فن الشبكات.. تشكيل بالرمل والقهوة والألعاب

لمّا كان الفن تعبيراً في الأساس، باستعمال التشكيل ونحوه، فإنّ اتساع نطاقاته وتنامي خياراته يفتح له آفاقاً غير مسبوقة ويمنحه أدوات لم يكن قد حازها من قبل. فلا يملك فنّ الحاضر إلا أن يتجاوز نطاقات كان عليها في الماضي؛ البعيد منه والقريب، وأن يُفارق طقوساً وتقاليد لازمته طويلاً، وأن ينعتق من مساحات جُعلت له إلى فضاءات تواصلية تنساح بين الجماهير.

محاولات تاتسويا مع الزبيب

يجمع أشياء اعتيادية مألوفة من الحياة اليومية مع شخصيات دقيقة الحجم ويجعل منها أعمالاً فنية. إنه فنّان النماذج الدقيقة الياباني تاناكا تاتسويا Tanaka Tatsuya الذي يدفع بصور أعماله المتجددة في الفضاء الشبكي؛ بما يتيح فرص التأمّل في مشاهد نمطية بمعزل عن سياقها الاعتيادي المألوف. وفي كثير من أعمال تاتسويا يُعاد تركيب مكوِّنات الواقع، تأسيساً على التلاعب بأحجام الشخصيات الإنسانية مع منح بُعد وظيفي جديد للأشياء الاعتيادية المُنتقاة وإعادة تأسيس علاقات الإنتاج بمفهوم انقلابي على ما هو قائم. لا تعجز أعماله عن إثارة الدهشة، ففي أحدها، مثلاً، تنقلب الأبعاد فيغدو الإنسان مكرّساً لخدمة حبّة دقيقة من زييب العنب تكبره، رغم أنّ الإنسان في واقعه اليومي لا يكاد يأبه بواحدتها التي يحسبها متماثلة مع أختها؛ فهو في سياقه الواقعي يتعامل مع كمّ متماثل منها، لكنّ الواحدة منها في أعمال تاناكا تاتسويا مُعرّفة بوضوح ومُعترَف بها بجدارة. أما الإنسان المتقزِّم والمُقوْلَب فهو مَن يفقد تعريفه عبر تنميطه في مجسّم دقيق منحوت بملامح متماثلة، ربما على نحو ما تجود به ألعاب التركيب؛ كالتي تنتجها شركة "ليغو" الدانمركية مثلاً.

يقع في هذه الأعمال الاعتراف بالأشياء من خلال التدقيق فيها وتبديل الأدوار على نحو انقلابي أحياناً. ومع قلب الأدوار كليّةً في بعض الأعمال؛ فإنّ الإنسان هو الذي يغدو في خدمة المادة أحياناً، بعد أن حسب أنها مسخَّرة له. لعلّ تأويل عمل كهذا يُنعِش مفهوماً إنسانياً وأخلاقياً لو حازه بعض الذين أهلكوا الحرث والنسل لحرّضهم على الترفّق مع البيئة، وأن يقصد أحدهم في مَشْيِه ويَغُضّ من صوْته، وإن لم يَأبه بالكائنات من حوله فلا أقلّ من أن يُرجِع البصر كرّتيْن لأخيه الإنسان الذي يسحقه التجاهل ويفتك به التعالي، فيخفِّف الوطأ، حسب وصيّة المعرِّي، الذي ما ظنّ أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد.

لعلّ أعمال تاناكا تاتسويا تساعد على فهم الواقع والتدقيق في المشهد والانطلاق من فضيلة التفكّر وإمعان النظر؛ إلى السموّ الإنساني عن التثاقل إلى الأرض والترفّع عن الانشغال بحطامها

لمبدأ التدقيق فضائله في النظر والتفكّر، ونجد في الخطاب القرآني المجيد أنّ ما يعدّه البشر من التفاصيل الدقيقة حظي بتسليط الوعي عليه، وبيان عِظَم أمره، فمن لا يفقه سرّ النحلة والنملة والبعوضة والعنكبوت؛ لن يسعفه إدراك أمر البقرة والفيل والخيل والبغال والحمير. ومن لا يأبه بدقيق الكائنات من حوله، ولو كانت مثقال حبّة من خردل؛ لا تُؤمَن غائلته على البشر والشجر والحجر والكائنات جميعاً إن أوتي سلطان المادة عليها. ولا عجب بهذا أن يتّخذ البشر من الذرّة الدقيقة غير المرئية سبباً للسعي في الأرض للإفساد فيها وإهلاك الحرث والنسل.

في بعض أعمال تاناكا تاتسويا المذهلة، التي ينتظم في تقديمها لجمهور منصّة "إنستغرام" الشبكية منذ عام 2011، تعلو المادة ويتقزّم الإنسان، وهو تأويل واقعي لسياق التطوّر العلمي والتقني المتسارع أساساً، فالإنسان يخضع في النهاية لمُنجَزه الذي بات قادراً على إعادة نظم واقعه اليومي رغم أنه محمول باليد، مثل الأجهزة الذكية التي حظيت هي الأخيرة بعناية تاتسويا في أكثر من عمل.

يدور الإنسان في واقع مُصغّر، هو الدنيا التي شغلت عليه سمعه وبصره واسترقت وجدانه وهيْمنت على ذهنه. أُشرِب البشر في قلوبهم حبّ الأشياء التي إليها يتسابقون، وبعضهم يقزِّم كرامته البشرية للامتلاء من حبوب الزبيب في جوفه، ولعلّ أعمال تاناكا تاتسويا تساعد على فهم الواقع والتدقيق في المشهد والانطلاق من فضيلة التفكّر وإمعان النظر؛ إلى السموّ الإنساني عن التثاقل إلى الأرض والترفّع عن الانشغال بحطامها.

التشكيل بالقهوة مع برنارديللي

درست الفنانة الإيطالية الشابة جوليا برنارديللي Guilia Bernardelli في أكاديمية الفنون الجميلة في مدينة بولونيا. تقوم معظم أعمال برنارديللي على التشكيل بالقهوة، الذي هو مشروب الإيطاليين المفضّل منذ أن عرفوه بطريق العالم الإسلامي قبل أربعة قرون، وتأتي بعض الأعمال بالعسل والشوكولاته والمثلجات أحياناً، ومن الواضح أنّ محاولاتها متأثِّرة باشتغالها مع الأطفال في أحد المتاحف الإيطالية.

والفريد في تجربة برنارديللي الفنية، كما في مثيلاتها، أنها تقوم على تحويل معايشة الحياة اليومية مع القهوة أو مع مائدة الطعام إلى تجربة إبداع فني باستعمال الأدوات المتاحة على عين المكان. إنها مثال آخر من فناني مواقع التواصل الاجتماعي الشباب؛ الذين يتجاوزون أنماطاً تقليدية في العمل الفني ويجترحون من وسائل الحياة اليومية أدواتٍ مؤهّلة للخروج بأعمال بديعة، وهم في مسعاهم للوصول إلى الجمهور العريض يتجاوزون المؤسسات الفنية التقليدية؛ فيباشرون بثّ تدفّقات غزيرة من الأعمال المذهلة عبر منصّة "إنستغرام" غالباً؛ كما تفعل برنارديللي أيضاً.

تصعد تجارب التشكيل بمواد غذائية وأدوات مألوفة في الحياة اليومية على هذا النحو مع وجوه عدّة، ومنهم فنانون عرب ومسلمون لهم أساليبهم المتعددة في هذا المجال، في اتجاه متصاعد حول العالم يُنعشه امتلاك أدوات المخاطبة الجماهيرية الميسّرة؛ ممثّلة بهواتف ذكية تلتقط الصور وتباشر البثّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي من الميدان مباشرة. انتفت الحاجة إلى استدعاء الكاميرا وطقوس التصوير إلى مسرح العمل، فقد صارت أداةُ الالتقاط جاهزة على مدار الساعة لأن تلتقط لحظة مخصوصة من ثنايا الواقع في الحِلّ والترحال؛ مع التوسّع في سلوك التصوير والبثّ الذي لا يفارق البشر في "الزمن المصوّر"، الذي يُطلِق العنان لمحاولات فنية متجددة تتّخذ من أدوات الحياة اليومية البسيطة مادتها.

وإن اتّجهت المرحلة إلى الاقتراب من الوجوه في الصُوَر والمقاطع الذاتية؛ فإنّ اختزال المسافات في المشاهد يمنح التدقيق فرصة إضافية، بما يوافق حسّ الفنان الذي ينشغل بالتفاصيل الجزئية التي يشكِّلها ويصوِّرها؛ أو يُباشِر تنزيلها من ذهنه إلى الواقع في عمله الفني. كثير من هذه الأعمال الجديدة هي مؤقّتة بحكم الأمر الواقع وبالنظر لطبيعة مواد التشكيل، فلا يُتاح الإبقاء عليها أو الاحتفاظ بها، بما يجعل الصورة المُلتقطة هي المُنتَج النهائي لعمل يتلاشى من فوره أو بعد حين. تتّضح الخاصية المؤقتة هذه في أعمال فنية ليس بوسعها أن تصمد سوى لحظات وجيزة يتم تصويرها خلالها؛ مثل التشكيل بأعواد ثقاب مشتعلة أو بالنحت الرملي على الشاطئ.

ليس جديداً استعمال أعواد الثقاب في التشكيل الحرفي والفني، لكنّ المنصّات الشبكية أطلقت العنان لاستعمالها في أعمال فنية متجددة، كما يفعل الفنان الشاب محمد سلام الذي يتّخذ من واقع عيشه في قطاع غزة تحت الحصار الخانق والعدوان المتكرِّر موضوعات مُلهِمة لأعماله التي تتشكّل بأعواد الثقاب أساساً. صوّرت أعمال سلام، مثلاً، المعاناة المزمنة في معبر رفح، وتصدِّي المقاومة البطولي لعدوان الاحتلال، ومشاهد من الحياة اليومية، دون أن تغيب القدس عن تشكيله أيضاً.

لم ينشأ أسلوب التشكيل الفني من مكوِّنات اعتيادية مع زمن الأجهزة المحمولة؛ لكنّ هذه الأخيرة هي التي منحته الفرصة الجماهيرية وأخرجته من النطاق الفردي لصاحبه إلى فضاءات التواصل المرئي وأمدّت الزمن الوجيز للعمل المشكّل باليد بآفاق الديمومة البصرية في الشبكات. ولا يغيب هنا أنّ كثيراً من هذه الأعمال صُوِّرت وأحرزت الانتشار بصفتها الطريفة والاستثنائية؛ وهو مدخل معقول لاكتشاف روحها الفنية التي تختزنها بما تشحنه من فرص التأويل والإسقاطات. واتساع التداول الجماهيري من باب الطرافة لا يضير أعمالاً كهذه، فمن امتياز الفنّ أن يخرج من الأروقة إلى فضاءات الجماهير.

وإن جاء التدقيق في زاوية الالتقاط مدخلاً إبداعياً لأعمال فنية كهذه؛ فإنه يحاكي التضخيم التجسيمي في التشكيل أو النحت بما يتيحه من فرص التدقيق، فالتضخيم يمنح أبعاداً عملاقة لما هو دقيق في أصله، كما يصنع الفنان الألماني فولفغانغ شتيلر Wolfgang Stiller مع أعواد الثقاب أيضاً، التي ينحتها بأحجام كبيرة ثم يباشر إحراق رؤوسها التي تتخذ معه هيئة بشرية، وقد يجعلها كناية عن التنكيل والتعذيب والعبودية. 

عودة الروح والتشكيل بالرمال

صاغت الفنانة الاسكتلندية جين فرير Jane Frere عملها الفني الكبير "عودة الروح" الذي جسّدت من خلاله نكبة الشعب الفلسطيني بمجسّمات شمعية ترمز للفلسطينيين والفلسطينيات الذين قاسوا التهجير والنكبة. أنجزت فرير ثلاثة آلاف مجسّم، باشرت إعدادها بأيدي لاجئين فلسطينيين في فلسطين والأردن ولبنان، طلبت منهم أن يتصوّروا حال أجدادهم لحظة اللجوء.

 واستغرق تجهيز العمل عبر هذه البلدان شهوراً عدّة، إلى أن خرج إلى النور في ستينية النكبة سنة 2008 واستضافته دور عرض حول العالم، بما يجعله ضمن أبرز الأعمال الفنية المكرّسة للنكبة. يُعيد العملُ الضخم الحياةَ رمزياً إلى مشهد الخروج في واقعة التهجير القسري التي تم إيقاعها على الشعب الفلسطيني، في محاولة تحرِّض الجمهور على التفكير فيما جرى؛ وإن لم يكن مرغوباً به في بعض الأوساط الإعلامية والثقافية والفنية المتواطئة مع رواية الاحتلال.

إنّ ما أنجزته فيرير بأبعاد كبيرة نسبياً قبيل شيوع مواقع التواصل الاجتماعي؛ يتضاءل في الواقع إزاء الأعمال العملاقة للفنان الصيني الأشهر آي واي واي Ai Weiwei ، المشبّعة برسائل نقدية وأخرى تعيد الاعتبار إلى الإنسان وتلفت الأنظار إلى معاناة المحجوبين عن الوعي. يبقى هذا الفنان فوق انشغاله الفني المباشر لصيقاً بما يجري في عالمه، فهو صاحب موقف، كما تجلّى مثلاً بتوقيعه على عريضة التحذير من اقتلاع أهالي الخان الأحمر شرقي القدس وتهجيرهم قسرياً، علاوة على أنّه حاضر في مواقع التواصل التي تحتفي بأعماله. لكنّ واي واي ذاته عمد إلى تشكيل بعض أعماله الضخمة من مكوِّنات دقيقة متكررة، مثل عمل بذور دوّار الشمس المصنوعة من حبّات خزفية، والتي استوحاها من الخزف الصيني اليدوي ومن تقليد تناول هذه البذور في المجتمع الصيني.

وإن وظّفت الأسكتلندية جين فرير مئات الأيدي لإنجاز عملها "عودة الروح"، وكذلك الحال مع آي واي واي في أعماله ومنها عمل بذور دوّار الشمس؛ فإنّ الشابّة البحرينية زهرة الناصر اختصّت برواية النكبة الفلسطينية ذاتها بكفِّيها الرشيقتين وأناملها المتحركة سريعاً وحسب. تستعمل الفنانة النشطة مهارة التشكيل الحركي بالرمال، في رواية حكايات أخّاذة، منها قصة فلسطين مع النكبة والاحتلال والمقاومة؛ على مرأى من جماهير تتابع في قاعات جماهيرية أو عبر شاشات البثّ كيف تشكِّل بأناملها عشرات المشاهد المتعاقبة سريعاً كلوحات مسرحية تحاكي الأحداث التي جرت في الواقع.

يتدخّل العمل الفني لتأكيد "الحقّ في الرواية"، فتنطق أعمال الشابة زهرة باسم شعب سلبته أساطير التأسيس الصهيونية هذا الحق بالتلازم مع منظومة دعائية متحيِّزة للاحتلال. تلجأ زهرة الناصر إلى الرمال تحديداً لتشكيل الحكايات، بما يُطلِق تأويلات تتّصل بالبدايات؛ بدايات العالم وبدايات البشر وبدايات التشكيل والبناء. لكنّ الرمال تبقى هشّة وسرعان ما تتبعثر كفعل النكبة المتجدِّدة التي تتعاقب على شعب فلسطين في وطنه ومنافيه.

أصباغ على الجدران

إن ظلّ التشكيل الرملي مؤقتاً بمشاهده التي تصير هباءً منثوراً في الواقع؛ فإنّ الإقدام على طبْع المشهد على الجدران يمنحه عمراً افتراضياً أطول، ما لم يأتِ عليه الطمس بالأصباغ أو بمحاولات فنية جديدة تتراكم فوقه. إنها تشكيلات "الغرافيتي" التي تحوز اعترافاً متزايداً بمكانتها، وصارت بعض المدن تمنحها مساحات متزايدة. قد تكون المساحات المخصّصة للرسوم الجدارية الحرّة محاولة تدجين متذاكية تتذرّع بالاعتراف بهذا اللون المتمرِّد في أصله على كبت المدينة لقاطنيها، عبر محاولة تنظيمه وتحديد نطاقه لاستدراجه إلى مفارقة المنحى العشوائي الذي حرص عليه.

لكنّ حيلة الاستدراج هذه لن تنطلي على بانكسي Banksy مثلاً، فنّان الشوارع الأبرز، الذي عزّز صعود هذا الفنّ إلى مراتب العالمية عبر رسومه الجدارية التي صارت رموزاً للمقاومة الثقافية لا تخطئها العين. ترك هذا الفنان مجهول الهوية بصمته على جدران العالم بأعمال نقدية يحتفي فيها بالحرية وبمعانٍ إنسانية متعددة، ولا يفوته توجيه رسائل لاذعة ضد حمى الاستهلاك التي تشيعها الثقافة الرأسمالية الطاغية في عالمنا. وما كانت لأعمال بانكسي أن تحظى بهذا الرواج بمعزل عن الزمن الشبكي الذي أتاح التقاط الصور وتدويرها في فضاءات جماهيرية، متجاوزة للصناعة الإعلامية التقليدية التي لا تحتفي كثير من أوساطها المتنفذة بهذه الأعمال أساساً.

من المفيد تشجيع الجمهور على عدم الاكتفاء بقراءة أحادية ساذجة لعمل الحاوية الفني أو لغيره، وتحفيزه على استدعاء تأويلات ذات منحى نقدي لأعمال كهذه

ومن أشهر أعمال بانكسي ما يصوِّر طفلة تصعد بمنفوخات هوائية وتتجاوز جدران الاحتلال في فلسطين إلى آفاق الحرية، علاوة على أعمال طبعها هذا الفنان لترميز الاحتلال بصرياً بما يليق به. ومع أعمال بانكسي وغيره صار الجدار الكريه الذي شيدته سلطات الاحتلال في الضفة الغربية بلون رمادي شاحب عبئاً إضافياً على صورة هذا الكيان الغاصب في العالم. لم يكن قرار تشييد هذه الجدران العلاقة قد توقّع أن تصير مساحة ممتدّة للرسائل الفنية التي تفضح الاحتلال ذاته في العالم، علاوة على أنّ مشهد الجدار ذاته كفيل بفضح سطوة المحتلين في عالم شبكي مُصوّر.

تعبِّر الحفاوة العامّة بأعمال بانكسي عن التقدير المتزايد الذي تحوزه الرسوم الجدارية "الغرافيتي"، بعد أن فرضت حضورها في مدن العالم الصناعي في الأساس. فعلى منواله يترك فنانو الشوارع أعمالهم على الجدران خلسة دون أن تلحظهم حواضر تفيق على نقوش وتشكيلات تشغل حصّة متزايدة من الحيِّز البصري العام للمدينة ويثير بعضها تساؤلات محيِّرة عن المغزى الذي يحمله كل منها. ورغم تفاوت التأويلات؛ إلا أنّ هذه الفنون تراهن على منح الجمهور غير المكترث بواقع ما، نافذة تأمّل وفرصة تدقيق، وقد تنثر بذور الشكّ في وعي الجمهرة بمسالك اعتيادية وقناعات متأصِّلة عدّتها الجماهير مسلّمات لا تقبل عندها تعطيلاً ولا تبديلا.

إعادة التأويل

تناقلت وسائل إعلام ومواقع تواصل في فبراير/شباط 2018 مقطعاً يُظهر شابتين سعوديتين موهوبتين وهما تنهمكان في تحويل حاوية قمامة إلى قطعة فنية بديعة، باستعمال ألوان زيتية منحت الحاوية قيمة جمالية عبر ضربات محسوبة بفرشاة الصبغ. انصرف تأويل العمل إلى مقصد تحويل العبء البصري إلى منحة جمالية، ومثل هذا ينعقد في أعمال عدة حول العالم، منها محطة تدوير النفايات وحرقها لإنتاج طاقة "نظيفة" في فيينا، وهي صرح فني شاخص للناظرين يشهد على إبداع الفنان المعماري هونديرتفاسر Hundertwassr المتأثر بالفنان المعماري الأشهر في إسبانيا أنطوني غاودي Antoni Gaudi.

لكنّ العمل بعد انفصاله عن صاحبتيْه في حالة الحاوية السعودية، أو في حالة محطة معالجة النفايات النمساوية؛ يبقى مفتوحاً لإعادة التأويل. فعمل حاوية القمامة التي صارت مكلّلة بورود منقوشة عليها قد يتراءى مثالاً متجسِّداً لمنحى تجميل واقع بَشِع وإضفاء ألوان مضلِّلة عليه، أو كناية عن مفارقة التصوُّر للمُتصوَّر، أو تناقض التغليف مع الفحوى. إنها إعادة تأويل مُفارِقة لما راج في التغطيات الجماهيرية التي احتفت بإبداع الشابتين الماهرتيْن، بصرف النظر عن مقصدهما من العمل إن كان تجميلياً شكلياً أم فنيًاً عميقاً.

أما إعادة التأويل بصفة نقدية؛ فقد تقضي بتردّد بعض السلطات بالسماح بمثله. ومثل هذه الأعمال في أي بيئة كانت قد تستأهل، بالتالي، أن تُعَدّ مقاومة ثقافية تشتبك مع المساحة الرمزية لسطوة الدعاية الرسمية أو الاستهلاكية المنشغلة أساساً بتجميل الأوضاع وإشاعة الارتياح وبثّ البهجة المضللة، على نحو يعيد تعريف القمامة ويمنحها قيمة إيجابية، بينما تمارس السطوة الدعائية فعلاً عكسياً مع قيم ومبادئ نبيلة بتشويهها والتنفير منها والإلقاء بها في زاوية منبوذة من الوعي الجمعي. من المفيد تشجيع الجمهور على عدم الاكتفاء بقراءة أحادية ساذجة لعمل الحاوية الفني أو لغيره، وتحفيزه على استدعاء تأويلات ذات منحى نقدي لأعمال كهذه.

أمّا في صرح هونديرتفاسر المخصص لمحطة معالجة النفايات، فعلى مسعى إعادة التأويل أن يتجاوز الاحتفاء بقيمته الجمالية أو الاكتفاء بتعبيره عن تحويل عبء نفايات المدينة إلى منحة بصرية جمالية وقيمة مضافة مُنتجة للطاقة ونهج تصالحي مع البيئة. لا ينبغي إغلاق محتمل لأبواب التأويل في العمل، التي لها الحقّ في فحص كوامنه وتشخيص نزعاته، ومنها مثلاً ارتفاع برج من صرح - ما بعد حداثي ربما – هو محطة نفايات؛ بعد أن احتكرت مشهدَ الصعود في أجواء المدينة ذاتها دورُ العبادة الكنسية وقصور السلطة والنبلاء. وثمة اتجاهات تأويلية أخرى يمكن عقدها، برمزيات أعمق، على منوال عمل الحاوية.

التأويل الارتدادي

الصورة، هي كالعمل الفني، لا تبرأ من التحيّزات، ولا تنغلق على تأويلات أحادية أيضاً، وقد صارت الصور والأعمال الفنية اليوم، في صناعتها وفي تأويلها أو إعادة تأويلها، خياراً ميسّراً للفرد في تواصله الجماهيري

لا ينهض التشكيل الفني المادي أو الحسِّي وحده في الفضاء التواصلي دون تأويل تُستحضَر علاماته من العمل؛ وقد تكون مُسقَطة عليه من خارجه بمفعول سياق الاستدعاء. يسري التأويل في فضاء العمل وينعكس على مفهومه في إدراك جمهوره، فالعملُ يتلبّس بتأويله، وقد يطغى التأويلُ على العمل. والتأويل ليس حكراً على "المختصّ" أو الناقد، وقد لا يأتي علنياً، فمنه تأويل الفرد للعمل الفني إن تذوّقه ولامس وجدانيات مخصوصة لديه أو انعقدت له قراءة معيّنة من خلاله وإن لم يقصدها الفنان على هذا النحو ابتداء. ومن التأويل إسقاط العمل على مفاهيم وحالات ووقائع تُستدعى من خلاله، أو توظيف العمل في سياق مخصوص وإن لم يُقصَد في وعي الفنان.

يأتي التأويل الارتدادي بمقاصد شتى، في منحى استعمالي متعاظم تفاعلاً مع التضخّم المُذهِل للمحتوى الفني والتعبيرات التواصلية المحفوظة في الشبكات وأوعية البيانات كما لم يُسبَق إليه في التاريخ. لا تقضي إعادة التأويل بمباشرة الفعل التأويلي المغاير للشائع؛ بل قد يكفي فيه استدعاء الأعمال ضمن سياق مخصوص أو نسَق بعينه. وقد يكون أقصر الطرق لفضح الاستبداد، مثلاً، الاكتفاء بعرض أعمال دعائية وفنية محسوبة على دعايته. فهذا العرض، لا سيما إن لم تتوافق الأعمال مع النظام الرمزي أو الاتجاهات القيمية للجمهور الذي يتوجّه إليه عرضها، هو وسيلة مواجهة فعّالة؛ كمن يكتفي بقراءة مقولات الخصم دون تعليق نقدي عليها لأنها كفيلة بذاتها بأن تهوي بمنطق الخصم أو صورته عند جمهور مُخاطَب مخصوص.

تلجأ الدعاية الرأسمالية إلى هذه الحيلة بأن تقوم باستعراض أعمال المدرسة السوفياتية في الفن أو مواد التعبئة الجماهيرية لأنظمة العهد الاشتراكي البائد، ويكفي أنّ "متحف الشيوعية" في براغ هو في الواقع متحف تشيكي مدعوم من مؤسسات غربية تكرِّس "رعاياتها" لعرض ذكريات العهد الأحمر على طريقتها الخاصة على نحو يمرِّغ عهداً مضى بالأوحال بصفة رمزية.

يراهن التأويل الارتدادي على تفاعل الجمهور مع العمل الفني، أو الأعمال الفنية. وقد يمارس العمل الفني الحيلة ذاتها مع الواقع أو جزئيات مخصوصة فيه لتقديمها بصفة تحرِّض الجمهور على تأويلها ارتدادياً. فمن يسعى إلى تصوير "قصر الثقافة" الذي ابتناه ستالين لوارسو وصار المعلم الأبرز للعاصمة البولندية، قد يُطلِق العنان لتحيّزاته في قراءة الصرح العظيم من زوايا التقاط/ تجسيد، وإيحاءات بصرية ضوئية ولونية، بما يُضفي هالة انطباعية على العمل تفي شحنة السطوة الكامنة فيه أساساً حقها، بما يكشف، نقدياً، عن المفهوم الستاليني للثقافة مثلاً. للصورة أن تُمارِس هذه المراوغة في حاضرة الفاتيكان، مثلاً، عبر انشغالها بما تصادفه فيها أولاً في ساحة بطرس من أعمدة متماثلة مُهَيْمنة بمبناها العملاق فوق قامة الإنسان الذي يتقزّم إزاءها، وهي تُعلِن بصرياً من موقعها هذا سلطةَ الكهنوت البشري المتذرِّع بالسماء؛ حسب الخطاب الكاثوليكي.

لا يبرأ أسلوب الاكتفاء بالعرض من التحيّز، لأنه ينطلق من منظور مُوغِل في الانتقائية أساساً ويُسقِط رؤية الفنان العارض أو الملتقِط على العمل المُختار للعرض المناوئ لمقصده الأول المُفترَض أو للواقع الذي يأتي تصويره مشتبكاً مع المغزى الذي انعقد قبل تشكيله. تمارس الصورة الصحفية الحديثة هذا المنحى، بالتقاط صور نقدية للمواقف والأحداث التي التأمت أساساً لتشكيل انطباع إيجابي معيّن، فتأتي بعض الصور بتحيّزاتها الكامنة في زوايا الالتقاط واختياراتها اللحظية بمثابة فرصة قنص تسعى للفتك بضحيّتها التي قد تحسب أنها أجادت العرض في حضرة المؤثرات الداعمة لها على منصّات كفيلة بالإبهار أساساً؛ ثم تدهمها الصورة التي تقدِّم رواية أخرى بائسة للواقع الذي تزعم تمثيله.

إنّ الصورة، هي كالعمل الفني، لا تبرأ من التحيّزات، ولا تنغلق على تأويلات أحادية أيضاً، وقد صارت الصور والأعمال الفنية اليوم، في صناعتها وفي تأويلها أو إعادة تأويلها، خياراً ميسّراً للفرد في تواصله الجماهيري غير المسبوق في التاريخ. ورغم ذلك كله؛ فإنّ بعض الجهود القيمية والإصلاحية ما تزال على غفلتها الأولى عن الفنون عموماً اشتغالاً وتوظيفاً وتأويلاً، رغم قدرة الفن المتعدية للنطاقات والثقافات، والمؤهّلة لاختراق الدفاعات النفسية التقليدية وحصون الوعي الساذج في المجتمعات.

وسوم: العدد 804