نخْلة المحْبوب

{إلى الذين يحبهم ويحبونه }

المجموعة الأولى

الساقية والوادي

وكان يوم ...

كم تغنى بمجدك الشعَراءُ

واستقى من عيونك الأنبياءُ

أنت ، ما أنت ؟ نفحة من جلالٍ

أطلسيّ وغيمةٌ معطاءُ

أنت ؟ ما أنت؟ ما تزالين سرًّا

لمْ تصوِّرْ حدودَه الأسماءُ

أنت في القلب خنجر من لهيب

يتحدى ، وطعنة نجلاءُ

وحكايا حبٍّ وتاريخُ مجْدٍ

عربيٍّ ووردةٌ حمراءُ

سنوات البعاد أثقلها الشوق

فثارت حروفها الخرساء

في طريقي إليك أجترح الصحو

فتنمو عوالم خضراء

وعلى ضفتيك يكبر شعبي

وإذا شاء فالزمان يشاء

إيه يا قِبلة الزمان وقد

سافر فيك الأحباب والغرباء

واستباحوا الحياض في وضح الصبحِ

وأنت الأميرة السمراءُ

وعلى شاطئيك أرسو قلاع

الموت ، ردّي ! هل للطغاة حياء ؟

أنت لم تقضمي - وقد جعت - ثدييك

ولم تشربي وهذا الماء

فندوب الجبين فيك ندوب

لم يمت في أغوارها الكبرياء

يا بلادي وأنت في شفة الخُلد

قصيدٌ إيقاعه الصحراء

كل حرف سيستحيل حرابا

يتهاوى في نارها الأدعياء

ذكريني بطارق بن زياد

يقطع البحر سيفه الوضّاء

وبقلب الحمراء يغرس حبّا

رضعت من ثُدِيِّهِ العذراء

وبإدريس فاتحا أنفس القوم

هداه محجّة بيضاء

وبتاشفين حاملا شعلة

الأمجاد تذوي في ضوئها الأضواء

وبعبد الكريم سطّر في ( أنوال)

كيف الجهاد كيف الإباء

وبعرش يثور من أجل شعب

قد نمته إلى العلى الآباء

وبشعب يعلي لواء جهاد

فجّرته مسيرة خضراء

أنت يامن وجه البطولة فيها

ليس تحكي أبعاده الأسماء

كنتِ في قبضة الطغاة تئنين

وقلبي نعامة ربْداء

ثم هدتني الأعاصير يوما

واستفاقت بداخلي الأنواء

أأنا صخرة ؟ وها كل جرح

منك في القلب صرخة ونداء

ها أنا جئت غاضبا منكرا أمسي

فأمسي حكاية بلهاء

ها أنا جئت والجماهير زادي

ودليلي جروحيَ الشماء

فجراح الزمان بعض جراحي

ودمائي ما ماثلتها دماء

ذُبح المستحيل عندك يا

قبلة شعبي وماتت العنقاء

فافتحي قلبك الكبير لحبي

فأنا مالي عن هواك شفاء

وافتحي بابك العريض لأحبابي

فبعد الفراق هذا اللقاء..

1975

وشمٌ صحْراويٌّ على ساعِد ليلى

ليلى سناك قد احتواني

وبهاؤك الفرد اصطفاني

ورججت قلبي، ما دهاني

من صباك وما اعتراني ؟

مرت على حلمي الدهور

فهل سيرجع لي عناني

ليلى فديتك كيف لا

يفديك ما ملكت يدانِ ؟

تفديك أعناق الرجال

وصبوة البيض الحسان

حسبي بأنك ها هنا

في القلب خفقةُ شمعدانِ

وبأن نورك في الضلوع

يضيئ من طرب كيان

جاءت من الصحراء

تهديك الهوى درر البيان

هذا الفتى المقدام

هذا الفارس الشاكي السنان

في مقلتيه حلم مجذوب

وهمة صولجان

ليلاي لا وصل الغواني

يصبي ولا بيض الأماني

إلا هوى بين الجوانح

مثل أسرار الدنان

إني لأرجو من هواك

بأن أنال ذرى الجنان

ليلى، سيوف الروم

مشرعة ولفح الشر دان

من ذا يصد الريح

عمن صار في صمت يعاني ؟

من ذا يجدد عزمة

الفرسان من بعد التواني

من ذا الذي يعلي لواء

العز في زمن الهوان ؟

* * *

أنا لا أغني

ولكنني أستظل بأفياء حزني

نقرات على وتر القلب

قد وقعتها تراتيلَ مزن

أصابع شاعرة فجرتْ كأسها

من بهاء زَلاغ

وراحت تعلمنا صبوة الحرف

للرشف من واحة العاشقين

تعلم خُضر العصافير كيف تكون الشهادة

عطايا مباركة وولادة

وكيف يصير القصيد عبادة

تقول العنادل :

ما زال هذا المطوق بالحزن

يتلو على الكائنات الغريبة شعر الغزل

وأضمومة الشيب في رأسه تشتعل

وهل يهرم القلبُ؟

هل يُهزم الحبُّ؟

هل تستقل الفراشات عرش الفناء

                      قُبيل الغروب الخضلْ ؟

إذا لم تفض شفة النهرِ،

أو يهْجُرِ الدمع من شدة الحزن عيني

فلن تسكت الريح نايي المطوّق بالعشّق

                              والفرح المشتعلْ

الصبايا يحاصرنني بالحديث الشهيّ

وبالأمنيات الشريدةِ

والصبوات الوليدةِ

يفتحن لي شرفات إلى الوهم

يَمْدُدْن لي سلما مستحيلا إلى صهوة الغيم

لكن وجهك يفتح لي وحده

مدن العشق والخفقة الأطلسيةِ

يمنحني شهوة الحكمة اليمنية

يفرش دربي بحمر المناصل،

كي أبدأ الخطوات إلى سدرة المنتهى

و يُسْكن ذاتي بهيّ الظُلل

فلا تحرمي أضلعي وردة الذكر

لا تمنعي ديمة القَطْرِ

عن حقل عمر هواه شريد جموح

أراه ... أرى الوشم غضا على ساعديك يلوح

كأطلال عزم برته جروح

وأشجى الطلول العزائم لو تعلمين

عليها الليالي تنوح

على ساعديك أراه يلوح

فماً للصلاة

وحلما مطاياه ريح

يقول فتى طوقت جيده الغض تسبيحة

من شماريخ أنوال :

كانت لنا ها هنا راية

وحسامٌ رهيفُ

فصار لنا مِزهرٌ ودفوف

وقلب عراه الوجيف

وتقول مكحلة بالسهاد الشفيف :

أبَيْتُ عليكم ، بحق المصوّر ، إلا انْنِضاء العزائم

لا تدفنوا نبضات الفسيلة قبل الخريف

وجفنُ سعاد الذي زينت طرفه صلوت السحَرْ

يضيئ صُوَى العابرين

إلى دوحة العشق عبر دروب الشهادة

كالنور في ليلة القدر يطوي العُصُر

تضيق المسافات بيني وبينك عند امتداد البصرْ

وحين أطل عليك هوى نازفا

وقصيدا يوزع أبهى الصورْ

تلوذين بالصمت

تنأى المسافات ما بيننا

                          ويضيع الوترْ

ويهرم هذا الفتى العاشق الحَسنيّ الذي لوّحته

أشعةُ شمسِ سِجلماسَّة الينبُعيّة

ينمو بأحشائه شجر النار .

لا أعرف الآن حظّي من الحبّ

ضاعت خطانا سدى

وتناثر من دون قصد غبار السفَرْ

يقول حكيم المعرةِ :

قيسٌ قضى ما يعالجه

ولكنني ، يا رهين المحابس ، من بين كفّيّ ضاع الوطرْ

الصبايا اللواتي يطوقن ذاتي ليلا

بما ليس يملكنه في الصباح

( ويمحو النهار كلام الليالي المباح )

ويغزلن من سعَف الروح ما تصطفيه الرياح

شهدن أمام العزيز بما قد علمن

( سوى من هرقت على قدميها دمي المستباح )

وشقّقنَ من طيلسان البراءة ما كان بلسم حُمر الجراح

تقول العنادل :

رخّم سُعادكَ

كي لا تغار من الطيب تسبيحة الطير أو نفحة الياسمين

وكي لا تدوس ظلالَكَ أحذيةُ الشانئين

فقلتُ اطمأني

فإني أكنّي

وأفتح للقلب شرفة حبٍّ الى الخالدين

تباعَدَ ما بيننا وتَناءى

وأصبح ماء العيون دماءَ

لأني تركتكِ دهراً طويلا

على الرغم مني وراءً .. وراءَ

وأنت هنا تسكنين جفوني

وتغتسلين بدمعي صباح مساءَ

وأنت هنا تمنحين حصاني الضياءَ

فهل كنتُ وا عجبا أتقرّى

على صفحة الغيب ما خبأته الليالي ؟

وهل كنت أعرف أن الدروب التي أسعدتني بقربك

سوف تجرد في وجهنا مرهفات النصال ؟

أقول لنفسي الجريحةْ :

أخوْفاً على نبض عصفورةِ الرُّوح كان فرارُك ؟

                           أم خفت لون الفضيحةْ

وأيُّ الكبائر يا قلب أعظم من أن تداري فرارك بالعجز ؟

   تُسلم محْبوبة القلب للريح

                               أو للمطايا الكسيحة

تباعد ما بيننا وتناءى القمرْ

وأنت هنا ملء سمعي، وملء البصرْ

لأني تركتك تحت أعاصير قشتالةٍ، ورماح الغجرْ

نسيتُ اسمك المغربيَّ البهيجْ

إلى أن تهاوى على النأي عزمٌ

وأصبح مثل حصان كسيح

وساق إلى ضفتيك العلوجْ

جحافلَ غُبْرا كوثبة ذئب غويّ جريح

ألا عفو مجدك ، ليلى، إذا ألجمت شهواتي زمانا

إباء حصاني الجموح

فقد عاد لون الصباح إلى مقلتيك

وألوية الفارس المستظل

بعزم سجلماسة اليوم منشورة

وقناديل عبدالكريم مهيأة للصلاة

ومكاحله تترصد ظلّ (سباستيانَ)

في سبتة ومليلية والجُزُرْ

فمدّي رداءكِ،

مدي الرداء إلى عاشقٍ            

طوّحتْ بسنابكه عاديات أخرْ

أما تبصرين على البعد تلويحةَ المتعبين

إلى طارقٍ وهو يطرد عن ضفتيك

                        ضحىً طارقاتِ الغجرْ

ويوسف يمنح إدريس أوسمة النصْرِ،

                      يزرع في مقلتيك نشيد الظفر.

ليلى: جزيرة مغربية بالبحر المتوسط، تحتلها إسبانيا.

عبّاس السِّجلماسي يِنشُر ألواحه

عباسُ أدرك خيلَك التعبُ

وتكسرتْ مما ترى القُضبُ

وتولت الدنيا وبهجتُها

أسفا وغارت في السما الشهب

عباس فوزك لم تزلْ حلُما

ينأى ، وشخص الموت يقترب

وتمثّلت لك كل آونة

لم تنسدل من دونها الحجب

تعطي وتمنع وهي لاهيةٌ

فالقرب يمنع، والنوى تهب

والعين بالحسرات تنسكب

والروح في الغمرات تلتهب

والعمر يمضي لا قرار له

فكأنه في سيره يثب

ومحطة الأشواق مبهمة

تبدو لحين ثم تحتجب

عباس هل لك بعد من أرب

هيهات مالي بعدها أرب

* * *

لمن تكتب يا عباس ؟

لا فوزٌ ستقرأ ما تدوِّنُه

من الكلم الحزين ولا رياح الشرقِ

 تتلو جرحك العاري على الأصحابْ

أتذكر يا أبا يوسف أن أباك كان السيف والمحرابْ

أتذكر يوم ودع أرض تافيلالت

واستبق الأحبّةَ شطر أندلس

وما بيديه غير جِرابْ

حوى شيئا من الشوق المبرح والندى القدسيّ

ونورا من أجلّ كتاب !

ويا عباسُ أدرك خيلك التعب

وصحبك يا سليل الحزن نحو هواهم انطلق

ولما أن بدا في أفقهم علم الهدى استبقوا

بأجنحَة التباريح

إلى ربضٍ من الجنة

وأنت هنا رهين العجز والفتنة

تراودك الأماني ، والأماني حلمها كذب

يقول أبي :

طلعت أنا من الصحراء

لم أغلق لبيتي دون أحلام الأحبة باب

وحبت الضيف من زادي

وهبت الجار من زادي

صددت الريح عنه

وسطوة العادي

فجازاني بما أعي الحكيم

وحيّر القاريّ والبادي

وظاهر ضد أولادي

قراصنة الشمال ، وراح يبغي قطع أسبابي وأوتادي

فيا عباس ، يا ولدي

ترفّقْ دائما بالجارِ

لكن متْ شهيدا ، دون أرضك ، دون عرضك،

دون نخلتك التي وهبتك صولتك البهية ، يا بني ،

                                                فهذه الصحراء

شعار الحب والمجد الذي صنعت لك الآباء

من الصحراء أسرجت الجياد وجئت مشتملا

بشوق سال في الأهدابْ

وأهتف :

فوزُ كانت لي دليلا من سماء الغيب قبل لقائها

ورأيتها وُلدتْ أمامي ساعة الموتِ

كأني ما رأيت شبابها من قبل

قلت لها : كأن ما التقينا قبل رغم تتابع الأيام

قالت فوز : لا أدري !

وقلت لها : ولكني أنا أدري

ولاذت فوز بالصمتِ

أقول وقد رأيت الصمت أذهلها

وأذهلها شرودي ساعة النجوى :

ألا لا تغضبي مني

فأنت دليلتي رغم العواصف والقواصف والرعود

وأنت رغم ذهول شعري وانحباس القَطرْ

نشيدي المورق الفينان

فإني لا أكاد أعي الذي يجري

وحولي هذه الأركان

مقوّضة ، وأرضي أصبحت من وطأة الطغيان

دما ودخانْ .

وصارت كل زاوية عن الأحباب تسألني

وكل مشرد في الأرض يسألني عن الأوطان

عن الجولان.

وعن يافا وعن بيسان

وعمّن طوق الأقصى وأضرم في الحمى النيران

سلاما أيها الأحباب ، لا تهنوا

فرغم تخاذل المتخاذلين

ورغم صمت الصامتين

ورغم ما قد كان

نهضنا نرفع البنيان

فلم نيأس، وإن طالت ليالي القهرْ

صبايا القدس قد فتّحن بابا للشهادة

وانتضين هوى فلسطين

دلال المغربي...

وفاء إدريس...

سناء محيدلي...

دارين...

عرائس فجرْ

تخط ، من دمها طريق النصرْ

تقول لنا :

حجارتكم هُويتكم

إرادتكم بإذن الله ألويةٌ

ستقذف في قلوب المعتدين الذعرْ

وترفع فوق كل مآذن الأقصى أذان الفجرْ

سجلماسةُ تمنح تحت عصف الريح ما ملكته فارسها :

بقايا عِزّة وشباب

فكيف غدوت يا عباس تسأل صيِّب الأحقاب

وقد أوغلت في الصحراء من خمسين عاما

عن صدى فوزٍ، وعن فوزٍ وجيرتها

وما كانت تهيئ من قِرى، وتمد من تمر ومن أعناب

وفوزٌ أوردتك موارد المحنة

كأنك ما عرفت بأن فوزك دونها مسنونة وحراب

وأحلام مسيّجة بضوء خاطف كذّابْ

وإن الفوز، كل الفوز يا عباس، في طعنة

مباركةٍ تقد النفس راضيةً

إلى بحبوحة الجنة

تجليّات مخيَّم الوحْدة

واقف فوق صخرة الكبرياءِ

وبقلبي بشارة الأنبياء

وجذوري يسقي منابتها العز

فتسمو إلى عنان السماء

واقف فوق قمة المجد فردا

أتقرّى ملامح الصحراء

أرسل الطرف نحو محراب نورٍ

ثابت وسط قبة زرقاء

وعلى راحتيّ شمس المعالي

ضوؤها ظالم لكل ضياء

قد هتكنا حجابها بسيوف

الحزم والحلو والهدى والمَضاء

واقف والفراق يدمي فؤادي

واقف والعناق يدفع دائي

ما لشوقي القديم يطلع كالنخل

ويسري هونا إلى أعضائي؟

وعيون الصحراء أفتك لحظاً

من عيون الخريدة الحسناء

غادة دونها سيوف عليّ

وعلى خدرها ليوث البراء

فقلوب الأعداء صرعى بغيظٍ

وقلوب الأحباب صرعى وفاء

نطق القلب بعد طول اصطبار

ونضا عنه من ثياب العناء

ما لسهم الجفاء يقذف كالشهب !

ومن يتق سهام الجفاء ؟

والذي بيننا أرق من الورد

وأصفى من صبوة الخلطاء

أنا إن قيل : من تحب ؟ تمثّلت

بلادي تجيش في أحشائي

وبنوها وإن تناءى بنوها

أهل ودي طرّا وأهل إخائي

إن ما بيننا أشد وأبقى

يا بلادي من سطوة الآناء

عانقيني واستمطري من يقيني

نضرة الشوق واشتعال الوفاء

يا بلادي ردي عليّ شبابي

بالتئام الأطراف والأجزاء

وافتحي يا حبيبة العمر للناس

دروب الحرية الخضراء

عيون الساقية الحمراء

12 صفر 1415ه / 1994

المجموعة الثانية

كظل شجرة

(المراثي)

عامُ الحُزن

"شهد عام 1999 رحيل عدد كبير من الأحبة، من العلماء والأدباء والدعاة إلى الله، كان منهم حكيم المغرب المجاهد الدكتور المهدي بنعبود رحمه الله، وحكيم الهند المجاهد أبو الحسن علي الحسني الندوي، الذي وافاه الأجل رحمه في آخر يوم من ذلك العام، الجمعة 31 دجنبر "

أوسعتنا قبل الرحيل جراحا

وأخذت منا البشر والأفراحا

لك في سويداء القلوب نواصل

قطعن أكبادا، وخطن نواحا

يا عام حزن ما انطوى حتى طوى

بجناحه من كان قبل جناحا

أظمتني الدنيا، وكانت لي منى

جربت لذتها فكانت آحا

وشربتها عسلا وصابا لاذعا

ونهلت من آمالها أقداحا

وثملت من آمالها موصولة

بأسي يغوص إلى الشفاف رماحا

كم عالم متبتل ودّعته

لم يبق لي إلا النحيب وشاحا

كم صاحب لي ماجد روعتني

بفراقه ناديته فأشاحا

لا عن قلى، لكن أسباب البلى

يسكتن ألسنة شدون فصاحا

أين ابن عبود ومن أخلاقه

أدبٌ تفجر رقّة وسماحا

كلماته حكم، وتحت لسانه

سحر ترقرق بالمكارم راحا

هو في دروب الحق خير مجاهد

جعل البيان سنانه اللماحا

ولج المعاهد وهي قلعة ملحد

تسعى بهنّ المنكرات صراحا

فأنار ظلمتها بثاقب فكره

وأزال رجس منافق وأزاحا

يجلو عن الأبصار جهل غشاوة

ويرد من لجم الظّنون جماحا

وفضائل المهدي ما بين الورى

كالصبح أقبل يطرد الأشباحا

حي بن يقظان، يعود مشمّرا

يحيي النفوس، ويبعث الأرواحا

هو عائد من أرخبيل العزلة ال

فيحاء يحمل قلبه مصباحا:

هدي النبوّة والحجى، بهما معا

يا صاحبي نام الكرام فلاحا

هو عائد وبمقلتيه حقائق

ودقائق تدع البعيد متاحا

ورقائق لانت لدقّة سرّها

صم الصفاح، فما غدون صفاحا

أفضى حكيم المغرب الأقصى وقد

أدّى الأمانة آمنا مرتاحا

لم يثنه عما يريد من الهدى

جيش الضّلالة قد أعد سلاحا

أفضى حكيم المغرب الأقصى وقد

أهدى إلى سبل الهدى مفتاحا

هو زاهد ومجاهد، هو فارس

ومؤانس يحذي الجليس مراحا

ورأى حكيم الهند منزلة الألى

تخذوا بجنات الخلود بطاحا

باعوا الإله نفوسهم، من دونهم

رفع الحجاب، فقد غدا منزاحا

فاشتاق، يبغي القرب، مشمولا به

ويعبّ من أنواره أقداحا

لبى نداء الحقّ مغتبطا به

والبشر من أعطافه قد لاحا

إيها أبا حسن، وأنت ابن الأكرمي

ن سليل من ملأوا الوجود صلاحا

ومحمد النفس الزكية شاهد

أن قد غدا درب الهدى وضاحا

إيه حكيم الهند، هل من زورة

في ظل طيبة، طيبها قد فاحا ؟

رباه أشجان الفؤاد كثيرة

ولطيف صنعك يكشف الأتراحا

مالي إليك وسيلة يا سيدي

إلا التذلل غدوة ورواحا

وجميل عفوك، والذنوب كثيرة

قد أعجز الأقلام والألواحا

مولاي قد رحل الأحبة كلهم

واستودعوني حسرة وجراحا

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

إذ يجعلون من المودة راحا

وبقيت في خلف إذا ما جئتهم

كانوا عليك مع الزمان رماحا

لم يبق عندي من عزاء بعدهم

إلا لقاك، فهل كسبت جناحا ؟

وأنا الشقي بما حملت من الهوى

ومن الخطايا العاصفات رياحا

وأنا الشجي بما كتمت يلومني

ظن الخلي مؤنبا ملحاحا

مولاي إني عائذ بك فاحمني

وبنور وجهك كاشفا وضاحا

مولاي ألحقني بركب أحبتي

تخذوا إلى دار الخلود جناحا

وأنا الفقير أتيت ألتمس الغنى

ورضاك أوسع لي وأرحب ساحا

يناير 2000

الصَّقر

إلى روح عمر بهاء الدين الأميري ..

 أبا وأخا وشاعرا إنسانيا

يا صاح إن الديك صاح

وتملك النور البطاح

هذا الزمان وفي حشاه

كم تقصعت الرماح

هذا الزمان صحا أتصحو

أم فؤادك غير صاح

قم في البرية وانطلق

يا صقر جبار الجناح

قم في البرية لا تقف

دون انطلاقتك الجراح

قم في البرية واحدها

نحو الميادين الفساح

قم في البرية ولتكن

آي الكتاب لك الوشاح

في كل شبر من أديم

الأرض روح يستباح

ومرابع المستضعفين

دم وحشرجة وآح

الأمة الثكلى تنوح ..

وما عسى يجدي النواح

يا صقر همتك انطوت

من دونها هوج الرياح

فلم السكوت ؟ لم التباطؤ

والبكاء بكل باح

شيئا من الغضب المقدس..

إن غضبت فلا جناح

وأتاك من خلف الغيوب

نداؤه العالي الصراح

غضبا كان به ندى الفردوس

أو نجوى رباح

الله أكبر عرَّفت

أنفاسها سبل الكفاح

في كل شبر راية ..

خضراء : حيّ على الفلاح

هذا عمود الشرك منصدع

وهذا النصر فاح

"حيزوم أقدم" كانبجاس الماء

في الصم الصفاح

كابول لو أبصرتها

ذعرت بها "ذات الرماح"

والقدس تحت جناحها

حجر يبشر بالصباح

فهنا مسيلمة هوى

وهوت مضرجة سجاح

وترددت في الأرض بشرى الفتح

واخضرّت جراح

وعلى خطا حسّان ..

شمَّر شاعر وهفا وصاح

"أبنائي الأحباب

شدّوا العزم لا تلقوا السلاح

أحيا بكم أبدا بآمالي

وأمعن في النجاح

فإذا غفوت منية

فأنا بكم في الخلد صاح

صقر سينبت ريشه

من رمسه شجر الرماح

لا ترثه ! ولقد تُعزَّى النفس

بالشيم الملاح

الصقر قبل رحيله

أدى الأمانة واستراح

وجدة في ذي الحجة 1412ه

                  

النَّسر

 (رفعت إلى عمر أبي ريشة، وهو على سرير المرض، عام 1990، ولم يقدر له أن يقرأها)

آية الله في الوجود محمّد

فأنا من مشكاته أتزود

إن حرفي للمد لجين سراج

وعلى سطوة الطغاة مهند

كم على السفح من بغاث ويأبى

النسر إلا على الذرى يتفرد

أيهذا النسر الجريح سلاما

إن للجرح صيحة تتمرد

يا مليكا سريره من أثير

وسرير الملوك خز وعسجد

لك عرش من القلوب مكين

كل عرش من دونه يتقصد

يا رفيق الشعر الجميل، وقد كنت

شهابا على الطريقة مفرد

كل سيف ينبو إذا فتح الأرض

وسيف الإيمان ليس بمغمد

يفتح الفكر والشعور ويبني

فهو باق على الزمان مخلد

كم لنا منك من ظلام، وما

أطيب ظلا من البيان وأربد

أصحيح أنا شغلنا عن الظل

ولفح الهجير يرغي ويزبد

منبر السيف واليراع خضيب

ليس بدعا فكل حر مشرّد

فاغضبي يا ذرى الجبال وثوري

وانتفض أيها الحسام المقيّد

شرّدتك  الحروف، يا أيها النسر

ومجد الحروف مجد مؤبد

هيه يا سيفنا الدمشقيّ هذي

ومضات الفتوح للخلد تمتد

درَرٌ من (ليدا) و(تاج محلّ)

وشعاع من (كاجوراي) المنجّد

دررٌ كالنجوم قد توّجتها

درّة زانها ضياء (محمد)

أيّها النسر هل ترى من سبيل

فألاقيك عند صرح ممرّد

ومساكين (إيلياء) على الدرب

بريق العيون منها توقد

عمرٌ، باسم الله، يرفع إصراً

وابن أيوب راية تتجدّد

شاخ درب الجهاد حتى يئسنا

فغدا في عصر الحجارة أمرد

كان لحنا على الشفاه حبيسا

فهمى غيثا فوق ربع تأبّد

قد ترفّ الحياة بعد ذبول

ويلين الزمان بعد تمرّد

يقْظةُ  النَّسر

(ما كدت أحييه بقصيدة النسر حتى نعاه الناعي )

(الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا )

حديث شريف

حمَّلْتُ شِعْري

بعضَ ما ناء الفؤاد بستره

وسألته

أن ينقل الشوق القديم لنسره

ودعوت ربّات القصائد

               أن يصحن بثغره

فارتدّ طير الشعر

               مكسور الجناح لوكره

يا هل ترى انطفأ السِّراج ..

                   وزيته من حبره

أم ضل ما بين الفجاج ..

                     ولم يزل في فجره

أم أخرس العصفور ..

                عن سرِّ البيان وسحره

الشّمس مقبرة النّسور ..

                        فلا تسل عن قبره

غَنى بمأتمه

                     وذوّب حزنه في بشره

يا أيها النّسر المكفن في لآلئ بحره

يا ريشة الزمن الوليد

                 تبرعمت في صدره

يا صيحة الوطن الطعين،

                        وغضبةً من أمره

يا سندس البلد الشهيد،

                      وشدة من أزره

يا من سقى بيداء أمّتنا

                      سحائب فكره

ومضى يخبئ في مشاعرنا

                              غرائب شعره

هاتيك أمتنا

                      يرفّ شبابها من سرّه

من هزّ منبر سيفها

                     فهمتْ فرائد سفره

أيصوّحُ الزهر الشفيق

                        ونفحه من عطره

وترنّ معولة

                       وكل مولّه من خمره ؟

يا رائد الشعراء ،

                       ملّ الشعرُ ناحتَ صخره

فمر الزمان ..

               يطعك بالآيات ساعة عسره

قد أورق الحجرُ الأصمّ

                            فمر يجئك بخبره

أطفال غزة ..

                      علموا التاريخ آية نصره

ويصيح طفل، والجراح مواكبٌ من صبره

بيني وبين الموت ميعاد..

                                   أحنّ لعطره

يا رائد الشعراء،

                            إن الشعر ضج بإصره

قالوا : تملَّ، فأنت أعظم شاعر في عصره

خذ ما تشاء من الوجود ومن نفائس تبره

الغابطون لفقرهم

                            ضبّ الفلاة بجحره

الصابرون

                            على جراحات الزمان وشره

                     اللابسو حلل العراء بحرّه أو قرّه

سكروا من الظلم الوخيم ..

                                      ويا مرارة سكره

عضّوا بسؤر المترفين ..

                            وما ارتووا من سؤره

شطران هذا العالم السفليُّ

                                         بُؤتُ بشطره

هذا يضل بقفره

                                  ويظلّ ذاك بقصره

فعلامَ يحيا هؤلاء

                                   وهم سلالة ذرّه؟

وصرخت صرخة ثائر

                                    متمرّد في أسره

أنا واحد من هؤلاء الضّاربين بقفره

أنا صوت شعب غاضب

                       أنا دفقة من قطره

أنا نفحة من روحه

                    أنا ومضة من حجره

أنا قبضة من طينه

                     وشرارة من جمره

تتعجبين..

وتسألين ..

                       ومن يحيط بأمره ؟

امضي لشأنك ..

اسكتي

                               أنا ريشة من نسره

يوليوز 1990

أميرةُ الفَتح

أميرة الفتح هاتي النور والأملا

إني أتيتك بالأحزان مشتعلا

إني أتيتُ وأوصالي مقطعةٌ

والعين تبكي ونفسي اسَّاقطت شُعَلا

كأنما صار للأحزان منتَسبي

كأنني صرت بالآلام مشتملا

كأن قلبي بنهر الهمّ مغتسل

كأن جفنيَ من مأساتيَ اكتحلا

أميرة الفتح في عينيك متكئي

طوقتني بجميل طاب واكتملا

فيا سفينة أحزاني ولؤلؤةً

ما جاد بحرٌ بها من قبل أو بذلا

أين الأميريّ يجلوها مخدّرةً

تُصبي العفيف وتَسبي العاشق الغزلا

قصيدة لم تزل بكراً وإن ركبت

ظهر الزمان، وإن أخنى، وإن قتلا

وشاحُها نسجته كفّ عاشقةٍ

من طيبةِ النور، ما أبهاه منسدلا

أين المتيم عبد النور؟ وا أسفا

على قمير سناه عزمةٌ وعُلا

على قمير طواه الغيب وهو فتى

يمُضي العزائم لا ريثا ولا عَجَلا

بادي السريرة، سمحُ القلب، كان له

أهلُ التقى مثلا، أكرم بهم مثلا

يعطيك من صبوات الهند حكمتها

ولا تزال لأتراب النهى حُللا

ومن أطايب فنّ العرب جوهرةً

أخاذةً تتحدى السهل والجبلا

أعلامك الخضر يا حسناءُ مذ طويت

عني أصبتُ بوار الحُكم والخبلا

رأيي فطير وأثوابي مرقعة

الشرق والغرب في ساحاتها اقتتلا

والعزم كابٍ، وأحواضي مُهدَّمةٌ

حامي الحقيقة غاب اليوم وارتحلا

وقفتُ في الملحق الحربي أسأله

والدمع ينهلُّ من شأنيهما سَبَلا

عن سيف عثمان هل ثُلّت مضاربه

إني أرى العلج بالأعراض قد ثملا

يسبي ويهتك، يغري كل مسلمةٍ

يُذَبِّح الطفل، ما استحيا ولا وجِلا

أفي السراي مرادٌ رافعاً علما

يُزجي الصفوف ينادي القوم : حيهلا؟

وللشهادة في أردانه عَبَقٌ

"قوصوه "تشهد : كان الفاتح البطلا

أم في السراي سليمان فأسأَلهُ

عسى يبين درب الحق إن سُئلا

أميرة الفتح طبتِ اليوم مفتتحاً

وطبت مختتما، فالقول فيك حلا

تدفقي يا ابنة الإسلام وانتشري

ناراً ونوراً، وقولي: الوحي قد نزلا

"إن الذين تولوا" جل قائلها

حصنٌ من الله لا نبغي به بدلا

يخضرُّ فوق ثراك الحرف مزدهيا

يحدو أبو حسنٍ أعلامَه النبلا

ومن للأدَب بَعدَك؟

إلى روح نجيب الكيلاني

ها أنت ترحل فالقلوب وجيب

شيعتك مدامع وقلوب

نطق الضمير بما يجلّ عن الأسى

أألام أن شد الطريق نحيب؟

تبكيك "جاكرتا" وقد غنّيتها

تبكيك "تركستان" وهي تذوب

يبكيك ليل القدس وهي أسيرة

عبث البغى بها وعاث الذيب

تبكيك طنطا وهي أم برّةٌ

يأوي الوليد لحضنها فتشيب

أأخيَّ كم أوليتني وأنرت لي

درب الجهاد به الحروف تطيب

من في ليالي النفي يطفئ غربتي

وإذا دعوت فمن سواك يجيب ؟

ما زال مجلسنا وأنت مناره

يزهو بغض الشعر وهو رطيب

ودبى ما زالت لدى حجراتها

حور الكلام يطفن فهي طيوب

أعليت بالحرف المقدّس شامخا

دانت له الأهرام وهي حروب

ورفعت في وجه الجبابر صارما

تعنو الرّقاب لبأسه وتؤوب

وبنيت للمستضعفين ممالكا

هدي النبوّة شوقها مسكوب

وبسطت "للغرباء" ضوء منارة

يزهو ونور الحق ليس يغيب

وهتفت بالشهداء هذا عصركم

حلل الشّهادة نورهن نهيب

وإذا يُقال من الأديب من الفتى؟

نطق الزّمان وقال ذاك نجيب

الطّريق إلى الله

(إلى روح  عبد الرزاق المروري وزوجه)

فراقكما يجل على الكلام

أيا قمرين غاضا في التمام

أُعزّي النفس بعدكما احتسابا

على أن نلتما نزل الكرام

ولم تردا حياض الموت قبلي

سوى لتذكراني بالحمام

عرفتكما وزهر العمر غض

وها أنا تطرق الخمسون هامي

وأبحر زورق الأحباب يجري

على قدر إلى دار السلام

فإن اللهو بعدكما حرام

ولم يك قبلي لهو في حرام

ولكن الفتى يرد المنايا

على ظمأ ويأنف كأس ذام

ومن لقي الشهادة لا يبالي

بمضجعه قضى أم في التحام

تردى سندسا خضرا وأضحى

رضي النفس، مرضي المقام

وهذا العمر عارية قريبا

ترد، فكيف نطمع في مقام ؟

إليك أخي المروري، استباقي

وبي ذكرى تؤجج من ضرامي

وعظت أخاك ساعة أنت حي

وأنت اليوم أوعظ من إمام

مشيناها خطى والليل داج

على سنن الهدى والبحر طام

فكنت بها الفتى الألق المحيا

ونلت بها المرام، فما مرامي ؟

وأمنع زفرتي فيك اصطبارا

فيخذلني ويوسع في ملامي

وأحبس دمعتي جلدا فتهمي

أليس الدمع رحمي المستضام ؟

إذا عزّ الخليل فمن أنادي ؟

وإن يصمت فما يجدي كلامي ؟

تركت أخاك يخبط في عماء

فما أدري وراء من أمام

تغيرت المباهج يا خليلي

فأخلصهن ما بعد الرجام

ولولا رحمة الرحمن أضحى

رحيلك جمرة تفري عظامي

ولكني أعزيها احتسابا

وقد جشأت لأحادث جسام

لقد صارت عروقي يا خليلي

إلى كأس شربت بها ظوام

سعيت إلى الشهادة دون زاد

فطال بهذه الدنيا مقامي

وأنكرني التراب وما عليه

فما أدري سبيلي في الزحام

كأني موكل بالحزن أحدو

ركائبه وفي يده زمامي

كأني أصطفيه ويصطفيني

ويسكن تحت دمعي وابتسامي

تغير كل شيء يا خليلي

وكنت ملأت كأسي للجمام

فأصبح كل شيء قبض ريح

وفيم القلب يشغل بالحطام؟

ألا يا طيب منزلة تناءت

كأن محلها كبد الغمام

فأدناها إلى الدنف اشتياق

أما للشوق أجنحة الحمام؟

ومن طلب الجنان بلا احتراق

تعثر وسط أوهام جسام

خليلي، يا خليل، يا خليلي،

وهل يشفي نداؤك من أوامي؟

دعوت إلى حمى الرحمن هونا

فلم تأمنك أفئدة الطغام

وكنت الريح بينهم رخاء

وقد جاءوك باللجب اللهام

وما زالت سياط البغي تسري

على جسد صليب العود دام

إلى أن عاد سيفهم كليلا

وأبت محملا أزكى وسام

وسام من سماء الغيب باق

يسفر من ملائكة كرام

وقمت إلى الجهاد تراه فرضا

ولم تشغلك نافلة القيام

فأديت الأمانة في اصطبار

وعانقت المنية بابتسام

إذا بكت العذارى فيك فذا

فليس على العذارى من ملام

أما أخرجتهن من الظلام؟

أما ربيتهن للاقتحام؟

أما علمتهن السير قدما

على آثار خولة أو إدام؟

إلى أن جاورتك فتاة صدق

وحلت منك منزلة الكرام

فكانت وردة نفحتك ودا

وكنت العندليب على الدوام؟

وكنت لها إذا استعرت دروب

مجنا من سنان أو حسام

وقد كانت يمينك لا مراء

وتاجك في القعود وفي القيام

إلى أن قدر الرحمن أمرا

فنالكما به شرف الختام

ولم أر قبل مثلكم وفاء

جوارا في افتتاح واختتام

فما أخلفت وعدك في ارتحال

ولم تخلفك وعدا في مقام

وأكثر ود هذا الناس يبلى

إذا جس الزمان قناة رام

كأنكما معا فرسا رهان

قد اعتنقا وغابا في قتام

وقد طرقا إذا احترقا سويا

بحار النور في عصر الظلام

إذا اعتنقا من الفردوس كأسا

أو استبقا الصبوح بلا أثام

ففي دار المقامة دون شك

تقر العين من بعد السقام

وسجن المؤمن الدنيا ولكن

توارى النور عن بصر النيام

فارس بلا جواد

في مديح النخيل السجلماسي، فريد الأنصاري رحمه الله

صدق الوعد، ليس يخلف وعدَهْ

لقد اختار موكب النّور لحدهْ

ضاق عن وجْدِهِ الزّمان وما في

ه فألقى لجنّة الخلد وجْدَهْ

برَحَّ الشوْقُ بالمحبّ وقد ك

ان عبيرُ الأشواق في البدء مهْدهْ

ونخيلُ الأنصارِ كان عَريشاً

وهديلُ الأشعارِ كان مِخَدّةْ

صارم ما نبا على كثرة الضّربِ،

فقد آن أن يُعانق غِمْدَهْ

آنَ للفارس المتيّم أن يأْ

تِيَ فَرْداً مَوْلًى سيُنْجِزُ وَعْدهْ

(آخرُ الفرسان) امتطى صهوةَ العِشْ

قِ وكان النُّور المؤيّدُ جُنْدَهْ

سلك الشِّعْبَ، لا حطامَ، فلمّا

برز الأفْقُ أصبح النّورُ عُدّه

السِّجِلْماسِيُّ انتضى ريشةَ الحبِّ

وألقى إلى المساكين رِفْدَهْ

ما تولّى لَمَّا الخطوبُ توالَتْ

لا ولا خانَ في الحوادثِ عهْدَهْ

كان (كشفُ المحجوبِ) غايتَهُ القص

وى فناجى همْساً ، فأدركَ قَصْدَهْ

علّمَ الخَلْقَ كيف تغدو (القنادي

لُ) صلاةً، ويصبحُ اللّيلُ وِرْدَهْ

شَقَّ لِلصَّحْبِ عَيْنَ ضوءٍ فلمّا  آن

سَ البحْرَ راحَ يركبُ مدّهْ

يا خليلي، تركتَ قلباً يتيماً

يتلظّى، لا شيءَ يُبْرِدُ وقْدَهْ

يا خليلي حقّاً، وصاحبَ دربي

كيف خلّفت صاحبَ الدّربِ وحْدَهْ؟

هو للنّور ظَامئ ويداهُ

في قيودٍ، فمَنْ يُحَطِّمُ قيدَهْ؟

ونداءُ المحبوب يُوقِدُ في ال

رّوح سراجاً ويَزْرعُ الحُبَّ وَرْدَةْ

وأنا فارسٌ بغيْر جوادٍ

فأعِرْ خافقي جَواد المودّةْ

                               الشارقة: ذوا لحجة 1430 ديسمبر 2009

عليكره

إلى ذكرى العلامة عبد العزيز الميمني، رحمه الله

هفوت إليكِ صبّا مستهاما

أبثّك يا (علي كره) السلاما

جمالكِ كان مبتدأ لشوقي

ويوشك أن يكون له الختاما

لئن مُنعتْ ركابي من لقاء

فقلبي طائر يزجي السلاما

صبوتُ فكان لي منك الصبايا

صبايا حسنها بلغ التماما

قلائد زيّنت جيد المعالي

فأدرك منك ذو أمل فطاما

أنا المجنونُ حبًّا فيك قِدْما

إلى أن صرتٌ في الحبّ الإماما

وكنتِ صبية أذكى سناها

شهابَ العشق يضطرم اضطراما

وكم قبل اللقاء نظمت شعرا

فكان لك القلادة والوساما

فكيف لو اَن ثغري ذاق شهداً

وثغْرك كان للعطشان جاما؟

بنى عبدُ العزيز لديك حصنا

يذكرنا الفطاحلة القُدامى

ويرفع للمكارم فيك صرحا

فيسمو بالعلوم ولا يُسامى

أضاء (أبو العلاء وما إليه)

فمزّقَ من توهّجه القتاما

وراح (الأفْوَهُ الأوديّ) يشدو

فتملا الكأسُ أحرفَهُ مُداما

ذكرتك: أنت قنديلي وزيتي

يجنبني المتاهة والظّلاما

ذكرتك والفؤاد به أوام

فأطفأ نبْعُ ذكراك الأواما

يعلّمنا (جهانُ) الحُبَّ صِرفا

وكان العارفون له نَدامى

وكان (التّاج) نجما للحيارى

إذا ألقوا إلى الليل الزّماما

ويسري الشِّعرُ من (ألطَاف حالي)

وينفحنا المحبة والوئاما

وكل مليحةٍ (ممتاز) تشدو

فيغدو كلّ مجنونٍ يماما

يمامٌ يملأ الدنيا نشيداً:

هنا الإسلام قد ضرب الخياما

                    الشارقة في  ربيع الأول 1430    مارس 2009

*الإشارات إلى بعض مؤلفات الميمني، وإلى شاه جهان وزوجته ممتاز، وقصر تاج محل، والشاعر الهندي ألطاف حالي، لا تخفى.

ما أقصر العمر البهي!

                                               في رثاء المفضل فلواتي رحمه الله

كلُّ الذي فوق التراب ترابُ   

   فعلام يُغْوي الغافلين سرابُ؟

حمّلتُ أجنحَة الخليل تحيّةً  

لأحبتي، فإذا النعيُّ جواب

والموتُ لو أدركتَ أسرعُ مخْلَبًا  

                         وقضاءُ ربّك غالِبٌ غلاّبُ

قدري بأن أحيا هنا في غربةٍ     

إنّ الغريب على المصابِ مُصابُ

قدري بأن أحيا ويظعنَ صاحبٌ 

                       والراحلون أحبّةٌ وصحابُ

لكأنني فوق المنابرِ بومةٌ   

وكأنّني بين القبورِ غرابُ

وبكيتُ نفسي إذ بكيت أحبَّتي  

                       أو ما ترى أن المآل خرابُ؟

لكأنما قلبي حُطامُ سفينةٍ 

                       ألقى به للشاطئيْنِ عُبابُ

وكأنما عمري ذُبالة شمعةٍ   

                       عمّا قليلٍ تنطَفي وتذابُ

رحل المفضّلُ! لم يمت من أصبحتْ

  آثاره تحكي وهُنّ رغابُ

نزحت دموعي الحادثات وقد رمت 

                     بحشاي، والدمع العصيّ عذابُ

لو أنّني قدّمْتُ بعضَ جهِاده   

ما همّني أن ينْشبَ النشَّابُ

مَنْ (للمحجّةِ) ليلها كنهارها 

   وهُداه فيها سنّةٌ وكتابُ؟

من للمجالس زانها بأناتِه  

وحيائه، وعلُومُهُ تنسابُ

ومواطنُ الذكر الحكيم به ازدهتْ

  يغشى حماها طَفْلةٌ وكَعابُ

الآي طِيبٌ، والعظاتُ أزاهرٌ 

 من نُورها يتضَوّع المحْرابُ

تلك الصّخيراتُ التي شهدت له 

                      أن لَن يرُدّ العاشقينَ صِعابُ

وزلاغُ.. من يمضي إلى خَلَواته   

  مجلوةً إلا الفتى الأوّابُ؟

آناً يرابط والأحبّة نُوّمٌ   

  حذرا، وآنا طَرْفُه تَسْكابُ

طِيبُ الرّقاد محرّمٌ من بعده 

لكأنما بيْن الضلوع حِرابُ

ما أقصر العمر البهيّ! فجُدْ بما    

 يفْنى، ويبقى ربُّك الوهّابُ

قم يا أخي، وابسطْ يديك لعلّه   

نحو النعيم تَفتَّحُ الأبوابُ

واسلكْ طريقهمُ فإن المنتهى  

 زادٌ مقيمٌ طيّبٌ وشرابُ

الشارقة في يونيو2010، رجب 1431

شوقي  و لامارتين

علّلاني فإنّ أحلام نفسي

قد تلاشت وخانني اليوم أُنسي

وانشرا من صحائف الأمس ما طا

ب عسى من شذاه يبيضّ طرسي

يا نديميّ ما لآلام نفسي

فجّرتها الأيام شلال تعس

شرّدتني الرياح في كل درب

ورمتني الخطوب عن كل قوس

فاسقياني من التأسّي كؤوسا

أنا أدرى بما ينبّه حسّي

يا لكأس تشعّ مشكاة نور

لم تضارع حبَابَها أيّ كأس

إن تأسّى غيري بدنيا سفاها

أو غدا في الهوى صريع تحسّ

إنَّ لي في ديوان شوقي ملاذا

من هموم راحت تحاول حبسي

وأنا الطّائر الطّليق، وإعصا

ر الأماني يهوي عليَّ بفأس

وبنفسي لو تعلمان خبايا

مترعات، صبت لسعد ونحس

وبقلبي شوقان: شوق قديم

أزليّ إلى مرابع أنسي

              حيث لا ظلم، لا ظلام، وحيث

النور يهمي ولا أشعة شمس

حيث تسعى الحور الحسان نشاوى

عُرُبا قد مشين فيها بهمس

يتهادين كالقصائد في أحضا

ن شوقي، يبغين أكرم عِرس

وعذارى الخلود في النّور ماست

في ثياب من الرّضا أيَّ ميس

يا لشوق شعاعه يتلظّى

في فؤادي وأفتديه بنفسي

أفتديه وأفتدي لحظات

هي عندي أبهى وأجمل عُرس

وجديد الشّوقين يحفُر مجرا

هُ بنفسي وللبدائع يرسي

قد سقى بيدر الجمال فخضر

الطّير ما بين لازَوَرْدٍ وورس

يا لشوق تظل منه الحنايا

خافقاتٍ كأنها رهن مسّ

ومن الشوق للجنون اضطرام

سل إذا شئت عروة حين يمسي

أين من خفقه صبابة ليلى

يا كتاب الهوى وأشواق قيس؟

هيه شوقي ومن سواك يُغنّي

فإذا الصخر ناطق بعد خَرس؟

                   سل أبا الهول أفطسا مشمخرّا

بين قوم إلى العُلا غيرِ فُطس

شاعر الخلد والخلود سلاما

يوم غنّيتها بأعذب جرس

أين أهرام مصر، من دونها

زاغت عيون ما بين فكر وحدس؟

أين رمسيس وهو يمشي اختيالا

وأعزّ الملوك في الأرض رمسي

أين نبضُ الإيوان، يخفق شوقا

وهو يروي جِلاد روم وفرس؟

أين سمّار جلّقٍ والنّدامى

والبهاليل من بني عبد شمس؟

               أيّ نجم سرى فأصبح شمسا

تمنح الأرض بهجة بعد دمس

(أندلُسْيا) تيهي بصقر قريش

نشر النّور ثوبه بعد طمس

أين أحزان الطف؟ فاضت بها

الكأس، وحق البكاء، فالأفق مغس

أين مجد الرّشيد بين يديه

كل غيث، وإن تباعد، يمسي؟

أين مقدونيا؟ وأين شذاها؟

أين سُمَّار يلدز المتأسّي؟

يا لشوقي، إذ وقّعت شفتاه :

"اختلاف النهار والليل ينسي"

                 يرشف السّحر من شفاه المهاري

ق بيانا لا من مراشف لُعس

فهو في دولة البيان أمير

قلّدته من كل سيف وتُرس

وهو في دولة الصّبابة لحن

وقّعت سحره أنامل قَسّ

غرست كفه البيادر سحرا

عبقريا فكان أجمل غرس

درست دولة البيان وأقوت

بعد شوقي، وسامها كل نكس

سرتُ ما بين خافقيها فلما

أقفرت وانتشى بها كلُّ جبس

صنتُ نفسي عما يدنّس نفسي

من كلام رثّ، وقول أخسّ

وجعلت الحرف المبارك موصو

لاً بحوض من المعارف قدسي

قبسٌ نال فيضه قبلُ حسّا

ن، وكعب، ومالك وابن أوس

هيه شوقي، ذكراك تبعث شوقي

فيبثّ السّحر الحلال بنفسي

أنت غنّيت الشرق والغرب حتى

جال (طاغور) في محاريب (قيس)

وقسمت الغرام ما بين (هيكو)

مستهاما، وبين فارس عبس

ومنحت العُشّاق أعذب قيثا

ر، فصانوا الغرام عن كل رجس

غير أن القريض، يا شاعر الخلد،

غناء المستضعف المتأسّي

وأنا إن آسيتُ آسيتُ نفسي

وإذا ما غنيت غنّيت قدسي

هيه شوقي، قيثارة الشعر أبهى

حين تشدو لنازح غير نِكس

البرايا ما بين كرٍّ وفرٍّ

والضّحايا ما بين جسِّ وحسّ

والمنايا مواثلٌ، والصّبايا

قد وهبن الرّجال أعظم درس

يعتنقن الرّصاص رفّ جناح

وعلى راحهن أشرف نفس

بقلوبٍ أبيّة كالرّواسي

ونفوسٍ على الدّنية شُمس

وصدى زينبَ البتولِ يدوّي

ويهدّ الطّغاة أسّا لأسّ

وغدا طفلي المبارك ظمآ

نَ لكأس الخلود، أشرفِ كأس

وهو يدري أن المتاع ضلال

أيباع الخلود بيعة وكيس؟

يا لها همّة الحُسين اصطبارا

حين يغْدو على الجهاد ويمسي

هيه شوقي، عصرتَ من غاب بولون جمانَ الهوى بكأس التأسي أين يا شاعر الصبابة أحلام  الصبايا؟ وأين أشواق أمس؟ ذمم للهوى وطَيْف عهود قد تولّت.. كأنها طيف أنس هو ذا شاعر( البحيرة) لامارتين  يختال، يحتسي خير كأس هي كأس البيان نشوى تجلت بين سكر وبيْن يقظة حسّ صبوة الضاد توجته فأضحى يهب اللحن البلبل المتأسي هو ما زال يذكر الشرق نشوا ن ويبكي على مشارف قدس فتحتْ (سقطةُ الملاك) دروب النور  فالشعر نوره أنس نفس وهبتْه القدسُ البهيّة فجرا ألْسُنًا من بيانها غير حُبسِ لم تزل موئلَ النبوّات والوحْي وقد سال في خشوع وهمسِ والمزامير لحنهُنَّ قلوبٌ قانتاتٌ بكلّ مطلع شمس أوبي يا جبال، فالطير في أودية الحسن والتّقى غير خُرسِ

هيه شوقي، جرّد يراعَكَ واكتبْ:

"أكرمُ الشّعر ما يكون لقدْسِ"

وجدة في شعبان 1423ه /أكتوبر 2002.