الخلافات السياسية بين الصحابة

د.محمد ين المختار الشنقيطي

الخلافات السياسية بين الصحابة

 

تأليف: د. محمد بن المختار الشنقيطي

عرض: عبد الله زنجير

لابد للنظرية السياسية في الإسلام أن تتبلور، ولو على الورق، فباستثناء الشكل التركي الجديد الذي مزج بين التدين والحداثة وما يزال في طور الاختبار، أخفق المسلمون في ترجمة النموذج، بل لم يتفقوا على الأسس التي يجب أن تقام عليها الدولة، وهذه الحيرة أنتجت مجازر تشيب من هولها الولدان، وما النموذج الأفغاني عنا ببعيد!

ومنذ أن شطبت الخلافة العثمانية سنة 1928م وحلت الدولة القطرية المستوردة وحتى الآن لم تحسم لا بالرضى ولا الإكراه، أي من القضايا العالقة في عالم السياسة الشرعية الصحيحة، مثلما حكاها الوحي ومثلما يتوخاها المسلمون، الحرية، الاختيار، العدل، الشورى، الرضا، الكرامة، الأمة إلخ.. على الرغم من بروز محاولات من مفكرين وبحاثة حول هذه (الهموم) كبعض ما كتبه أستاذنا علي الطنطاوي والسباعي وقطب والعواد والنفيسي والصاوي، والترابي مؤخراً إلا أن الخرق ما يزال واسعاً على الراقع، وخصوصاً أننا الآن أمام العالم وجهاً لوجه مطالبون بتقديم البينة والكتب القيمة، ولسنا نعذر ونحن نرى سهولة التواصل وسيولة التبادل المعلوماتي، وبعد أن أحدث الثلاثاء 11 سبتمبر من زلازل لن تنتهي ارتداداتها إلى ما شاء الله، والخلاصة أن المكتبة العربية بشقيها التراثي والمعاصر، فقيرة من الفكر السياسي الإسلامي الذي يجب أن يكون واضح الوسائل والأدوات والمقاصد والغايات، ولم يعد كافياً الاكتفاء بالشعارات المهمة والمثيرة من قبيل "الإسلام دين ودولة" "والإسلام هو الحل" "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وغيرها من هتافات الإباء، فالتفاصيل مهمة جداً والتدرج يجب أن يكون سيد الموقف، وكما يؤكد العلامة الندوي فإن تفهيم الدين للناس يكون قبل إقامة الحكومة الإسلامية، والحرية تكون قبل تطبيق الشريعة مثلما يقول د. يوسف القرضاوي، ومن هنا كان لابد من العودة القهقرى إلى عصر الراشدين وتطبيقاتهم السياسية بنبوتها وبشريتها فهم أهل الرضى والرضوان.

(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) الفتح.

فهذه العودة من أهل العلم والاختصاص، هي من أولويات التأهيل الموضوعي المساعد، وهي المقدمة الطبيعية من أجل إعداد الكوادر والقيادات التي تفهم دينها وعصرها بعيداً عن التعصب والشطط والتطرف والتطفل والتزمت فالإسلام هو ملاذ العالم شاء من شاء وأبى من أبى، والحلم بالحكم العضوض وبأمثلته الصارخة من عثمانية وعباسية وأموية، لا صلة ضرورية له بالإسلام العظيم وتفاصيله الأخلاقية، ولا يلزم أحداً فنحن يجب أن نجيب على أسئلة الإنسان الكبرى: لماذا الإسلام؟ ومن أنتم؟ وما هو نموذجكم؟ وهل صورة صدام حسين أسيراً -في ثنايا هذه الصورة تمثلكم؟- أم ماذا؟ ناهيك عما يبثه أعداء الإسلام وأرباب المصالح وأبالسة الإنس والجن من شبهات وشهوات تؤخر معرفة الحق وإرجاعه إلى نصابه والتحاكم إليه!..

إن هذا الكتاب (الخلافات السياسية بين الصحابة) لسنيني الواثق الواعد الأستاذ محمد بن المختار القادم من بلاد النحو والنوق، شنقيط العرب والإسلام هو خطوة على الطريق الوعرة الوحيدة، يسهم في رفع الالتباس ونقد الذات وشمسنة ما شجر بين الصحابة الأحباء الأعزاء رضي الله عنهم جميعاً، وفق قراءة عصرية علمية عملية في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ، إنها (22) قاعدة ذهبية لترشيد الذهنية المسلمة دون تأزم وهزيمة زادتها تأصيلاً وتشويقاً مقدمة الأستاذ المفكر المهاجر راشد الغنوشي يحفظه الله، ومع الترحيب والثناء على هذا البحث، إلا أنني أسجل أصالة عن نفسي ونيابة عن المركز كما أعرفه، بعض نقاط الاعتراض المنهجية:

فالكاتب الكريم يميل لنفي شخصية عبد الله بن سبأ وتهميشها إلى حد التلاشي مع العلم أنها وردت في معظم المصادر التاريخية (سنية وشيعية) وكان لها دور من الأدوار الأساسية، وهو حسن الاصطياد في ماء الخلاف وتأجيجه وترويجه، ونحن نتفق مع الأستاذ الكاتب على عدم تحميل هذا النكرة كل الحكاية، وبالتالي لا يمكن أن يكون للأعراف الاجتماعية والتاريخية ذلك التأثير (البالغ) في إشعال الفتن السياسية بين الصحابة، فهذه مبالغة من الكاتب قد تفهم تبريراً لا تفسيراً، وهو ما يتعارض مع الشفافية العلمية لتناول المسألة من أطرافها مجتمعة وينسف من الموضوع مسؤولية اتخاذ القرار، وفي العقد الأخير لا يمكن المسلم أن يرضى بتبرئة قادة الجهاد الأفغاني الذين أوصلوا بلادهم إلى ما نرى، بحجة النزعات والنزاعات العرقية والقبلية! وكذلك فإن موقف السيدة عائشة أم المؤمنين من مقتل عثمان والفتنة الكبرى هو غير ما ذهب إليه الكتاب، وقد فصلت ذلك د. أسماء محمد أحمد زيادة في كتابها عن دور المرأة السياسي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وأيضاً فإن عدالة الصحابة وخصوصاً الكبار منهم والمبشرين بالجنة، هي أكثر وأكبر من مجرد عدالة الرواية مثلما ذكر المؤلف فهم خير القرون وخير البشر وخير الدنيا وما فيها، فالدخن قد يدخل في الدخلاء لكنه لا يكون مع حملة النور وحماته، ومقاصد القوم ونياتهم تسمو على التحفظ أو التردد، وقتالهم بكل مراراته ما كان إلا من أجل الحق والمواجهة في سبيل الحق الذي لا يقبل أنصاف الحلول كل من وجهة نظره في ظل غياب الوحي والنبي المعصوم عليه صلوات الله وسلامه، ولعل النظرية التحليلية لأهل السنة والجماعة، وهم معظم المسلمين هي الأقرب للإنصاف الحقيقي والمتحضر، كما تتطلبه عدالة الإسلام والشهادة على الناس، فقد استقروا على اعتبار الخلفاء الأربعة هم أصحاب الرشد والصواب وأن الانحدار بدأ وبرز مع الاستئثار والتوريث والأبطرة، وهو خطأ شرعي فادح جابهه وحيداً بأطفاله وآل بيته شهيد بيت النبوة الإمام الحسين رضي الله عنه، وإذا كنا نؤيد الكاتب الكريم في رؤيته الناقدة لما سماه: التشيع السني، ونبذه للتشدد والتكلف، فإننا لا نقبل من إخواننا الشيعة شعباً ومشايخ أن يظهروا أمام الفضائيات ووسائل الإعلام يلطمون أجسادهم بالسياط والجنازير، نحيباً على أيام كربلاء التي لن تعود، أو أن يتشبث كثير من دعاتهم باحتكار الحقيقة لهم وحدهم، دون أن يمدوا لنا يد التواصل والتعاون والتلاحم والتراحم، فالتعصب مذموم والبدعة هي البدعة.

لقد ذكرني الكاتب الفاضل بمقالة نيتشه: "من أراد أن يرتاح فليعتقد ومن أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل" فهو هنا يسير في حقل ألغام انفجر سابقاً بالإمام النسائي حين ضرب في جامع دمشق فمات من ذلك لأنه أتى برؤية لما جرى لم تعجب العامة والخاصة في ذلك الزمان، إلا أن شجاعة المؤلف العلمية وانحيازه للاعتدال وتحقيقه للمسلمات التاريخية ومساهمته الموفقة في إعادة تشكيل الصور وتعقيد عناصرها، هي مزايا نستشرفها في ثنايا بحثه تجعلنا نشد على يديه لإنجاز كتابيه القادمين عن السنة السياسية، والشرعية السياسية، إنه لم يترك لإعجابه بابن تيمية أن يثنيه للتنبيه على هناته هنا وهناك، ولم يترك لرؤاه الكلاسيكية أن تحول دون إشهار الحق الواجب.

إن هذا الكتاب مدد معرفي متقن ينقلنا لنسبية الأشياء والحقائق والوقائع، بعد أن أبعدتنا منهجية الداعية الأستاذ عمرو خالد عن قراءة الوجه الثاني من الصورة حين حلق بنا في علياء العاطفة، وهو يترجم لذلك الجيل من الصحابة والتابعين، مع أنه ليس بالعاطفة وحدها يحيا الإنسان.

إننا ننظر أن تضيء هذه القراءة شمعة في ظلماتنا السياسية، وتهيء لإعادة كتابة التاريخ بحلوه ومرّه، وبكل الأحوال لم يعترف العالم في تلك العصور بغير حضارة المسلمين وأمجاد الأندلس وصقلية وبغداد المحتلة والله من وراء القصد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

 

* رئيس أعضاء مجلس إدارة مركز الراية للتنمية الفكرية، كاتب وإعلامي سوري يؤمن بالوسطية والحوار وبإنسانية المشروع الإسلامي. صدرت له عدة دراسات وقراءات نقدية، تنتمي إلى مشروع الإحياء الشامل الذي في رواده الأفغاني وعبده والبنا.

منها" أفكار بلا أسوار" و"أوراق مسلم معاصر".