وحوش ثقافية

كتب .. كتب .. كتب :

سبع وخمسون – حاتم عباس بصيلة:

د. حسين سرمك حسن

عن دار تموز للطباعة والنشر بدمشق ، صدر كتاب "وحوش ثقافية" للكاتب "حاتم عباس بصيلة" .

ضمّ الكتاب (117 صفحة) أكثر من أربعين مقالة تناول فيها الكاتب مختلف الظواهر الثقافية السلبية التي يزخر بها وسطنا الثقافي من النواحي الفكرية والسلوكية منها :

ديك ثقافي ، الكوميديا الثقافية ، اللغة والكأس الاخيرة ، الادباء والنساء ، مهازل الأدب الكاذب ، ثقافة الميني جوب ، العام الثقافي والشمر اللعين ، شتائم ثقافية ، أدب السلطة ، زمن الخيانات ، الشواذي ، المهزلة البشرية .. وغيرها .

كتب حاتم مقالاته بحرقة وحرص ودقة تشخيصية عالية وبإحساس قاهر بالمسؤولية . من مقالة "العام الثقافي والشمر اللعين" نقرأ :

(عام ثقافي دموي ، عام خسر فيه العراق الكثير الكثير من عمالقة الإبداع .. عام يمر والأعوام تأكل نفسها . . والمشيب يزداد .، وثقافة الباقلاء بالدهن الحر مازالت تجتر آلامها .. عام يمر والمسيح يُصلب كلّ لحظة ، ولا سلام ، ولا كلام ، يُطمئن هذه الروح المعذبة بين مخالب السنين .. عامٌ يمر ومازال الدجل الثقافي .. ومازالت الانتهازية تصول وتجول ، وأنت تتوهم مبادئك المرسومة في الخيال .. عامٌ يمر والكلاب البوليسية تعض الشرفاء .. عامٌ يمر ومازلتَ تحلم بشبرٍ لا يوجد فيه نفاق ولا دسيسة ثقافية) (ص 43) .

(خسر الأديب روحه ، وبالتالي خسر موضوعه ، ومن يخسر الروح إنما يخسر كل شكل من الأشكال التي يغلّف بها هذه الروح . ولأن الأمر كذلك ، ضاعت القيم الوجدانية الجمالية في الإنتاج الذي يحتاج إلى مساحة من الحرية تؤكد ملامح الروح الوجدانية فيه .
ويخسر الأديب روحه عندما يضع قبل قلمه وخياله الوجداني ، الأرباح ، التي يحصل عليها فيما لو كتب أو أنتج فنّه . وللأسف ، كان معظم الأدباء يفكر هذا التفكير ، فلم نجد أديبا يعيش مع الشخصيات عيشة حقيقية ليفهم ما يريد الإنسان العراقي إلا ما ندر ، وهذا النادر القليل يعاني من الإقصاء والتهميش والعبث لقتل طموحه) (ص 33) (من مقالة سحر الأدباء) .

(لقد كانت قصيدة واحدة تشعل قلوب عشرات النساء ، وكانت امرأة واحدة تشعل عشرات القصائد ، وكان الناس طيبين ، وكان لكلٍ دور لا يقل أهمية عن فيلسوف يرسم طريق الإصلاح للأمة بفكره الفلسفي .
فهل انفصلت المرأة عن الشاعر ؟! أم انفصل الشاعر عن المرأة ؟! أم هي الحياة القاسية التي أضاعت الأنوثة الرجولة معاً ؟! في وقت لا شاعرية فيه دون النساء ، ولا نساء مدلّلة بلا خبز ، ولا أدب جميل ، واحتلالٌ بغيضٌ يحيط به من كل جانب) (ص 22) (من مقالة الأدباء والنساء والاحتلال) .

(ميري تلك الشخصية الفذّة التي راقبتها وأنا طفل بعمق ، حين كان يُصلح نعلا ما . كان منحني الظهر لا يرى حتى من يتعامل معه ، لأنه مشغول أبداً بإصلاح نعل الآخرين ، وكانت الماكنة تشبه (ميري) فهي منحنية هي الأخرى (...) غابت تلك الأقدام التي تحتاج لإصلاح نعالها ، وظل في ذاكرتي رجل كالآلة يُصلح ما يخربه الناس في سيرهم السريع لحياة سريعة فانية ، لا تساوي نعلا مقطوعا ! لقد قدّم (ميري) خدمة جليلة لمجتمعه الفقير آنذاك ، والمستفقر في الوقت الحالي ، وهذه الخدمة لا تقل أهمية عن خدمة (شكسبير) الإنكليزي لأمته . بقي أن نقول أن سندانه كان مثل ساق مقلوبة ، وأجمل ما فيه هو منظره حين يتعشق الحذاء به بالمقلوب ، كأنه عالمنا المقلوب .. فتحيّة لصانع الحياة ، وتحية لأدب يصوّر ميري ، وأمثاله في دهاليز الحياة المظلمة ، لاعناً الملوك والمستبدين ) (ص 23 و24) (من مقالة الأدب والحياة .. أو "ميري") .

ذكّرتني هذه المقالات الحادّة الجارحة ، ذات المضامين الفكرية العميقة ، والمسحات الفلسفية ، واللمسات النفسية الماكرة ، بمقالات افتقدناها طويلا ، هي مقالات الراحل الكبير "حسين مردان" .. الكتابة الساخرة المرّة (السخرية السوداء) تكاد تكون مفقودة في الصحافة العراقية ، وقد جاء حاتم عباس بصيلة ليضع بصمته الشخصية في هذا المجال ، وذلك عبر الحديث المباشر المصوّب نحو جسد ثقافي تفتك به الأمراض والعلل بالرغم من كل محاولات الترقيع والماكياج الثقيل .. فتحيّة له .