صدى البردة

ريمٌ رمى، فأصاب القلب بالسّقَمِ

من ذا يجير جريح القلب حين رُمي؟

باناتُ رامةَ لم تشهد محاسنَهُ

ولم يطُف طيْفُهُ يوما بذي سَلَمِ

لكنْ سرى لحِمًى قد طابَ مَنْبِتُهُ

أفْديه، أفْديه من سارٍ بلا قَدَمِ

حبيبُه وحَبيبي طِيبةٌ شَرُفَتْ

به، وقدْ تَشرفُ القيعَانُ بالدّيَمِ

ظبيٌ سرى لم يَكُنْ بالبانِ منبتُهُ

كناسُهُ القلْبُ، لا ما شِيدَ منْ أُطُمِ

محَاسنًا فضحَتْ شمسَ الزّمان ضُحى

ألْقتْ إليكَ بها وضّاحةُ الشّيَمِ

شربتُ كأْسي بلا إثْمٍ ولا حَرجٍ

ونالَ منه ولم يأثَمْ ولم يُلَمِ

كلٌّ يغَار إذا محْبُوبُهُ كثُرَتْ

عُشّاقهُ، غيرَ محبوبي، فزدْ وهِمِ

شرحْتُ حبّي، ولم أكْتُمْهُ عَنْ عَذَلٍ

وما الرّقيبُ سوى لحْمٍ على وضَمِ

لمّا رأيتُ سيوفَ اللّوم مُشرعةً

كسرتُ أجنحة العذّال بالصَّمَمِ

يا ناعس الطّرْف من أغراك بي حدَثًا

أما تُحَرّرُني في الشّيْبِ والهَرمِ؟

وأحْرُفُ الحسْنِ تُمْلي في الهوى كتُبًا

أسْرارُها ليس تُبْليها يَدُ القِدَمِ

فَخَلِّ تِمْثالَ "فينيسٍ" يَمُتْ كَمَدًا

فصبْغَةُ اللهِ تجلو الحُسْنَ من أَمَمِ

وجاءني صوْتُ منْ أهْوى تَبَتُّلَهُ

إنِ العُيُونُ غَفَتْ في سطْوَةِ الظُّلَمِ:

"دعْ عنْكَ كأسَ الهوَى عقباهُ من نَدَمٍ

فأنتَ يا سيّدي في الأشْهُرِ الحُرُمِ"

يا عينُ جودي فإنّ الكأس مترعةٌ

من الذنوب وطُهْرُ الكأس في النّدَمِ

أكلّما قلتُ "وافَى الصبحُ" داهمني

من ظلمة الليلِ سيْلُ العارضِ العرِمِ؟

ألسْتَ تبْصِرُ كأسَ العُمْرِ قد نَزَحَتْ؟

وسوف تملأها كفّ الرّدى النّهِمِ

لا دِرْعَ تنْفَعُ حيثُ السَّهْمُ مُنْطَلِقٌ

ومنْ يُقَارعِ ْيَدَ الأيَّامِ ينْهَزِمِ

قُمِ ازْرَعِ النَّخْلَ تسْبيحًا ومغْفِرَةً

وكَبِّرِ اللهَ، يا مغْرُورُ، واغْتَنمِ

أتَحْسِبُ الحبْلَ ممدودًا بلا أجَلٍ؟

وأنّهُ، يا رفيقي، غيرُ مُنْفَصِمِ؟

هَلِّلْ، ورَطِّبْ لسانًا أنْتَ حَامِلُهُ

بذكْرِ ربِّكَ، يا مَحْزونُ، واسْتَقِمِ

هاجِرْ إلى الله محمُولًا على أملٍ

قبْل انْتقالكَ محْمولًا على نَدَمِ

كُنْ مثْلَ "هَاجَرَ" تَسْعى وهْيَ واثِقَةٌ

والبِيدُ لا قطْرةٌ مسّتْ عُروقَ فمِ

حتّى تفَجَّر، والأكْوانُ شَاخِصَةٌ،

من أخْمَصِ الطِّفْلِ ماءٌ غيرُ منْحَسِمِ

تعَرّضَ الظّبْيُ لي نجْما أحَلّ دمي

والنَّجْمُ يَهْدي الحَيارى ساعةَ الظُّلَمِ

بَصُرْتَ بي تَائِهًا وحْدِي فَلَوَّحَ لي

مِنْ نُورِكَ الفَذِّ برْقٌ كاشفًا ظُلَمي

أَلْوَانُ طَيْفِكَ تَدْعُوني فأَتْبَعُهَا

إلى حدَائِقَ تُصْبي زهرةَ الأكَمِ

لما تجَلَّتْ على الدّنْيَا بَشَاشَتُهُ

تكشّفَ الكوْنُ عنْ سَعْدٍ وعنْ نِعَمِ

يا منْ يريدُ لشِعْرِي أنْ يُخَلِّدَهُ

شِعْرِي بغَيْرِ رَسُولِ اللهِ لم يَهِمِ

سرْ يا نسيمُ بركبي في الهوى سحرًا

إلى مقام حبيب الله واستَلِمِ    

ثبّتْ خُطاي على باب السّلام لكي

تسعى بيَ الرّوح قبْل السّعْي بالقَدمِ

وافى فأخْرَجَتِ الأيّامُ زهْرتَها

واخضوضرتْ فَعُيونُ الحُسْنِ لمْ تَنَمِ

هما القرينان، لا حُكْمٌ بلا خُلقٍ

عند البناءِ، ولا خُلْقٌ بلا حِكَمِ

والعِلْمُ ما لم يكنْ سيفًا ترُدّ به

حقّا فإنّ وجود العلم كالعَدمِ

يا من يبيع لباغي الشّرّ ذمَّته

لقد غدوت أخسّ النّاس في الذّمَم

فكيفَ تعْمى وهذا الضوءُ خطَّ على

لوحِ الخلائِق سطراً غيرَ مُنْبَهِمِ؟

منْ يلْتَمِسْ منكَ يا نورَ الهُدى قبَسًا

يأْمَنْ إذا ساقَ ركْبَ الرّوحِ في الظُّلَمِ

أتى النبيّون بالآياتِ قومهمُ

وجئتَ بالبيّناتِ الزُّهْر للأُممِ

والضّرب في شُعَب الأيّامِ دون سنا

وحيٍ كضرب عليلٍ واهنٍ هرِمِ

وشعلةُ الوحي لا تخبو ذُبالتها

فاسْلُكْ بها غمَراتِ الحقِّ واقْتَحِمِ

أعظمْ بِحقِّ رسولٍ كان مبعثُه

للخلْقِ مرْحَمَةً في الحربِ والسّلَمِ

ورحمةُ السّيْف ذودُ السّيْفِ عن رجُلٍ

بالجوع مشتملٍ، بالخوْفِ ملتئمِ

لا تحْسَبنَّ الرّماحَ السُّمْرَ منقصَةً

إنْ أصبَحتْ في صُدور الظُّلْمِ كالرُّجُمِ

يا قلبُ بُحْ بالذي أضناكَ من حُرقٍ

لمّا تضَرّمْتَ كانت خير مضْطرَمِ

وقُلْ: حبيبي إليك الشّوقُ قيّدَني

يا نعْمَ قيْدٍ بحبّ الله ملْتزمِ

ما زلتُ منْ حُبّكَ الوهّاج ذا سقَمِ

وفيكَ يعْذبُ ما بالمرء من سَقَمِ

إذا نداك همَى فالسّحْبُ كاسِفَةٌ

فأنتَ تسْقِي مريدَ الغيثِ بالشَّبِمِ

جاءتكَ سفَّانةٌ تشْكو وقد ذهِلتْ

فقلتَ كان أبوها موئل الكرمِ

ألبستها بُردَ عزّ ما يفارقها

وقد رددت عليها بردةَ الشّممِ

تجلّت الرّحْمةُ المُهْداةُ وانْبَجسَتْ

عيْنًا فلم يبْقَ بيْنَ الكائناتِ ظمي

ومَدّتِ النّعْمةُ المُسْداةُ أذْرُعَهَا

فالعَالمون بها في طوْقِ خَيْرهمِ

يأتي المريدون من خوفٍ ومن طمَعٍ

ويصْدرونَ بما يرضونَ من عَممِ

بنى لنا صرْحَ أخلاقٍ وقال لنا:

"من يبغِ حوضي بهذا الصرح يلتزمِ"

ممرد الصرح "بلقيسٌ" تتيه به

ونحن من صرحه سُدْنا على الأمَمِ

فإن تركناه يهوي ساقنا خَدَما

منْ كان في دارنا بعْضا من الخَدمِ

بنى الطواغيتُ بالنّيران دولتهمْ

فلم يرَ النّاسُ غيرَ الظّلْمِ والظُّلَمِ

وأشْرقَ الأمنُ بين الخلْق كلّهمِ

لما بنى بالهُدى والرّشْدِ والقَلَمِ

فالرّفْقُ ثوبٌ كسا الأيّامَ مُقْبِلةً

والسيفُ راعٍ يذود الذّئبَ عن غنمِ

وكسْرةُ الخُبْزِ في كفّ الرّضيعِ فمٌ

ما أحْوَجَ الأمَةَ الكلْمى لفيضِ فَمِ

تقُولُ: جئتُكَ أسْعَى كيْ تُطَهِّرَني

لقد فَطَمْتُ صَغيري أيَّ منفطِمِ

وكانَ يَدْرأُ عنها كلّ آوِنَةٍ

منْ رَحْمةٍ مِخْلبًا يدعو لسَفْكِ دَمِ

حتّى إذا لمْ يَدَعْ عُذْرًا أجابَ لِمَا

تَدْعو، وجلَّلَ ثَوبَ التَّوْبِ بالسَّلَمِ

وفي (الضّحى) من عظيمِ الوصف لؤلؤةٌ

قدْ أعجَزتْ قدرة الغوّاصِ إنْ يَرُمِ

(أمّا اليتيمَ فلا تَقْهرْ) لهُ خُلُقٌ

أرقُّ في مَلْمَسٍ منْ ضحْكَةِ الدّيَمِ

لا يجمُل المدْحُ إلا في محامِده

ولا يحيطُ بها الفنّانُ ذو الكلم

فاهْنأْ بمدْحِ رسُول الله وارْقَ بهِ

في النّاسِ منْزِلةً تعْلو على القِمَمِ

واشربْ بمدحِ رسولِ الله كأسَ سَنَا

إنْ يبْغِ "جمشيدُ" من أسْرَارِها يَهِمِ

كأْسٌ من النّورِ لا لَغْوٌ يُكَدِّرُهَا

بين السُّقاةِ ولا تأثيمَ إنْ تَحُمِ

حامتْ فأشرَقَ من أنْوارِ مطْلعها

شمسٌ تقُولُ لأقْمارِ الدُّنى احْتَشِمِي

إنْ تبغِ بهجتَها تبْغِ الرّحيلَ إلى

ما لمْ تنلْهُ أيادٍ قبْلُ في إرمِ

هل كانَ صنْعانُ إلا عبْدَ سكْرتها

لمّا بدتْ غادةٌ في الدّيْر كالصّنَمِ

وهل بكى لإهابِ الحسْنِ في دمِها؟

أم آنس الطّور؟ أمْ شوقًا إلى الحرَم؟

(لَمّا تجلّى) رأى من ضوء صفحَتِهِ

موسى بِوَاديهِ برقَ العشقِ لم يَرِمِ

مولاي حبّك يسقيني ويُطْعِمني

وهَوْدجُ العشْقِ مِعْراجٌ بلا لُجُمِ

ولي بحبّك زادٌ لا نفادَ له

وكلّ زاد سواه آل للعَدَمِ

والحبّ ما لم يفِضْ بوْحًا تقرّ به

عينٌ، فمحضُ هوى يهوي أصمُّ عَمِ

وإنّ حبي رسول الله أنزلني

عصماءَ تعصمني من بطش منتقمِ

وما على العبْد إنْ يخلصْ محبّته

إذا أطاف، كطيفِ الحلْم، باللّمم

إن يغبطوك على شيءٍ نعمت به

فإنَّ حبّك طهَ أعظمُ النّعمِ

كُنْ كابنِ أدهمَ في زهْدٍ وفي حكمٍ

وكالفُضَيلِ يردّ النفس باللّجُمِ

بستانُ أحْمدَ لو آنَسْتَهُ قَبَسا

وقيل هذا مقامُ الحُسْن فاستَلمِ

لانهدّ طورُكَ من أنسَامِ طلْعتهِ

فكيف لو تُدْركُ الإنْعامَ من أمَمِ؟

يا نفسُ جوعُكِ يستشري إذا اتّسعَتْ

من المحارم أشْداقُ الهوى النّهِمِ

فلا تمدّي حبال الطّوعِ من طمعٍ

إلى اللذائذ، واخْشي مصْرعَ التُّخمِ

قليلُ زادكِ تحميه القناعة منْ

محقٍ، ويُمْحى كثيرُ الزّاد بالنّقَمِ

مولايَ! حبّك يطويني وينشرُني

فَصار دون جناحي ساكنُ القِممِ

لكنني من جماح النّفْس في عنتٍ

وهل يُردُّ جماحُ النّفس باللُّجُمِ؟

سبحتُ سبْحا فلم يظفرْ بحاجتهِ

قلبي، ولم يقتربْ من حَوضه العمَمِ

بستانُ قلبيَ قفرٌ، فاسْقِ غاديةً

بستانَ قلبي يفِضْ بالسلْسل الشبمِ

هل احْتُجِزتُ بذنْبي، أم رُدِدْتُ بما

قصّرتُ في السّيْرِ؟ أم ضَيّعْتُ ملتزمي؟

أم عبرتي أخطأتْ في الليل محجرها

وكان من طلبي في الليل سفْك دمي؟

أم قيّدتني ذنوبٌ ما أعدّدها

ولست أذكرها إلا كما الحُلُمِ

أم ما تخطّ يميني كان عن سنَنٍ

في الحقّ يملأ سمع الخلقِ بالصّممِ

وافى نداؤك: "وا شوقي" ليشملني

فأصبحتْ زُمَر العُشّاق من خدمي

ما ضرّ إن زار داعي الموت مُخْترِمًا

حوضي، وحُبّك ينفي سوءَ مُخْتَرَمِ

ولي على الحوضِ ميعادٌ وموْعِدةٌ

لا يُخْلفُ اللهُ ميعادًا لمُلْتَزِمِ

النَّجْمُ قال لجاراتٍ له سحرًا:

ممّنْ تعَلّمَ هذا لذّة الألم؟

فأشْرقتْ في الدّجى أنوارُ حكمتِهِ

والعشقُ بحْرٌ من الأنْوارِ والحِكَمِ

وما كَحبّ رسول الله يَفْتَحُ لي

أسْرارَ "كنْ" فيعيد الرّوح للرّممِ

وتستردّ سناها أمّةٌ نسيتْ

عزًّا تغَلْغَلَ بين اللّوح والقلَمِ

افتتحت كتابة هذه القصيدة، بوجدة، في ذي الحجة من عام 1441، واختتمت في يوم عرفة من عام 1442.

        

وسوم: العدد 938