تكريم كل المبدعين وهم على قيد الحياة

تكريم كل المبدعين وهم على قيد الحياة

سليمان عبد الله حمد

[email protected]

الإبداع والمبدعون في بلادي كثر في شتى ضروبه في مناحي الحياة المختلفة في الطرب الأصيل وفي الشعر الرصين وفي الرسم التشكيلي وفي الأدب والفنون وفي الكتابة في الصحف وفي التأليف والإخراج والدراما وفي ميادين الكرة وغيرها من ضروب الإبداع ...!!!

لهذا فنحن نتعشم في المسؤولين في القطاع الحكومي أن يكرم كل هؤلاء العظماء وهم على قيد الحياة حتى يبدعوا أكثر ويحسوا بطعم التكريم والتحفيز وما قدموه من انجازات مقدرة وهم الذين افنوا زهرة شبابهم ونضارتها من أجل صنع إبداعي راقي ومفيد ومثمر وابتكارات في كل دروب الحياة وفلسفتها لفائدة المجتمع ليظل متماسكاً بإرثه وثقافته وكل مورثاته الأزلية وكل في مجاله الخاص الذي خصاه الخالق به وأفني حياته فيه ليضئ عتمة الدروب للآخرين وإسعاده الآلاف من البشر وتخفيف عنهم ضغوط وقسوة الأيام والأخذ بأياديهم وإخراجهم من براثن الجهل والظلام ...!!!

ونرى الغصة والعبرة تخنقانه وهو يرى كل الكبار الذين أفنوا حياتهم لخدمة وإسعاد الآخرين تتساقط أوراقهم واحدة تلو الأخرى من علماء وأدباء وأطباء وأساتذة أجلاء ومفكرين وكتاب ومطربين وشعراء وغيرهم من العباقرة وفي آخر المطاف ماتوا شرفاء لا يملكون مسكنا ولا حق العلاج تركوا أسرهم تصارع ظروف الحياة وقسوتها وحتى الذين ما زالوا على قيد الحياة يعانون الأمرين من جحيم المرض وقصر اليد ولا أحد يسال عنهم بل الكثيرون يسألون عن تقصيرهم في عدم إنتاجهم الأدبي أو الفكري أو الثقافي أو الإبداعي بالرغم من تقدم العمر بهم والمرض اللئيم ينخر في أجسادهم ...!!!

وكذلك لا يخفى على أحد بأن كثير من البرامج المسموعة والمرئية قد وثقت لمئات من هؤلاء العظماء الذين خلدوا للأجيال الكثير من الإبداع والصنع الراقي البديع لذلك نناشد الجهات المسؤولة على أن تنظر لحال هؤلاء المبدعين وتقدم لهم يد المساعدة والكثير منهم الآن طريح الفراش وهو لا يملك حق الدواء أو ما يعيل به أسرته المغلوب على أمرها.

وما نلاحظه من السرور والغبطة عندما يقوم احد من الناس بزيارة أحد من هؤلاء العظماء وهو طريح الفراش على السرير الأبيض يشعر وكأنه زادته قوة ومنعة على مقاومة الألم والمرض ونرى البسمة تغطى محياه الرائع الجميل بالرغم من قسوة الألم وقصر اليد حقاً إنهم عظماء هؤلاء الذين أفنوا حياتهم وأرواحهم فداءً لهذا الوطن العظيم، وحملوه في حدقات العيون وخلدوه في أشعارهم وأعمالهم الخالدات ...!!!

تلك إشارات  لمن يلج في متاهات الفن الجميل من أجيال اليوم والغد لعلها تكون وثيقة مكتوبة يستظل بها في مقبل الايام والسنين إي يعرف نهاية الحكاية في ظل الفن الظلوم ومن يدور في فلكه !!!

سليمان عبد الله حمد ـ الرياض

 

 

الأدباء الألمان يغفرون لزملائهم كل شيء عدا النجاح» ..

مارسيل رايش يانكي!

 

الاختلاط العرقي في وطنى  أوجد مناخاً ثقافيا وإبداعياً له هويته وتميزه الخاص، لكن تلك الخصوصية في جغرافية وطنى  الثقافية والعرقية أدت بدورها إلى خلق تلك الفجوة أو بناء ذلك الجدار الذي ظل يفصل بين المبدع والمتلقي العربي والأفريقي ..!

الوضع هنا شبيه بأغنية  لا يطرب العرب كثيرا للحنها لأنها تنتمي إلى سلم موسيقى آخر غير الذي تعودوا عليه، بينما لا يستطيع الأفارقة ترديدها لأن كلماتها بالعربية! .. ربما لذلك ظل المبدع فى وطني محروماً من نعمة الانتشار عربيا وأفريقيا، وبقي بعض من لا تنطبق عليهم هذه القاعدة مجرد استثناء آخر  لتأكيدها ..!

ولعل الطيب صالح هو أشهر تلك الاستثناءات باعتباره الروائي الوحيد الذي وصل إلى العالمية، غير أن بعض المبدعين في وطنى يرون (مع كامل احتفائهم بعبقرية الطيب صالح التي ليست محل جدال) أن تمجيد معظم العرب لأعماله هو في أغلب الأحوال انعكاس لانتشارها عالميا واحتفاء الآخر المغاير بها، الأمر الذي يفسر كونه الروائي الوحيد - تقريبا - الذي يعرفه العرب جيداً ..!

الروائي عبد العزيز بركة ساكن قال مرة إن الكثير من الأدباء لم يدخلوا معطف الطيب صالح في الأصل، حتى يخرجوا منه، وحتى الناقد الكبير عيسى الحلو الذي أطلق مقولة (الطيب صالح سقف الرواية ) لم يكن الطيب صالح يوماً ـ والكلام ما يزال لساكن ـ سقفا له ..!

أسباب غياب الرواية عن المشهد العربي كثيرة، أولها تقصير الإعلام وقصور جهود النشر والتوزيع، فضلاً عن إصرار المتلقي على أيقنة الرموز، والتواضع السلبي للمبدع ، وكون المقارنة مع الرواد خطاً أحمر، فضلاً عن «لعنة الطيب صالح» التي تحل على كل مبدع محلي يحاول تحقيق الانتشار عربياً ..!

خلاصة القول أن هذا السودان فيه مبدعون آخرون يتمنون أن يقولوا للعالم شيئا ويمكن أن يشكل انتشارهم إضافة نوعية للرواية العربية، لكن القارئ العربي لا يعرفهم وليس لديه استعداد كافٍ ليفعل، وهم قابعون في غياهب التجاهل لأن الحظ لم يحالفهم فتترجم أعمالهم إلى اللغة الإنجليزية كي يتلقفها القارئ العربي باهتمام بعد أن يردها مثقفو الغرب إليه رداً جميلاً ..!

لأجل ذلك ربما كان ذلك التمجيد والاحتفاء العربي بعبقرية الطيب صالح نعمة ونقمة ـ في آن معا ً! وفي تقدير المبدع السوداني الذي يتمنى أن يقول للعالم شيئاً يذكر، لكنه مُكبَّل باحتكار الطيب صالح لفكرة الإبداع الروائي السوداني في ذهن القارئ العربي..!

بكى مشاهدو التلفزيون عندما شاهدوا دموع الراحل الطيب صالح تتنافر من عينيه، وهو يتحدث من مستشفاه في لندن إلى محاوره، وقد غلبه الحنين إلى الدار والعشيرة التي يفصله عنها البعد المكاني، والأحباب الذين رحلوا،ومضى الأديب العالمي العملاق إلى رحاب الله وبقيت دموعه، مثل الزين والمريود وبت مجذوب وضو البيت في الخاطر والوجدان. وبكى الناس مرة أخرى مع الفنان السني الضوي في برنامج أغاني وأغاني وهو يتذكر رفيق دربه وصفي روحه الراحل ابراهيم أبودية، ثم عاد شيخ المبدعين هاشم صديق يعتصر أفئدتهم من جديد على شاشة تلفزيون النيل الأزرق عندما عرضوا على الشاشة لقطات من أحد أعماله الدرامية ذكرته بأيام جميلة مضت وبعض أشخاص عمله الدرامي الذين غيبهم الموت وسبقونا إلى جوار الله الكريم. كم هي عزيزة وغالية دموع المبدعين التي تهز المتلقي لأن المبدع متجذر في وجدان المتلقي بما يتجاوز اللحظة والمكان.

 

سبعة عشر عاما غاب أو غيّب فيها هاشم صديق عن الأجهزة الإعلامية، ومعظم هذه الأجهزة رسمية فحرموا المشاهد والمستمع ، وهاشم صديق ولد مبدعا وقدره أن يكون مبدعا وليس أي شيء آخر ، ثم عادت الروح في أول ظهور له على التلفزيون بعد هذه السنين العجاف فازدانت شاشة قناة النيل الأزرق كما لم يحدث من قبل ، ومضت الدقائق والساعات والحكمة تعانق الشجن والمرارة تمتزج بالأمل وهاشم صديق هو نفسه بذات الثراء والروعة والجمال وذات المواقف والجرأة القديمة لم تنل منه الأيام ولم تغيره ، وانساب هاشم صديق انسياب الماء في الأرض العطشى وانطلق كالسهم الهارب من الزمن الجميل ليستقر في قلب الحاضر.

ومن الصعب استعراض أجزاء من حديثه وإغفال أخرى فقد كان اللقاء كلوحة الموناليزا لا تكتمل الرؤية الجمالية إلا بمشاهدتها كاملة غير منقوصة، ورغم هذه المحاذير ،أود أن أتطرق إلى ثلاثة محاور تضمنها لقاء السحاب، فقد أكد هاشم صديق إنه كان يهدف بابتداره لقضية حقوق الشعراء ومنع بث أعماله إثبات حقوق المبدع المسكوت عنها ولم تكن قضية شخصية ولم يكن يسعى وراء عائد مادي وأنه لم يحقق عائدا ماديا من كل شعره وكانت المرة الوحيدة التي قبض فيها مقابلا ماليا هو مبلغ دفعه له الفنان الدكتور عبدالقادر سالم. ثم تطرق بعد ذلك لمعاناته كمبدع في التلفزيون وكأستاذ في معهد الموسيقى والمسرح قبل وبعد أن أصبح كلية في جامعة السودان والتي انتهت بابتعاده،أو إبعاده، عن الأجهزة والمعهد. وقبل ذلك ، ذكر في مستهل اللقاء أنه بصدد كتابة سيرته الذاتية التي يذكر فيها بوضوح رؤيته وتوجهه السياسي بدلا من أن يترك ذلك للمجتهدين بعد رحيله كما حدث مع مبدعين آخرين.

وفي الختام ندعو لهاشم صديق، الأكاديمي والشاعر والدرامي والإنسان الجميل، بطول العمر والصحة والعافية ونقول له إن أجهزة إعلام الدنيا كلها لا تصنع مبدعا حقيقيا واحدا وأن أمثاله من المبدعين هم الذين يخلقون القيمة المضافة لهذه الأجهزة

 

زخات المطر بقريتي

حينما كنا صغاراً نلهو تحت زحات المطر ونكور الطين لنصنع منه العاباً تحاكي الطبيعة كنا وقتها ابرياء لايعكر صفونا سوى كثرة اللعب فنعبر عن غضبنا بتكسير لعب الطين او نذيبها في ماء الخريف فينطفئ الغضب في ذلك الزمان الجميل او كما كنا نظنه لفرط سعادتنا وإبتعاد الهموم عنا للكبار لم نكن نتخيل مجرد خيال ان العالم من حولنا هو شئ آخر خارج إطار الصورة التي نشأنا عليها ضحك ولعب وتقافز هنا وهناك ومرح في النيل وسباحة وغسيل ونحن في قرية تتكء بكاملها على شاطئ النيل الأزرق تحفها غابات الطلح والهشاب والهجليج الكثيفة وبعض مزارع الموز والمانجو والجوافة واليمون، تسمى قريتي البرسي الفضل منسوبة لجدنا الكبير الذي اسسها وأقام فيها قبل أكثر مائتي عام او تزيد ورغم حبي لقريتي الا أنني اتعجب لماذا إختار جدي هذه البقعة البعيدة ليؤسس عليها مملكته القروية ورغم بعض الروايات التي تقول ان جدي اراد ان يقطن في بقعة لا تغيب الشمس عنها الا ان هذه الرواية لم تقنعني ولا زلت أبحث عن إجابة مقنعة. كنت أقول اننا وضعنا العالم تحت إطارنا الصغير ولم يدر بخلدنا اننا سنواجه ونحن في شبابنا بإنتكاسات تمنينا معها ان نعود أطفالاً صغاراً كما كنا لا نعي شيئاً في السياسة او الشأن العام او حتى ما يدور من أحداث في عالم اليوم، لنعد للطفولة وذكرياتها بقريتي الوادعة التي اشرقت فيها شمس التعليم باكراً اذ انها كانت اول قرية في المنطقة الممتدة من سنار الى دوب تؤسس فيها مدرسة عام 1918م، وقريتي بالمناسبة هي محطة من المحطات الكثيرة في حياتنا ننتقل منها ونعود اليها بحكم عمل الوالدبإحدى دول الخليج ومعارضته لنظام الرئيس السابق نميري الذي فرض على الكثيرين ترك بلادهم عنوة وحزم حقائبهم للسفر والإنتقال عبر مطارات العالم المجهول فكنا اخوتي وانا وبقية افراد العائلة كإبن بطوطة يصبح في موقع ويأتي عليه المساء في موقع آخر وهذا ما جعلنا نعيش في كل الأجواء والأماكن ونوطن النفس على تقبل ما لايستطيع البعض تقبله.

في ذلك الزمان البهي وصباحات الخريف ترسل لنا هدايا المطر وبعض (البَرد) الذي نتسابق لإلتقاطه بين ضحك ومرح وصراخ ونحن نرقُب مجموعات الطير الخداري والوزين ناصع البياض تسير في خطوط مستقيمة ومنتظمة والتي من فرط جمالها وإعجابنا بها نجري خلفها لنمسك بها فتخدعنا بهدؤها ومن ثم تنسرب عبر الفضاء الواسع مننادي عليها بغيظ ان عودي الينا مرة اخرى، كنا نحب طيور الجنة ذات اللون الأحمر القاني فنمسكها ونغسلها وندهنها بالزيت وبعض العطر ونهمس له في اذنه طالبين منه ادخالنا الجنة يوم القيامة وكنا نعتقد جازمين انه يسمع هذا الرجاء ثم نطلق سراحه بعد هذه الوصية ونستغرق في ضحك طفولي برئ، وما زلت اذكر نباتات الخريف وأزهاره الملونة في غابتنا الكثيفة ونحن نلتقط تلك الأزهار لنصنع منها باقة ورد جميلة نهديها لمن نحب، الا ان اهلنا دائما ما يحذروننا منها لأنها كالثعبان ناعم الملمس ذو سم زعاف مثل (السياسة) وهذه الأزهار الملونة رغم جمالها الباهر الا انها ضارة لأنها ضمن الحشائش والنباتات الطفيلية التي تأتي في موسم الخريف وتموت بنهايته.

رائحة الزلابيا او ما يطلق عليها (لقيمات القاضي) وشاي الحليب (المقنن) تأتيك عبر نسمات الهواء الصباحي البارد لتنعش أنفاسك وانت تتلذذ بتناولها مع بقية أفراد العائلة المتحلقين حول مدفأة القرى (الكانون) تسكب بداخلك الأمل ببداية يوم جديد كله نشاط وهمة وحركة .

الشئ الذي لن أنساه هو تلك الرائحة العجيبة التي تتخلل مسام الجسم لتأخذك عبر عوالم الخيال لدنيا لا تستطيع وصفها إنها رائحة (الدعاش) مع تباشير الخريف وأول قطرات مطر تصافح الأرض لتعلن مجئ الخريف مبشرة بموسم زراعي ناجح يفرح له الزراع ويغيظ العِدا، ورغم محبتنا لهذ الفصل الخريفي الممطر الا أنه كثيراً ما سيهم في تعطيل حركة المواصلات من والى أقرب مدينة ( وأقصد مدينة سنار أقرب مدينة لقريتنا وسوقها الدائم) بسبب الأرض الطينية السميكة وعدم وجود شوارع مسفلتة رغم الوعود المبذولة من الحكومة (مواعيد عرقوب) وفي ليالي الخريف العاصفة التي تأتي بالصواعق والرعود المزمجرة تتساقط خوفاً ورعباً أعمدة الكهرباء وتلتف اسلاكها ببعضها البعض كأنما تعبر عن إحتجاجها فتظل القرية أسيرة الظلام الدامس الا من بعض الفوانيس الصغيرة ولمبات ( حبوبة ونيسيني) التي تتأرجح شعلتها يمنة ويسرة قبل ان تنطفئ ونعيد إشعالها مرة اخرى وننتهزها فرصة للتحلق حول جدتي اوعمتي وكلاهما تسمى (فاطنة) لتحكي لنا حكايات (فاطنة السمحة وود النمير وودنفاش والنوار) وغيرها من الأساطير والأحاجي التي نتفاعل معها بالضحك او البكاء او الخوف، وتبقى القرية هي الملاذ الآمن لكل قلب تناوشته الإضطرابات وأخذت به المآخذ ويبقى الريف محتفظاً بحلاوته ونداوته وطيبة اهله وكرمهم رغم ما التغيير الذي طرأ عليه لكن هذه دعوة للعودة للريف لتنميته ورفاهيته وهي دعوة لكل الذين اجتثوا جذورهم من القرية لأن يعودوا اليها...

 

أسمح لي أشوفك يا أجمل حلم

 

 

إن شئت أخذ الجانب الإيجابي للمسألة، فيمكنك القول إن من أقوى مظاهر التعاضد والترابط الاجتماعي في القرية، هو سرعة الاستجابة لطارئ الخير أو الشر، الذي يخرج باحد أفراد القرية من حضنها .. ولادة متعثرة استدعت حمل الحامل لأقرب مستشفى يصلح لاستقبال مواليد البني آدميين، حالة صحية متدهورة استدعت مباشرتها في مستشفيات البنادر، خبر بكا، سيرة عرس، ومناسبات زواج الاقربين الذين يقيمون خارج نطاق القرية .. كل تلك المناسبات الاجتماعية خيرها وشرها تستوجب سرعة (اللحاق) بصاحبها للمساندة والمؤازرة أو للمؤآجرة .. فـ (لحقوني) و(لحقناهم) و( ما لحقتني ما بلحقا) أفعال مجاملة قروية كاملة الدسم.

أما من ينظر لتلك المجاملات بغير عين الرضا، فلا يرى فيها سوى (محقة) و(فراغ نسوان) و(قلة شغلة) وذلك لأن النساء هن أكثر من يهم ويهتم بتوخي الحرص والالتزام بمنهج (اللحوق) في فقة معاملاتهن .. وبعيدا عن نظرة التحيز ضد حركات النسوان، فان أوقات الفراغ العريض وعدم الموضوع الذي يجثم على صدر الحراك الاجتماعي في القرية، يترك الجميع .. رجال ونساء في حالة من التوق لحركة تغير ومناسبة تنعش الجو و(يتعمل بيها موضوع) ..

- كان (ابراهيم) من أكثر الحاملين لتلك النظرة السالبة ضد مجاملات (اللحوق)، وأشد الرافضين لـ (مقيل) النساوين تحت ظلال النيم، وجلسات الشاي والجبنة وعواميد الأكل الدائرة تحت ظلال الزيزفون، كلما (رقد) لناس الحلة (عيان) في مستشفى المنطقة الاقليمي، لذلك أصدر فرمانا صارما يقضي بمنع نساء أسرته الصغيرة والممتدة من محاولة اللحاق بـ أي مريض يغادر القرية مستشفيا في مستشفى المنطقة أو مستشفيات البنادر، حتى يعود بالسلامة أو يعود جثمانه محمولا على الأعناق ..

تقابل نساء أسرة (ابراهيم) ذلك الفرمان بالسخط في الظاهر لمنعهن من مجاملة الناس أسوة ببقية الحريم، ولكن (تحت تحت) فقد ارتاحن من تعب الجري وشلهتة عواميد المستشفيات بعد أن شال (ابراهيم) عنهن وش القباحة فصار عذرهن الجاهز عند كل تقصير:

والله ابراهيم حالف علينا من زيارة الاسبتالية .. جايب لينا اللوم ومخلي وشنا قدر السمسمة مع الناس .. لكن نسوي شنو عاد ؟ ان نضمنا اتقلمنا وان سكتنا السكات غلب علينا !!

إلى أن (دخل الكلام الحوش) وسقط الرجل مريضا بعلة في القلب مما استدعى حجزه بـ قسم العناية المكثفة في مستشفى المدينة .. لم تجرؤ واحدة من حريم الحلة ناهيك عن نساء أسرته، على كسر الحظر والذهاب للمستشفى لمعاودة (ابراهيم) رغم خطورة حالته، بينما جلست زوجته (المسكينة) وقد أثقل قلبها القلق عليه تبكي وتوصف لرفيقاتها:

يا أخواتي الكلام ده ما أعوج .. يعني الراجل يموت بلا ما ألاقيهو وأعافيهو ؟!

بعد مشاورات وفتاوي واستعانة بفقة الضرورات، قرر رجال الأسرة السماح لزوجة (ابراهيم) بالذهاب معهم للمستشفى لزوم المعافاة والذي منّو، وهناك جلست في مسكنة تحت ظل النيمة الرامية بجوار عنبر العناية انتظارا لأخذ الاذن لها بالدخول عليه بعد سماح الاطباء لهم برؤيته، بينما دخل شقيقه عليه وبعد (حق الله بق الله) و(اشوفك كيفن اصبحتا) .. نقل لـ (ابراهيم) خبر وجود زوجته بالخارج ورغبتها في الاطمئنان عليه ..

انتفض (ابراهيم) جالسا وكأنه لا يشكو من الحبّة وطارت عروقه عرق .. عرق وتشحطت عصيباته وقال في هيجان شديد:

الجابا شنو ؟ علي الطلاق بالتلاتة .. تجي داخلة هنا إلا أمرق أفوت ليها المستشفى دي كلو كلو !!