سياحية إم درمانية

سليمان عبد الله حمد

[email protected]

أم درمان .. مدينة من تراب (1)

نسلط الضوء على أولئك الأشخاص الذين وضعوا أسماءهم في سجل مشرف نتحدث عنهم الاجيال جيلاً بعد جيل ... يفخرون بما قدموه للوطن ونسعد نحن بتسجيل تلك البصمة !!!

عندي ان الاثنين معاً , هما شئ واحد .. الأقدار والمصادفات هي خيطان في نسج الزمان . وعمر كل منا هو هذا المزيج الذي يقدره الله سبحانه وتعالي . ومحدودية عقلنا البشري لا تري هذه الكلية الا في تجلياتها الجزئية . وعين البصيرة البشرية لا تري الا هذا الذي يظهر نفسه الآن . وهناك بصائر رزقها الله بنعمة شوف الزمان موصول الاطراف بلا انقطاعات اذن ليست مصادفة أن تكون قراءاتي كلها هذا الاسبوع عن ام درمان .. هي حتمية اذن .. ان أقرأ مدينة من تراب لعلي المك ..

ان أقرأ وصف أم درمان الذي يكتبه الاستاذ حلمي بدوي .. وأن اقرأ قصدة كمال الجزولي (أم درمان تأتي في بص الثامنة) .. وسرديات الراحل خالد الكد عن ام درمان .. وأم درمان في كتاب تشرشل (حرب النهر).وها هو الكاتب والشاعر محمد محمد خير يكتب قصيدة عن ام درمان (لون المطر يشبهك) ومن قبله كتب دكتور الواثق (أم درمان تحتضر).كل كاتب من هؤلاء الكتاب يقدم لنا وصفاً للمدينة القومية (ام درمان) .. وهى عند كل تأخذ شكلاً وهيئة وجدانية خاصة ومن ثم تمثل رؤية فنية فردانية .. ولكن جوهر معانيها فهو مشترك عند الجميع . هي المدينة التي انصهرت فيها كل قبائل السودان حيث انتجت في نهاية الامر الهوية القومية السودانية .كان الشعر هو أقدر انواع الكتابة واكثرها كفاءة في تصوير جوهر المدينة الشعري .. لان الشعر تستخدم التفاصيل الصغيرة للوصول الي الكلية .. وكأن النثر يبحث عن تكوينات المدينة والأنثروبولوجية والاركيولوجية . النثر يحفر في المكان ليعثر علي الآثار الحضارية ويجد من ثم رأس الخيط الذي ينظم الانساب والعلائق الاجتماعية وليحدد الظروف التاريخية التي صنعت ام درمان بهذه الكيفية التي عليها تكون الآن .عند خالد الكد ام درمان هنا هي مدينة الخمسينات .. وكذلك هي عند علي المك , وعند كمال الجزولي , وعند خليل فرح هي ام درمان في زمان الانجليز .اما حلمي بدوي فهو يوصفها وصفاً افقياً اولياً . اسم الاحياء والعائلات التي استقرت بها .محمد محمد خير في قصيدته (لون المطر يشبهك) .. فهو يصورها الأن .. بوصفها حاصل جمع كل الازمنة .. فالراهن هنا يرتبط بماضيه وبمستقبله .. ومحمد محمد خير يصور مدينته من البعد . من حنين عميق للوطن .. كما فعل الطيب صالح في تصويره للسودان في روايته (موسم الهجرة الي للشمال).خليل فرح صور ام درمان ايام الانجليز كحلم بالمستقبل الذي هو الاستقلال في رائعته (عزة في هواك) .. خليل فرح ومحمد محمد خير جعلا الراهن يتمتلئ بكل الازمنة .. فزمانهما هو زمان المصادفات والحتميات .. كمال الجزولي كان مشغولاً بالآتي .. كان مستقبلياً مثل مايكوفسكي الروسي .الشعراء يرصدون المكان بواسطة ذاكرة تجري في كل ابعاد الزمان .. وكان يمكن للنثر أن يرصد الامتداد الزماني للمكان .. وكان في بعدية افقياً وعمودياً .. الا ان النثر الذي وصف لنا ام درمان كان يأخذ اتجاهين .. فهو اما يقدم لنا وضعاً تاريخياً وصفياً .. واما ان يأخذ الوقائع التاريخية ويعمل علي تحليلها وقراءتها بشكل يكشف عن المعاني الخبيئة التي تستتر خلف الوقائع .بالطبع هناك كتابات كثيرة جداً عن ام درمان .. في تاريخها البعيد وتاريخها القريب .وكل هذه الكتابات تصنع انسكلوبيديا شاملة .. فقط تحتاج لقراءة او اعادة قراءة .. وعلي ضوء هذه القراءات يمكن ان نري ام درمان في كل الازمنة .. والماضي والحاضر والمستقبل .وفي ذات يمكن لهذه القراءة ان تستعين بدراسات في حقول مجاورة فهناك ما كتبه الطيب محمد الطيب وهناك رسومات الاستاذ ابراهيم الصلحي وهناك كانت قد اتخذت من ام درمان مكاناً وزماناً وجدانياً .ولهذا فان نقرأ ام درمان نثراً أو شعراً فهذا يعني اننا نقرأ الوطن كله .. كأن نقرأ العمر موضوعاً بين المصادفات والحتميات .

تلك أم درمان  المدينة العاشقة  التى تتمدد فتاة عارية على شاطي النيل العشوق يسطر لها الادباء والشعراء كل الجمال الغنائي والسياسى فهي مدينة العشق والوطنية !!!

مدينة صنعت مجدها في ساحة الفن الغنائي !!!(2)

نسلط الضوء على أولئك الأشخاص الذين وضعوا أسماءهم في سجل مشرف نتحدث عنهم الاجيال جيلاً بعد جيل ... يفخرون بما قدموه للوطن ونسعد نحن بتسجيل تلك البصمة !!!

جمال محمد ابراهيم

كان رجلا كريم المحتد ، وشاعراً رقيق العبارة ، يرفد من قاموس شعري أم درماني مشرّب بإرث ضخم ، تمتزج فيه قصيدة مدح الرسول مع قصيدة الغزل التي ميزت غناء الحقيبة ، وترتفع فيه نبرات الحزن المحتشد مع ايقاعات الفرح اللامحدود .

عبد الله محمد زين . .

في داره العامرة في منطقة "هارو رود" في لندن ، كان الدفء أم درمانيا . ليس في أم درمانيته عصبية أو شوفينية بغيضة ، بل هي فطرة الانفتاح على الآخر ، تراحماً ووداً فواحاً يعبق من حول شاعر نطق وجدانه بأعذب الكلام عن مدينة أحبها وأحبته .

لم نكن في دار عبد الله بعيدين من "التيميس" ، ولكن كنا معه أقرب إلى أبي روف وحي العرب والموردة وحي الأمراء . من نافذة بيته اللندني كدنا نشم رائحة النيل نفاذة تخرج من عشب الوطن . يظل يحدثنا عن مدينتنا الترابية فتكاد الدمعة تطفر من عينه العاشقة . يحدثنا عن تاريخ شعر الحقيبة : عمن كتب في المعشوقة أومن جاراه ، وعمن نافسه ، ليس على المعشوقة فحسب ، بل على القصيدة أيضاً . كان يحدث الراحل عبد الله عن حياة ذات ابعاد ملونة وذات أعماق وطول وعرض .

انا ام درمان لسان حالك اريتك تدري بحالي

قلب ينبض بحلو الكلام ، مثل قلب عبد الله محمد زين ، لن يكتب له من رقته وشفافيته أن يعمر طويلا . ولقد أصابت المحبة العارمة قلب عبد الله في مقتل شبابه العاشق لجمال أم در .

لم يتحمل قلبه الرهيف تلك المحبة ، بل أضناه الشِعر وأوهن جسده الضعيف ، فكأن قصيده القويّ جاء خصماً من بدنه الآفل نحولاً وضعفا . هي العافية التي تشدّ الحيل ، خرجت من جسده واستوت في النشيد الأم درماني ، ملحوناً على وقع حوافر جواد يتواثب في أنحاء "مدينة من تراب" . أجل ، تستنهض الذاكرة كتابات عاشق أم درماني آخر ، ذرب اللسان ، مجوّد لمحبتها ، منقطع للغناء لها ، ذلكم هو الأديب القاص الشاعر علي المك .

علي وعبد الله روّجا لثقافة المحبة تُزجى لأم درمان ، كونها ذلك الكيان الجامع لمكونات الوطن الذي مكثت عناصره طويلاً في الوجدان ، غير أنها لم تكمل تشكلّها ، بل بقيت في فسيفسائيتها الآنية ، تطلعاً وانتظارا وحلما مسافاته تطول .

في الضفة الأخرى من النيل الشامخ ، لمحت شاعراً فحلاً هو محمد الواثق . أجل لم يكن في هذه الضفة الأم درمانية ، فقد آثر أن يبقى هناك في الضفة الأخرى ، لا يعبر بوجدانه في تلك "المعدية" ، تقربه زلفى إلى أم درمان . .إلى الشاطيء الغربي الذي غناه الراحل ابن حي العرب عبد الله محمد زين . العبور بـ "معدية" الوجدان غير العبور بـ"معدية شركة النور" في الخمسينات والستينات من القرن العشرين ، التي كانت تدير ناقلات التواصل البشري النشط بين أضلاع العاصمة المثلثة ، من بصات ومعديات وعربات ترام ، تجري بين بحري والخرطوم وأم درمان ، جريان الدم في الأوردة والشرايين ، فتمتليء رئة الأمكنة بهواء الألفة ونسيم التآخي . ثمة من لم يعبر بمعدية الوجدان ، فوقف ينظر من مسافة محيرة . لا أعرف لِمَ اختار شاعر رقيق الحاشية قويّ اللغة ممسك بنواصيها ، هذا الموقف العدائي المستهجن لكل ما هو أم درماني ، فطفق يهجو مدينتنا الترابية بأكثرمما قد يكون فيها ، ثم أوغل بخياله فرماها بمثلما ترمي قبيلة الجاهلية الناشز من فتياتها ، لا تأخذها بها رحمة.

نظرت في الذي جاء من أخي عبد الله شقليني ، يعرض لمن ذم ولمن مدح ، وقد صدق قلمه إذ كتب :

لم تكن أم درمان بأثواب العُهر الذي ألبسها إياه الشاعر محمد الواثق . فمن وشي الشعر يتلمس الواحد فينا أن خنجراً غرزه كائن ما في صدره . فدعنا اليوم ننزع صفة الكتابة الناقدة ونلبس جبة الناظرين إلى أعماق النفس البشرية من مدخل الكتابات الإبداعية ، ولو أن ذلك مدخلٌ غير موضوعي لتناول الشعر ، إلا أن القصيدة الشجية الحزينة الورقاء من جزالتها وفخامة اللغة والحسّ الموسيقي الملتهب ، تختمر في باطنها نار أسى وحسرة وغيظ مكتوم ، انفجر بصاحبه مُبدعاً في شعره ، موغلاً في خصومة فاجرة ، سب فيها نساءها ورجالها وأغلظ في السباب .

تلك أم درمان  المدينة العاشقة  التى تتمدد فتاة عارية على شاطي النيل العشوق يسطر لها الادباء والشعراء كل الجمال الغنائي والسياسى فهي مدينة العشق والوطنية !!!

مدينة صنعت مجدها في ساحة الفن الغنائي !!!(3)

نسلط الضوء على أولئك الأشخاص الذين وضعوا أسماءهم في سجل مشرف نتحدث عنهم الاجيال جيلاً بعد جيل ... يفخرون بما قدموه للوطن ونسعد نحن بتسجيل تلك البصمة !!!

نعود لبعض أبيات قصيدته ( أم درمان تحتضر ) لنُذكِّر :

أكلما غرست كفي لهم غرســاً

أسرف في غيه الشعري شاعرنا الواثق ، إذ كاد أن يرمي بعض أهله في أم درمان بما ليس فيهم . ولكن لا يجوز مدارسة الشعر ومقايسته بمعايير الأخلاق وموازين الشرف والعفة وما إليهما . كما أني لست بالناقد المتخصص ، بل أنا ذواقة أحب الشعر بفطرة أظنها حسنة ، وأجرّب نظما حظي بقبول معقول. مع ذلك فإن الشعر أصدقه الكذوب ، وإني لآخذ الصدق الذي جاء في القصيدة "الواثقية " من هذا الباب . ولقد تملكني حزن أو هي حسرة على الشاعر الضخم يضيع سهمه فيما لا ينفع الناس ، وإن نفع لغةَ النظم وقاموس الهجاء . ما أحرى بشاعر فحل أن يقف في عكاظه ليروّج لثقافة المحبة والوصال ، فتكسب اللغة والشعر ويسعد الخلق . لا أدري لمَ اختار دكتور الواثق أن يروّج لثقافة التباغض والكراهية والهجر ، فيما لم يترك لنا فسحة لنتخاصم مثلما أراد المتنبي لنقاد شعره المعاصرين ، فاختار أن يخاصمنا ويظاهرنا الظهار الأعظم ويسفر عن العداء المستحكم بأجزل لغة وأرصن نظم . أعجبني أخي الأستاذ المهندس عبد الله شقليني يقتبس من محبة الشاعر المخضرم سيف الدسوقي لمدينة أم درمان ، شعراً فصيحاً يفيض عذوبة ومحبة في بائيته الشهيرة . هي دعوة لثقافة المحبة تنداح لمدينة أحبتنا وأحببناها . بمثل ذلك فعل الراحل عبد الله محمد زين في خريدته العامية الأم درمانية :

انا ام درمان سليلة السيل قسمت الليل وبنت صباح

لن أدافع عن مدينة صنعت مجدها في ساحة الفن الغنائي ، وهتفت بأول خروج أثيري : "هنا أم درمان" ، فكانت أغنية المدينة التي نعرف . هل أزود عن شجر بلونا حلاوة ثمره فتذوقه القاصي والداني ، من المشارق والمغارب ؟ لن أحدّث عن مدينة تنفست سياسة ، وسمت أدباً ، وزوّقت فناً ، ورعت صحافة واشرقت إبداعاً . لها أن تحدث عن نفسها فهي الأقدر . لها أن تحكي لمن لا يعرف ، كيف سجل التاريخ إسمها ، فهو محاميها الأوحد والأصدق...

لوحُ التاريخ يسجل بوابة عبد القيوم وطابية المهدية ونادي الخريجين ودار فوز ومسكن خليل فرح ، ودار ندوة عبد الله حامد الأمين ، والمدرسة الأميرية ، وخلفها الأزقة التي كبرت فيها كرة القدم السودانية فاستوت هلالا ومريخا.

لوحُ التاريخ يسجل مبارك زروق كما يسجل زنقار . يسجل بابكر بدري كما يسجل الشيخ السراج والتجاني بشير . يسجل الشنقيطي وأحمد محمد صالح والدينمو والشيخ هاشم ابو القاسم . لوح التاريخ يسجل إسم سرور وإسم كرومة :ما يظهر إسم أحمد المصطفى بركات . وتنظر في لوح التاريخ تجد مدينتنا الترابية تتمدد في إيوانها ، ترفل في ديباجها ، تختال بتيجانها ، فمن يذمها أو يهجوها . . ؟

كلما تذكرت مدينتي أم درمان ، طاف بي طيف الراحل عبد الله محمد زين ، بصوته الرخيم الواهن ، يستقوي بأم درمان وتستقوي به . من لزوميات العشق أن يفنى العاشق في معشوقته ، شهيداً متيما .

في ذلك المنزل اللندني ، وحين كنا نسمع الراحل ينشد قصائد حبه الأم درمانية ، في استغراقه الصوفي النبيل ، فإنه كان يسدد فاتورة عشقه لهذه المدينة ، حتى يكتب له الفناء في أمكنة السحر وقصور التراب . بعض أم درمان التي نعرف ،هي من روح هذا الشاعر الشفيف : عبد الله محمد زين . نحل بدنه وسكت قلبه عن الخفقان المباح ، لتخلد فيه أم درمان . فهل مات من غنى : أنا أم درمان؟

 

لو شئنا أن نحيّ ذكراه ، ترحماً على روحه الشاعرة ، فما أحرانا أن نغني معه مدينته الحبيبة ، عشقاَ لا كرهاً. مدحاً لا ذماً .. ثقافة المحبة غلابة ، لن تهزمها ثقافة الذم وقصائد الهجاء . . أيها الشاعر النبيل : نم قرير العين ، فقد خلدت فيك مدينتك الترابية ، وتذهّبت في غنائك . .

تلك أم درمان  المدينة العاشقة  التى تتمدد فتاة عارية على شاطي النيل العشوق يسطر لها الادباء والشعراء كل الجمال الغنائي والسياسى فهي مدينة العشق والوطنية !!!