حنان الأمّهات
مصطفى عكرمة
حُرِمْتُ حنانَ والدتي صغيرا
أجلْ قد نِلتُ من ربِّي الكثيرا
فما أشقى الحياةَ بغيرِ أُمٍّ
* * *
حنانُ الأمّهاتِ لنا حياةُ
فما من بعدِ فضلِ اللهِ فضلٌ
كأنَّ بهـنَّ للأرواحِ روحاً
* * *
بهنَّ اللهُ قدْ عَمَرَ الوجودا
برحمتِهِنَّ رحمَتُهُ تجلَّتْ
أليسَ الخلْقُ من إنجابٍ أُمٍّ
* * *
ثواني عمرِها تزدادُ حُزْنا
وبالدّعواتِ خالصةً تراها
ومن فرحٍ تكادُ تطيرُ بِشْراً
* * *
تساوى الأُمّهاتُ بتضحياتِ
سلامةُ ما يلِدْنَ تظلُّ أغلى
فجلَّ اللهُ مبدِعُ كلِّ أُمٍ
* * *
وقلبُ الأُمِّ ما ذاقَ السُّرورا
وتحسَبُ كُلَّ ما تعُطي قليلاً
فمنْ عاشَ الحياةَ يَبَـرُّ أُمَّاً
* * *
رضا الأبويْنِ في مرضاةِ ربٍّ
أمَا التّكريمُ منه لأمّهاتٍ
عسانا أنْ نَرُدَّ لهُـنَّ حقَاً
* * *
فهَاجَرُ كَمْ سَعَتْ في القفرِ لهفَى
تلوبُ عليهِ ترجو رِيَّ طفلٍ
فأجرى اللهُ زمزمَ سلسبيلاً
* * *
وسعيُ الأمِّ هاجَرَ صارَ رُكناً
كما هيَ قد سَعَتْ يسعى حجيجٌ
وكرَّمهـا الإلهُ غداةَ أمسى
* * *
لعِفَّةِ أُمِّهِ في المهـدِ عيسى
فأَبْطَلَ فِريةً، وغَدَتْ يقيناً
وحينَ رضيعُ ماشِطةٍ تكلَّمْ
* * *
وأَكْرَمَ ربُّ موسى أُمَّ موسى
فأُودِعَ في هياجِ الموجِ طفلاً
وطمْأَنَ قلبَها الـمُلتـاعَ ربٌّ
* * *
ولمْ يكُ أهلُ موسى في ثراءٍ
فرُدَّ لأُمِّهِ ردَّاً عزيزاً
وحرَّمَ كلَّ مُرضِعةٍ عليهِ
* * *
وأرملةُ "الذَّبيحِ" أعفُّ أنثى
وصارَ يتيمُها خيرَ البرايا
وأرسلهُ الإلهُ بخيرِ دينٍ
* * *
أما ولدتهُ أمنةٌ يتيماً
وسلَّمهُ بأمرِ اللهِ رأيٌ
فيا بُشرى لمن هم والداهُ
* * *
وأعلامُ الزَّمانِ وعالِموهُ
نَمَتْهُـمْ أمَّهـاتٌ صالِحاتٌ
فأعلـوْا مجدَ أُمَّتهـمْ بجِدٍّ
* * *
ولولا الأُمُّ لمْ نعرِفْ كِراماً
ولم يخلُدْ بتقواهُ تقيٌّ
على ما كانَ منهُ نَمَتْهُ أُمٌّ
* * *
ولولا الأُمُّ لمْ نَظفَرْ بـحُـرٍّ
مضى طوعاً إليها مُطمئنَّاً
أذلَّ عدوَّهُ، وأعزَّ أُمَّاً
* * *
وما أبهى شروقَ الشَّمسِ أُمَّاً
فتصحو حينَ تُشرِقُ كائناتٌ
فأحسبُ صحوها تحنانَ أُمٍّ
* * *
وكمْ أحيا الأمومَةَ في الطّيورِ
حواصِلُها تخبِّئ ما جَنَتْهُ
أليسَتْ هذهِ الأطيارُ أُمَّاً
* * *
وفي عمقِ البِحارِ وفي البراري
يوحِدُهنَّ إيثارٌ وعطفٌ
ولولا أنهـنَّ يَلِدْنَ طوعاً
* * *
وما أحلى الزُّهورَ تفوحُ عِطراً
أليسَ العِطرُ يولدُ من زهورٍ
فلولا أنَّ هذا الزَّهرَ أّمٌّ
* * *
وفي الأشجارِ ألـمَـحُ قلبَ أُمٍّ
على الأيّامِ يُعطي دونَ مَنٍّ
وخيرُ الجود جودٌ لا يبالي
* * *
فجلَّتْ حِكمَةُ المولى تعالى
ويا بُشرى لمَنْ رُزِقوا فؤاداً
إذَنْ لَغَدَتْ عوالِمُنا جناناً
* * *
يريني حُبُّ أمِّي ما لأمِّي
أُصوِّرها كما أهوى، ولكنْ
ويُرجِعني حنيني كي أراها
* * *
ويا لَحنانِ زوجٍ شاركتني
فألقى في مودّتها عزائي
وأُبصِرُ حولنا سِرباً جميلاً
* * *
وتَرفُدُهُ حفيداتي بِدَلٍّ
فَنَحسَبُ بيتَنا أمسى جِناناً
وأحسَبُ أنَّ رَحْبَ الكون مُلكي
* * *
فأَذكُرُ فضلَ أُمٍّ أنجَبَتني
فلولا فضلُ أُمِّي لمْ تَجِدني
فأشكُرُ من حباني منهُ أُمَّاً
* * *
بناتي أربعٌ وبِهِنَّ أرجو
فهُـنَّ اليومَ أحنى أُمَّهاتٍ
وأحسَبُ كلَّ واحِدةٍ شفيعاً
* * *
فيالله كمْ أحيا سعيداً
وأحسبُ أنّني كرَّمتُ أُمِّي
وأحسبُ أنَّ أُمِّي كرَّمتني
* * *
رضعتُ حليبَ والدتي فكانتْ
وما لأبي وجَدِّي من سجايا
وها أنا في بنِيَّ أرى امتدادي
* * *
حنانُ الأُمِّ يصنَعُ معجزاتٍ
رحيمُ الَخلْقِ أودَعَ فيهِ سِرَّاً
فما غيرُ الأمومةِ من سبيلٍ
* * *
قَضَتْ أُمِّي ولكِنّي أراها
وأحسبُهـا أمامي وهيَ تحنو
أحاوِلُ أن أُقبِّلهـا ولكنْ
* * *
أرى أمِّي البعيدَةَ في وجودي
وفي قلبي أراها كُلَّ آنٍ
فلولا أنَّها سكَنَتْ بعيني
* * *
فيا منْ شئتَ أنْ أحيا يتيماً
فرحلتُها إليكَ دليلُ حُبٍّ
فعوِضها بقربٍ منكَ ربِّي
* * *
مقامُ الأُمِّ عندَ اللهِ يسمو
فيا سِرَّ الأمومةِ ألفَ عُذرٍ
أليسَ رضا المهيمـنِ في رِضاهاولمْ أبْرَحْ أَحِنُّ لها كبيرا
ولكن دونها عشتُ الفقيرا
تُحيلُ عسيرَ ما نلقى يسيرا!
* * *
ولولاهنَّ ما طابتْ حياةُ
سوى ما قدَّمَتهُ الأمّهـاتُ
وحسْبُكَ أنَّهُـنَّ الوالِداتُ
* * *
فكنَّ أحبَّ ما أوْلاهُ جودا
وحسبُ الأُمِّ أنْ فُطِرَتْ وَلودا
ففضلُ الأمِّ ما عرفَ الحدودا!
* * *
إذا عشنا لثانيتيـْنِ حُزنا
تسوّرنا إذا ما نحنُ غِبنا
إذا ما نحنُ بعدَ البُعدِ عُدْنا
* * *
بها تحيا جميعُ الكائناتِ
وأعظمَ من أحبِّ الأمنياتِ
بها أبدى لنا حُسنَ الحياةِ
* * *
إذا الأطفالُ لمْ تَعِشِ السُّرورا
وتلقى نزرَ ما تُعطى كثيرا
سيلقى بِرَّهُ أبداً يسيرا
* * *
أرادَ لنا به عِزَّ الحياةِ
يُذكِّرُنا بحقِّ الأُمّهاتِ!
يكون لنا السّبيلَ إلى النَّجاةِ
* * *
تُؤمِّلُ أن ترى في القفرِ ماءَ
وعادت لا ترى إلاّ الدُّعاءَ
يظلُّ كرامةً يجري رُخاءَ
* * *
لحجٍّ ما لمدّتهِ انقضاءُ
وعُمَّارٌ من الأبعادِ جاؤوا
لكلِّ المؤمنينَ بهـا اقتداءُ
* * *
بأمرِ اللهِ في أدبٍ تكلَّمْ
براءةُ أُمِّهِ العذراءِ مريمْ
غدَتْ في الخُلْدِ ماشِطةٌ تَنَعَّمْ
* * *
ونَجَّاهُ من القتلِ المُحَتَّـمْ
بأمرٍ كانَ للرحمنِ مُبرَمْ
بها وبطفلِها أوْلى وأرحمْ
* * *
إذا ما بيعَ من أهليهِ يُشرى
وأُسكِنَ في حِمى فرعون قصرا
لِيُنْبِتَهُ حليبُ الأُمِّ حُرَّا
* * *
قضتْ من دونِ أن ترعى اليتيما
بأخلاقٍ بها يبقى العظيما
فكانَ بكلِّ من خُلقوا رحيما00
* * *
ونجّى اللهُ والدَهُ الذَّبيحا
أتى ممَّن لهُم كانَ النّصوحا
ليصبحَ هديُهُ للروحِ روحا
* * *
وما هم شيَّدوه وعلّموهُ
فخُلِّدَ كُلُّ ما قد أبدعوهُ
وللأجيالِ ما قد خلّفوهُ
* * *
ولا مستبصِراً نفَعَ الأناما
على الإيمانِ والـخُلُـقِ استقاما
فكانَ بما تَعَلَّمَهُ إماما
* * *
تَمَلَّكَ قلبَهُ حُبُّ الشَّهادَهْ
ولمْ يَخشَ العدوَّ، ولا عِتَادَهْ
بحُبِّ المجدِ قدْ عَمَرَتْ فؤادَهْ
* * *
تُصحِّي كلَّ ذي أملٍ وهِمَّهْ
بها حسنُ العوالِمِ ما أتَّمهْ!
نَمَتْ أبناءها فَغَدَوْا أئمَّهْ
* * *
تَهُـبُّ لِرِزقِها قبلَ الهجيرِ
لتُخرِجَهُ غذاءً للصّغيرِ
أبانَتْ رحَـمَـةَ المولى القديرِ؟
* * *
عجائبُ من صنوفِ الأُمَّهاتِ
وإنْ نَلْقَ اختلافاً في الصِّفاتِ
لما كُنَّا نَعِمنا في الحياةِ
* * *
فيُبهِـجُ أنفُساً، ويطيبُ نشْرا!
ألستَ ترى بهِ للأُمِّ سرَّا؟
لما كُنَّا شممنا الدَّهرَ عِطرا!
* * *
تجودُ كما تعوّدَ أن يجودا
وليسَ يَمَلُّ إنْ نطلُبْ مزيدا
بما يلقاهُ مدحاً أو جحودا
* * *
وفِطرَتُهُ بخلقِ الأُمَّهـاتِ
يرى ما في الأمومةِ من عِظاتِ!
ونحنُ بِهِـنَّ أرقى الكائناتِ
* * *
ورحمتِهـا برحمةِ كلِّ أُمِّ
على فقدي لهـا يزدادُ غمِّي
بما أهواهُ في صحوي وحُلمي
* * *
هموماً صِرنَ بعضَ الذّكرياتِ
وأنسى في أمومتها شكاتي
نعيشُ بقربِهِ صفوَ الحياةِ
* * *
يزيدُ نعيمَ أُلفتِنا حُبورا
يموجُ بهـنَّ وِلداناً وحورا
وعُسرَ العيشِ نحياهُ سرورا
* * *
لأُنجِبَ من بِهِمْ تحلو حياتي
أباً يحيا بأسمى العاطِفاتِ!
أراها في بَنِيَّ وفي بناتي!
* * *
من الرَّحمنِ يومَ الدّينِ عفوا
فَهِمْـنَ الدِّيْنَ تضحِيةً وتقوى
بها أسررتُ للرحمنِ نجوى!
* * *
لأنَّ اللهَ أكرمني بهنَّه
إذا حُبَّاً بهـا أَكرمتُهنَّهْ
ببسمتِهـا لإكرامي لهُنَّهْ
* * *
مزاياها الحبيبَةُ لي مزيَّهْ
تراها صِرنَ لي أبداً سَجِيَّهْ
فجلَّتْ فِطرَةُ المولى السّنيَّهْ
* * *
وغيرُ حنانِهـا هيهـاتَ يُجدي!
بِهِ نُهدى إليهِ وفيهِ نَهدي
لنيلِ مكارمٍ وبناءِ مجدِ
* * *
بكلِّ أُمومةٍ فأذوبُ شوْقا
عليِّ بلمسةٍ فأُميلُ عُنقا
أُحِسُّ بمقلتي بالدمعِ غرقى
* * *
وفي إبداعِ من يُعطي، ويبني
وعنها كلُّ ما في الكونِ يُنبي
لما شاهَدتُ يوماً أيَّ حسنِ
* * *
أَنِلْ أُمّي برحمتِكَ النّعيما
وإنْ يكُ بُعدُها عنِّي أليما
وحسبي أنْ دعوتُ بك الكريما
* * *
فلا يُدنيهِ مهمـا رقَّ نظمُ
إذا ما كانَ قصَّرَ عنكَ فَهمُ
أما حسبي إذا ما قلتُ "أُمُّ"