ذكريات بين المدينة والقرية

سليمان عبد الله حمد

[email protected]

السودان في القرية والمدينة صدر للكاتب جعفر حامد البشير رحمة الله عليه من دار عزة للنشر والتوزيع في العام 2005 م ، الكتاب يقدم رحلة طويلة كان المؤلف شاهد عيان على كل أحداثها وقد وصفها وصفاً تاريخياً اجتماعياً للحياة التي رأها في القرية والمدينة بدءاً من قندتو مسقط رأسه ونهاية بالعاصمة المثلثة ... الجدير ذكره أن هذه الذكريات قد صدرت منذ أعوام باسم السودان في القرية والمدينة ? مملكة الجعليين الكبرى في ثلاث طبعات الأولى عام 1955م والثانية عام 1997م والثالثة عام 2004م ...

بدأت حلقات الكتاب الأولى بذكر واقعة فات على الكاتب تدوينها في مملكة الجعليين الكبرى قبل مغادرته مدينة شندي ليلتحق بمدرسة امدرمان الوسطى فقال : رغم أن المدينة لم تكن عاصمة في الحكم الثنائي لكنها كانت سابقة كعهدها لأخذ موقفها الوطني فهي قد احتجت لإجلاء الاستعمار البريطاني للإخوة المصريين من السودان عقب اغتيال السيرلي استاك في مصر والذي جعله الاستعمار ذريعة لاتخاذ ذلك القرار الظالم والذي كان يقدم مثالاً حياً للذرائع التي يبني عليها الاستعماريون عادة أحكامهم الجائرة كان ذلك في العام 1924م وقد تلاه بعد مضي ربع ?رن الوفاء بوعد بلفور في فلسطين والتمكين للاسرائليين من احتلالها عام 1948م والتوسيع فيه عام 1967م وهو عام النكسة ....هذا الحديث يقود الى مشاركة شندي الوطنية والوحدوية في الاحتجاج على مؤامرة 1924م التي فجرت الثورة بزعامة الشيخ بابكر الطيب رئيس لجنة اللواء الأبيض بالمدينة وقد كان من أعضاء تلك اللجنة حاج جلاب بشير ومحمد ادريس عبد الرحيم ومن شخصيات المتمة المقيمين في شندي عبد القادر جمال الدين ، وقد كان أحمد الشيخ والد الشفيع أحمد الشيخ يأوي المتظاهرين عندما يطاردهم رجال الشرطة في منزله وقد كان عضواً فاعلاً في ?جنة اللواء الأبيض ....

في نهاية 1934م دخل الكاتب مدرسة امدرمان الأميرية الوسطى وقد ذكر عدد من الذين تدربوا فيها وهو طالب بصحبم معلمهم مكي شبيكة من كلية غردون منهم الأستاذ سر الختم الخليفة رئيس وزراء حكومة اكتوبر وبانقا الأمين الذي اصبح فيما بعد وزيراً في عهد مايو وعفان والطيب شبيكة وكانا من نجوم المجتمع العاصمي وقد تحول عفان في النهاية من التعليم الى الصحافة وأسس صحيفته الشباب ... تناولت المذكرات زيارة الشاعر على بك الجارم الى السودان بهدف مراجعة المناهج التعليمية في السودان ولكن الزيارة أصبحت كما ووصفها الكاتب بالتظاهرة الادبية?الرائعة وكانت تخفي من ورائها دون قصد او اعداد مسبق تظاهرة سياسية ...صدح علي الجارم بقصيدة حيَا فيها عيد الجلوس الملكي وأخرى أفاض فيها على السودانيين بثناء ثر ومن ذلك الشعر المتميز النادر شاكراً لهم التفافهم حوله وإعجابهم به وتكريمهم له فقال :-

إني نزلت بجيرة بُسل على النجدات حشد

أنسيت أهلي بينهم ونسيت إخواني وولدي

الضيف في ساحاته يختال من رفد لرفد

عقدوا خناصرهم على صدق الوفاء أشد عقد

ومضت أواصرنا تمد الى العروبة خير مد

وقرأ الشاعر أحمد محمد صالح قصيدة حث فيها الجارم على تعليم الشباب السودان الى جانب المصري قائلاً

يا وارث الأدب التليد وباني الأدب الأجد

علَم شباب الواديين خلائق الرجال الأشد

علمهمو أن الخنوع مذلة والجبن يردي

علمهمو أن الحياة تسير من جزر لمد

علمهمو أن التمسح بالفرنجة غير مجد

وأبٍن لهم أن العروبة ركن أعزاز ومجد

هذه القصيدة جارى فيه احمد محمد صالح فيها على الجارم وقد اعترف له الجارم وقتها انه قد تغلب عليه في هذه القصيدة .

انتقل بعد ذلك الكاتب من امدرمان حيث كان يقيم مع خاله محمد أفندي البشير ضابط الشرطة بالمدينة في منزله والذي كان من قبل منزل شيخ الدين بن الخليفة عبدالله التعايشي ، انتقل ليقيم في مدينة بحري ويكمل مرحلته الوسطى في مدرسة الخرطوم بحري الوسطى في منزل بن عمته محجوب حضرة ، بعد نهاية تعليمه الأوسط التحق لظروف أسرية بمدرسة البريد والبرق وقد كتب عنها كما كتب عن الحرب العالمية الثانية والمذيع العراقي يونس بحري فقال ما زلنا في مطلع عام 1942 م وما زالت هناك حوادث طريفة عن النازية وعن يونس بحري وعن مخاوف المصريين من الن?زية وهي على حدودهم من الجهة الغربية ومعركة العلمين وشاءت الظروف أن تقع في أيدينا صحيفة مصرية فيها أبيات لشاعر مصري ظريف عبر عن حيرة الشعب المصري أزاء هذه المشكلة التي لا ناقة له فيها ولا جمل ، بيتاً واحداً منها راسخاً في ذاكرتي

علمان في ( العلمين ) يقتتلان

يا مصر ما العلمين ما العلمان

كأنه يقول بالعامية المصرية ( واحنا مالنا )

أحاديث يونس بحري الاذاعية كانت تشير بوضوح الى تهديد مصر بالغزو والسبب الأول أن الكاتب الكبير العقاد ألف في تلك الأيام كتاباً عنوانه ( هتلر في الميزان ) حلل فيه النازية والفاشية كنظم استبدادية تقوم على الديكتاتورية والطغيان واقتلاع جذور الحريات وقارن بين تلك النظم ونظم الحلفاء التي تقوم على الديمقراطية وكفالة الحرية والعدالة في كافة جوانبها ... كان لابد من أن فحوى الكتاب ستنتقل وعلى عجل الى اللغات الانجليزية والفرنسية وخاصة الألمانية وهي المعنية واذا بنا نسمع يونس بحري يقول :

ويل للكاتب المأجور عباس محمود العقاد ... اننا سننتقل من العلمين فالسلوم الى الاسكندرية وبعدها القاهرة مباشرة .... فوجئ المجتمع السوداني بأن العقاد وصل الى الخرطوم واهتم الخريجون ودوائرهم الثقافية بهذا النبأ العظيم الذي أبهجهم فهو مقروء لذلك الجيل يتابعون كتاباته في السياسة والثقافة ومقالاته النقدية ، هلل الخريجون وكبروا وفرحوا باستضافة السودان للعقاد وحتى الانجليز قد رحبوا بمجيئه خاصة وأن السكرتير الاداري كان رجلاً مثقفاً وثيق الصلة بالمثقفين السودانيين واسمه مستر دوقلاس نيوبولد وقد نقل استضافة العقاد من ا?خريجين لحكومة السودان عقب الاستئذان ... عندما قام العقاد بزيارته المفاجئة للسودان كان يرتب ويصنف في القاهرة مادة كتابه عبقرية عمر وحين سئل عن هذا الكتاب في الخرطوم قال لقد شرعت في تأليفه الا أنني لم أستطع حمل كل المراجع معي الى الخرطوم فرد عليه البعض من الخريجين نحن هنا يمكن أن نمدك بكل ما تحتاج اليه من المراجع القديمة والحديثة فعقدت الدهشة لسانه وقال له البعض اكتب لنا المراجع التي تريدها فاذا بها خلال يومين او ثلاثة توضع امامك ثم احضرت اليه بعض المراجع الانجليزية خاصة بعض كتب المستشرقين .

بعد ذلك انتقل بنا المؤلف الى جبيت بشرق السودان التي انتقل اليها موظفاً بالبريد والبرق قائلاً أخذت العلاقات بيني وأصدقاء العمل من الموظفين تزداد يوماً بعد يوم وظهرت بينهم كصاحب نشاط اجتماعي وثقافي فقد القيت محاضرتين في نادي جبيت في الوطنية حيناً وفي الأدب حيناً آخر ثم بدأ التشاور مع مجموعة أكبر سناً لتكوين لجنة فرعية للمؤتمر فكانت تلك البداية لنشاط وطني في تلك المدينة الصغيرة ، وفي جبيت كانت البداية لكتابة الشعر ولكنه كان يكتب ويمزق وكانت بدايته هذه االقصيدة التي نالت اعجاب من شجعوه على المواصلة وكان يخاطب ?يها جبيت

جبال جبيت عالية المتون

أفيقي من سكوتك حدثيني

عاد الموظف الصغير سناً ودرجة وظيفية الى النيل في أول اجازة سنوية وبعدها غادر للعمل في ابي حمد والتي كانت بها بداية نشر أعماله الأدبية عندما بعث بقصيدته ( الى وادي الأراك في جبيت وسنكات والى أركويت فاتنة الجبال والى الأصدقاء هناك ) بعث بها الى الأستاذ المبارك ابراهيم وقد كان يحرر مجلة ( هنا امدرمان ) ويحاول أن يقلد في اخراجها مجلة ( هنا لندن ) واذا بالقصيدة تنشر في وقت وجيز وبصورة تختلف كثيراً عن النشر في الصحف اليومية ... وفي فترة تالية قبيل الأربعينيات بدأ جعفر حامد البشير كتابة القصائد الوطنية والسياسية ?الاجتماعية التي عرفها به قرائه الى جانب الوجدانيات وقد شجعه هذا النجاح على أن يواصل القراءة في دواوين الشعر القديم والحديث من جهة كما يواصل الكتابة الى الصحف من جهة أخرى ...

انتقل الكاتب من ابي حمد الى الدامر وبدأ حديثه عن الدامر ببيت من الشعر للشاعر توفيق صالح جبريل مدافعاً عن سوء الفهم الذي لحق به ، والبيت الشعري هو :

أيا دامر المجذوب لا أنت قرية

بداوتها تبدو ولا أنت بندر

فقال عنه : صاحب هذا البيت الشعري الفكه الساخر هو الشاعر توفيق صالح جبريل وهو مطلع لقصيدة رائعة عامرة لا تسخر من الدامر كما يتبادر ذلك الى ذهن القارئ أو السامع لهذا البيت الذي تناقلته الأفواه ضاحكة ، وانما هي قصيدة لها مثيلاتها في ديوانه الذي صدر عقب وفاته ، لقد تغنى توفيق بالدامر وبالطبيعة حولها وبالجزر والشواطئ وقد عارضه الكاتب بقصيدة لها وزنها وقافيتها قائلاً :

وما ضر لو فيها من البدو مسحة

ومن حضر البلدان شكل ومنظر

ومن عجب إن تسعد الناس بلدة

بذوقين شتى إن هذا ليؤثر

وارتاح أهل الدامر لهذه المعارضة التي ظنوا أن توفيق قد سخر فيها من مدينتهم وان هذه الأبيات جاءت رداً على سخريته الا أن الأمر كان مختلفاً فتوفيق رحمة الله عليه كان يريد إن في الدامر طبيعتين الحضارة والبداوة معاً ومن لم يعجبه هذا اللون وجد بغيته في اللون الآخر وتوفيق كان مفتوناً بالدامر وبحياته الطويلة فيها وبصداقاته وكل ذكرياته ... ثم يواصل حديثه عن أنه بدأ انسجامه في مجموعات نادي الدامر من التجار والموظفين والعمال وأحس بدفء غامر ليس له مثيل في تجاربه السابقة لقد وجد الكاتب في نادي الدامر المناخ الذي يحبه وي?عشقه وفي النادي الليالي السياسية والمحاضرات والندوات الثقافية وجمعية النادي الأدبية ومجلتها المخطوطة واسمها ( النجم ) وأعضاء النادي ينتمون في مجموعهم لمؤتمر الخريجين ، كان نادي الدامر مثل غيره من الأندية الخاصة بالخريجين يخضع لمرسوم معين بأن يرأس لجنته موظف بريطاني كبير أو من ينوب عنه من البريطانيين الا أن الخريجين قد تمردوا على ذلك المرسوم في كثير من المدن حتى قضوا عليه تماماً .. والحديث عن الدامر ونشاطها الثقافي كبير وهو كان ختام الحديث في الكتاب وهو كتاب جدير بالقراءة والوقوف عنده فقد سلط الضوء على كثير?من الأحداث الثقافية والوطنية التي كانت تحتاج لاضاءات من الذين عاصروها وعاشوا أيامها .