الأميـرة
الأميـرة
شعر: عمر إدلبي
(1)
الآنَ
وبعد خلوِّ الشارعِ
من خطواتِ سوايَ
سأمنح هذا البردَ غيومَ ضبابٍ
من أنفاسي ،
هذا البرد قديمٌ
أقدم من أبواب دمشقَ السبعةِ ،
هذا البرد قديمٌ ،
كيف سأقفل قلبَ المرجةِ(*)
دون هبوبِ عواصفهِ ؟
من يحرس نزلةَ رامي(**)
من خيّالتهِ ؟
الآن وبعد خلوِّ الشام الحلوةِ
من أنفاس سوايَ ,
ومن عبث الغرباءْ .
لا يعلم تأويلَ الأبوابِ السبعةِ
إلا ثامنُها ,
ولهذا قيلَ : سيبحث عنه الشعرُ
و يتبعه الغاوونَ ,
ويمشي النورُ على قدمينِ
من الماساتِ إليهِ ،
فإن آنستم ورداً بعد خطاهُ
فتلك قصائد ماءْ .
في الليلِ , تقول القصةُ :
تغفو الشامُ على نورٍ,
فالعتمةُ تخشى
أن تحتاجَ دمشقُ قناديلاً ،
فتغضُّ الطرفَ عن النجماتِ
لتسهرَ في شرفات مآذنها
وأنا ,
في هدأةِ هذا البردِ
أريق خُطاي بلا جهةٍ ,
إلا ما تحفظه من ذاكرةٍ
للسيرِ وحيداً ،
بابُ دمشقَ الثامنُ ،
ذاك الغائبُ حتى يأتي وعدُ الحبِّ ,
فتصبح كلُّ حدائقها
لعصافيرِ العشَّاقِ سماءْ .
وتقول القصةُ :
أن قرنفلةً بيضاءَ
- وقبْل الساحرِ كانت بنتاً تخلب لبَّ الوردِ –
أرادت أن تهدي لأمير البستان العالي
عطراً من أدمعها ,
ليفكَّ بلمسته أقفالَ الساحرِ ،
طار عبيرُ مفاتنها ,
فرأى حرّاسَ الساحرِ
يصطفّون على الأسوارِ,
فظلَّ يرفرف بحثاً عن بابٍ أعلى من قامتهم ,
حتّى تركَتْهُ الشمسُ
وحيداً بين أسىً ومساءْ .
وهناكَ
كأنّ القصّةَ أُتلِفَ بعضُ صحائفها ،
لكنَّ عبيرَ مفاتنها
يبدو قد أوصل مرسالاً عطريّاً
لم يذكره السردُ ,
فآخرُ سطرٍ في صفحات القصةِ يروي :
إنَّ قرنفلةً بيضاءَ
غدت – والساحرُ مَيْتٌ – بنتاً
تخلب لُبَّ الوردِ ,
تزوّجها في فصل العطرِ
أميرُ البستان العالي .
لابدَّ إذاً
من بابٍ لم يحرسْهُ الساحرُ ,
يعلم تأويلَ الأبوابِ السبعةِ ,
بابُ الشّامِ الثامنُ ,
حيث أريقُ خطاي إليهِ بلا جهةٍ
إلا روحي .
* * *
(2)
لا بدَّ من ألطافها الحسنى
لتفتح قلبَها,
فالسورُ من روحٍ وريحانٍ ,
وبابُ القلب مرصودٌ
بشالٍ من حريرْ .
لا بدَّ من ألطافها الحسنى
لتصبرَ ,
إن تجلّى وجهُها ,
وتكشَّفتْ أنوارُها لكَ ,
وانجلى بحضورها السرُّ المنيرْ .
هي ذي دمشق , فعلم الخطواتِ
كيف تسير فوق الماءِ ,
قبل دخول محراب العبيرْ .
سيكون ظلُّكَ من رذاذٍ
مائلٍ للعطرِ
إن مسحَتْ جبينَك بابتسامة غيمها ,
فدمشق
منذ تشكّلَ النورُ السّماويُّ
اصطفت وجهاً لها
من ثوبهِ .
ودمشق منذ تطاولَ الغيمُ الرشيقُ
على السماءِ
تخيّرت قدّا لها من سكرهِ .
ودمشق من أسمائها الحسنى
ارتأت للياسمين بياضهُ ,
ودمشق
منذ تأمّلَ اللهُ العليُّ الكونَ ,
كي يسقيهِ ,
فاض بعينها حزنٌ شفيفٌ ,
ثم كان الماءُ , وانسَرَبَ البكاءْ .
لم تكتمل بعدُ الحكايةُ ,
فالحزينةُ بعد ناياتٍ طوالٍ,
عذَّبتها الريحُ ,
فانتبذت لأنَّتِها نحيباً خافتاً,
وغدت - إذا وصفوا - الغريبةَ ,
حين غرَّبها اشتعالُ القهرِ
بين شفاهها ،
شامي الجميلةُ , والحبيبةُ مثل أمي
لم تعد تهدي لأحلامي عصافيراً مذهبةً
فمن أبقت لنا هذي السماءْ ؟
كانت ،وكنت أريقُ دمعَ خطايَ
بين يدي شوارعها
وها إنّي أريقُ
على سطور حريقها
كلماتِ روحي .
* * *
(3)
مساءً
كما عادة الغرباءِ ،
تعلّقُ وحشتَها قربَ قنديلِ أغنيةٍ
وتضيءُ ثرياتِ بابِ السلامْ(***) .
مساءً
كما عادة الوردِ لا يكتم العطرَ
تترك عنوانها لغريبٍ
يفتّشُ عن سرّهِ ،
وتنامُ الغريبةُ
لا كالقصائدِ مسكونةً برماد حرائق شاعرها،
فدمشق حرائقها لا تنامْ .
يدور الضياءُ بقبَّتها
وتسلّي صبايا النجومِ
برنَّة خلخالها
وهي تذرع خدَّ المساءِ
إلى أن يفيقَ الحمامْ .
ينام الحمامُ على راحتيها
فتسهر كيما يطولَ المنامْ .
لها أن تسمى ـ إذاً ـ قمراً
ولها أن تكون مبلّلة بالغيومِ
كما ينبغي لسماءٍ
فكيف تسمى الغريبةَ ؟
كيفَ أحاطَ بغرَّتها كلُّ هذا الظلامْ ؟
مساءً
ومثل غريبٍ
سرائرُهُ تتنزّهُ في دمعهِ
والشوارعُ خاليةٌ من سوايَ ،
أريق خطاي إلى حلمٍ ,
وأعلّقُ في الليل قنديلَ روحي .
* * *
(4)
بَكَت الشوارعُ
عندما ودَّعتها بخطايَ
وانهمرت على أثوابها دررُ المطرْ .
بكت الشوارعُ صدّقوني
والمساء بكى على كتفي
ولومٌ ماطرٌ
نثرته في صدري ارتعاشاتُ الشجرْ .
هل دمعها هذا الرذاذُ ؟
أمِ السماءُ تحبها مثلي
لتهرقَ كلَّ ما في بيتها من كوثرٍ
حزناً على أحزانها ؟
هل دمعها ؟
أم أن نهراً في أعالي الغيبِ
غادر ضفتيهِ
ومدَّ منديلاً نديَّاً فوق خديها
ليرشفَ ياسمينَ بكائها ؟
بكت الغريبةُ صدّقوا
فدمشق تبكي مثل أية غيمةٍ
رفعت سماءً فوق غمرِ رحيقها
لتنامَ
فاندلقت على الأحلام جرّةُ مائها .
ودمشق تبكي مثل أمي
كلما غادرتُ مملكة البياضِ بقلبها
وتبعتُ قلباً من حجرْ .
يا دمعها!!
شمسٌ تسيلُ على مشاتلِ ذكرياتي ،
قلتُ :
أشتمُّ القناطرَ
أملأُ الروحَ الشقيّةَ
من شذى ألطافها الحسنى ،
وأفسحُ في الهواءِ طريق دمعي
كي تمرَ على دمي عرباتُ رقّتها
فأنجوَ ما استطعتُ .
يا حزنها العالي
احترقتُ .
يا دمعها !!
يهوي ـ كروحي ـ من أعالي الحزنِ
يُلجِئُنِي إلى بابِ السلام ِ
هناكَ حيثُ يدا دمشقَ
تدلّلانِ غريبَها
بهدى ثريّاتٍ مذهّبةٍ ،
وحيث يدا دمشقَ
أظلّتا بستانَ فلِّ حبيبتي ،
يا دمعها !!
لا بدَّ من أسمائها الحسنى
لأقرأها عليَّ
فقد هويتُ .
لا بدَّ من ألطافِهَا الحسنى
يكادُ القلبُ يقفزُ من خزائنِ نبضهِ
ليلمَّ ياقوتاً همى من رمشها ،
بكت الحبيبةُ صدّقوا
فدمشق تبكي إن بكيتُ .
ودّعتها ,
ووددتُ لو أودعتُ عند نهارها
أسرابَ أشجاري
ليرقص أخضرٌ في عرسها ،
ودّعتها
وأرقْتُ ماءَ خطايَ للأعلى
وكانت نجمتي روحي .
* * *
(5)
جفنُها مطرٌ
يتهادى على وجنةٍ
ياســمينْ .
رمشها يتوسّط باحةَ روحي ,
ويرفع أجراسَ أدمعهِ
ماسةً .. ماسةً
لترفَّ كسرب غناءٍ حزينْ .
ليتها لم تكن صوتَ قلبي
إذاً ،
لتركتُ لعمريَ طويَ صحائفها
منذ بَدْءِ الأنينْ.
صدّقوني
بكت نايُ أشجارها
وأنا أقرأ الصلواتِ سلاماً عليها ,
وأشتمُّ ما يملأ الروحَ منها ,
بكت , وشكتني إلى شارعٍ
كان فيه ( أنايَ )
يقيس ظلالَ أبي
بخطاهُ الصغيرةِ
ثم يسابقها برشاقة ظبيٍ
بكت
– صدقوني – مصابيحُ علّقها الليلُ
في ثوبه منذ حينْ .
يا مصابيحَها
كم كبرتُ ولمّا تزل دون بيتٍ
تعود إلى حضنه في الصباحِ
وكنت أسلّي صبايَ
وسهرتَها
بقصائد درويشَ ،
والشامُ ترقبُ راضيةً غزلَ الليلِ ،
يا ليتها تتذكّر ما علّمتني صبيّاً
لما كنت - هذا الأوان – غريبَ مفارقها .
بين قلبي وأسوارها
ما يدثِّرُ أرضاً
تعرّت من الشمسِ ،
أسوارُها الطيّباتُ ،
عَنَيتُ ائتلافَ الزنابقِ
والياسمينِ على راحتيها ,
وليس نهوضَ الردى
حجراً ... حجراً
حول قامتها ،
ليتها لم تكن ضوء قلبي
ولم يكُ هذا الصبيُّ حنونا.
طيّبونَ كما ينبغي لقرنفلةٍ يا دمشقُ ،
ونحتاج أجنحةً
لا ســجونا .
* * *
(6)
لا يعلم تأويلَ الأحزانِ بعينيها
إلا قهري ،
ويظنُّ الرّاسخُ بالأحزانِ دمي
باباً لدمشقَ ،
إذاً ،
والآن وبعد خلوِّ الشامِ من الأبوابِ ,
وبعد خلوِّ الشارعِ من حرّاسِ خطايَ ،
سأكتب تأويلي :
فأميرتُنا المسمومةُ ترقد بين يَدي نومٍ ,
والساحرُ والحرّاسُ على الأسوارِ،
ويلزمني للبابِ الثامنِ ملءَ خطايَ
وملءَ يديَّ وروحي .
(*) ـ المرجة: حي غني بذاكرته التاريخية يقع في وسط دمشق التجاري.
(**) ـ نزلة رامي: زقاق يقع في حي المرجة.
(***) ـ باب السلام: أحد أبواب دمشق السبعة التي تتوزع على امتداد سور دمشق القديمة،أطلق عليه هذا الاسم بسبب دخول الجيش الإسلامي الفاتح منه صلحاً.