جنّةُ الغُرَباء

(أُبدِعت القصيدة، افتراضاً، عام: 4678م)

1- شمْسُ الغَريب

طَافَ الغَريبُ قِفارَ بُلدانِ الْوُجودِ...

لَمْ يَستَسِغْ طُعْماً لِغُربَتهِ،

وَتاهَ على أَدِيمِ الأَرْضِ،

يَبْحثُ عَن ظِلالِ الشَّمْسِ،

لا يَرْضَى سِوَى بِزَوالِ لَيْلِ هُمومِهِ،

مِثْلَ الذي عَبثَتْ بِهِ، في البِيدِ،

نَكْسَبَةُ[1] الْمَنونْ...

أَلْقَى الرِّحالَ بِقُدسِنا مُسْتَسْلِمَا...

وَأَناخَ في وادِي المَعارِجِ مُحْرِمَا...

مَدَّتْ لَهُ كُلُّ الْمُروجِ، بِزَهْرِها، فَيضَ الْهَنَا،

أَلْقَتْ عَليهِ، بِلا شِراعٍ ظامِئٍ، مُهَجَ السَّمَا.

نَثَرتْ عَليْهِ، حَفاوَةً، عِطرَ الْوُرودِ،

وأَلْبَستْهُ، بِعِزّةٍ، تاجَ الصَّبابَةِ في أَمَانِ.

غنَّى بِمَقْدَمِهِ الثَّرَى، نَطقَتْ بِرِحلتِهِ أَسارِيرُ الدُّجَى،

وَشَدَتْ، بِطَلْعةِ شَمْسِهِ، سُحُبُ الوِصَالِ تَبرُّكاً،

رَفّتْ بِذِكرِ قُدُومِهِ أَجْفانُ عَكّةَ، والْخَليلِ،

وغَزَّةُ الكُبرَى تَمايَلَ نخْلُها،

وتَحرَّكتْ أَسوارُ حَيْفَا،

واسْتَجابَ لَها الْكَنِيسُ، بِبَيْتِ لَحْمٍ،

فِي حُداءٍ ساحِرٍ عَجَبِ...

رَأى الْغريبُ حَفاوَةَ التّرحيبِ، ثُمَّ جَثَا،

بَكَى، وبَكَى، لِفَرحةِ ما رَأَى...

أَلْقَى الرِّحالَ بِقُدسِنا مُستَبْشِراً،

وتَعَطَّرَتْ أَفْياءُ أَقْصانا بِغُربَتِهِ...

وَسعَتْ لِتَحضُنَهُ، بِعشْقٍ خالِصٍ،

أُمُّ الْقِبَابْ.

+ + + + + +

2- كانُوا هُنا

يا جنّةَ الغُرَباءِ، يا قُدْسُ...

كانوا هُنا، واسْتَنسَرُوا بِبلادِ بَابِلَ والْخليلْ.

كانوا هُنا... صَلَبُوا هُنا...

زَرعُوا فُصولاً مِن فُنونِ الْحِقْدِ، مِن شَررِ الدَّمارْ.

ثَكنَاتُهُمْ دَبَّتْ هُنا...

وقِلاعُهُم أَرْخَتْ بِكَلكَلِها عَلى كُلِّ البِلادْ...

أنّاتُنَا سُمِعَتْ هُنا...

كَمْ أَرْهَبُوا... كَم أَرْعَبُوا...

وعَلَى قُلوبِ الأَبْرِياءِ وعَهْدهِمْ،

بِعُهُودِهمْ، قَد أَسْدَلُوا.

هَذِي بَقايا بَطشِهِمْ:

قَد سَطَّرتْ حِممَ الْهَوانِ،

وأَبْطَلَتْ غَضَبَ النِّجَادِ.

هَذِي حُصونُ حَصادِهِمْ،

قَدْ سُيِّجَتْ بِجدارِ إِسْمِنْتٍ جَبانِ.

هَذي رَزَايا ضُعْفِنا!

خَجَلاً تُطِلُّ:

مِن الرَّوَابِي والتُّرابْ.

+ + + +

3- صُحُفٌ مُطَهَّرَة

يا جَنَّةَ الغُرَباءِ، يا مَسْرَى السَّلامْ...

أَنّاتُنا، في القُدْسِ، قَدْ سُمِعَت مَدىً،

مُستَشْهِدُون هُناكَ، أَيْتامٌ هُنا...

أَسْرَى، بِلا خَوفٍ، فَدَوْا أَرْضَ الرِّباطِ بِلا سِلاحِ...

جَرْحَى هُناكَ، مُرابِطُونَ هُنا...

وَمنْفِيُّونَ، فِي وَضَحِ النَّهارِ،

يُسافِرُونَ، وَلَيلُهُمْ أَمْرٌ جَديدُ.

ثَكْلَى هُناكَ، وَلاجِئُونَ، بِرُوحِهمْ،

بَذَرُوا: مَفاتِيحَ اللِّقَاءِ.

هُم أَوْفِياءُ مَضوْا،

بِلا أَدْنَى شِقَاقٍ، قَد قَضَوْا...

قَد جَرَّعُوا، قَسْراً، مَرارَةَ جُرحِنا...

وَأَذاقَهُم ذِئْبُ الْغَضا جَمْراً أَحَرَّ مِنَ الْغَضَا...

بِصُدورِهِم دَوْماً تَصَدَّوْا،

دافَعُوا، في شِرعَةٍ، عَنْ أَرضِنا...

ما صالَحُوا، مُستَصْغَرِينَ، عَدُوَّهُمْ...

قَدْ أَسْرَجُوا، بِتَنافُسٍ، أَرْواحَهُمْ شُهُباً...

بَثُّوا صَلِيلَ سُيوفِهِمْ سُفُناً...

زَرَعُوا، بِأَكْنافِ الحَرامِ، شَذَا جَماجِمِهِمْ،

فَأَنْبَتَ زَرْعُهُمْ فَتْحاً، يَعُمُّ الْعالَمِينَ،

وَيُعْجِزُ الأُدَباءَ وَصْفُ ظِلالِهِ.

بَذَرُوا عِظامَهُمُ هُناكَ،

وَطَرَّزُوا صُحُفاً مُطَهَّرةً رَوَيْناها،

وَأَنشَدْنَا مَغازِيهَا كِتاباً لِلْخُلودِ،

وَمَأْرِزاً يَأْوِي الْغَريبَ،

وَجَنَّةً تَتْلُو بِإِعْزازٍ:

نَشيدَ الْعَنْدَلِيبْ.

 

[1] - (نَكْسَبة): نَحْت من كلمتَي النكبة (1948)، والنكسة (1967).

وسوم: العدد 932