بحر المعرفة...

قصة الطيب صالح « يوم مبارك على شاطئ أم باب»* نص قصير متعدد المستويات، يبدو للوهلة الأولى نصا بسيطا يدور حول أسرة سعيدة مكونة من أب وأم وابنتهما، يقضون يوما ربيعيا هانئا على الشاطئ في منطقة ساحلية بدولة قطر اسمها «أم باب»، ويمرون بمغامرات صغيرة خلال سباحتهم في البحر، يخشون معها أن يغرق أحدهم أثناء السباحة، لكن اليوم ينقضي بسلام.

ذلك هو المستوى الأول للنص. حدث عادي مألوف، منسوج برهافة ولغة شعرية آسرة.

تستمتع بقراءته للمرة الأولى، لكن شيئا ما يدعوك إلى قراءته مرة ثانية، ومرات. وفي كل قراءة تكتشف أنك تنجذب برفق إلى شبكة من الدلالات التي تشع في كل اتجاه. فالبساطة الظاهرة ما هي إلا السطح الذي يشبه صفحة بحر هادئ. تبحر فيه مطمئنا مستسلما لتلك الوداعة الأليفة دون أن تدرك ما تختزنه الأعماق. تأسرك سلاسة النص، لكنك سرعان ما تتبين أنها السلاسة التي يكشف ظاهرها عن باطنها عبر إشارات يبثها الكاتب ببراعة مراوغة في ثنايا النص، تلمع بين السطور كبرق يومض ويختفي، ينير لك الحقيقة، ويقودك الهوينى إلى بحر آخر، هو بحر المعرفة الذي لا ساحل له ولا قرار.

تقرأ، فتشعر أنك تغوص في نص عميق الغور، كلما بلغت منه معنى تكشفت لك طبقات من معان خفية تغويك بمغامرة البحث من جديد، تمعن النظر داخل ذاتك، وتتمعن فيما حولك من آيات الخلق والمخلوقات، فتشرق في نفسك روعة الكون. تقرأ، فتجد ضوءا لا يشبه الضوء، بل طرائق من الضياء، تبزغ من السماء، ومن تحت الأقدام، ومن قلب الكون، ومن داخل النفس. يتوحد الإنسان بالكون على مرأى من البحر في وهج الضوء المحض، وكأن للضوء قوة جاذبة تمتص السابحين إلى جوفه، وتكاد تدخل بهم معارج السماء.

يتوحد الإنسان بالكون في لحظة كأنها لحظة الخلق الأولى، حيث بكارة الوجود لم تمس، لكنها تحس وتعاش. لحظة هاربة من أسر المكان والزمان والمتعين المرئي هنا والآن، يناوشها الواقع بنيران آبار النفط خلف التلال، وبالفتى الغر ممتطيا وحش الحديد، فظا، مقتحما لحظة الصفاء والانسجام الكوني العجيب، غارقا في بحر غروره واغتراره بآلته العصرية، لكن اللحظة غامرة، إذ سرعان ما يلفظه البحر، وكأنه شيء طارئ عكر صفوه وخدش وجه الجمال المطلق الذي يطل به على الكون، يلفظه فيعود له صفاؤه واكتماله فوق حدود الواقع والخيال.

إنه المطلق الذي لا يدرك. المحال الذي لا يتحقق إلا فيما يشبه معجزة تتولد من رحم البحر، ومن الضوء البحت، ودمع السماء المختزن في السحاب، ومن الشمس وذرات الرمال، ومن عمق الإيمان، ومن ذلك الضوء العلوي الذي لا يشبه ضوءا آخر، لأنه نابع من مصدر الضوء. نور على نور. إنها معجزة الصوت الذي ليس مثله صوت. صوت البحر نفسه، لا غير، إذ لا موج هناك ولا هبوب.

تقرأ فتجد الماء، الذي منه كل شيء حي، هو البحر وهو السحب الحبلى بالمطر، وهو دمع العين إذ ينهمر وجدا وحبورا وشجنا من ذوب القلب، مذوّبا أدران الدنيا، مطهرا النفس لتعود إلى أصلها الأول، نقية مبرأة من الدنس.

بالماء يتوضأ الوجود في حضرة خالق الوجود، لا فرق بين الإبل والبشر. الجمل الأحمر كينونة منفردة، محملة بالأسرار. يقف على التل، ويحدق في البحر، يرقب الحدث الكوني، كأنه حارس أمين أو عابد صامت يؤدي مهمة مقدسة يضن بها إلا على البحر. والسحابة العابرة وجلة، تنشر ظلها قليلا كي تشارك في فرح الوجود، تنتشي فتنثر حبات مطر لؤلؤية، ثم تلم أعطافها وترحل في سكون، لا يخدش جلال اللحظة.

الإبل وفوج النسوة المتلفعات بعباءات سود، كنساء النجف، يتوضأن جميعا في البحر. كل يرفع صلاته على طريقته. والصلاة ترتفع إلى معارج السماء، يسري بها براق محبة خالصة. تتناثر النفس ذرات تلتحم بكل ما في الكون. تصبح كل ذرة هي نفسها البحر والسماء والأرض والهواء والضوء. تلتئم الذرات المتناثرة لكي تعود إلى ذاتها، ولا تعود، لأنها تصبح الكون كله، فيطفر دمع الفرح مرا، حارقا، مالحا، وممتزجا بماء البحر، لا فرق.

كأن البحر نفسه قطرات دمع ذرفها بشر لا عد لهم منذ بدء الخليقة. وها هي دمعة الرجل قطرة من البحر وإليه تعود. يظل البحر مكتفيا لا ينتظر سوى شمس الله كي تمد أذرعها الألف لتحمل قطراته بخارا في رحلة سماوية، يتطهر ويعود إلى الأرض مطرا خصبا عفيا بكامل عافيته.

الرجل الأب يبكي والابنة رباب أيضا تبكي. ما الذي يدفع بالدموع إلى المآقي؟ لماذا ومتى نبكي؟

إننا نبكي من قسوة الألم، ومن تفجر الفرح داخلنا. فالدمع نبع يفيض حين تحتشد النفس بما لا يطاق، فقدا موجعا كان، أو أسى لا نستطيع رد النفس عنه، أو جرحا نازفا في صميم الكيان. وإننا لنبكي فرحا باكتشاف جمال الحياة، والجمال في الحياة، فتتوهج الدموع خلف الجفون، وتتداخل الحواس وتتراسل، فالعين تسمع والأذن ترى، والصوت يتراءى، والضوء يتجلى صوتا ونداء يغمر النفس عند لقاء الأحبة.

الرجل والمرأة هنا روحان تلاقيا وتآلفا من بين أرواح مختارة تظل تطلب بعضها بعضا، ولا تستقر حتى تجد إحداها الأخرى.

الرجل والمرأة هنا، وكأنهما أول الخلق، يلتقيان بغير ميعاد عند الروضة بجوار ضريح الرسول في لحظة مقدرة منذ الأزل، لحظة يجهلانها لكنهما يختزنانها إلى أن تندلع شرارة اللقاء، عندئذ يتعرف كل منهما على الآخر وكأنهما يقرآن معا المكتوب. يتقابلان في تلك البقعة، وكأنهما يكتشفان فردوسا أرضيا، يكتمل بهاؤه عندما يمنحنهما رب الكون نعمة إنجاب رباب.

رباب اسمها، كما السحاب الأبيض ،الابنة الطفلة التي لم تبلغ العاشرة، كانت تتعلم كأنها تتذكر أشياء عرفتها من قبل. إنها الرمز المحمل بالإشارات والدلالات. تلك الطفلة حلم تجسد بشرا سويا وعفيا، فارعة العود، لها عرف أسود يتراكم على كتفيها كجريد نخلة، عيناها الغريبتان تجرحان كسنى برق نجدي، تسبح حين تلقي نفسها في اليم بجسد شفاف ينزلق على صفحة الماء، كما ينزلق الشعاع على البلّور، وكأنها ماء يسبح في ماء. تنشد مع الأولاد بلغات قديمة منقرضة مثل كاهنة بابلية، ويصدح صوتها برنين كأجراس أديرة قديمة منقطعة في جزيرة. هي الابنة الوحيدة لوالديها، تتقطر فيها خلاصة الذرية التي لم ينجباها. هي من صلبهما، لكنها كأنها هي الأم والأب، تنقلب في حضورها الأدوار، تصبح هي العارفة، يتلقى الرجل الأب على يديها العلم، وما تجود به من معارف بشرية، وتلك المعرفة الأخرى اللدنية، الموهوبة لها من خالقها.

إنها تعرف من أين يأتي البحر بالحطب الطافي على سطحه، وتستطيع تحديد عمر جزء من قناة طافية ومن أين أتت، والعلاقة التاريخية بين زنجبار بشرق أفريقيا، وعمان على ساحل الخليج. وتعرف أحوال المناخ وعادات السكان.

رباب، تلك المخلوقة الأرضية التي لم تبلغ الحلم، تجمع في إهابها حكمة تعلو على قصور بعض أهل الأرض، فهي تدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فترى الإنسان، بل الكون كله، يصلي في كل وقت حتى لو كانت صلاته بلا ركوع ولا سجود. قلبها يتسع لكل صورة من خلق الله في كل زمان ومكان حتى لعبدة الأوثان في بابل القديمة، و لعبدة الرب في أديرة نائية. تترنم بأشعار عنترة الفارس العاشق، فتتداعى في ذهن الأب ذكريات عاشق آخر أحب، فعف، فمات شهيدا، أو لعله ذلك المتصوف الباحث عن الحقيقة. كلاهما أنشد شعرا شجيا متوهجا بالشجن والحنين، ظل صداه محفورا على جدران ذاكرتنا الثقافية. كلاهما، خلّد لأن أشعارهما كانت غناء خالصا لأرواح حيرى، قلقة، لكنها عذبة صادقة ونابضة بعشق لا تبلى مواجده، ولا تفتر حرارته أو يخبو وهجه على امتداد العصور.

ورباب يتسع قلبها فترى الشاطئ مرعى لإبل تصلي، وتتصوف مثل رابعة العدوية، وتحب الشهرزوري وابن الفارض، وأحب شيء إليها القرآن. تتوق للحج والوقوف بباب مسجد الرسول بالمدينة المنورة. تظل هناك خاشعة حتى تسمع النداء، يجئ من مصدر آخر، في زمان آخر، عندئذ يؤذن لها بالدخول، علامة القبول.

إنها روح الوجود. الجوهر الأنثوي للوجود. أيّ جمال هذا يعلو فوق كل جمال أرضي، وكل التصورات المتوهمة، ما كان منها، ما يكون، ما سوف يكون؟!

هكذا تتسع الرؤيا وتضيق العبارة، لكنها تنفذ من سن قلم الكاتب، فيخطها على براح الورق حروفا وكلمات وعبارات، فيها من الشعر رؤاه، وفيها من الفكر أرحبه، وفيها من البصيرة الفنية عمقا أخاذا، وفيها من إحكام السرد طرفا يحدق بذلك كله كما الغمام الولود.

إنها رؤيا لا تدعك إلا بعد أن تحرض فكرك وتحرك مشاعرك، فتنتبه على وقع الإشارات الخفية الواضحة. تغوص في مخزون الذاكرة الجماعية، منقبا مع الكاتب عن لآلئ تراثنا الأصيل، ومحتميا بجذور هويتنا الثقافة من هجوم واقع، طرأ عليه ما طرأ من تشوه وتدمير.

إنه ليس حنينا إلى الماضي بقدر ما هو دعوة لاكتشاف الذات الحضارية من خلال رؤيا للعالم تعيد إلى المؤتلف بهاء رونقه الأصلي، وتتسع لتضم المختلف بحب يفيض على العالم كله.

إنه نص يصاحبك كصديق أليف، لكنه يطلب منك عناء التأمل والإنصات والتبصر لكي يسوق إليك متعة الفن الجميل.

* نشرت قصة» يوم مبارك على شاطئ أم باب» للكاتب السوداني الراحل للمرة الأولى ضمن كتاب « مختارات من القصص القصيرة في 18 بلدا عربيا»، مركز الأهرام للترجمة والنشر، مؤسسة الأهرام، القاهرة، 1414هجرية - 1993 ميلادية، ص 157-166. ** الإشارة هنا إلى قصيدة « نار ليلى» لمحمد عبد الله بن القاسم بن مظفر الشهرزوري، وهو من أهم أعلام الشعر الصوفي، غير المعروفين على نطاق واسع. وتتناول القصيدة رحلة البحث عن الحقيقة المطلقة التي خرج في سبيلها الشاعر ليلا لعله يهتدي إلى نارها.

الصحافة

وسوم: العدد 646