كتاب مفاتيح الأذهان

       دراسات

1) المفتاح الأول: النبوّة والشّعر والذين استَهوتْهم الشياطين

2) المفتاح الثاني : أزمة القيادة أزمة عالمية ، لايختصّ بها شعب دون آخر، ولا جماعة دون غيرها!  

3) المفتاح الثالث:  عمرو بن هشام , وفلسفته السياسيّة الممتدة عبر القرون

4) المفتاح الرابع :    الإبداع الأدبي الإسلامي الحديث:

5) المفتاح الخامس : قيمة الشعر الحقيقية : أهي في المعنى ، أم في الصورة !؟

          المفتاح الأول 

            النبوّة والشّعر والذين استَهوتْهم الشياطين

قال تعالى:" وما علّمناه الشعرَ وما يَنبغي لَه "

أجَـلْ ،وما ينبغي له!لأنّ الشعراءَ " يتّبِعُهم الغاوون . ألمْ ترَ أنَّهم في كلّ واد ٍ يَهيمون . وأنّهم يقولون ما لا يفعلون " .

هكذا ، بوضوح عجيب " ما ينبغي لرسولِ الله أنْ يُعلَّم الشِعر"!

فالنبوّة والشِعر لا يلتقيان في قلبِ رجلٍ واحد ..

النبّوة وَحيٌ ربّانيّ ، والشعرُ تَخيّـل بَشريّ ..هذه واحدة . وأتباع ُالوحي ِالإلهيّ التّواقون إلى التمسّـك بحبلِ السّماء ، والسّيرِ على هَدي النبوّة ..يختـلفون عن أتباع الشاعر التّواقين إلى الاستمتاع بتخيّلاتِه وصوَرهِ وإبداعاتِه . وهذه الثـانية..

والنبيّ الذي يجتمع له الوحيُ الإلهيّ والشِعرُ ، فيقولُ مرّةً وحياً ومرّة شعراً .. يُربِك أذهانَ الناس ، فتختـلط عليهم الأمور ، وتلتبس المعاني ، ويَعجز الكثيرون منهم عن الفصل بين ما هو وحي وما هو شعر . وفضلاً عن ذلك ، فقولُ النبيّ للشعر يؤكّد في أذهان الناس ما يقوله عنه أعداؤه ، مِن أنّه شاعر .. ويَضطرب أمرُ الدعوة اضطراباً شديداً. . بلْ إنّ رسولَ الله (ص)، مِن حرصِه على إيصال القرآن إلى أسماع الناس ، خالياً من أيَّ لبسٍ أو اضطراب ، طَلبَ مِن أصحابهِ عدمَ كتابة سنّتهِ النبويَّة..وهذه الثالثة.

 ثمّ إنّ الوحيَ الإلهيّ طاهرٌ سامٍ ، ولا يَحُلّ إلاّ في وعاءٍ طاهرٍ سامٍ ، هو قلبُ النبيّ الذي أعَدّه الله لهذه الغاية . ولو امتلأ هذا القلبُ بالشعرِ وخيالاتهِ وتهويماته ، ومافيه مِن تصوّراتٍ مُسِفّةٍ حيناً وساميةٍ حيناً، ومعانٍ هابطةٍ حيناً وصاعدةٍ حيناً، ومشاعرَ ملوّثةٍ حيناً ونظيفةٍ حيناً، وكذبٍ مُزوّقٍ ، وافتراءٍ مزركَش ..وغيرِ هذا وذاك ..لو امتلأ القلبُ بهذا كلّه ، لَما عادَ وِعاءً طاهراً سامياً نظيفاً، جديراً بأنْ يحُلّ فيه الوحيُ الإلهيّ الطاهرُ السامي ..وهذه الرابعة .. وهي بيتُ القصيد في بحثنا هذا كلّه .

الأصلُ في الشِعر : فالأصلُ في الشعر إذَنْ ، أنّه مَطمَح الغاوين ومُتْعتُهم ، وأنّه مَدعاةٌ – أو دافعٌ – لِلهيام في أوديةِ المَعاني والأخيلةِ والتصوّراتِ المتنوعّةِ ، وأنّه قولٌ ، مجرّد قولٍ ، يَكتفي به صاحبُه عمّا يناسِبه مِن فِعل : " يَقولون ما لا يفعلون " هذا هو الأصلُ في الشعر ..

والاستثناءُ :" إلاّ الذين آمَنوا وعَملوا الصالحاتِ ، وانتصَروا مِن بَعدِ ما ظُلِموا .."

هؤلاءِ هم المُستثنَون مِن الشعراء .. وهمْ ، كَما نُلاحظ ، فئةٌ مِن أتْباع الوحيِ الإلهي ، الذين همْ – بحسَب الأصلِ – المؤمنون الذين يَعملون الصالحات. . ***                         

فإلى أينَ يقودنا هذا المَعنى ؟ يقودنا إلى النَظر في أصلِ الشعر ، مِن حيثُ هوَ شِعر ، ومِن حيثُ وظيفتُه في حياةِ الناس ..

وغَنيّ عن البيانِ أنّ النظرَ في الشعر ، مِن حيثُ هو شِعر ، سيقودنا إلى الدخول في صَميم العمليّةِ الفنيّة " الإبداعيّةِ " للشعر ، فنبحثُ في كتلةٍ معقّدة مِن العناصر المتشابكةِ ، التي تَتضمّنُها عمليّةُ الإبداع الشعريّ ،وأهمّها: اللاشعورُ وكيفيّةُ عملِه ، ومخزوناتُه ، والعواملُ الوراثيّةُ والبيئيّة التي شَحَنته بالمخزوناتِ العجيبةِ ، واللغةُ ومفرداتُها وعلاقاتُها ودلالاتُها ، وما استقرّ منها في أعماق اللاشعور ، وما طَفا على سَطح الشُعور ، ثمّ العلائقُ الموسيقيّةُ داخلَ الجملةِ والبيتِ والقصيدةِ ، وقبلَ ذلكَ ، الجرْسُ الموسيقىّ نفسُه ، المنبعثُ مِن خَلايا كلّ لفظة . ثم البيئةُ العامّةُ التي يَعيش فيها الشاعر ، وما فيها مِن مؤثّراتٍ وعناصرَ فاعلةٍ في نفسيّةِ الشاعر .. ثم الظرفُ النفسيّ الذي وُلِدت فيه القصيدة،  أو وُلِدت مِن جَرّائه ..ثمّ..ثمّ..ثمّ عناصرُ كثيرة جدّاً، ومتداخلة جدّاً ، تتفاعل كلّها لتؤثّر في النفسِ المبدِعة ..وكلّ هذا قبلَ أنْ نبحثَ في ماهيةِ المتلقيّ ، والأهميّةِ التي أولاه إيّاها المبدِع ، حينَ أبدَع له القصيدة . ـ وإنْ كان بعضُهم يزعم أنه لا يأبَه للمتلقّي . وهذا الزعمُ بحاجة إلى وقفة مطولة –. وواضح أنّنا ، لو أردنا الوقوفَ عند كلّ عنصرٍ من عناصر العمليّةِ الشعريّة " الفنيّةِ " لطالَ بنا الوقوفُ إلى درجةٍ لا يحتملها مثلُ هذا البحث.  وعلى هذا ، فحسبُنا أن نكتفيَ بتعريفٍ ما ، من تعريفاتِ الشعر ، لنتّخذَ منه تُكَأةً تُعيننا في البحث – ولو نسبيّاً –. فيمكن أن نكتفيَ بالقول مثلاً: إن الشعرَ فنّ قَوليّ ، يَهدف إلى إثارةٍ من نوعٍ ما - أيّ نوعٍ – من أنواع الإثارة في نفس متلقّيهِ (وترَكنا هنا ما يَدخل في الشعر مِن عناصرَ فنيّة ، كالوزنِ والصورة ). وهذا التعريفُ المبدئيّ ، يَجرّنا إلى البحث عن صيغةٍ أكثرَ تحديداً لوظيفةِ الشعر .

  فنسأل ببساطة متناهيَة :

ما وظيفة الشعر في الحياة ؟

وهنا نعود إلى وضْع أصابعنا على عنصرين هما:

- العنصرُ الجَماليّ ، الكامنُ في طبيعة الشعر بوصفِه فَنّاً.

-       والعنصرُ الوظيفيّ المباشر ..

-       وقد يبدو في هذا التقسيم شيء من الاعتساف ، إذْ مِن الصعوبة بمكان ، النظرُ إلى العنصر الوظيفيّ المباشر للشعر ، دونَ أخْذ طبيعتِه الفنيّة بعين الاعتبار . إلاّ أنّه لا بدّ لنا مِن مِثل هذا التقسيم النظريّ المبدئيّ ، تسهيلاً للبحث .

أ‌-     العنصر الجمالي" الكامن في الطبيعة الفنيّة للقصيدة " ( لن نتعرض هنا للبحث النظريّ المعقّد ، الذي لا نرى له جدوى عمليّةً في هذا المقام، والتساؤلاتِ المثارة فيه عن طبيعة الجمال : أهو ذاتيّ أم موضوعيّ ؟ أم ذاتيّ وموضوعيّ معا ً؟ وإذا كان ذاتياً فما الذاتيّ فيه ؟ وإذا كان موضوعياً فما الموضوعيّ فيه ؟ )

هذا العنصر بحدّ ذاته ، يحتاج إلى تساؤل حوله :

أهوَ مطلَق ؟ أعْني أهو مجرّد عن التوظيف لحسابِ فكرةٍ خيّرة أو شرّيرة ؟ فإذا كان الجمالُ – هنا في الشعر – مطلَقاً ، أو كان مطلوباً منه أن يكون مطلقاً ، وَجبَ علينا أن نتساءل : هل لهذا المطلقِ دَور ما – أيّ دور – يؤدّيه في حياة البشر أم لا ؟ فإنْ قيل : لا دَورَ له ألبتّةَ ..

قلنا : فلِمَ إذاً أبْدعَه صاحِبه ؟

وإن قيل عن دوره: هو الإثارةُ مثَلاً .

قلنا: إثارةُ ماذا ؟

فإن قيل : إثارةُ نَوازعَ بَشَريّة .

قلنا : ما هذه النوازع ؟

فإن قيل : نوازع حبّ الجمال والخير مثلاً ..

قلنا : هذه نوازع متفاوتة من شخص إلى آخر ، ومن بيئة إلى أخرى ..

وفي نهاية هذه الافتراضات ، لا بدّ لنا أن نقول : إنّ عنصرَ الجمال في الشعر ،وفي سواه ، عنصر نفعيّ بالضرورة بالنسبة للبشَر ، ولا يمكن أن يكون مطلَقاً ألبتّة ..فهو نسبيّ بالضرورة ، نفعيّ بالضرورة – وما زلنا هنا في الحديث عن عنصر الجمال ذاته ، ولمْ نتحدّث بَعدُ، عن العنصر الوظيفيّ النفعيّ المباشر –. وهنا لا بدّ من التفرقة بين النفعيّة غير المباشرة التي يتضمّنها عنصرُ الجمال ، وبين النفعيّة الوظيفيّة المباشرة التي يمكن أن يتضمنها الشعر في كثير من حالاته ، من حيث الدعوةُ المباشرة إلى مَكارم الأخلاق ..ونحو ذلك . وإذا وصلنا إلى هذه النقطة ، وهي أنّ عنصرَ الجمال ، هو نسبيّ نفعيّ – نفعيّة غيرَ مباشرة – بالضرورة ، وعلى من يدّعي غيرَ ذلك أن يثبتَ دعواه .. إذا وصلنا إلى هذه النقطة ، لا بدّ لنا أن نتساءل :

  أين دَور الشعر مِن دَور الدّين ؟

ويأتي الجواب ببساطة – برغم ما في البحث ذاته من تعقيد ، لدَى النظَر الدقيق – فنقول : للشعر ، مِن حيثُ عنصرُ الجمال الكامنِ فيه ، دَوران : دَور داخِل في دائرة الدور الدينيّ ، بمفهومه الواسع ، ودور خارج عن دائرة الدّين ..

وبمعنى آخَر : دور يرسّخ الخضوعَ لله والدينونةَ له ..

ودور : يدعو إلى التمرّد على طاعة الله ، والتفلّتِ مِن الخضوع له ..

فهل يَحتاج هذا الكلام إلى أمثـلةٍ تؤيّده أو تؤكّده ؟

حسن .. إننا نطالب أوّلاً ، مَن ينفي هذا الكلام ، أنْ يأتيَنا بقصيدة واحدة، أيّةِ قصيدة ، ممّا قاله الأوّلون أو الآخِرون ، ممّا أبدعتْه العربُ أو العجَم .. ليست في دائرة الدينونة للّه ، وليست خارجةً على هذه الدينونة ..

فليأتِ بها مَن يأتي .. ثمّ ليحاولْ إقناعَنا بأنّها ( مطلَقة ) ليست مع الدينونة لربّ السماوات والأرض ، وليست ضدّ هذه الدينونة – ونؤكّد على الدينونة بمفهومها الواسع الرّحب –!

بل نقول أكثرَ مِن ذلك : ليأتِنا آتٍ بأيّ شيء جميل ، فكرةٍ جميلة ، زهرةٍ ، صورةٍ ، وجهِ امرأة ، منظرِ حديقة .. ثمّ ليقلْ بعدَ ذلك : إنّ هذا الشيءَ الجميل ، - بلْ هذا الجمالَ في الشيء – هو جمال مطلَق غير موظّف في دائرةِ الدينونة لله – وهي الخيْر – أو ضِدّ هذه الدينونة – وهي دائرة الشرّ -!

كلّ جمال موظّف، بالضرورة، لحسابِ الخير أو لحساب الشرّ ..

واستعداداتُ النفوس البشريّة ، لها دور كبير في التأثر، سلباً أو إيجابا،ً فيما ترى وتسمع ..   فقد تحضّ صورةٌ جميلة  إنسانا،ً على السجود للّه ، وقد تَدفع إنساناً آخر، إلى ارتكاب  جريمةٍ ..

أمّا الجمال الذي لا يَدفع إلى خير ولا إلى شرّ ، فغيرُ موجود ألبتّة ..

وهنا نمسك بلِجام الشعر الجامِح ، لنشدّه بهدوء، إلى إحدى الدائرتين اللتين وردَ ذِكرهما في توطئةِ هذا البحث: دائرةِ ( الغِواية ) أو دائرةِ ( الإيمانِ والعملِ الصّالح )

ب-العنصرُ الوظيفيّ المباشر :

هذا العنصر لا يَحتاج إلى كبيرِ تأمّـل وعَناء ..فهو يتعلّق بالمضمون مباشرة . فالقصيدة التي تَحمِل في مضمونها معانيَ الخير والفضيلة والصلاح، وتدعو إلى مكارم الأخلاق .. تؤدّي دوراً خلقيّاً بنّاءً، في تفاعلِها مع عقول الناس وقلوبهم . والقصيدةُ التي تَحمل مضموناتٍ مغايِرةً لِما ذكِر ، أو مناقِضةً له ، تؤدّي دوراً هدّاماً ؛ إذ تخرّب نفوس الناس وعقولهم .. 

*

وهنا يُطرح سؤال جدير بالاهتمام برغم غرابته : وماذا تـفعل القصيدة الغامضة ، التي    لا يَفهم أحد شيئاً مِن مَعانيها ؟ هل تَبني النفوسَ أم تخرّبها؟ إنّ هذا السؤالَ غريب حقّاً! لكنّ غرابتَه مألوفة في عصرِ الغرائبِ هذا .. وعلى هذا لا بدّ من جواب ..! قد يقول قائل – ربّما مِن قَبيل الدّعابة -: هذا هو الجَمال المطلَق ، الذي لا يمكِن توظيفُه في خير ولا شرّ .. ولا يفيدُ البشريّةَ في شيء، ولا يَضرّها في شيء ..! ولو كان السياقُ سياقَ دُعابةٍ ، لأيّدنا هذا الكلام .. إلاّ أنّ الأمرَ يَختلف .. وهنا لا بدّ لنا من التنبيه ، إلى أنّ هذا النمطَ من الكلام ، أيْ الشعرِ الغامضِ ، هو جزء من نَسيج الموجةِ التخريبيّة السائدة، والمسماة " الحَداثة " . ولا بدّ أن يكون الحديثُ عنه في سياقِ الحديثِ عنها ، لأنّها استأثرتْ مِن بين عصور الأدب جميعاً ، بهذا النوع من الشعر . ونقول - ابتداءً -: ليتَ كلّ الشعر الذي حَملته إلينا موجةُ التخريب هذه ، كان مِن هذا القبيل – أيْ: مِن طِراز الشعر الغامض الذي لا يَفهم أحد منه شيئاً – إذنْ لهانَ الأمر ، ولكان بِوسعِ المرء أن يقول : واأسفاه على هؤلاء المساكين ، الذين أضاعوا أوقاتهم وأوراقهم في هذا العبث الفارغ ، وأساؤوا إلى أنفسهم ، إذ عرّضوها للاتّهام بضعف العقول وفسادِ الأمزجة ..  لا .. فمَن استطاع أنْ يقولَ هذا الكلامَ عن كَتَبةِ الشعرالغامض هذا ،لا يستطيع أنْ يقولَه عن الآخرين ، دعاةِ الضلالِ الواضِح ، أو سَدَنةِ الفِسقِ الفاضِح .. فلِهؤلاءِ شأن آخرُ مختلِف ! ولمّا كان التعميمُ في مِثـلِ هذه القضايا ، مَدعاةً إلى الزلَـل ، فإنّه لا بدّ لنا مِن اللجوء إلى تَصنيفٍ ما ، يُعيننا على التَوقّي ، تَوقّي الخَلطِ ، بينَ الأنماطِ الشِعريّةِ وأنماطِ الشعراء ..  ويمكن القولُ بشيء من الثّـقة : إنّ للشعراء أنماطاً لا تختلف عن أنماط البَشر العاديّين ، مِن حيثُ صحّةُ الاعتقادِ ، أو بُطلانُه أو فَساده ، ومِن حَيثُ طهارةُ الخُلقِ ،أو نَقاءُ السّريرةِ ، أو فساد هذا وتلـك .. وكلُّ ذلك استناداً إلى المقاييس الإنسانيّة العامّة ، التي تَرتكز في أصولِها إلى الوَحيِ الإلهيّ .. ـ وهو موحَّد الأصول ، ثابِتُ الدعائم على مرّ العصور . . فالأنبياءُ جَميعاً أرسِلوا لِيأمروا الناسَ بتوحيدِ الله ، وبالعملِ الصالح – . وأيّ مقياسٍ آخَر للفضيلةِ بمفهومِها العامّ ، يؤدّي بالضرورة ، إلى الفساد والاضطراب ، لأنّ اختلافَ البيئاتِ والمَشارِب والأزمِنة ، مَدعاة إلى اختلافِ المقاييس التي تَضَعها كلّ فئةٍ لنفسها ، وتَحتَكم إليها في قضايا القِيَم .. وفي هذا مِن البَلاءِ والضّياع ما فيه .. -       نَعود إلى القول : إنّ أنماطَ الشعراء ، بالقياس إلى وَحيِ السّماء – عقيدةً وخُلقاً – هي أنماطُ البَشر العاديّين ، وهيَ أربعةُ أنماط : -       النمط الأول :    همْ أصحابُ العقيدةِ الصّحيحة الصافية ، والعملِ الصالح ، الذين لمْ يَشوبوا إيمانَهم بظُلم وأخلاقَهم بسوء " الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات " مِن الصديقين والربّانيّين وحَواريّي الأنبياء ، ومَن همْ على شاكِلَتِهم ..    وشعرُ هؤلاء – إنْ كتَب أحدهم شعراً – إنّما يكون انعكاساً لصِحّةِ عقيدتِهم ، وحُسنِ أخلاقهم . النمط الثاني :  هو نمط المؤمنين الذين ارتكبوا بعضَ المعاصي ، " خلَطوا عملاً صالحاً وآخرَ سيّـئاً" . وشعرُ هذا النمطِ يَعكِس، غالبا،ً نفسيّةَ صاحبهِ ومزاجَه .. فالعصيانُ في الفِعل ، كثيراً ما يُواكِبه عصيانٌ في القول ، وكثيراً ما يكون في شعر هؤلاء ، نوع من المِجانَةِ أو التّماجُنِ .. وهمْ يَعلمون أنّهم يقولون ما يُناقض ما استقرّ في أعماقهم مِن قِيَم طاهرةٍ نَبيلة . النمط الثالث :  هو نمط المنافقين ، الذين يُظهِرون من القول خلافَ ما يُبْطنون من العقيدة ، وخلافَ ما يُمارِسون في حياتهم الخاصّة من سلوك .. وشعرُ هؤلاء غالباً ما يكون شعرَ مناسباتٍ خاصّة ، تتطلّب منهم أن يقولوا كلاماً يعتقدون خلافَه . كما أنّ مدْحَهم للحكّام وذَوي المَقامات يكون ، غالباً ، مِن هذا الطراز . النمط الرابع :  هو نمط الكفّار – على اختلافِ أنواعِ كُفرهم ، مِن رِدّةٍ وشِركٍ وغيرِ ذلك – ،وهؤلاء قلّما يَدعون إلى فضيلةٍ ممّا أَمَرتْ  بهِ تَعاليمُ السّماء ، بلْ الأصلُ عِندهم ، الدعوةُ العلنيّةُ إلى الكفر وما يَنبثق عنه مِن إباحيّةٍ وتَحلّل وسَفاهة .. ويَستخدمون الرّموزَ الكافرةَ ـ مِن وَثنيّةٍ وغيرِها ـ مثلَ رموزِ اليونانِ الوثَـنيّة ( آلهةِ الحُبّ – عِشْتار – كيوبِيد ..) ممّا طَهّرَ الإسلامُ منه النفسَ المُسلِمة . والغريبُ في أمْر هؤلاء، أنّهم نادراً ما يَستخدمون رموزاً وثنيّةً ممّا عَرفَته جاهليّةُ العَرب ، مِثلَ : هبَـل ، واللاتِ ، والعُزّى ، ومَناةَ ، وغيرِها ، إنّما استَهوَتْهم – ونَقصِد المُعاصرين – أوثانُ اليونانِ والرّومانِ وسِواهم . ولعلّ لِغلَبَةِ الحَضارةِ الأوربيّةِ، التي وَرِثَتْ وثَـنيّةَ أسلافِها اليونان ، أكبرَ الأثَر في أدَبِ هؤلاء المَسلوبين . حتّى إنّ " هبـَلَ " العربيّ ، أعادوه إلى أصْـلِه اليونانيّ " أَبولو " وصاروا يُمجّدونه . *  وإذا صَحّ ما ذكرناه ، وهو صحيح في جُملتِه ، وجَب علينا أن نضعَ أصابعَنا على أهمّ عناصرِ الفساد والإفساد ، ممّا يتجلّى في شعر هؤلاء ، الذين استَهوتْهم الشياطين ، فطفِقوا يُضِلّون ويُفسِدون، بحجّةِ الحريّةِ الفِكريّةِ حيناً، والإطْرافِ الأدبيّ حينا ً، و" الإبْهارِ ، والإدهاشِ " حيناً آخر .. ومِن أهمّ هذه العناصر: أولاً: عنصر الغموض – الذي أشرنا إليه آنفاً- وهذا أقلّ ما يقال فيه: إنّه عبَثٌ . ومِن أخطَرِ تأثيراتهِ ، أنّه يَحرِف عقولَ الناشئةِ مِن أصحابِ المَواهب ، ويُضلّلهم ، فيَحسَبون هذا الهُراءَ شعراً، فيَعكِفون على قراءتِه ،وعلى تقليدِه ،فيُضِيعون ما لدَيهم مِن مَواهبَ، فتخسرُها الأمّة ، بلْ يصبحُ هؤلاء الشبابُ – مع الزمن – عواملَ فسادٍ في هذا المجال ، لأنهم يصبحون شعراء مِن شعراء الغموض ، فيَدْعون غيرَهم مِن ناشِئةٍ جديدةٍ ، كَما دَعاهم غيرُهم مِن   قبلُ .. وهذا الجيلُ الجديدُ الآخَرُ يَدعو سِواه .. وهكذا .. فإذا تَصدّى هؤلاء لحَمْـلِ مسؤولياتٍ تربويّة معيّنة ، أَفسَدوا الأجيالَ التي يربّونها – ذَوقاً وفِكراً -.. ثانياً: استخدامُ الرموزِ الكافرةِ – مِن وثَنيّةٍ وسِواها – فتتلوّثُ بذلك عقائد الأجيالِ الناشئةِ التي تَقرأ هذه الرموزَ ، دون أنْ تكونَ لدَيها الحصانةُ الكافية التي تُحصّن عقائدَها ضدّ التشويهِ والفساد . ثالثاً: الإباحيّةُ والفجورُ والتحلّل الخُلقيّ .. ممّا تُسبّبه التعابيرُ الصّريحةُ والمُوحيَة ، مِن تَعابيرِ الشعراءِ وصوَرهِم ، في قصائدِهم التي تتحدّث عن الاتّصالاتِ الجنسيّة المحرّمة ، أو تُزيّنها بأشكالٍ شتّى .. رابعاً:الغمزُ واللمزُ والسّخريةُ .. مِن العقائدِ وأصحابِها ، ومِن القيَم الخُلقيّةِ والمتَمسكين بها.. ممّا يُسقِط هيبةَ العقيدةِ الربّانيّة وما يَستنِد إليها مِن قِيَمٍ وأخلاق .. خامساً: تحسينُ صوَرِ الدّعواتِ الهدّامةِ ، التي ظَهَرت في تاريخ هذه الأمّة ، مِن قرامطةٍ وحشّاشين وزَنْجٍ وغُلاةٍ ، ومنحرفين عَقَدياً. . وجَعلُ أصحابِ هذه الدعواتِ رموزاً بَرّاقةً جديرةً بالإعجاب والحبّ والاحترام .. بلْ والاقتداءِ بها ..

سادساً: تحطيمُ اللغةِ ، مِن خلالِ التراكيبِ الفاسدة ، والأخطاءِ اللغَوية والنحويّة .. إمّا عَمْداً ، وإمّا عَجزاً أو جهْلاً.

سابعاً:إفسادُ الذّوقِ ، بصوَرٍ منحرفةٍ ، أو شاذّةٍ ، أو سَخيفةٍ .. ممّا يَجعل القارئَ الذي يُكثِر مِن قراءةِ هذا العبثِ ، إنساناً فاسدَ المِزاجِ ، منحرفَ التفكيرِ ، مريضَ النفْسِ والخَيال . والغريبُ أنّه إذا احتجّ بعضُ ذَوي الأذواقِ السليمةِ على هذا الغُثاء ، اتّهموه بالجهلِ ، وضَعْفِ الخبرةِ والفَهم .. فيَسكتُ على مضَضٍ ، أو يَبدأ بالتصديق – تدريجيّاً- بأنّ هذا الأدبَ أدبٌ رَفيع ، وأنّه هوَ عاجِز عنْ إدراكِ رَوعتِه .. فيتَحطّم المقياسُ الذي يَقيس بموجبِه الحَسنَ والسيّءَ ، والجميلَ والقَبيح .. وعندَها يصبح ألعوبةً في أيدي العابثين والدجّالين ، وأصحابِ الأذواقِ المريضةِ والأمزجَةِ السقيمةِ ، والمخرّبين الذين يتعمدّون تخريبِ كلّ شيءٍ في هذه الأمّة ..

ثامناً: إنشاءُ أجيالٍ فاسدةِ الأذواقِ – فَنيّاً – وفاسدةِ الأمزجةِ والنفوسِ ، وفاسدةِ القَرائحِ ، وفاسدةِ العقائدِ .. لا تَعرفُ مَعروفاً، ولا تُنكِرُ منْكَراً في شيءٍ ، في عقيدةٍ ، أو لغةٍ ، أو خُلقٍ ، أو حِسّ جَماليّ .

تاسعاً: تَنفيرُ الأجيالِ مِن كلّ قديمٍ لقِدَمِه ، وحَضّها على التعلّقِ بكلّ حديثٍ لحَداثَتِه .. بلْ إنّ أحدَث الحَداثةِ ، يُعَدّ قَديماً ، إذا كان مخالفاً لِما يُريده المخرّبون ..

عاشراً: تحطيمُ عنصرِ الموسيقى ، مِن خِلالِ تَحطيمِ أصغرِ وحدةٍ موسيقيّة ( التّفعيلة) بَعْدَ تحطيمِ وحدةِ ( البَيت) ، فيصبحُ الشعر نَثراً عاديّاً، يَتضمّن بعضَ التّهْويماتِ السّخيفةِ .. فيَنهارُ بذلك الفنّ العربيّ الأول ( الشِعر) ، الذي يُعَدّ ديوانَ العَرب .  

                                              عبدالله عيسى السلامة

                                         المفتاح الثاني

    أزمة القيادة أزمة عالمية ، لايختصّ بها شعب دون آخر، ولا جماعة دون غيرها!

   إن استعراض أسماء القادة والحكام والزعماء .. الذين يحكمون شعوبهم ودولهم ، اليوم ، والذن حكموا من سنين ، بل من قرون .. إن استعراض أسماءهم ، والاطلاع على أوضاعهم وملكاتهم وإمكاناتهم وقرارتهم .. إن ذلك كله يؤكّد صحّة القول ، بأن أزمة القيادة هي أزمة عالمية ، ليست خاصّة بشعب ، أو بأمّة ، أو بعصر ..! 

       1) القادة أنواع :

القادة أنواع : منهم القائد العسكري ، والقائد الإداري ، والقائد السياسي ، والقائد الفكري ، والقائد الذي يجمع صفتين أو أكثر ، والقائد الشامل ، الذي تتحقّق فيه صفات عدّة ! كما أن منهم القائد الحاكم ، والقائد القبلي ، والقائد الحزبي ، والقائد الشعبي ؛ على مستوى الحيّ أو المدينة ! قد يكون القائد وراثياً ، وقد تأتيه القيادة عبر تفاعلات معيّنة ، في ظروف خاصّة ، سياسية واجتماعية .. يفرض نفسه من خلالها ، أو يختاره آخرون ! قد توجد في القائد بعض صفات الزعامة، وقد لا توجد ، وقد تُصنع له ظروف معيّنة، ليكون زعيماً ، يستقطب قلوب الجماهير فتحبّه ، وأيديَهم فتصفّق له ، وحناجرهم فتهتف له !

2) صفات القادة :

* للقادة صفات معيّنة ، ذكر الباحثون كثيراً منها ! بعضهم ذكر عشر صفات من أهمّها . وكلما اجتمع للشخص أكبر عدد منها ، كان أكثر تأهيلاً من غيره ، للقيادة.. منها :

 ـ الأخلاق الإنسانية الفاضلة ، المتّفق على سموّها ونبلها ، بين البشر العقلاء ، في سائر الأزمنة والأمكنة .. كالصدق ، والأمانة ، والإخلاص ، والحلم ، والحكمة ، والشجاعة ، والصبر ..

ـ المؤهّلات الخاصّة ، التي يحتاجها عمل القائد ، في مهمّته التي يتولاّها ! ومعلوم أن لكل نوع من القيادة ، مؤهّلات خاصّة به ! فالقائد الإداري ، يحتاج مؤهلات معيّنة للإدارة ، والقائد العسكري ، يحتاج إلى مؤهّلات ، تجعله قائداً جديراً ، ناجحاً في عمله ؛ كالخبرة العسكرية ، وحسن التخطيط ، والقدرة على إدارة الحروب بكفاءة ، وحسن اختيار القادة المعاونين ..! وكذلك القائد السياسي ؛ لا بدّ له من مؤهّلات ، تعينه على أن يكون قائداً سياسياً ناجحاً ، لاسيّما إذا كان حاكماً ! من أهمّها : العدل ، ومشاورة أهل الرأي والخبرة ، والقدرة على اكتساب محبّة الناس وثقتهم ! والحزم في موضعه ، والمرونة في موضعها ، والقدرة على الهيمنة على معاونيه ، وحسن توظيف طاقاتهم بالصورة الأمثل ، وفتح آفاق التفكير، ونوافذ الأمل ، لدى مرؤوسيه!

ـ قد توجد لدى فرد ما ، صفة من الصفات المطلوبة للقائد الناجح ، لكنها لا تكفي وحدها ، لتجعل منه قائداً عادياً ، لا ناجحاً ! كأن تكون لديه ملكة جيّدة ، في الخطابة أو الكتابة ، أو خبرة إدارية جيدة ، أو مؤهّل عسكري جيّد ، أو قدرة تربوية جيّدة ، أو ملكة جيّدة للاتصال بالناس وكسب ودّهم .. أو نحو ذلك ! لكن صفة واحدة من هذه الصفات ، لا تكفي .. كما لا تكفي مجموعة صفات منها ، إذا غابت الصفات الأخرى الأساسية ! فربّما كان من يملك بعض هذه الصفات ، عاجزاً عن جمع رجلين تحت قيادته ! وربّما كان يعاني من بعض الطباع غير الحميدة ، المتأصّلة في نفسه ، ولا يستطيع التخلص منها ، كالجبن الشديد ، أوالشحّ الشديد ، أو النزق ، أو الشرود الذهني ، أو الكِبْر، أو ضعف الثقة بالنفس .. أو نحوذلك ، ممّا يضعف قدرة الفرد على قيادة أتباعه ، بلهَ قيادةَ الناس !   

2) حظوظ الشعوب والأمم ، من القيادات ، عبر التاريخ :

* أثبت تاريخ الأمم والشعوب والدول ، عبر التاريخ المكتوب ، وعبر المشاهدات الحيّة ، التي يراها البشر ، اليوم ، أن :

ـ  القادة الأفذاذ ، في كل أمّة أو شعب ، وفي كل تخصّص .. هم نوادر !

ـ وأن القادة الممتازين ، والجيّدين جداً ، هم قلائل جداً !

ـ وأن القادة الجيّدين ، هم قلائل !

ـ أما القادة المتوسّطون ، فهم كثيرون !

ـ وأما القادة الضعاف ، فهم كثيرون جداً !

3) نماذج :

* نماذج من القادة العسكريين الأفذاذ ، على مستوى التاريخ الإنساني :

 ـ خالد بن الوليد في التاريخ الإسلامي .

 ـ نابليون بونابرت في التاريخ الفرنسي .

ـ رومل في التاريخ الألماني الحديث ، في الحرب العالمية الثانية .

ـ مونتغمري في التاريخ البريطاني الحديث ، في الحرب العالمية الثانية .

ـ جياب في التاريخ الفيتنامي الحديث ، في الحرب الفيتنامية ضدّ أمريكا .

ـ موشي دايان في التاريخ الصهيوني الحديث .

* نماذج من القيادة الشاملة ، على مستوى قيادات الدول والشعوب :

ـ عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي ، ومحمد الفاتح.. في التاريخ الإسلامي .

ـ كسرى أنوشروان في التاريخ الفارسي القديم ، والخميني في التاريخ الفارسي الحديث .

ـ اسكندر المقدوني في التاريخ اليوناني القديم .

ـ جوستنيان في التاريخ الروماني القديم .

ـ لينين في التاريخ الروسي الحديث .

ـ ماوتسي تونغ في التاريخ الصيني الحديث .

ـ المهاتماغاندي في التاريخ الهندي الحديث .

ـ تشرشل في التاريخ البريطاني الحديث .

ـ ديغول في التاريخ الفرنسي الحديث .

ـ ين غورون في التاريخ الصهيوني الحديث .

ـ الملك عبد العزيز آل سعود في التاريخ العربي الحديث .

* نماذج من القيادات الحزبية ، وقيادة حركات التحرّر من الاستعمار والطغيان :

ـ لينين في التاريخ الروسي الحديث ، قبل الاستيلاء على الحكم في روسيا .

ـ ماوتسي تونغ في التاريخ الصيني الحديث ، قبل الاستيلاء على الحكم في الصين !

ـ كاسترو في التاريخ الكوبي الحديث ، قبل الاستيلاء على الحكم في كوبا .

ـ عزالدين القسام في التاريخ السوري الحديث .

ـ عمر المختار في التاريخ الليبي الحديث .

ـ عبد الحميد بن باديس في التاريخ الجزائري الحديث .

ـ حسن البنا في التاريخ العربي الحديث ، في مصر.

* مهمّات القائد السياسي ( والقيادة السياسية هي أمّ القيادات ) :

  للقائد مهمّات عدّة ، من أهمّها أن يقود الجماهير نحو أهدافها ..

  وبناء على ذلك ، تبرز نقاط عدّة ، من أهمّها :

 ـ أن يحسن القائد تحديد الأهداف : الكبيرة والصغيرة ، الصعبة والسهلة ، القريبة والبعيدة ، الخطيرة والعادية .. ويحسن ترتيبها ، وتقديمها في الاهتمام ، حسب قائمة أولويّات دقيقة ، وإحساس عظيم بالمسؤولية عن هذا الترتيب ، الذي يؤثّر في حياة الأمّة تأثيراً كبيراً ، في حال الخطأ والصواب ! وذلك ، بالتعاون مع عقلاء الجماعة التي يقودها ، وأصحاب الرأي والاختصاص والخبرة فيها ، وحسب نظام الشورى ، الذي اختارته لنفسها ..!

ـ بعض القادة الضعاف ، أو الفاسدين .. يرتّبون أولويات تبنّي الأهداف ، والسعي إلى تحقيقها ، بطرق خاطئة ، أو مرتجلة ! فيقدّمون المهمّ على الأهمّ ، وغير الخطير على الخطير ، وغير المستعجل على المستعجل ..!

ـ وبعض القادة يجعلون من طموحاتهم الفردية الخاصّة ، أهدافاً للجماهير، فيقودونها نحو مغامرات مهلكة ، لتحقيق بعض رغباتهم ، أو نزواتهم ..أو للتنفيس عن أحقادهم، تجاه هذه الدولة أو تلك ، وضدّ هذا الحاكم أو ذاك !

ـ بعض القادة يجعلون أهمّ عمل لهم ، هو المحافظة على كراسي حكمهم .. ويسخّرون إمكانات الدولة ، كلها ، لتحقيق هذا الهدف !

ـ الحديث عن الأهداف ، يقود إلى الحديث عن المرجعيّات ، التي تحكم تحديد الأهداف ! فبعض القادة المستبدّين ، يَعدّون أنفسهم مرجعيات كاملة ، مستقلة .. لاتحتاج إلى مشاورة أحد من الأمّة ! وبعضهم يرجع إلى المؤسّسات التي تضبط حياة الدولة ، وسلوكات حكّامها وأفرادها ! وبعضهم لهم أيديولوجيات معيّنة ، يتحرّكون على ضوئها ، ويحرّكون الجماهير معهم ، لتحقيق الأهداف التي تمليها هذه الأيديولوجيات !

ـ كثيرون هم القادة ، الذين دمّروا شعوبهم ودولهم ، بنروات حمقاء ، داخلية أو خارجية ، في التاريخ القديم والحديث ! ومانحسب نيرون ، الذي أحرق روما ، وجلس يستمتع بمنظر اللهب المتصاعد منها ، غائباً عن أذهان من عرفوا شيئاً من تاريخ الأمم والشعوب !

خلاصات :

 ـ القيادات الفذّة ، لا تصنع صناعة ، بل هي استعدادات ومؤهّلات شخصية ، لأفراد معيّنين .. تجد مناخاً يصقلها ، و يحرّضها ، ويدفعها إلى البروز والارتقاء !

وقد ورد في الحديث النبوي : الناس معادن ؛ خياركم في الجاهلية ، خياركم في الإسلام .. إذا فقهوا !

 والشاعر يقول :

    لا يَصلح الناسُ فوضى ، لا سَراةَ لهمْ      ولا سَراة ، إذا جهّـالهمْ سادوا

ـ لو كانت الشعوب والمجتمعات ، والحضارات والثقافات ، هي التي تصنع الزعامات ، كما تنتج مصانع السيارات ، مئات الآلف منها كل عام .. لصنعت زعامات فذّه بالملايين !

فلو كانت فرنسا ، هي التي صنعت ديغول ، لصنعت مئات الآلاف من أمثاله !

ولو كانت الهند ، هي التي صنعت المهاتما غاندي ، لصنعت الملايين من أمثاله !

ولو كانت الصين ، هي التي صنعت ماوتسي تونغ ، لصنعت الملايين من أمثاله !

ولو كانت جماعة الإخوان المسلمين ، هي التي صنعت حسن البنّا ، لصنعت المئات ، أو العشرات من أمثاله !

ـ أسباب العجز البشري ، عن صناعة الزعامات ، متنوّعة .. من أهمّها :

*) ماذكِر آنفاً ، من أن الملكات الخاصّة ، والاستعدادات الفطرية ، والظروف الاجتماعية والسياسية ، وغيرها .. تسهم ، متضافرة ، في تشكيل ملامح القائد ، وإبرازه في الساحة ! وقد تتشكّل ملامحه ، ولا تتاح ظروف مناسبة لإبرازه ! فيظلّ في الزوايا المعتمة ، حتى يموت !

*) المناخات السياسية ، الدكتاتورية منها والديموقراطية ..عاجزة عن صناعة القادة ، لأسباب تتعلق بكل منها .. كما تتعلق بطبائع البشر؛ من حيث كونهم أفراداً ، ومن حيث كونهم أعضاء في تجمعات بشرية..

- فالمناخ الديكتاتوري يقمع الكفاءات المميّزة ، ويحجبها عن النور، كيلا تنافس الحكّام المستبدّين ، الذين يحرصون على التفرّد والتميّز! والرجال الذين يصطنعهم الحاكم المستبدّ ، إنّما يصطنعهم لنفسه ، ليدوروا في فلكه ، ويخدموا سياساته ! فهو يدني منهم من يشاء ، ويقصي من يشاء .. وفقاً لمصلحته ، لا لمصلحة الوطن والشعب !

- والمناخ الديموقراطي تتنافس فيه كتل بشرية ، قلما يميّز أكثرها ، بين الكفاءة الحقيقية والكفاءة الزائفة ! وتقودها نخب  تتنافس على كسب تأييدها .. وربّما كان أكثر هذه النخب ، من الأنواع الزائفة ، التي تجيد المكر والخداع والنفاق ، وحسن التملق للجماهير، لترفعها إلى مواقع القيادة ! وهي ليست حريصة على أن تصنع قيادات حقيقية ، تنافسها في ساحة العمل السياسي ، وتصادر منها المناصب ، بطوعها واختيارها ! أمّا الحالات النادرة ، التي يحرص فيها حاكم فرد ، على صناعة زعامات مؤهّلة ، في بلاده .. فلا يقاس عليها ! وهي ، فيما نعلم ، شديدة الندرة ، في حياة المجتمعات البشرية ! وهاهي ذي تجارب الأحزاب ، الديكتاتورية والديموقراطية على حدّ سواء ، ماثلة أمامنا .. نراها صباح مساء ، في أرقى دول العالم ، وأكثرها تمدناً وتحضراً .. ماكان منها ديموقراطياً ، وماكان دكتاتورياً ، وما كان بينَ بينَ ! 

 *) فلسفة أفلاطون النظرية ، في صناعة الزعامات ، في كتابه المشهور الجمهورية.. عبر عزل الأطفال ، وإخضاعهم لامتحانات متعدّدة ، يصل في نهايتها الفلاسفة ، إلى قيادة الدولة ..هذه الفلسفة ظلت فلسفة (أفلاطونية!) ، غير قابلة للحياة ! والتجارب العملية ، التي قامت بها بعض الأحزاب المعاصرة ، كالحزب النازي في ألمانيا ، والحزب الشيوعي في روسيا .. لم تفلح في صناعة زعامات ؛ بل في صناعة كوادر بشرية حزبية ، هنا وهناك.. تخدم الحزب ، وتسبّح بحمد قائده الأعلى،  الذي قد يصل إلى موقعه ، بالمكر والخديعة ، والتسلق على أكتاف رفاقه ، والوشاية بهم ، والغدر بمن ينافسه منهم! ومن باب أولى ، ألاّ يسمح نظام الحزب الديكتاتوري،  ببروز زعامات منافسة للقادة الحاكمين .. حتى لو حرص الحزب ، على إنشاء كوادر لها أهليات معيّنة !

*) الشروط التي وضعها بعض علماء المسلمين ، للحاكم المسلم ، ومنها : الذكورة ، والبلوغ ، والحرية ، وسلامة الحواس ، والعقل ، والعدالة ، والعلم الشرعي ، وغيرها.. ليست هي صفات القائد المؤهّل ، بالضرورة ! بل هي الحدّ الضروري ، الذي لايصحّ أن يكون المرء حاكماً ، دون توافره ! أمّا الصفات الأخرى ، التي يحتاجها القائد المؤهّل المميّز.. فالحديث فيها مختلف ! وأمّا صناعة القادة ، فلا نعلم أن أحدا من علماء المسلمين القدماء ، تعرّض لذكرها ! وأمّا الصفات التي وردت في سير بعض القادة العظام ، من حكّام المسلمين ، الذين أنجزوا للأمّة أموراً عظيمة.. فإنّما هي مؤشّرات ، يمكن الاستئناس يها ، ووضعها في حقول الدراسات النظرية.. ليفيد منها الباحثون في أمور القيادة والقادة .. بصفتها نماذج مميّزة ، ضمن ظروفها وسياقاتها التاريخية .. يمكن الإفادة من تجاربها ، ضمن ظروف مشابهة !

                             13/7/2008     عبدالله عيسى السلامة

                                  المفتاح الثالث

عمرو بن هشام , وفلسفته السياسيّة الممتدة عبر القرون

أ‌-     فلسفة عمرو بن هشام السياسيّة:

حين دمغت الأدلّّة الساطعة , لنبوة محمد , صلّى الله عليه وسلم , عمرو بن هشام المخزومي، المدعوّ"أبا الحكم", والذي سمّاه النبّي"أبا جهل".. حين دمغته الأدلّة الساطعة, ولم يجد تهمة يلصقها بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم  بعد أن بارت سائر التهم التي جرّبتها قريش"ساحر- كذاب-مجنون.."..حينذاك لم يجد أبو جهل أمامه سوى الاعتراف بالسبب الحقيقي الذي يمنعه من الاعتراف بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم :

"كنا نحن وبنو عبد مَناف كفَرسَي رهان ,أطعموا فأطعمنا, وسقوا فسقينا.. والآن يقولون : ظهر منّا نبىّ . فمن أين نأتيهم بنبّي ؟ كلاّ والله .. لن نسلّم لهم بهذا أبداّ..!

إذن هو الخوف, الخوف على الزعامة , وعلى السيادة, ذلك الذي منع أبا جهل، من الإقرار بنبّوة محمد .. بل دفعه وعشيرته والمتنفذين من العشائر الأخرى, إلى محاولة منع محمد صلى الله عليه وسلّم من مجرّد نشر دعوته بين الناس , لا بين صفوف قريش فحسب . وكان طلب محمد صلى الله عليه وسلّم الأساسي منهم, هو أن يتركوه يدعو الناس :"خلّوا بيني وبين الناس ". وهم يصّرون على محاصرته بشتىّ السبل ,منها قولهم :"لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه". ومنها قولهم:"إنْ هذا إلا أساطير الأولين".

فالسبب الحقيقي لدى أبي جهل وعشيرته وأضرابه , في السعي لمنع الإسلام والمسلمين من حرّية الحركة في مكة,هو سبب سياسي بالدرجة الأولى "الخوف من ضياع الزعامة والسيادة والهيمنة والنفوذ..".

ب- فما السبب الذي يدفع أبناءه اليوم, وأبناء حليفه عبد الله بن أبي بن سلول, رأس النفاق ورمزه التاريخي.. صاحب فلسفة:"وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا,وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم , إنّما نحن مستهزئون". ما الذي يدفع هؤلاء الأبناء إلى محاصرة الإسلام ومنعه من حرّية الحركة،في بلاد تدين أكثرّية أهلها الساحقة بالإسلام !؟ مع التذكير بأن البنوة متعددة الوجوه, منها العقدي والفكري والخلقي..

لماذا لا تسمح الأنظمة الحاكمة في كثير من بلاد العرب والمسلمين,(بقيام أحزاب سياسيّة على أساس دينيّ )!؟

أمّا الأسباب التي تلوكها هذه الأنظمة صباح مساء, فقد باتت معروفة, منها:

*"عدم الخلط بين الدين والسياسة"! لماذا؟ لأن (خلط الدين بالسياسة يسئ إلى الدين,ويشوّه نقاءه, وصفاءه, وطهارته, وسموّه..!) فينبغي أن يظّل الدين بعيداًًً عن السياسة, وبالتالي بعيداً عن حياة الناس . لأن السياسة في حقيقتها كالماء و الهواء والغذاء , في المجتمعات الإنسانيّة. وهي في العصر الرّاهن , متغلغلة في كل شيء، في الماء والغذاء والدواء والمسكن والملبس والأرض والجو والبحر .. و في كل ما تلقفه الحواس البشريّة الخمس من موجودات الحياة ..

فإذا غاب الدين عن السياسة, ظل محافظاً على صفائه ونقائه وطهارته, فلم تلوثه السياسة بأدرانها ..! وبالتالي , تظّلّ السياسة محافظة على ما فيها من فساد ومكر وخبث وتآمر وجشع وحقد ! أي تظَل مستنقعاً آسناَََ لا يطهره دين ولا خُلق! وتظل المجتمعات البشرية , بناء عليه، خاضعة  لمعطيات  السياسة، لا يطهرها الدين بطهارته ، ولا يقيدها الدين بتشريعاته وأحكامه

الربانيّة  السامية، ولا يصفيها بأخلاقه الرفيعة الكريمة0ومن أراد أن يظل صافياً طاهراً نقياً من البشر، فعليه بدور العبادة يلزمها ولا يغادرها ،"ويترك السياسة لأهلها"!

هذه هي المعادلة"لا دين في السياسة،ولا سياسة في الدين". وهذا ما تؤدي إليه في حياة الأفراد والمجتمعات..

وهذا هو السبب الأول الذي يطرحه "المتنورون"! وهو مفهوم غربي أفرزته  تفاعلات المجتمعات  النصرانية  الغربيّة،وصراعاتها  فيما بينها "بين  الساسة ورجال الكنيسة "..

ومادام غربياًً فهو(تقدّمي) بالضرورة ،(رائع  راق  صالح)  بحكم طبائع الأشياء، وإلا فما  معنى  أن يكون غربياً!؟  ومجرد  الاعتراض   على تطبيقه   في بلادنا، معناه  "التخلف  ، والهمجية، والانغلاق، والتعصب، والجهل والتأخر، والفساد، والضياع ، و..التلاشي.. !"  

 أما الديموقراطية (الغربيةّ),المواكبة لهذا المفهوم (الغربيّ),فلا تناسب مجتمعاتنا,"لأن لكل بيئة خصوصياتها"و"ما يصلح لبلاد الغرب لا يصلح  بالضرورة لبلادنا"!

فهل هذه "العبقريّة!" نابعة من فلسفة (أبي جهل),أم من فلسفة (عبد الله بن أُبي بن سلول),أم هي مزيج مبتكر مطور من الفلسفتين معاً!؟

*والسبب الثاني الذي يطرحه مانعو الفكر الإسلامي من المشاركة في الحياة الإسلاميّة, هو "الخوف على حقوق الأقليّات غير المسلمة"!

طرح الفكر الإسلامي في العمل السياسي العام , يؤثر على حقوق الأقليّات غير المسلمة! صحيح أنّ الأكثريّة الساحقة من الشعوب المسلمة تدين بالإسلام, وتؤمن بأحكامه, وتشريعاته, وأخلاقه, وآدابه, ويرتبط به وجودها, وماضيها, وحاضرها و مستقبلها..إلاّ أنّ هذا لا يعني ألبتة ، أنها يجب, أو حتى يجوز,أن تحكم بالشريعة الإسلاميّة , والقوانين الإسلاميّة, لأنّ هذا يؤثر على مشاعر الأقليّات غير المسلمة، وربما يؤثر على مصالحها "دون النظر إلى حقيقة تعامل الإسلام مع الأقليّات في نصوصه الواضحة, وفي تاريخه الناصع , وما لقيته الأقليّات من رعاية في كنفه ,لا تحلم بها حتى في البلاد التي تنتشر فيها عقائدها"..

واستناداً إلى هذا الخوف على مشاعر الأقليّات ومصالحها,لا يجوز طرح الفكرة الإسلاميّة في المعترك السياسي . وبالتالي يجب منع الأحزاب الإسلاميّة في بلاد المسلمين, من العمل , بل لا يجوز أن يرخص لها بالعمل أساساً.. صحيح أنّ الأحزاب النّصرانيّة في بلاد النّصارى في الغرب يحقّ لها العمل , بأسماء مختلفة "الحزب الديموقراطي المسيحي..".. و صحيح أننا نستورد تقليعات الفكر السياسي الغربي بصورها المختلفة .. إلاّ أنّ الأمر يختلف هنا , في هذه القضيّة بالذات !

نصارى الغرب يحق لهم في بلادهم تشكيل أحزاب على أسس دينيّة, دون النظر إلى مشاعر الأقليات غير النصرانية في بلادهم . أما مسلمو الشرق فلا يجوز لهم ذلك !لأن مشاعر الأقليات غير المسلمة عندنا مرهفة جداً،بخلاف مشاعر المسلمين الذين ’يمنعون من تطبيق أحكام دينهم في بلادهم .. وكذلك لأن مصالح الأقليّات غير المسلمة في بلاد المسلمين ، أهم من  مصالح المسلمين الطامحين إلى تطبيق شريعتهم وقوانينها في حياتهم اليوميّة،في بلادهم !

والطريف أن حكام المسلمين الذين يحولون قسراً،وعن عمد وتصميم، بين المسلمين وأحكام دينهم.. الطريف أن هؤلاء الحكام يزعمون أنهم ينتمون إلى الأكثريّة المسلمة في بلاد المسلمين..! والأطرف ،أن بعض أبناء المسلمين يصدقونهم- أو يحبون أن يصدّقوهم- في هذا الزعم ، مادام هؤلاء الحكام يعلنون بألسنتهم أنهم مسلمون ! وفقهاؤهم "الأجلاّء"يتصدون لكل من يشكك بأيّ منهم ، مرددين الحديث النبوي المعروف:"هلاّّّ شققت عن قلبه "!؟ وكأن أفعاله وممارساته العلنيّة الصريحة تركت في قلبه شيئاً مستوراً يحتاج إلى شقّ الصدر لمعرفته!

*أما السبب الثالث الذي يعلنه بعض الحكام ، لمنع الأحزاب الإسلاميّة من النشاط في بلادها، فهو الخوف من أن تبادر الأقليّات غير المسلمة ،إلى تشكيل أحزاب دينّية خاصّة بها . وهذا يؤدي إلى (زعزعة الوحدة الوطنيّة ) ! وكأن هذه الأقليّات ممنوعة أساساً من التكتل ، وخوض الانتخابات النيابيّّة ! بل كأنها ليس لها"كوتا" انتخابيّة في كل بلد مسلم توجد فيه .. وكأن هذه "الكوتا" لا تعطيها حجماً في المجالس النيابيّة ، يكافئ حجمها البشري في الدولة ، ويزيد عليه قليلاً، حتى لو كان حجمها لا يساعدها على إيصال نائب واحد إلى "البرلمان" !

والطريف هنا أيضاًً أن هذا الخوف من مبادرة الأقليات الدينيّة إلى تشكيل أحزاب تنافس الأحزاب الإسلاميّة..لا يكافئه خوف من الأقليّات العرقيّة المسلمة ، من أن تبادر هذه الأقليّات إلى تشكيل أحزاب ( عرقيّة ) تنافس الأحزاب القومية العربية..! لماذا؟ لأن الأقليات العرقيّة المسلمة لا تدعمها دول غربيّة "أولاً ".

ولأنها تبقى مسلمة مهما اختلفت أعراقها "ثانياً ".

ولأن مشاعرها ومصالحها غير محترمة من قبل حكام بلادها "ثالثاً". بل لأنها مقموعة مسحوقة في بلادها كأكثريّة المسلمين "رابعاً".

هذه هي أهم الأسباب التي يتذرع بها حكام المسلمين ، لمنع قيام أحزاب إسلاميّة في بلاد المسلمين .

وهي ذرائع ظاهرٌ كل ما فيها من "منطقيَّة.. ووجاهة"!

ج-أما السبب الحقيقي والأقوى ، فهو ذلك الذي أشار إليه صراحة عمرو بن هشام "أبو جهل"..إنه الخوف من انتزاع السيادة ،أي من انتزاع السلطة ، وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين ..

كيف؟ إن الأحزاب القوميّة العلمانيّة عامّة ، لا رصيد لها في صفوف الشعوب المسلمة ..هي تعرف هذا، و الشعوب تعرف هذا .

" وبالطبع إشارتنا إلى هذه الحقائق ، لا تعني أننا هنا نهاجم هذه  الأحزاب ، أو نودّ الغضّ من شأنها أو التقليل من أهميّّّّّّتها .  فما هذا من شأننا هنا، ولسنا بصدده".

وبناء على ما تقدّم، من ضعف رصيد الأحزاب القوميّة واليساريّة لدى الشعوب، يتصدّى الحزب الحاكم، سواء أكان قوميّاً أم يساريّاً ، أم حتى ليبراليّاً ، لمنع الأحزاب الإسلاميّة التي يمكن أن تهدد سلطته في صناديق الاقتراع ، متذرعاً بالحجج المذكورة آنفاً.. وفي الوقت ذاته يسمح للأحزاب الأخـــرى"ليبراليّة-قوميّة- يساريّة..." بالعمل السياسيّ لأن "الديموقراطيّة" تقتضي ذلك! ولأنه إذا منع هذه الأحزاب من العمل السياسي ، سوف يُتهم بالاستبداد والدكتاتوريّة والتسلط وقمع الرأي الآخر ..

وبالتالي "عدم الديمقراطيّة" ! وهذا يزعج الدول الغربيّة الديموقراطيّة، ويزعج منظمات حقوق الإنسان !

لذا، يقول الحزب الحاكم لنفسه ببساطة : نحن والأحزاب الأخرى غير الإسلاميّة، كأفراس رهان في ساحة المنافسة السياسيّة .. كلنا متقاربون في الحجم ، ومتقاربون كذلك في الرصيد الشعبي "فكلنا في الهمّ شرق"!. لذا ، لا يخيفني -أنا الحزب الحاكم –أي حزب غير إسلامي. فبالإضافة إلى تقارب أحجامنا وأوزاننا وأرصدتنا الشعبيّة ، فإن شعاراتنا وبرامجنا السياسيّة متقاربة كذلك ، من حيث أهميّتها لدى الشعوب المسلمة ، التي لم تستطع أحزابنا التجذر فيها، بسبب ما تحمله هذه الشعوب من عقيدة إسلاميّة وقيم إسلاميّة ..

والخطر كله يكمن في الأحزاب الإسلاميّة ، وشعاراتها وبرامجها .. فهذه ستعزلنا عن الشعوب، وتهيمن على الساحة ، وتحصد الأكثريّة الساحقة من أصوات الناخبين المسلمين . وها هي ذي تجارب الانتخابات في العالم الإسلامي كله ، أدلة ساطعة على هذه الحقيقة ..

فما الذي ينبغي فعله، والحال هذه ؟ هل ثمّة أسلوب أفضل "للديموقراطيّة" من منع الأحزاب الإسلاميّة ‍!؟ بالطبع لا . وإذن ,لا بدّ مما ليس منه بدّ- إذا أردنا أن نعيش !-.

حتى إنّ بعض الساسة يعلنها صراحة :" لن نسمح بالجزأرة في بلادنا ". وبالطبع يعني أن تجري انتخابات حرّة يفوز فيها الإسلاميوّن , فتضطر الفئة الحاكمة إلى إلغاء الانتخابات وزجّ الفائزين فيها في السجون , فتنشأ مجازر نتيجة للفعل و ردّ الفعل , كما جرى في الجزائر.

د- و الحلّ!؟

أليس ثمّة حلول أخرى , أمام الأحزاب الحاكمة في العالم الإسلامي , سوى منع الأحزاب الإسلاميّة – بقوانين!- من ممارسة حقوقها السياسيّة المشروعة في بلادها !؟

و إذا كان هذا الحلّ بطبيعته حلاّ عرضيّاً مؤقتاً ، مفروضاً بقوة الحديد و النار - التي تضع

لنفسها قوانينها الخاصّة بالمنع و السماح - .. فإلى متى يدوم هذا الحل ؟ وما جدواه الفعليّة للشعوب و الأوطان ؟ و إلى متى تصبر الشعوب المسلمة على هذا القهر ؟ وهل ثمّة ضمانات غير الحديد و النار ، تمنع بعض الحركات ذات النفس القصير ، من اللجوء إلى الحديــد والنار!؟

نزعم أن الحلّ موجود ..

أدركته دول عدّة في العالمين العربي و الإسلامي ، و عملت به –و المقصود بالدول هنا الفئات الحاكمة-..

إن هذا الحلّ موجود في دول عدّة ، مثل اليمن ، والأردن ، و باكستان ، واندونيسيا ،    وماليزيا ..

إنها الديموقراطيّة (المنضبطة) ! ويمكن تسميتها الديموقراطيّة (التوافقيّة) !

 لقد أدركت سائر الأحزاب والحركات الإسلاميّة، التي تؤمن بالعمل السياسي السلمي الديموقراطي..

أدركت الكثير من أبعاد اللعبة السياسيّة. واكتسبت قدرات مناسبة،على التكيّف، وعلى حساب "الممكن والمجدي"في العمل السياسي. وتشكلت لديها قناعات مطابقة لقناعة عمرو ابن معد يكرب الزُبيدي في بيته المعروف:

إذا لم تستطع شيئاًً فدعـــــــه            وجاوزْه إلى ما تستطيع’

وتمرّست بفنون "التوافقات .. والتحالفات .. والتنازلات"..

ووعت الفروق بين المبادئ ، والسياسات التي تخدم المبادئ ، و"التكتيكات" التي تخدم السياسات ، والوسائل التي’تنجح التكتيكات ..!

فأيها أفضل - والحال هذه - للأحزاب الحاكمة ؟الإفادة مما تشكل لدى الأحزاب الإسلاميّة من وعي وتجربة ونضج ومرونة ، والتعامل معها ضمن صيغ توافقيّة، تخدم الشعوب والأوطان، وترضي الفرقاء السياسيين كلاّّّ بحسب وزنه "الجماهيري"أو"العسكري"؟

أم تلجأ ـ أي الأحزاب الحاكمة ـ إلى سياسة المنع والقمع التي دأبت عليها منذ نصف قرن، والاحتفاظ بالسلطة كلها "التنفيذيّة والتشريعيّة.. والقضاء الأمني!"دون أن تترك أيّ هامش للإسلاميين .. ولتكن العواقب ما تكون ، حتى لو كان المتوقع هو مصير عمرو بن هشام !؟

السؤال مطروح على الأحزاب الحاكمة، في الدول التي تقودها أحزاب حاكمة،

متفردة بالسلطات ، بقوة الحديد والنار ..

وسبحان القائل:

"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراًً."

30 \1\2003                                عبد الله القحطاني                      الإبداع الأدبي الإسلامي الحديث:  

          " بين ضعف الولادة .. وضيق المحضن  .. واختراق الحواجز" 

التعميم منزلق خطير ! لذا يجب التأكيد بدايةً ، بأن ّ العنوان لا يشمل الإبداع الأدبيّ الإسلاميَّ كلـَّه ، من حيث ضعف الولادة . أمّا ضيق المحضن ، فلا علاقة له بالإبداع ذاته ، بل بأوعيته الإعلاميّة ومنابره " صحف – مجلات-.." 

أولاً:

 ولنبدأ بالمصيبة الأولى – ومن شاء أن يخفّف على نفسه وطأة الكلمة " المصيبة " ، فليسمِّها : محنة ،أو أزمة ، أو أيّة تسمية تـُريحه - .. ألا وهي حكاية " الولادة " ، فنقول :

أ‌-     كثير من الأدباء الإسلاميين ، ما يزالون يتعاملون مع الكلمة ، بالطريقة التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم ، الذين ورثوها بدورهم ، عن أسلاف أسلافهم ، من صنّاع الكلمة في القرن الثالث عشر الهجري ، وما سبقه من القرون ، التي ا نفصلت عن عهود ازدهار الكلمة منذ سقوط الدولة العباسيّة ..

فما نزال اليوم ، في القرن الخامس عشر الهجري ، نسمع قصائد تـُنظم كل  يوم ، من تلك التي تنتمي في معانيها ومبانيها ، إلى عالم القرن الحادي عشر، أو الثاني عشر ، أو الثالث عشر ..

فما أكثر مَن نرى من الشعراء ، الذين يخطبون في الناس ، بقصائد عصماء ، مضمونُها كلـُّه يدور حول المعنى التالي : " كان أجدادكم صالحين ، فأفلَحوا وانتصَروا . فكونوا مثـلهم لتـفلحوا وتنتصروا.. "!

ثم لاشيء وراء ذلك ، من صُوَر مبتكرة ، أو معانٍ طريفة مولّدة ، أو استلهام لروح العصر وإنسانه وثـقافاته وآفاقه .

ب‌-                       بعض الأدباء الإسلاميين ، انغمسوا إلى الأذقان ، وربّما إلى الآذان ، في بحيرات مملوءة بسراب ، متشكّل من ظلال وأصداء وإيحاءات وإيماءات وإشارات .. متكاثـفة بدورها من مصطلحات غامضة عائمة مائعة ، مثل :

 " العصريّة .. المعاصرة .. الحداثة .. التحديث .. الخ " .. فأضاعوا ما لديهم من مواهب – كثير منها جيّد  – كان يمكن أن تثري حركة الأدب الإسلاميّ الحديث .

فلا هـُم عَـزَّزوا   بمواهبهم أركان الأدب المشرق الأصيل ، ولا همْ استطاعوا أن يقدّموا إبداعاً حقيقيّاً ، في بحيرات السراب التي أغرقوا أنفسَهم فيها ..

وكانت إطلالةٌ من هؤلاء ، على شعر محمود حسن إسماعيل ، وعلي محمود طه، وسواهما من شعراء التجديد الأصلاء .. كافيةً لإرشادهم إلى نقطة التوازن ، في الحبل المشدود بين الماضي الرصين المتين ، والحد يث المموّه المزركَـش الجارف ..

ج- ما ينسحب على الشعر ، ينسحب من بعض الوجوه على القصّة والرواية .. إلاّ أن الأمر في هاتين يبدو أشدّ قسوة ! فأكثر الكتـّاب الإسلاميين الذين مالوا إلى كتابة القصّة والرواية ، إنـّما حضَروا إلى " المائدة " متأخرين ، بعد أن اختلطت الأطعمة في الصحون ، بفعل الصرْعات الحد يثة المستوردة من بلاد أفرزَتْها ، وتلهّت بها قليلاً ، ثم ملّتها ، ثم قـَذَ فـت بها إلينا ، عبْر وسطائها وسماسرتها من بني جلدتنا ، الذين حظي بعضهم بشيء من " الكومسيون " ، على شكل جائزة من إحدى مؤسسات الدول المصدّرة ..أو على شكل تلميع إعلاميّ، وتسويق تجاري ، في بعض الصحف والمجلات والأسواق الثـقافيّة ..!ومن أبرز الصرعات ، التي أدّت إلى الاختلاطات الأدبيّة ، التي أدّت – والهدف منها أن تؤدي – إلى اختلاطات عقليّة .. من أبرز الصرعات صرعة اختلاط الأنواع الأدبيّة ..!فالنصّ الواحد ، قد يحتوي على أنماط أدبيّة عدّة ( قصّة – مقالة – خاطرة- قصيدة من النوع الحداثيّ) .. التي تتضمن بدورها أنماطاً عدّة من السلوك الإنساني والخَبَـل الإنساني ( الحلم .. الكابوس .. الجنون .. الثورة .. الكفر .. التصوّف.. المجون .. الوطنيّة ..)..

وأخطر مافي هذا الخلط ، تمييعُ ملامح الأنواع الأدبيّة وسياقاتِها  .. وجعلُها في حالة " اتّحاد" ، لامجرد حالة (مزج) تَترك بعض الملامح لكل نوع ..

وأخطر من هذا كله ، اقتناع بعض الكتاب الإسلاميين ، بهذا الخلط ، على أنه آخِر ما توصّل إليه فنّ الكتابة الأد بيّة  من تطوّر ورقي ..! – وأؤكد على كلمة : بعضهم – مع أن العلوم المعاصرة كلّها تميل إلى التفصيل والتفريغ ، في شتى التخصصات ..!

أما الذين نجَوا من سِحْر الخلط هذا ، واستندوا إلى جدران الكتابة الكلاسيكيّة ، فهم أسعد حالاً بكثير هنا . وأحسب الأدب الإسلامي أسعدَ حالاً بهم ، منه بسواهم ! فما تزال قصص نجيب الكيلاني – يرحمه الله – ورواياته ، زاداً أد بيّاً حقيقيّاً ، حلواً

 و دسِماً ، لأكثر القراء الإسلاميين ..

وقبل أن أختم حديثي عن فقرة " الولادة " ، لابدّ لي من التذكير بالفرق الجوهري بين ( الجِدّة) بمعناها الواضح السليم ، الذي يتضمن معاني واضحة جليلة ، مثل :

 الإبداع ، الابتكار ، التطوير ..  

وبين (الحداثة )  بمعناها الاصطلاحيّ ، الذي أراده لها أصحابُها ، والتي تهدف إلى

( تفكيك ) شخصيتنا ، و(تفتيتها ) لإعادة صياغتها بالصورة التي يريدها سَدنة الفكر التحديثي الغربي ، وسماسرتُهم من بني جلدتنا ، الذين امتطوا منابر الثـقافة ، بالتوازي والتلاحم مع نظرائهم الذين امتطوا منابر السياسة ..!

ثانياً :

ولأنتقل إلى المصيبة الثانية – ومن حقّ القارئ أيضاً أن يسميّها كما يشاء -.. وهي حكاية " المحضَن " ..!فأقول :

أ‌-     إن الكثيرين من سدنة الثـقافة الإسلامية – وأقصد سدنة المنابر الإعلاميّة كالصحف والمجلات – ما يزالون يَنظرون إلى الأدب على أنه سلعة كماليّة ، تأتي بالدرجة الرابعة أو الخامسة ..أو ربّما العاشرة من اهتمامهم ، ويرتّبون أوعيتهم الإعلاميّة على هذا الأساس ..

وربّما لو جاء أحدَهم خبرٌ ، عن زعيم سياسيّ عَطس في دولة أو جزيرة في المحيط الهادي ، ورَفضَ أن يمسح شاربيه إلاّ بمناديل من صنع بلاده ..

لفضّل هذا الخبرَ( الطازج) ! على أرقى عمل أدبيّ إبداعيّ معروض عليه للنشر منذ عشرين أو ثلاثين شهراً . " ومن المفارقات الطريفة ، أن بعضهم تأتيه مادّة سياسية بلغة أدبيّة را قية ، فيظنها أدباً . ولا ينشرها إلاّ في صفحات الأدب الضيقة ، وعليها أن تنتظر دورها في النشر ، في حقل الأدب "!

ثم :                                                                                                      * الكلمات المتقاطعة تأتي قبل الأدب ..

* كشكول المجلّة ، الذي يضم ّ ماهبّ ودبّ- ويسمّى أحياناً: حديقة !- يأتي قبل الأدب ، في ترتيب الأوليات ..

* حالات الزواج والطلاق ، والعدّة ، والنفقة ، والشؤون المنزليّة ..

تأتي قبل الأدب ، مهما كان الأدب راقياً ومبتكراً .. ومهما كانت تلك مكررة ومعروفة من الناس جميعاً ، ومتداولة بشكل يومي على صفحات المجلات والجرائد ، وفي أقنية التلفزيرن المحليّة والفضائيّة ، عبر الفتاوى اليوميّة .. 

* خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ فلان ، وتحدّث فيها عن تقصير الثياب ، فأثارت موجة من " التفلسف " أو " التّـفا قـُة " في بعض الأوساط .. تُملأ حولها صفحات في المجلّة أو الجريدة ، لا تدع فيها متنفَّساً للجاحظ ، أو المتنبي ، أو الرافعي ..!

هذه أمثلة حيّة ، وحقيقيّة ،من واقع الصحافة الإسلامية اليوم ..ومن لا يصدق،  فليستعرض أيّة صحيفة ، أو مجلّة – إلاّ ما كان له طابع خاص منها -..

علام َيدلّ هذا ؟ على وعي ممتاز بأهميّة الإبداع الأدبي في حقل الدعوة !؟ على إدراك قويّ ، بأن الكلمة المبتكرة الحارة الصادقة المتدفقة ، قد تفجّر في النفوس براكين من مشاعر الخير ، وتـفتح للعقول آفاقاً رحبة مترامية !؟

أسئلة مطروحة على سدنة الإعلام الإسلامي ..!

هذه واحدة .

ب‌-                       أمّا الثانية ، فتكمن عند أثرياء المسلمين ، ولا أقصد أولئك الذين قال عنهم القرآن إنهم " أشحّة على الخير " بل أقصد أصحاب الأريحيّة والجود والعطاء..

تقول لأحدهم : إنّ المجلّة الفلانيّة جيّدة وناجحة ، وتسدّ ثغرة في الثـقافة الإسلاميّة، إلاّ أنها بحاجة إلى بعض الدعم ، لتحسّن مستواها وتطوّر أداءها ..

فهَلاّ – يرحمك الله – دعمتَها ببعض المال !؟

فـيُجيل عينيه فيمن حوله ، كأنما يستـفسر عن معنى الكلام الذي قيل له ، وكأنه يسألهم :" ماذا قال آنفاً " !؟ ثم قد يردّ بكلمة اعتذار لطيفة بأنّه " يحبّ الثـقافة " إلاّ أن التزاماته الماليّة الراهنة ، تَحول بينه وبين الدعم المطلوب .. لأنه ينوي القيام ب"عُمرة " للمرّة الخامسة والستّين ، وهذه ستكلفه نفقات كبيرة ..!

وربّما يصمت ولا يجيب ..

وربما يقطّب حاجبيه قائلاً: لا وقت عندي ولا مال ، لهذا الكلام الفارغ..!!

ثالثاً: العلاقة التبادليّة الوثيقة ، بين ضعف الولادة وضيق المحضن : هذه العلاقة وثيقة حقّاً ، ودقيقة إلى حد كبير ، قد تحتاج إلى قدر غير يسير من التأمل لإدراكها :

أ‌-     الأدب الراقي الممتاز ، يغري الصحافة الراقية بنشره والترويج له . إلاّ أن الأدب لا يكون راقياً وممتازاً بغير هواء يتنفّسه عبر منابر إعلاميّة ، ينمو فيها ويُصقل ويتطور ..  

ب- والصحافة الراقية – في مجال الأدب – لاتكون راقية بغير أدب مميّز وراقٍ " وهذا يحتاج إلى صحافة تصقله وترقيّه .. كما ورد آنفاً..!"

ج- نقطة البدء – على المستوى الفردي – قد تكون قَـدَريّة تماماً ، ولا أقول     " مصادفة " فليس في الكون مصادفات عشوائـيّة ..

وذلك كأنْ تكون ثمّة علاقة بين الأديب والمنبر الإعلامي . فيتطوّر الأديب ضمن هذا المنبر ، إذا كان الأديب موهبةً صغيرة . أو يشتهر المنبر وينتشر بموهبة الأديب ، إذا كان كبيراً أومميزاً ..

هذا على المستوى الفردي البحت ..

د- أما على المستوى العام " أدب إسلاميّ " و " إعلام إسلاميّ " ، فما تزال المسألة شائكة ، على النحو الذي عرضناه آنفاً. وما تزال القضيّة معروضة على ذوي الألباب ، من الأدباء ، والإعلاميين ، وذوي الفهم والأريحيّة من أثرياء المسلمين!

رابعاً: اختراق الحواجز :

لابد ّمن التذكير أخيراً، بأن ثمّة أدبا إسلاميّاً حقيقيّاً، رائعاً ومميزاً، خارج إطار الصورة البائسة ، التي ذكرناها آنفاً..

أ‌-     أدباء إسلاميون ( شعراء ..نقاد .. قاصّون ) شقّوا طرقهم الخاصّة ، بأساليبهم الخاصّة ..

 ب-كتب إسلاميّة ، شقّت طرقها إلى الأسواق بقوّة ، وحققت نجاحاً ملحوظاً، في مجال الشعر ، والقصة ، والرواية..

ج- مجلاّت أدبيّة إسلاميّة ، شقّت طرقها بصعوبة ، وبقوّة ، وفرضت لنفسها وجودا في الساحات الأدبيّة والثـقافيّة ، مثل : " مجلّة الأدب الإسلامي – مجلّة المشكاة المغربيّة .." . 

د- بيد أن هذا كلّه ، لا يلغي الصورة البائسة ، التي تنتظر من يَمسح عنها   بؤسها ، وهي أن ثمّة آلافاً من المواهب الشابّة التي تبحث لنفسها عن منابر إعلاميّة ، تتنفس ، وتنمو ، وتُصقل ، وتتطور ، من خلالها ..

كما أن ثمّة مجلاّت إسلاميّة ، تشكو من ضيق مساحاتها ، ومن الخلل في ترتيب أولوياتها ، ومن ضيق ذات اليد ، في تحسين أدائها وفي تطوير مستوياتها ..

                                          عبد الله عيسى السلامة

                   المفتاح الخامس

      قيمة الشعر الحقيقية : أهي في المعنى ، أم في الصورة !؟

   يحرص بعض النقّاد ، على شَغل أبناء الأمّة الإسلامية ، بالصورة وجمالها ، وفتنتها ، وجدّتها.. عن المعاني ، التي هي الهدف الأساسي ، من الشعر والأدب ،   ومن الإبداع القوليّ ، كله !

  فمَن شَغل نفسه بالصورة ، عن المعنى ، فهو كمَن يشغَل نفسَه بالثوب الجميل ، عن حقيقة لابسه ، وبالزبد الذي يذهب جفاء ، عن حقيقة المعدن ، الذي ينفع الناس ويمكث في الأرض !

  ولأن يكتب الشاعر ، معنى جميلاً بديعاً ، في صورة عادية ، خير من أن يكتب معنى عادياً مألوفاً ، في صورة جميلة مبتكرة !

  وإذا كانت الصور الجميلة ، مطلوبة ، بقوّة ، في الشعر؛ لأنه ، بغيرها ، يكون أقرب إلى النظم الجامد ، منه ، إلى فنّ الشعر .. فإن المعاني هي التي تَخلد ، في حياة الناس ، يتوارثونها جيلاً عن جيل ، ويفيدون منها في حياتهم كلها ، على شكل حكمة ، أو عبرة ، أو ذكرى ! فإذا جاءت في ثوب فنّي جميل ، زاد هذا من رغبة الناس فيها. وإن جاءت في قالب فنّي عادي ، فهي معنى نافع ، قائم بنفسه !

   أمّا الصور الملوّنة الجميلة ، الخالية من المعاني الجميلة والمبتكرة والنافعة .. فهي مجرّد لعَب كتابية ملوّنة ، تَفقد قيمتها ، بزوال وقتها ! كريش الطاووس ، الذي يُعجَب به الناس ، فترة قصيرة من الزمن ، ثم يتلاشى الإعجاب ، بمرور الزمن .. ولا يخلد شيء منها ، للأجيال اللاحقة !

  ونظرة سريعة ، إلى ماتوارثته الأمم والشعوب ، عن سابقيها.. تظهِر ، بجلاء ، أن الفنون القولية ، إنّما يكون أساس قيمتِها ، فيما هو فيها ، من معان جليلة ، سامية ، رفيعة ، أو مبتكرة ، أو صادقة في تعبيرها عن حياة الناس ، ونفسياتهم ، وطرائق سلوكهم وتفكيرهم !

عبدالله عيسى السلامة

وسوم: العدد 706