(7) الأدب الإسلامي قبل الرسالة الخاتمة

الأدب الإسلامي إذا أخذناه بمفهوم الآية الكريمة (إن الدين عند الله الإسلام)(23)، فإنه يعني أدب الأمم الإسلامية التي عبدت الله على دين التوحيد، من آدم عليه السلام حتى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم الأنبياء، في الرسالة الإسلامية الأممية، لأن جميع الأنبياء كان مضمون رسالتهم واحد وهو أن: (اعبدوا الله مالكم من إله غيره)(24)، فكيف عبر المؤمنون عبر حقب التاريخ عن مشاعرهم تجاه الحياة ومواقفهم ومعاناتهم؟ لا شك أنهم استعملوا اللغة التي هي أداة الأدب قال تعالى: (خَلَقَ الإنسان علمه البيان)(25)، ولكن الكتابة والتدوين هو الذي تأخر عند الإنسان، والإنسان تعلم اللغة مبكرا قال تعالى: (وعلّم آدم الأسماء كلها)(26)، لأنه جاء بالخلق المباشر من الله سبحانه وتعالى، وليس له أب ولا أم ولا بيئة يتعلم منها اللغة، ولذلك عوضه الله سبحانه وتعالى بالتعليم المباشر، وكانت حياة الإنسان على الأرض في بدايتها تقوم على الكلمة المسموعة والمشافهة، ولأنه لم يتوصل إلى الكتابة والكلمة المكتوبة إلا في فترات متأخرة من التاريخ، ولذلك ضاع كثير من علم الإنسان وتجاربه وثقافته وآدابه وفنونه، وطواها النسيان لتأخر الكتابة والتدوين.

 لكننا نعود ونقول أنه منذ أن نفخ الله سبحانه وتعالى الروح في آدم عليه السلام، وجعل له قلباً ينبض بالحياة بين جنبيه، والإنسان يحمل مشاعره، ويشعر بموقعه تجاه الحياة والأحداث ويعبر عن نفسه وهمومها، وهذا هو الأدب بعينه، أنه باروميتر يقيس جدوى الحياة وفائدتها، وما تم إشباعه من طموحاتنا، وما لم يتم أو يتحقق منها، وما نشتاق إلى تحقيقه، ولذلك نحن نتخيل أن الآداب والفنون التي أنتجها المؤمنون والمسلمون الأوائل من أتباع الأنبياء في جميع مراحل الإسلام، من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الذي ورثت حمل رسالة من بعده، كلها تمتاز بالخيال الفني الواقعي، وبلاغتها وبيانها وأدبها مرتبط بعقيدة التوحيد، وهم يختلفون عن خيال وفنيات الأمم الوثنية، الذي قام على الأساطير والخرافات والسحر، وسبب هذا الافتراق واضح وجلي، يقوم على مقدمة منهجية ومنطقية، هو أنهم استمدوا أدواتهم الفنية من ماده الواقع كما فهمه هؤلاء المسلمون الذي عاشوا تحت ظلال عقيدة التوحيد، وهي العقيدة الواضحة المعالم في تفسير الحياة ووجود الإنسان، ومقصد خلق الله له، لأنهم تلقوها ناصعة جليه على يد الأنبياء في مختلف العصور.

ورغم أننا لا نملك نصوصا قديمة تثبت ما ذهبنا إليه علي منتجهم الأدبي، لأن العصور الموغلة في القدم كانت تقوم على الثقافة الشفوية قبل اكتشاف الحرف، وتوصل الإنسان إلى الكتابة والتدوين، وحيث ضاع الكثير من تجارب وعلم الإنسانية وخبراتها وطواه النسيان، إلا أننا لا نعدم بعض الأدلة والمؤشرات التي تؤيد ما ذهبنا إليه، وتقوي الميل العلمي إلى الأخذ بها، والاستفادة منها وهذه الدلائل هي:

(1) نستطيع أن نستدل على ذلك في بعض ما ورد من نصوص الإنجيل ومن التوراة، ورغم أنه لا يعتد بما فيهما من الحقائق المحرفة، وذلك للبعد الواضح بين تاريخ هذه النصوص و عصر التدوين الذي دونت فيه، إلا أننا يمكننا الاستفادة من ما ورد فيها من قطع تحسب على فنون الأدب: (كالقصص والأمثال والشعر والغزل)، التي كتبها مدونوا التوراة للتعبير عن ذواتهم، ونلاحظ أن هذه النصوص لا يوجد فيها الخيال المجنح الذي يمتد مع الأساطير والترهات، التي تستثمر في بناء النسيج الأدبي التي لم تألفها عقلية أتباع ديانة التوحيد على اختلاف مسمياتها (الأديان السماوية).

(2) والدليل الثاني: أن مما لاحظناه وجدنا أن الباحث الفرنسي ارنست دينان سبقنا إلى تأكيده، ذلك حين اتهم الخيال السامي في التوراة بأنه خيال واقعي غير ممتد في جانبه الأدبي لأنه لا يشبه الآداب الإغريقية وخيالها المجنح القوي، الذي يعتمد على الأساطير والمسرح والملاحم، ثم عمم ذلك على الخيال في الآداب السامية ومنها (الأدب العربي)(27).

(3) ونحن نؤكد نفس الفكرة، فيما  ورد إلينا من نصوص أدبيه تمثل بقايا الأدب الإسلامي في العصر الجاهلي العربي ,من بقايا المسلمين أتباع سيدنا إسماعيل عليه السلام، فيها سمات الأدب الإسلامي بواقعيته في الأبنية الفنية وفي خياله المستمد من الواقع الطبيعي، أو من المخيلة الدينية التي تحمل بقايا دين التوحيد في العصر الجاهلي، ومن أمثال ذلك قول زهير بن أبي سلمى الذي يعتبره بعض الباحثين من أواخر الموحدين على دين إسماعيل عليه السلام وفي معلقته الشهيرة:

* فلا تكتمن الله ما في صدوركم        ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

* يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر        ليوم حساب أو يعجل فينقم(28)

وكذلك ما نراه من عقيدة التوحيد والاعتقاد بالبعث ويوم القيامة في كثير من أشعاره، وبخاصة قصيدته المعروفة باللامية التي يقول فيها:

* ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أَرى      من الأمر أو يبدوا لهم ما بداليا

* بدا لــــــــــيَّ أن الله حـــــق فزادنـــــي      إلى الحق تقوى ما كان باديــــا

*بدا ليَّ أن الناس تفنـــــــــــى نفوسهـــم       وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا(29)

 ويلاحظ الباحث في لغة زهير الفنية أنه يمتاز بالخيال الواقعي الذي يخدم الموقف الشعوري، وذلك من خلال البلاغة والبيان الأدبي الذي يستمد صوره وتشبيهاته من الواقع اليومي وخبراته ببساطته وعمقه، ومن أمثله ذلك تشبيهه لموكب مجموعة من النسوة المسافرات المتجهات إلى وادي الرس كتوجيه اليد إلى الفم لا تخطئه ولا تحيد عنه، ومن خلال صورة فنية تمتاز بالبساطة والصدق والعمق، وبهذا السهل الممتنع وذلك بقوله:

 بكرنَ بكوراً واستحرن بسحرهِ    فَهُنَّ لوادِ الرَّسِ كاليدِ للفَمِ(30)

أو كقول لبيد في معلقته:

 فارضَ بما قسَم المليكُ       فإنما      قسم الممالك بيننا علامها(31)

 ومن الأمثلة أيضا على تقنيات البساطة والدقة والواقعية عنده:

فلو لم يكن في كفه غيرُ نفسه                 لجاد بها فليتق اللهَ سائله

ويمكن للدارس أن يتابع ذلك في آثار شعراء آخرين من العصر الجاهلي.

*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )

clip_image002_5bc2e.jpg

ما من روائي قرر أن يكتب رواية إلا وفكر كثيرا ً في صياغة العبارة الأولى لروايته وكيف يكون أستهلاله لها ,الذي يجعل القارىء يتعاطى مع النص الروائي بوضوح وتناغم ,وهذا ما كشف عنه إستهلال الرواية .

 في كثير من الأحيان , تمر بنا مواقف لا نستطيع مواجهتها , ولا نستطيع التخلصّ منها , أشياء تتمكن منا ,تعيش في داخلنا ورغم إننا نصاب بالضرر منها , إلا أنها مصدر سعادتنا .السعادة التي تسبب الألم , والألم الذي يكون مصدرا ً للسعادة , معادلة يصعب فهمها إلا لمن يعيشها .

عن دار أمل الجديدة للطباعة والنشر والتوزيع / دمشق , صدر للروائي  "علاء المرقب " رواية " حلال أسود " / 2019 .

تبدأ الرواية بسرد الأحداث التي تمر بها الشخصية والتي تشكل فارقا ً في طريقة تعامله مع الواقع وبأسلوب بسيط رغم كل ما تحمله من معاني جميلة وأنتقالات رائعة كأننا نعيش اللحظة في رحلة مشوقة وبعالم رومانسي , قصة تحكي عن شخصية تعيش تجربة غير مستقرة وتتعرض للكثير من المصاعب الإجتماعية .

في مجتمعنا يشكل الحب عند الأطفال هاجسا ً مخيفا ً لا يمكن أن تنطق بها ألسنتهم , ينمو الشعور بالرومانسية والإنجذاب العاطفي , حب طالب مراهق ( عدي ) لإيمان بإعوامها الخمس والثلاثين , أجمل نساء المنطقة بشهادة الجميع , هي عذبة اللسان , تزوجت من خالد وهي ما تزال طالبة في أول سنة جامعة , وتركها تكمل الدراسة ولكنه أبى أن تتوظف وبعد سنتين من زواجهما أكتشف بأنها لا يمكن أن تنجب فتزوج ثانية من " نجلاء " فسبب لها ألما ً كانت تخفيه .

يشكل كل من المكان والزمان أحد المكونات الأساسية في بناء الرواية فهما يدخلان بعلاقات متعددة مع المكونات الحكائية الأخرى للسرد  كالشخصيات والأحداث , ويعتبر المكان هو عالم الثوابت بينما يندرج الزمان في عالم المتغيرات ..

بيئة أجتماعية شعبية تآلف أهلها , عدد الدور فيها قليلا ً مقارنة بالمناطق الأخرى , متانة العلاقة لا يحددها البعد أو القرب بل مرهونة بعدد الزيارات اليومية .

يصور الروائي " علاء المرقب " بكل دقة البيئة حتى يشد ّ القارىء وبأسلوب يعبر عن أحساس وبشكل مشوق يجذب القارىء الى متابعة الأحداث .

 قامت أم عدي بأرسال أبنها عدي " المراهق " بعمر 13 سنة للمبيت عند إيمان لكون زوجها خالد حكم عليه بالسجن ثلاث سنين بسبب ( الرشوة

والفساد ) حيث كان يعمل في دائرة الجمارك , بعد أن ضاع كل الطرق , لم يعصمه إيمانه عن مد يده لمال لا يمتلكه فخان الأمانة .

الفتى المدلل في بيت إيمان تعامله بطيب وحنان وأزدادت علاقته بها وثوقا ً, تعلم أشياء لم يكن يعرفها , الأختلاط بمجتمع جديد يكسب المرء عادات وتقاليد قد تغير ّ الكثير من مفاهيمه وأزدادت ثقته بنفسه .

بدأت السعادة تتملك " عدي " وهو يفكر بإيمان , وبدأ القلق يساوره

" ماذا حصل لي ؟ هل من المعقول أن يصل تعلقي بها لهذه الدرجة , أنا أشعر بالحب تجاهها , وأعلم أن هذا الشيء مرفوض من قبل أهلي والمجتمع , كونها إمرأة متزوجة , لا يمكن أن يسامحني أحد لما أشعر به , ربما لو علمت بحبي لن تسامحني رغم علمي بفارق السن الذي تجاوز الثلاثين عاما ً " .

ماذا يعني كل هذا الحب , هل هو إحساس أم هو فكرة أم هو فعل ؟ ما مصدره ؟ كيف يتم ؟ هل له دخول حين يدخل الى القلب , وهل له خروج حين يخرج منه ؟ هل الحب حين يحب أحدنا الآخر قدر أم أختيار ؟ هل في الشرع قانون يحرم الأرتباط إذا تفاوتت الأعمار , من يستطيع الإجابة بعق وحكمة على هذه الأسئلة ؟.

درس الروائي " علاء المرقب " شخصية البطل " عدي " نفسيا ً عبر مناجاة نفسية طويلة يعيشها , جعل حالات التداعي النفسي تعبر عن فقدان " عدي " التواصل مع ذاته أو مع الذوات الأخرى من ناحية كون الصراع داخلي أو خارجي , شعر وكأنه تجاوز حدوده في النظر الى إيمان بنظرات ثاقبة , وقلب نابض تتملكه السعادة المشوبة بالقلق وهو يفكر فيها , ماذا حصل له ؟ هل من المعقول أن يصل تعلقه لها لهذه الدرجة ؟ إنه يشعر بالحب تجاهها وأصبح هذا الحب حبيس صدره .

وبعد مضي إقامة عدي في منزل إيمان مدة سنتين كبر وأشتد عوده , ولم يعد ذلك الصغير الذي لا يفقه شيئا ً , مرت ّ الأيام سريعة وإذا بخبر خروج خالد من السجن , وإن مهمة عدي قد أنتهت في بيت إيمان , لكن الخبر حمل له الآسى هنالك ما يشدّه للمكان , الأعتياد لا يقل تأثيرا ً عن الحب , فالسكن لدى إيمان له الكثير ويحمل له السعادة .

إيمان قدّمت أوراقها للتعيين في سلك التدريس وتمت الموافقة على تعينها وذلك لكونها تشعر بالملل لوجودها المستمر بالبيت وضعف المردودات المالية بعد أن أصبح زوجها خالد جنديا ً لإلتحاقه بالخدمة العسكرية عند خروجه من السجن ووحدته العسكرية قريبة من المنطقة ويذهب صباحا ً ويعود ظهرا ً الى البيت ويتكفل برعاية عائلتين ,

أضحت العلاقة واهنة بينهما وأختلفت طبيعة تعامل خالد لإيمان بعد خروجه من السجن تغير كليا ً , تخلّى عما يرتبط بالمساواة والعدالة ورفض دوامها في سلك التدريس ولم تسير الأوضاع الى التحسّن بل أزدادت سوءا ً بعد أن باشرت بعملها .

يقول خالد :

" إني أكتشفت إن زواجي من إيمان لم يكن عن حب , حقيقة عرفتها متأخرا ً , لا يمكن للجمال أن يشعر المرء بالسعادة بل التقارب النفسي , أما نجلاء فقد أردتها كي تنجب لي بعد أن ثبت لي إيمان لن تنجب " .

أرسل خالد الى إيمان من يبلغها بالطلاق , وصل الخبر الى عدي تملكته سعادة أنه من الطبيعي أن تتقارب الأرواح والأنفس تجاه بعضها البعض دون الرجوع الى أية فوارق الحب .

تمر الأيام سريعا ً حتى جاء اليوم الذي قالت أم عدي لإبنها بأن إيمان جاءها عريس , مدرس معها في المدرسة , فاتحها اليوم بالزواج , لم يستطع عدي موازنة الرؤيا فتشابه الكل لديه لا يسمع ما يقولون كأن رأسه في بئر , تتقاطع فيه أصداء أصوات عدة , حاول إلا يفقد توازنه ثم بدأ يفقد الرؤيا , بدأ يرى المكان أحمر ثم داكن ثم أصبح أسودا ً , قلبه لا أثر فيه للنبض ولم يعد يشعر بشيء , فطرح أرضا ً بلا حراك ولا قدرة لفعل شيء حتى فارق الوعي تماما ً .

في هذا الموقف يعمل الروائي " علاء المرقب " بتحليل وتوصيف أفكار ومواقف ودوافع شخصية عدي , فإن هذه الرواية تمثل الواقع المعاش والذي يظهر لنا فيه البطل في صراع داخلي وخارجي ويسلط الضوء على الجانب النفسي لهذه الشخصية ,حيث إن كبت الرغبات والغرائز تجعله عرضة للإصابة بمرض الصراع النفسي وتضارب العواطف مما يجعله غير قادر على إتخاذ قرار بذاته مع الشعور بالقلق والحيرة والتوتر الإنفعالي , وغير قادر على التحكم في تصرفاته أو السيطرة على أفكاره.

مهمة " عدي " الأن لقاء إيمان والأعتراف لها بحبه , أسترسل بتلقائيته التي تتدفق بالصدق والمعاناة , ويشعر أن كلاما ً كثيرا ً يزدحم على لسانه لا يمكنه السيطرة عليه ولا ترتيبه ليبدوا مقنعا ً , وفعلا ألتقى إيمان وأحس ّ بغصة في بلعومه من خلال كلماته المرتعشة بينما لسانه يلتصق بباطن فمه بعد أن تيبس وفي النهاية قال لها ( أنا أحبك ) وإن صمت السنين كان بركانا ً حان إنفجاره الآن فقال :

" لا يمكن لأحد أن يحبك مثلي , أنا أعي كل حرف أقوله , لقد أحببتك بقناعة , عشقتك بكل قناعة , أغرقت بك بكل قناعة , همت بك بكل قناعة , حتى أصبحت ِ سر حياتي " ..

بدأ التأثر عليها وأصبحت تهرب بوجهها عنه وأخذ الأرتباك ظاهرا ً عليها ولكنها شعرت بصحة موقفه وقناعته ولم تعطه الوقت الكافي ليكمل كلامه فقاطعته وقالت له :

" عدي لا تظن للحظة بإني غافلة عما بداخلك , أو إني لا أعرف ما بك , أنا لست سوى أمرأة كباقي النساء , تملؤها المشاعر والأحاسيس ويسعدها الكلمة الجميلة , ووصلني كل ما تشعر به وتقوله وتفعله فكان يسقي روحي التي تصحّرت وزهرتي التي كادت أن تذبل لولاك " .

نعم هو من أعاد ثقتها بنفسها وأحسّت بإنوثتها ,  وهو من دق ّ لها القلب ورقت له الروح , لم يشعر للحظة أن فارق العمر من الممكن أن يكون عائقا ً عن السعادة إلا بعد أن فكر فيها بشكل حقيقي .

أستمرت في كلامها الموجه الى عدي :

" هل تدرك ما أشعره حينما يتقاتل بداخلي القلب والعقل ؟ الواقع والحلم ؟ أنت من أريد ولكنه أكفأ إذا ما فكرنا بالمنطق متجردين من العاطفة , إنه الأنسب في ظل هذا المجتمع والحياة , هناك قرارات لا يمكن إلا للعقل أن يتخذها , الحب يجعلنا نفكر بقلوبنا , والقلوب لا ترضخ لعقل أو منطق , لذلك تكون نهايات الحب فاشلة بالغالب , أنت أمامك مستقبل وطريق طويل ما زلت في أوله وأنا في وضع لا يسمح لي بالمغامرة " .

مازالت إيمان تحدثه وتحدثه فيشعر إن كلماتها وحروفها كالمشرط يقطع أحشائه , أيهرب من هذا الألم ، إنه يفهم ما تقوله , فأي تناقض هذا الذي نعيشه ويعيش معنا , بل وكيف نستطيع العيش ونحن في صراع فكري ونفسي يهدم كل حياتنا , يا لنا من قساة على إنفسنا أذلاء أمام طقوسنا وواقعنا , لا نؤمن بالتحدي ولا نعمل به , لكننا نجعله شعارات نهتف بها , وهذه إحدى النتائج ونعاند أنفسنا ..

5. المرحلة الخامسة (اكتشاف فوائد هذه المنهجية):

 هذا المنهج هو خلاصة الواقعية الإسلامية المبصرة، التي تعلم الإنسان التواضع في العلم، والخضوع لحقائق الحياة، ولا يتعلم المكابرة فينكر(عالم الغيب)، لأن ما غاب عنا وعن حواسنا وعقولنا هو الكثير، وما انكشف لنا منه (عالم الحضور) الغائب عنا، هو أقل القليل، ولا نكون كالنملة الذي أنكرت ضخامة الجبل لأنها لا تراه، وبهذا يدرك الإنسان أنه يسبح في بحر من الحضور الغائب، والخلق والسنن التي لا ندركها، فلنتعلم التواضع ولا نقع في ما وقع فيه الملاحدة الذين أنكروا (الغيب وعالمه)، ونحن لا نعلم عن سبب هذا الاستعجال في إغلاق باب العلم وقصره على (عالم الشهادة)، وما يقع في متناول الحواس، أهو الزهد في العلم والبحث عن الحقيقة، أم الكسل والركون إلى الراحة، أم هو عمى البصر والبصيرة، والاكتفاء بالدنيا بوظيفة الطعام والشراب، وانتظار الموت التي يشاركنا فيها الحيوان والنبات هذه الوظائف؟!

بل والأغرب من ذلك أن تتبنى منظمه اليونسكو تسويق هذا التعريف، الذي يقصر العلم على (ما جاء عن طريق الحس والتجربة)، هذا التعريف الذي ينكر علم الغيب والوحي والأنبياء والأديان السماوية، لدفع البشرية إلى هذا الكفر القائم على تمجيد الجهل، وإنكار عالم الغيب والحضور، وفي أحسن الاعتبارات العلمانية التي تعتبر الدين موضوعا شخصيا غير ملزم للدولة ولا للمجتمع، بل هو متروك لحرية الأفراد في أحسن الأحوال إن الإنسان لظلوم جهول.

والمنهج الإسلامي يعلمنا الاعتراف لله بالفضل والمنة، حين أوجدنا من العدم وعلمنا    (علّم الإنسان ما لم يعلم) علمه من علم الوحي، وعلمه من سننه وقوانينه في خلقه المبثوث في السماوات والأرض، ومن خلال جهود عقله في اكتشاف حقائق هذا الكون والمخلوقات.

هذا هو العقل المتصل، وهذا هو منهجه الذي ظل متصلاً بالله وبعلم الوحي، يتلقى الهداية من الأنبياء، من آدم عليه السلام وأجيال المؤمنين من أتباعهم، حتى انتهى ميراث علم النبوة، إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده، لأنها تحمل الرسالة الخاتمة للناس كافة، وفي جميع أجيالها إلى يوم الدين، من خلال مرجعية ثابتة لم يستطيع الزمان أن يلعب بها أو يحرفها، إنها مرجعية محمية من مُنزِّل الكتاب سبحانه وتعالى، متمثلة في (القرآن الكريم والسنة الشريفة) (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(21).

ويؤمن هذا العقل المسلم المتصل بالوحي بمحاور الهداية ويلتزم بها ويخضع لها، وبذلك يتعلم (الحكمة)، التي هي منهجه لأن الله سبحانه وتعالى أعطاه منهجا بهذه المحاور، وضوابط تحميه من الهوى، ويعلمه الحكمة والاتزان، ولذلك فهو يرفض (منهج الفلسفة) الذي يتبعه (العقل المنفصل)، الذي اختار الانفصال عن الدين والتلقي من الوحي، واختار حريته وفضلها واعتبرها دينه، فأوكله الله تعالى إلى (فلسفته) وذاته، يفكر ويتخبط كما يشاء، ليس له هداية ولا محاور ولا ضوابط، وهذا هو الفارق بين (الحكمة) التي تفكر من  خلال منهج الإسلام ومحاور الهداية التي وضعها، وبين (الفلسفة) التي تفكر من خلال الاتكال على عقل الإنسان وطاقاته، وحيث جعل من حريته واختياره ومصالحه معبوده وهواه (أرأيت من اتخذ إلهه هواه)(22).

*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )

إذا اجتمعت على التعبير قوى النفس الثلاث اللاتي سماهن علماؤنا القدماء القوة المتفكرة والقوة المترفعة والقوة المتشهية، اختصت أولاهما من مركب رسالة المثلثة بعنصر المشكلة -ولا بأس بأن نرمز إليه بـ"ش"- وثانيتهما بعنصر الدعوى -ولا بأس بأن نرمز إليه بـ"ع"- وآخرتهما بعنصر الدليل، ولا بأس بأن نرمز إليه بـ"ل". وتكفل اشتراكها جميعا في تكوين مركب الرسالة بائتلافها في أثناء اختلافها. ثم لم يخرج ترتيب بعضهن من بعض عن أن يكون على وَفق أحد هذه الأنماط المنطقية الطبيعية الستة الآتية:

1      ش/ع/ل

2      ش/ل/ع

3      ع/ش/ل

4      ع/ل/ش

5      ل/ش/ع

6      ل/ع/ش

وقد يتعدَّد في مركب الرسالة الواحدة أحدُ هذه العناصر؛ فيجور عندئذ على غيره، حرصا على الاسْتِشْكَال عند غلبة القوة المتفكرة على أحوال النفس، أو الادِّعَاء عند غلبة القوة المترفعة، أو الاسْتِدْلال عند غلبة القوة المتشهية. وكما تميل كلُّ طبيعة إلى ما يناسبها، تميل إذا كان معه غيرُه إلى تقديمه عليه.

وقد سبق في بطاقات المثلثات الخمس والمئة التحليلية، ما إذا أضَفنا فيه النَّظيرَ إلى نَظيره، وقَفنا على أن لعناصر مركبات رسائل المثلثات الخمس والمئة، هذه الخمسة عشر نمطًا الآتية مرتبةً بأنصبتها منها:

1     ش/ع/ل: 31

2     ش/ل/ع: 12

3     ش/ش/ع: 11

4     ش/ع/ع: 9

5     ش/ل/ل: 9

6     ل/ش/ع: 8

7     ع/ل/ش: 8

8     ع/ش/ل: 4

9     ل/ع/ش: 4

10                       ع/ع/ش: 2

11                       ع/ش/ش: 2

12                       ل/ل/ش: 2

13                       ش/ع/ش: 1

14                       ش/ش/ل: 1

15                       ش/ش/ش: 1

لقد اجتمعت المشكلة والدعوى والدليل كلهن جميعا في ستة أنماط (1-2، و6-9)، بسبع وستين مثلثة (63.80%). وبقيت المشكلة مع تلك الستة الشاملة في سائر الأنماط (3-5، و10-15)، أي بالخمس والمئة المثلثة (100%)، بل قد تكررت منها في نمطين (3، و11)، بثلاث عشرة مثلثة (12.38%)، وانفردت في نمط واحد (15)، بمثلثة واحدة (0.95%). واستمرت الدعوى مع تلك الستة الشاملة إلى خمسة أنماط أخرى (3، و4، و10، و11، و13)، أي باثنتين وتسعين مثلثة (86.61%)، بل قد تكررت منها في نمطين (4، و10)، بإحدى عشرة مثلثة (10.47%)، لكن لم تنفرد بشيء. واستمر الدليل مع تلك الستة الشاملة إلى ثلاثة أنماط أخرى (5، و12، و14)، أي بتسع وسبعين مثلثة (75.23%)، بل قد تكرر في نمطين (5، و11)، بإحدى عشرة مثلثة (10.47%)، لكن لم ينفرد بشيء.

ولم تكن عناصر مركب الرسالة الثلاثة (المشكلة "ش"، والدعوى "ع"، والدليل "ل")، لتخرج عن تلك الأنماط المنطقية الطبيعية الستة السابق ذكرها -فلا مناص لها منها- غير أن نمط "ش/ع/ل"، حظي بإحدى وثلاثين مثلثة (29.52%)، ونمط "ش/ل/ع"، حظي باثنتي عشرة (11.42%)، وكلا نمطي "ل/ش/ع" و"ع/ل/ش"، حظيا بثمان (7.61)، وكلا نمطي "ع/ش/ل"، و"ل/ع/ش"، حظيا بأربع (4.20%).

لعل هذا النص الشعري القصير (المثلثة)، أن يكون أكثرَ من غيره استكانةً للقوة المتفكرة، وكأنه يدافع تهمة التقصير عن معالجة عظائم الأمور، حتى لقد انفردت المشكلة بمركب إحدى رسائله -ولا عجب أعجب من مركبٍ وحيدِ العنصر!- فلم تشاركها دعوى ولا دليل، ولم يُنتقل منها في البيت الأول إلا إليها في البيت الثاني فالثالث! ومن لوازم ذلك أن يكون هذا النص الشعري القصير (المثلثة)، أقلَّ من غيره استكانةً لغير القوة المتفكرة -ولاسيما المتشهية- زهادةً فيما لا مُنَّةَ فيه له، ولا تطلُّع به إليه! وإن اجتماع المشكلة والدعوى والدليل -ولاسيما إذا تَرتَّبَت هذا الترتُّب- في 63.80% من مركبات رسائل نصوص "سمرؤوت" الشعرية القصيرة (المثلثة) -وهي التي لا موضع فيها لما يُستغنى عنه- لَمِمّا ينبغي أن يُستدل به على صحة الرؤية المنطقية العربية القديمة.

ومن أمثلة اجتماع العناصر الثلاثة على الترتيب "ش/ع/ل"، المثلثة الحادية عشرة "أَطْفَالٌ"، الموجزة رسالتُها في بطاقتها التحليلية بأنها "التَّقْصِيرُ عَنْ شَأْوِ الْأَيْتَامِ الْمُتَفَائِلِينَ":

"فَجْرُ ابْتِسَامٍ عَلَى لَيْلِ ابْتِلَاءَاتِ فَأْلٌ مُؤَاتٍ وَرَايَاتُ انْتِصَارَاتِ

أَفْدِي سَمَاءً لَهَا أَشْوَاقُكُمْ ضَحِكَتْ فَكَرَّمَتْكُمْ بِدِينِ الرَّحْمَةِ الْآتِي

فَأَطْلِقُونِيَ مِنْ جَهْلِي وَهَا أَنَا ذَا خَدِّي مَدَاسٌ إِلَى أَقْصَى الْفُتُوحَاتِ"؛

فمشكلتها التي احتَمَلَها البيت الأول أن الموفَّق هو المتعالي على ما ابتُلي به وليس له فيه يدٌ، ودعواها التي احتملها البيت الثاني تشريع ما يؤيد المبتلَى الموفَّق، ودليلها الذي احتمله البيت الثالث الاعتراف بفضل المبتلَى الموفَّق!

ومن أمثلة اجتماع العناصر الثلاثة على الترتيب "ش/ل/ع"، المثلثة الخامسة "أُرْجُوحَةٌ"، الموجزة رسالتُها في بطاقتها التحليلية بأنها "الْعَدْلُ أَسَاسُ نَجَاحِ الْحُكْمِ":

"تَعَادَلْنَا عَلَى كَتِفَيْكْ فَعَادَ الْحَظُّ مِنْكَ إِلَيْكْ

وَلَوْ مَيَّلتَ نَاحِيَةً لَمِلْنَا بِالْهَلَاكِ عَلَيْكْ

كَذَاكَ تَسُوسُ هَذِي الْأَرْضَ ثُمَّ تُسِيسُهَا وَلَدَيْكْ"؛

ومشكلتها التي احتملها البيت الأول استفادة العادل نفسه مِن عدله، ودعواها التي احتملها البيت الثالث استمرار الفائدة، ودليلها الذي احتمله البيت الثاني خسارة الظالم!

ومن أمثلة اجتماع العناصر الثلاثة على الترتيب "ل/ش/ع"، المثلثة السابعة والخمسون "صِدَار"، الموجزة رسالتُها في بطاقتها التحليلية بأنها "لَهْفَةُ الْجَائِعِ الْمَفْجُوعِ":

"هَهَأْهَأْهَا هَهَأْهَأْهَا هَهَأْهَأْهَا هَهَأْهَأْهَايْ

حِذَاءٌ بَلْ صِدَارٌ بَلْ لِحَافٌ بَلْ غِنَى مَأْوَايْ

غَدًا يَكْفِينِيَ الْخَبَّازُ بِالزَّوْجَيْنِ يَا نُعْمَايْ"؛

فمشكلتها التي احتملها البيت الثاني ضرورة تلبية الحاجة الشديدة، ودعواها التي احتملها البيت الثالث التعويل على استبدال الغِذاء بالحِذاء، ودليلها الذي احتمله البيت الأول ضحك مؤمِّل الاستبدال!

ومن أمثلة اجتماع العناصر الثلاثة على الترتيب "ع/ل/ش"، المثلثة السادسة والسبعون "قَتِيل"، الموجزة رسالتُها في بطاقتها التحليلية بأنها "إِقْبَالُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الشَّهَادَةِ":

"يَنْهَلُ مِنْ عَقْبِهِ الْمِدَادَ مَدَى يَمْرَحُ فِيهِ بِرَأْسِهِ أَبَدَا

يَكْتُبُ فِي مَوْتِهِ وَصِيَّتَهُ أَسْمَحَ مَا أَوْصَى مُنْجِبٌ وَلَدَا

اِحْرِصْ عَلَى الْمَوْتِ يَنْثَنِي ضَحِكًا عَنْكَ لِيُصْلِي عَدُوَّكَ الْكَمَدَا"؛

فمشكلتها التي احتملها البيت الثالث -وهو وصية القتيل لابنه- أنه لا هزيمة ولا فقد مع محبة الموت، ودعواها التي احتملها البيت الأول مرَح القتيل، ودليلها الذي احتمله البيت الثاني اتساع المقام للوصية!

ومن أمثلة اجتماع العناصر الثلاثة على الترتيب "ع/ش/ل"، المثلثة التاسعة والعشرون "خُيُول"، الموجزة رسالتُها في بطاقتها التحليلية بأنها "فَسَادُ طَبَائِعِ الْمُدَجَّنِينَ":

"صَاهَاهَصَا يَا وَيْلَتَا مَا أَقُولْ صَاهَاهَصَا مَاذَا أَصَابَ الْخُيُولْ

كَانَتْ قُيُودَ الْوَحْشِ فِيمَا مَضَى وَالْيَوْمَ تَزْدَانُ لِمَسِّ الْبُعُولْ

لَمَّا رَأَتْنِي اسْتَبْشَعَتْ طَلْعَتِي فَكَيْفَ لَوْ صَادَفْتِها يَا خَذُولْ"؛

فمشكلتها التي احتملها البيت الثاني تحول الخيول من الطرَد إلى الزِّينة، ودعواها التي احتملها البيت الأول فداحة مرأى خيول الزينة على خيول الطرَد، ودليلها الذي احتمله البيت الثالث نفور خيول الزينة من خيول الطرَد!

ومن أمثلة اجتماع العناصر الثلاثة على الترتيب "ل/ع/ش"، المثلثة الخامسة والأربعون "سَلَاحِف"، الموجزة رسالتُها في بطاقتها التحليلية بأنها "سَفَاهَةُ الطَّمُوحِ الْعَاجِزِ":

"لَمْ يَبقَ شَيْءٌ فَهَيَّا اِطْوُوا الْمَسَافَةَ طَيَّا

دَعُوا الثَّرَى لِلْكُسَالَى إِلَى مَقَامِ الثُّرَيَّا

يَا أُمَّ سَلْحَفَ لَكِنْ حُكْمُ الثُّرَيَّا إِلَيَّا"؛

فمشكلتها التي احتملها البيت الثالث -وهو من كلام أحد صغار السلاحف- توهم المستحيل والاعتماد عليه، ودعواها التي احتملها البيت الثاني -ولا يردُّها عاقل- أن المتطلع إلى المعالي لا يجوز منه الكسل، ودليلها الذي احتمله البيت الأول -وهو من كلام أُمِّ السلاحف- ظهور الغاية للمتجه إليها!

والمثلثة التي انفردت المشكلة بمركب رسالتها (ش/ش/ش)، هي هذه الخامسة عشرة "باب"، الموجزة رسالتُها في بطاقتها التحليلية بأنها: "التَّفَاؤُلُ بِسَلَامَةِ الْمُصْلِحِينَ":

"لَا تَقْلَقِي سَوْفَ يَاتِي بَأَعْجَلِ الْمُعْجِزَاتِ

لِيَشْرَعَ الْبَابَ أُفْقًا عَلَى سَمَاءِ الْحَيَاةِ

فَكُلُّ مَنْ صَدَّ عَنْهُ مَضَى بِعَهْدِ النَّجَاةِ"؛

ففي البيت الأول مشكلة أن المصلح الغائب عائد على رَغْم من رغِم، وفي البيت الثاني مشكلة أن المصلح الغائب إذا عاد عادت الحياة، وفي البيت الثالث مشكلة أن المصلح الغائب إذا عاد فعادت الحياة سَلِمَ معارضوه مثلما يسلم مؤيِّدوه! ثلاثة أوجه من التفاؤل، وما من دعوى ادُّعِيت في سِرِّه، وما من دليل استُدِلَّ به عليه!

مثلثات سمرؤوت الخمس والمئة إحدى وثلاثون وستمئة وألفا كلمة (2631)، متوسط كلم المثلثة الواحدة خمسة أجزاء وخمس وعشرون كلمة (25.05)، في خمس وتسعين وخمسمئة جملة (595)، متوسط جمل المثلثة الواحدة ستة وستون جزءا وخمس جمل (5.66)، أي متوسط كلم الجملة الواحدة اثنان وأربعون جزءا وأربع كلمات (4.42). وفي خلال قصر المثلثة العام يقتضي الاحتكام إلى المتوسط أن يُعَدَّ مُعتدِلًا كلُّ ما كان فيه، وقصيرًا أو قليلا كلُّ ما نقص عنه، وطويلًا أو كثيرا كلُّ ما زاد عليه.

ومما اعتدل في المتوسط هذه المثلثة الثامنة "أَسْلَاكٌ: 25/4/6.25":

"السِّينُ سِنْفُونِيَّةٌ مِنْ خَيَالْ تَنْظِمُ بِالْحُلْمِ صُدُورَ الرِّجَالْ/1

وَالْجِيمُ جَوْقَةٌ حَمِيمِيَّةٌ/2 وَالنُّونُ نَشْوَةٌ تَهُزُّ الْجِبَالْ/3

فَغَنِّ لَحْنَ السِّجْنِ حَتَّى تَرَاكَ فِي حِمَى الْأَحْرَارِ فَوْقَ المُحَالْ"/4.

التي تَنَمَّطَت جملُها الأربع بمنزلة أركانها من التعريف والتنكير، على النحو الآتي: ["معرف بأل ونكرة"، و"(و) معرف بأل ونكرة"، و"(و) معرف بأل ونكرة"، و"(ف) أمر وضمير مخاطب"].

ومما قصر عن المتوسط هذه المثلثة الرابعة "أَذَانٌ: 16/1/16":

"وَلَنْ تَزَالَ أُمَّتِي عَلَى الْجَوَى مُصْطَبِرَةْ

أَذَانُهَا آذَانُهَا مُصْغِيَةً مُنْتَظِرَةْ

تَسْتَنْجِزُ الْوَعْدَ إِذَا كَبَّرَ حَتَّى تَنْصُرَهْ"/1.

التي تَنَمَّطَت جملتها الوحيدة بمنزلة ركنيها من التعريف والتنكير، على النحو الآتي: ["(ولن تزال) مضاف إلى ضمير متكلم ونكرة"].

ومما زاد على المتوسط هذه المثلثة الرابعة والتسعون "مُصْطَفًى: 34/7/4.85":

"يَا مُصْطَفَى/1 أَعَفَوْتَ عَنْ دَارِ الْعَفَا لِتَقُومَ حَيْثُ تَشَاءُ مِنْ دَارِ الصَّفَا/2

يَا مُصْطَفَى/3 أَكَذَاكَ تَنْظُرُ/4 ثُمَّ تَسْخَرُ مِنْ ضَلَالِ الْبَحْثِ عَنْ خِلِّ الْوَفَا/5

يَا مُصْطَفَى/6 وَالنَّاسُ فِيكَ مُصَدِّقٌ لَا يَشْتَفِي وَمُكَذِّبٌ مَهْمَا اشْتَفَى"/7.

التي تَنَمَّطَت جملها السبع بمنزلة أركانها من التعريف والتنكير، على النحو الآتي: ["(يا) محذوفان وعلم"، و"(أ) فعل ماض وضمير مخاطب"، و"(يا) محذوفان وعلم"، و"(أ) فعل مضارع وضمير مخاطب"، و"(ثم) فعل مضارع وضمير مخاطب"، و"(يا) محذوفان وعلم"، و"(و) معرف بأل ونكرة"].

إن ألطف ما بين جمل هذه المثلثات أنها غير متعلقة بعدد كلمها؛ فقد نقص عدد كلم "أَذَان" عن متوسط كلم المثلثة العام، ولكنها انسلكت في إطار جملة وحيدة انسلاكًا زاد عدد كلماتها! وزاد عدد كلم "مُصْطَفى" على متوسط كلم المثلثة العام، ولكنها توزعت على سبع جمل توزعًا نقص متوسط عدد كلمات الواحدة منها. وطابق عدد كلم "أَسْلَاك" متوسط كلم المثلثة العام، وزاد متوسط عدد كلمات الجملة الواحدة منها على متوسط كلمات الجملة العام!

وعلى رغم ذلك الملمح اللطيف ائتلفت الأبيات والجمل ائتلافا كاملا -خصيصة متأصلة في بناء الشعر العربي العمودي كله- حتى إن من شاء أن يجتزئ ببيتٍ يحيطه بما شاء من أوهامه فَعَلَ: فأما "أَسْلَاك" فجملتاها الأولى والرابعة مقيستان على بيتيها الأول والثالث، تبدآن بأولهما وتنتهيان بآخرهما، وجملتاها الثانية والثالثة مقيستان على شطري بيتها الثاني! وأما "أَذَان" فمن داخل جملتها الوحيدة تتميز ثلاثة أجزاء (ثانيها نعت آخر كلمات أولها، وثالثها نعت آخر كلمات ثانيها)، ينبسط كلٌّ منها على أرض أحد أبياتها الثلاثة. وأما "مُصطفى" فلولا جملتها الرابعة لاتسق توالي الجمل الست اتساقا كاملا؛ إذ جرت الجمل على أن تنبسط كل اثنتين على بيت، تبدؤه السابقة الندائية على تفعيلته الأولى لتستقل اللاحقة الجوابية بما بقي من تفعيلاته، لولا الرابعة التي شغبت على اللاحقة من البيت الثاني فانتزعت منها تفعيلة وبعض تفعيلة!

يحار متلقي "أَسْلَاك" في جملها الثلاث الأولى؛ فقد اتفقت بنمطها الواحد على صرفه إلى علاقة ركنها الأول الصوتية بأول حروف ركنها الثاني -حتى لقد تغيرت كلمة "سمفونية" إمعانًا في ذلك إلى "سنفونية"!- ولا يكاد ينصرف إلى تلك العلاقة حتى تهزه الجملة الرابعة هزا بنمطها المخالف إلى غور سحيقٍ ليست تلك العلاقات الصوتية إلا أصداء الغائرين فيه!

ويحار متلقي "أَذَان" في واو أولها، أيُّ واو هي؟ إذا كانت واو عطف فأين المعطوف عليه؟ وإذا كانت واو حال فأين صاحب الحال وعاملها؟ وإذا كانت واو قسم فأين المقسم به؟ ...؟ ولكنه لا يلبث إذا تَمَلَّأ بالجملة الوحيدة المعطوفة بهذه الواو، أن يطمئن إلى أنها واو عطف على محذوف مفهوم، تقديره: كَانَتْ كَذَلِكَ، وأن حذفه أدلُّ من ذكره على قِدمه وتكراره واستمراره!

ويحار المتلقي في "مُصْطَفى"، أهو رسول الإسلام -عليه الصلاة والسلام!- يُستغاث به مجازا عن أمته؟ يساعده على هذا الفهم البيتُ الأول، بما يعرفه من إعراضه -عليه الصلاة والسلام!- عن الدار الفانية إلى الرفيق الأعلى -سبحانه، وتعالى!- ويمنعه منه البيتان التاليان اللذان يصرفانه إلى سَميٍّ عاشَرَه معاشرةً تُجيز له مخاطبته بهما، أو إلى من يُختار للمعالي ولا يسلم من حسد الحسَدة وكيد الكَادَة! ولا يكاد يطمئن حتى تقلقه واو أول الجملة السابعة مثلما أقلقته واو أول جملة "أَذَان" الوحيدة: أهي واو حال منادى السادسة ولا سابعة، أم واو عطف السابعة على الخامسة والسادسة اعتراض؟ ولكنه لا يلبث إذا تَمَلَّأ بالجملة السابعة أن يطمئن إلى أنها واو عطفها على جملة محذوفة قبلها تقديرها: أَنْتَ فِي النَّاسِ كَذَا (مُحْسِنٌ مُتَعَفِّفٌ مَثَلًا)، وأن حذفها أدلُّ من ذكرها على أنه مشغول بالناس عن الناس!

المزيد من المقالات...