إذا وهبنا الله الحياة أو : انفتاح الرواية على الطب

wahabna741.jpg

 

wahabna7412.jpg

د. انتصار حدبة

من خلال القراءة المتأنية لرواية que dieu nous prête vie للدكتورة "انتصار حدبة" أستاذة مبرزة في علم الكلي، نستشف أن الحياة هبة ربانية، يتشبث بها الإنسان ويعمل كل ما بوسعه للحفاظ عليها في أحسن حال، لكن هذه الحياة يمكن أن تعترضها بعض الأزمات الصحية التي تعرقل الواقع المعيشي للفرد ويمكن ان تؤدي للوفاة، هذه الأزمات الصحية تجعل المريض يدخل في متاهات البحث عن الشفاء والابتعاد عن الألم بكل الوسائل المتاحة لديه.

من خلال هذه الثنائيات المعقدة، ثنائية الحياة والموت، ثنائية المرض والشفاء وثنائية السعادة والألم، اهتدت الكاتبة "انتصار حدبة" بحسها الإنساني وبيقظتها الفكرية، وبتكوينها العلمي الدقيق وبمعاينتها اليومية والمباشرة لمرض "القصور الكلوي" (باختلاف جنسهم وسنهم) ومستواهم الدراسي وظروفهم السوسيواقتصادية.

 وكذلك بتعبيرها اللغوي البسيط والسليم، استطاعت هذه الكاتبة الشابة أن تنقل لنا نحن معشر القراء، معاناة هذه الشريحة من المرض معاناتهم الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

لقد استطاعت الدكتورة "انتصار حدبة"، أن تتجاوز العلاقة المتداولة بين الطبيب والمريض العلاقة التي تقوم عموما كما نعرف من خلال تجاربنا الخاصة مع الأطباء، على السؤال والمعاينة والفحص –بمختلف أشكاله- والتحاليل والراديو والأدوية..

 تجاوزت هذه العلاقة إلى علاقة إنسانية تتعاطف مع المرضى وتغوص في حياتهم الخاصة، في عالمهم النفسي الاجتماعي وفي تفاعلاتهم مع قاعة الاستشفاء، مع الأحلام والمتمنيات ومع الحاجات والرغبات.

إن أمراض الكلي – خاصة التي تتطلب الدياليز- وكما تقمها الكاتبة في روايتها، هي من الأمراض المزمنة التي يصعب على المريض التعايش معها لما تتطلبه من أدوية باهضة الثمن والحضور الدوري للمستشفى لتصفية الدم بواسطة آلات خاصة وكذلك حمية صعبة التطبيق، فيها كثرة الممنوعات الغذائية، كل هذا مع ألم وإحباطات مختلفة.

الكاتبة "انتصار حدبة" تقدم لنا في جميع فصول الرواية المعاناة اليومية لمرض "الفشل الكلوي"، ورغم أنها تقول بأن شخصيات الرواية افتراضيين، لولا أن أي مريض أو قريب مريض " بالفشل الكلوي" يمكن أن يجد في معاناة هذه الشخصيات بعضا من معاناته اليومية، فهؤلاء المرضى تجمعهم آفة "القصور الكلوي"، إلا أن مساراتهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية متباينة.

وسأقدم بعض الأمثلة على أوجه التشابه والاختلاف هاته.

من بين هاته الشخصيات نجد المريضة "نادية" التي تواظب على حصص تصفية الدم ورغم معاناتها مع هذه العملية الطبية الصعبة تعيش على أمل الإنجاب حتى وإنها فقدت الزوج منذ زمن بعيد، ومع ذلك تتوهم في كل زيارة للطبيب بأنها تعيش حالة حمل وتطلب تحاليل للتأكد من حملها، كما تطمع في حصول على "كلية" تعطيها القوة على مواصلة حملها.

والطالب "شريف" الذي يواظب هو الأخر على حصص تصفية الدم وفي نفس الوقت يتابع دراسته الجامعية بشعبة الفلسفة ويعيش على أمل أن يجد يوما متبرعا "بكلية" تفتح أمامه أفق الحياة الطبيعية وتنتشله من مخالب آلة التصفية التي تعكر صفو حياته.

ثم هناك شخصية المريضة "مريم" التي لا تتأخر على حصص التصفية وتبدو بهيأة طفلة صغيرة، وتعامل على هذا الأساس، لكنها في الواقع فتاة مراهقة وتعيش على أمل ان -تجد متبرعا بكلية- تعيد لها الابتسامة وتعطيها فرصة التجول في شوارع المدينة كشابة مرحة دون معاناة الوهن الجسدي أو الإحباط النفسي كما تطمع كذلك أن تجد القدرة على زيارة المكتبات دون مشاكل عسر التنفس، وتأمل أيضا أن تجد بعض المال لشراء الكتب وتصفحها وقراءتها كبقية الراغبين في القراءة.

هذه بعض الأمثلة عن معاناة وحاجات ورغبات وطموح وآمال شخصيات الرواية التي حللتها الكاتبة بشكل دقيق ينم عن قدرتها الفائقة على دقة الملاحظة وحسن الإنصات والحس الإنساني والمشاركة الوجدانية لمعاناة المرضى.

إن هاته الحاجات والرغبات والأماني المختلفة، كالرغبة في مواصلة الدراسة والتميز فيها والرغبة في الزواج والإنجاب والرغبة في الأكل والغذاء المتنوع حسب الحاجة والشهوة دون قيود أو شروط، هي حاجات ورغبات طبيعية بالنسبة للإنسان الذي يتمتع بصحة جيدة، لأنها حاجات ورغبات يمكن إشباعها والتمتع بنشوة الإشباع لما تخلفه من راحة وهدوء وسعادة، لكن بالنسبة لمرضى القصر الكلوي فهذه الحاجات والرغبات والأماني والمشاعر صعبة المنال، ويتعثر إشباعها أمام العقبات المختلفة التي تعرقل حياة هؤلاء المرضى.

وبالتالي يبقى أهم أمل وأكبر أمنية لهذه الشريحة من المرضى هي أن يجدوا يوما ما متبرعا مّا، يتمتع بحس إنساني راق يتبرع لهم "بكلية" تبعث فيهم صحة جديدة وآمال عريضة وابتسامة ممتعة وثقة في المستقبل.

إذن، فمن خلال القراءة المتمعنة لهذه الرواية الجديدة التي اثبت المجال الفكري والأدبي في أواخر السنة الميلادية 2016، تبين لنا أن الكاتبة تقدم مجموعة من المستجدات المختلفة نذكر منها:

* على المستوى العلمي: أن زراعة الأعضاء أصبحت متاحة في بلدنا العزيز نتيجة المجهودات الجبارة والتضحيات المتواصلة للأساتذة وأطباء وطلبة كليات الطب والمستشفيات الجامعية، بالمغرب ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة.

* على المستوى الاجتماعي: إحداث الدولة لمجوعة من المراكز الصحية لمواكبة مرض القصور الكلوي.

* على مستوى الثقافي: التحسير المتواصل بضرورة وأهمية التبرع بالأعضاء لصالح المرضى.

* على مستوى التشريعي: سن قوانين لضبط عملية التبرع بالأعضاء وزرعها ومنع التلاعب والمتاجرة في هذا الإطار.

والأهم من هذه المستجدات التي تميز رواية الدكتورة "انتصار حدبة" هي أنها استطاعت بفضل حسها الإنساني والأـخلاقي المتميز أن تسلط الضوء على جانب مظلم من حياة مرض "القصور الكلوي" ألا وهو واقعهم المعيشي اليومي الصعب والمفتوح على المجهول.

إن الكاتبة لها كتابات ومنشورات علمية كثيرة ومتنوعة وبلغات مختلفة: العربية والفرنسية والانجليزية ، لكن يبقى الكتاب مميزا عما سبق من كتاباتها، إذ حاولت الدكتورة "انتصار حدبة" أن تخلع – لبرهة من الزمن- بدلة الطبيب البيضاء التي توحي للمريض بالأمان (لأن اللون الأبيض يدل على الصفاء والأمان والسلم...) لترتدي عباءة اليكوسو سيولوجي الذي يهتم بالتفاعلات المختلفة للفرد مع محيطه الاجتماعي من خلال علاقاته المتشعبة مع المؤسسات الاجتماعية المختلفة من أسرة ومدرسة ومسجد ومستشفى والشارع والمعمل ووسائل الإعلام... حيث أن السيكوسيولوجي يسعى بوسائله الخاصة إلى دراسة هذه العلاقات وفهم بنياتها المعقدة وتجلياتها المتباينة واقتراح الحلول الناجمة لها، كمشكلة مرضى القصور الكلوي وأهمية التحسيس المتواصل بضرورة التبرع بالأعضاء وزرعها.

وخلاصة القول فإنني أوصي بقراءة هذه الرواية لما تتمتع به من امتيازات.

أولا: فالرواية سهلة القراءة لأنها كتبت بلغة فرنسية بسيطة يستوعبها القارئ بسهولة وحتى وغن لم يكن متضلعا في اللغة الفرنسية ولا متخصصا في مجال ما من المجالات الطبية، بتعبير آخر يسهل قراءة الرواية على كل هام لقراءة المستجدات الأدبية.

ثانيا: هذه الرواية تطرح موضوعا إنسانيا بالدرجة الأولى وهو توعية الناس بخطورة مرض "القصور الكلوي" وإعطاء فكرة واضحة عن معاناة هؤلاء المرضى، ومساعدتهم من خلال التبرع "بالكلي" لتجاوز ألمهم الفتاك وخوفهم المتواصل من الغد، من المستقبل.

ثالثا: وأخيرا: فحسب البحث والنشر في الكتابات السابقة في هذا الموضوع لم نعثر على أي كتاب يشرح معاناة مرضى الكلي وآلامهم اليومية، وبالتالي أعتقد أن هذه أول محاولة أدبية تصدر عن طبيب في هذا التخصص. لهذا نلتمس للدكتورة "انتصار حدبة" المزيد من الاهتمام بمرضى "القصور الكلوي" وإيصال معاناتهم للجميع حتى يتكتل المسؤولون كل من مجال اختصاصه- لمساعدة هؤلاء المرضى على تجاوز محنتهم في أحسن الظروف.

كما نتمنى للدكتورة "انتصار حدبة" الصحة والعافية وطول العمر حتى تواصل مشوارها الطبي والأدبي والإنساني والأخلاقي بثبات وعزيمة.

وأخيرا قراءة ممتعة للجميع.

وسوم: العدد 741