مُسَاءَلَةٌ

من آثار ظاهرة النص القصيرِ المُساءلةُ، أي أن يجدَه متلقّوه قد حار صاحبه في أمره حيرة شديدة، أهو هو أم غيره، أوَالناس هم هم أم غيرهم، أوَالأرض هي هي أم غيرها، مما يرى من اضطراب ما كان ينبغي أن يستقر، واختلاف من كان ينبغي أن يأتلفوا، وجفاء ما كان ينبغي أن يلطُف- حتى لَيستيقنون أنها دُوّامةٌ لا صمود لها إلا بالهرب منها، ثم لا يهربون منها إلا إليها!

هذا نص قصير يعبر عن كَمَد الوطني على وطنه، بسبع وعشرين كلمة، في ثماني جمل، على ثلاثة أبيات:

إِفْرِيقِيَا يَا وَجَعِي الْمُزْمِنَا يَا قَلَقِي الْمُلْتَحِدَ الْمُؤْمِنَا

هُنَا عَدَا صَوْتِي وَأُذْنِي هُنَا وَاسْتَنْكَرَتْ عَيْنِي رَحِيلَ السَّنَا

فَالْآنَ يَا بَعْضِي وَبَعْضِي أَمَا آنَ لِبَالِ الْكَوْنِ أَنْ يَسْكُنَا

أما أبيات هذا النص القصير الثلاثة، فسَريعيّة الأوزان الوافية المطوية الأعاريض والأضرب المكشوفتها، نونية القوافي المفتوحة المجردة الموصولة بالألف:

والسريع وزن كثير الاستعمال، فيه خصلتان متناقضتان، إحداهما من الرجز والأخرى من الكامل، فأما التي من الكامل فتفلُّت الرِّفعة، وأما التي من الرجز فتبذُّل الضَّعة؛ فراكبه أبدا مكروب بتنازع الخصلتين عنايتَه، كلتاهما تريد منه ضِدَّ ما تريد الأخرى، تسأله إحداهما وكأنها صوت الوطن: لِمَ لَا تَتَمَهَّلُ فَأُدْرِكَكَ؟ فلا يكاد يجيبها حتى تسأله الأخرى وكأنها صوت الوطني: لِمَ لَا تَتَعَجَّلُ فَتُدْرِكَنِي؟ فهو تساؤلٌ لا ينتهي، تُذيعه على الكون القافيةُ النونية المفتوحة المجردة الموصولة بالألف!

وأما جمل هذا النص القصير الثماني -ومتوسط كلمات الواحدة منها "3.37"- فقد تَنَمَّطَتْ كلٌّ منها بمنزلة أركانها من التعريف والتنكير، على النحو الآتي:

وانقسمت أنماطها على طائفتين اثنتين: أَسْلَمَت طائفة نفسَها إلى نمط "محذوفان ومضاف إلى ضمير متكلم"، ليقودها إلى التعبير عن تَفلُّت الرِّفعة المذكور آنفا، بنداء البعيد ما لا قدرة له عليه. وأَسْلَمَت طائفة نفسَها إلى نمط "فعل ماض ومضاف إلى ضمير متكلم"، ليقودها إلى التعبير عن تَبذُّل الضَّعة، بحديث القريب ما سبق منه إليه! 

وسوم: العدد 873