عندما يحمل مضمون القصيدة فكرة الفرح، وتأتي الألفاظ ناعمة بيضاء، فهذا يعني أننا أمام قصيدة مطلقة البياض، تُوصل فكرة الفرح من حلال المعنى والمضمون، ومن خلال الألفاظ المجردة، وهذا ما يسعد القارئ ويفرحه، فالفرح الكامن في القصيدة سينعكس إيجاباً عليه، مستمتعا بما يقدم له.

وعندما يأتي العنوان بصيغة نداء، فإن هذا عامل جذب آخر للمتلقي، وبما أنه موجه للأنثى/ للمرأة التي تحمل الراحة والجمال فإن هذا سيدفع به إلى الإسراع في تلقي القصيدة وما تحمله من أفكار ولغة، هذا ما فعله الشاعر فراس حج محمد في قصيدة "يا لذة التفاحة"، وقد نشرها على صفحته في الفيسبوك، واللافت في صيغة النداء استخدام الشاعر لفاكهة شكلها جميل، ورائحتها زكية، وطعمها لذيذ، بمعنى اجتماع كل عناصر الفرح (فيها)، لنتقدم من القصيدة لمعرفة المزيد عن هذه التفاحة.

"يا زهرتي الفوّاحَةْ

يا وردتي

يا قُبلتي المتاحةْ

يا بهجتي، يا مهجتي

يا قِبلتي في اللثمتينِ تشكّلي

هلّي بكلّ الراحةْ"

يستخدم الشاعر صيغة النداء خمس مرات، أربعة منها جاءت بصيغة التمجيد، مبينا جمالها: "زهرتي، وردتي"، وذكاة رائحتها "فواحة، وردتي"، وأثرها الجميل: "المتاحة، مهجتي" فالشاعر لا يتعامل معها كجسد بل كشكل جميل وينثر الجمال والسعادة والفرح والرائحة الطيبة، بعد تمجيدها، يتقدم بطلب منها "تشكلي، هلي" فبدت وكأنها مقدسة، يريدها أن تتجلى له بكليتها وبهائها، فالطلب جاء كاستجداء/ كمنّة منها له، واستخدم الشاعر صيغة الترغيب والتسهيل "بكل الراحة" فحلوها/ حضورها سهل ومريح.

يتقدم الشاعر أكثر من (تفاحته) طالب منها:        

"قولي لقلبي يا لقلبي والهاً

هات الهوى عذباً

فقلبك العرّاف واحة

قولي: أحبكَ... أنت روحي والزمانُ

وسيّدي، بَوْحي

وأنت الشرح والكلمات ساحةْ"

الشاعر يتحدث بعاطفة مندفعة وأحاسيس مرهفة، وهذا يظهر من خلال تكرار "لقلبي/ قلبك" ثلاث مرات، ومن خلال استخدامه كلمات تحمل حرف الحاء: "واحة، أحبك، روحي، بوحي، ساحة" الذي يشكل نصف كلمة "حب"، وهنا كلمات جاءت تحمل معنى ألم الابتعاد ولهفة الشاعر للقاء: "ولها، هات، الهوى" فحرف الهاء المشكل لهذه الكلمات الذي يلفظ "آه" كانّه نداء ألم ولهفة وشوق، وبما أنه جاء في بداية ووسط ونهاية الكلمات، فهذا يعكس لهفة الشاعر للقائها بكليته؛ بيده، بعينيه، بل بكل ما فيه، من هنا يمكن القول إن الألفاظ جاءت كتعبير صادر عن العقل الباطن للشاعر، فالألفاظ المجردة تحمل داخلها لهفة الشاعر، وما كانت لتأتي بهذه الشكل دون حضور حالة اللاوعي في الشاعر.

يتقدم الشاعر أكثر من "التفاحة":

"يا زهرتي الفوّاحةْ

يا ضحكتي الصدّاحةْ

هذا الفؤاد جميعه

أهديكه بكلّ سماحةْ

لتكوني في أنساغه أحلامه

بسيادة الأرواح يا لمّاحة"

السلاسة والانسيابية الكامنة في لفظ كلمات: "الفوّاحة، الصداحة، سماحة، أنساغة، لمّاحة" بدت بشكلها، بلفظها المجرد وكأنه ترحاب (أهلا وسهلا) بك أيتها التفاحة، فمن يستمع لها يشعر براحة وسعة صدر المتكلم، فلكلمة وحروفها ولفظها ومعناها تجتمع معا لتعطي معنى الانشراح لرغبة الاستقبال/ اللقاء والشوق له.

"يا زهرتي

فلتقضمي قلبي الشهيَّ

تجرّدي مثل الجمال مهابة ومَلاحةْ

وتُمتّعي بصباحنا

ولتنشري في ورده إصباحه

يا زهرتي الفواحة

يا سُكّراً... يا لذّةَ التفّاحَةْ"

بعد أن (دخلت) ووصلت إلى (مكان) الشاعر، يستخدم الفاظ (طويلة وثقيلة) "فلتقضمي، تجردي، ولتنشري" ففعل (الأمر) هنا لم يأتِ بصيغة طلب/ دعاء/ استجداء، بل كطلب الند للند، فلم تعد التفاحة بمكانها العالي، بعيد المنال، فهي هنا في (مكان خاص بالشاعر) فبدت كلماته وكأنه (أوقع) بالتفاحة، ولم يعد (دبلوماسيا/ رومنسيا) كما كان في السابق.

وإذا ما توقفنا عند فاتحة القصيدة ومنتصفها وخاتمتها "يا زهرتي الفواحة" نجدها جاءت بمستويات ثلاث، المستوى الأول بدت فيه بشكل مقدس، وقد استخدم فيه صيغة التمجيد، وطلب/ دعاء/ استجداء، والمستوى الثاني جاءت بصيغة التوازن والمساواة فالتفاحة والشاعر بمستوى متقارب ومتماثل، وأما المستوى الثالث فكان الشاعر (أعلى) من التفاحة، لهذا خطابها بصورة (السيد) مستخدما ألفاظ ثقيلة وطويلة، فبدا وكأنه يمارس (سيادته) عليها.

mat8961.jpg

ff896.jpg

صدرت قبل أيام عن دار النّشر (مكتبة كلّ شيء في حيفا) رواية (المطلّقة) للكاتب والرّوائيّ جميل السّلحوت، وتقع الرواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنان التشكيلي محمد نصرالله ومنتجها شربل الياس في 192 صفحة من الحجم المتوسّط، وهي الجزء الثّاني من رواية (الخاصرة الرّخوة) التي تناول فيها قضيّة المرأة في مجتمعنا، عندما تخضع لمعاملة تُبنى على فهم مغلوط مخالف لأحكام الشّرع الإسلاميّ، فعدّ المرأة الخاصرة الرّخوة إذا ما ظلمت أو أهينت أو استضعفت، وكانت جمانة هي الشّخصيّة الرّئيسة في الرّوايتين، بل كانت محور الأحداث والشّخصيات الأخرى، ففي هذا الجزء الثّاني، عادت جمانة من السّعوديّة، واستطاعت أن تحصل على الطّلاق من الزّوج المتديّن الذي يحمل فهما مشوّها لأحكام الإسلام التي تنظّم علاقة الرّجل بالمرأة، والحقّ أنّ هناك أفهاما مشوّهة في النّظرة إلى المرأة يتوارثها المجتمع لا علاقة لها بالإسلام، وهذا ما تكشفه الرّواية. والمدقّق في الرّواية في الإجمال والتّفصيل، يجد أنّها لم تصوّر المطلّقة في مجتمعنا بالمرأة المضطهدة أو المنبوذة أو صاحبة ذنب، بل على العكس من ذلك نجد جمانة قد لقيت تفهّما كبيرا من المجتمع لقضيّتها، من الأهل والأصدقاء، ومن الوجوه التي تدخّلت لإصلاح العلاقة بينها وبين زوجها، بل لم تمكث إلا قليلا حتى تزوّجت من شاب لا يكبرها كثيرا، وكذلك المطلّقة الأخرى صابرين لم تكن النّظرة لها نظرة احتقار أو دونيّة، الأمر الوحيد تقريبا الذي سجّلته الرّواية في نظرة المجتمع للمطلّقة هو أن يطمع كبار السّنّ في الزّواج منها، فيتقدّمون لطلب يدها، ولا أظنّ هذا أمرا كبيرا في مجتمعنا وثقافتنا. لذا لا أرى جمانة في هذه الرّواية خاصرةً رخوة.  وهذا الأمر يردّنا إلى شخصيّة أسامة ومعاملته لزوجته، فلم يكن المكوّن الوحيد لهذه الشّخصيّة هو الفكر المشوّه أو التّكفيريّ كما تصفه الرّواية، بل كان ضعفُ شخصيّته وتأثير أمّه فيه كبيرا، وكان من أسباب فشل حياته الزّوجيّة، وهذا ما أكده أبو أسامة، وظهر من خلال حوارات أسرة أسامة في قضية طلاق جمانة. وأرى أنّ اختيار شخصيّة جمانة الفتاة المثقّفة المتعلّمة المتديّنة لم يفِ بإعطاء صورة كاملة عن أحوال المطلّقة في مجتمعنا. واختيار أسامة أيضا كمتعلّم وحامل لفكر متشدّد لم يفِ بتصوير الحياة الزّوجيّة، ولم يحِط بصورة الطّلاق والمطلقة، فهناك صورة أعمّ وأشمل وأكثر تعقيدا، يشترك فيها عامّة الناس غير المتعلّمين وغير المثقّفين، لم تغطّها الرّواية. فالرّواية أقرب إلى مقابلة بين فهمين للإسلام في شأن المرأة، الفهم المتشدّد والفهم الصّحيح المستند إلى دليل شرعيّ، غير المؤوّل ولا المحرّف، وهنا تكاد تغيب بعض الموروثات الشّعبيّة المشوّهة. وعلى أيّة حال زخرت الرّواية بالكثير من الآيات والأحاديث المتعلّقة بمعاملة المرأة والطّلاق وغيرها، وكان فيها فيض من القيم العظيمة، في علاقات النّاس بعضهم ببعض، وفي حياتهم اليوميّة. ونستطيع أن نقول أنّ الرواية أخذت منحى الصّراع بين الخير والشّرّ في هذه القضيّة، الخير ممثلا بجمانة ووالديها وأخواتها وصديقاتها ويُضاف إليهم أبو أسامة وآخرون، والشّرّ ممثلا بأمّ أسامة، ولا نجد مقعدا لأسامة في هذين الطّرفين، فهو شخصيّة ضائعة. هذا المنحى أعطى الشّخصيّات في الطّرف الأول الخيِّر شيئا من المثاليّة الملائكيّة، وجعل الأحداث تسير بحسب رغبة القارئ، فكانت النّهاية هو انتصار الطّرف الأول وهزيمة الطّرف الثّاني، فالأحداث لم تكن مفاجئة في تسلسلها ولا في اتجاهها نحو النّهاية، بل كانت متوقّعة، وانتهت كما يشتهي القارئ. لذا تميل هذه الرّواية إلى جانب التّنظير لمجموعة من القيم السّاميّة أكثر من ميلها لرسم واقع معيش لهذه القضيّة. وهناك قضايا فرعيّة محبوكة بهذه القضيّة بعناية كبيرة هي قضيّة اللّجوء إلى المشعوذين، أو قضيّة الجهل بشؤون المرأة الخَلْقيّة. وهذه ذات واقع محسوس في مجتمعنا، أمّا قضيّة المثليّ الذي غيّر جنسه في فرنسا، فهذه لا يربطها القارئ بهذه الرّوايّة إلا إذا كان قد قرأ الرّواية الأولى: الخاصرة الرّخوة.

أمّا اللّغة، وكما عهدنا كاتبنا الكبير في لغته الرّوائيّة، فجاءت سلسة مفهومة موجّهة للنّاس على مختلف ثقافتهم ومستوياتهم التّعليميّة، بعيدة عن اللّغة الشّعريّة والاستعارات والكنايات البعيدة، وهذا ما يشير إلى أنّ الكاتب صاحب رسالة اجتماعيّة تربويّة.

وممّا يحسب للكاتب وروايته هذه هو توظيف المثل الشّعبيّ في هذه الرّواية، فقد أحصيتُ فيها ما يقارب المائة مثل، أغلبها شعبيّة، والفصيحة منها قليلة، وقد أعطى الرّواية جرعة فنّية جميلة، وبخاصّة أنّه أجراها على ألسنة الشّخصيّات في حواراتهم الخارجيّة، فكشفت معاني وأفكارا تدور في أنفسهم، ناهيك عن أنّ توظيف الأمثال في الرّوايات وغيرها من فنون الأدب من أقرب الطّرق لحفظ هذا التّراث، فالمثل لا بدّ أن يحفظ في سياقه.

da3es896.jpg

عن مكتبة كل شيء في حيفا صدرت مؤخّرا رواية "قبل أن يأتي الغرباء" للرّوائيّ المقدسيّ عبدالله دعيس، وتقع الرّواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التشكيلي محمد نصرالله، وأخرجها ومنتجها شربل الياس في 370 صفحة من الحجم المتوسط.    

يفتتح الأديب عبدالله دعيس روايته هذه بـ" هذه رواية خياليّة، تدور أحداثها بين عاميّ 1775 و 1810 للميلاد، وهي ليست سردا تاريخيّا ولا تأريخا لتلك الفترة."

والقارئ لهذه الرّواية سيجد أنّ الكاتب لم يكتب تاريخا، لكنّه استفاد من تاريخ تلك الحقبة الزّمنيّة، وصاغها بقالب روائيّ على ألسنة أناس شعبيّين. ففي تلك المرحلة كان الصّراع محتدما بين بريطانيا وفرنسا للسّيطرة على المنطقة، وكانت حملة نابليون على الشّرق، والتي ابتدأها باحتلال مصر، وانتقل منها للسيطرة على بلاد الشّام، ودمّر غزّة ويافا، وتحطّم أسطوله عند أسوار عكا.

فما أن استقلت أمريكا عام 1979م من الاحتلال البريطاني، حتى بدأت حروبها الإستعماريّة، وكانت بداية غزواتها لطرابلس الغرب في ليبيا، وكذلك فرنسا هي الأخرى استقلت من الاحتلال البريطانيّ وشرعت هي الأخرى تنافس بريطانيا في حروبها الإستعماريّة، واحتلت العديد من الدّول الإفريقيّة ومنها الجزائر، تونس، المغرب موريتانيا. وقام نابليون بغزواته لمصر ولفلسطين.

وقد استغلّ المستعمرون الغربيّون الخلافات القبيليّة التي كانت سائدة في فلسطين، كالصّراع بين "القيسيّين واليمنيّين"، والذي حصد أرواحا كثيرة، كما استغلوا الجهل والتّخلّف لتحقيق أهدافهم.

ورد في الرّواية ثلاثة شخصيّات محوريّة وهي:

اللورد البريطاني أرنولد ديزرائيلي: والده مسيحيّ اعتنق اليهوديّة، والإبن عاش حالة ضياع بين اليهوديّة والمسيحيّة، أرسلته الحكومة البريطانيّة لدراسة أحوال بلاد الشّام التي كانت جزءا من الإمبراطوريّة العثمانيّة، تمهيدا لغزوها. فقصد حلب وتعلّم فيها العربيّة، وادّعى أنّه مسلم، لتسهيل عمله، وسمّى نفسه "الشيخ ابراهيم الحلبي". ثمّ انتقل إلى فلسطين. تعرّض للأسر والموت أكثر من مرّة، لكنّ زوجته مريم الكسوانيّة كانت تنقذه في اللخظات الأخيرة.

مريم الكسوانيّة: كانت سيئة الحظّ، فأخوها مصطفى سقط وهو بصحبتها عن ظهر بغل ومات، وابن عمّها الذي كانت على اسمه، ليكون زوجا لها مات، وزكي قطينة الذي أراد خطبتها جرفته السّيول ومات، وتزوّجت من محمد الشّيخ حامد من قرية "حرم"قرب يافا مات، ثمّ تزوّجت من شخص آخر اسمه خضر وانقلب به قارب ومات غريقا، وتزوّجت من موسى من غّزة بعد وفاة زوجاته الثّلاث ومات برفسة بغل، فتعامل معها الآخرون كمنحوسة يموت من يقترب منها. وفي النّهاية تزوّجت "الشّيخ ابراهيم الحلبي." وأنجبت منه طفلة أسموها "سارة".

سارة: هي ابنة مريم الكسوانيّة والشّيخ ابراهيم الحلبي."أرنولد". عاشت في قرية "بيت سقاية"، وفي كنف شيخ ووجيه القرية، تعرّضت للسّبي في الخلافات القبليّة، ولم يتمّ زواجها ممّن سلبها، انتقلت إلى مدينة القدس، حيث عاشت في كنف أسرة مقدسيّة عريقة، وتعلمّت في الزّاوية الهنديّة، وتزوّجت من التّونسيّ عبد الرحمن الذي مرّ بالقدس في طريقه للحجّ، وعندما غادرت معه إلى تونس تعرّضت للإغتصاب على يد غزاة بريطانيّين، تمّ أسرهم. وواصلت طريقها مع زوجها إلى تونس، ثمّ عادت وزوجها وحمويها إلى القدس مرّة أخرى. وما لبثت أن اهتدت إلى والديها.

أهداف الرّواية: في تقديري أنّ الكاتب الذي سرد روايته عن مرحلة تزيد عن قرنين سابقين من تاريخ فلسطين، أراد أن يعيد إلى الأذهان بأنّ مرحلة التّمزّق والهزائم التي نعيشها الآن، والتي تتيح الفرصة "للغرباء" لتحقيق أطماعهم، ليست جديدة، فقد سبق وأن عاشها آباؤنا وأجدادنا قبل أكثر من مائتي عام، فهل نتّعظ من التّاريخ؟

الأسلوب واللغة: واضح لمن قرأ روايات الكاتب عبدالله دعيس السّابقة، أنّ الكاتب قد طوّر أسلوبه الرّوائيّ بطريقة لافتة، فالرّواية المكتوبة باللغة الفصحى التي تعجّ بفنون البلاغة لا ينقصها عنصر التّشويق، والسّرد سلس انسيابيّ لا يثقل على القارئ.

naq8961.jpg

ram896.jpg

بالتّعاون بين دار طباق للنّشر والتّوزيع في رام الله، وبين "البيت القديم متحف د.أديب القاسم حسين في الرّامة الجليليّة" صدر قبل أسابيع قليلة كتاب "الرّامة... رواية لم تُروَ بعد-1870-1970. تأليف د.أديب القاسم حسين، ونسب أديب حسين. يقع الكتاب في 640 صفحة من الحجم الكبير.

من يقرأ هذا الكتاب الموسوعيّ سيقف حائرا عن كيفيّة اشتراك المؤلّفين الدّكتور أديب القاسم حسين المتوفّى عام 1993م، وبين ابنته نسب التي لم تكمل عامها السّادس عندما توفّي. وكيف صدر هذا الكتاب في الرّبع الأخير من العام 2020، أي بعد وفاته بحوالي سبعة وعشرين عاما.

وهذا يستدعي منّا تعريف الباحثين قبل القرّاء العاديّين بالأديبة الشّابّة نسب أديب حسين.

عرفتُ الأديبة نسب أديب حسين في العام 2008 عندما جاءت لحضور أمسية ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس، وكانت قد التحقت بالجامعة العبريّة في القدس لدراسة الصّيدلة، وواظبت بعد ذلك على حضور النّدوة والمشاركة بنشاط لافت في فعاليّاتها. ولفتت انتباهي وانتباه غيري من روّاد النّدوة بتميّزها وتميّزها ثقافة وأخلاقا كفتاة في بدايات شبابها، وكشخصيّة قياديّة ثقافتها أكبر من عمرها بكثير.

وعرفت أنّه قد صدر لها رواية وهي طالبة في المرحلة الثّانويّة. فواصلت قراءاتها النّقديّة للكتب الأدبيّة التي تطرحها النّدوة للنّقاش، وللمسرحيّات التي كانت تعرض على خشبة المسرح. إضافة لكتابتها للقصص القصيرة التي كانت تشي بنفس روائيّ بائن.

ونسب ذات الطّموح الكبير واصلت دراستها علوم الصّيدلة بتفوّق، لم تكتف بالنّشاط الأسبوعيّ الثّقافي لندوة اليوم السّابع، فاشتركت مع زميلتها الشّابّة مروة السيوري في العام 2011 بتأسيس ملتقى"دواة على السّور" وهي نشاط ثقافيّ شهريّ جمعتا فيه أصحاب المواهب الشّابّة. وفي الوقت نفسه التحقت بجامعة القدس الفلسطينيّة، وحصلت في العام 2017 على الماجستير في الدّراسات المقدسيّة، وفي هذه الفترة صدر لها أربع مجموعات قصصيّة.

وفي العام 2015 حصلت على جائزة دولة فلسطين في الآداب والفنون والعلوم الإنسانيّة عن المبدعين الشّباب، كما حصلت على الجائزة الأولى في مسابقة نجاتي صدقي للقصّة القصيرة التي تشرف عليها وزارة الثّقافة الفلسطينيّة.

وبما أنّ نسب مبدعة وخلاقة فقد أسّست في العام 2006 متحفا تراثيّا في جزء من بيت العائلة الموروث أبا عن جدّ، ليحمل اسم أبيها الرّاحل د. أديب القاسم حسين.

وفي شهر أيلول-سبتمبر- 2020 صدر لها كتابان أوّلها " الرّامة -رواية لم تُروَ" وثانيهما هو" المتاحف والصّراع الفلسطينيّ على هوية القدس الثّقافيّة المعاصرة" وهو دراسة بحثيّة صدرت عن وزارة الثّقافة الفلسطينيّة.

وأنا هنا أرى أهمّيّة وضرورة لكتابة هذه العجالة للتّعريف على الكاتبة، قبل قراءة بحثيها المتميّزين آنفي الذّكر.

وفي الواقع أنّني شخصيّا لم أتفاجأ بصدور بحثي أديبتنا نسب أديب حسين، حيث أنّني أزعم بمعرفتي للكاتبة عن قرب، وبمعرفتي لقدراتها ومبادراتها الثّقافيّة اللامحدودة.

وما لفت انتباهي وأثار دهشتي وإعجابي هو العمل البحثيّ الذي قامت به نسب، هذه الفتاة الشّابّة التي تفوّقت في هذا المجال على نفسها وعلى من سبقوها، وعلى لاحقيها، فهي لم تترك للاحقين ما سيكتبونه عن "الرّامة" في الفترة التي طرقتها، فأن تقوم شابّة بهذا العمر وقد بدأت بحثها وهي في العشرينات من عمرها بالكتابة عن مراحل سابقة وعن أخرى معاصرة، فهذا أمر مثير للإنتباه، وهذا يذكّرني بالكاتبة التي كانت تقول وهي في بداية العشرينات من عمرها:" في أيّام زمان كنّا.....................!" وهذا ممّا كان يدفعني إلى الضّحك إعجابا وتساؤلا، فعن أيّ زمن ماض تتحدّث هذه الفتاة وهي لا تزال في نهايات مرحلة الطّفولة؟ وأنا الآن أتساءل حول إذا ما كانت تلك "الطّفلة" تختزن في ذاكرتها ما أتحفتنا به هذه الأيّام وهي في عزّ شبابها؟ أو هل كانت مشغولة بذلك وهي في تلك المرحلة العمريّة؟

لكنّ هذا لا ينفي دهشتي من كتابها البحثيّ عن بلدتها الرّامة، فقد فاق توقّعاتي، حيث وجدت نفسي أمام بحث موسوعيّ عن بلدة فلسطينيّة تقع على جبل حيدر، في الجليل الفلسطينيّ، وعلى امتداد سلسلة جبل الجرمق الفسطينيّ المحاذي للحدود الفلسطينيّة اللبنانيّة. هذا العمل الموسوعيّ غير المسبوق اعتمد على البحث المضني عن وثائق يملكها أفراد أو مؤسّسات، وعلى الرّواية الشّفويّة المتوارثة. ومع إصراري على أنّ أديبتنا الباحثة خلّاقة، إلا أنّني أعتقد أنّ من حرّضها على هذا البحث المضني الذي أخذ من وقتها أكثر من ثلاث سنوات، إلّا أنّ بحثها بأوراق المرحوم أبيها هو الذي دفعها لمواصلة ما ابتدأه هذه الأب الذي عاجله الموت قبل أن ينهي أبحاثه عن بلدته الرّامة. وبما أنّ نسب ابنة بارّة بوالديها، وعانت هي وشقيقتها جنان من اليّتم بوفاة والديهما، إلا أنّ هذا يؤكّد أيضا على العناية الفائقة التي أولته لهما والدتهما الرّائعة التي نتمنى لها الصّحّة والعمر المديد. وكان بإمكان نسب أن تبني على أوراق والدها، وهذا ما فعلته حقّا، إلا أنّها من باب الأمانة العلميّة، ومن باب برّ الوالدين والصّدق مع الذّات لم تنس فضل المرحوم والدها، فذكرت اسمه كمؤلّف شريك لها قبل اسمها، تماما مثلما أسّست متحفا تراثيّا يحمل اسمه.

 وهذا ليس غريبا على نسب شديدة الفخر بوالدها، فقد ولدت في بيت علم وأدب، فعمّها شقيق والدها هو الدّكتور نبيه القاسم، وابن عمّ والدها هو الشّاعر العروبيّ الكبير الرّاحل سميح القاسم.

قرأت بحث أديبتنا نسب من الغلاف إلى الغلاف، وعدت إلى بعض صفحاته أكثر من مرّة، ووجدت نفسي أمام عمل موسوعيّ تصعب الكتابة عنه بمقالة أو أكثر، فكلّ باب منه يحتاج إلى دراسات. ففي الكتاب البحثيّ تأريخ لمرحلة سياسيّة ولحروب، ولعائلات ولشخصيّات من بلدة الرّامة، وعن الوضع الثّقافيّ والتّعليميّ والصّحّيّ، وعن دور العبادة والأعياد والتآخي بين أتباع الدّيانات المختلفة، وفيه تسجيل لملكيّات أراض وما صاحب ذلك من نزاعات وخصومات وفزعات وتحالفات عائليّة. وفيه مرور وتوضيح عن الطّائفة المعروفيّة "الدّروز"، وكيف قامت سلطات الاحتلال بمحاولة خلق ما يسمّى "القوميّة الدّرزيّة" في محاولة منها لسلخ الدّروز عن قوميّتهم العربيّة! وهناك تسجيل لعادات وتقاليد وحكايات وأغان شعبيّة وغير ذلك.  

في البحث الذي نحن بصدده هناك تسجيل لمراحل وأحداث في زمن الإنتداب البريطانيّ، وذِكرٌ لأسماء الشّهداء والأسرى من أبناء الرّامة الذين شاركوا في مقاومة المستعمرين البريطانيّين، ولمن شاركوا في المقاومة في مرحلة نكبة الشّعب الفلسطينيّ الأولى في العام 1948. وكيف تشتّت عائلات بين من تشرّدوا في الدّول المجاورة خصوصا في لبنان وسوريّا ومن بقوا في البلدة.

هذه لمحات وإشارات سريعة مضمون الكتاب الموسوعيّ الذي يشكّل إضافة نوعيّة للمكتبة الفلسطينيّة والعربيّة، وهذا لا يغني طبعا عن قراءته، وهذه دعوة للمختصّين وأخصّ المؤرّخين والمهتمّين بالتّراث كي يولوا هذا الكتاب ما يستحقّه من عناية ودراسة.

الذي ينظر الى مصطلحي (الأمانة والخلافة) يجد فيهما معاني (العبادة ),بما تحتويانه من دلالات (الحمل والتكليف والحرية والمسؤولية) قال تعالى:( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) الأحزاب72أ,وقوله تعالى:(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)الكهف29 , ومن هنا يأتي (التسخير) لتسهيل مهمة الإنسان في الأرض , ومنحه( التفويض ), الذي يطلق يده وجهده في إعمار الأرض , ويسر له عوامل النجاح في هذه المهمة ,وكان العامل الأول لهذا النجاح , أن الله زود الإنسان بالعقل والطاقات والمواهب اللازمة ,والعامل الثاني هو أن الله سخر لهذا الإنسان ما في السموات والأرض ليستثمره في بناء حضارته وحياته, وأما العامل الثالث وهو الأهم , هو أن الله بعث له رسالات الأنبياء , لتبصره بصحة المسار, والطريق المستقيم الذي يرضي الله سبحانه وتعالى عنه , حيث يستمد الهداية من علوم الوحي, وتتابع الأنبياء حتى الرسالة الخاتمة , ليقوم بالعبادة على أكمل حال , وأما إذا اتبع هواه ,وخالف أمر الله سبحانه وتعالى , فعليه ان يتحمل المسؤولية ,وتبعات المخالفة والابتعاد عن أمر الله يوم الحساب.

     وأما( الخلق الفني والإبداع فإنه مرتبط (بالتفويض) : ونعني به إنعام الله على الانسان  بالمواهب والطاقات الفاعلة , وتفويضه , لتوظيف هذا الإبداع ,في خدمة خلافته , بعد أن سخر له ما في السماوات والارض, ويوم زوده بالعقل القادر على تشكيل الأشياء , وسمى فعله خلقاً , بدليل قوله تعالى عن المسيح عليه السلام ( إني أخلق من الطين كهيئة الطير ..... ) وقوله تعالى ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ....) فسمى تشكيل الطين خلقاً , وهو خلقٌ تفويضي وعطاء للعقل البشري , حيث جعله قادراً على ( التشكيل للطين ولغيره من الأشياء ) وظهر ذلك جليا حين تقدمت البشرية في عصرنا , حيث تمكنت من تشكيل المعادن واللدائن وسائر المواد ,التي شكلتها وطوعتها ,في الهيئة التي تنفع وتلبي حاجات الانسان في حياته ومعاشه وحضارته ..

     وموهبة التشكيل من (المواد ) والتحكم بها , تشبه موهبة تشكيل الصور الفنية الادبية من (اللغة )في (الخلق البلاغي من خلال الصور الفنية البلاغية ) الذي يشكله الإنسان من اللغة وكلماتها , لأن الله سبحانه وتعالى زوده بنعمة البيان ,كما زوده بنعمة التشكيل, بقوله تعالى ( علمه البيان ) وجعله أيضا قادراً على التشكيل البياني اللغوي ,الذي يعبر به عن نفسه وحاجاته وتطلعاته, وجعله قادرا على خلق وتشكيل وتصميم الأجهزة التي تخدمه في بناء حضارته , قال تعالى ( علم الإنسان ما لم يعلم ) حيث يتعلم مما أودعه الله في مخلوقاته من السنن , فالإنسان يخلق من المواد أشكالا, ومن البلاغة واللغة صوراً جميلةً , ومن الأجهزةِ ما يخدمه في حياته الأرضية ,فقد تعلم (صناعة الطائرة المروحية من البعوضة )وتعلم (الرادار من الخفاش) وتعلم (صناعة الحاسوب من نظام العقل البشري) وتعلم (الارسال الاذاعي من اكتشافه لطبقات الجو) وتعلم (التصوير بعد اكتشافه لأجزاء العين) و(تعلم مكبرات الصوت بعد اكتشافه لأجزاء الأذن ) و الأمثلة على ذلك كثيرة , ولكنه خلق محدود بتفويض من الله , حين سخر له ما في السماوات والأرض ,فعليه أن يدرك هذه النعمة, ويعلم أنه مكرم من الله بهذا التسخير .

   ومع ذلك ,فهو لا يخلق حياةً ولا ذباباً ولا نشورا, وجميع ما يصنعه يأخذه من ( المواد الأولية ) من مخلوقات الله ,فهو يعيش عالة على مخلوقات الله تعالى بما سخر له , قال تعالى : (وسخر لكم ما في السماوات والأرض ).

   وفي قوله تعالى ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) قد عبرت الآية الكريمة عن تعدد الخالقين ورفض المقارنة بين خلق الله للأشياء و خلق العباد لها , حيث أعلنت الآية في بدايتها رفض المقارنة من خلال صيغة التعظيم ( تبارك ) رغم وجود صيغة التفضيل ( أحسن ) مضافة إلى كلمة الخالقين , فخلق الله سبحانه وتعالى خاضع لكماله وعظمته وقدرته , وخلق الإنسان للأشياء خاضع لضعفه ونموه ومرضه وهرمه وموته, وهو خلق وإبداع قابل للسلب والبقاء بأمر الله, لأنه عطاء من الله إن شاء أدام هذه النعمة على عبده , وإن شاء سلبها منه ؛ وهذا العطاء محدود بطاقات العقل البشري المحدود , وعمره في الأرض , وفي قوله تعالى ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ) أي لا يوجد فيه اختلاف في مستويات الإتقان والإبداع والجودة ,وانتفاء النقص , لأن الله لا يصدر عنه إلا الكمال , فخلق الله كامل منذ أن صدر أمر الله بخلقه ,فلو نظرت الى السماوات وكررت النظر مرارا وتكرارا , ما وجدت إلا الكمال والإتقان الذي لانقص فيه لأنه لا يصدر عنه إلا الكمال.

     أما (التفاوت )الذي يعني النقص والضعف وعدم الاتقان في الخلق , فهو حال المخلوق الذي يعتري عمله وعلمه وما يصنعه الضعف ,لأن هذا الحال هو الصفة الدائمة للإبداع البشري , الذي يخضع لميلاد الإنسان ونموه , ومرضه وقوته وتقلب أحواله , بين الشباب والشيخوخة والحياة والموت , وفي قوله تعالى ( بديع السماوات والأرض ) تشير الصفة المشبهة ( بديع ) إلى أن الإبداع والخلق الرباني هو صفة ثابتة في الخالق , أما إبداع البشر فيمكن وصفه بصيغة اسم الفاعل ( مبدع ) ما يشير إلى تقلب الإبداع في البشر, وأنه إبداع ناقص, يحتاج إلى التطوير المستمر, و المر اجعه الدائمة والإضافة الفاعلة , ويخضع لأحوال البشر في الصغر والكبر , والسلامة والمرض وتقلب الاحوال ,كما أنهم يحتاجون فيه إلى التوفيق من الله سبحانه وتعالى.

     وفي هذا مدخل للناقد الأدبي لفهم الموهبة وتفسيرها , والتعرف على اصولها, ومعرفة من انعم بها, والتواضع لله بشكره على هذه النعمة , نعمة اللغة ونعمة القدرة على البيان ونعمة    

الإبداع ونعمة حماية وحفظ العلم والخبرات البشرية , ونقلها من جيل الى جيل , عن طريق

اللغة وتدوينها للعلم والحضارة , لأنها (وعاء العلم )الذي يحفظه من النسيان.

وفيه مجال لبحث الالتزام بنعمة البيان ,والقدرة على تشكيل الاشياء وتوظيفها في

حدود التفويض, وذلك بالطاعة لله الذي انعم بها ,أما إذا وظفها في خدمة ضلاله, كتشكيل

الأوثان و الأصنام ,او صناعة الجمال الادبي لتوظيفه في خدمة الباطل ,او الصناعات التي قد تؤدي الى هلاك البشر, فقد بطر النعمة وحولها نقمة وكفرا وجحودا ,وبذلك يفقد حق التفويض بسلوكه هذا, لأنه خان الأمانة , وأصبح من المفسدين في الأرض ,نعوذ بالله من المفسدين , دنيا وآخرة عملا ومصيرا.

المزيد من المقالات...