الهند وأفلامها.. استنساخ الأرواح لإراحة الجماهير

يظهران في الوادي فجأة. يطأ كاران وأرجون أرض قرية يجهلانها لكنها تعرفهما جيداً. عاش الشابّان في المكان من قبل، فقد شهد مقتلهما ببشاعة على أيدي اثنين من فتوّة أسرة إقطاعية متغطرسة تفرض هيمنتها على المكان، لكنّ المغدوريْن عادا الآن في حياتهما الجديدة.

ظهر أرجون مجدداً باسم آخر، ووجدانه يقوده إلى فتاة في المكان كاد أن يتزوّجها لكنّ والدها أبرم اتفاقاً مع شريكه زعيم الأسرة المتغطرسة لتزويجها لابنه قسراً. في الطريق إلى القصر الذي سيشهد زفافاً جبرياً يتنبّه زوجها الوشيك إلى أساور لامعة تطوِّق ذراعيها، فينزعها منهما بلا رحمة لإنهاء كل ما يتّصل بعلاقتها مع الشاب المخذول؛ الذي سيظهر لاحقاً لينقذها من القصر، لكنه سيكون في هيئة أرجون الذي قُتل من قبل مع شقيقه كاران. إنه امتداد صراع عائلي على الثروة والنفوذ لم يرأف بالشابّين ولم يعطف على أمّهما الأرملة بعد قتل زوجها بتدبير من شقيقه، فقد تُرِكت الأم وابناها لأنياب الفقر والفاقة والحرمان من الإرث، ثم جرى قتلهما ببشاعة وترك الأم الثكلى وحيدة مع أمل الانتصاف لحقها يوماً ما.

ليس نادراً أن تقوم البطولة في الأفلام الهندية على شخصين لا شخص واحد، فالشقيقان مثل كاران وأرجون يتقاسمان المصائر أحياناً على نحو يتكرّر في بطولات مزدوجة دفعت بها "بوليوود" في أفلامها التقليدية عبر عقود. ورغم أنّ البطولة هي لشقيقين شكلاً؛ فإنّ أحدهما سيتصدّر بالطبع وسيحظى بمركز الحدث، وسيشجِّع الآخر في مواقف صعبة على أن يتقدِّم بلا تقاعُس أو جزع. سيظفر هذا الأول، وهو هنا أرجون، بقصة الحبّ في الفيلم الذي ينتهي برقصة نجاة الفتاة من سطوة الإقطاع والطبقية والمظالم التي تُحكِم خناقها على المجتمع الهندي التقليدي. وأرجون هو كالمعتاد، شاب شهم من أسرة فتك بها القهر والفقر، وتحاكي قصّته سرديات مألوفة عن فجوات طبقية أو تواطؤات عائلية أو شبكات مصالح تمنع قبول زواج فتى من فتاة أحلامه، لكنّ الحكاية تتأسّس في هذا الفيلم تحديداً على مسار مُغايِر نسبياً؛ فوالدها يريدها لابن شريكه في تجارة السلاح غير القانونية التي تدرّ عليهما الملايين، وخلف هذه الأواصر حرص على حرمان كاران وأرجون من ميراث جدهما الثري وإبقاء الثروة في نطاق محدّد.

خرافات "بوليوود" وأساطيرها

تحضر الخرافة والعقائد الهندوسية والتقاليد المحلية في هذا الفيلم بقوّة، كما هي عادة السينما الهندية التقليدية، وفيه خلاصة "الماسالا" الهندية أيضاً؛ أي خلطة التوابل المخصصة لأفلام "بوليوود" من الحبّ والغناء والرقص والدموع والقتل والبطولة الخارقة والانتقام الحتمي والنهاية السعيدة. يَحضُر الرقص التقليدي بحركاته الرشيقة على إيقاعات سريعة في فيلم "كاران أرجون"، ليشغل قسطاً وافراً منه. وهل يكون الفيلم هندياً بلا موسيقى وغناء راقص؟!

ساعات ثلاث تقريباً هي مدة فيلم "كاران أرجون" الذي تمّ إنتاجه سنة 1995 وحقّق منذ ذلك الحين نجاحاً كبيراً؛ وفيه تظهر الأم المفجوعة بولديْها القتيليْن، بعد أن شاخت وهي بانتظار حلم يقينيّ لا بدّ أن يتحقّق، وفق مقتضيات السيناريو، كما أوحت لها بذلك "الآلهة الأمّ" التي يطوف بها الناس في الكهف. يظهر كاران وأرجون بعد طول غياب، ويمنحان الأم رشفة الوعد المتحقِّق لكن في حياتهما الجديدة. وهذه "الآلهة الأم" المزعومة التي تتحكّم بالمصائر في الفيلم ليست سوى "كالي"، التي تعني بالسنسكريتية "السوداء"، وإن وقع تصويرها في الواقع بالأسود أو الأزرق، وترتبط في الأساطير الهندوسية بالموت والدمار والتجدّد، علاوة على أنها إحدى "الآلهة" الأنثويات القليلات اللواتي يحقِّقن الأمنيات، وفق الخرافة. تظهر "كالي" في التصاوير والأصنام الهندوسية بأذرع متعدِّدة كما عليه الحال مع "آلهة" خرافية آخرى يعتقد بها الهندوس في أساطيرهم، فتعدّد الأذرع هو كناية عن التدبير والاشتغال في أمور العالم بما يفوق قدرات البشر.

تحضُر قلادات الورد الجنائزية في فيلم "كاران أرجون" وقد جفّت وتيبّست بعد أن احتفظت الأمّ المقهورة بثلاث منها. تعود قلادتان منها إلى ذكرى ولديْها كاران وأرجون في حياتهما السابقة، أما الثالثة فمنحها لها زعيم الأسرة الإقطاعية المتغطرسة الذي فتك بزوجها، الذي هو أخوه، ترقّباً لموتها وإمعاناً في قهرها. يدور الزمان دورته، وتظهر الأم بالقلادتيْن لتُلقيهما على رأسيْ قاتليْ كاران وأرجون بعد أن فتك بهما ولداها في حياتهما الجديدة، وتبقي الثالثة للزعيم في آخر الفيلم. يا له من انتقام عادل! تم استعمال الأسلوب ذاته في الانتقام؛ بضربات السيوف المتلاحقة من فوق الجياد على بدنيْ من احترفا البطش والتنكيل والقتل بهذه الطريقة البشعة لأجل الأسياد.

يشفي جمهور المشاهدين غليله من القاتليْن الوغديْن برؤيتهما يتألّمان على قيد الحياة؛ قبل أن يلفظا أنفاسهما الأخيرة، هكذا يريد المخرج. تتكرّر جرعة التشفِّي الانتقامي في ختام الفيلم بمقتل الزعيم العائلي الشرير في مشهد لابدّ أن تعقبه احتفاليات غنائية راقصة تزهو فيها الأم المكلومة بابتسامة تأخّرت عقوداً، ويلتئم فيها الشاب والشابّة اللذان حالت السطوة القهرية بينهما. وخلال ذلك يكون كثير من الضحايا "الأوغاد" قد تساقطوا صرعى، ومنهم نجل الزعيم وهو وريثه الوحيد، بما يقوِّض حلمه في استمرار ملكه الإقطاعي في المنطقة.

استنساخ الأرواح على الشاشة

تتيح خرافة الأرواح المتناسخة معالجة متذاكية لمأزق غياب العدالة الأرضية لدى طوائف لا تؤمن بالبعث والنشور، فعودة الأرواح في مراتب أعلى أو أدنى من البشر وفق المنظور الطبقي، وكذلك بالنسبة للكائنات عموماً، هو عند القائلين به ضرب من الثواب والعقاب. ومن المألوف أن يتعارف المجتمع المحلي الهندي على تحقّق هذه العودة بموجب حالات انطباعية يعلن فيها بعضهم شعورهم بارتباط روحي أو عاطفي مع إنسان أو كائن على هذه الخلفية، وتُسعِف بعض الإشارات المتوهّمة في اتخاذها قرائن برهانية على صدق المزاعم.

تجود خرافة تناسُخ الأرواح، المعروفة في الهندوسية وديانات آسيوية أخرى، بمخزون وفير تغترف منه أعمال الشعوذة والكهانة ومساعي بعث الأمل واستدرار الفكاهة أيضاً في المجتمع الهندي. يدور في هذا الفيلم، مثلاً، حوار طريف خلال تناول الطعام بين أرجون وتابعه الطيِّب الظريف؛ الذي يتدخّل لصالح "الخير" بافتعال الحيَل والمكائد المشوِّقة للإيقاع بالأسرة الشريرة المتغطرسة. في أحد المشاهد يتناول أرجون الحمّص المسلوق بنهَم، فيسأله تابعه إن هو كان حصاناً في حياته السابقة، فيردّ أرجون بصفة لاذعة: "لعلّك كنتَ كلباً إذاً في حياتك السابقة بالنظر إلى ما تأكله"!.

تسري عقيدة تناسخ الأرواح لدى الهندوس على انتقالها بين الإنسان والحيوان أيضاً. تتأسّس طقوس وتقاليد على هذه الخرافة، كأن يميل بعضهم إلى تعظيم كائنات محددة إن استولت عليهم القناعة بأنها تحوي روحاً سرَت من قبل في جسد بشري عرفوه. تكفي بعض الإشارات الإيحائية لينقلب تسخيرهم لأحد المواشي أو الحيوانات المنزلية مثلاً إلى تبجيل وتكريم. يبلغ الأمر مبلغه إن نُسِبت الأرواح المزعومة إلى كبار الكهنة أو انعقدت بشأنها توصية من أحد "الآلهة" المزعومة، بما يوجب التعامل مع بعض الحيوانات بتقديس بالغ ولو كانت مرذولة.

   

يشهد معبد الجرذان في مدينة ديشنوك الواقعة في ولاية راجستان الهندية على مفعول هذه الخرافة في الواقع، ففيه يحظى كل جرذ يستوطنه بالتقديس والتكريم والرعاية والتغذية على نحو يغبطه عليه بعض البشر الذين لا يجدون مأوى ولا طعاماً، ويكرِّس الناسكون حياتهم المقزِّزة في أرجائه لإطعام نحو عشرين ألف فأر وجرذ "مقدّس" تجول بالمكان ويقع التبرّك بها؛ لأنها في اعتقادهم ليست سوى تعبيرات جسدية عن حقيقة روحية تستبطنها ترتبط بوصية الآلهة الهندوسية كارني ماتا، حسب التأويل الخرافي الرائج الذي جعل المكان وجهة لطلب البركة وتقديم قرابين من الألبان والأطعمة والحلوى للفئران والجرذان بسخاء منذ ستة قرون، لكنّ الامتياز لا يسري على نظيرتها التي تعيش خارج المعبد. وبالطبع لا مجال لدخول القطط إلى هذه الرقعة التي يقصدها السياح أيضاً بحذر شديد خشية دهس كائنات "مقدّسة" في طريقهم.

فرصة لذرف الدموع

بعيداً عن حكاية المعبد الشهير في راجستان؛ فإنّ فيلم "كاران أرجون" يصوِّر حكاية متكررة لكنها لا تفقد تشويقها في ملايين العيون الهندية التي تذرف الدموع في كل مرّة مع ممثلين وممثلات تتبّلل وجناتهم على الشاشة. بكى عشرات ملايين الهنود حتماً مع هذا الفيلم منذ ظهوره في أواسط التسعينيات من فرط تأثّرهم ببعض مشاهده، وضحكوا أيضاً من الأعماق، لكنهم خرجوا من جولات المشاهدة المديدة براحة ضمير بعد أن تحقّقت العدالة الأرضية أمام ناظريهم؛ عبر حيلة تناسُخ الأرواح وانتصار الخير على الشرّ. ترقد الأمّهات المقهورات بعد مشاهدة أفلام كهذه وهنّ يحلمن بإنصاف عادل سيتحقق لهنّ يوماً، ولو بعد أجيال، بمفعول إسقاطات شخصيات الفيلم على واقعهنّ. وما إن ينتهي فيلم حتى يبحث جمهوره عن وجبة مشاهدة جديدة ستتضّمن أدواراً شبيهة، مع صراع ينتهي غالباً بانتصار الخير على الشرّ، وتتخلّله تسلية مشبّعة بالخرافات والأساطير المرتبطة بألوان الهند البهيجة؛ بما يُسعِف الجمهرة على الانسلال من ضغوط واقعها وتصريف شحنة الإحباطات المتراكمة في حياتها اليومية.

قد تسخر بعض المجتمعات من شاشة "بوليوود" التقليدية المشبّعة بالخوارق والمُسرِفة في المبالغات؛ لكنّ أفلامها تبدو من هذا الوجه على الأقل منسجمة مع مجتمعها بثقافته المتجذرة وأساطيره الغائرة في الوعي الجمعي. تلامس "بوليوود" النظام الرمزي لأمّتها، وتجعل للطقوس الوثنية موقعاً لا تُخطِئه العين وإن لم يؤمن بها الممثلون والمُنتِجون وكاتبو السيناريو في الحقيقة، خاصة وأنّ مسلمي الهند حاضرون في "بوليوود" بصفة تفوق معدّلهم الديموغرافي قياساً إلى عموم السكان، وهو ما يتجلّى في فيلم "كاران أرجون" أيضاً رغم تشبُّعه بالثقافة الوثنية الهندوسية. ولا تنفكّ هذه السينما عن بعض الموروث الثقافي التاريخي المرتبط بالمسلمين أيضاً، وهو ما يتأسّس على مزيج الإرث المنوّع في شبه القارة. يعبِّر فيلم "حاتم طائي" (1990) مثلاً عن هذا المنحى، الذي يستدعي الشخصية العربية الرمزية في قالب هندي مع خلطة الماسالا ذاتها. ولمخرج هذا الفيلم، بابوبهاي مسيتري، أعمال سينمائية سابقة منها "علاء دين أور جوداي شيراج" أو "علاء الدين والمصباح السحري" (1952)، مع أسماء عربية أخرى لأفلامه الهندية مثل "مقابلة" (1942)، و"موْج" (1943).

لم تستقرّ الحال بالطبع على الألوان التقليدية وحدها، فقد جرت مياه وفيرة في وادي "بوليوود" الذي يفيض بنحو ألف وخمسمائة إلى ألفي فيلم سنوياً. تشهد السينما الهندية، المتصدّرة عالمياً بعدد أفلامها، تحوّلات نسبية تحت تأثير التحديث الحضري المتسارع وطغيان النزعات الرأسمالية والقيم الاستهلاكية وشيوع الثقافة المعولمة، فأفلام الهند الجديدة تجاوزت الخلطة التقليدية وإن لم تنفكّ منها تماماً. ومما يجدر فحصه كيفية تفاعل "بوليوود" مع نزعة الهندكة التي يُذكيها حزب "بهارتيا جاناتا" الحاكم والتي تهدِّد إرث التنوّع الطائفي والتعددية الثقافية في البلاد التي ظلّت تحظى بوصف كبرى ديمقراطيات الأرض.

هجمة القوة الناعمة

عندما زار بنيامين نتنياهو الهند، في سنة 2018، لم يكن مستغرباً أن يلجأ إلى ممارسة تضليله الدعائي المألوف بأساليب "الدبلوماسية الشعبية"، فعمد إلى التقاط الصور مع زوجه سارة في حضرة المعلم الأشهر تاج محلّ لإظهار الاحترام المُفتعَل للهند وثقافتها وتاريخها، فبدا في الصور نتنياهو آخر تماماً غير حقيقته؛ بقناع مهذّب وودود شكلياً. لم يكن المسعى التضليلي ليكتمل بدون لقائه مع حشد من نجوم "بوليوود" والتقاط صورة ذاتية مُفتعَلة معهم مكلّلة بابتسامة ساذجة ومزيّفة؛ لاستثمار رصيدهم المعنوي في أمّة تضمّ قرابة ثلاثة مليارات عيْن لا تملّ من مشاهدة أفلام "الماسالا". إنها حيلة رئيس حكومة الاحتلال والغطرسة لاختراق دفاعات الوعي الهندية، كي لا ترى زعيم الاحتلال في هيئة شرير الفيلم النمطي التي تُوافِق واقعه.

حقّق نتنياهو إنجازه السهل بالتقاط الصورة سريعاً، لكنّ بعض وجوه "بوليوود" البارزين رفضوا اللقاء به خلال زيارته تلك، تنديداً بالاحتلال واستنكاراً لجرائمه المتواصلة بحقّ الشعب الفلسطيني؛ ومن بينهم سلمان خان الذي قام بدور "كاران"، وشاه روخ خان الذي أدّى دور "أرجون"؛ وكلاهما من أبرز نجوم السينما الهندية. يُعَدّ الأخير من أغنى ممثلي العالم بثروة تقدّر بثلاثة أرباع مليار دولار مع مشروعات عدّة تتبعه؛ من بينها نادٍ للكريكيت. ساهم شاه روخ خان في صعود "بوليوود" إلى العالمية عبر الفيلم الشهير "اسمي خان" الذي حصد جوائز عدّة بعد إنتاجه سنة 2010، وهو يدور حول موقف الأمريكيين في عهد جورج بوش الابن من المسلمين بعد منعطف الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001.

استنسخ المتضامنون الهنود مع فلسطين صور الممثلين الرافضين للقاء رئيس وزراء الاحتلال وتداولوها باعتزاز، مع تلطيخ صورة نتنياهو الذاتية تلك بمشاهد مركّبة في خلفيتها تُظهِر انتهاكات تقترفها قوّاته بحق الأطفال. لا ينبغي للحكاية أن تنتهي هنا، فجهود التضامن مع فلسطين في شبه القارّة معنيّة الآن وأكثر من أي وقت مضى بأن تدفع بأعمال سينمائية تستنسخ روح المهاتما غاندي ونضال الهنود التحرري من الاستعمار الذي تضمحلّ ذاكرته. قد تظهر أرواح "بوليوود" المستنسخة في قرية محتلة في الضفة الغربية، على نحو يتيح فرصة انتصار العدالة على سطوة القهر والظلم؛ على الشاشة قبل الميدان، أو لعلّ بطولات الميدان ورمزيّاتها المتألِّقة تتجلّى للعيون في نسخ هندية وإن كانت مشبّعة بخلطة الماسالا، كما فعلت شاشة "بوليوود" بحاتم الطائي من قبل.

وسوم: العدد 805