يوميات وأيام عمر بهاء الدين الأميري

يوميات وأيام

عمر بهاء الدين الأميري

عمر بهاء الدين الأميري

باسل الرفاعي

باحث في تاريخ سورية الحديث

[email protected]

صدر في عمان – الأردن كتاب: يوميات وأيام عمر بهاء الدين الأميري عن دار الفتح للدراسات والنشر في 568 صفحة من القطع الكبير، من تأليف الباحث الأستاذ باسل الرفاعي. وقد قدم للكتاب بقوله:

أهمية الكتابة عن الشاعر الراحل عمر بهاء الدين الأميري تتعدى شاعريته وشعره، رغم الريادة التي حققها في هذا الجانب، فتوجته عن جدارة لقب "شاعر الإنسانية المؤمنة"!

والذين عرفوا الأميري، أكثر ما عرفوه بتأملاته، وسبحاته "مع الله"، ونجاواه "المحمدية" الرائعة، وفيوضات من خصال سامية، وخلق رفيع، وتواضع جم، وحديث عذب يأسر القلوب!

ولقد كان كافياً أن ينال الأميري اهتماماً كبيراً لهذه الصفات وحسب، وكان منتظراً أن يجدّ الباحثون في دراسة شعره وأدبه، وقد انقضى على رحيله ما يقرب من عقدين من الزمان!

على أن الأميري بحقيقته أوسع من دائرة الشعر والأدب، والجوانب المهمة من شخصيته ومن حياته لا تزال مركومة تحت كثبان التقصير والإهمال والعقوق، وقد أفنت حوادث الدهر أكثرها، وأسلمتها الأيام إلى ظلمة النسيان أو العدم!

ولد الأميري في العقد الثاني من القرن العشرين بمدينة "حلب" السورية، ابناً لأحد وجهائها المرموقين، وفي بيئة بالغة الخصوصية نشأ الطفل "عمر" محاطاً بالدلال والجمال والعلم والأدب، وما لبث أن اتصل بعالمه الأوسع من خلال أصدقاء المدرسة "المتدينين" فكانوا معبره إلى "الإسلام الحركي" الناشئ، وكانت مساهمته في تأسيس لبناته المبكرة وبناء الجسر الأول بينه وبين جماعة "الإخوان المسلمين" بمصر، التي لم يطل الأمر بمؤسسها "البنا" فمنحه عضوية هيئتها التأسيسية، ومنحته الجماعة في سورية منصب نائب مراقبها وأمينها العام لسنوات.

بدأ الأميري دراسته الجامعية في "باريس"،ثم عاد فدرس المحاماة في "دمشق"، وأمده اسم والده الذي رعى "الحركة الوطنية" أيام الفرنسيين بما أغنى مواهبه وملكاته، فشارك في الحياة السياسية بعيداً عن أي حزب أو كتلة مما كان يسود وقتذاك، وخط مسيرته "السياسية" مستقلاً، متفرداً، متميزاً، من غير أن تأسره مطامح شخصية أو تثقله انتماءات ضيقة، فنال بذلك الثقة والاحترام، وتنقل في مهمات وتكليفات رسمية متنوعة، فكان أول سفراء بلاده لدولة "باكستان" وسفيراً لسورية من ثم في المملكة العربية الشعودية، وكانت له بين السفارتين مشاركة هامة في "حركة سوريا الحرة" التي تشكلت لمقاومة حكم أديب الشيشكلي المستبد، وكانت له بعدها مشاركات لا تقل أهمية في مقاومة الدكتاتورية التي أرساها نظام الانقلاب الآخر في مصر، وسطوته التي نزلت بجماعة "الإخوان المسلمين" فيها، وخلال ذلك، ومن قبل وبعد، تنقل الأميري بين البلاد شرقاً وغرباً، وشارك في أبرز المؤتمرات التي شهدتها لإعادة بعث الإسلام وإحياء همة المسلمين، فازدادت سهام مناوئيه من كل اتجاه، وفقد وظيفته، وصودرت أملاك أسرته، وقيدت حرية تنقله، وزاد الطامة وقوع انقلاب "أيديولوجي" النزعة في بلاده، قضى على ما تبقى فيها من حريات، وتعامل مع أحرارها بمنهج الإقصاء والاستئصال، فلما غادر الأميري سورية بعد ذلك، لم يعد يأمن أن يعود إليها، واختار الإقامة في لبنان الذي كان رئة الحرية المتوفرة في المنطقة ، وإذ به يؤتى هناك من مأمنه، يقع فريسة أنصار النظام "الناصري" الذي يترصده، فجرى اعتقاله، ووجهت إليه تهم كبيرة، وكاد يقضي في السجن من طارئ صحي تسببته ظروف الاعتقال، تخللته محاولة جديدة للتخلص منه، فلما أثخنته جراحات النزال، وأعياه من الخلق النصير، لم يجد بداً من الانتقال إلى المغرب العربي مدرساً جامعياً فيه، ممضياً هناك شطر حياته الآتي، من غير أن تخف عزيمته، أو أن يحيد عن المنهج الذي اختطه وارتضاه، وحقق له المغرب الكثير مما أراد، فأبدع هناك وأنتج، وأكمل مسيرته بالقدر المتاح، إلى أن دهمته يد المنون آخر المطاف، فقضى عن عمر جاوز السبعين، ومضى إلى جوار ربه وقد ترك وراءه أكثر من عشرين أثراً مطبوعاً، بين الشعر والنثر والفكر، وكماً مخطوطاً كبيراً ينتظر أن يبصر النور، ومسيرة حياة حافلة تستحق الدراسة والتأمل والتدبر، وهذا الكتاب محاولة في هذا الاتجاه!

تعرفت إلى الأميري شخصياً في آخر عقد من عمره، بعد أن عرفته قبل ذلك شاعراً مبدعاً، ورمزاً تاريخياً مغترباً من رموز "الحركة الإسلامية" ودعاتها المؤسسين، هذا بالإضافة لما علمته من طفولتي عن وجود قرابة ونسب بين آل "الغوري" الذين هم أسرة جدتي لأمي، وآل الأميري، وعندما أقمت في دولة الإمارات وعملت في عاصمتها صحفياً خلال ثمانينيات القرن الماضي، التقيت الأميري وتعرفت إليه، وكانت لي معه أحاديث عدة منشورة في صحيفة "الاتحاد" وسواها، وخلال سنوات تكررت فيها زياراته للمنطقة، توثقت بيني وبينه العلاقة – وأنا بسن أصغر بنيه -، فمكنتني ملازمته خلال فترات زياراته من الاطلاع على جوانب أكثر من شخصيته، وسماع العديد من حوادث بالغة الأهمية جرت معه، ودفعني ذلك – وهو على مشارف السبعين – لأن أستحثه على تسجيل ذكرياته، وتوثيق مسيرة حياته، وانتهى الأمر بالاتفاق على تنظيم هذا المشروع بشكل جاد، وهو الموزع بين المشرق والمغرب لا يكاد يحل حتى يرتحل! وكانت البداية في إحدى زيارته الأخيرة حينما التقينا ربيع عام 1990 لتسجيل معالم عامة لتلك الذكريات، فكانت الحصيلة عدة ساعات من الحوار الذي تناول قضايا من أطياف تجاربه الدعوية والسياسية بالغة الأهمية، وتفاصيل عن نشأته الأولى وخبراته المتنوعة وآرائه الناضجة في العمل الإسلامي والسياسة والأدب، وكان المأمول أن أقوم بزيارة تالية للمغرب – حيث يقيم – فأعكف على إتمام اللقاءات وإكمال حديث الذكريات، واستمر التواصل بيننا بهذا الشأن، إذا حثثت إليه الخطا أبطأني عنه أن "الأستاذ" في رحلة جديدة، أو أزمة صحية مفاجئة، ثم لم تلبث أن تدهورت صحته أواخر عام 1991م ودخل بعد أيام من آخر مكالماتي المسجلة معه في غيبوبة امتدت إلى قبيل وفاته في الرياض، بعد أقل من ثلاثة أشهر، وانطوى المشروع الذي تحمست لإنجازه ولو إلى حين!

في مطلع الألفية الثالثة كان قد استقر بي المقام في الولايات المتحدة، وصار من المتاح لي أن أتحرك بحرية أكثر بين البلاد، وبين المشاريع التي لا تزال تنتظر الإنجاز، ظلت مذكرات الأميري وذكرياته هاجساً لا يفارقني، خاصة وقد بدأت بإتمام مشروع آخر أوسع عن تاريخ الحركة الإسلامية في سوريا، وهو أحد روادها المؤسسين، وبعد مساع واتصالات استغرقت سنين عدة، تمكنت من إقناع "البراء" الابن الأكبر للفقيد، بقبول فكرة إطلاعي على ما تبقى من آثار الوالد في المغرب، واستدراك ما يمكن من تاريخ يتبدد من غير عناية، ويتشتت من غير ما خطة، وانتهى الأمر بالاتفاق على توجهي إلى "المغرب" الذي استوطنه الأميري، للبدء في المشروع.
في صيف عام 2006م أمضيت في الرباط أسابيع عدة استقبلني فيها نجلا الفقيد هاشم منقذ ومحمد مجاهد خير استقبال، وأطلعاني على ما تبقى لدى كل منهما مما ترك الوالد الراحل، وتكرما بتسجيل ما تحفل به الذاكرة ويقتضيه المشروع، وفي تلك الزيارة تحدثت بالهاتف مع ابني الأميري الآخرين: ملهم المقيم في "طنجة"، و"سائد" الذي كان يزور الرياض، كما التقيت عدداً من معارف الفقيد وأصدقائه المقربين هناك، وعدت بحصيلة مباركة تضمنت كماً وافراً من التسجيلات، وحقائب عدة محملة بما وقعت عليه من بقايا ما سلم من وثائق ومذكرات وصور ومراسلات، يمتد عمر أكثرها إلى أكثر من نصف قرن، وقد غزت الرطوبة والعفونة الكثير منها، وكادت معالم بعضها أن تضيع!

تابعت بعد العودة الاتصال ببقية أسرة الأميري، فكلمت ولديه: اليمان وأوفى، وراسلت ابنتيه وفاء وغراء، وأثقلت على منقذ ومجاهد والبراء بأسئلة واستدراكات متتابعة، ووسعت خلال الأعوام التي تلت دائرة الاتصالات والمقابلات، لتشمل من استطعت الوصول إليه من أقران الأميري ومعارفه المقربين، وتتبعت ما وسعني الجهد الدوريات والكتب والمواد التي تخدم الحقبة التي أتحدث عنها، علاوة على تصنيف وترميم عدة مئات من الرسائل والوثائق التي عدت بها من المغرب، أحاول أن أملأ بجملها وحروفها ثغرات كثيرة من سيرة حياة الأميري، حتى انتهيت إلى هذا الذي بين أيدينا الآن!

تقوم مادة الكتاب الأساسية – إذاً – على مصادر كثيرة متنوعة أهمها وأوثقها ما يلي:

- تسجيلات أجريتها مع الأميري عام 1990م وما قبله، نشر بعضها في صحيفة "الاتحاد" الظبيانية ومجلة النور الكويتية، واحتفظت بالبقية لمشروع هذا الكتاب.

- أحاديث صوتية متفرقة عن ذكريات الأميري سجلت معه في لقاءات عدة جرت بمدينة "جدة" في شهر ربيع الأول 1408هـ (تشرين الأول/ أكتوبر 1987م) مع مجموعة من الإخوان السوريين، أدار أحدها الشيخ فاروق البطل، وأدارها مرة أخرى الأديب محمد الحسناوي (رحمه الله)، استغرقت بمجموعها قرابة ثلاث ساعات ونصف.

- تسجيل عن سيرة حياة الأميري، أجراه معه الباحث وليد السامرائي خريف عام 1982م، خلال الإعداد لرسالته في الدراسات العليا بجامعة "ليدز" البريطانية عن أدب الأميري وشعره، وأرسل له مطلع عام 1983م مادته المكتوبة في خمس وأربعين صفحة بخط اليد، فقام الأميري بمراجعتها وتصحيح وإضافة الكثير من المعلومات عليها، واحتفظ بنسختها الأصلية مع ما تبقى من أوراقة التي اطلعت عليها في المغرب، وعاد السامرائي فأورد أهم مضامين تلك التسجيلات في مقدمة رسالته الجامعية التي تمت مناقشتها في شهر آب/ أغسطس عام 1986م ونال بها شهادة "الدكتوره".

- عدد من دفاتر يوميات الأميري التي خطها بيده، وعثرت عليها بين ما تبقى من أوراقه في المغرب، يبدأ أقدمها بتاريخ 26/12/1964م، وينتهي من غير انقطاع بتاريخ 5/9/1965م، ويبدأ دفتر آخر بتاريخ 10/7/1966م، يوم مغادرته لبنان إلى المغرب، وينتهي يوم 28/6/1967م، ويبدأ الدفتر الثالث يوم 13/7/1967م، ويتوقف يوم 31/12 من العام نفسه، مع انقطاع في عدد من الأيام، هذا بالإضافة إلى يوميات وتقارير وملاحظات متفرقة تتعلق بأحداث متنوعة كان يكتبها – كما يبدو – في حينها، ليعيد تسجيلها بعد ذلك في دفتر اليوميات.

- مجموعات كبيرة من الرسائل المتبادلة تبلغ المئات، صنف الأميري معظمها وفق تواريخ كتابتها، وألحق بعضاً منها بملف محدد أو موضوع مهم، يعود القسم الأكبر الذي عثرت عليه منها إلى الأعوام ما بين 1968 و 1975م، وتتفاوت أهميتها بين ما كان بينه وبين ملوك ورؤساء وزعماء وعلماء بارزين، وما كان بينه وبين أفراد الأسرة وشتى طبقات المعارف والأصدقاء.

- مجموعة رسائل خطها الأميري لصديقه الأثير عادل دباس، زودني بها مشكوراً ولده السيد عبد الرحمن دباس، وقد كتب معظمها خلال وجوده في "باريس" عامي 1936 و 1937م.

- أشعار الأميري وقصائده المطبوعة والمخطوطة، والتي دأب على تسجيل تواريخها بالتقويمين الهجري والميلادي أغلب الأحيان، وعلى تقديم ما نشره منها في دواوينه بما يعرف بظروف ومناسبة كتابتها.

- أرشيفه الصحفي الخاص الذي ضم مجموعة كبيرة من المقابلات التي أجريت معه، والقصائد والمقالات التي نشرت له، علاوة على المقابلات والكتابات المماثلة التي جمعتها بنفسي، وكان من أبرزها ذكريات متفرقة للأميري سجلها لصحيفة "المسلمون" في خريف عام 1988م تحت عنوان " من ذكريات الأميري: جولة في صفحات من تاريخ قريب"، واقتصرت على ثلاث حلقات وحسب.

- مجموعات من الصور الخاصة صنفها الأميري بنفسه، وسجل على وجهها الآخر تواريخ ومناسبات الكثير منها، بما أعان كثيراً في تتبع الأحداث وإثراء البحث.

- تسجيلات صوتية ولقاءات متلفزة مما سلم من مقتنيات الأميري في المغرب، أو توفرت عليه من مصادر أخرى.

هل كتب الأميري مذكراته أو ذكرياته بالفعل، وأين هي إذاً هذه المذكرات؟

لا بد أن يتبادر هذا السؤال إلى ذهن كل مهتم بحياة رجل متميز كالأميري، ونتمنى جميعاً لو أنه كفانا مؤونة التنقيب في "جذاذات" أوراقه المتناثرة وذكريات من عرفوه، وكتب سيرته بنفسه وسجل مشاهداته وخبراته قبل الرحيل، وللإجابة على ذلك أود أن أنوه إلى عدة أمور:

1- كان الأميري رجلاً منظماً إلى حد كبير، وحرصه على كتابة يومياته أمر مؤكد، مثلما هو طبع مبكر وعادة متأصلة فيه، ولسوف نكتشف ذلك من مراجعة ديوانه "نبط البئر" الذي احتوى أوائل قصائده وخواطره وهو دون الخامسة عشرة من العمر، ولم يغب عنه أن يسجل تاريخ كل منها بالتقويمين الهجري والميلادي، وأن يقدم للعديد منها بكلمات تبين أسباب وظروف نظمها، فكأنها يوميات أو مذكرات عفوية.

ولقد تأكد حرص الأميري على تسجيل يومياته فيما وقعت عليه – كما تقدم – وظل على عادته حتى آخر أبيات شعر نظمها قبيل وفاته، وطلب تسجيل مناسبتها وتاريخ نظمها، والظرف الذي أحاط به وبها، رغم شدة معاناته وقتذاك.

2- اعتنى الأميري من مراحل شبابه الأولى وحتى نهاية حياته بحفظ ما ورد إليه من رسائل مختلفة، وما كتبه بنفسه من خطابات أو رد به على ما تلقاه من الآخرين، وكان – كما تقدم – حريصاً على تصنيف تلك الخطابات وفق تواريخها، وموضوعاتها، ووجدته قد كتب على بعض مجموعاتها عبارة "هام للمذكرات" فكأنها أرشيف كان يأمل أن يعود إليه في يوم من الأيام.

3- أشار الأميري في خواتيم عدد من دواوينه وكتبه التي صدرت خلال حياته إلى وجود "مذكرات" مخطوطة له منحها أسماء مختلفة:

- ديوان "في رحاب القرآن": "مذكرات سياسية في عدة أجزاء" (ط. دار القرآن الكريم سنة 1392 هـ - ص124).

- ديوان "عروبة وإسلام": "مذكرات سياسية" و"في مواقف مغربية" (ص 85).

- كتاب "أم الكتاب": "صفحات مبعثرة.. من المذكرات.. والذاكرة" (ص 128).

- ديوان "نجاوى محمدية": "صفحات متناثرة من الذكريات والذاكرة" و"رسائل للتاريخ" (ص 377).

كما أشار في ورقة بخطه مما وقعت عليه إلى أن من آثاره المخطوطة "مذكرات سياسية" في جزءين، علاوة على "رسائل للتاريخ" و"حركة سورية الحرة" و"صفحات يمنية" بالإضافة إلى عدد كبير من الدواوين والأعمال الأدبية الأخرى.

4- فيما تبقى من أوراقه الخاصة في المغرب عثرت على مغلف صغير ضم مجموعة متباينة من دفاتر هواتفه خلال سنوات متعددة لوجوده في المغرب، كتب عليه بخط يده: "للنظر والمذكرات إذا امتد الأجل"، وأرخ لهذه العبارة بـ "غرة شعبان 1409" (وهو الموافق لشهر آذار/ مارس من عام 1989م).

على أن همة الأميري لم تلبث أن ذوت – كما يبدو – مع تقدم العمر واشتداد التكاليف، وانتصر وهن جسده المثقل بالأمراض والهموم على مطامح التوثيق والتسجيل، فتبددت الذكريات من الذاكرة، وتداخلت الصور والخواطر والأحداث، وأعلنت الشيخوخة التي دهمت قرارها الحاسم على لسان الأميري نفسه:

قطع النسيان عمري مزعاً=فكأني عشت عمري فترات

وانمحى من خلدي جل الذي=خضته في جلدي من غمرات

فلكم قص علي الصحب من=طرف الأخبار عني شذرات

وأنا أسمعها مبتسماً=وبقلبي من أساه جمرات

بقيت لي من حياتي صورٌ=عبرٌ حيناً.. وحيناً عبرات(1)

وهكذا فإن خلاصة ما انتهيت إليه بعد البحث والتمحيص، رجح لدي بأن الأميري لم يتم كتابة مذكراته – بكل أسف – أبدا، وظل ذلك أملاً يداعبه على الدوام، وأمنية يشاركه فيها كثير ممن عرفوه والتقوه، وما أشار إليه من "مذكرات" مخطوطة لم يغادر – كما تبدى – حدود "اليوميات" والمواد المصنفة، وبعض بدايات متفرقة أسماها بنفسه – كما قدم لذكرياته المنشورة في صحيفة "المسلمون" – "جذاذات" من أوراق فيها "بعض المذكرات.."!

ومما يؤسف له أن تلك "اليوميات" أيضاً، لم تسلم من عوادي الزمن، فضاعت أو تلفت، في جملة الكثير الذي ضاع وتلف من كنوز الأميري العلمية والثقافية والكتب والوثائق النادرة التي كانت لديه، فهو وحتى عندما كان على قيد الحياة، سبب اغترابه عن موطنه وانقطاعه عن العودة إلى مسقط رأسه "حلب" فقدان كثير من تلك الكنوز، إما لإهمال وعدم اعتناء من بقي من الأسرة هناك، أو لقيام بعض من استأمنهم على مجموعة منها بإتلافها خشية العواقب "الأمنية" علاوة على ما تشتت بالنقل بين سورية والمغرب، أو ما تسرب إلى أكثر من يدٍ بعد وفاته، وتوزع على أكثر من جهة، أو أخفي لسبب أو لآخر، ثم لم يعد له من وجود!

ولقد أشار الأميري بنفسه إلى بعض ملامح الفاجعة في سياق حديثه لمجموعة من "الإخوان" السوريين تقدمت الإشارة إليه، فبين أنه ترك مجموعة من وثائقه وأوراقه الهامة لدى صديقه الأثير "عبد الوهاب ألتونجي" قبل أن يغادر سورية أواسط الستينيات، لكن ظروفاً صعبة مرت عليهم جعلتهم ينقلونها من مكان إلى آخر، إلى أن قاموا آخر الأمر بإتلافها!

ومن جانبه حدثني منقذ الأميري أنه سأل والده مرة عن كتابة مذكراته وهو يراه يحث الكثيرين على ذلك، فأبدى له – كما أبدى لي عندما سألته عن الأمر مراراً – تثاقله من الأمر، وما يحتاجه من مساعدة في الكتابة والطباعة والتصحيح والتنقيح.. ثم انتهى إلى أن كشف له قيامه بإيداع أهم ما لديه من وثائق هامة لدى "أخ" لم يسمه، وأنه إذا أتت الظروف التي تبيح أو تتيح نشر بعضٍ منها استردها، وإلا فقد أخبر ذلك الشخص ما الذي يفعل بها!

ومما يجدر تسجيله بهذا الصدد، أن قرار أسرة الأميري بإهداء مكتبته لـ "دارة الملك عبد العزيز" في الرياض عام 2001م، شكراناً وعرفاناً منهم بجميل المملكة التي سمحت بأن يضم ثرى البقيع جثمان الفقيد، أسفر عن قيام مندوبين عن "الملحقية الثقافية" للمملكة في دمشق بالذهاب إلى دار الأميري الخالية بحلب، يصحبهم – كما أعلمني منقذ الأميري – أحد أبناء خالته وحسب، فملؤوا محتويات المكتبة في صناديق شحنت إلى الرياض،بما فيها من مخطوطات نادرة وكتب ومواد متنوعة، ثم ظلت الدار من بعد ذلك مهجورة سنوات طوالاً، فتشققت جدرانها، وتسربت الرطوبة والعفونة إلى ما بقي منها، وسطا على أهم ما بقي فيها "جيران" استأمنتهم الأسرة على تفقدها، فوجدوا غياب أصحاب الدار عنها ذريعة ليأخذوا الكثير من محتوياتها!

وقامت السفارة السعودية في المغرب بعمل مماثل، فنقلت مكتبة الأميري من بيته في "الهرهورة" بنفس الطريقة، وظل البيت من غير عناية سنوات عدة، منحت الرطوبة فرصتها لتعبث بما تبقى من أوراق الأميري والوثائق التي ظلت لديه، وتوزع الإخوة ما أرادوا من أهمها، وأتلف بعضهم وأحرق شيئاً مما رأى المصلحة في حرقه، وتنقلت البقية بين البيوت التي تنقلوا فيها، حتى قدر لي أن أصل إلى ما وصلت إليه منها، وأستنقذ بقاياها من العفونة التي غزتها، والإهمال الذي لازمها، وأخرج أهم ما تضمنته على صفحات هذا الكتاب، آملاً أن أكون وفقت في تأدية الأميري بعض ما يستحق من تقدير وتعريف، وأن أحفظ من تجربته الغنية ما يعين على إثراء المعرفة، وتنوير البصيرة، وترشيد المسير!

باسل الرفاعي أيلول/ سبتمبر 2010م

(1) الأميري: "نجاوى محمدية" ص 157 – 158 والأبيات مؤرخة بشهر شعبان 1393هـ (أغسطس 1973م).