبراطورية، والأجنحة الخاضعة لها، والقوى التي تناوئه، وتجهر بإسقاطه.. واخيرا ً توفى محطم القلب، ولم يكد يتم الثلاثين من عمره بعد أن أدرك عجزه عن تحقيق آماله بتغيير العلاقات الإنسانية على وجه الأرض .. قتل الإنسان الذي انبثق من وسط الفساد نقيا ً طاهرا ً حالما ً بتحقيق جنة على الأرض .

وأما " نيفرتيتي"، الملكة الساحرة الفاتنة رقيقة الملامح والتي عاصرت حقبة زمنية من أكثر الحقب المصرية غموضا ً والتباسا ً , فقد أحاط الغموض بكل تفاصيل حياتها بل وحتى مماتها بعد أن عم ّ الحزن حياتهما , فانتهت بالبعد والهجر المقيت، وتناسى المحبان ما كان بينهما من عشق, فبلغ الشقاق بينهما مداه, وانعزلت " في قصر بشمال " أخت آتون " بمفردها , وقد انتابها الحزن العميق وهي تسمع بنبأ مقتل زوجها بعد المؤامرة التي تعرض لها , وبعد فترة من الزمن لحقت بإخناتون ولم يعرف حتى هذه اللحظة كيفية موتها ولا مكان دفنها ولا حتى سنة وفاتها ,وقد عثر على تمثالها النصفي الذي تم اكتشافه عام 1912 م والذي يعرض حاليا ً بمتحف برلين الجديد بألمانيا .

هذه هي رواية " أخناتون ونفرتيتي الكنعانية " للروائي صبحي فحماوي والتي تم تسليط الضوء على الرؤيا التاريخية لحقبة سيطرة مصر الفرعونية على بلاد كنعان، ومستعينا ً بأعذ ب ما جادت به لغة عصره لحضارة كانت ثمرة اختمار تجارب إنسانية، تأسست على الحب , هذا الحب الذي ظل محفزا ً لابتكار أساطير عديدة وأشعار وأدبيات وفنون بلورت أقرب لمشاعر المصري القديم بمختلف المفردات والصور البلاغية .

** رواية أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية / الروائي صبحي فحماوي / الدار الأهلية للطباعة والنشر / بيروت / عمّان / شباط 2020 .

hoda897.jpg

mat8972.jpg

صدرت روايّة "المطلّقة" للكاتب المقدسيّ جميل السّلحوت قبل أيّام عن مكتبة كل شيء في حيفا، وتقع الرواية التي يحمل غلافها لوحة للفنّان التّشكيلي محمد نصرالله ومنتجها وأخرجها شربل الياس في 192 صفحة من الحجم المتوسّط.

روايّة "المطلّقة، هي الجزء الثاني لرعن وايّة "الخاصرة الرّخوة"، التّي طرحت طريقة نظرة الفرد ومفهومه الخاطئ للدّين،وأثره على الحياة الزوجية، والتّي تمحورت في قصّة أُسامة وجمانة على وجه الخصوص، وبعد قراءتي لهذه الرّوايّة الإجتماعيّة التّي أمامنا، تساءلت ما هو الجديد الذّي طُرح في هذه الرّواية ،وما هي الأزمة التّي نتجت من كون جمانة وصابرين مطلقتان،ربما  أراد الكاتب أن يثير حالة المطلقة في مجتمعاتنا العربيّة، ولفت الأنظار إلى حقّهنّ بالزواج مرة أُخرى وأنّهنّ كائن لا يحق لأحد أن ينعتهنّ بصفات غير لائقة أو يسبب لهنّ الأذى.واللافت في الرّوايّة أنّ الخلاف قائم منذ بدايتها حول طلب جمانة الطلاق من زوجها، ومحاولة الأهل إقناعها بالعدول عن رأيها وهذا شيء طبيعي، ورفض حماتها قرارها في البداية، وذهول زوجها أُسامة الذي يقف أمام مشكلته عاجزا أمام اتّخاذ القرّار.

حصلت جمانة على الطلاق، وماذا بعد؟ هل تغيّر مجرى حياتها إلى الأسوأ؟ لم تتعرض جمانة لأذى يُذكر سوى من حماتها أمّ أُسامة صاحبة اللسان السّليط، فرياح المجتمع لم تضعها في سلّة الوجع، بل في حديقة الأمل والحب حيث استكمال تعليمها وزواجها من رمزي الذي ظهر كهديّة سريعة، أرادها مع طفلها، لم يسنح الكاتب فرصة للقارئ لمعرفة أوجاع المرأة بعد الطلاق، نفسيتها عاطفتها ومن الناحيّة الإجتماعيّة،بل كان كالمخلّص السّريع أدخلها سريعا للخطوبة، ولم يجعل القارئ يتفاعل مع جمانة كمطلقة من خلال حالة ما تؤثر(تمّ  فقط ذكر، أنّه كانت جمانة في صراع بعدما عُرض عليها الزواج)، ولكنه جعلنا نتفاعل مع صابرين المطلقة وهي تتحدث عن وجعها ووجع مثيلاتها من النساء المطلقات، اللواتي ينفرنّ من الأزواج كبيري السّن.

أشعل الكاتب الضوء،حول  قضايا ثانويّة، لكنّها هامّة مثل،علاقة أمّ أُسامة العاطفية المهزومة مع زوجها، وقد انكشف هذا السّر بشكل مفاجىء للقارئ من خلال بوح أُمّ أُسامة للشيخ عديّ عن سرّها مع زوجها، وقد نجح الكاتب في صقل تصوير شخصيّتها في حالة جبروتها وانهزامها وانكسارها عاطفيّا، وقد استكمل الكاتب قضيّة المثليين التي طرحها في الجزء الأوّل،وفي نظري تلك المسألة تحتاج لروايّة بحدّ ذاتها، وليس حوارا عابرا، أو مكالمة هاتفيّة.

جاءت الرّوايّة كسرد لخلافات إجتماعيّة وفكريّة وليست غريبة، تحدث بين الأزواج وتؤدّي إلى الطلاق، وقد كانت الأصوات متفاوتة في الرّوايّة، فهو عند جمانة بين نبرة عاليّة غاضبة، تستنطق العدل والفصل في حكم الطلاق، وبين وتيرة هادئة متزنة فيها السكينة بعد الطلاق، أمّا صوت أُمّ أُسامة فقد ظهر كرنين الجرس المتواصل لا يهدأ، يحمل الغضب متمثلا بالأمثال الصّارخة، ثم خفت الصّوت بعد توبتها، وتحوّل لناعم حنون.

صوت أُسامة لم يتغيّر إلاّ قليلا، فهو صوت ضعيف مرتبك، متوتر إلاّ أنّه علا مرة واحدة.

صابرين،صوت حزين  فيه آثار خيبة وحسرة.

أمّا صوت الطبيب فريد ورمزي فهي أصوات هادئة متزنة.

صوت أبى أُسامة كان خافتا ثم علا فيما بعد.

جاءت لغة الرّوايّة بالفصحى بلسان الراوي العليم، زاخرة بالحوار، سهلة،مشبعة بالأمثال الشعبيّة، وقد احتوت على آيات من القرآن الكريم.

إنّ القارئ لروايات وقصص جميل السّلحوت،لا بدّ له أن يلاحظ من خلال السّرد إحتواء فقرة أو ما يزيد عن اضطهاد الفلسطيني من قبل الإحتلال بصوره المختلفة، أو تسليط الضوء على الماضي سواء النكبة أو النكسة، حتى لو كانت الرّواية ليس لها علاقة بالسياسة والوطن، وهذا يدلّ على أنّ قلمه لا يعرف السكينة والهدوء دون أن يبرق برسائل حزينة فيها صوت الوطن، وكذلك أبرق هنا برسائل عن النكبة ومضايقات الإحتلال للمواطن الفلسطينيّ حتى لو كان مريضا كوضع الأسير فارس زوج عائشة.

mat897.jpg

mata8971.jpg 

في روايته الجديدة (المطلقة) يقدّم الكاتب جميل السلحوت ثلاثة نماذج للمرأة المطلقة، النموذج الأول (جمانة/أسامة)، والنموذج الثاني (صابرين/يونس)، وأما النموذج الثالث فهو (عائشة/زياد).

تبدأ الرواية بعودة جمانة وزوجها من السعودية لقضاء إجازة الصيف في مدينة القدس بعد قضائهما عامين هناك حيث يعمل مدرسا. وبعد عودتها تذهب إلى بيت عائلتها، وبصحبتها طفلها سعيد، وتخبر والديها عن نيتها بالانفصال عن زوجها أسامه كونه رجلا تكفيريّا متزمّتا – كما وصفته -. كان أسامة قد فرض عليها نمطا حياتيا صعبا حيث صادر حريتها بشكل كامل منطلقا من معتقداته الدينية المتشددة، إلى درجة لم تعد قادرة عندها مواصلة حياتها معه، لذا طلبت الطلاق منه، ورفعت عليه قضية خُلْعٍ، وتحقق لها ذلك بعد حين.

فور علم والدة أسامة بذلك، وهي امرأة متسلطة، شرعت بالبحث عن عروس له، واقترحت عليه الزواج إمّا من ابنة خالته، وإمّا من (صابرين) ابنة عمه عزّ الدين، وهي امرأة مطلقة من زوجها يونس الذي وصفته بأنّه "عاهر" ويشتري النساء بماله. وكانت قصتها النموذج الثاني الذي يقدمه الكاتب. وأمّا النموذج الثالث فقصة عائشة التي كانت متزوجة من زياد الذي اتهمها بشرفها، وأنها فقدت عذريتها قبل زواجهما إلى أن تزوجت من الأسير المحرر فارس محمد مسعود، وعندما ذهبت إلى مستشفى المقاصد للولادة اكتشفت الطبيبة أميرة عذريتها وقامت بإزالة بكارتها المطّاطية عند مخاضها بابنها البكر من زوجها الثّاني؛ لتكون شاهدة على عفّتها وبراءتها، ومدى الظّلم الذي لحق بها في زواجها الأول، وأدى إلى طلاقها.

في سرده لهذه الحالات يتناول الكاتب وجهة نظر المجتمع من المرأة المطلقة، ومدى الظلم الذي يوقَعُ عليها، وكيف تعاملت المطلقات مع حالاتهن. ذهبت جمانة لإكمال تعليمها لنيل درجة الماجستير في الشريعة رغم أن تخصصها في البكالوريوس كان في اللغة العربية، وكأنها أرادت أن تقدّم نموذجا مختلفا في فهم الدين وتفسيره. وأمّا صابرين التي حظيت بالمال من طليقها فقد تقدّم منها خمسة مسنين طالبين الزّواج منها، إلا أنّها رفضتهم بعد إسماعهم سيلا من شتائمها القبيحة، بينما تزوّجت عائشة من أسير محرّر وأنجبت منه ثلاثة أولاد قبل وفاته بمرض السرطان.

وإن كان المجتمع يحمل وجهة نظر سلبيّة للمرأة المطلقة، إلا أن جمانة تزوّجت من مهندس يكبرها بثلاث سنوات، وتعمّد الكاتب تقديمه بصورة حضاريّة من خلال احتضانه وعنايته بطفلها سعيد، بينما تزوّجت صابرين من ابن عمّها أسامة في توقيت اختارته والدته؛ ليتزامن مع ساعة زواج طليقته جمانه بالمهندس رمزي، وزواج شقيقتها الصّيدلانية تغريد من شقيقه الطبيب فريد، في حين رفضت عائشة الزّواج من طليقها زياد الذي ذهب ووالده لطلب يدها بعد انتهاء عدّتها الشرعية، واعتذارهم عن ظلمهم لها فأجابت والده بقولها: " لو كان ابنك زياد حذاء لما انتعلته"، وبهذا يكون الكاتب قد انتصر لها.

هناك جوانب أخرى في رواية (المطلقة) كالحديث عن مدينة القدس وحالها تحت الاحتلال، وعن تسلط أم أسامة وتحكّمها بأفراد عائلتها، ومحاولاتها الانتقام من جمانة، وعن دور الطبيبة أميرة في تبرأة ساحة عائشة، ومحاولتها مساعدة زوجها الثاني لعلاجه في الأردن، ومنع سلطات الاحتلال له من السّفر، ومن ثمّة منعه من العودة إلى مستشفى "المطلع" في القدس حيث كان يعالّج قبل محاولته السفر، وكذلك عن دورها في ترتيب زواج جمانة وتغريد من الشّقيقين فريد ورمزي، وعن المشعوذين وانقياد أمّ أسامة لهم حيث أوقعوها في الخطيئة. وعند الحديث عن (فارس) لم يغفل الكاتب الحديث عن حالة التّضامن القائمة بين الفلسطينيين من أبناء الضّفة الغربية، وأبناء القدس، وبالطبع تكون حالة التّضامن مع فلسطينيي قطاع غزّة أعمق لو كانوا جزءًا من السرد.

استخدم الكاتب جميل السلحوت النصوص الدّينية، سواء من (القرآن الكريم)، أو من الأحاديث النبوية، أو أقوال  الأئمة والفقهاء في قضايا الزواج والطلاق، وضرورة حسن معاشرة الأزواج، بشكل لافت، وهذا يعكس الثقافة التي يمتلكها في هذا المجال. لقد وردت تلك الأحاديث على لسان جمانة مثلا، وعلى ألسنة رجال الإصلاح، وبعضهم من رجال الدّين، أو من غيرهم، وكانّه أراد بذلك تقديم ما يشبه الدّروس المتعلقة بهذه القضيّة لتثقيف القارئ بها، وكأنّي أراه قد أثقل على النّص في ذلك. وكوني أعرف الشيخ جميل السلحوت عن قرب، ومنذ ما يقارب ثلاثة عقود، أتساءل: لماذا لم يوظِّف أيضا ما جاءت به الثّقافات الحديثة حول حقوق المرأة، وخاصّة أنّ للمرأة حقّ الاختيار، وهذا الحق لا يتعارض من الحقّ الذي منتحه إيّاه الشّريعة الإسلاميّة؟

انتصار الكاتب لحقوق المرأة كان واضحا وجليّا في الرّواية، وهنا أتحدّث عن المرأة المظلومة وليس الظالمة، حيث قدَّم المرأة الظالمة بصورة مختلفة، كما حال (أمّ أسامة) التي قادتها أفعالها الشّرّيرة إلى الوقوع في الخطيئة مع أحد المشعوذين، وفي ذلك إدانة لهما في وقت واحد.

-------------------------  

* صدرت عن مكتبة كل شيء - حيفا

** كاتب وصحفي مقيم في نابلس    

المزيد من المقالات...