العودة الى الوطن بين دموع الفرح ولوعة الفراق (الجزء الأول)

بطاقة وفاء

إلى والدي الحبيب رحمه الله تعالى،

وإلى والدتي الحنونة رحمها الله تعالى،

إلى من غرسا في قلبي حب الله سبحانه وتعالى والإيمان به،

إلى من غرسا في قلبي حب الوطن وعلماني معنى الانتماء والوفاء،

أهدي هذا العمل المتواضع لهما، راجياً من المولى عزّ وجل أن يتغمدهما برحمته،

وأن يجعل قبريهما روضتين من رياض الجنة،

وأن يجزيهما عني خير الجزاء،

فما أنا اليوم إلا غرس أيديهما وثمار دعائهما

                                                       محمد لؤي فتال

مسيساغا – كندا – في ١٧ نيسان ابريل ٢٠٢٥

المقدمة

الغربة ليست مجرد بُعدٍ جغرافي… إنها وجعٌ مقيم، لا يُوصف، لا يُشفى، ولا يهدأ، من ذاقها، عرف أن الشوق لا تَسكِنه شمسُ البلاد الجديدة، ولا يُطفئه دفء الغربة المصطنع. حقا الغربة نارٌ صامتة، تتقد كلما مرّت نسمة، أو خيّل لنا طيف وطن.

سوريا… يا قلبي النابض، ويا حبيبة القلب رغم ما حلّ بك من خراب وألم… ما زلتِ في ذاكرتي نورًا لا يخبو، وفي روحي نداءً لا يهدأ. صورتكِ تلاحقني بين الصحو والمنام، أشتاق إليكِ كلما اشتدت غربتي، وأبكيكِ عند اللقاء كما أبكيكِ عند الفراق.

حين اشتدّ بنا الظلم، لم يكن أمامنا سوى الرحيل، اقتُلِعنا من جذورنا، وسِقنا إلى الغربة مرغمين… لكنها غربة الجسد، أما الروح، فباقية هناك، بين الأزقة، والمساجد، والأهل، والذكريات.

أنا واحد من ملايين السوريين، ممن تقاسمت المأساة معهم… خلف كل سوري حكاية تئنّ لها القلوب، ومأساتي ليست سوى سطر صغير في رواية شعب.

وعندما زرت سوريا مؤخرًا، انهالت عليّ الأسئلة: كيف وجدت الوطن؟ ماذا شعرت؟

ولم أجد أبلغ من قلمي ليشهد، فكتبت… لا ككاتب محترف، بل كإنسان مكلوم، جرحه مفتوح، وحنينه لا يُشفَى.

وبتشجيع من الأحبة، خرج هذا الكتيب الصغير… لا يحمل سردًا تاريخيًا، بل وثيقة وجدانية، صادقة، تعبّر عن لحظة عشتها، عن ألمٍ لا يزال يسكنني، وعن وطنٍ ما زال يهمس في قلبي.

اخترت ألا أذكر الكثير مما حصل للنساء من أرحامي، لقسوة المواقف، ومراعاةً لمشاعر النساء والرجال من الأرحام على حد سواء …لكنني لا أنسى موقفًا واحدًا، كان من والدتي – رحمها الله – مؤلمًا ومضحكًا في آنٍ واحد.

فبعد اعتقالها وتعذيبها، نُقلت من منزلٍ إلى آخر، في محاولة منهم لانتزاع معلومات عن أماكن بعض الأرحام.

وفي أحد البيوت، عند ابنة خالتي الدكتورة عالية قصاص – رحمها الله – والتي كان منزلها في الطابق الثالث، حاولت والدتي التخلّص من نفسها، خشية أن تُجبر على الاعتراف بما قد يُلحق الأذى بالآخرين. تسللت إلى الشرفة، وهمّت بالقفز… لكنها عندما رأت العلوّ، تراجعت وقالت لاحقًا: "ما قدرت… الطابق عالي!" عندما روت ذلك لي تبكي وتقول ما قدرت!!!

إنها كلمات من قلبٍ متعب، تمثلني كما تمثل كل مغترب سوري، أجبره القهر على الرحيل، فظل الوطن مقيمًا فيه، مهما ابتعدت به الأيام والمسافات.

وإني لأستشهد بكلام الله عز وجل في كتابه: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " فالحمد لله الذي حفظ بلادنا وأهلنا رغم الجراح. بصلاح أهلها.

ويحضرني قول أمير الشعراء أحمد شوقي:

ويا وطني لقيتك بعد يأسٍ ... كأنّي قد لقيتُ بكَ الشبابا

وكلُّ مسافرٍ سيؤوبُ يومًا ... إذا رُزقَ السلامةَ والإيابا

وكلُّ عيشٍ سوف يُطوى ... وإن طالَ الزمانُ بهِ وطابا

كأن القلبَ بعدهمُ غريبٌ ... إذا عادتْهُ ذكرى الأهلِ ذابا

                                                                   ابن حلب الشهباء / محمد لؤي فتال

العودة الى الوطن بين دموع الفرح ولوعة الفراق

لم تكن مجرد رحلة سفر… كانت عبوراً من عالمٍ إلى آخر، من جليد الاغتراب إلى دفء الذكريات، من شتاء تورنتو القارس إلى شمس الشرق التي ما زالت تسكن القلب وإن غاب الجسد عنها دهوراً.

غادرتُ تورنتو وقلبي يضجّ بالشوق… أول محطة كانت الدوحة، وهناك لم تكن المفاجأة في الأرض ولا في السماء، بل في لقاءٍ طالما تمنيته لقاء أستاذي الحبيب أبو معاذ مصطفى بلال أمده الله بالصحة والعافية. لم تكن جلسة عادية، بل كانت لحظة صفاء، كأنني أجلس مع روحي بعد غياب. شعرت فيها بأن كل ما أثقل صدري بدأ يتلاشى، وأن الطريق إلى الشام بات أقرب وأقرب.

ثم حضر الأخ الكريم أبو الخير نجار حيث جلسنا نستعرض شريط الذكريات، من زمنٍ مضى، من أيام أكرمنا الله بها رغم كل شيء. كأن الزمن يعود بنا لنلمس ملامح الشباب، ونستعيد ملامح الوجوه التي شكّلتنا.

لكن الله سبحانه وتعالى كان يعدني بلقاء أعظم، فركبت الطائرة في فجر اليوم الثاني من الدوحة إلى دمشق، والساعة تمضي ببطءٍ قاتل… اثنتان وثلاثون ساعة من الانتظار، من ترقّب الحلم، من مقاومة الفوضى التي تضرب القلب حين يقترب من أغلى ما فقد.

وحين بدأت الطائرة بالهبوط… توقف الزمن.

كأنني انتقلت من حياةٍ إلى أخرى، كأنني طفل صغير يركض نحو حضن أمه، أو غريب يعود إلى بيته بعد نفيٍ طويل. رأيت سوريا… لأول مرة… رأيت دمشق التي لم تطأ قدماي أرضها قط، لكنها سكنت قلبي منذ كنت طفلاً أسمع عنها في أحاديث والدي وأمهات الحكايا.

طلب أولادي أن أوثق اللحظة، أن أُرسل شعوري في تسجيل، رسالة، فيديو… لكنني لم أستطع. غلبتني دموعي، فبكيت كما لم أبكِ من قبل. كأنني أفرغت دموع أربعة عقود في لحظة واحدة.

نعم… سأدخل سوريا، لكن الغالين رحلوا. الأماكن كما هي، لكن الأرواح التي كانت تملؤها لم تعد هناك. الفرح ممزوج بالحزن، اللقاء ملطّخ بغياب من انتظرته معهم.

هبطت الطائرة، ومعها هبط قلبي من شاهق. سألوني: “كم بقيت خارج سوريا؟

قلت بصوتٍ مرتعش: “أربعة وأربعون سنة، وثلاثة أشهر، وتسعة أيام.

نزلت من الطائرة كأنني أمشي على خيوط الذاكرة… خطواتي ثقيلة، عيني تبحث عن القبلة في أرض المطار، وما إن عرفتها حتى سجدت على أرض الوطن… على تراب سوريا… بكيت وبكيت، وقلت بصوتٍ غلبه الرجاء:

"حمداً لك يا خالقي، حمداً كما يليق بجلالك وعظمتك… حمداً لك أن أكرمتني بدخول دمشق عزيزاً مكرّماً، لا ذليلاً من بوابة أمنية، ولا مستجدياً رحمة من ظلمنا…"

بكيت حتى شعرت أن دموعي تغسل أرض المطار، حتى شعرت أنني لو بقيت ساجداً حتى آخر أنفاسي، لما وفيت الله شكره وفضله.

وحين رفعت رأسي من السجود، لم أرَ شيئاً… عيوني غمرها البكاء، لكن قلبي رأى كل شيء.

دخلت صالة القادمين، لم يكن في المطار سوى طائرتنا القطرية، وتقدّمت ببطء نحو مكاتب الجوازات. قدّمت جواز سفري الكندي، ومعه الهوية السورية القديمة التي خرجت بها. نظر الموظف إليها بدهشة، نادى زميله وقال مبتسمًا:

تعال شوف… هاي الهوية صادرة قبل ما نولد إحنا..

ابتسمت بدموع حائرة… وخُتم الجواز.

دخلتُ سوريا بعد غيابٍ امتدّ لأربعةٍ وأربعين عامًا، وثلاثة أشهر، وتسعة أيام. (على حسابات السنة الميلادية)

كنتُ قد غادرت وطني يوم الأربعاء، الثاني والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) عام ١٩٨٠م، الموافق للثالث عشر من شهر ذو الحجة لعام ١٤٠٠هـ، وكان ذلك في رابع أيام عيد الأضحى المبارك.

وعدتُ إليها يوم الجمعة، الحادي والثلاثين من كانون الثاني (يناير) عام ٢٠٢٥م، الموافق للثاني من شهر شعبان لعام ١٤٤٦هـ

هذه الرسالة التي كتبتها بالطائرة قبيل الهبوط في مطار دمشق أصف بها شعوري وإحساسي في لحظات الهبوط على ارض الوطن

It’s very hard to describe my feelings, whether to cry from happiness or laugh from sadness. But I choose to cry.

Exactly 44 years, 3 months, and 9 days ago, on October 22, 1980, I left Syria in tears. I was scared, the weather was cold, I had no jacket, I was hungry, willing to eat anything, crying all the time, and full of fear.

Now, I am returning. My stomach is full, I have a warm jacket, and last night, I slept in a five-star hotel. I have a wonderful family, a great wife whom I love deeply…. she has supported me through everything and wiped my tears.

I have three amazing sons whom I am proud of, and wonderful daughters, especially my RN, whom I admire so much, and of course, my little one, the cutest of all.

I am proud of each of you.

Thank you, God, for your mercy. Thank you, thank you.

Wrote that with tears in my eyes.

خرجت من صالة الجوازات بخطى مثقلة بالمشاعر، عابراً إلى صالة استلام الحقائب. كان المطار شبه خالٍ، لا طائرات تهبط ولا أخرى تقلع، سوى طائرتنا القطرية الوحيدة التي بدا وكأنها وصلت إلى مدينة نائمة تنتظر أن تصحو من حلمٍ طويل.

سرتُ إلى صالة الحقائب، أبحث عن حقيبتي، لكن الانتظار طال… وساعة بعد ساعة، لم يظهر منها أثر. مضت قرابة الساعتين، وكل عشر دقائق أو ربع ساعة كانت تصل مجموعة محدودة من الحقائب، لا أكثر. في البداية ظننتها صدفة أو عطلًا عابرًا… لكن عيني لم تخطئ التفاصيل.

اقتربت من حافة المكان، ودقّقت النظر في المشهد خلف الكواليس… فكانت الصدمة:

ذلك الصندوق المعدني المخصص لحمل الحقائب، والذي يُفترض أن تجره سيارة كما في كل مطارات العالم، كان يُسحب بيد رجل نحيل يكدح وحده، ومن خلفه ثلاثة رجال يدفعون الصندوق وكأنهم يزحزحون الجبل!

أي مطار هذا؟ أي قدر هذا؟!

إنها ليست مجرد قسوة مشهد… إنها عبودية ثقيلة، ورثها هذا الشعب العظيم من نظامٍ أمعن في إذلاله حتى جعل المطار رمزًا لليأس بدلًا من الأمل.

ومع كل ذلك… رأيت في أعين أولئك الرجال شرارة كرامة، لم تنطفئ. إرادة لا تنحني. كانوا ينهضون بالوطن من تحت الصفر، حرفيًا… حقيبةً بعد حقيبة، خطوةً بعد خطوة.

أخيرًا، وصلت حقيبتي… أمسكت بهما كما لو أنها رسالة من الزمن تقول لي: “نعم، عدت… ولكن الأرض ما زالت تئن، وتنتظر أبناءها.”

خرجت من الصالة متوجهاً إلى بوابة الخروج… لا تزال أنفاسي ثقيلة، وقلبي يختزن كل لحظة عاشها هناك. مطار دمشق لم يكن مجرد محطة عبور… بل صفحة أخرى من حكاية وطنٍ ينهض من رماده

 

وما إن خرجت من صالة الحقائب حتى لمحت وجهًا أعرفه قبل أن أراه… كان في انتظاري على أرض الوطن وجهٌ من الماضي، بل من الروح، ابن خالتي، وأخي الحبيب، ورفيق الطفولة، نادر "أبو نديم" مداراتي. لم يكن مجرد قريب تجمعني به صلة الدم، بل كانت تربطني به محبةٌ خالصة، وذكرياتٌ عميقة تمتد من رحاب المسجد (مسجد أبي ذر)، إلى ليالي الحنين وأيام المطاردة، حين كنا ننام معًا في مصنع والدي – رحمه الله – خلال ثمانينات القرن الماضي. يومها، كان نادر لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، وكان رغم صغر سنه سندًا ورفيقًا لا يُنسى.

نادر، الذي هاجر من سوريا قبل ثلاثة عشر عامًا، عاد قبل أيام قليلة فقط ليستقبلني، في موقف وفاءٍ لا يُنسى. حمل على كتفيه جراحًا لا تندمل، فقد قدّم ثلاثة من إخوته شهداء في مجازر سجن تدمر الرهيبة: عمر، ومصطفى، وجمال مداراتي – رحمهم الله جميعًا. كانوا من روّاد المساجد، وأعلام الدعوة، يُشار إليهم بالبَنان، وتفتخر بهم ذاكرة المكان وأهل الحي.

ولنادر أيضًا أخوان مهاجران في كندا، زكريا ويحيى، غادرا سوريا قبل أكثر من أربعة عقود، ولا تزال روحهما معلّقة بوطن لم ينسياه يومًا.

عانقني نادر بحرارةٍ نادرة، كأننا نحاول بأذرعنا أن نختصر أربعة وأربعين عامًا من الغياب، أن نلملم شتات الذاكرة في لحظة احتضان واحدة. ثم ابتسم ابتسامته التي لم يخفت بريقها رغم السنين، وقال بنبرةٍ دافئة:

"هيا بنا… نضع الحقائب في السيارة، ثم نقرّر: هل نبدأ من حلب الحبيبة، مدينتك الأولى، حيث وُلدت وترعرعت؟ أم نأخذ لنا نَفَسًا هادئًا في دمشق أولاً؟"

خرجنا من بوابة المطار بخطى مثقلة بالشوق، وكل خطوة كأنها تعبر بي من زمن إلى زمن، من منفى إلى حلم، ومن ذاكرة الغياب إلى نبض الأرض. لكن اللحظة التي لن أنساها ما حييت كانت عند عتبة الخروج… حين وقعت عيني على مشهد لم أكن أتوقعه: صورة الطاغية "بشار الكيماوي" ملقاة على الأرض عند مدخل المطار، يدوسها كل من يغادر المطار، بلا اكتراث، بلا خوف، نظرت إلى نادر وضحكت من أعماقي… شعرت بنشوةٍ خفية، كأنني أشارك في طقس رمزي صغير، لكنه مشبع بالكرامة والانتصار. دست على الصورة بكل ثقة، وكل وزن الغربة فوقها، وقلبي يردد: هذه الخطوة وحدها تستحق كل سنوات الانتظار.

وضعنا الحقائب في السيارة، لكن شيئًا ما في داخلي دفعني للعودة. سألني نادر بدهشة: إلى أين؟

ضحكت وقلت: تعال… هناك مفاجأة ثانية!

عدنا أدراجنا إلى المطار، وإذا بي أرى مشهدًا آخر لا يقل رمزية… صورة الطاغية الأب، "حافظ السفاح"، ملقاة على الأرض، تمامًا كما ابنه!

ضحكت بصوتٍ عالٍ، والتفتّ إلى نادر قائلاً: الموضوع أعجبني… ما رأيك بجولة ثالثة؟ والله أصبح المطار مكانًا للتنفيس!

ضحك نادر من قلبه، ثم قال: يعني رجعت بعد 44 سنة حتى تدوس على الأب والابن؟

قلت: أليس هذا أفضل ختام للغربة؟! ولديَّ طاقة كافية… إن أحببت نكرّرها!

ضحكنا معًا… ضحكة امتزج فيها وجع المكلوم، وفرح العائد، وسخرية المنتصر، الذي استرد فوق تراب وطنه ولو ذرة من كرامته.

ahalap11262.jpg

لحظات لا تنسى “اللهم لك الحمد كما يبنبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك "

الجولة الأولى في دمشق بين الحلم والواقع

رجعتُ إلى صالة مطار دمشق الدولي، وبين عينيّ المكذّبة وقلبي المصدّق، كنت أتمايل بين حلمٍ قديم وواقع لا يُصدّق. كان برفقتي ابن خالتي، أخي ورفيق الدرب، نادر “أبو نديم”، ذاك الذي تقاسمت معه ألم الرحيل ودموع الوداع قبل أكثر من أربعة عقود. واليوم، كأنما القدر أعاد جمعنا على أرضٍ لم تطأها قدماي منذ كنتُ شابًا يافعًا.

دمشق… يا حكاية الياسمين والخلافة الأموية، كانت كما رسمتها ذاكرتي، لكن الاستقبال كان صادمًا. المطار بدا كمحطة قطار مهجورة، قديمة ومتداعية، ينقصها كل شيء… إلا الابتسامات! كل من حولي كان يضحك، يبتسم، كأنهم يحتفلون بشيءٍ لا يُرى، أو لعلهم اعتادوا الألم حتى صار جزءًا من طقوس الفرح.

قبل أي شيء، توجهت إلى المصلى (داخل صالة المطار) لأصلي، وفي الطريق مررت بالحمام القريب. صغير، بالكاد يصلح للاستخدام، لكن به ماء… والحمد لله على ذلك. وبينما كنت أبحث عن عامل النظافة، وجدتها! امرأة بملامح صارمة، تمسك بسيجارة أطول من أصابعها، تدخن في زاوية الحمام وكأنها تحرس المكان لا تنظفه! في مطار يُفترض أنه منطقة ممنوعة التدخين.

تذكرت نصيحة أبنائي: “احكي حلبّي، بيفيدك بالتعامل مع الناس. نظرت إليها فعلمت من ملامح وجهها كأنها تريد مني ما أدفعها لها، فقلت لها: معذرة، ما معي ليرة سورية… ثم تذكرت محفظتي، فأخرجت بعض الدولارات الكندية وسألت إن كانت تقبلها. ابتسمت بسخرية وقالت: بيمشي الحال كندي. دفعت ما تيسّر، ودخلت المصلى الصغير. صليت الظهر والعصر جمعًا، ونادر أصرّ أن أكون أنا الإمام. بعد الصلاة، وقعت عيني على مرآة معلّقة على الجانب الأيمن من المصلى، محفور عليها قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"

كأنها وُضعت خصيصًا لتبرير تسلط من استباح رقاب العباد، لا لإحياء أمر الله ورسوله.

خرجنا من المصلى، مررنا بمحل للاتصالات لتبديل شريحة الجوال، وتجولت قليلا في صالة المطار لأرى مبنى متواضع جدا بل إن صح التعبير متهالك، ثم اتجهنا إلى الخارج. دمشق كانت بانتظارنا.

خرجت من المطار إلى مدينة يناهز عمرها تسعة آلاف عام، لكنك تشعر أنها خرجت للتو من معركة لا ترحم. مبانٍ مدمّرة، طرقات مكتظة بالأوساخ، ومع ذلك… الناس يبتسمون. كأنهم يرفضون الاستسلام.

ركبنا السيارة، وأنا ما زلت أُحاول أن أُدرك: هل أنا في حلم، أم عدت حقًا؟ نادر قاطع شرودي قائلاً: شو رأيك ننام الليلة بدمشق؟ في شخص عزيز أريدك أن تتعرف عليه وهو يرغب بالتعرف عليك، كان يتحدث عن عصام بيطار أبو أنس ابن حي الميدان الدمشقي العريق. لم أتردد، قلت له: افعل ما تشاء، أنا بين يديك.

اتصل به، ورتّب كل شيء. حجز لنا غرفة في فندق “القيصر”، القريب من سوق الحميدية والجامع الأموي، والتقينا بالأخ عصام في ساحة الأمويين وانطلقنا بجولة في دمشق برفقة عصام ابن دمشق كدليلنا لهذه الجولة المؤلمة.

بدأنا من ساحة الأمويين، مرورًا بمبنى الإذاعة والتلفزيون، ثم مجلس الشعب، وإدارة الأمن الجنائي. زرنا مسجد الشيخ عبد الكريم الرفاعي، ثم مسجد سيدنا الحسن. ثم بدأ الألم الحقيقي…انتقلنا إلى المناطق التي شهدت الحرب والدمار إلى ريف دمشق : جوبر، حرستا، زملكا، السبينة، مخيم اليرموك، ومخيم فلسطين و و و .

كان المشهد كأنه نُسِج من صور يوم القيامة:

“وإذا القبور بُعثرت…” وإذا السماء انشقت…”وإذا الأرض كُوّرت…”

رأيت لوحة حمراء كبيرة مكتوب عليها: “احترس، وجود ألغام!”

أي وحشية هذه؟ المغول لم يفعلوا بدمشق ما فعله هذا الطاغية وأعوانه.

لكن وسط هذا الظلام، لاح لي ضوء…

أطفال لا تتجاوز أعمارهم العاشرة، يجرّون مكانس بين الأنقاض، ومعهم رجل يشرف على تنظيف الشارع. مشهد يفيض بكرامة هذا الشعب… شعب لا يموت، حتى حين يُدفن تحت الركام.

بعد هذه الجولة التي عصرت قلبي، توجهنا إلى حي الميدان… إلى مطعم “الأحبة”. جلسنا على طاولة دمشقية، وتلذذنا بالقشة والسندوانات والنخاعات، نكهات من الزمن القديم، لا تزال حية رغم كل شيء.

عدنا بعدها إلى الفندق، أوقفنا السيارة خلف المبنى، وصعدنا إلى الغرفة. كنتُ بحاجة إلى حمام سريع، فغسلت تعب الطريق، وهممت بالنوم… ولكن جاء اتصال: " ما رأيك أن نزور والد عصام، رجل مريض وفي زيارته أجر من الله سبحانه وتعالى أولا ومن ثم وفاء لأخ طيب حديثي المعرفة به ، قلت : نعم وأنعم بها من زيارة مريض وهو والد كريم أكرمنا في دمشق وبالنسبة لي اعتبر ان اسم عصام ارتبط بدمشق الفيحاء .... ارتبط بحي الميدان الذي لي به قصة من الخيال سابقا!!!

رغم الإرهاق، وافقت بسرور شديد. سرنا في أزقة دمشق القديمة، عتمة خفيفة تملؤها رائحة التاريخ. كانت العمارة مغلقة ولا يمكن الدخول اليها فظهر الأخ عصام ورمى لنا المفتاح من البلكون والتقطناه وفتحنا الباب وصعدنا إلى الطابق الثالث على ضوء جوالاتنا ودخلنا البيت، استقبلنا الوالد ببشاشة، وعيناه تلمعان. في الغرفة، رأيت مدفأة قديمة تُسمى “الصوبا” … مشهد لم أره منذ ٤٤ سنة! لم أتمالك نفسي، فطلبت الإذن والتقطت صورة بجانبها.

ahalap11263.jpg

الخروج من مطار دمشق الدولي مع ابن خالتي نادر أبو نديم مداراتي

ahalap11264.jpg

ساحة الأمويين وخلفنا السيف الدمشقي العريق

ahalap11265.jpg

ساحة الأمويين وخلفنا جبل قاسيون وفي أعلاه قصر الشعب

ahalap11266.jpg

ساحة الأمويين وخلفنا مبنى الإذاعة والتلفزيون

ahalap11267.jpg

مبنى الإذاعة والتلفزيون

ahalap11268.jpg

مبنى ادارة الأمن الجنائي، من الاستحالة في السابق أخذ صورة في هذه الأماكن

ahalap11269.jpg

تعالى جامع الشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله

ahalap112610.jpg

جامع سيدنا الحسن

ahalap112611.jpg

مجلس الشعب

ahalap112612.jpg

فتية اليوم رجال المستقبل إنهم أبناء الفيحاء

ahalap112613.jpg

عند مدخل مخيم اليرموك، وبين أنقاض الحرب، فتية ينظفون الشارع بأيديهم. لم تكن مجرد نظافة، بل رسالة واضحة للعالم:

"سنبني دمشق… بل سنبني سوريا بسواعدنا."

كانت لحظة تختصر روح الصمود، وتعلن أن الحياة أقوى من الدمار

ahalap112614.jpg

دمار ليس له مثيل في التاريخ

ahalap112615.jpg

وكأنه يوم القيام أي إجرام هذا.. هنا كانت دمشق الفيحاء

ahalap112616.jpg

هنا كان مسجد الخياط .... وسيعود بإذن الله

ahalap112617.jpg

من منجزات نظام البراميل ... يحاربون الشعب المسكين، ولكن لم يعد مسكينا بعد اليوم

ahalap112618.jpg

هذه هي دمشق الحبيبة ورحم الله شهدائها

ahalap112619.jpg

هذا غيض من فيض

ahalap112620.jpg

حي من أحياء ريف دمشق وسوف تبقى دمشق وريفها حية بإذن الله

ahalap112621.jpg

ستظل الأيام تكشف للظالمين أي منقلب سينقلبون فيه

ahalap112622.jpg

شاهد على اجرام النظام المجرم وهذه دمشق الفيحاء

وبعد هذه الجولة المؤثرة للدمار في دمشق وريفها ذهبنا مع ابن دمشق الى حي الميدان الدمشقي

ahalap112623.jpg

في حي الميدان الدمشقي مع ابن دمشق الكريم ابن الكرام عصام البيطار وشقيق الروح نادر مداراتي

ahalap112624.jpg

في مطعم الاحبة مع أكلة قشة ( آشه ) نخاعات وراس ومقادم مع نادر أبو نديم وعصام أبو أنس

ahalap112625.jpg

وأحلى اكلة فساتي وقشاطي

فساتي وقشاطي: هذا مصطلح دمشقي ميداني "الفساتي الاكلات التي تزين بالفستق بأنواعها ومكوناتها الفستق ،

والقشاطي هي الأكلات التي مكوناتها القشطة

ahalap112626.jpg

في بيت والد الأخ عصام مع الصوبا التي لم أراها منذ أكثر من أربعة عقود

بعد يوم طويل من السفر والمغامرات، عدنا إلى الفندق بحثًا عن قسط من الراحة. كان الفندق جديدًا تمامًا، لم يمضِ على افتتاحه سوى ثلاثة أيام فقط، ويحمل اسمًا يوحي بالفخامة والعظمة والعملية التي فضحت ووثق الاجرام : قيصر.

ahalap112627.jpg ahalap112628.jpg

فندق القيصر في دمشق

استلقينا في الغرفة مستعدين لنوم هادئ، لكن المفاجأة كانت بانتظارنا! في منتصف الليل، بدأ السقف يقطر ماءً قطرةً بعد أخرى، وكأنه يشاركنا تفاصيل قصته الجديدة في هذا العالم. لم يكن أمامنا خيار سوى طلب تبديل الغرفة، وبالفعل تم نقلنا إلى غرفة أخرى.

ahalap112629.jpg

الاستعداد إلى النوم في أول ليلة في سوريا الحبيبة

لكن ما إن دخلنا إلى الغرفة الجديدة حتى اكتشفنا مشكلة أخرى… النافذة كانت عالقة، لا تُغلق مهما حاولنا! والهواء البارد يتسلل إلينا كضيف غير مدعو، ليجعل تلك الليلة واحدة من أغرب الليالي التي عشناها، بين سقف يقطر، ونافذة تأبى الإغلاق، وفندق جديد يحمل اسم القيصر لكن مغامراته أقرب إلى قصص ألف ليلة وليلة!

ahalap112630.jpg

من داخل الفندق وتظهر النافذة التي لم نستطع إغلاقها في الليل وربما كانت السبب في المرض

صباح اليوم الأول في دمشق

استيقظتُ صباح السبت، الأول من شباط فبراير ٢٠٢٥، وإن صحّ القول، فلم يكن هناك نومٌ حقيقي في تلك الليلة، بل كانت ساعات متقطعة يلفّها الشوق وتغمرها الذكريات، ممزوجة بهواء باردٍ ينسلّ من نافذة لم تُغلق، كأنّه يوقظ الحنين ويشعل الذكريات من جديد. وكان سببا في ألم البطن لكل منا وكان نادر الأكثر حظا منه مني لكون قرب سريره من النافذة.

قبل أذان الفجر بساعة، نهضتُ لأداء ما تيسّر من قيام الليل، تراودني فكرة الصلاة في الجامع الأموي، ذاك الرمز الذي طالما سكن القلب قبل أن تسكنه الخطى. كانت الأخبار متضاربة: من قال إن الجامع مغلق للصيانة، ومن قال إن في الزاوية بابًا صغيرًا ما زال مفتوحًا للمصلين رغم كل شيء.

أزحتُ ستارة النافذة… الظلام دامس، والكهرباء - كعادتها في دمشق - غائبة. غير أن الفندق الذي أقيم فيه يعتمد على الطاقة الشمسية، فكان لنا من النور ما يكفي.

كان “شقيق الروح” يتأوّه من ألم في بطنه، ألمٌ سببه بردُ الليل الذي تسلل من النافذة المفتوحة، وقد بدا عليه الإعياء الشديد. أما أنا، فكنتُ أقل تأثرًا، ربما لأن سريري كان أبعد عن تيار الهواء البارد.

أديتُ صلاة الفجر في الفندق… وفي قلب الظلمة التي بدأت تنجلي بخيطٍ أول من الشروق، غادرت الفندق متوجهًا إلى الجامع الأموي. قيل لي إنه قريب، وإن السير على الأقدام إليه ممكن.

توكلتُ على الله، وانطلقت…، نحو الجامع الأموي في دمشق.

ahalap112631.jpg

الخروج من الفندق متجها إلى الجامع الأموي

اول ما شاهدته بيع الكميات الكبيرة من الدخان ومن الصباح الباكر

ahalap112632.jpg

مدينة متهالكة

ahalap112633.jpg

البسطات والبيع في الساحات

ahalap112634.jpg

من الروافد التي تصب في نهر بردى

كأنها تبكي لزمانها، ولكن سوف تنهض بعون الله من جديد

ahalap112635.jpg

مدخل سوق الحميدية ويعتبر أقدم سوق تاريخي في دمشق

ahalap112636.jpg

الطريق الى الجامع الاموي

ahalap112637.jpg

طريق تاريخي

ahalap112638.jpg

بدأت المنارة تظهر من بعيد

يعد هذا الجامع الأموي من أقدم وأعظم المساجد في العالم الإسلامي، بُني في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بين عامي ٧٠٥ و٧١٥م. شُيّد على أنقاض معبد روماني قديم، ويتميز بعمارته الفريدة الجميلة ومكانته الدينية والتاريخية، ويُعرف باسم” جوهرة دمشق”

ahalap112639.jpg

الساحة وتظهر أعمال النظافة من الرجال والنساء

ahalap112640.jpg

من هذا المسجد كانت تنطلق الفتوحات إلى العالم شرقا وغربا

ahalap112641.jpg

أعمال النظافة والصيانة

ahalap112642.jpg

كانت آثار الصيانة بادية للعيان، والأرض مبتلة بالماء، فتجولت قليلًا أبحث عن زاوية جافة لأداء سنة الضحى. وما إن أنهيت ركعتين حتى اقترب مني أحد عمّال النظافة وأخبرني بلطف أن المسجد مفتوح من الزاوية اليمنى، ويمكنني الدخول. غمرتني السعادة، وسارعت إلى الدخول

ahalap112643.jpg

حقا للمكان عبير خاص

هذا الجامع دخله عدد كبير من الشخصيات البارزة، وكان مسرحًا لأحداث دينية وسياسية وعلمية عظيمة. فقد صلى فيه الخلفاء الأمويون، ودرّس فيه العلماء الكبار كالإمام النووي وابن كثير، وكان مقصدًا للحجاج والعلماء من شتى أنحاء العالم الإسلامي. كما زاره القائد صلاح الدين الأيوبي، وألقى فيه الخطباء خطبًا مؤثرة في محطات مفصلية من تاريخ الأمة. وكان الجامع مركزًا للحوار الديني، ومكانًا لإقامة الشعائر والاحتفالات الكبرى، ليبقى شاهدًا حيًا على عظمة الحضارة الإسلامية.

ahalap112644.jpg

لفت انتباهي شيخ مسنّ، جاثٍ على ركبتيه، ينحني فوق السجاد يمسحه بخرقة صغيرة، يلتقط الأوساخ بيدٍ صابرة ويضعها في كيس أبيض صغير. آه يا دمشق، عاصمة الخلافة الأموية، رغم كل ما حلّ بها، ما زالت تنبض بالحياة، شامخة برجالها أصحاب الهمم العالية والقلوب العامرة بالإخلاص.

ahalap112645.jpg

المحراب والمنبر

ahalap112646.jpgahalap112647.jpg

مقام راس نبي الله يحيى عليه السلام

وفي طريق عودتي من الجامع الأموي مررت بحديقة مهملة كتب عليها الحديقة البيئية والنباتية في دمشق بإدارة الجمعية السورية للبيئة

ahalap112648.jpgahalap112649.jpg

وعجبا لما هو بجوارها، واية بيئة هذه ....

عدت إلى الفندق أبحث عن صرّاف، لكنني لم أجد، فسألت موظفي الاستقبال، فأرشدوني إلى موقع يضم عدداً من مكاتب الصرافة. قصدتهم واحداً تلو الآخر، لكن المفاجأة أنهم جميعًا لا يملكون ليرات سورية. ربما يعود ذلك إلى الارتفاع المفاجئ في قيمة الليرة السورية مقابل الدولار، والذي يُقال إنه تزامن مع زيارة سمو الشيخ تميم، حاكم قطر، حفظه الله

ومن ثم مع اذان الظهر انطلقنا إلى حمص وطلب مني نادر ان أقود السيارة اعتذرت له لجهلي في قيادة السيارات في سوريا وطلبت من ان يطالعني إلى خارج دمشق وعند وصولنا إلى ابواب دمشق

اوقف نادر السيارة ومن ثم استلمت القيادة وأغمض عينيه ونام بجانبي قرير العين ويأن من ألمه الشديد وانا أقود السيارة بحذر وبخوف شديد متجها ببركة الله إلى حمص العدية حمص المحبة إلى حمص خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه

وانطلقنا إلى حمص العدية

واصلتُ القيادة، وبجواري أبو نديم، يتأوه من ألمه، محاولا أن يكتم أنينه. وحين أصل إلى مفترق طرق بلا إشارات أناديه “نادر، أي اتجاه أسلك؟”

دون ان يفتح عينيه، او يلتفت، يقول همسا “سيوي، سيوي” يعني دغري او سيدا

عاودتُ السؤال، متأكدٌ أنتَ يا ندور؟ (ندور هو الاسم الذي كنت اناديه في أيام الطفولة) فجاءني الجواب ذاته: “سيوي، سيوي"

توكلتُ على الله، ومضيتُ…

وفجاة فتح عينه وقال أش عبتسوي قلت لها اخد الخط الأيسر وملتزم بخطي

قال انسى ان هناك خطوط وامشي في منتصف الطريق وعندما تريد ان تتجاوز اضرب زمور هيك السواقة هون .. فما علي إلا السمع والطاعة ومضيت ووضعت وراء ظهري قوانين السير التي تعلمتها في كندا وامشي على قوانين ابن خالتي الحبيب

وفي الطريق: نظرتُ يمنةً ويسرةً، فماذا وجدت؟

هدمٌ وخراب، ما شهد له التاريخ مثيلاً، بل أقسم أنه لم يعرف له شبيهاً.

الصحراءُ لها هيبةٌ وجمال، والجبال لها شموخٌ وسِحر، أما ما أراه هنا، فهو دمارٌ أشد من الزلازل، خرابٌ يفوق الوصف.

ألا لعنة الله على الإجرام… إلا لعنة الله على طاغية العصر!

مرَّ بخاطري هاجسٌ واحد: أنا عائدٌ إليكِ يا حلب، يا حبيبتي الشهباء.

حجارةٌ بقيت، لكن الغوالي رحلوا…

رحم الله أمي، كم كانت تردد: “جنةٌ بلا ناس، ما بتنداس"

واليوم أقولها بحرقة: “أنتِ جنةُ روحي، لكن لا أنيس فيكِ!

عُدتُ إليكِ، والمجاعة تنهشُ أحشائي، وعصافير بطني تزقزق جوعًا، لكن جيبي ممتلئٌ بما رزقني الله.

منذ الصباح لم يذق فمي سوى كعكةٍ على عتبات الجامع الأموي في دمشق.

لكن كيف لي أن أشتهي الطعام، وأخي بجانبي يتلوى ألمًا، يئن بصمت، يعاني بصبر؟!

خرجتُ من حلب خائفًا، لا أملك ما يحميني من بردها.

وها أنا اليوم، أعودُ إليها، أقودُ سيارةً شبه جديدة… لكنها ليست لي!

وحين وصلنا إلى مشارف حمص، رفع نادر يده مشيرًا، فتح باب السيارة…

وصلنا إلى حمص العدية، حيث أديْنا صلاتي الظهر والعصر في مسجد سيدي خالد بن الوليد، وكنتُ أنا الإمام، وشقيقي في الروح نادر يصلي خلفي، في لحظةٍ امتزجت فيها الروحانية بالمحبة، والرهبة بالسكينة.

بعد الصلاة، التقينا بأخٍ عزيزٍ على قلبي الاخ الفاضل وصاحب الفضل حسام السباعي ابو حذيفة (أبو الطيب) قدّم لنا هديةً من أكرم ما تجود به حمص، حلاوة الجبن الحمصية، تلك التي لم أذق مثلها قطُّ في حياتي! لكننا لم نفتحها، بل تركناها حتى نصل إلى حلب… وكيف لي أن أتذوق منها ولو لقمة، وشقيق روحي لا يستطيع أن يأكل؟!

وذكر لي الاخ الحبيب ابو حذيفة بعضا من أنشطته في مجال اعادة الإعمار وخاصة مساجد حمص فهو اخ بالف جزاه الله كل خير وجعل الله هذا في ميزان حسناته

ورجوته ان يكرمني بزيارة في حلب الشهباء وقد وعدني مشكورا في ذلك

وبعد ذلك وكأن العافية قد دبت في أوصال اخي نادر من جديد، عادت إليه قوته، وأشرق وجهه ببعض الصحة، فاغتنمنا اللحظة، والتقطنا بعض الصور داخل المسجد وخارجه، ثم مضينا في جولةٍ عبر أحياء الخالدية، ذلك الحي الذي أذابه الحقدُ، ودمرته يدُ الإجرام، فقط لأنَّ اسمه يقترنُ بسيدي خالد بن الوليد!

رضي الله عنك يا سيف الله المسلول… أرعبت خصومك حيًّا، وأرهبتهم ميتًا!

ahalap112650.jpg ahalap112651.jpg

في رحاب مسجد سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه

ahalap112652.jpg

بعض من اثار الإجرام في حي الخالدية

ahalap112653.jpg

مسجد سيدنا خالد من الجهة الخلفية

ahalap112654.jpg

حي الخالدية الصامد بالرغم مما أصابه

ahalap112655.jpg

ابتسامة الحب والشوق والحزن من أمام الدمار في حي الخالدية

إلى حماة أم الفداء

بعدها انطلقنا نحو أم الفداء، وتساءلتُ في نفسي: لماذا تُدعى “أم الفداء” وليست “أبو الفداء”؟

لعل في ذلك رمزًا إلى الحنان الذي تحمله الأم، فكأنما هذه المدينة تجسد الحب والدفء في أسمى معانيه. وكيف لا، وابن أختي حازم متزوجٌ من سيدة حمويّة من أم الفداء؟!

وكما يردد حازم دائمًا: إذا أراد الإنسان أن يعيش عيشةً هنيّة، فلا بد أن يأخذ زوجةً حمويّة!

بحثت عن السبب الحقيقي في لقب مدينة حماة فتبين لي ان لقب مدينة حماة التاريخي هو: “أبو الفداء”، نسبة إلى الملك الأيوبي المؤرخ إسماعيل أبو الفداء، الذي كان حاكمًا لحماة في القرن الرابع عشر، وهو من أبرز أعلامها.

أما "أم الفداء" فهو لقب شعبي مجازي أُطلق على حماة تعبيرًا عن تضحياتها وصمودها، خصوصًا بعد الأحداث المؤلمة التي شهدتها المدينة عبر العقود. يُستخدم هذا اللقب بكثرة في الشعر والخطابة، لكنه ليس الاسم الرسمي أو التاريخي.

كنتُ أقود السيارة ببطءٍ شديد، فقد بدأ شقيقي في الروح نادر بالكلام، وصحته تتحسن شيئًا فشيئًا، فراح يسرد لي ذكرياته عن السفر بين حلب ودمشق في أيام خدمته العسكرية الإلزامية وما بعدها.

وما هي إلا لحظات حتى وصلنا إلى جسر الرستن…

ذلك الجسر المدمر، المسموح المرور عليه من اتجاهٍ واحد فقط.

لو كان الأمر بيدي، لمنعتُ المرور عليه نهائيًا حفاظًا على سلامة العابرين، فقد رأيتُ فيه ثلاث حُفَرٍ عميقةٍ في وسطه، إضافةً إلى حفرةٍ كبيرةٍ تتوسط الطريق من دمشق إلى حلب.

أما عن سبب هذا الدمار، فقد تباينت الروايات:

  • هناك من أكد لي أن الجيش الروسي قصفه.
  • وآخرون قالوا إنه تم تفجيره على عجلٍ من قبل جيش النظام، لكنهم لم يتمكنوا من نسفه بالكامل، ففرّوا كالفئران بعد ذلك. وهذه هي آثار الدمار واضحة على الجسر

ahalap112656.jpg ahalap112657.jpg

ahalap112658.jpg

وتابعنا الطريق إلى حماة وعند اول دخولي فجاة قال لي نادر قف بسرعة وقلت له ماذا؟

قال: هذه كلية الطب البيطري التي درس بها صهرك أبو حسام، ( أبو حسام هو صهري والأخ الأكبر لنادر) .

قف من اجل تصوير الكلية.

ahalap112659.jpg

كلية الطب البيطري

ثم توجهنا إلى ساحة العاصي، وما هي إلا لحظات حتى تجلّت أمامي الناعورة العتيقة، شامخةً بجمالها الأثري الساحر.

للحظة، شُلَّ تفكيري من فرط الدهشة، فضغطتُ على الفرامل بقوة، مبهورًا بما رأيت. عندها قال لي نادر: “تابع القيادة إلى هناك، يوجد موقفٌ للسيارة.”

لكنني بقيتُ مذهولًا لبرهةٍ من الزمن، بين روعة التاريخ وجراح الواقع… فالجمال حاضرٌ في الأثر العريق، لكن الألم بادٍ في مظاهر القمامة التي شوهت الأرصفة والجوار.

أوقفتُ السيارة، وأخذتني الذكريات إلى أحبةٍ من حماة: باسل، أمجد، غسان، حسان ، فراس ، … وحتى أخي حسان الحلبي، وزوجته الحموية، ذلك الرجل الذي لا يغيب اسمه عن دعائي، أذكره كل ليلةٍ في سجودي في قيام الليل.

ترجلتُ من السيارة في وقارٍ يليق بهذه المدينة العظيمة، مدينةٍ حاول الطاغية تدميرها في الثمانينات، فقتل عُشْرَ سكانها، لكنه فشل في محوها، فبقيت رغمًا عنه، رغمًا عن أزلامه، حتى فرَّ ابنه وشبيحته أذلاء، بينما بقيت حماةُ صامدةً، شامخةً، عزيزة.

حماةُ… يا أمَّ الفداء، لكِ كلُّ الاحترام والإجلال!

وهذه هي الصور من حماة الحبيبة…

ahalap112661.jpg ahalap112663.jpg

ahalap112664.jpg ahalap112665.jpg

ahalap112666.jpg

بعض هذه الصور مؤلم لما آلت اليه هذه المدينة التي كانت عاصمة الثورة أيام الثمانينيات

في هذه اللحظة، وقد تحسّنت صحة شقيق الروح، سلمته مقود السيارة، وانطلقنا من أم الفداء نحو حلب… نحو مسقط رأسي… نحو مدينةٍ يسكنها قلبي قبل أن تسكنني..

وسوم: العدد 1126